مقدمة

ظاهرة العلم أخطر ظواهر الحضارة الإنسانية، وأكثرها تمثيلًا إيجابيًّا لحضور الإنسان — الموجود العاقل — في هذا الكون. ولئن كان العلم الحديث يمثل مرحلة شديدة التميز والتوهج من مراحل تطور العلم والعقل والحضارة إجمالًا، فإن القرن العشرين أتى في إثرها ليضاعف مردودات العلم وحصائله بمعدلات متصاعدة غير مسبوقة، وبات العلم العامل الفاعل الحاسم في تشكيل العقل والواقع على السواء، ومن ثم باتت فلسفة العلم بدورها أهم فروع الفلسفة في القرن العشرين، والمعبرة عن روحه العامة وطبيعة المد العقلي فيه، وحواراته العميقة التي يتلاقى فيها الرأي والرأي الآخر.

وهذا الكتاب يستغل القدرة الفريدة للمناهج الفلسفية من أجل تأطير ظاهرة العلم في الوعي. كيف بدأت أصول العلم بالبدايات الأنثروبولوجية السحيقة؟ كيف نما وتطور؟ كيف اتجه وسار عبر الحضارات؟ حتى وصل القرن العشرين عملاقًا باذخ العطاء … منذ الحضارات الشرقية القديمة والحضارة الإغريقية والعصر السكندري … لماذا بلغ العلم القديم قمته في رحاب الحضارة العربية الإسلامية؟ كيف كانت المرحلة العربية هي المقدمة المفضية منطقيًّا وتاريخيًّا وجغرافيًّا إلى مرحلة العلم الحديث؟ ما هي الظروف الحضارية والمعرفية التي انبثق عنها وبفعلها العلم الحديث في أوروبا؟ كيف استقامت في نسقه الصاعد الواعد فروع العلم المختلفة؟ ما دور الفلك؟ لماذا تحتل الرياضيات المنزلة العليا حتى تُلقب بملِكة العلوم والمبحث الصوري الرفيع المترفع عن شهادة الحواس؟ كيف اتحد الاستدلال الرياضي مع وقائع التجريب في بنية الفيزياء لتعطي مثلًا أعلى للمعرفة بهذا الكون استوعبته سائر العلوم الفيزيوكيمائية؟ كيف تمثلته العلوم الحيوية وهي لم ترتكز على الاستدلال الرياضي؟ وأيضًا العلوم الإنسانية، على الرغم من الاختلاف النوعي لظواهرها، وكيف يمكن دفعها قُدمًا؟ انعكس كل هذا في الفلسفة فصاغت الأسس المعرفية التي تُميز العلم الحديث كأنجح مشروع ينجزه الإنسان، هذا النجاح المطرد اعترضت مساره أزمة الفيزياء الكلاسيكية، استقبلها القرن العشرون بثورةٍ حقَّ اعتبارها أعظم انقلاب في تاريخ العقل البشري، ثورة الكوانتم والنسبية، ومن قبل كان ظهور الهندسات اللاإقليدية والرياضة البحتة، فصاغت فلسفة القرن العشرين نظرية مختلفة للمعرفة، تمثيلًا لمرحلة جديدة ارتقى إليها العقل العلمي وباركتها المنجزات والحصائل، وواكبها انقلاب مماثل في الصياغة الفلسفية للمنهج العلمي، بوصفه أنجع وسيلة امتلكها الإنسان للتعامل مع الواقع وحل المشكلات. كيف نشأ المنطق الرياضي ليصبح عصبًا لفلسفة القرن العشرين عمومًا؟ كيف تطورت بفضله أدوات فلسفة العلم خصوصًا ومعالجتها لبنية النظرية العلمية، فيتضح كيف أن إمكانية التقدم مفطورة في صلبها، في أصفى وأقوى صياغة لمقولة الثورة والتقدم في حياة البشر. بمنطق التقدم العلمي أصبحت الفلسفة تنظر إلى العلم كفاعلية إنسانية متحركة نامية دومًا، عبر التفاعل مع البنيات الحضارية المختلفة، وفي ضوء تطوره التاريخي. حدث أخيرًا تلاقٍ حميم بين قطبي الثقافة العلمية: فلسفة العلم وتاريخه، فأصبحت فلسفة العلم أكثر شمولية للموقف الإنساني من أية فلسفة أخرى، وتشابكت علاقاتها وانفتحت أمامها آفاق مستجدة تمامًا …

هذه بعض من الموضوعات التي يُعالجها هذا الكتاب في إطار محاولة لطرح إجابة متكاملة متحاورة الأطراف عن السؤال: كيف تسلم القرن العشرون فلسفة العلم؟ وكيف تطورت على مداره؟ وكيف أسلمها إلى القرن الحادي والعشرين؟

وبعد … يخرج هذا الكتاب بين يدي القارئ الكريم، وقد مضى أكثر من عشرين عامًا وأنا سابحة في بحور فلسفة العلم ومياهها العميقة، في نصوصها وإشكالياتها ومنحنياتها ومراميها وفعالياتها … والرؤى المختلفة والمتقابلة لتاريخ العلم ومسيرته عبر الحضارات، خرجت بحصائل جمة لا بأس بها، لكنها كانت فرائد، أتى توجيهها وتوظيفها في هذا الإطار المتكامل، من فيء لقائي بأستاذ جيلي الدكتور فؤاد زكريا، لقد تفضل سيادته بأستاذيته المكينة والمعطاءة، وأرشدني إلى فكرة هذا الكتاب، وتتابعت الإرشادات والتوجيهات عبر خطوات الإنجاز، ثم يتضاعف عرفاني وامتناني لأستاذي الجليل الدكتور فؤاد زكريا، لما تحقق من استفادة بالغة بأعمال سيادته، تأليفًا وترجمةً، والتي هي أعمال رائدة وفاعلة وناجزة في إرساء أسس فلسفة العلم وأصول التفكير العلمي في الحضارة العربية.

ويبقى امتناني لسائر أساتذتي الذين تعلمت على أيديهم ومن أعمالهم، وأيضًا ابني حكيم حاتم، وحبي العظيم له — ولشقيقته يُمنى — وقد اختار لدراساته فرعًا متقدمًا من فروع العلم ورياضياته العالية، لا شك أن مناقشاتي معه الحية المستفيضة حول أصول مفاهيم علمية وأبعادها الحضارية والمنظورات الإنسانية الشاملة لها … قد ساهمت في إضفاء مزيد من الحب والحيوية والنضارة على إنجازي لهذا الكتاب، وتتفضل سلسلة عالم المعرفة المرموقة بتقديمه إلى القارئ العربي، في إطار السعي نحو توطين الوعي بظاهرة العلم كظاهرة إنسانية حميمة متدفقة في سياق حضاري مواتٍ، وتعميق أبعاد الروح العلمية بين قُرَّاء العربية، لا سيما أمثاله من شباب العلميين.

وفقنا الله جميعًا لما فيه خير الثقافة العربية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤