تصدير الطبعة الثانية

هذا الكتاب محاولة طموحة لتقديم رؤية بانورامية شاملة لفلسفة العلم، هي بدورها رؤية شاملة لظاهرة العلم ذاتها في إطارها المعرفي والحضاري وعلاقتها بالأبنية والظواهر الثقافية الأخرى، فليس العلم محض مهنة تحترفها فئة من ذوي العقول المتميزة جيدة الإعداد؛ هي فئة العلماء. العلم أعم وأهم، إنه أخطر ظواهر الحضارة الإنسانية، أُلقيت أصوله في الحضارات الشرقية القديمة، وصيغت أسسه النظرية في حضارة الإغريق، حتى كان الدور العظيم الذي قامت به الحضارة العربية الإسلامية في عصرها الذهبي. ولم نتوان عن إبراز هذا الجانب في الفصل الأول من الكتاب، فقد كان تاريخ العلوم عند العرب هو المقدمة الشرطية، التاريخية والجغرافية والمنطقية، المفضية لنشأة العلم الحديث.

لقد سار العلم عبر التاريخ، حتى كانت التطورات التي لحقت بالعلم الحديث فخلقت الخلفية الضرورية لنشأة فلسفة العلم، واكتمل الإطار اللازم لها منذ ما يُسمى بعصر التنوير، فتجسدت وتبلورت ونمت كفرع من فروع الفلسفة الغربية في القرن التاسع عشر. وفي القرن العشرين باتت فلسفة العلم من أهم فروع الفلسفة المعاصرة وأكثرها استقطابًا لأبعادها الشتى وتعبيرًا عن منحنياتها، وبالتالي الأجدر بالعناية … وتجتهد صفحات الكتاب لتكشف عن تفاصيل هذا ومبرراته وحيثياته ومردوداته.

صدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب في الشهر الأخير من القرن العشرين، ديسمبر من عام ٢٠٠٠م على سبيل توديع القرن برؤية شاملة لواحد من أسطع جوانب النبض العقلي في أعطافه، رؤية تتبع الأصول وتستقصي الحصاد، وتحاول استشراف الآفاق. وقد صدرت عن سلسلة «عالم المعرفة» المرموقة التي يخرجها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بدولة الكويت الشقيقة ذات العطاء الباذخ في مضمار المنشورات الثقافية العربية رفيعة المستوى، خرجت الطبعة الأولى في أربعين ألف نسخة نفدت فور صدورها في سويعات معدودة كمؤشر إيجابي على ما ينتظره القارئ العربي الجاد من الدراسات الفلسفية، أما وقد تصاعد الطلب عليه، فلا نملك إلا أن نزجي الشكر بالغًا منتهاه للهيئة المصرية العامة للكتاب، وهي هرم مصري رابع، ومنبر رسمي شاهق لإنتاجنا الثقافي؛ إذ تتفضل بإتاحته مجددًا للقارئ العربي … بعد أن شرفتني على مدار العشرين عامًا الماضية بنشر أول أعمالي، ثم خمسة من أهمها، في طبعات متتالية.

وقد راودني التفكير في أن أضيف إلى هذا الكتاب فصلًا جديدًا عن مستجدات لاحقة في فلسفة العلم، وكان بعضها موضوعًا لأعمالي التالية التي نُشرت في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، أي في السنوات التالية على صدور الطبعة الأولى من هذا الكتاب، ولعل أبرزها الفلسفة النسوية وفلسفة البيئة وما بعد الاستعمارية في فلسفة العلم، والتوجهات الصاعدة عن شرق آسيا خصوصًا اليابان الرائد العملاق، وأخلاقيات العلم، والتطورات المستحدثة في فلسفة الكوانتم … ولكني آثرت أن يبقى على صورته في طبعته الأولى، بحدودها المرسومة لتحقيق أهدافها المتعينة، التي مثلت بنية معمارية متكاملة ومترابطة اتسم بها هذا الكتاب الأثير إلى نفسي، وقد لاقى بحمد الله تعالى استحسانًا جمًّا وثناءً جميلًا من المتخصصين في الفلسفة وفي العلم على السواء، ومن صفوة المثقفين وجمهرة القُرَّاء …

نحمده تعالى ونسأله التوفيق والسداد في خدمة الثقافة العربية والوطن العربي، الوطن الأكبر، ولتبقى مصر قلبه النابض ومنارة من منارات المعرفة، إن فلسفة العلم بدورها تجل ساطع من تجليات سؤال المعرفة.

يُمنى طريف الخولي
٤ مايو ٢٠٠٨م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤