الفصل الخامس

التجريبية أصبحت منطقية

أولًا: المد التجريبي في فلسفة القرن العشرين

مثلما كان عام ١٩٠٠م الذي شهد نشأة فرض الكوانتم حاسمًا بالنسبة للعلم، والقرن العشرون في إثره مرحلة علمية شديدة التميز والتوهج، كان هذا العام حاسمًا، وأكثر حسمًا بالنسبة للفلسفة، والقرن العشرون أيضًا مرحلة فلسفية شديدة التميز والتوهج. ومن الطبيعي أن تستقطب فلسفة العلم التميز والتوهج من كلا الجانبين، فتغدو أبرز فروع الفلسفة في القرن العشرين والمُعبِّر الفلسفي الأول عن روحه العامة وطبيعة المد العقلي فيه.

ويأتي الحسم من أن الفلسفة بأسرها تنقسم بصفة مبدئية إلى تياري المادية التجريبية والمثالية العقلية. وقد شهد العام ١٩٠٠م صدور أعمال فلسفية رائدة وتكاثفًا لمد فلسفي سوف يتنامى ليزيح المثالية لحساب التيار التجريبي، ويغدو تقلص نفوذ المثالية الميتافيزيقية الخالصة من المعالم المميزة لفلسفة القرن العشرين. ويمثل تطور مد التجريبية وعلو شأنها — كمًّا وكيفًا — أهم عناصر الالتقاء بين الفلسفة والعلم.

كما لاحظنا مما سبق، كانت التجريبية دائمًا تمثيلًا عامًّا لروح العلم. والتجريبية المتطورة المتبصرة في القرن العشرين أكثر تمثيلًا لروح العلم. وهناك مبررات قوية لاعتبار فلسفة العلم فلسفة تجريبية، من حيث هي فلسفة للعلوم الإخبارية، الفيزيوكيماوية والحيوية والعلوم الإنسانية التي تحذو هذا الحذو وتضطلع بالإخبار عن الواقع التجريبي. وأقوى مواطن تميز ونجاح العلم الحديث دخول الرياضيات التطبيقية في صلبه، كلغة للإخبار عن الواقع وأداة للاستنباط الدقيق الولود. أما المشاكل الفلسفية للرياضيات البحتة وأصولها فهي أكثر ارتباطًا بالمنطق منها بفلسفة العلم. وقد رأينا كيف تطور مفهوم المادة ودور التجربة في فيزياء القرن العشرين، وحتى السبعينيات منه كان الأمر محسومًا لصالح الفيزياء بوصفها أنجح وأقوى ضروب المعرفة التي امتلكها الإنسان، وبات يُنظر إلى علماء الفيزياء على أنهم في عتاد الأمن القومي. ولئن شهد العقدان الأخيران رجحان كفة علوم الحاسب الآلي والمعلومات، فإن الفيزياء تظل طرازًا معرفيًّا رفيعًا ومرتبة عالية ارتقى إليها العقل الإنساني، وارتقى تصوره للتجريبية إلى درجة تمثل قطعًا معرفيًّا عن ما سبق، واتضح في ضوئها الصورة الحقيقية الخلاقة للتكامل والتآزر بين العقل والحواس، أو الفرض والملاحظة، فاكتسبت السمة العلمية والتجريبية قوة توجيهية كبيرة للفكر الفلسفي في القرن العشرين. وبجانب فلسفة العلم التي غدت أبرز فروع الفلسفة، أصبحت معظم التيارات الكبرى في فلسفة القرن العشرين تُوصف بأنها «فلسفات علمية» مما يعكس المد الكبير للتجريبية. فلسفة العلم موضوعها ظاهرة العلم الحديث، أما الفلسفة العلمية فتبحث الموضوعات الأخرى التقليدية للفلسفة، لكن بأسلوب جديد يقتبس روح العلم وطابعه، خصوصًا كما يتمثل أساسًا في تجريبية القرن العشرين المتطورة بأبعادها الجديدة. أجل، موضوعنا هو فلسفة العلم وليس الفلسفة العلمية، بيد أن التجريبية نقطة التقاء وأرضية مشتركة؛ لذلك سنحاول الآن رسم تخطيط عام لهذه الأراضي، أي نتتبع مد التجريبية، مما يساهم في اكتمال أطر الصورة العامة لفلسفة العلم، وتبرير موقعها الريادي في فلسفة القرن العشرين.

في مقال لبرتراند رسل بعنوان «فلسفة القرن العشرين» بكتابه «مقالات شكية ١٩٢٨م» يقول إنه في عام ١٩٠٠م بدأت الثورة على المثالية الألمانية بعملاقيها كانط وهيجل، والتي مثلت قوة طاغية إبان القرن التاسع عشر، موازيةً لفلسفة العلم وللفلسفة العلمية ومحتلةً لأراضٍ على حسابهما.

لقد رأينا التجريبية العلمية العتيدة للفلسفة الإنجليزية، منذ فرنسيس بيكون ثم جون لوك وباركلي وديفيد هيوم وصولًا إلى جون ستيوارت مل، ومع هذا لم تنج هي الأخرى من مد المثالية الألمانية. وفي بدايات القرن التاسع عشر انضم الشعراء والكُتَّاب الرومانتيكيون في إنجلترا إلى زملائهم في القارة الأوروبية، واستقطبوا اتجاهات مثالية فرارًا من عقلانية التنوير المفرطة وتعملق العلم الذي كان حتميًّا ميكانيكيًّا. وظهرت المثالية الألمانية في أشعار شيلي ووردزورث وكتابات توماس كارليل، واكتسبت ثقلًا مع الشاعر الكبير كولريدج S. T. Colerid (١٧٧٢–١٨٣٤م) الذي درس فلسفة كانط بتفاصيلها. ومع هذا كانت غزوة ضعيفة؛ لأنها تمت على أيدي هؤلاء الرومانتيكيين من الكُتَّاب والشعراء، وجميعهم غير متخصصين في الفكر الفلسفي ولا محترفين إياه؛ لذلك سهل اندحارها على يد جون ستيوارت مل، وقد رأيناه يناصب المثالية الألمانية العداء. لكن هبت على الأراضي الإنجليزية غزوة مثالية ثانية في الثلث الأخير من القرن، افتتحها ستيرلنج J. H. Stirling بكتابه «سر هيجل ١٨٦٥م»، حيث أوضح كيف أن هدف هيجل أو سره هو إحياء الإيمان بالله وخلود الروح وحرية الإرادة، فانتشرت المثالية مجددًا في أعطاف الفلسفة الإنجليزية، من أجل إحياء تلك القيم التي هددها تقدم العقل العلمي، وتبدى ذلك في كتابات جمع من الفلاسفة الإنجليز أهمهم فرنسيس برادلي F. H. Bradley (١٨٤٦–١٩٢٤م) وجون ماكتاجارت J. E. Mctaggart (١٨٦٦–١٩٢٥م) وقرناء لهم من فلاسفة كمبردج العظام ذوي الثقل، ليبرزوا قوة المد المثالي آنذاك. في كتابيه «المظهر والحقيقة ١٨٩٣م»، وأيضًا «أصول المنطق ١٨٨٣م» يعرض فرنسيس برادلي للمذهب الواحدي الذي يرى العالم ككل واحديًّا محكومًا بعلاقات داخلية ولا أجزاء له ولا تعدد فيه، فيما يمكن اعتباره من أقوى عروض المثالية المتطرفة التي تنكر أية جدوى أو دور للتجريبية، وفي تاريخ الفلسفة بصفة عامة.

أما في فرنسا فالذي ينبغي أن يستوقفنا في تلك الحقبة هو تيار «نقد العلم» الذي يحاول تقليص نفوذ التجريبية وتقليم أظافرها، مستعينًا في هذا بفلسفة كانط، يؤكد فلاسفته أنهم وضعيون. فقد نشأ هذا التيار النقدي موازيًا للوضعية العلمية مع أوجست كونت وأشياعه، كرد فعل لها، لا يرفضها ولا يناصبها العداء كما تفعل الرومانتيكية، وإنما يحاول تحقيق شيء من التوازن معها عن طريق إبراز مشروعية المعرفة العلمية التجريبية كمعرفة وضعية بالعالم التجريبي، ثم الرفض البات لأن يتجاوز العلم الحدود المعرفية «الإبستمولوجية»، فلا ترتع حتميته في العالم الأنطولوجي لتهدد حرية الإنسان؛ لذلك غلب على أقطاب حركة «نقد العلم» الفرنسية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر أنهم يتبارون في محاصرة الحتمية العلمية داخل القوقعة الإبستمولوجية، أو دحضها ورفضها إجمالًا؛ دفاعًا عن الحرية الإنسانية والتصور الإنساني للعالم؛ لذلك يسمون بفلاسفة الحرية، هدفهم الأساسي إثباتها؛ وذلك عن طريق البدء منها، من الحرية كفكرة … كشعور معطى … كواقعة أولية للأنا … كنشاط روحي مستور. باختصار الحرية واقع أولي معاش سابق على العلم وخارج عن إطاره، فلا تستطيع حتميته التي كانت أن تلغي تلك الحقيقة الماثلة: الحرية الإنسانية.

من هذا المنطلق كان تيار «نقد العلم» الذي يمثل استجابة قوية لفلسفة كانط، ويزعم أصحابه أن أساس فلسفتهم هو الوضعية، أو نوع متبصر من الوضعية. وينقسم هذا التيار إلى فرعين هما: الوضعية الميتافيزيقية أو الروحية، والوضعية النقدية.

الفرع الأول، الوضعية الميتافيزيقية أو الروحية، يجمع بين تأثير كانط وتأثير مين دي بيران Main De Biran (١٧٦٦–١٨٢٤م) الذي رأى أن الواقع الأولي السابق على كل شيء هو الحياة الروحية الباطنية، والعلامة المميزة للحياة الإنسانية هي الشعور، والواقعة الأولية للشعور هي الأنا بوصفها العلة والقوة والفعل. ها هنا — كما يرى دي بيران — نجد معاني أولية هي أصول الفكر وأصول العلم على السواء من قبيل الوجود والجوهر والوحدة والهوية والقوة والعلة، وأهمها معنى الحرية كما يتجلى في معارضة الإرادة للنزوع. إن هذا الفرع يريد استيعاب الوضعية في إطار الروحية الميتافيزيقية. وقد رأينا نسق العلم يبدأ من المادة؛ لأنها المفهوم البسيط ويتدرج منها إلى الأكثر تعقيدًا، إلى الحياة. أما هذا الفرع فيريد العكس، البدء من المعقَّد ليصل إلى البسيط؛ لأن المعقد يحتوي البسيط، فيبدأ من الروح والوجدان ليصل إلى الحياة وأخيرًا المادة، ويرون المادة قاصرة غير قادرة على الاستقلال أو الاستمرار بدون الروح.
ومن أقطاب هذا الفرع جول لاشيليه J. Lachelier، وكانت رسالته للدكتوراه عام ١٨٧١م «في أساس الاستقراء»، حيث يخرج من مشكلة الاستقراء — غير القابلة للحل — بأن التجريبية لا تكفي، إنها تعين العلل الفاعلة الخاضعة للحتمية، ولا بد أن نضيف إليها العلل الغائية التي هي مجال الحرية الإنسانية. على أن أهم رجال الوضعية الروحية هو إميل بوترو E. Boutroux (١٨٤٥–١٩٢١م) الذي يقف في صفوف فلاسفة العلم، يحاول الإطاحة بالحتمية منذ رسالته للدكتوراه عام ١٨٧٤م في «إمكان قوانين الطبيعة» حتى بحثه الهام «القانون الطبيعي في الفلسفة المعاصرة ١٨٩٥م». يهدف بوترو إلى إثبات أن الضرورة العقلية لا تتحقق في الأشياء كما يزعم الحتميون الميكانيكيون، وأن قوانين العلم مجرد مناهج للملاءمة بين الأشياء وبين عقولنا، إنها تعبر عن طريقتنا في النظر إلى الأشياء. بعبارة أخرى، قوانين العلم كيانات إبستمولوجية، أي معرفية فقط ولا شأن لها بالأنطولوجيا، بالوجود، بالواقع المعاش. إن رؤية إميل بوترو لطبيعة القوانين العلمية هي ما سوف ينمو ويتطور في شكل المذهب الأداتي في فلسفة العلم. لكن مع هذا — وبفعل تأثير المثالية الألمانية — يُعد بوترو فيلسوفًا مثاليًّا، كسائر رفاقه الوضعيين الروحيين.
الفرع الثاني لتيار نقد العلم هو الوضعية النقدية، وهو أقوى تأثيرًا وأوسع انتشارًا وأكثر خلوصًا للمؤثرات الكانطية. الفلسفة النقدية هي فلسفة كانط، هي محاولة سبر وتعيين إمكانيات وحدود المعرفة الإنسانية. واللافت حقًّا أن معظم رجال هذا الفرع من كبار علماء الرياضيات، في مقدمتهم أوجست كورنو A. Cournuot (١٨٠١–١٨٧٧م) وهو من آباء حساب الاحتمال وأول من صاغ نظرية موضوعية للمصادفة، أي تحسب احتماليات حدوث عدة بدائل لواقعة من وقائع الطبيعة، فلا تعود الاحتمالية ذاتية، أي تعتمد على الذات العارفة وتطورات علمها وانحسار جهلها. وعلى هذا انتهى كورنو إلى أن اللاحتمية البادية لا ينبغي تفسيرها تفسيرًا ذاتيًّا، أي بوصفها حتمية مجهولة، بل العكس هو الصحيح، والحتمية البادية هي التي ينبغي أن تُفسر تفسيرًا ذاتيًّا. وكان كورنو يحرص دائمًا على تأكيد أن العلم بدون فلسفة أعمى، كما أن الفلسفة بدون علم جوفاء. أما العالم الرياضي شارل رينوفييه C. Renouvier (١٨١٥–١٩٠٣م) فهو واحد من أهم فلاسفة الحرية في الفلسفة بصفة عامة. لم يشهد رينوفييه التحليل الحقيقي والتحليل المركب والتحليل الدالي وسواها من فروع الرياضيات البحتة التي تطورت في القرن العشرين لتحكم تعامل العقل مع اللامتناهي. وفي حدود رياضيات القرن التاسع عشر حاول إثبات أن اللامتناهي الرياضي ممتنع، وأقام فلسفته على أساس التناهي والنسباوية والحرية.

إن فلاسفة هذا الفرع يسمون أنفسهم أصحاب النقدية المثالية المحدثة، هم نقديون مثاليون إبستمولوجيون مثل كانط، فيؤكدون مثله على الدور الإيجابي للعقل بالنسبة للحواس، وحجتهم في هذا أنه لا علم بغير فرض، ثم يفترقون عن كانط في حداثتهم، أي في تأكيدهم على حساب الاحتمال الذي يعني أن العلم لا يصل أبدًا إلى المطلق، يأخذون باللاحتمية في الطبيعة ويرفضون اعتراف كانط بالحتمية الشاملة لعالم الظواهر حتى إنه نفى الحرية من عالم الظواهر «الفينومينا» إلى عالم النومينا «الشيء في ذاته» المفارق. لكنهم على أية حال يفخرون بانتسابهم إلى مثالية كانط وسيرهم على منواله.

إن تيار نقد العلم بفرعيه، خصوصًا الفرع الوضعي النقدي الأكثر علمية والأكثر كانطية، يوضح كيف كان تأثير المثالية الألمانية — الكانطية خصوصًا — قويًّا ومترامي الآفاق قبيل مجيء القرن العشرين توًّا، حتى إنها اقتحمت ساحات للتفكير العلمي والتفكير في العلم، فتصبغها بصبغة مثالية.

وإذا كان هذا هو الوضع في إنجلترا وفرنسا، الأمتين اللتين اضطلعتا أكثر من سواهما بتأسيس فلسفة العلم وإنمائها وصقل المنهج العلمي والروح التجريبية، فلنا أن نتصور قوة نفوذ المثالية الألمانية في شتى مواطن الفلسفة الأوروبية.

حتى كان العام الحاسم ١٩٠٠م لتبدأ الثورة على المثالية الألمانية من جهات شتى، كما أشار برتراند رسل.

في ألمانيا نفسها كان الانشقاق على المثالية، حين شهد ذلك العام صدور كتاب إدموند هوسرل E. Husserl (١٨٦١–١٩٣٨م) «بحوث منطقية» الذي يُعنَى عناية بالغة بتوصيف الزمان، ويؤسس مذهب الفينومينولوجيا Phenomenology، أو الفلسفة الظاهرية. ترى الفينومينولوجيا أن افتقاد العلم للأسس الإنسانية وأبعاد الوعي الإنساني بمثابة خطر داهم يهدد الحضارة. أما التخلف النسبي للعلوم الإنسانية فهو أزمة العلم الغربي بجملته، ويرجع إلى تبنيها الأعمى لمسلمات ومناهج العلوم الطبيعية على الرغم من الاختلاف النوعي للظواهر الإنسانية عن الظواهر الطبيعية بكل ما تفتقده. وعلى هذا تعمل الفينومينولوجيا على أن تشق طريقًا جديدًا مختلفًا للعلوم الإنسانية يقيلها من عثرتها ويحقق تقدمها المأمول، ويبطل ردها إلى العلوم الطبيعية أو اتباع طريقها.
إنه طريق يقوم على أساس أن التجربة الحية هي المدخل الوحيد للعلم. والمنهج الفينومينولوجي الذي نما وتطور خلال القرن العشرين، مع كثيرين نذكر منهم مرويس ميرلو بونتي M. Merleau Ponty (١٩٠٨–١٩٦١م)، يعني تركيزًا خاصًّا على الظاهرة، أي ما يظهر أمام الوعي. إنه يبدأ من الواقعة الأولية المعطاة للوعي والمدركة حدسًا، فنكون بإزاء «الإحالة» إلى الوعي و«قصدية» الوعي، أي إن الوعي يقصد الظاهرة المعنية فيتوجه إليها، إلى شيء آخر سوى ذاته. بالقصدية والإحالة المتبادلة بين الوعي وموضوعه تنهار القسمة المصطنعة بين الذات والموضوع التي ورثناها عن الفلسفة التقليدية والتقابل الشهير فيها بين المثالية والمادية. بالمنهج الفينومينولوجي لا يبقى إلا التجارب الشعورية الحية التي تحمل الطابع الخاص لما هو إنساني. إنها معطيات واقعية، فتظهر الحقيقة بوصفها تيارًا من الخبرات، الخبرات باعتبارها أفعالًا خاصة بالوعي، ومن حيث هي بنيات وتراكيب وليست مجرد تجارب شخصية. لا بد إذن من وصف المضامين الخالصة لما هو حاضر في الوعي، في الخبرة أو الشعور، وتأويل الظواهر بحيث تعرض نفسها للتحليل في شكل خالص لتكشف لنا عن الأشياء نفسها، عن الماهيات. ومن ثم يقوم المنهج الفينومينولوجي على تعليق الظاهرة في حد ذاتها أو وضعها بين قوسين، ثم إعادة بنائها عن طريق تحليلها كما هي معطاة للوعي، أي من حيث هي خبرة شعورية مندرجة في تيار الزمان.
تطورت الفينومينولوجيا وكان لها حضور قوي في فلسفة القرن العشرين، خصوصًا في مجال الهيرمنيوطيقا Hermeneutics أو فلسفة التفسير والتأويل، ولا سيما تأويل النصوص. فما دامت الفينومينولوجيا تُعنَى بتحليل الظواهر من حيث هي تجارب معاشة، لإدراك معانيها المستقلة «ماهياتها» فلا غرو أن يدخل النص في صميم موضوعها، فهو ظاهرة حية في وعي الكاتب وفي وعي القارئ، مهمة الكاتب تنتهي بخروج النص، أما القراءة والتأويل فمهمة مستمرة وإمكانية مفتوحة دومًا لفهم جديد … لتأويل. من هنا تحولت فينومينولوجيا أو ظاهريات النصوص إلى علم مستقل هو الهيرمنيوطيقا، يستفيد من علوم إنسانية عديدها ويفيدها، وعلى اتصال وثيق بنظرية المعرفة. وبفضل هانزجيورج جادامر H. G. Gadamer وكتابه الرائد «الحقيقة والمنهج ١٩٦٠م» استوت الهيرمنيوطيقا علمًا له مدارسه، واتجاهًا واسعًا مارس سيطرة كبيرة على الأجواء الثقافية ومدارس النقد الأدبي في الربع الأخير من القرن العشرين. إنه علم يقوم على إلغاء التباعد بين القارئ والنص، أو ما رأينا الفينومينولوجيا تمارسه من إلغاء التباعد بين الذات والموضوع. وبالتالي فهم النص ليس كموضوع مفارق، بل في سياق إنتاجه وفي أفق المتلقي له أو القارئ، فتتعدد مدلولاته بتعدد آفاق المتلقين باختلاف الأزمنة والأمكنة، ويبقى النص معينًا لا ينضب وإمكانية متجددة دومًا … باختصار التعامل مع النص كظاهرة في تيار الشعور معطاة للوعي، هكذا نجد الهيرمنيوطيقا أقوى امتدادات الفلسفة الفينومينولوجية.

ولكن كان الهم الأساسي للفينومينولوجيا — كما ذكرنا — هو العلوم الإنسانية وتقدمها. والواقع أنها لم تساهم كثيرًا في هذا الصدد، وأسفرت عن مدارس محدودة التأثير في علم النفس وعلم الاجتماع، ولم تأبه بها المدارس الكبرى التي أحرزت حصادًا علميًّا هائلًا كالسلوكية المعدَّلة وعلم النفس المعرفي والوظيفية والسوسيومترية في علم الاجتماع والاقتصاد التحليلي … إلخ. وحتى حين نشأ علم النفس الفينومينولوجي ظل أقرب إلى الفلسفة منه إلى العلم السيكولوجي، وأيضًا لم يكن للفينومينولوجيا تأثير على فلسفة العلم، ولم تتلاق معها إلا فيما ندر.

من الأعمال المبكرة للرائد إدموند هوسرل كتابه «الفلسفة بما هي علم دقيق ١٩١٠م» فقد كانت الفينومينولوجيا حريصة على تمثيل ما لروح العلم، وفعلت هذا بطريقتها المتميزة والخاصة جدًّا التي ترفض الاستنباط الرياضي والاستقراء التجريبي على السواء. انصبت على عالم الظواهر كما يفعل العلم، وشقت لهذا طريقًا مختلفًا — كما صادرت منذ البداية — بما أسمته بالتجربة الحية المعاشة وتحليل ماهية الظواهر المعطاة للوعي، وبهذه الطريقة افترقت الفينومينولوجيا عن التيار المثالي في القرن التاسع عشر، واقتبست — بأسلوبها الخاص — الروح التجريبية للقرن العشرين. وعلى أية حال فإن الفينومينولوجيا بتفرعاتها وامتداداتها وتطبيقاتها من التيارات الهامة في فلسفة القرن العشرين التي تساهم في التعبير عن روحه العامة، خصوصًا وأن الفينومينولوجيا منهاج للبحث وأسلوب للنظر، وليست البتة مصفوفة من الحقائق الأولية المثالية أو الميتافيزيقية المطلقة.

وكانت معاقل الهجوم الأخرى على المثالية الألمانية في مطلع القرن العشرين أكثر تمثيلًا لروح التجريبية العلمية. جاء مد تجريبي قوي من الفلسفة الأمريكية التي لم تكن أبدًا مرعى خصيبًا للمثالية، بحكم روح وطبيعة الحضارة الأمريكية، وإن كان يوجد بالطبع قلة من المثاليين الأمريكيين أهمهم جوزيا رويس J. Royce (١٨٥٥–١٩١٦م) الذي يجاهر بأنه فيلسوف هيجلي، ومع هذا تأثر بأستاذه وليم جيمس، فلم تخل فلسفته المثالية من استجابة ما للبرجماتية Pragmatism التي هيمنت على الفلسفة الأمريكية. لقد اكتملت البرجماتية، ونضجت لتكون بمثابة التمثيل العيني للفلسفة الأمريكية حديثة النشأة والنماء، حتى اتُخذت أساسًا لتفسير الدستور والقوانين والقيم الأمريكية. البرجماتية اسم مشتق من اللفظ اليوناني «براجما» ومعناه العمل. الفلسفة البرجماتية إذن هي الفلسفة العملية التي تبحث عن النافع والمفيد.
أول من صاغ البرجماتية كاسم وكمسمى هو الفيلسوف الأمريكي العظيم حقًّا، والمغبون الذي لم يلق ما يستحقه من تقدير، تشارلز ساندرز بيرس C. S. Peirce (١٨٣٩–١٩١٤م)، وهو رائد من رواد المنطق الحديث وفلسفة اللغة وفيلسوف علم جدير بالإعجاب، في طليعة المثبتين للاحتمية على أسس منطقية وفي سياق الفيزياء الكلاسيكية ذاتها. وضع بيرس نظرية للمنهج العلمي شديدة الشبه والتقارب مع أهم نظريات المنهج في القرن العشرين، أي نظرية كارل بوير، حتى يمكن أن تعد استباقًا لها وإرهاصًا بها. كان ابنًا لأستاذ رياضيات مبرز في جامعة هارفارد، حيث درس بيرس ونال إجازته في الكيمياء، ثم انشغل بالمنطق والفلسفة، ولكنه للأسف لم يظفر بمنصب أكاديمي رفيع في الفلسفة على الرغم من محاولاته المستميتة. ويعنينا من أمره الآن أنه طرح أساس البرجماتية بمقاليه «تثبيت الاعتقاد ١٨٧٧م»، و«كيف نجعل أفكارنا واضحة ١٨٧٨م»، ثم صاغ المذهب ببحثه الهام «البرجماتية» الصادر عام ١٩٠٥م، حيث نجد القاعدة الأساسية للمذهب البرجماتي؛ وهي أن معنى القضية يتوقف على نتائجها العملية، وإذا أردنا الحكم بأن مفهومًا عقليًّا ما ذو معنى، لا بد وأن نأخذ في الاعتبار النتائج العملية التي تنتج بالضرورة من صدق هذا المفهوم. وخلاصة هذه النتائج تشكل المعنى الكلي للمفهوم.
ثم تحددت معالم البرجماتية وأصبحت مذهبًا فلسفيًّا متكاملًا على يد وليم جيمس ذي الفلسفة التجريبية الراديكالية «الجذرية»، والنظرة التعددية للعالم رفضًا للواحدية المثالية. ويراه برتراند رسل صاحب أقوى أثر في تقويض المثالية الألمانية، فقد شن جيمس حملة شعواء على فلسفة هيجل ومطلقها المثالي ورآه كفيلًا بتدمير القوى الخلاقة للإنسان الفرد، وقدَّم واحدًا من أقوى عروض الفلسفة التجريبية لدرجة يصح معها الحكم بأن فلسفة جيمس المدخل الحق للتجريبية الغالبة على فلسفة القرن العشرين. وقد أشرنا سابقًا إلى كتابه «مبادئ علم النفس ١٨٩٠م» ودوره في علم النفس التجريبي، وهذا الكتاب له أيضًا دور في لفت النظر الفلسفي إلى أن التحليل المجرد للعقلانية لا يكفي ولا بد من الانتباه إلى أهمية التفاعل والتواصل بين ما هو ذهني وما هو بيولوجي واقعي، أي علمي تجريبي، ورأى أن البرجماتية في ربطها المعنى بالنواتج الواقعية إنما هي تطوير طبيعي للتجريبية التقليدية، فأخرج عام ١٩٠٧م كتابه «البرجماتية»، بعنوان فرعي: «اسم جديد لمنهج قديم في التفكير»، وأهداه إلى ذكرى جون ستيوارت مل مؤكدًا أنه لو كان حيًّا لناصر البرجماتية بكل قوة. وكان جيمس دائمًا يميل إلى الدين ونصرة الإيمان، وفي كتابه «إرادة الاعتقاد ١٨٩٧م» قدَّم تبريرًا برجماتيًّا للدين، بمعنى أن نؤمن به؛ لأن الإيمان الديني نافع ومفيد في جلب الراحة والهدوء النفسي والضبط الأخلاقي. يحتوي «إرادة الاعتقاد» على أشهر مقال لجيمس وهو «معضل الحتمية» حيث يبين تناقضات الحتمية مع ذاتها ومع القضايا المتصلة بها، ويرفضها تمامًا إثباتًا للحرية، وأبلى جيمس بلاءً حسنًا في قضية الحرية حتى عُدَّ من سدنتها المخلصين، وربما أيضًا لأسباب برجماتية، فالحرية الإنسانية لها نتائج عملية مفيدة في تحمل المسئولية، وجدوى الثواب والعقاب والقيم الخلقية إجمالًا، والإبداع والتميز … إلخ. وقبيل وفاته بعام واحد، أصدر عام ١٩٠٩م كتابه «معنى الصدق: تتمة للبرجماتية»، حيث فصَّل ما أجمله تشارلز بيرس، فأوضح جيمس أن الصدق أو الحقيقة truth خاصية للاعتقاد الإنساني وليست كيانات مطلقة، وكل ما يقع خارج الدائرة الإنسانية ليس حقائق بل وقائع، وإذ تصبح الحقائق مسألة إنسانية فإنها بالتالي نسبية قابلة للخطأ متغيرة ومتطورة شأن كل ما هو إنساني؛ وذلك هو صلب الفلسفة البرجماتية.
ثم تطورت البرجماتية واتسع مداها مع فلاسفة أمريكيين لاحقين، خصوصًا جون ديوي J. Dewey الذي بدأ من الفلسفة الهيجلية ولكي يداوي ما رآه فيها من انفصال بين الفكر والواقع انساق تمامًا للبرجماتية ورأى أن المعرفة وظيفتها تنظيم السلوك، وأن الفكرة أداة للعمل، فتُنعت برجماتية ديوي بأنها وظيفية أو أداتية، وقد جعلها أساسًا فلسفيًّا للتربية وللدفاع عن الحرية والليبرالية الحديثة ونظريته السياسية إجمالًا.
خلاصة الفلسفة البرجماتية أن العقل يحقق هدفه حين يقود صاحبه إلى العمل الناجح. إذن الفكرة الصحيحة هي الفكرة الناجحة، ولا تقاس الفكرة إلا بنتائجها العملية، أي بفائدتها. هكذا تنتفي تمامًا الحقائق الثابتة والأفكار المطلقة التي تبحث عنها المثالية. الحق والخير والجمال هو العملي النافع المفيد. تنشأ القيم من الواقع الطبيعي وتكون متغيرة متطورة تبعًا لنواتج الخبرة التجريبية التي تشهد بقدرة المبدأ الخلقي أو القيمة على حل المشكلات. في هذا تلتقي البرجماتية مع سائر مدارس فلسفة الأخلاق التي تستلهم الروح العلمية التجريبية، وترفض الحاسة الخلقية والحدسية الأخلاقية ومبدأ الواجب المطلق عند كانط … وما إليه من اتجاهات مثالية في فلسفة الأخلاق، وعلى الرغم من أن وليم جيمس لم يتعاطف مع التطورية الاجتماعية، فإن البرجماتية بتأكيدها على قدرة القيمة والمبدأ الخلقي على حل المشكلات إنما تلتقي مع التطورية الخلقية. والتطورية اتجاه في الفلسفة الإنجليزية استقطب مد الروح العلمية والعلم عمومًا ونظرية دارون التطورية خصوصًا، ومن أعلامه هربرت سبنسر H. Spencer (١٨٢٠–١٩٠٣م) وليزلي ستيفن L. Stephen (١٨٢٣–١٩٠٤م) والتطورية الخلقية تواصل المد الوضعي الذي يريد الأخلاق علمًا طبيعيًّا وليس فلسفيًّا بل مثاليًّا، يدرس السلوك الإنساني وغاياته، أخضعوا القيم لناموس التطور الحيوي كما أفصحت عنه نظرية دارون، أي ناموس الانتخاب الطبيعي والبقاء للأصلح، فيبقى من مبادئ الأخلاق ما يثبت أنه الأصلح، أي الأكفأ في مساعدة الفرد على حل مشكلات الحياة والتكيف مع البيئة، والأخلاق بهذا متطورة متغيرة تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، وليست البتة مطلقة ثابتة كما يتوهم المثاليون.

كان دارون كما هو معروف إنجليزيًّا، والفلسفة التطورية الأخلاقية والاجتماعية أيضًا إنجليزية، على أن أقوى التمثلات الإنجليزية للفلسفة العلمية التجريبية مذهب انطلق من ذلك العام الحاسم ١٩٠٠م وهو الفلسفة التحليلية التي سنراها تفصيلًا في حينها.

تنطلق البرجماتية وقريناتها من مذاهب الفلسفة التجريبية العلمية من الخبرة experience. الخبرة هي التفاعل المتنامي دائمًا بين الكائن الحي والبيئة، المعرفة ذاتها وسيلة لتنظيم الخبرة، ويبقى صلب التجريبية الجذرية في أن حقائق الأشياء يستحيل إدراكها بصورة قبلية سابقة على الخبرة التجريبية، والصدق خاصة للمعتقد الإنساني حين يستوفي شروط تمليها التجربة. وتؤكد البرجماتية على مقولتين قوَّضتا روح المثالية وسادتا في فلسفة القرن العشرين وساهمتا كثيرًا في جعلها وثيقة الاتصال بروح العلم التجريبية: المقولة الأولى هي الواقعية بمعنى الاعتراف بالوجود الواقعي المستقل للعالم التجريبي، فلا يعود فكرة أو تصورًا مرتهنًا بالعقل الذي يدركه كما تذهب المثالية المتطرفة. المقولة الثانية هي التعددية، بمعنى أن العالم ليس كما يذهب المثاليون — وفي طليعتهم فرنسيس برادلي — ليس كلًّا واحديًّا محكومًا بعلاقات داخلية ولا أجزاء له ولا تكثر فيه، بل إن العالم تعددي … كثرة متكثرة من الوقائع والجزئيات. والتعددية هي نظرية أنطولوجية متسقة مع روح العلم أو مع التجريبية، ومن الذين مكَّنوا لها، شارل رينوفيه الذي اعتبره جيمس أستاذًا له في إثبات الحرية الإنسانية، وأيضًا الفيزيائي إرنست ماخ فيلسوف التجريبية الألمانية الشهير الذي ارتد العالم بأسره على يديه إلى إحساسات، بينما ارتد مع جيمس إلى خبرات، وفي النهاية أتت التعددية التجريبية مع وليم جيمس ومعاصره إرنست ماخ قوية ماضية، ولم يكن ينقصها إلا خطوة واحدة سوف تقطع لاحقًا على يد برتراند رسل، وهي التسلح بالصياغات المنطقية.

لقد التقت مختلف مذاهب الفلسفة التجريبية في القرن العشرين على خصائص عامة مقتبسة من روح العلم، باتت تميز فلسفة هذا القرن بأسرها، فهي جميعًا تتجه نحو عالم الظواهر والخبرة وتنصب على الواقع فتغدو وثيقة الاتصال بفرائده لا تنفصم البتة عنه، ولا قبل لها بالتحليق في سرمد الفلسفات المثالية الخالصة. وبتأثير المد التجريبي شهد القرن العشرون عزوفًا عن بناء أنساق شامخة تستوعب الوجود والمعرفة والقيم جميعًا، على غرار مذاهب كانط وهيجل والفلسفات المثالية عمومًا منذ أفلاطون. وأصبحت الفلسفة في القرن العشرين مناهج أكثر منها مذاهب، أي أسلوبًا للبحث وطريقة للنظر وليست مصفوفة من الحقائق أو بناءً مهيبًا من الأفكار المطلقة. وبالتالي أخذت الفلسفة من الروح العلمية التجريبية التناول الجزئي، وأحيانًا التفتيتي للموضوع، فانفسح رحاب الفلسفة لطابع العلم الجمعي التعاوني؛ لتتآزر الجزئيات معًا نحو التصور الأكمل للموضوع والمتنامي دومًا. لم يعد المذهب الفلسفي فتحًا لعبقرية جبارة يقتصر اللاحقون على ترتيله، بل أصبح شقًّا لطريق تتوالى فيه الجهود وتتواصل.

لقد نجحت التجريبية منذ مطالع القرن العشرين والعام الحاسم ١٩٠٠م في أن تفرض ذاتها، وتفرض هذا الطابع العلمي على التيارات الكبرى المشكلة لفلسفة القرن؛ لأنها أصبحت تجريبية قوية، متطورة ومتبصرة ومدججة، بحيث تمثل تقدمًا فلسفيًّا وعقليًّا عما سبق. إنها تختلف اختلافًا ملحوظًا عن التجريبية الفجة الساذجة السالفة، التي بلورتها النزعة الاستقرائية، خصوصًا في تسلحها ببعدين:
  • فقد تسلحت تجريبية القرن العشرين بالتطور الذي أنجزته ثورة الفيزياء الكبرى في تصور المادة والعالم التجريبي، وفي تصور دور التجربة وعلاقة المعطيات الحسية بالعقل المبدع للفروض العلمية، كما أوضحنا سابقًا.

  • تسلحت أيضًا بأداة نافذة مكينة جليلة الشأن، تخلقت وتشكلت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر؛ ليغدو تسخيرها واستغلالها، استخدامها وخدمتها، علامة فارقة مميزة للقرن العشرين، إنها المنطق الرياضي.

إن المنطق الرياضي أو الرمزي هو عصب تميز التجريبية على العموم وفلسفة العلم على الخصوص … في القرن العشرين.

ثانيًا: المنطق الرياضي عصبٌ لفلسفة القرن العشرين

المنطق علم يدرس قوانين التفكير الأساسية، بصرف النظر عن مادة هذا التفكير أو موضوعه، فهو معني بصحة الاستدلال وسلامة الانتقال من المقدمات إلى النتائج، ولا شأن له بالحكم بانطباقها أو عدم انطباقها على الواقع، إنه معني بالصحة وليس بالصدق، فالصحة أو البطلان خاصة للاستدلال، أما الصدق أو الكذب فمجرد خاصة للقضية. وأيضًا يدرس المنطق التصورات والمفاهيم، لا في علاقاتها بالعالم الخارجي، بل في علاقاتها الداخلية بمبادئ التفكير المنطقي، وببعضها واتساقها معًا. هكذا نجد الهدف الذي يتعقبه المنطق في النهاية هو دراسة الاستدلال، أو العلاقة بين قضايا الحجة والعلاقة بين المفاهيم، فيضع قواعد إذا تحراها الذهن البشري سوف تعصمه من الزلل ومن الاستنتاجات الخاطئة، رآه ابن سينا آلة عاصمة للذهن من الخطأ، وخادمًا للعلوم جميعًا، بينما رآه الفارابي رئيس العلوم لنفاذ حكمه فيها. وهو على أية حال ليس علمًا يُوضع بجوار بقية العلوم، بل هو من مستوى مخالف وأسبق منها جميعًا، ما دام آلة وأداة للفكر معنيًّا بصورته العامة لا بمضمونه.

أكد كانط وهيجل على أن المنطق صورة بغير مضمون، وكانط أول من استعمل مصطلح «الصوري Formal» كصفة للمنطق التصقت به دائمًا، فيقال: «المنطق الصوري»، وهو فعلًا صوري، معني — كما ذكرنا — بصورة التفكير وهيكله وقالبه وإطاره العام، وليس بمضمونه الإخباري ومحتواه المعرفي. هذه الصورية هي التي جمعت المنطق والرياضة في مستوى واحد أو سلة واحدة هي سلة العلوم الصورية التي لا تضطلع بالإخبار عن الواقع التجريبي، ولكنها تسبق العلوم الإخبارية جميعًا كقانون كإطار وكلغة لها. وكانت نشأة المنطق مع الإغريق في سياق النزعة العقلانية الوليدة، وارتبط بجهودهم في تأسيس الهندسة كمبحث أكسيوماتيكي، أي نسق استنباطي يستند على بديهيات. وقد أوضحنا في الفصل السابق كيف مهد أرسطو لإقليدس، ومع هذا فإن المنطق الحديث الذي صبغ فلسفة القرن العشرين بصبغة منطقية يختلف ويتمايز تمامًا عن المنطق التقليدي في أنه منطق رياضي — كما سنرى.
بدايةً وبصرف النظر عن الإرهاصات والمقدمات والتوجهات الخاصة للمنطق الصيني والمنطق الهندي القديمين، نشأ علم المنطق الصوري ناضجًا مكتملًا في القرن الرابع والثالث قبل الميلاد على يد المعلم الأول أرسطو أعظم فلاسفة الإغريق. واللافت حقًّا أن أرسطو لم يعرف مصطلح «المنطق Logic»، وضع بحوثه المنطقية تحت عنوان «التحليلات» وأسماها تلامذته «الأورجانون»، أي الأداة أو آلة التفكير. وكان الإسكندر الأفروديسي في القرن الثاني الميلادي أول من استخدم مصطلح Logic المشتق من اللفظة الإغريقية الشهيرة «لوجوس Logos» ذات المعنى المزدوج: الكلمة/العقل. في هذا الازدواج البارع للمعنى كل الدلالة المطلوبة، والتي تجعل ology — المأخوذ من Logos — مقطعًا بُعديًّا للفظ للدلالة على العلم بمدلوله، الحياة Bio، وعلم الحياة Biology، النفسي Psyche، وعلم النفس Psychology، أرض Geo، وعلم طبقات الأرض Geology … وهكذا. فماذا عسى أن يكون العلم بموضوع ما سوى كلمة العقل في هذا الموضوع.

لقي المنطق اهتمامًا وتطويرًا من الرواقيين في الحضارة الهلينستية، وفي رحاب الحضارة العربية الإسلامية قام المسيحيون السريان في سوريا والعراق، في أواسط القرن التاسع الميلادي/الثالث الهجري بترجمة الكتب الأربعة لأرسطو في المنطق إلى اللغة العربية. كانت ترجمة حرفية فجة، راجعها على الأصل اليوناني ونقحها وهذبها الجيل الثاني من المترجمين وعلى رأسهم حنين بن إسحق وولده إسحق بن حنين، وترجموا أيضًا شروحًا وتعليقات. أصبح المنطق الأرسطي مطروحًا بوضوح في الحضارة الإسلامية، وانفتح المجال لتوالي جهود العرب وإسهاماتهم المنطقية، دشنتها دراسات الكندي — أول الفلاسفة العرب — وتوالت إنجازات المناطقة العرب من فرق شتى.

منذ البداية أُرسي هذا العلم في الحضارة العربية تحت اسم «المنطق»، وهو علم الميزان؛ إذ به تُوزن الحجج والبراهين، يقول التهانوي:
إنما سُمي بالمنطق؛ لأن النطق يطلق على اللفظ وعلى إدراك الكليات وعلى النفس الناطقة، ولما كان هذا الفن يقوى بالأول ويسلك بالثاني مسلك السداد ويحصل بسببه كمالات الثالث اشتق له اسم منه وهو المنطق، وهو علم بقوانين تفيد معرفة طرق الانتقال من المعلومات إلى المجهولات وشرائطها بحيث لا يعرض الغلط في الفكر.١
قسم الإسلاميون المنطق إلى التصور والتصديق، التصور هو إدراك جزئية أو مفردة، إنه بحث يتناول الألفاظ والتعريفات والحدود والكليات الخمس،٢ وكان مناط إضافة وإبداع ملحوظ عند العرب. أما التصديق فهو إدراك العلاقة بين التصورات بحيث يمكن وصف هذه التصورات بالسلب والإيجاب، بالنفي والإثبات. ومبحث التصديق يضم موضوعين هما القضايا والاستدلال. ميَّز العرب بين ثلاثة سبل للاستدلال؛ وهي: القياس والاستقراء والتمثيل. الشكلان الأولان مرَّا علينا فيما سبق، واتضح أن القياس هو الانتقال من الكليات إلى الجزئيات التي تلزم عنها، والاستقراء هو الانتقال من الجزئيات إلى الكلي أو الحكم على الكلي لثبوته في الجزئيات، أما التمثيل فهو الانتقال من جزئية إلى جزئية أخرى تماثلها. وكان القياس هو الاستدلال العمدة كما رأينا في العصور الوسطى الأوروبية والإسلامية على السواء.
ثم تكاثفت مؤثرات الحضارة الإسلامية على أوروبا، وعبر سبل شتى من قبيل قرطبة في الأندلس وبقية مراكز العلم العربي والأسفار والرحلات التجارية والحروب الصليبية … إلخ. انتقل إلى أوروبا المد العقلي الإسلامي، وفي سياقه إنجازاتهم المنطقية وشروح ابن رشد الرائدة لأرسطو ومنطقه. وبفضل المد العربي أعاد آباء الكنيسة الكاثوليكية اكتشاف المنطق إبان القرن الثاني عشر الميلادي، وبدأت مرحلة جديدة لازدهار المنطق الأرسطي في الحضارة الأوروبية استمرت حتى منتصف القرن الرابع عشر، وهي مرحلة التفكير المدرسي الذي كان نموذجًا للصرامة المنطقية في التفكير وأيضًا للعقم والخواء. من أهم المناطقة في هذه الحقبة القديس أبيلار Abelard (١٠٧٩–١١٤٢م) أخرج دراسة شاملة للمنطق في خمسة أجزاء تحت عنوان «الجدل Dialectica»، ومع هذا فإنه المسئول عن شيوع مصطلح Logic كاسم لهذا المبحث طوال العصر المدرسي وما تلاه. وفي بدايات القرن الثالث عشر الميلادي تأسست جامعتا باريس وأكسفورد، وقع تدريس المنطق الصوري الأرسطي في الصفوف الأولى من كلية «الفنون الحرة»، أي كلية الآداب ليشكل عقلية الطالب منذ البداية؛ نظرًا لاعتماد آباء الكنيسة هذا المنطق كمنهج للبحث. إنها المرحلة المدرسية التي سادها المنطق الأرسطي أكثر مما ينبغي، حتى استغرقها التفكير النظري الخالص والدوران في القياسات الأرسطية العقيمة التي لا تأتي بجديد عن الواقع، خصوصًا مع تراجع الاهتمام بالرياضيات والطبيعة، وتكرس العقل لخدمة اللاهوت، وتفسير الكتاب المقدس.

وكما رأينا في الانتقال «من العلم القديم إلى العلم الحديث» (الجزء الخامس من الفصل الأول) اقترنت حركة العلم الحديث بالثورة على المنطق الأرسطي وقياساته العقيمة، وسلك الطريق المضاد تمامًا وهو طريق الاستقراء التجريبي. فلا يدهشنا أن المنطق الصوري منذ النصف الثاني من القرن الرابع عشر يدخل في مرحلة بيات شتوي طويل استمرت خمسمائة عام، وهي المرحلة التي تصدرها المنهج الاستقرائي كتعبير عن روح العلم وروح العصر ساد فيها الظن بأن المنطق غير ذي نفع كبير ما دام لا يصلح لاكتشاف الطبيعة المتأججة وتنحصر معاملاته في الصحائف والأوراق، وأنه بحكم طبيعته لا يقبل تطويرًا، بل إنه عائق دون استقبال العصر الحديث والعالم الحديث. هيمنت الروح التجريبية بوصفها روح العصر ومنهج البحث، وتراجع المنطق إلى زوايا الإهمال والجمود لما يقرب من خمسمائة عام.

حتى كانت الانبثاقة الكبرى للمنطق الحديث في منتصف القرن التاسع عشر، فلماذا حدثت؟ وكيف جعلت المنطق الحديث رياضيًّا؟

نلاحظ أنه يغلب على الباحثين تتبع نشأة المنطق الحديث في سياق منطقي خالص، وجهود مناطقة كبار في إنجلترا أمثال ريتشارد ويتلي R. Whately (١٧٨٧–١٨٦٣م)، ووليم هاملتون W. Hamilton (١٧٨٨–١٨٥٦م) حاولوا — من داخل حدود المنطق الأرسطي — إخراجه من زوايا النسيان وبعث الحياة والدماء فيه وتطويره وتجديده. ثم يأتي جورج هنريك فون رايت، وهو من كبار أساتذة المنطق في القرن العشرين، مارس تدريسه وتطويره لما يربو على ستين عامًا من هذا القرن، وارتبط بعلاقات حميمة مع كبار المناطقة فيه، يسهب فون رايت في إيضاح أن المنطق الحديث جاء في منتصف القرن التاسع عشر كنتيجة لنشأة الرياضيات البحتة من جانب وتطور الرياضيات التطبيقية كأداة للعلم من جانب آخر، مما جعل السؤال عن الفحص النقدي لأصول الرياضيات والأسس التي تستند عليها سؤالًا ملحًّا. ومن خلال الجهود المبذولة للإجابة على هذا السؤال كانت نشأة ونماء المنطق الرياضي الحديث،٣ وعلى هذا نستطيع أن نربط تمامًا بينه وبين فلسفة العلم.

أجل، كانت نشأة المنطق الرياضي الحديث مساوقة تمامًا لنشأة فلسفة العلم، في نفس الزمان والمكان ولنفس العوامل والمبررات والأهداف، تقنين أسس العلم الحديث وفحصها فحصًا نقديًّا، فلا غرو أن يتكامل المنطق الرياضي مع فلسفة العلم ويتآزرا في القرن العشرين حتى كادت تلحق به من منظورات ذات اعتبار، خصوصًا حين كانت فلسفة العلم مستغرقة في سؤال المنهج، فقيل: إن المنطق صوري كما ذكرنا، وفلسفة العلم هي مناهج البحث هي المنطق المادي أو المنطق التجريبي، وما زالت كثير من الجهات الأكاديمية تعتبر المنطق وفلسفة العلم تخصصًا واحدًا، أو على الأقل متصلًا، فهكذا كانا منذ بواكير النشأة.

في ذلك الأوان — منتصف القرن التاسع عشر — بلغ العلم الحديث درجة عالية من النضج والنماء؛ ليغدو من الممكن تأمل أسسه وتقنينها وفحصها فحصًا نقديًّا. من أجل هذا كانت المناظرة بين وليم هيوول وجون ستيوارت مل التي أسفرت عن صياغة النزعة الاستقرائية كتقنين للأساس التجريبي للعلم. بيد أن العلم الحديث لم يكن تجريبًا فقط، بل تجريبًا مسلحًا بلغة دقيقة وأداة فعالة لرسم الصورة الحديثة للكون وهي الرياضيات، فكان لا بد من فحص وتقنين أسس وأصول الرياضيات أيضًا. وفي هذا انتهت النزعة الاستقرائية إلى أنها مثل أي علم آخر تعميمات استقرائية، وتتمتع باليقين لسعة مجالها وكثرة الوقائع الشاهدة على صدقها، كثرة ما لاحظته حواسنا من أن اقتران ١ و١ — مثلًا — ينتج عنه دائمًا ٢. ونظرًا لطبيعة الرياضيات كعلم صوري غير مُستقى من الواقع التجريبي ولا متكفل بشأنه، فإن هذه الإجابة التجريبية المتطرفة لم تقنع علماء الرياضيات، ونهض فريق منهم لفحص أصول الرياضيات من الطريق المخالف لهذه الاستقرائية، أي طريق التعقل المنطقي الخالص. ومن أجل هذا انكبوا بأدواتهم الرياضية على دراسة علم قوانين الفكر الأساسية، أي علم المنطق. ولما كان أميز ما يميز الرياضيات أنها لغة رمزية خالصة كانت بحوثهم وفحوصهم علة لترميز المنطق وجعله هو الآخر لغة رمزية خالصة كالرياضيات.

إن «المنطق الحديث» هو «المنطق الرياضي» هو «المنطق الرمزي»، المصطلحات الثلاثة مترادفة، ويمكن أن نضيف إليها مرادفًا رابعًا طرحه في ذلك العام الحاسم ١٩٠٠م لويس كوترا L. Coutrat (١٨٦٨–١٩١٤م) لتمييز المنطق الرمزي الحديث عن المنطق الأرسطي التقليدي، وهو مصطلح اللوجسطيقا Logistic، أو بلغته الفرنسية Logistiqe، وأعاد طرحه أليستون عام ١٩٠٤م. وقد فند كواترا براهين سلفه شارل رينوفيه على امتناع اللامتناهي وقام بدوره في تطوير الرياضيات البحتة وفحص أصولها، وأيضًا تطوير المنطق الرياضي أو اللوجسطيقا بمصطلحه.
وفي طليعة أولئك الرياضيين الفاحصين لأصول الرياضيات يتقدم الأيرلندي جورج بول G. Boole (١٨١٥–١٨٧١م) الذي يعزى إليه الفضل في تأسيس المنطق الحديث. استفاد بول من أستاذه أغسطس دي مورجان A. de Morgan (١٨٠٦–١٨٧١م) الذي خصه بالرعاية والتشجيع. كان دي مورجان عالم رياضيات أيضًا معنيًّا بتطبيق الأدوات الرياضية على المنطق التقليدي، وفي كتابه «المنطق الصوري ١٨٤٧م» صاغ نظرية العلاقات لأول مرة في صورة رمزية، وعلَّم بول أن المنطق يمكنه استخدام أساليب الرياضة، وأن قوانين الجبر يمكن تعميمها بصرف النظر عن تفسيراتها الجزئية، فاستطاع بول أن يصل إلى جبر عام مجرد يتمثل في قوانين الفكر الأساسية، واستبعاد اللغة الجارية كوسيط غير دقيق والتعبير عن هذه القوانين بلغة رمزية دقيقة كلغة الحساب، وإقامة علم المنطق على هذا الأساس. هكذا تم تأسيس المنطق الرياضي بكتابي جورج بول «التحليل الرياضي للمنطق ١٨٤٧م»، و«فحص قوانين الفكر ١٨٥٤م». نلاحظ أن الأول صدر في نفس عام صدور كتاب أستاذه مورجان، فيمكن اعتبار هذا العام — ١٨٤٧م — عام ميلاد المنطق الرياضي الرمزي الحديث.
استخدم بول ثلاثة أنواع من الرموز، أولًا رموز لغوية مثل: «س» و«ص» و«ك» و«م» لتدل على مفاهيم وقضايا. ولكي يمكن استخدام هذه الرموز تبعًا لقوانين تركيب معروفة تعطي نتائج متسقة، استخدم بول — ثانيًا — رموزًا أو علامات دالة على عمليات مثل +، −، ×، وثالثًا علامة الهوية «=» التي اعتبرها بول علاقة أساسية،٤ وكما يقول الدكتور زكي نجيب محمود في كتابه الرائد «المنطق الوضعي، الجزء الأول ١٩٥٢م» ليست المسألة مجرد استعمال رموز من أحرف الهجاء أو غيرها لتحل محل الحدود والقضايا، وإلا لكانت لعبة صبيانية لا طائل وراءها يستحق اهتمامًا، بل إن جوهر المنطق الحديث هو تحويل القضية المنطقية إلى قضية شبيهة بمعادلات الجبر فتكتسب عمليات التفكير ما في الرياضة من صرامة ودقة وانضباط.

طبَّق بول جبره المنطقي على فروع المنطق وموضوعاته، بما في ذلك نظرية القياس الأرسطية، واتضح أنها مجرد حالة لمنطق الفئات. إن المنطق الرياضي يستوعب المنطق التقليدي في سياق أوسع وأرحب، والأهم أنه أدق وأكفأ. لا يعرف المنطق الأرسطي التقليدي إلا القضية الحملية «أ هي ب»، حيث تحمل «ب» على الموضوع «أ»، أما في المنطق الرياضي فثمة القضية اللزومية الشرطية، والقضية الانفصالية، والقضية العطفية، والقضية المنفية، والقضية التركيبية من هذا وذاك … وينقسم المنطق الرياضي إلى ثلاثة مباحث رئيسية، وهي: حساب القضايا، وحساب الفئات، وحساب العلاقات. طبعًا تعامل المنطق الأرسطي مع القضايا، وأيضًا مع الفئات، أما العلاقات فهي الإنجاز المستجد تمامًا للمنطق الرياضي، والذي لم يعرفه المنطق التقليدي بحال، والواقع أن مبحث العلاقات هو الأسبق تاريخيًّا؛ إذ طرحه دي مورجان، وهو أيضًا أخصب الإضافات وصاحب الأثر الأكبر في تصويب الأطروحات، في الفلسفة وفي الرياضة البحتة على السواء، وفي المعرفة الإنسانية بصفة عامة، لقد اتضح أخيرًا أن القضية «أ» على علاقة ﺑ «ب» مثلًا «أ يماثل ب»، أو «أ يحب ب» لا تحمل طرفين هما «أ» و«ب» فحسب، بل ثمة طرف ثالث هو العلاقة بينهما، التماثل أو الحب أو أية علاقة أخرى. وإغفال العلاقة كطرف ثالث يكمن وراء كثير من الترديات في عمليات التفكير، والآن نجد المحصلة الواسعة لحساب العلاقات تبرز — أكثر من سواها — الأهمية الكبيرة التي ترتبت على ترييض المنطق. وكما أشار برتراند رسل — في كتابه «مقدمة للفلسفة الرياضية ١٩١٩م»، «ليست الرياضيات إلا أنماطًا من العلاقات تتم معالجتها بالأسلوب الرمزي».

وفي إثر الإنجاز الرائد لجورج بول توالت جهود المناطقة لتطوير وتنقيح وتبسيط وإكمال المنطق الرياضي، في مقدمتهم تشارلز بيرس، وأيضًا وليم ستانلي جيفونز W. S. Jevons (١٨٣٥–١٨٨٢م) وجون فن J. Venn وسواهم. إنهم سالكون طريق جورج بول وأستاذه دي مورجان فيعملون على تطبيق الأدوات الرياضية على المنطق التقليدي، أي رد المنطق إلى الرياضيات، حتى خرج من بين أيديهم منطق رمزي يستقي أرومته من الرياضيات.
وكما أوضحنا، انطلقت هذه الجهود بصفة مبدئية من هاجس الفحص النقدي لأصول الرياضيات، التقت معها جهود أخرى سلكت الطريق المخالف لتصل إلى نفس المقصد، وبدلًا من رد المنطق إلى الرياضة حاولوا العكس، أي رد الرياضيات إلى المنطق بغية تأمين أصولها. إنه الطريق الذي شقه جوتلوب فريجة G. Frege (١٨٤٨–١٩٢٥م)، وجوزيب بيانو G. Peano (١٨٥٨–١٩٣٢م) وواصله وايتهد وبرتراند رسل حتى أخرجا كتابهما الفذ «برنكبيا ماتيماتيكا»، أي «أصول الرياضيات» الذي يفصح عن الخاصة التحليلية للرياضيات، وعن أن المنطق صبا الرياضيات والرياضيات رجولة المنطق، كما سبق أن أوضحت ثورة العلوم الرياضية في الفصل السابق. وكان كتاب «برنكبيا ماتيماتيكا» علامة فارقة على نضج المنطق الحديث واستوائه على العرش. ويظل برتراند رسل أعظم الباحثين في — أو عن — أصول الرياضيات وأعظم المناطقة في القرن العشرين وفي تاريخ الفكر الإنساني برمته.
وكان عالم الرياضيات البحتة ديفيد هيلبرت D. Hilbert (١٨٦٢–١٩٤٣م) يبحث أصول الرياضيات من اتجاه آخر هو الاتجاه الصوري أو الشكلي Formalism الذي يذهب إلى أن قضايا الرياضة صيغ متفق على معاني رموزها دون أن يكون لها مدلولات خارجية، بمعية الاتفاق على قواعد متى راعيناها فقد ضمنا بلوغ اليقين والضرورة. فانصب منظور هيلبرت على المفاهيم والتصورات الرياضية والتحسيب الصوري لها على أساس نسق من البديهيات يتوافر فيها الاتساق والكفاية والاستقلال وخصائص الاكتمال الأخرى التي تتحدد في مبحث ما بعد الرياضيات Meta-Mathematics. يرى فون رايت أن مشروع هيلبرت هو بشكل ما إحياء لمشروع ليبنتز في القرن السابع عشر، الذي كان يطمح إلى وضع لغة رمزية عالمية يتحد الناس جميعًا في استعمالها بصرف النظر عن لغاتهم الطبيعية، تمامًا كالرياضيات، وتشكل حروفها أبجدية الفكر البشري، فيناظر كل حرف مفهومًا أوليًّا بسيطًا، وعن طريق قواعد التركيب نشكل من هذه المفاهيم البسيطة مفاهيم مركبة. وأشار ليبنتز صراحةً إلى أن فن التركيب هذا حساب عقلي كالجبر تمامًا. هكذا تصور الفكرة الأساسية للمنطق الرياضي، ولكنه لم ينجز مشروعه هذا ولم يفطن إلى أهمية العلاقات ولم يتحرر أصلًا من إعجابه بأرسطو. يظل ليبنتز مجرد مبشر، أو هو المبشر الأول، تبعه في القرن الثامن عشر مبشرون آخرون من علماء الرياضيات المعنيين بالمنطق أهمهم ليونارد أويلر L. Euler، ويوهان لامبرت J. Lamber، وبرنار بولزانو B. Bolzano، حتى كانت نشأة المنطق الرياضي المهيأة للنضج والنماء في القرن التالي كما رأينا.
الاتجاه الثالث نحو أصول الرياضيات هو الاتجاه العقلي الحدس المثالي، الذي يرى أن الحدس intuition، أي الإدراك الفوري المباشر هو الطريق لإدراك حقائق الرياضيات وأسسها. وهذا اتجاه قديم منذ أفلاطون حتى ديكارت وكانط. وحين أثيرت مشكلة أصول الرياضيات بُعث مجددًا على يد الهولندي لويتسجن بروور L. E. Brouwer (١٨٨١–١٩٦٦م)، وأيضًا أرند هايتنج A. Heyting. أنكر الحدسيون أن يكون المنطق قادرًا على تأسيس أصول الرياضيات، وعرضوا قوانين التفكير الأساسية لمنظار النقد، وأثاروا الشك في قانون الثالث المرفوع أو الوسط الممتنع، أي «الشيء إما أ أو لا أ، ولا ثالث أو وسط». لقد اختلفت رؤيتهم لدور المنطق عن رؤية فريجة ورسل والمدرسة المنطقية في أصول الرياضيات، واختلفت أيضًا عن رؤية ديفيد هيلبرت والمدرسة الصورية، وكان النقاش حادًّا بين الحدسيين والصوريين.

لقد تراجع تمامًا التفسير التجريبي الاستقرائي لأصول الرياضيات، وأصبح المنطقيون والصوريون والحدسيون يمثلون المدارس الثلاث الكبرى المتنافسة فيما بينها، إلا أن المدرسة المنطقية مع رسل كانت بمثابة ثورة وصاحبة الأثر الأكبر في توجيه فلسفة القرن العشرين. وبشكل عام تمخضت المناقشات الدائرة بين هذه المدارس الثلاث في أصول الرياضيات عن نماء ونضج المنطق الحديث، الذي أصبح بالضرورة منطقًا رمزيًّا ما دام في أصله رياضيًّا.

انطوى ترميز المنطق على قفزة عقلية هائلة طرحت إمكانيات إبستمولوجية أبعد، بحيث يمكن أن نماثلها بالقفزة التي حدثت ممهدة لنشأة العلم الحديث من جرَّاء استخدام رموز الأرقام الهندية العربية بدلًا من الأرقام الرومانية القاصرة العقيمة التي استمرت في أوروبا حتى القرن الثالث عشر أو بالتحديد عام ١٢٠٢م، عام عودة ليوناردو فيبوناسي إلى بيزا؛ لينشر شروحًا للأرقام التي تعلمها من العرب. يكفي أن نقارن مثلًا العدد 988 في صورته العربية هكذا أو ٩٨٨ وهي صورة عربية أخرى، وبين صورته بالأرقام الرومانية هكذا: DCCCCLXXXVIII، أو بين إمكانية إجراء عملية حسابية بسيطة مثل «١١٣ × ٨» بصورتها العربية وبين إجرائها في الصورة الرومانية VIII X CXIII، حيث تحتاج لجهد خارق وعقيم، المثل تمامًا يحدث بفضل ترميز قضايا وعلاقات الحجة أو البرهان أو الصياغة في المنطق الرياضي. وإذ يصطنع المنطق لغة رمزية مبرأة من عيوب اللغات الطبيعية، فإنه يتجنب الخلط والإبهام وعدم دقة التعبير والمراوغة في المعنى الكامنة في اللغة الطبيعية، أجل، استخدم المنطق الأرسطي الرموز إلى حد ما، رمز للموضوع ورمز للمحمول، ربما كان الفرق في الرمزية بينه وبين المنطق الرياضي الحديث فرق درجة وليس فرق نوع، لكنها درجة هائلة شاسعة تصل إلى حد صنع اختلاف كيفي بين المنطق القديم والمنطق الحديث، وتجعل هذا الأخير أداة قوية ناجزة للتحليل وللاستنباط، وقادرًا على أن يكشف عن البنية المنطقية للقضايا والحجج بوضوح لم يكن متاحًا البتة قبل كل هذا القدر من الترميز.٥
منح المنطق الرياضي فلسفة القرن العشرين ذات المنزع المعرفي والتجريبي والعقلي إجمالًا أسلوبًا فنيًّا للصياغة الدقيقة والتعبير المنضبط، وأداة فريدة مكنتها من استنباط النتائج من المقدمات بطرق ممهدة لم تكن متاحة من قبل، لقد جعل من الممكن صياغة مشكلات فلسفية تقليدية بطرق جديدة خصيبة ومثمرة، فقام بدور كبير في تطوير مدارس وأنساق فلسفية عديدة. وقدم التحليل المنطقي للقضايا عتادًا هائلًا للنظرة التعددية للعالم رفضًا للواحدية وعلاقاتها الداخلية، فقد أوضح أن خواص الشيء أو أوصافه لا تفصح عن علاقاته بالأشياء الأخرى مما يعني أن العلاقات خارجية، وبالتالي العالم تعدديًّا.٦

وبشكل عام أدى المنطق الرياضي إلى إزالة مواطن لبس وغموض رانت طويلًا على صدر الفلسفة متذرعة بالخلط اللغوي، مثلًا توصل برتراند رسل عام ١٩٠٥م إلى «نظرية الأوصاف المنطقية»، وعن طريقها تستطيع الفلسفة — أخيرًا — إثبات أن غولًا أو دائرة مربعة مفاهيمُ لا وجود لها. «كل العفاريت حمراء»، و«كل المصريين عرب»، «قضيتان متساويتان في نظر المنطق الأرسطي، وعن طريق الأوصاف المنطقية يتم إثبات أن المقدم «المبتدأ أو الموضوع» في القضية الأولى لا وجود له، بينما هو في الثانية موجود، هناك فئة فارغة وفئة غير فارغة، هدف «الأوصاف المنطقية» هو تمييز الصور المنطقية عن الصور النحوية وإبعاد الكيانات الزائفة التي لا يستطيع النحو إثبات زيفها. فتعتبر نظرية الأوصاف المنطقية مثالًا نموذجيًّا للفلسفة في القرن العشرين المتسلحة بالمنطق الرياضي، ومثلها أيضًا نظرية رسل في الأنماط المنطقية عام ١٩٠٨م التي تفرق بين قضية تشير إلى شيء جزئي وقضية تشير إلى مبدأ عام أو تشير إلى قضايا أخرى، مما أدى إلى حل مفارقات كثيرة.

وبالعود إلى العام الحاسم ١٩٠٠م نجد شهر يوليو منه يشهد مؤتمرًا دوليًّا للفلسفة عُقد في باريس، حضره كبار الفلاسفة والمناطقة أمثال: ألفرد نورث هوايتهد وبرتراند رسل وجوتلوب فريجه وجوزيب بيانو … كان هذا المؤتمر علة فاعلة لتلاقح الفلسفة والمنطق الرياضي، وشهد القرن العشرون فئة مستجدة تفلح أراضي لم تستكشف من قبل هي فئة الفيلسوف/المنطقي، غالبية أعضائها من فلاسفة العلم، مما أدى إلى توظيف فلسفي واسع للمنطق الرياضي. لم يعد المنطق كما كان مجرد أورجانون أو أداة للفلسفة، ومن أسبق الشواهد على هذا أعمال هوايتهد «مبادئ المعرفة الطبيعية ١٩١٩م»، و«مفهوم الطبيعة ١٩٢٠م» و«مبدأ النسبية ١٩٢٢م». وكان هوايتهد من أعظم الباحثين في أصول الرياضيات والمساهمين في تطوير المنطق الرياضي، بلغت إسهاماته الذروة في الكتاب الفذ «برنكبيا ماتيماتيكا»، لكنها أيضًا توقفت بهذا العمل واتجه إلى الفلسفة الخالصة، بينما واصل رسل جهوده المنطقية بلا كلل أو ملل. وكان رسل قد أعلن أن أي مشكلة فلسفية إذا خضعت للتدقيق والتحليل الضروريين؛ اتضح أنها إما أن تكون مشكلة منطقية أو أنها ليست مشكلة فلسفية فعلًا، بعبارة أخرى، كل المشاكل الفلسفية فعلًا هي مشاكل منطقية،٧ وأصبح مألوفًا أن تكنى فلسفة العلم بمنطق العلم. وكان فريجه قد رأى أن العلوم الفيزيائية تدرس قوانين الطبيعة، والمنطق يدرس قوانين تصور قوانين الطبيعة، المنطق من هذه الزاوية هو علم قوانين الطبيعة ليدخل في ذات الهوية مع علم العلم أو فلسفة العلم.

وإذا كان المنطق الرياضي قد لعب دورًا كبيرًا في تطوير فلسفة القرن العشرين ذات المنزع العقلاني والمعرفي، فإن فلسفة العلم على الخصوص هي التي أحرزت تقدمًا تقنيًا كبيرًا بفضله، وإذ تسلحت بهذه الأداة الفعالة — أي المنطق الرياضي — أصبحت التجريبية فيها مقننة تقنينًا دقيقًا يفصلها بمراحل عن التجريبية الفجة التي عبرت عنها النزعة الاستقرائية في القرن الأسبق. لقد أصبح من الممكن تجريد بنية النظرية العلمية للتعامل معها ومع العلاقات بين عناصرها، وبينها وبين وقائع الملاحظة، وانفتح الطريق إلى محاولة صياغة التجريبية ذاتها بلغة منطقية دقيقة تكون لغة للعلم الموحد.

إن المنعطف الحاد الذي جعل فلسفة القرن العشرين تصطبغ بصبغة منطقية إنما يتبوأر في حجر زاوية أساسي هو اللغة. أجل، المنطق هو علم قوانين الفكر منذ أرسطو وحتى عنوان كتاب جورج بول. ولكن القرن العشرين أدرك أن المنطق لا يدرس قوانين الفكر كسديم سابح في الأجواء الميتافيزيقية، أو كما يدرسها علم النفس مثلًا، بل يدرس المنطق قوانين الفكر كما تتمثل في الانتقال من قضايا لغوية إلى أخرى، أسرف تشارلز بيرس في إيضاح أن اللغة جوهر التفكير، إنها الموضوع الفعلي للمنطق ومادته الخام التي يتعامل معها ويُعالجها، فيبدو جليًّا أن المنطق يدرس الارتباط بين التفكير واللغة؛ لذا يزدهر في الأجواء التي تشهد ازدهارًا في المباحث اللغوية، كما كان الوضع في كمبردج وأكسفورد، ومن قبل في الحضارة العربية الإسلامية.

الواقع أن العرب أدركوا مبكرًا هذا الارتباط الوثيق بين المنطق واللغة، وأرسوها قاعدة تقول: إن المنطق هو نحو التفكير، والنحو هو منطق اللغة، وفي قول آخر: المنطق نحو يوناني والنحو منطق عربي، خصوصًا وأن النحو العربي يتميز بأصول للاشتقاق وبتقنين وتقعيد محكم لا مثيل له في لغات العالمين. لقد رأينا التهانوي يعرف المنطق بالنطق والنفس الناطقة واللفظ، بحيث ارتبط المنطق — اشتقاقًا ومضمونًا، كاسم وكمسمى — بالنطق وباللغة، يقول التهانوي:
النُطْق بالضم وسكون الطاء يُطلق على النطق الخارجي وهو اللفظ، وعلى النطق الداخلي الذي هو إدراك الكليات، وعلى مصدر ذلك الفعل وهو اللسان، وعلى مظهر هذا الانفعال، أي الإدراك. المراد بالنطق في قولهم الإنسان حيوان ناطق هو القوة الموجودة في جنان الإنسان التي تنتقش فيها المعاني، ولا خفاء في أنها لا توجد في الببغاء والملائكة والجن؛ لفقد الجنان في الجن والملائكة، وفقد انتقاش المعاني في الببغاء.٨

هكذا نلاحظ التطابق بين التفكير والنطق أو اللغة كقوة مميزة للإنسان، فيغدو المنطق في ذات الهوية مع التفكير ومع اللغة، وحينما أصبح المنطق الرياضي عصبًا لفلسفة القرن العشرين اتجهت هذه الفلسفة بقوة نحو الاهتمام باللغة، وأصبحت فلسفة اللغة من محاورها.

في دفع الفلسفة نحو الاتجاه اللغوي، ربما تكاتفت مع المنطق فروع أخرى لعلوم نهضت في القرن العشرين من قبيل اللغويات النظرية وعلوم الكومبيوتر ودراسة الذكاء الاصطناعي وتشغيل برامج المعلومات، بيد أن دور المناطقة الرياضيين كان العلة الفاعلة بلا شك. ألم يتضح أن الرياضيات ليست حقائق ووقائع ميتافيزيقية كامنة في الما وراء، بل هي محض لغة للتعبير الدقيق؟! ثم تحمل الحركة التحليلية وفيلسوفها رسل فلسفة اللغة على كواهلها، مما يعني ارتباطًا بالمدرسة المنطقية في أصول الرياضيات. في منتصف القرن العشرين اتضح الدور الكبير لجوتلوب فريجة كفيلسوف لغة. ربما لم يكن لديفيد هيلبرت دور في فلسفة اللغة، لكن الاتجاه الحدسي مع بروور — فيما يرى فون رايت — لعب دورًا غير مباشر، فهجوم بروور على النزعة الصورية لهيلبرت هو بشكل ما نقد للغة في اتصالها بالحدوس الكامنة خلف التفكير الرياضي، والتي تشكل أصول الرياضيات كما يرى الحدسيون. هكذا تبدو مختلف المدارس في أصول الرياضيات والمنطق الرياضي وهي تدفع الفلسفة نحو اللغة، حتى أصبحت مناط ثورة فلسفية في القرن العشرين. معظم تياراته الفلسفية تهتم باللغة ولم تعد تسلم بها كوسيط شفاف للتعبير والتواصل، وكأنها اكتشفت فجأة أن عدسات النظارة التي ننظر بها دائمًا محتاجة لجلو وتنظيف.

وهنا يتقدم الفيلسوف النمساوي لودفيج فتجنشتين L. Wittgenstein (١٨٨٩–١٩٥١م) بوصفه صاحب الأثر الواسع والعميق في صبغ فلسفة القرن العشرين بالصبغة المنطقية، تقنينًا وتنضيدًا للغة، وإحكامًا وضبطًا للتفكير بواسطة قصر اللغة على صياغة العبارات التجريبية والعلاقات المنطقية. فيمثل فتجنشتين نقطة التقاء الخطوط السابقة، المد التجريبي والمنطق الرياضي كعصب الفلسفة وكيف يتبوأر تلاقيهما معًا وتفاعلهما في التجريبية وهي تتمنطق في شكل فلسفة للغة.
كان فتجنشتين يدرس هندسة الطيران والملاحة الجوية، اجتذبته الرياضيات في سياق دراسته الهندسية، وانكب على الرياضيات البحتة وألحت عليه التساؤلات بشأن أصولها. أرشده أساتذته إلى كتاب «برنكبيا ماتماتيكا» الذي دفعه إلى دراسة أعمال فريجه، سافر فتجنشتين إلى يينا Jena في ألمانيا عام ١٩١١م؛ لكي يناقش أصول الرياضيات مع فريجه، فنصحه بالدراسة في كمبردج على يد برتراند رسل. هكذا شد فتجنشتين الرحال إلى إنجلترا والتحق بكلية تيرنتي في كمبردج لينتقل من أصول الرياضيات إلى المنطق، ويتفرغ بقية حياته للفلسفة، عازفًا عن إمكانياته المهنية الهندسية ومتنازلًا عن ثروة طائلة ورثها ومعرضًا عن الزواج … إلخ. هذا لكي يتكرس تمامًا لثورة المنطق الرياضي في المملكة التجريبية كما تمخضت عن فلسفة اللغة التي ستلعب دورًا كبيرًا في فلسفة العلم.

نمت بينه وبين أستاذه برتراند رسل صداقة عميقة ورفقة فلسفية ثمينة، أثمرت ثمرًا وفيرًا في مضمار الفلسفة التحليلية. في أوائل العشرينيات صدر كتاب فتجنشتين «الرسالة المنطقية الفلسفية»، ترجم توًّا إلى اللغة الإنجليزية ثم ترجم مرارًا وتكرارًا، ويظل من أهم النصوص الفلسفية في القرن العشرين، ومن أقوى الموجهات التي أثرت على فلسفة العلم. إنه كتاب شديد التميز، عباراته قصيرة حادة مركزة قاطعة حاسمة مرقمة بدقة، لا يمكن قراءتها بسرعة أو فهمها بسهولة.

كان فتجنشتين نموذجًا لفئة المنطقي/الفيلسوف، بل هو حاد في الاتسام بالسمة المنطقية. الفلسفة في عرفه إما هي منطقية أو أنها لا شيء وقول فارغ يخلو من المعنى، بله الجدوى. قام بدوره في تطوير وسائل المنطق الرياضي من قبيل قوائم الصدق، ودوال الصدق التكرارية (انظرها في الفصل الرابع) انطلق من الرياضيات وله بحث في أصولها، ويقف عمله على أكتاف فريجه ورسل، إلا أنه لا يوضع ضمن أقطاب المدرسة المنطقية في فلسفة الرياضيات، ويظل من أرباب الفلسفة التحليلية. وتحتل «الرسالة المنطقية الفلسفية» موقعًا استراتيجيًّا بالنسبة لدور المنطق في فلسفة القرن العشرين على العموم، وفي فلسفة العلم على الخصوص.

أوضحت «الرسالة المنطقية الفلسفية» أن المنطق ما هو إلا صورة للفكر كما يتمثل في اللغة. إذن فالمنطق ما هو إلا صورة للغة، وكل ما يمكن التفكير فيه يمكن التعبير عنه بوضوح، يقول فتجنشتين:
تهدف الفلسفة إلى التوضيح المنطقي للأفكار، وليست الفلسفة علمًا Lehre إنما هي نشاط. حصيلة الفلسفة ليست عبارات فلسفية، وإنما توضيح للعبارات. يجب أن تعمل الفلسفة على توضيح الأفكار وتحديدها تحديدًا قاطعًا، وإلا ظلت تلك الأفكار مبهمة وغامضة.٩

هكذا يؤكد على أن الفلسفة مجرد نشاط مهني لتوضيح الأفكار؛ وذلك عن طريق التحليل المنطقي للعبارات التي تصاغ فيها الأفكار وردها إلى عناصرها الأبسط، فتزداد وضوحًا ونتأكد من مطابقتها للواقع التجريبي وإلا اعتبرناها لغوًا. رأى فتجنشتين أن معظم المشكلات الميتافيزيقية والفلسفية الكبرى، إذا خضعت لمجهر التحليل اتضح أنها تحير العقول؛ لأنها بلا معنى وليست مشكلات على الإطلاق! الفلسفة بهذا المنظور التحليلي لا تحمل معرفة ولا تضيف جديدًا، بل هي توضيح للأفكار ومعركة ضد البلبال الذي يحدث في عقولنا نتيجة سوء استخدام اللغة، معركة سلاحها المنطق الرياضي.

كان موقف فتجنشتين في منتهى الجذرية، فنجده يبحث في إمكانية اللغة أصلًا، وما الذي تعنيه العلامات اللغوية؟ في الإجابة على هذا ارتبطت اللغة بالعالم ارتباطًا وثيقًا، فتمثلت التجريبية في أكثر صورها نصوعًا وسطوعًا، طبعًا بفضل المنطق الرياضي. فقد وضع نظريته التصويرية للغة التي تقوم على تماثل وتطابق هيئة التكوينات اللغوية مع تكوينات الأشياء في العالم التجريبي. إن جوهر اللغة هو جوهر العالم هو الصورة المنطقية العميقة المشتركة بينهما. الغلالة النحوية التي تحكم ظاهر استخداماتنا للغة، تخفي هذا التشارك من حيث تحجب جوهرية البنية المنطقية العميقة للغة. كشفت «الرسالة المنطقية الفلسفية» عن المفاهيم عميقة الجذور المشتركة بين اللغة والعالم، وطبيعة الصورة المنطقية والضرورة والصدق؛ وما إليه من زوايا منطقية محورية.

والمثير حقًّا أن فتجنشتين وضع في الأربعينيات عمله الآخر المكتوب بنفس طريقة الفقرات القصيرة المرقمة، ٦٩٣ فقرة، والذي يمثل المرحلة الثانية من تفكيره وهو «بحوث فلسفية»، حيث يتطرف في الاتجاه اللغوي المنطقي إلى آخر المدى مما يمثل انفلاقًا واضحًا. فلم يعد ينطلق من منطلق الرسالة؛ وهو أن العبارات اللغوية لا بد وأن ترتبط بوقائع العالم التجريبي، بل يولي ظهره لهذا مؤكدًا أن العبارات تعتمد أولًا وأخيرًا على القواعد التي اصطلحنا عليها لاستعمال اللغة، وليس المقصود بقواعد اللغة هنا النحو والصرف والاشتقاق التي يُعنَى بها علماء اللغويات. القواعد اللغوية التي هي موضوع الفلسفة المنطقية هي قواعد السيمانطيقا Semantics، أي التحليل المنطقي لدلالات الألفاظ وقواعد السينتاطيقا Syntax، أي التحليل المنطقي لبنية اللغة والتراكيب اللغوية. وأصبح يطلق على مبحث السيمانطيقا والسينتاطيقا معًا اسم ما بعد المنطق Metalogic. والواقع أن أية لغة لا تعدو أن تكون رموزًا دالة وقواعد لتركيبها. وبهذا نفهم كيف تتعامل الفلسفة المنطقية مع اللغة من حيث هي لغة لا من حيث هي لغة عربية أو يونانية أو فرنسية أو إنجليزية …
في فاتحة «بحوث فلسفية» يؤكد فتجنشتين أنه لا يزال يبحث المعنى والفهم والقضية والمنطق وأصول الرياضيات وحالات الوعي وما إليه، بيد أنها عولجت مجددًا من اتجاه مغاير.١٠ لقد باتت العبارات اللغوية مقطوعة الصلة بالخبرة التجريبية، ولا تعتمد على أية إحساسات يتلقاها شخص ما أو حتى كل الأشخاص. ليس هناك لغة خاصة تعبر عن الخبرة الخاصة؛ لأن مثل هذه اللغة تشير إلى إحساسات فورية خاصة بالمتكلم لا يعرفها سواه، فيستحيل أن يفهمها شخص آخر. «أنا أتألم» ليست لغة بالمعنى الصحيح، هذا التعبير اللغوي عن الألم يحل محل الصراخ والتأوه، وليس توصيفًا للألم،١١ أو معرفة به. الخبرة الحسية ليست معرفة أصلًا. الوحدة الأولية للمعرفة هي القضية التي تقبل الخطأ أو الصواب والكذب أو الصدق. لا يمكن أن يخطئ المرء وهو يقول: «أنا حزين»، أو «أرى مقعدين في الغرفة»، فلا يمكن أن تكون المدركات الحسية موضوعًا للمعرفة ولا أساسًا للغة. أساس اللغة هو فقط قواعدها. هب أنك اعتدت أن تقرن إحساسًا معينًا بالعلامة «س»، فإن أي تركيز على خبرتك الحسية ذاتها لا يكسب العلامة «س» معنى، إنها تكتسب كل المعنى فقط من القواعد التي نصطلح عليها لاستعمال «س» في اللغة المتداولة بيننا. هكذا كل العلامات اللغوية — كالألفاظ — لا يتوقف معناها على الخبرة الحسية، بل على قواعد اللغة، السيمانطيقية والسينتاطيقية، أي القواعد التي تحكم الدلالات والتراكيب اللغوية.
وبعد أن كانت وظيفة اللغة في «الرسالة» هي تصوير العالم، أصبحت وظيفتها التواصل مع الآخرين. واللغة بهذا المنظور نشاط جمعي مثل المباريات الرياضية، ينبغي أن نتعلم قواعدها تمامًا كما نتعلم قواعد المباراة الرياضية. يستعمل فتجنشتين مصطلح «مباراة game» ليعني أن اللغة لها الخصائص الآتية:
  • (١)

    الطابع التنافسي.

  • (٢)

    محكومة بقواعد.

  • (٣)

    تتطلب مهارات تتفاوت.

  • (٤)

    ليس لها هدف نهائي، مجال الأهداف مفتوح.

  • (٥)

    يمكن اعتبار اللغة مجموعة أنشطة مستقلة تمامًا كما أن المباريات الرياضية أنشطة مستقلة. وهذا لا يعني البتة أن اللغة نشاط تافه أو مجرد تسلية، بل هي الفاعلية الاجتماعية الأم.

ومع هذا الانتقال من وقائع العالم التجريبي في «الرسالة» إلى قواعد اللغة في «بحوث فلسفية» ما زال فتجنشتين مخلصًا لهدفه الأولي، وهو أن تكون مهمة الفلسفة التوضيح لنحذف اللغو وينفرد العلم بمجال المعرفة. إننا نتعلم قواعد الدلالة أو السيمانطيقا والتركيب اللغوي أو السينتاطيقا كما نتعلم قواعد مباراة، وعن طريق هذه القواعد يتم تمييز المعرفة العلمية واستبعاد الميتافيزيقيات التي يتسع لها النحو، بينما هي خالية من المعنى. «حتى إذا تساءلنا لماذا يهتم الفيلسوف بدراسة قواعد مباريات اللغة؟ لكان ذلك فقط من أجل التوضيح والتمييز بين اللغو وبين الكلام ذي المغزى»؛١٢ أي المنطق والرياضة والعلوم الطبيعية وسائر العبارات التجريبية. جميعها يسير التعبير فيها تبعًا لإرشادات تخطيطية مجردة، وتبني لنفسها سياقها الخاص الذي يسير بواسطة فروض مطروحة بوضوح في إطار للعمل أو البحث. ويمكن الحكم على انتماء العبارات لهذه المجالات وفقًا لاقتفاء العبارات قواعد السير فيها، أي قواعد التعبير اللغوي. وإذا أخذنا عبارة علمية أو منطقية كنموذج للوضوح وكمورد نهائي للصدق الأصيل، سوف نستطيع تحديد القواعد اللغوية للتمييز، وسوف يتجه تصورنا للوضوح نحو نوع من الصفاء الفطري الخالص.١٣

لقد رأينا بادئ ذي بدء أن نشأة النزعة الاستقرائية، وفلسفة العلم إجمالًا كانت بهدف تمييز المعرفة العلمية، ويأتي فتجنشتين متسلحًا بالمنطق الرياضي؛ ليجعل التعبيرات التجريبية هي كل الكلام ذي المغزى وما عداه لغوًا، ويحقق هدف التمييز عن طريق قواعد التعبيرات اللغوية، فلا غرو أن يصر إصرارًا على قصر الفلسفة على منطق اللغة، متخذًا موقفًا غاية في القسوة والعنف من بقية امتدادات الفلسفة وفروعها — خصوصًا الميتافيزيقا — يهدف إلى استئصالها جميعًا بضربة واحدة!

يقول هنريك فون رايت إن المناطقة والرياضيين على السواء قابلوا إنجاز فتجنشتين ببرود. لعل كارل بوبر يفوق زملاءه المناطقة في هذا، فقد أسرف في رفض دعاوى «الرسالة المنطقية الفلسفية»، أما «بحوث فلسفية» فيصفه بوبر بأنه غث وتافه ومضجر! وأنه لا يجد فيه ما يستحق الاتفاق أو الاختلاف! ولا نندهش فديدن الفلسفة دائمًا هو الرأي والرأي الآخر، ومهما كان هذا الرأي أو ذاك فالذي لا شك فيه أن «الرسالة المنطقية الفلسفية» بالذات ظلت باقية وأعيد إحياؤها المرة تلو المرة، في الفلسفة المنطقية وفي تطورات النظرية اللغوية، ومن ناحية أخرى في فلسفة العقل التي تستلهم الكومبيوتر كما تتمثل في العلوم المعرفية ودراسة الذكاء الاصطناعي، وكان تأثيرها الأقوى في فلسفة العلم. ويظل فتجنشتين بمنطقه الصارم صاحب أخطر رسالة لغوية تلقتها الفلسفة.

كانت المحصلة القوية لفلسفة فتجنشتين في التيار التحليلي العريض، وأقوى مدارسه الوضعية المنطقية. هذا التيار كثيرًا ما يُنعت بأنه أهم تيارات الفلسفة في القرن العشرين، وإليه تعود الصبغة المنطقية القوية فيها. يلزم التوقف إزاء الفلسفة التحليلية وفيلسوفها برتراند رسل، ثم الوضعية المنطقية التي انسلت عنها لتمثلها في فلسفة العلم، بكل القوة والمضاء. وقبل أن ننتقل إلى هذا وذاك، نختم حديثنا في هذا الجزء من الفصل بنظرة شاملة على مآل ومسير المنطق حتى نهاية القرن العشرين.

أهم تطور حدث في المنطق بعد الحرب العالمية الأولى أتى من المدرسة المنطقية البولندية التي أسسها في وارسو، في فترة ما بين الحربين العالميتين أحد تلاميذ برنتانو وهو تفاردوفسكي K. Twardowiski (١٨٦٦–١٩٣٨م) لتعكف على المنطق الحديث وأبعاده في الفلسفة وأصول الرياضيات، استمرت حتى نهاية الحرب العالمية الثانية لتتفكك بوفاة وهجرة أعضائها، بعد أن تنجز خطى تقدمية محورية، لعل أهمها ظهور المنطق المتعدد القيم many-valued logic لا يعرف المنطق الأرسطي التقليدي إلا قيمتي الصدق والكذب، القضية إما صادقة وإما كاذبة والقيمة الثالثة ممتنعة. أما المنطق الرياضي الحديث فلا بد وأن يعمل بقيم متعددة، فهو تحليلي يرد القضية إلى مكوناتها، كل مكون صادق أو كاذب، أما القضية في حد ذاتها فقد لا يمكن الحكم عليها بهذا أو ذاك. إذن ظهرت قيمة ثالثة، فضلًا عن القيم المتعددة لحساب الاحتمالات بين قيمتي الصدق والكذب. لا ينفصل هذا عن بعث وإحياء منطق الجهة Modal Logic؛ أي الحكم على القضية من جهة الضرورة أو الإمكان أو الامتناع. وهذا مبحث عُني به أرسطو والمناطقة العرب — خصوصًا الفارابي وابن رشد — ثم أهمله جورج بول وفريجة. فلم يكن منطق الجهة محط اهتمام في مرحلة نشأة المنطق الرياضي. وفي العشرينيات بعثته البحوث السيمانطيقية مجددًا وأعادت إحياءه. وكان هذا أساسًا في إطار نقد منطق برتراند رسل. إن أعمال رسل ذات مردودات وحصائل لا أول لها ولا آخر، إنه عملاق في الفلسفة وفي الرياضيات على السواء. وقد رأينا كيف مثل المنطق الحديث معاملًا مشتركًا بينها.
منذ أرسطو وحتى يومنا هذا، المنطق جزء لا يتجزأ من دراسة الفلسفة، وهو الجزء الأهم، سار المنطق التقليدي في سياق مختلف عن الرياضيات، أما المنطق الحديث فيحتل مكانته في أقسام الفلسفة وأقسام الرياضيات على السواء بمختلف الجامعات في شتى أنحاء العالم. ولم يكن انضمامه للأسرة الرياضية سهلًا، هذا ألفرد تارسكي A. Tarski (١٩٠١–١٩٨٣م) صاحب الإنجازات الحاسمة في مبحث ما بعد المنطق خصوصًا السيمانطيقا وما بعد اللغة وما بعد الرياضيات والمنطق المتعدد القيم، ووصل إلى تعريف حاسم لمفهوم الصدق، وهو على الإجمال من أبرز رجال المدرسة البولندية، هاجر بعد تفككها إلى الولايات المتحدة. ويحدثنا تارسكي عن الصعوبات التي واجهته لكي يجعل المنطق تخصصًا موقرًا في أقسام الرياضيات بجامعة باركلي. على العموم، احتل المنطق الآن موقعه بين علوم الرياضيات في مختلف الجامعات.
في «برنكبيا ماتيماتيكا» يلتحم المنطق مع الرياضيات تمامًا، في إطار نسق موحد يبدأ من حساب القضايا وينتقل إلى حساب الفئات ثم العلاقات، ويتدرج دون أدنى فجوة أو قطع إلى الحساب العددي منتقلًا منه إلى بقية فروع الرياضيات كما نسقها المذهب الحسابي لفريجه في تسلسلها عن العدد الصحيح. نحن هنا لا نستطيع أن نقول أين انتهى المنطق وأين بدأت الرياضيات.١٤ لذلك أصر فتجنشتين على أن المنطق بأسره جزء من الرياضيات. وأوضح رسل أن المنطق يأخذ من الفلسفة، بخلاف التطبيق والتفعيل في المجالات العقلية الواسعة، فقط البدايات والأسس والأصول والقواعد، ثم يتوغل في متاهات قاصرة على الرياضيات. ومع هذا، ما أن انضم المنطق إلى الأسرة الرياضية الأرستقراطية الجليلة، إلا وراح يثير غبار الشك على أفرادها الموقرين، وتكفي مبرهنة كورت جودل الشهيرة التي أثبتت عنصرًا من اللااكتمال في الإنساق الرياضية. فهل لهذا كان المنطق — خصوصًا في الثلث الأول من القرن العشرين — قوة هائلة تجذب الطلبة الواعدين من أقسام الرياضيات إلى أقسام الفلسفة؟
رأينا هذا يحدث لفتجنشتين، ويشبه ما حدث لبرتراند رسل نفسه. فقد التحق بجامعة كمبردج في أكتوبر ١٨٩٠م واختار دراسة الرياضيات وحصل على إجازته فيها بعد ثلاث سنوات. رأى رسل أسلوب التدريس في كمبردج عقيمًا ومجرد حشد للأذهان بحيل بارعة تمثل إهانة لذكاء الطالب، حتى بدت الرياضيات بأسرها أمامه مثيرة للغثيان! يقول رسل:
لما انتهيت من آخر امتحاناتي في الرياضيات عند نهاية سنتي الثالثة في كمبردج، أقسمت ألا أنظر بعدها إلى الرياضيات، وبعت كل كتبي الرياضية، وفي هذه الحالة النفسية والعقلية واجهتني الفلسفة بكل البهجة التي يبتهج بها الهارب من نفق إلى واد مزدهر فسيح.١٥

وأيضًا الفيلسوف الكبير ألفرد نورث هوايتهد، أستاذ رسل ورفيقه في «برنكبيا ماتيماتيكا» وصاحب الرؤية العضوية العميقة للطبيعة في إطار فلسفة شاملة للعلم، كان هو الآخر أستاذ رياضيات بارزًا في كمبردج ولندن، وانتقل من الرياضيات إلى أصولها إلى المنطق الرياضي والفلسفة المنطقية، ثم الفلسفة إجمالًا حتى فلسفة الحضارة وفلسفة التربية، وسافر عام ١٩٢٤م إلى جامعة هارفارد العريقة أستاذًا للفلسفة بها ومكرسًا لها بقية حياته، وهو لم يتلق دراسة نظامية في الفلسفة، ولا حصل على شهادة فيها.

تأثير المنطق كقوة جذب للعقول النابهة من رحاب الرياضيات إلى رحاب الفلسفة لا يقتصر على طبقة وايتهد ورسل وفتجنشتين، بل حدث كثيرًا حتى كان مألوفًا في ألمانيا — كما يخبرنا فون رايت — أن يهجر الطلبة النابهون أقسام الرياضة ذاهبين إلى الفلسفة بفعل سحر المنطق.

وفيما بعد خف هذا كثيرًا، وكما أوضحت ثورة العلوم الرياضية في الفصل السابق، مثلت مبرهنة كورت جودل التي طرحت في أوائل الثلاثينيات منعطفًا حادًّا في توجهات العقل الصوري. وبعدها فقد البحث في أصول الرياضيات كثيرًا من سحره وجاذبيته، وفقدت الأحلام العظيمة للمنطقيين والصوريين والحدسيين بهاءها ورونقها، لكن بعد أن تخلف عنها هذا العلم المهيب: المنطق الرياضي الذي أجادت فلسفة القرن العشرين تشغيله واستثماره والاستفادة منه. ومن قبل ومن بعد، فإن المنطق الرياضي نهض على أكتافه عملاق القرن العشرين والقرون التالية — أي الكومبيوتر — في برمجياته أو جانبه المرن Soft-Ware وفي عتاده أو جانبه الصلب hard-ware على السواء.
وإذ يودعنا القرن العشرون، يبدو المنطق — كما يلاحظ فون رايت — وكأنه يلحق بمصير مباحث عديدة — بدءًا من الفيزياء ووصولًا إلى علم النفس — تنفصل عن الفلسفة وتصبح علومًا مستقلة. فلم يعد المنطق الآن مرتبطًا بالفلسفة كما كان طوال تاريخه، وبعد تطوراته المتتالية أصبح علمًا مستقلًّا ووثيق الصلة بالرياضيات وبعلوم أخرى استحدثت على مسرح القرن العشرين مثل علوم الكومبيوتر والدراسات المعرفية والسيبرناتيكا واللغويات العامة، وجميعها أصبحت مباحث تنحدر بشدة تجاه الرياضيات، إلا أن فون رايت يقول:
إن الفلسفة تزدهر في غسق الغموض، وستظل ثمة جوانب غامضة في المنطق في حاجة إلى جهود الفلاسفة، فلن ينفصل عن الفلسفة أبدًا، وسيظل الفلاسفة يجدون في المنطق نسيجًا لأثواب ميتافيزيقية قشيبة، ولكن لا أعتقد أن المنطق سوف يلعب مرة أخرى دورًا جسيمًا وهائلًا كهذا الذي لعبه في فلسفة القرن العشرين. فقد كان القرن العشرون العصر الذهبي للمنطق.١٦

ثالثًا: برتراند رسل والفلسفة التحليلية

من العوامل التي جعلت القرن العشرين عصرًا ذهبيًّا للمنطق أن شهد هذا القرن برتراند رسل B. Russell (١٨٧٢–١٩٧٠م) الذي رأيناه عملاق الفلسفة وعملاق الرياضيات على السواء، فأينعت الثمار في المعامل الذي أضحى مشتركًا بينهما وهو المنطق. وقدم لنا رسل فلسفة علمية بلغت الذروة في تسلحها بالمنطق الرياضي. والواقع أن رسل على وجه التحديد هو الذي علَّم فلسفة القرن العشرين كيف يمكن أن تصبح التجريبية منطقية. على العموم اجتمعت صفحات سابقة في مواضع متفرقة على التنويه بدوره الكبير في فلسفة هذا القرن، منذ رؤيته للعلية ومشكلة الاستقراء حتى كتاب «برنكبيا ماتيماتيكا» والمدرسة المنطقية في أصول الرياضيات والإسهام الحاسم في ثورة العلوم الرياضية، وفي المنطق الرياضي وفي جعل فلسفة القرن العشرين مصطبغة بالصبغة المنطقية … والآن نلتقي به عن كثب أكثر.
ولد برتراند آرثر وليم رسل لأسرة أرستقراطية عريقة من أرفع طبقات المجتمع الإنجليزي، وتولى جده رئاسة الوزارة ثلاث مرات، وقبل أن يبلغ عامه الرابع كان قد فقد أبويه، تعهدت جدته ذات الصرامة الأرستقراطية بتربيته وتنشئته وتثقيفه، لم ترسله إلى أية مدرسة نظامية، وقامت بتعليمه في المنزل بمساعدة مدرسين خصوصيين، على عادة الطبقة الرفيعة في إنجلترا آنذاك. تبدى نبوغه في الرياضيات، وهو بعدُ طفل يرفل في مدارج الصبا ويتلقى دروسه في الحساب والهندسة من أخيه الأكبر والوحيد، ويشكك في بديهيات إقليدس. ولعل هذه الشكوك هي ما أدت في النهاية إلى «برنكبيا ماتيماتيكا» وما تلاه. التحق بجامعة كمبردج عام ١٨٩٠م ليدرس الرياضيات، وعُيِّن عام ١٩١٠م محاضرًا بها، وفي عام ١٩١٦م فُصل منها وصدر حكم بحبسه ستة أشهر؛ لأنه معارض لدخول إنجلترا الحرب العالمية الأولى ورافض لسياستها الاستعمارية. بعد انتهاء الحرب سافر إلى الصين وروسيا اللتين زادتا عقليته رحابةً وثراء. تبرع بثروته خصوصًا لجامعة كمبردج، وتكسب عيشه من كتاباته الغزيرة ومحاضراته العامة. أمضى فترة الحرب العالمية الثانية في أمريكا يُحاضر في جامعاتها، وواجهته اعتراضات حادة بسبب دعواه إلى حرية العلاقات الجنسية، وهو الذي تزوج أربع مرات! لكنه حظي باعتراف العالم به كشخصية مرموقة وواحد من أعظم عقول القرن العشرين. وحين عاد إلى وطنه عام ١٩٤٤م أُعيد انتخابه زميلًا بكلية ترينتي في جامعة كمبردج. وفي كل هذا كانت إنجازاته الفلسفية تتوالى باطراد معالم بارزة على طريق الفلسفة العلمية في القرن العشرين. وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وحتى رحيله، لم يأل جهدًا ولا فكرًا ولا مالًا لخدمة قضايا السلام ونزع السلاح النووي وإنهاء الاستعمار والدفاع عن الحرية في كل مكان. آخر ما كتبه — قبل وفاته بيومين — رسالة إلى المؤتمر البرلماني العالمي الذي كان منعقدًا بالقاهرة في أوائل شهر فبراير عام ١٩٧٠م، يندد فيها بإسرائيل ويطالب بانسحابها من الأراضي العربية التي احتلتها عام ١٩٦٧م، محذرًا إياها بأن «الغارات في عمق الأراضي المصرية لن تقنع المدنيين بالاستسلام، بل ستعزز تصميمهم على المقاومة».١٧ فقد كان رسل بحق عقل القرن العشرين الصوري المحلل، وروحه العلمية الدافقة، وأيضًا ضميره الحي، فلا غرو أن يُلقب «بفيلسوف القرن»١٨ وبغير منازع.

عاش رسل حياة طويلة عريضة عميقة، القراءة والكتابة في أعقد المواضيع خبزه اليومي، وظل حتى آخر لحظة محتفظًا بتوقده الذهني وقدرته الفريدة على مراجعة نفسه وتعديل مواقفه وتطوير فلسفته. وفي كل حال ظلت رسالته الراسخة التي يصر عليها إصرارًا أن تكون الفلسفة علمية تصغي باهتمام لشهادات العلم، وتستفيد من مناهجه التجريبية والصورية معًا، وتتحلى بطبائعه، من هنا كان أكثر العقول تجريدًا وتجسيدًا لروح القرن العشرين، بآلام مخاضه ثم تطورات نمائه الثورية. استقبل الدنيا عام ١٨٧٢م في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر ليتلقى خلاصة مده، التيار العلمي التجريبي المغرور من ناحية ومد المثالية الألمانية كتيار مواز له من الناحية الأخرى. وقع رسل في إسار كانط وهيجل، ثم انقلب عليهما؛ ليستقبل القرن العشرين وهو في صدر الشباب وأوج النضج ويكون في طليعة الجاعلين عام ١٩٠٠م عامًا حاسمًا لصالح المد التجريبي، تأكيدًا للثابت الباقي في كل المتغيرات والتطورات التي خضعت لها فلسفته، أي الرسالة التي حملها باقتدار وامتياز وأجاد إبلاغها للقرن العشرين، وهي أن تكون الفلسفة علمية، ومن أجل هذا لا بد وأن تصبح التجريبية منطقية.

رأى رسل الفلسفة تتميز عن العلم في أن القضية الفلسفية لا تتعلق إطلاقًا بالشيء المتعين في إطار زماني مكاني محدد، إنها ذاتٌ عموميةٌ شاملة، مما جعل الفلسفة العقلانية تعين دائمًا على فهم العالم ككل ما أمكنها ذلك، أما الفلسفة في جانبها الوجداني، فتضع قيمًا وغايات للحياة. ويؤكد رسل أن مهام الفلسفة لا تختلف باختلاف العصور، والفلسفة حين تصل إلى تصور عام للعالم، إنما تصل بنا إلى أقصى نقطة ممكنة في الابتعاد عن الموقف الإنساني المحدود المتعين في الهنا والآن، في المكان المحدد بالزمان المعين. كل الأنشطة المعرفية — على رأسها العلم — ترتفع بالإنسان عن قوقعته الزمانية المكانية، وتجعل حياته أرحب بأن يترامى تفكيره إلى سعة الأفق الوجودي، فلا ينحصر في موطئ قدميه. التاريخ والجيولوجيا مثلًا يبتعدان بالإنسان عن الآن، الجغرافيا والفلك يبتعدان عن الهنا، أما الفلسفة في نظرتها الأنطولوجية «الوجودية» العامة فينبغي أن تستوعب كل هذا وتتجاوزه حين تغامر بوضع تصور عام للعالم أو الكون؛ فذلك هو البحث الشامل الذي تتميز به الفلسفة ولا يستطيعه سواها. وحين تصبح الفلسفة علمية تغدو هذه المغامرة مأمونة ومحسوبة، وأيضًا ضرورية؛ لأن العلم في القرن العشرين طرح أمامنا عالمًا جديدًا تمامًا ومفاهيم ومناهج لم تعرفها الأزمنة الأسبق، وتعد بسبل أكثر خصوبة وثراء من كل ما أتيح للأقدمين.١٩
لكي تكون الفلسفة علمية وتتقي جنوحات الخيال وشاعرية الأحلام عليها الالتزام بحدود المنطق وأطره والعمل بأدواته المشحوذة؛ لهذا أكد أن كل المشاكل الفلسفية في جوهرها مشاكل منطقية. حاول أن يتجاوز المنطق الرياضي إلى ما أسماه بالمنطق الفلسفي الذي يُعنَى بحصر الصور المنطقية والأنواع المتعددة للقضايا وأنماط الوقائع وتصنيف مكوناتها المنطقية. والمنطق الفلسفي أكثر صعوبة من المنطق الرياضي وأهم؛ لأنه هو الذي جعل من الممكن مناقشة القضايا الفلسفية مناقشة علمية، وهذا الجزء الفلسفي من المنطق في حقيقة الأمر نظرية ميتافيزيقية يحاول رسل أن يجعلها منطقية تبدو وكأنها نتيجة لفلسفة الرياضيات،٢٠ ولم يصل رسل إلى تصوره للمنطق الفلسفي إلا بعد أن أشبع المنطق الرياضي دراسة وتطويرًا وتطبيقًا، وكل هذا في إطار نزوعه نحو أن تتمنطق الفلسفة بأسرها لكي تكون علمية. وبالتالي لم يصل إلى تصوره المنطقي الخالص الشامل للفلسفة العلمية دفعة واحدة، بل عبر مراحل متعاقبة من التطور الفلسفي، فكيف كانت هذه المراحل؟
بدأت علاقة رسل النظامية بالفلسفة فور انتهائه من دراسة الرياضيات في كمبردج عام ١٨٩٣م، نفس العام الذي صدر فيه كتاب برادلي «المظهر والحقيقة» ليكون أول ما قرأه رسل، وهو أقوى تمثيل للغزوة المثالية الألمانية التي اجتاحت إنجلترا آنذاك. فوقع رسل بدوره في إسار المثالية الألمانية، ودرس الفلسفة في عامه الجامعي التالي بهذه الروح، وكان أستاذاه هما الفيلسوفان المثاليان ستوت وماكتاجارت الهيجلي الكبير. نمت صداقة بينه وبين ماكتاجارت جعلته يرتاح معه لرؤية هيجل للعالم ككل واحد ومتماسك، ينكر حقيقية المادة أو الزمان والمكان. الحق الوحيد هو المطلق … إله هيجل، ومن قبل كان أستاذه في الرياضيات وايتهد ميالًا إلى كانط. وأيضًا سافر رسل مع زوجته الأولى إليس إلى ألمانيا في خريف ١٨٩٥م، لدراسة الاقتصاد والاشتراكية الديمقراطية. وكان رسل يجيد الألمانية ويتحدثها بطلاقة،٢١ لكل تلك العوامل غرق رسل حتى أذنيه في المثالية الألمانية بعملاقيها كانط وهيجل. وسوف نرى كيف كان رسل حتى في هذه المرحلة المثالية الباكرة، التي استمرت فيما بين عامي ١٨٩٣م و١٨٩٨م، مخلصًا لوعده الصادق بأن تكون الفلسفة علمية، وأن فلسفة العلم هي الممارسة الفلسفية الأصيلة، لنستطيع صياغة المحصلات العلمية بواسطة المناهج الفلسفية.

تجلت المثالية في أول أعمال رسل «مقال في أسس الهندسة ١٨٩٧م»، وهو بحث نال به رسل درجة الزمالة من كمبردج، بعد أن ناقشه وايتهد وجيمس وارد عام ١٨٩٦م وأثنيا عليه. وفيه يطرح رسل السؤال الكانطي الشهير: كيف كان علم الهندسة ممكنًا؟ وانتهى إلى أنه لا يكون ممكنًا إلا إذا كان المكان واحدًا فقط من التصورات الثلاثة المطروحة، مكان إقليدس المستوي أو مكان لوباتشيفسكي المقعر أو مكان ريمان المحدب. ولأن الأخيرين لا يستغنيان البتة عن مقياس ثابت للانحناء، بدت الإقليدية هي الهندسة الوحيدة الممكنة، وما كانت الكانطية تسمح بغير هذا. لم تكن نظرية النسبية لآينشتين التي جعلت هندسة ريمان هندسة تطبيقية قد ظهرت بعد لتطيح بكل هذا، فتصور رسل في حينه أنه أرسى التصور الإقليدي للعالم، وأنه حل كل المشاكل الفلسفية المتعلقة بأسس الهندسة!

وإمعانًا في الانسياق مع المثالية الألمانية، انتقل رسل من هذا الأساس الكانطي إلى هيجلية ديالكتيكية «أي جدلية تنتقل من القضية إلى النقيض إلى المركب الشامل لكليهما». راح إبان العامين التاليين (١٨٩٦–١٨٩٨م) في انشغال عميق بتفسير ديالكتيكي «جدلي» لأسس العلوم الرياضية والفيزيائية على السواء، وخرج مقاله «في العلاقات بين العدد والكمية» ليعلن أنها علاقة انقلابات جدلية، وشرع في معالجة مماثلة لأسس الفيزياء، وانشغل بالمقابلة بين الحركة المطلقة والحركة النسبية، وبأن المادة في حقيقتها تجريد غير واقعي، وليس ثمة علم بالمادة — كالفيزياء — يمكن أن يستوفي الشروط المنطقية، وعلى هذا انتهى إلى تفسير جدلي أو منطق ديالكتيكي لأسس الفيزياء، ينتقل بين الطرفين المقابلين وهما المقولات العقلية والإحساسات، ويرتبط بالمظهر البادي أكثر من ارتباطه بالمنطق الصوري؛ ليكون منهجًا لتحويل المظهر إلى حقيقة، بدلًا من أن نبني الحقيقة أو الواقع أولًا، ثم تواجهنا بعد ذلك ثنائية لا مخرج منها.٢٢ وكان رسل يأمل في كتابة سلسلة كتب في فلسفة العلم، تتجه تدريجيًّا نحو ما هو أكثر عينية، فينتقل من الرياضيات والفيزياء إلى البيولوجي، وتوازيها سلسلة أخرى من الكتب بشأن المسائل الاجتماعية والسياسية، تتجه تدريجيًّا نحو ما هو أكثر تجريدًا، عساه أن يحرز في النهاية، بعملية تركيب جدلية هيجلية، عملًا موسوعيًّا يغطي النظرية والتطبيق على السواء.٢٣

لكنه لم يفعل، فقد انقلب فجأة على هذه المثالية، واعتبر كل ما قاله فيها — خصوصًا بشأن أصول الهندسة — لغوًا، انقلب إلى النقيض تمامًا، إلى فلسفة واقعية، انسياقًا مع المد التجريبي في مطالع القرن العشرين أو بالأحرى إحداثًا له. وكانت هذه الانقلابة في ذلك الأوان هي التي شهدت نشأة الفلسفة التحليلية، ولكننا سنوضح الآن كيف جعلت المنطق الرياضي عصب الفلسفة وجعلت التجريبية منطقية.

بدأت رحلة الخروج من المثالية الكانطية الهيجلية عام ١٨٩٨م بفعل عدة عوامل، منها أن رسل قرأ كتاب هيجل «المنطق الأكبر» فوجد ما يقوله هيجل عن الرياضة لغوًا ناتجًا عن رأس مشوشة أو موحلة muddle بتعبير رسل! والواقعة العارضة شديدة الأهمية هي أن ماكتاجارت سافر فجأة لزيارة أهله في نيوزيلندة، وعهدت كمبردج إلى رسل بتدريس ليبنتز بدلًا من ماكتاجارت، فوجد نفسه منكبًّا على أعمال ليبنتز. وها هنا اكتشف أن أساس الميتافيزيقا المثالية الواحدية هو المنطق الأرسطي الحملي، منطق الجوهر وأعراضه الذي يعجز عن التعبير عن العلاقات الخارجية، أية علاقة تتحول إلى محمول يحمل على الموضوع فتغدو كيفية مباطنة للموضوع محايثة فيه. من هنا كانت العلاقات داخلية والجوهر واحدًا حاويًا للكل. هكذا كان المنطق الأرسطي وراء الخديعة المثالية بتصور العالم ككل واحدي وإنكار المادة والتعددية والعلاقات الخارجية. أدرك رسل ضرورة الإطاحة به تمامًا والأخذ بالمنطق الرياضي النامي حديثًا، وهو الذي علَّم رسل أهمية العلاقات في الرياضة وفي الفلسفة على السواء، وأن إهمالها أدى إلى نتائج وبيلة في كليهما، شن رسل حملته المضرية على المنطق الأرسطي وميتافيزيقاه في سلسلة محاضراته آنذاك والتي حملها كتابه «عرض نقدي لفلسفة ليبنتز ١٩٠٠م».
كان هذا الكتاب علامة فارقة في مستهل طريق فلسفة القرن العشرين توجهها صوب المنطق الرياضي وتعلمها أنه صلب الفلسفة، فلا بد وأن تكون منطقية. وكان رسل بدوره قد اكتشف بفضل المنطق الرياضي — منطق العلاقات — العالم الخارجي التعددي الذي كان محرومًا منه بفعل الإسار المثالي الذي يرى العالم مجرد تصور للذات. انقلب رسل إلى الواقعية المفرطة الساذجة naive التي تقر بالوجود الواقعي لكل شيء حتى الأسماء الكلية والأعداد … واستقبل القرن العشرين وهو مفعم بالبهجة والثراء. وبهذه الروح حضر المؤتمر الدولي للفلسفة في يوليو ١٩٠٠م، وألقى بحثًا يؤكد فيه هذا التصور الجديد للعالم الواقعي التجريبي التعددي ذي العلاقات الخارجية. إنه عالم مكون من جماع هائل من الجزئيات المادية والنقاط المكانية واللحظات الزمانية … كل منها وجميعها حقيقي حقيقية المطلق الهيجلي، وبدلًا منه.
كان هذا المؤتمر الهام نقطة تحول في حياة رسل، فقد قابل فيه بيانو لأول مرة، وأدرك دقة تفكيره وخطورة أبحاثه في مفهوم العدد والتصورات الرياضية. أثناء المؤتمر طلب منه رسل أعماله الكاملة ودرسها جميعًا، ووجد في منطقه الرياضي أداة للتحليل طال البحث عنها. وحين أتى سبتمبر من هذا العام الحاسم كرَّسه رسل لتطبيق هذه الأداة التي استقاها من بيانو على منطق العلاقات، وخصص أمسيات سبتمبر لمناقشة هذه الفكرة مع وايتهد، يقول رسل: «سبتمبر ١٩٠٠م أعلى قمة بلغتها في حياتي.»٢٤ فمن هذه الأمسيات أتت فكرة «برنكبيا ماتيماتيكا ١٩١٠–١٩١٣م» إلى الوجود، ويؤكد رسل أن تركيز الاهتمام على منطق العلاقات أخطر الدلالات الفلسفية لهذا العمل الجبار.
كان رسل قد عكف منذ أكتوبر ١٩٠٠م على عمله الأسبق «أصول الرياضيات ١٩٠٢م»،٢٥ وهو يحمل محاولات لرد الرياضيات إلى المنطق، محاولات مليئة بأوجه قصور تجاوزها برفقة وايتهد في «برنكبيا ماتيماتيكا». بيد أن «أصول الرياضيات» يحمل أقوى تجسيد لهذه المرحلة الواقعية من فلسفة رسل، يحمل أيضًا العلامة الفارقة وهي تآزر المنطق والفلسفة. منذ هذا الكتاب فصاعدًا سوف تصبح فلسفة رسل فلسفة منطقية وحججها قائمة على أساس المنطق الرياضي، وسوف يحمل رسل بامتياز وريادة هذه البطاقة النادرة التي طبعها القرن العشرون، بطاقة المنطقي/الفيلسوف الذي يمنطق الفلسفة.

وكما رأينا كان المنطق هو الذي رسم لرسل العالم الواقعي المفرط في واقعيته حتى امتدت إلى فلسفته للرياضيات، فجعل كياناتها واقعية، عبر رسل عن هذا بقصة طريفة تدور حول حلم تراءى لعالم رياضيات، لم تكن الأرقام فيه مجموعات جامدة كما كان يظنها من قبل، بل كائنات تنبض بالحياة، الأعداد الفردية مذكرة والزوجية مؤنثة، كلها تتراقص وتنشد:

نحن الأعداد المتناهية … خامة هذا الكون
تفعل الفوضى ما شاءت … ونحن نحيل الأرض بسيطة
ونبجل أستاذنا فيثاغورث … ونعمنا بتكريم الخالد أفلاطون
نكره الحمقى الأفاقين … ويعرف كل الناس أنَّا نبع الحكمة.
وتسير أحداث القصة بحيث يندفع في النهاية جيش الأعداد العرمرم صوب أستاذ الرياضة في ثورة عارمة، ويستبد به الرعب هنيهة، ما لبث بعدها أن تمالك نفسه وصاح بصوت جهوري: ابتعدوا عني فما أنتم سوى رموز ملائمة. ثم استيقظ من نومه،٢٦ في إشارة إلى انقلابة رسل بعد ذلك على هذه الواقعية المفرطة.
فقد ظل رسل ينعم بهذا التصور الواقعي الزاخر، حتى قال له وايتهد ذات مرة: «إنك ترى العالم كما يتراءى في ظهيرة يوم مشرق بديع، أما أنا فأراه كما يبدو في بكرة الصباح ساعة يصحو المرء من نوم عميق.»٢٧ وراح وايتهد يوضح له كيف أنه يستعمل المنطق الرياضي في عالمه الغامض كصباح لندن ذي الضباب الكثيف، فهب رسل من سباته على صدر الواقعية الوثير؛ ليجد وايتهد يعلمه منهاجًا منطقيًّا لبناء الجسيمات المادية والنقاط المكانية واللحظات الزمانية بوصفها مجموعات من الأحداث، كل حدث ذي امتداد متناه في المكان وديمومة متناهية في الزمان. وهذا يعني أن الأحداث events هي خامة العالم، أما الجسيمات والنقاط واللحظات التي ترتد جميعها إلى الأحداث، فينبغي استئصالها وحذفها بواسطة «نصل أوكام».

هكذا تعلم رسل من وايتهد استخدام «نصل أوكام» وهو قاعدة منهجية تعني التقليل من الفروض والكيانات التي لا تدعو الحاجة إليها وحذفها تحقيقًا لمبدأ الاقتصاد في التفكير. فإذا كان لدينا الكيانات «أ وب وﺟ» وأمكن رد «ﺟ» إلى «أ وب»، حذفنا «ﺟ» لنعمل بكيانين بدلًا من ثلاثة. وفيما بعد سيجعل رسل «نصل أوكام» القاعدة العليا للتفلسف العلمي؛ لأنه القادر على جعل التصورات الفلسفية أصفى وأنقى. وحين حذف النصل الجسيمات والنقاط واللحظات، وأبقى فقط على الأحداث أمكن التوفيق في كلٍّ منسجمٍ بين الإدراك الحسي وبين فيزياء القرن العشرين التي ابتعدت تمامًا عن التصورات العادية للحس المشترك. أوضح نصل أوكام قدرة المنطق الرياضي على تصفية الأنطولوجيا وتطويرها، واكتشف رسل — بفضل وايتهد — القوى الفلسفية الجبارة للمنطق الرياضي، وأن الأمر لا يقتصر على منطق العلاقات، فثمة نصل أوكام وتطبيقه بمنهج البناء المنطقي وهو التخلص من كيانات مستدل عليها، أي غير واضحة، فنحل محلها بناءً منطقيًّا من كيانات تجريبية نكون على معرفة مباشرة بها من قبيل المعطيات الحسية، وثمة أيضًا اللغة الرمزية المثالية للتعبير عن هذا تعبيرًا منطقيًّا؛ كل تلك الأدوات المنطقية تمثل عتاد الفلسفة التحليلية، وعن طريقها تصبح التجريبية منطقية.

أخذ رسل عن وايتهد أن العالم مكون من أحداث events، وبتطبيق تلك الأدوات المنطقية عليها أصبحت الأحداث محايدة لا هي عقل ولا مادة، بل شيء مختلف عن كليهما وأسبق منهما. إنها نظرة واحدية محايدة تقضي على الثنائية الديكارتية ثنائية العقل والمادة، وتختلف عن الواحدية المثالية التي تقر بجوهرية العقل فقط، وبنفس القدر تختلف عن الواحدية المادية التي تقر بجوهرية المادة فقط، والتي اقترنت بالفيزياء الكلاسيكية.
في واحدية رسل المحايدة قد تبدو الظواهر العقلية مختلفة عن الظواهر المادية، إلا أن كليهما أبنية منطقية من نفس الخامة وهي الأحداث المحايدة. كلاهما خطوط أو سلاسل من أحداث تنظمها قوانين علِّية. العلِّية ليست قوة إجبار وإحداث كما كانت في الفيزياء الكلاسيكية، بل أصبحت مجرد قوانين للتعاقب، وهي بهذا المفهوم الواسع تضم كل القوانين التي تربط الأحداث في مختلف الاتصالات الزمانية المكانية. السلسلة العلية خط من الأحداث نستطيع أن نستدل من أية حادثة فيه على شيء ما يتعلق بحادثة أخرى في نفس السلسلة أو الخط العلِّي شبه المستقل. الإدراك الحسي بوصفه مصدرًا للمعرفة المتعلقة بالعالم الفيزيقي مستحيل بدون السلاسل العلِّية شبه المستقلة.٢٨ هناك قوانين علِّية تنظم سلاسل الأحداث في صور ذهنية images فتكون ظواهر عقلية وموضوعًا لعلم النفس، وهناك قوانين علِّية أخرى تنظمها في هيئة إحساسات sensations فتكون ظواهر مادية وموضوعًا لعلم الفيزياء.٢٩
اقترنت الأحداث المحايدة باسم رسل؛ لأنه هو الذي صاغها صياغة منطقية دقيقة بفضل أدواته المشار إليها آنفًا، وهي نصل أوكام والأبنية المنطقية واللغة المثالية الرمزية. لكنها كانت شائعة من قبل بين فلاسفة الواقعية الجديدة في أمريكا وعلى رأسهم وليم جيمس، وأيضًا تشونسي رايت C. Wright (١٨٣–١٨٧٥م) ورالف بارتون بيري R. B. Perry (١٨٧٦–١٩٥٧م) فضلًا عن نفر من فلاسفة القارة الأوروبية أهمهم إرنست ماخ. رسل نفسه يطلق على الواحدية المحايدة اسم «فرضية ماخ وجيمس». قام ماخ في كتابه «تحليل الإحساس ١٨٨٦م» بتحليل الأشياء الفيزيقية إلى عناصر أسماها الإحساسات ما دمنا نكتشفها من الخبرة الحسية، وليست الإحساسات علامات على الأشياء، بل الشيء هو الذي يُعد رمزًا فكريًّا لإحساسات ذات ثبات نسبي. والإحساسات ليست ذهنية ولا هي فيزيقية، إنها محايدة وتشكل النسيج الذي يتألف منه العالم. وهذا الذي بلغه ماخ من خلال الفيزياء بلغة وليم جيمس من خلال علم النفس. فمن أجل تجريبيته الجذرية أراد جيمس الوصول إلى تصور للعالم لا يسمح بدخول أي عنصر غير تجريبي لا يقع في الخبرة، وبهذا تغدو الخبرة الخالصة هي الخامة الواحدة والوحيدة التي يتركب منها كل شيء في العالم، عقلي أو مادي، وهي مختلفة عن كليهما.

إحساسات ماخ أو خبرات جيمس أو أحداث رسل، خامة واحدة لا هي عقل ولا هي مادة، بل محايدة بينهما، ويتشكل كلاهما منها. تلك هي الواحدية المحايدة، فلسفة العالم التعددي تعددية أحداثه البالغة الكثرة، والتي تمثل أساسًا أنطولوجيًّا ملائمًا للعلم التجريبي. وبعد أن كان رسل ينتقد جيمس ويرفض خبراته المحايدة، انقلب فجأة في عام ١٩١٩-١٩٢٠م ليسلِّم بها ويثني على جيمس الثناء الجميل ويعتبره من أهم الأعلام المشكلين لفلسفة القرن العشرين.

لماذا كان هذا الانقلاب من رسل؟ الإجابة: لأن عام ١٩١٩م شهد نصرة النظرية النسبية لآينشتين التي أوضحها الفصل السابق، حين خضعت للاختبار التجريبي العسير واجتازته بفضل بعثة آرثر إدنجتون. كان شغف رسل بالغًا بمتابعة أخبار وتفاصيل هذه البعثة، وانفعاله بنتائجها عميقًا حتى مر عليه وقت — على حد تعبيره — رأى فيه أي شيء بخلاف النسبية لا يستحق اهتمامًا وندم على أعوام عمره السابقة، التي أنجزت ما أنجزت؛ لأنه أنفقها في غير مجالات النظرية النسبية! على العموم يسير رسل في الاتجاه العام لفلسفة العلم في القرن العشرين ويعتبر الفيزياء أخطر العلوم وأهمها والبوصلة الموجهة للعقل العلمي ومحور فلسفة العلم.

الواقع أن النظرية النسبية هي التي جعلت رسل يقلع تمامًا عن أية ثنائية للعقل والمادة ويأخذ بالتصور الواحدي المحايد للعالم؛ لأن النظرية النسبية تملي الأحداث المحايدة. لقد أطاحت بالانفصال التقليدي بين مفهومي الزمان والمكان، وأحلت بدلًا منهما المتصل الزماني/المكاني الرباعي الأبعاد، وهو ليس كيانًا واحدًا يحل محل كيانين وليس شيئًا وليس مسرحًا جديدًا للحدوثات، بل هو نظام من العلاقات بين الأحداث، يهدم تمامًا التصورات التقليدية عن التتابع الزماني والتجاور المكاني، وعن المادة بوصفها مكونة من جزئيات عبر آنات الزمان في نقطة من المكان. يبين رسل الواحدية المادية والواحدية المثالية كلتيهما ذات فكرة مرتبكة عن المادة، أصحابهما عاشوا عبيدًا لتصور الزمان والمكان ككيانين منفصلين، فتصوروا المادة حدثًا في المكان والعقل حدثًا في الزمان،٣٠ تملي علينا النسبية الإطاحة بكل هذا، فلا يبقى إلا أحداث محايدة. الحادثة لا تبقى ولا تتحرك كقطعة المادة، إنها توجد ثم تنتهي، فتنحل قطعة المادة إلى سلسلة من الحوادث، والجسم سلاسل من هذه الحوادث، الجسم هو تاريخه وليس كيانًا ميتافيزيقيًّا يحمل تلك الحوادث، تمامًا كما أن العقل هو تاريخ سلاسل أحداث وليس كيانًا ميتافيزيقيًّا،٣١ الكوانتم أيضًا تملي علينا هذا، فقد ارتدت الذرة إلى إشعاعات، إلى سلاسل من الأحداث، ولا سكون البتة في قلب الذرة، ولا وجود للشيء أو الجوهر المادي. ولعل المخ أبعد منا عن المادة؛ لأننا أكثر جهلًا به، وكل ما يعرفه عالم الفيزيولوجيا عن المخ ما هو إلا نتاج سلاسل أحداث واتصالات علِّية أعقد وأطول.
هكذا نجد أن تصور عالم من أحداث محايدة، تكاتفت لتشييده أربعة علوم هي: المنطق الرياضي والفيزياء وعلم النفس والفيزيولوجيا. وكان انعكاسًا لكشف العلم عن الطبيعة الذرية لكل شيء، وقد وجد صياغته الدقيقة عام ١٩١٨م في مذهب الذرية المنطقية Logical Atomism الذي يعتز به رسل كثيرًا، فيؤكد دائمًا أنه لا يرتبط إلا ببطاقة فلسفية واحدة هي أنه ذري منطقي، عالم الأحداث المتكثر يتشكل في هيئة وقائع ترتبط بعلاقات، الواقعة هي شيء معين له كيفية معينة، أو أشياء معينة ترتبط بعلاقات معينة، الواقعة ترسمها القضية الذرية التي تعبر عن الشيء الواحد في نقطة معينة من المكان ولحظة معينة من الزمان. أما إذا ارتبطت واقعتان أو أكثر فإن القضية التي تسميهما هي القضية الجزيئية. ويعترف رسل بأنه يدين في هذا المذهب كثيرًا لتلميذه وصديقه فتجنشتين، فهو مذهب مشترك بينهما، طوَّره كل منهما تطويرًا خاصًّا به، بدا عند فتجنشتين أكثر تطرفًا.

تلك هي أنطولوجية رسل أو تصوره للعالم، هيكل فلسفته العلمية التحليلية التي علَّمت القرن العشرين كيف تكون التجريبية منطقية. إنها تجريبية تختلف اختلافًا كبيرًا عن تجريبية القرن الأسبق الفجة التي راودت رسل أيام واقعيته الساذجة المفرطة، وقد كان إمامها جون ستيوارت مل صديقًا لوالديه، وكان أباه في العماد، وبنفس القدر تختلف التجريبية المنطقية عن مثالية برادلي وسواه التي ترى العقل وحده بمنطقه كفيلًا بإدراك العالم ولا حاجة لمعطيات الحواس، فتطيح بالتجريبية من أساسها.

كان رسل مثاليًّا، ثم انقلب إلى النقيض إلى الواقعية الساذجة، وفي مرحلة ثالثة افترق عن الواقعية؛ ليصل إلى مركَّب جدلي شامل يختلف عن المثالية وعن الواقعية يجمع خير ما فيهما ويتجاوزهما إلى الأفضل، مما يجعل تجريبية القرن العشرين تقدمًا فلسفيًّا ملحوظًا. إنها تستبقي مساحة ما من المثالية، من حيث ترهن وجود العالم بقوى الإدراك، وترى المعرفة الأصل الذي ترتكز عليه نظرية الوجود، فترتد الأنطولوجيا إلى الإبستمولوجيا. إن أسبقية المعرفة على الوجود هي عنصر مثالي.

رأينا مع رسل أن نوع سلسلة الأحداث يتحدد تبعًا للنظرية العلِّية للإدراك، فإذا كانت إحساسات أي مدركة عبر أعضاء الحس فالعلة مادية فيزيقية تجعل سلسلة الأحداث مادية منتمية لعلم الفيزياء، وإذا كانت صورًا ذهنية، أي مدركة عبر علية مركزية في المخ والذاكرة فالسلسلة علية سيكولوجية منتمية لعلم النفس. إذًا التمييز بين العقل والمادة ليس خاصة كامنة في أيهما، بل يتوقف على طريقة إدراكنا للشيء. ولما كان هذا الإدراك يحدث في ذهن الإنسان، فإن التمييز بين الحوادث التي تشكل العالم بأسره يكون في ذهن الإنسان، بل الحوادث ذاتها في ذهن الإنسان! فنحن لا نعلم شيئًا عن العالم إلا استدلالًا مما يقع في خبرتنا، فلا نستطيع القول: إن العالم المادي خارج رءوسنا يختلف أو لا يختلف عن العالم العقلي داخلها؛ لأنه لا عالمين أصلًا، بل مجاميع أحداث ترتبط بروابط علِّية مختلفة. يعقِّب رسل على هذا وتأثيره على التجريبيين الخلص بقوله: «قد أفزعت الفلاسفة بقولي إن أفكارهم في رءوسهم، وراحوا يؤكدون في صوت واحد أن رءوسهم ليس فيها أفكار قط، لكن الأدب يمنعني من قبول هذه القضية.»٣٢

إننا إزاء ما يمكن وصفه بالتجريبية المثالية، وكان المنطق هو القادر على تطعيم التجريبية بعنصر مثالي، يحد من غلوائها الاستقرائي وتطرفها المغرور، ما دام المنطق في أصله علم قوانين الفكر. والرائع حقًّا أن تطورات العلم وفلسفته ونظريته المنهجية في القرن العشرين تبارك هذه التجريبية المثالية، من حيث نجعل الفرض قبل الملاحظة، والعقل قبل الواقع.

سوف تغمر مثل هذه التجريبية المنطقية المثالية فلسفة العلم في القرن العشرين، وكان رسل هو القادر على شق الطريق المنطقي للتجريبية. وكما يقول فيلسوف التحليل جيلبرت رايل G. Ryle (١٩٠٠–١٩٧٦م) كان رسل دائمًا ذلك المخلوق النادر، الفيلسوف الموزع بين الترانسندنتالية المتعالية والنزعة الطبيعية. القمم المثالية لأفلاطون وليبنتز وفريجه تتنازعه، تمامًا كما تتنازعه وديان هيوم ومل وجيمس، أو أنه موزع بينهما. ومنذ يفاعة الصبا تشكلت عقليته بأصابع جون ستيوارت مل من ناحية وبصمات الرياضة البحتة من الناحية الأخرى. وفي سنوات إنتاجه المتميز لم يكن مستكنًّا على قمم المثالية، ولا كان هاجعًا في وديان التجريبية، وأيضًا لم يكن متأرجحًا كالبندول بينهما، الحق الصراح أنه كان دائم البحث عن طريق آمن وممهد بينهما، ربما كان أكثر ارتياحًا للسفوح التجريبية، لكنه لم يهجر القمم المثالية أبدًا. وكان منذ البداية يأمل في أن يجمع بين النزعة العقلية المثالية كما تتجسد في المنطق والرياضيات وبين النزعة الحسية كما تتمثل في التجريبية؛ ليصل إلى إطار تتلاءم داخله المكتشفات الثورية للعلم.
وأصبح رسل هذا الفيلسوف المنطقي، وقدَّم فلسفته العلمية التحليلية، الذرية المنطقية، التي كانت قوة موجهة لفلسفة العلم في القرن العشرين. وقد وقفنا على هيكلها الأنطولوجي المتمثل في نظرية الأحداث المحايدة. أما فلسفة العلم ذاته عند رسل فلم تكن بهذه القوة والمضاء. لعل أهم ما فيها أنه وضع خمس مصادرات للمنهج التجريبي هي: (١) الثبات النسبي، (٢) الاستدلال الزمكاني، (٣) السلاسل العلِّية شبه المستقلة، (٤) المصادرة البنائية، (٥) مصادرة التمثيل. وبنظرة عميقة لوحظ أنها جميعًا — باستثناء التمثيل — بمثابة خصائص للأحداث المحايدة.٣٣ وتأتي نظرية رسل للمنهج التجريبي — التي يمكن اعتبارها الفلسفة المباشرة للعلم — أقل من العادية. وتتلخص في أنه أيام واقعيته الساذجة وحتى ظهور نظرية النسبية العامة اعتبر الاستقراء التقليدي المرتكز على مبدأي العلِّية الكونية واطراد الطبيعة هو منهج العلم، على الرغم من تأكيده أن مشكلة الاستقراء غير قابلة للحل، مما يعني الشك في أسس الاستقراء وصحته. وبحكم طبائع التطور في القرن العشرين فقد الاستقراء التقليدي هذه المكانة، وتمسك رسل بالمنهج الفرضي الاستنباطي الذي يبدأ بفرض ثم نستنبط منه جزئيات تكون محل الاختبار التجريبي. كما بحث رسل نظرية الاحتمالات وخصائص المعرفة العلمية، وأيضًا «أثر العلم في المجتمع»، وهذا عنوان كتاب ممتع له مترجم إلى العربية. أخرج رسل معالجة مبكرة وقوية لمبدأ الاستقراء ومشكلته في كتابه «مشكلات الفلسفة ١٩١٢م»، وينتهي منها إلى أن القوانين التجريبية لا يمكن أن تكون إلا احتمالية، فنهض جمع من فلاسفة العلم الشبان في كمبردج يعالجون منطق العلم التجريبي، ويحاولون إنقاذ الاستقراء كتبرير للمعرفة العلمية على أساس حساب الاحتمالات، كلما زادت الوقائع التجريبية المفضية إلى القانون كلما زادت درجة احتماليته. أبرز هؤلاء جونسون W. E. Johnson، وجون ماينارد كينز J. M. Keynes قبل أن يتحول إلى الاقتصاد وهارولد جيفرييز H. Jeffreys، والعبقري الفذ فرانك رامزي F. Ramsy الذي رحل عام ١٩٣٠م عن سبعة وعشرين عامًا، وتُعرف حركتهم باسم البيزية Bayesianism نسبة إلى عالم الرياضيات توماس بييز T. Bayes (١٧٠٢–١٧٦١م) الذي كان من رواد حساب الاحتمال ردًّا على تشكيك معاصره ديفيد هيوم في التجريبية والاستقراء.٣٤ وقد أشرنا إلى هذه المحاولة أثناء مناقشة مشكلة الاستقراء في الفصل الثالث وأوضحنا أنها ليست حلًّا حاسمًا ما دامت تسحب المشكلة من اليقين إلى الاحتمال.

ظل رسل من أقوى موجهات الفلسفة طوال الربع الأول من القرن العشرين، إنها الفترة التي شهدت نشأة ونماء وتطبيقات الفلسفة التحليلية التي وُصفت بأنها ثورة فلسفية مدوية رافضة للوضع الفلسفي، آتية بالجديد في المنهج، أي أسلوب البحث، وفي المذهب، أي موضوع البحث. خفتت الأضواء عن رسل فيما بعد إلى حد ما، ولم تعد أعماله قوية التأثير مثلما كانت، وتصدر الواجهة أتباعه من فلاسفة التحليل الآخرين. على أن رسل لم يفجر الثورة التحليلية بمفرده، شاركه صديقه مور وتلميذه فتجنشتين. انطلق ثلاثتهم من جامعة كمبردج.

رافق جورج إدوارد مور G. E. Moore (١٨٧٣–١٩٥٨م) رسل منذ البداية في الثورة على المثالية الألمانية التي طغت في كمبردج، وهذا تصعيد للمد التجريبي. ثار رسل عليها؛ لأنها لم تعد تتفق مع روح العلم الذري والمنطق الرياضي، بينما ثار عليها مور؛ لأنها لا تتفق مع الحس المشترك Common Sense، أي الإدراك الفطري والخبرة العادية للإنسان العادي. وترجع فاتحة الفلسفة التحليلية إلى مقال كتبه مور عام ١٩٠٣م بعنوان «تفنيد المثالية» قدَّم فيه مثالًا عمليًّا لمنهج جديد في معالجة المشكلات الفلسفية مطبقًا على الحس المشترك. وهذا المنهج الجديد يقوم على فكرة مؤداها أن المشكلات الفلسفية ترجع إلى سبب غاية في البساطة، وهو محاولة الإجابة على الأسئلة المطروحة دون أن نتبين أولًا وعلى نحو دقيق حقيقة السؤال الذي سنجيب عليه. وأكد مور أن الفلاسفة لو حاولوا اكتشاف المعنى الحقيقي للأسئلة التي يطرحونها — عن طريق تحليلها — قبل أن يشرعوا في الإجابة عليها، لكانت هذه المحاولة الحاسمة كافية في الغالب لضمان النجاح. وإذا تم هذا سوف تختفي معظم المشاكل الخادعة والخلافات الفلسفية، فغموض المعنى هو مصدر الاضطراب في البحث الفلسفي. ويتألف التحليل عند مور من ترجمة العبارة الغامضة المراد تحليلها، إلى عبارة أخرى مرادفة لها وأوضح منها، أي أقل إثارة للحيرة. إن التحليل عند مور يتعلق بشكل أو بآخر بالتعريف، أما رسل فقد رأى أن التحليل هو ترجمة العبارة المصوغة في اللغة العادية إلى صيغ منطقية؛ وذلك لأن الصيغ النحوية مضللة يمكن أن نصب فيها أي شيء بغير معنى، وما هكذا المنطق. إذًا هناك اختلاف بينهما، مور يبغي الأوضح باللغة، ورسل يريد الأدق بالمنطق. وثمة أيضًا اختلاف في الهدف، فبينما يهدف جهاز رسل المنطقي إلى حل مشاكل فلسفية وميتافيزيقية فإن تحليل اللغة اليومية عند مور يهدف إلى إثبات وجهة نظر الذوق الفطري أو الحس المشترك. على هذا كان تحليل مور منصبًّا على اللغة، وتحليل رسل منصبًّا على المنطق، أما تحليل الرائد الثالث فتجنشتين فهو منصب على منطق اللغة، كما رأينا في الجزء السابق من هذا الفصل. هكذا خلق هؤلاء الرواد الثلاثة التيار التحليلي الذي هو أقوى تشغيل واستثمار للمنطق الرياضي في فلسفة القرن العشرين في فلسفة للغة.

كان فتجنشتين بعباراته الصاروخية القاطعة هو الأقوى تأثيرًا في التيار التحليلي، حتى اعتُبر الأب الروحي لسائر فلاسفته، وهو الذي صبغه بالصبغة اللغوية الساطعة. كان متطرفًا إلى حد يلامس العصابية في حكمه بأن كل المشاكل الفلسفية لغو ينبغي استئصاله؛ لأنها لا تطابق الواقع التجريبي، حتى قيل: إن «نصل أوكام» يهدف إلى استئصال الشطحات الفلسفية الزائدة، بينما هدف فتجنشتين إلى استئصال شجرة الفلسفة من جذورها! أمثال هذه الدعاوى الهوجاء تظهر في كل عصر ومصر، وتظل شجرة الفلسفة ريانة الأفنان غير قابلة للاستئصال. وقد ظلت ناضرة مثمرة على الرغم من شيوع فلسفة فتجنشتين بشكل أو بآخر في سائر المذاهب التي تفرعت عن التيار التحليلي.

أول فروع التيار التحليلي هو ما يمكن أن نسميه مذهب التحليل العلاجي Therapeutic Analysis الذي ساد في كمبردج ذاتها طوال الثلاثينيات مع جون ويزدم وموريس ليزرويتز ومالكوم وسواهم. أخذوا عن فتجنشتين أن التحليل المنطقي «علاج» للالتباسات والبلبال الناشئ عن سوء استخدام اللغة، ويشفينا من الترهات الفلسفية، إلا أنهم لم يهاجموا الفلسفة بالضراوة التي هوجمت بها من فتجنشتين، بل رأوا المشاكل الفلسفية الكبرى تقوم بدور في تنوير العقل البشري، ولا بد أن ثمة أسبابًا وجيهة تدفع إلى الانشغال بالمشاكل الميتافيزيقية الكبرى كحقيقة المادة ووجود الآخرين وخصائص المطلق … إلخ. على هذا رأوا أن مهمة التحليل الفلسفي ليس مجرد التوضيح وإزالة اللبس والغموض، بل أيضًا تهدئة القلق الفلسفي وعلاج العقول من الهم الميتافيزيقي وتحريرها من ضغوطه؛ وذلك بالكشف عن حقيقة المشاكل الفلسفية بواسطة التحليل المنطقي الدقيق، حتى إن جون ويزدم في كتابه «الفلسفة والتحليل النفسي ١٩٥٣» يقارن هذا بالتحليل النفسي. والتحليل الفلسفي العلاجي لا يستأصل شأفة الفلسفة، بل يزيل المشكلة الفلسفية مبقيًا على الدور الذي لعبته في تنوير العقول. والفلسفة التحليلية في كل حال نشاط فني احترافي للتوضيح، وقد أصبح هنا أداة للعلاج.

استمر فلاسفة كمبردج في تحليلاتهم للمشاكل الفلسفية حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، وبعدها انتقل مركز التحليل إلى إكسفورد متخذًا طورًا جديدًا ينصب على تحليل اللغة الجارية بين الناس مع جيلبرت رايل وجان أوستن وبيتر ستراوسون، هذا بخلاف فروع التيار التحليلي في قلب القارة الأوروبية وعلى رأسها بالطبع الوضعية المنطقية في النمسا. وأيضًا التحليلات البولندية التي مورست في ظلال مدرسة المنطق العظيمة في وارسو، وقد كان رائدها تفاردوفسكي يؤكد أن السيمانطيقا وتحليلات المعاني مدخل ضروري للفلسفة، فقط مدخل، وليس كل الفلسفة كما ذهبت الوضعية المنطقية.

وقد حدد سكوليموفسكي H. Skolimowisk في كتابه «الفلسفة التحليلية البولندية ١٩٦٧م» أربع خصائص تجتمع عليها سائر فروع التيار التحليلي، على ما بينها من خلافات وفوارق، حتى إن هذه الخصائص الأربع تمثل صلب الفلسفة التحليلية. أولها الاهتمام الواعي المتزايد باللغة، فأصبحت اللغة نفسها موضوع البحث الفلسفي، حتى قيل: إن الفلسفة التحليلية مجرد دراسة للغة، وكما أوضحنا في الجزء السابق، ليس المقصود اللغة الإنجليزية دونًا عن العربية أو الصينية … إلخ، بل اللغة من حيث هي لغة كما تتمثل في رموز وقواعد للتركيب، أو في السيمانطيقا والسينتاطيقا. الخاصة الثانية هي التفتيت، بغرض معالجة المشاكل الفلسفية جزءًا جزءًا، وهذا التفتيت يجعل الممارسة الفلسفية أقرب شبهًا بروح العلم التجريبي ومناهضة للاتجاه الشمولي الهادف إلى بناء الأنساق الميتافيزيقية الواحدية الشامخة. وقد وجد هذا التفتيت التحليلي لغته المنطقية الرسمية في مذهب الذرية المنطقية لرسل وفتجنشتين. يتصل التفتيت بالخاصة الثالثة وهي السمة المعرفية، كل الفلسفات التحليلية ترتبط بشكل أو بآخر بمشكلات المعرفة والعلاقة بعالم العلم التجريبي؛ لذلك اتصلت اتصالًا وثيقًا بفلسفة العلم وأفضت إلى واحد من أهم مذاهبها هو الوضعية المنطقية. أما الخاصة الرابعة فهي التناول البين-ذاتي، التحليل المنطقي لا يرتبط بذات دون أخرى، بل له دائمًا معناه ومدلوله المشترك بين الذوات جميعًا، كلها تشارك فيه وتتفق عليه. إن البين-ذاتية هي المفهوم المعاصر للموضوعية المتفادي لمشاكلها، وبهذا تتميز الفلسفة التحليلية عن سواها من فلسفات قد تمارس تحليلًا لا هو موضوعي ولا هو لغوي ولا هو منطقي، وأبرز الأمثلة تحليلات الوجوديين المسهبة للوضع الإنساني. ويمكن ملاحظة أن الخصائص كلها تستقطب روح العلم، وتمثل طابع الفلسفة العلمية التي سادت القرن العشرين.

هذه الصفات أو الخصائص الأربع تجتمع في سائر فروع الفلسفة التحليلية، حتى «الرسالة المنطقية الفلسفية» لفتجنشتين، ومنطق رسل وفلسفته التحليلية التي قامت هذه الرسالة على أكتافها. إن رسل هو الرائد الأكبر، وانطلقت الفلسفة التحليلية من رحابه؛ لتنمو وتتطور وتتجاوز الحدود التي رسمها، كما يحدث كثيرًا للأفكار الفلسفية الكبرى. وكان رسل في كل حال دائم الاستعداد للدفاع عن التحليل، ويسهب في تبيان أن رفضه هو رفض للتقدم العلمي ولروح العلم، وإن ساءته بعض التطورات اللاحقة. منذ البداية أراد جورج مور قصر الفلسفة على التحليل، ورفض رسل هذا مؤكدًا أن التحليل اللغوي مجرد وسيلة مفيدة جدًّا، ولا ينبغي أن يتحول إلى غاية تلهي عن إنجاز الأهداف الفلسفية الكبرى، وجاهر بأن التحليل في حد ذاته لا يكفي أبدًا لحل المشكلة الإبستمولوجية والمشكلة الأنطولوجية. هاجم رسل الفروع التي جعلت التحليلات اللغوية غاية وقصرت الفلسفة عليها، مؤكدًا أن المأخذ الوحيد الذي يمكن أن يُؤخذ على الفلسفة التحليلية هو أنها أدت إلى هذه الفروع المتطرفة حيث أصبحت الفلسفة معنية أكثر بفهم نفسها وتنكرت للمهمة التي اضطلعت بها منذ طاليس وطوال عهودها، وهي مهمة فهم هذا العالم. أوسع رسل هذه الفروع نقدًا، وقال عن فلاسفة اللغة الجارية في أكسفورد: إنهم ينشغلون بالأشياء التافهة التي يقولها البلهاء، وهذا أمر قد يكون مسليًا لكنه ليس هامًّا!

وعلى الرغم من أن الوضعية المنطقية أكثر المدارس استفادة من جهاز رسل المنطقي المهيب، وتوظيفًا لنظريته في الأوصاف المنطقية والخلو من المعنى، فإن رسل خص الوضعية المنطقية بالقسط الأكبر من نقده الموجه، وأفرد لهذا مقالًا مطولًا بكتابه «المنطق والمعرفة ١٩٥٦م» الذي حمل أهم محاضراته ومقالاته طوال النصف الأول من القرن العشرين، فهل هذا لشدة تطرف الوضعية المنطقية التحليلي أم لعلو صيتها حتى كادت تكون التمثيل الرسمي لفلسفة العلم، ليس في سياق الفلسفة التحليلية فقط، بل في سياق الربع الثاني من القرن العشرين بأسره؟!

رابعًا: الوضعية المنطقية

الوضعية المنطقية هي المسئولة عن كل تطرفات وجنوحات التيار التحليلي، فقد تمسكت بمفهوم رسالة فتجنشتين الضيق للفلسفة بوصفها منطقًا للغة العالم التجريبي، كما تتبلور في لغة العلم. وشيئًا فشيئًا تخلق عن هذا مفهوم للفلسفة بأسرها بوصفها تحليلًا منطقيًّا لكل أشكال الأقوال حتى في اللغة الجارية. هكذا نجد الوضعية المنطقية — بتعبير فون رايت — هي ينبوع التحليل، يتدفق ليتفرع ويتشعب في التيار التحليلي العريض.

وليست الفلسفة التحليلية فحسب، بل كل الخطوات السابقة في فلسفة العلم تتجمع وتتكثف في فلسفة الوضعية المنطقية. هذا منذ أن علمنا فرنسيس بيكون أن الروح العلمية تعني التجريبية ورفض الميتافيزيقا رفضًا لكل ما يتجاوز العالم التجريبي أو الطبيعة مملكة المعرفة الإنسانية، ثم تطورات الروح العلمية مع التجريبيين الإنجليز والتنويريين الفرنسيين، حتى صاغ أوجست كونت الفلسفة «الوضعية» ذاتها؛ لتقوم النزعة الاستقرائية بمنهجتها، أي صبها في شكل المنهج الاستقرائي الذي يميز العلم عن أي نشاط عقلي آخر.

سلم الوضعيون المنطقيون بالنزعة الاستقرائية كما صيغت في القرن التاسع عشر بتجريبيتها الحادة؛ ليمنطقوها بعد أن تمنهجت، أي ليجعلوها منطقية بحكم ناموس القرن العشرين، فبدأوا من الأصول في الرياضيات ثم مدوا نطاق استخدام المنطق الرياضي لتحليل مفاهيم العلم، ثم لبناء لغة العلم، أو السيمانطيقا، ثم السينتاطيقا، فلم يعد المنطق الرياضي مع الوضعية المنطقية عصبًا للفلسفة فحسب، بل هو مجمل جهازها العصبي وهيكلها بأسره.

وإذ تستجمع الوضعية المنطقية كل المد السابق في فلسفة العلم، فإنها — بغرور قاصم — تكثفه وتحوله إلى بؤرة تشع نورًا ساطعًا ونارًا تحرق ما حولها، وفي إصرار على الانفراد بفلسفة العلم التي رأوها ينبغي أن تكون الفلسفة برمتها، اتخذت الوضعية المنطقية اسم «التجريبية المنطقية» بألف ولام التعريف،٣٥ وكأن ما سواها من فلسفات للعلم لن تكون هكذا! اتخذت أيضًا أسماء أخرى مثل التجريبية العلمية والتجريبية المتسقة والوضعية الحديثة … ولكن شاع اسم «الوضعية المنطقية» الذي صاغه بلومبرج وفيجل عام ١٩٣١م. والواقع أن الاسم الأصلي لهذه المدرسة هو «دائرة فيينا»، فكيف تشكلت دائرة فيينا لتشكل فلسفة الوضعية المنطقية؟
في عام ١٨٩٥م قررت جامعة فيينا لأول مرة إيجاد كرسي لفلسفة العلوم التجريبية؛ لتنمية وصقل هذا الفرع الفلسفي الهام النامي حديثًا، وكانوا يفضلون أن يشغله عالم طبيعي ذو ميول فلسفية قوية. أول من شغله إرنست ماخ. وفي عام ١٩٢٢م استدعت جامعة فيينا شليك من وطنه ألمانيا لشغل هذا الكرسي، فقد كان موريتس شليك M. Schlick (١٨٨٢–١٩٣٦م) عالم طبيعة، حصل عام ١٩٠٤م على درجة الدكتوراه برسالة موضوعها «انعكاس الضوء في وسط غير متجانس» تحت إشراف ماكس بلانك أبي الكوانتم، وعمل أستاذًا للفيزياء في جامعة روستوك من عام ١٩١١م حتى ١٩١٧م، ثم في جامعة كيل حتى عام ١٩٢١. وكان شليك واسع الإلمام بالفلسفة وتاريخها وعميق الاهتمام بها. صدر له في برلين «المكان والزمان في الفيزياء المعاصرة ١٩١٧م»، و«النظرية العامة للمعرفة، ١٩١٨م»، فضلًا عما صدر له من كتب بعد ذلك، أهمها «عن مغزى الحياة ١٩٢٧م»، و«مشكلات علم الأخلاق ١٩٣٠م»، و«مستقبل الفلسفة ١٩٣٢م»، ثم «الأبحاث المجمعة» في فيينا عام ١٩٣٨م، أي بعد وفاته. وكان منذ البداية يأخذ بتجريبية ماخ وهلمهولتس الحادة واصطلاحية بوانكاريه، ويرفض فينومينولوجيا إدموند هوسرل والكانطية الجديدة التي شاعت في جامعات ألمانيات آنذاك، ويرفض الكانطية الأصلية رفضًا للمطلق النيوتوني ولاعتبار قضايا الفيزياء قطعية أو قضايا الرياضة تركيبية. هكذا كان شليك فيلسوفًا على الأصالة، معنيًّا بنظرية المعرفة ومنطق العلم، وأيضًا بالأخلاق وفلسفة الحياة والثقافة؛ لذلك اصطنع شليك لنفسه لقب العالم/الفيلسوف، ربما أسوة بآينشتين، وقد كان شليك في طليعة شرَّاح النظرية النسبية ومفلسفيها بألمانيا.

وما إن حط شليك رحاله في فيينا عام ١٩٢٢م، إلا وتحلق حوله جمع من علماء ذوي ميول فلسفية قوية وفلاسفة ذوي ميول علمية قوية ورياضيين ومنطقيين محترفين، كانوا يجتمعون في لقاءات دورية استمرت من عام ١٩٢٢م حتى عام ١٩٣٨م، لمناقشة قضايا ومفاهيم فلسفة العلم. هذه هي دائرة فيينا التي صاغت مناقشاتها فلسفة الوضعية المنطقية.

أوصى بتشكيل هذه الدائرة عالم الرياضيات هانزهان والفيزيائي فيليب فرانك وعالم الاجتماع أوطو نويراث، ومن أعضائها هربرت فيجل وفيزمان وجوستاف بيرجمان وفيكتور كرافت، وأبرزهم رودلف كارناب. انتسب إليها كورت جودل صاحب مبرهنة اللااكتمال الشهيرة، وأيضًا كارل منجر وفليكس كاوفمان وإدجار تسيلزل. اتخذت الدائرة صيغة رسمية عام ١٩٢٩م، وأصدرت مجلة «المعرفة Erkenntnis»، وتعاونت مع جمعية برلين للفلسفة التجريبية برجالها هانز رايشنباخ وجريلنج وليفين وفردريك كراوس وكارل همبل وريتشارد فون ميرس صاحب النظرية الهامة في حساب الاحتمال، كلهم ذوو اتجاه واحد، عقدوا معًا مؤتمرًا دوليًّا في براغ وكونجسبرج. صالت الوضعية المنطقية وجالت وتدفقت عنها الكتابات المتميزة جدًّا في فلسفة العلم، وصارت أعلى مدارس فلسفة العلم صوتًا وأبعدهم صيتًا، حتى أصيبت باغتيال رائدها موريتس شليك في ٢٢ يونيو عام ١٩٣٦م في قلب جامعة فيينا على يد طالب يُدعى نلبك Nelbock لقي عقوبة مخففة ولم يتحدد سبب فعلته هذه. ثم أعقب هذا الغزوُ النازيُّ لتتفكك دائرة فيينا تمامًا، فقد انتمى معظم أعضائها البارزين إلى أصول يهودية، وخوفًا من بطش النازية باليهود فروا إلى غرب أوروبا وأمريكا، وذهب آخرون ليسوا يهودًا بفعل إغراء العروض والعقود، فقد كانوا جميعًا ذوي قدرات منطقية متميزة في العصر الذهبي للمنطق، حملوا معهم الوضعية المنطقية من الإطار الجرماني في النمسا وألمانيا إلى الإطار الأنجلو أمريكي في إنجلترا وأمريكا وأيضًا أستراليا؛ لتنمو وتستمر بعض الوقت، قبل أن تخبو تمامًا، بفعل عوامل عديدة سوف تتضح في حينها، أهمها التطرف الحاد الذي لا بد أن يصل إلى طريق مسدود.
مهما يكن الأمر، فإن دائرة فيينا تداخلت فيها الفئتان اللتان ميزتا القرن العشرين فئة العالم/الفيلسوف وفئة الفيلسوف/المنطقي، جميعهم سلموا تسليمًا «بالرسالة المنطقية الفلسفية» لفتجنشتين، حتى عُدت إنجيل الدائرة، كانوا يرتلونها ويتدارسونها ويجدُّون العزم في تطبيقاتها حتى في الوقت الذي كان فتجنشتين فيه مشغولًا بنقض الرسالة وتطويرها في «بحوث فلسفية»! ولولا أنه كان يرفض الانتماء لأية جماعة أو مذهب، لكان مركز دائرة فيينا وقطبها. والحق أن الأمر الواقع كان على خلاف النهج التقليدي في نشأة المدارس الفلسفية، فلا نجد في الدائرة أستاذًا نفذ ببصيرته العبقرية إلى كنه الحقيقة، فاصطف من حوله التلاميذ ينصتون إليه في رهبة وخشوع، بل نجد أقوى تمثيل لروح الفلسفة العلمية في القرن العشرين، نجد جمعًا من الزملاء التفوا حول زميلهم شليك، اختلفت آراؤهم وتقاربت هاماتهم تقاربًا شديدًا، وراحوا يتعاونون لتحقيق غاية واحدة؛ هي قصر النشاط العقلي على العلم الرياضي والطبيعي ثم تحليلاته المنطقية، وإذا طرح سؤال تناولوه تناول الأنداد، قد تختلف الإجابات فيحاول كل منهم تنقيح إجابة الزميل وتصويب أخطائه، وقد تتباين مشاربهم الفلسفية في هذه القضية أو تلك، لكنهم يتفقون على مبادئ تمثل دعائم الفلسفة الوضعية المنطقية لا بد من التسليم بها جميعًا، ولا بأس من الاختلاف في أية مسألة بعد هذا، هذه المبادئ على وجه التحديد هي:
  • أولًا: الفلسفة تحليلية.
  • ثانيًا: الفلسفة علمية.
  • ثالثًا: القضية إما تحليلية أو تركيبية.
  • رابعًا: الميتافيزيقا لغو.
  • خامسًا: معيار التحقق سيمانطيقيًّا، ولغة العلم سينتاطيقيًّا؛ لتمييز المعرفة العلمية.

على هذا يجتمع الوضعيون المنطقيون على أن تكون الفلسفة مقتصرة على التحليل بخصائصه الأربع المذكورة، وهي: اللغوية والتفتيتية والمعرفية والبين ذاتية، ثم تتميز الوضعية المنطقية بقصر هذا التحليل بأدواته المنطقية على العبارات العلمية لا سواها، بهذا تغدو الفلسفة علمية.

رأوا أن الفلسفة مهمتها التحديد، ومع هذا لم تحدد لنفسها مجالاتها، وأخذت تصول وتجول حيث تشاء حيث ضاق بها الجيران، وراحوا يستبعدونها من أراضيهم واحدًا بعد الآخر، بادئين بالفلك والطبيعة ومنتهين بالنفس والاجتماع، ولم يبق أمام الفلسفة إلا العلوم المعيارية والميتافيزيقا والمنطق. العلوم المعيارية هي فلسفة الأخلاق والسياسة وفلسفة الجمال، أصر الوضعيون على أنها جميعًا عبارات انفعالية وجدانية لا تزيد عن ضحكة المسرور أو صرخة المتألم، طالما أنها ليست البتة عبارات معرفية، أما الميتافيزيقا فهي جلبة أصوات بغير معنى ولا جدوى يجب أن تقبع أبنيتها الشامخة التي لا تضر ولا تنفع في متاحف التاريخ المهجورة. ولا يبقى أمام الفلسفة ميدان جدير بالبقاء إلا المنطق، عليها أن تتمسك به وتجعله شغلها الشاغل والوحيد، والعقل البشري لا ينبغي أن ينشغل إلا بالمجالات العلمية؛ أي مجال سواها من خلق الخيال العاجز، وبالتالي تقتصر الفلسفة على تسخير المنطق لتقديم الخدمات التحليلية للعلم، فتقتصر نفسها على مجالاته وتدور معه وجودًا وعدمًا. وليس معنى هذا أن ينازع الفلاسفة العلماء في بحوثهم التي تبغي المعلومات عن العالم التجريبي الواقعي الواحد والوحيد، فهذا شأن العلماء فقط، والفلسفة تختلف، فهي توضح ولا تضيف، إنها كما قال فتجنشتين علم البحث عن المعنى، معنى العبارات العلمية. بعض المصطلحات العلمية قد يكتنفها من اللبس والغموض ما يستطيع التحليل المنطقي أن يجلوه. ومن ناحية ثانية قد تكون مقولة علمية مترتبة على أخرى أو متضمنة فيها أو متناقضة مع نفسها أو مع أخرى تم التسليم بها … والتحليل المنطقي للعلم يتكفل بكل هذا ويكشف عنه.

هكذا جعل الوضعيون المنطقيون العلم هو النشاط العقلي الأوحد، الذي ينقسم بين فئتين ولا ثالث لهما، فئة العلماء الذين يقومون بجمع المعلومات ووضع النظريات، ثم فئة فلاسفة العلم الذين يقومون بتحليلات منطقية تساعد على تقدم العلم وازدهاره. قد يقوم العالم نفسه بهذه التحليلات، وفي هذه الحالة سوف يصبح فيلسوفًا بعد أن كان عالمًا، أو يصبح العالم/الفيلسوف، بالمفهوم الوضعي المنطقي للفلسفة الذي يعني المطابقة بينها وبين التحليل المنطقي للعلم، فتغدو الفلسفة بأسرها علمية، ولا يعود ثمة متسع للميتافيزيقي السابح في أجواء المطلق، أو الأخلاقي الحالم بمجتمع الفضيلة أو السياسي الباحث عن اليوتوبيا أو الجمالي الهائم في العالم الأستطيقي الخلاب.

ولكي يستطيع الوضعيون المنطقيون أن يُعَلْمِنوا الفلسفةَ بهذا الحصر والقصر ارتكزوا على حجة منطقية؛ وهي أن القضية إما تحليلية، وإما تركيبية. فقد كانت الرياضيات عقبة كئود في وجه التجريبيين، طالما أن العقل الرياضي يستقل بنفسه عن التجربة ليصل إلى القضايا الرياضية الضرورية الصدق ذات اليقين المطلق. فكيف نفضل على هذا المنهجِ العقليِّ الخالصِ المستقلِّ عن التجربة — منهج الرياضة الذي تقتفيه الميتافيزيقا — منهجًا آخر يعتمد على التجربة، فتجيء نتائجه احتمالية؟! ولم يكن التجريبيون جميعًا بجرأة جون ستيوارت مل وصلابته التجريبية كي يزعموا معه أن الرياضة أيضًا تستند على تعميمات تجريبية.٣٦ ربما كانت هذه العقبة الرياضية هي التي منعت التجريبيين خمسة وعشرين قرنًا — هي عمر الفلسفة — من اتخاذ موقف شديد التطرف كموقف دائرة فيينا.
حتى كان كتاب «برنكبيا ماتيماتيكا» والمدرسة المنطقية في أصول الرياضيات التي أثبتت أنها امتداد للمنطق ومثله تحصيل لحاصل لا تحمل خبرًا جديدًا عن الواقع. ثم أكدت رسالة فتجنشتين أن الصورة المنطقية للقضية الرياضية هي: أ هي أ، بينما تتخذ قضايا العلوم الطبيعية الإخبارية الصورة المنطقية: أ هي ب. من هذا المنطق كان تقسيم الوضعية المنطقية الشهير للعبارات أو الجمل أو سائر ما يتمثل في الصور النحوية إلى فئتين هما:
  • (١)
    العبارات ذات المعنى meaningful: وهي إما العبارات التحليلية، أي قضايا العلوم الصورية «المنطق والرياضة»، وإما القضايا التركيبية التجريبية «قضايا العلوم الطبيعية الإخبارية»، واصطلاح «ذات معنى» أفضل من اصطلاح «لها معنى has a meaning»؛ لأن الأول يظهر أن المعنى ليس شيئًا يُضاف إلى العبارات، بل صفة تتحد بنفس طبيعة العبارة.
  • (٢)
    العبارات الخالية من المعنى meaningless: وهي كل ما يخرج عن النوعين السابقين، وخصوصًا قضايا الميتافيزيقا. إن الوضعية المنطقية تطابق بين المعنى وبين العلم، وحيث لا علم لا معنى!
ولكي يكون الحديث ذا معنى، لا بد وأن يقتصر على نوعين من القضايا لا ثالث لهما، هما نوعا العبارة العلمية: القضايا التحليلية Analytic والقضايا التركيبية Synthetic.

القضايا التحليلية هي قضايا العلوم الصورية حيث تنحصر قيمة القيمة داخل ذاتها، فهي تحصيل حاصل تكرارية، تكرر في الشق الثاني، أي التالي عين ما قيل في الشق الأول، أي المقدم، ليس لها محتوى معرفي أو مضمون إخباري عن الواقع، نصل إليها استنباطًا، ونعرف صدقها أو كذبها فقط بتحليلها تحليلًا منطقيًّا لغويًّا، فإذا أوضح التحليل أن الشق الأول هو عينة الشق الثاني مثلًا «الأرملة امرأة مات زوجها»، أو «للمربع أربعة أضلاع» كانت صادقة؛ لأن القضية التحليلية مجرد إثبات للهوية، في المثال هوية أ لأرملة أو المربع، أو ما اصطلحنا على تسميته أرملة مربعًا. من هنا كان صدقها مطلقًا يقينيًّا؛ لأنه يعتمد على الضرورة المنطقية التي تعني استحالة النقيض. القضية التحليلية إذا كانت صادقة كانت ضرورية وإذا كانت كاذبة كانت متناقضة ذاتيًّا. الضرورة هنا في قوانين منطق الفكر واللغة وليست في الواقع، فالواقع لا ينطوي على ضرورة، غير أن القضية التحليلية لا تلتزم بالواقع؛ لأنها لن تحمل خبرًا جديدًا بشأنه. والخلاصة أن القضية التحليلية صورية تكرارية استنباطية عقلية يقينية ضرورية، محك الصدق فيها هو منطق اللغة.

أما القضايا التركيبية فهي قضايا العلوم الطبيعية وشتى المباحث التجريبية، التي تنقل خبرًا عن العالم الواقع من حولنا، فهي إذن إخبارية ذات محتوى معرفي، نصل إليها باستقراء خبرة الحواس. التحليل المنطقي للقضية التركيبية يردها إلى سلسلة من القضايا الذرية، كما علمتنا ذرية رسل وفتجنشتين المنطقية، ثم ينتهي تحليل الوضعيين إلى سلسلة من المعطيات الحسية التي تبعث بها الواقعة الذرية. المرجع هنا في الحكم بالصدق أو الكذب هو خبرة الحواس، وهو حكم نسبي يستحيل إطلاقه. المعطيات تشير الآن إلى صدق القضية، لكن من يدري؟ قد تأتينا في الغد معطيات أخرى عن العالم الطبيعي، أو تتكامل بعد نقص، فتصبح القضية كاذبة. إنها إذن عرضية احتمالية يستحيل أن تكون ضرورية. والخلاصة أن القضية التركيبية تجريبية استقرائية احتمالية عرضية محك الصدق فيها هو خبرة الحواس.

هذان هما نوعا القضايا ذوات المعنى.

وعلى هذا الأساس يسهل الوصول إلى الهدف الاستراتيجي لدائرة فيينا، وهو إثبات أن الميتافيزيقا لغو nonsense ما دامت قضاياها لا هي تحليلية ولا هي تركيبية بذلك التحديد المنطقي الدقيق.
أجل، اتخذت النزعة الوضعية منذ أن شق بيكن طريقها موقف الرفض للميتافيزيقا، وسبق أن رأينا ديفيد هيوم يدعو إلقاء كتب الميتافيزيقا في النار، وهو في الواقع يُعد أباهم الشرعي ورائدًا لهم. إلا أن هذا الموقف قد تكاثف في فلسفة الوضعية المنطقية إلى درجة رهيبة جعلت الهجوم على الميتافيزيقا هيكل فلسفتهم ومضمونها وغايتها. لقد حملوا تجريبية النزعة الاستقرائية في القرن التاسع عشر التي عززتها الفيزياء الكلاسيكية التجريبية المباشرة، ثم فاجأهم القرن العشرون بكارثة الأثير المطلق التي تصدع لها عرش الفيزياء الكلاسيكية، وكما أشار بريدجمان P. W. Bridgman، رأى الوضعيون المنطقيون أن الكارثة التي سببها الأثير راجعة إلى أنه مفهوم ميتافيزيقي لم يختبر تجريبيًّا بما يكفي وبالمثل تمامًا مفهوم المطلق. من هنا أخذ الوضعيون المنطقيون على عاتقهم تأمين العلم من أمثال هذه الكوارث والأزمات التي لحقت بالفيزياء الكلاسيكية عن طريق الحيلولة دون أي اختراق ميتافيزيقي للعلم مرة أخرى، أو أن يتسلل إليه مفهوم ليس تجريبيًّا بما يكفي. وإذ هم مضطلعون بهذه المهمة كانت فيزياء القرن العشرين توالي السير قدمًا نحو مزيد من الاقتراب من الرياضي والعقلي والمجرد ومزيد من الابتعاد عن العيني الشيئي المحسوس مباشرة؛ لتزداد مهمة الوضعيين المنطقيين صعوبة وتأزمًا، وتزداد حساسيتهم تجاه الميتافيزيقا وضراوة حروبهم المنطقية عليها.

من هنا كان أميز ما يميز دائرة فيينا أن فلاسفتها ضاقوا ذرعًا بما تصوروه من عقم للمشاهد الميتافيزيقية، زاعمين أنها بقيت ثلاثة وعشرين قرنًا حيث خلفها أرسطو، بينما يحقق العلم التجريبي تقدمًا متصلًا لا ينقطع، فمن ذا الذي يزعم أن ميتافيزيقا القرن العشرين أدنى إلى الصواب من ميتافيزيقا أرسطو؟ ما هو هذا الصواب؟! وهل من خبرة عساها أن تخبرنا به؟! وآمنوا أن الوضعية على العموم والمنطقية منها على أخص الخصوص فلسفة قامت لكي تقوض دعائم الميتافيزيقا وتزيحها تمامًا من عالم ينبغي أن ينفرد به العلم وحده، ورأوا أن هذا يمكن أن يتيسر لهم بناءً على ما سبق، فمبدؤهم التجريبي الأساسي هو: «أية قضية إخبارية مفهومة لا بد وأن تقوم على أساس الخبرة الحسية». وقد انزاحت العقبة الرياضية حين اتضح أنها إثباتات للهوية ولا تخبر بشيء عن الواقع، وبفضل جهود رسل وفتجنشتين، أمكن للوضعي المنطقي أن يحتفظ تمامًا بالمبدأ التجريبي، فقط يضيف إليه: «ما لم تكن إثباتًا للهوية»، وبطبيعة الحال لا يوجد ميتافيزيقي واحد يمكنه الاعتراف بأن قضاياه مجرد إثبات للهوية ولا تخبر بشيء عن العالم، وهي طبعًا ليست قائمة على أساس الخبرة الحسية، فيمكن استئناف المسير الوضعي إلى غايته والانتهاء إلى أن القضايا الميتافيزيقية غير واضحة ولا مفهومة؛ لأنها غير ذات معنى ولا أي مغزى نفهمه منها لكي نحكم عليها بالصدق أو الكذب. إنها لا ترقى إلى مرتبة الكذب؛ لأنها تدعي الإخبار عن عالم يخرج عن حدود الخبرة، أي تخبر عما لا يمكن الإخبار عنه وتدعي فعل ما لا يمكن أن يفعل! من هنا تعج ساحة الميتافيزيقا بقضايا تناقض بعضها، كما سبق أن أوضح كانط في تعيينه لنقائض العقل الخالص.

وسرعان ما زودهم المنطق الرياضي بأدوات تحليلية نافذة يقطعون بها أوصال المعالجات الميتافيزيقية لينتهوا إلى أنها كلام غير ذي معنى؛ إما لأنها تحوي مصطلحات لا معنى لها مثل المطلق والعقل والنفس والجوهر، أو لأنها تستخدم مصطلحات ذات معنى، لكن في تركيب لغوي غير ذي معنى. وفي محاولاتهم لإثبات هذا بتحليلاتهم المنطقية، أسرفوا في تسخير أدوات المنطق الرياضي، ومنها نظرية رسل في الأوصاف المنطقية والخلو من المعنى، وإلى درجة من التطرف كان رسل نفسه في طليعة الرافضين إياها.

وهذا الاستخدام للمنطق الرياضي في تجسيد دعاويهم الفلسفية يتبلور نهائيًّا في معيار التحقق Criterion of Verification الذي يميز المعرفة العلمية ويمثل الفيصل الحاسم بين العلم واللاعلم، وبالتالي بين المعنى واللامعنى؛ ليكون الأساس الذي تقوم عليه فلسفة الوضعية المنطقية وتقوم من أجله، حتى إذا قيل في تعريفها إنها المذهب الذي ينادي بمعيار التحقق لما جانب هذا الصواب. والواقع أن معيار التحقق هو بالضبط ما رفضه رسل، وكان محور معظم الخلافات التي اشتجرت بينهم وبين الفلاسفة والنقَّاد. وبشكل عام يترسم التاريخ الحق للوضعية المنطقية بمحاولاتهم لحل طائفة من المشاكل نجمت عن تعويلهم على هذا المعيار، وأدت محاولات الحلول إلى طرح بدائل أخرى لتحرز نفس الهدف متفادية الأخطاء. فلم يعد أمامنا معيار التحقق فقط، بل أيضًا معيار القابلية للاختبار والتأييد، بالإضافة إلى لغة العلم عند كارناب.

وخلاصة معيار التحقق أن كل قضية تركيبية لا بد وأن تكون تجريبية، وبالتالي يمكن «التحقق» منها بواسطة الخبرة الحسية، ويترتب على هذا أن كل قضية تركيبية لا يمكن تحديد صدقها أو كذبها من ملاحظات حسية هي جملة بغير معنى، إنهم يستبعدون قضايا المنطق والرياضة التحليلية، وهي كل ما يساهم به العقل في عملية المعرفة لينطبق المعيار فقط على القضايا التركيبية فيحدد منها ما ينتمي للعلم الطبيعي والعالم التجريبي، ويستبعد الميتافيزيقا. ودع عنك الأوامر والنواهي وسائر التعبيرات الدالة على قيم معيارية مثل «ما أجمل الزهور!» «القتل جريمة بشعة»؛ فهم يعتبرون أمثال هذه التعبيرات إنشائية محضة. ولما كانت الوضعية فلسفة معرفية، فهي لا تهتم بهذه التعبيرات وما إذا كان لها معنى أم لا، فمعناها بالقطع ليس معرفيًّا ولا تمثل موضوعًا للمعرفة، قد يهتم بها نُقَّاد الأدب والفن والمصلحون الاجتماعيون، أما الوضعيون المنطقيون بوصفهم فلاسفة معرفيين فلن يعيروها التفاتًا، لا بالإحلال والتعظيم كقضايا العلم، ولا بالرفض والاستنكار كقضايا الميتافيزيقا، شريطة ألا يدعي أصحابها — فلاسفة الفن والجمال والأخلاق والسياسة — أنهم يزيدوننا معرفة وإدراكًا للعالم الواقعي.

كان تشارلز بيرس هو الذي قدَّم الفكرة الخصيبة التي تربط معنى القضية بالخبرة التجريبية، لكن معيار التحقق بهذه الصورة القاطعة مأخوذ من رسالة فتجنشتين التي كانت رائدة في محاولة إثبات أن المشاكل الفلسفية لغو، وانتهت إلى ضرورة مقارنة القضية بالوجود الخارجي — أي الواقع — الذي ترسمه، فإن طابقته كانت صادقة، وإلا فهي كاذبة، وفي كلتا الحالتين القضية ذات معنى، أما إذا استحال مقارنتها بالواقع فهي قضية زائفة وبغير معنى. وأدى هذا بالوضعيين إلى المطابقة بين معنى القضية وأسلوب تحققها.

وطالما أن التحقق معيار لتمييز المعنى، فإنه ينطبق أيضًا على المفاهيم والكلمات، بل إن التحقق منها أهم؛ لأن العبارة لن تقبل التحقق إلا إذا كانت كل المفاهيم الواردة فيها ذات معنى ومرتبطة بعلاقات منطقية ارتباطًا سليمًا. فذهب شليك إلى ضرورة أن نستطيع الإشارة بأصابعنا إلى مدلول الكلمة أو المفهوم؛ ليكون التحقق النهائي منه.

غير أن هذا المعيار أثار من النقاش والجدل الشيء الكثير، فمثلًا منطوق المعيار ذاته ليس قضية تحليلية ولا هو ممكن التحقق تجريبيًّا؛ لذا يجب عليهم هم أنفسهم أن يرفضوه بوصفه لغوًا! وقد تنبه فتجنشتين إلى هذا التناقض الذاتي، فقال: إن نتيجة التفلسف ليس عددًا إضافيًّا من القضايا، بل النتيجة هي جعل القضايا واضحة، لذلك فالرسالة مجرد سلم نصعد عليه بغية الوصول إلى الوضوح في فهم القضايا، حتى إذا وصلنا إلى هذه البغية وجب إلقاؤه بعيدًا، وذهب الوضعيون مذهبًا قريبًا من هذا فقالوا: لا يجب أن نأخذ معيار التحقق بوصفه عبارة، بل فقط بوصفه اقتراحًا أو مجرد «توصية» بألا نقبل القضية إلا إذا كانت ممكنة التحقق، وما أسهل أن يرفض الفلاسفة أجمعون هذه التوصية كي لا يذهبوا بفلسفاتهم إلى الجحيم! ويجيء رودلف كارناب لينصحنا بتواضع غير معهود منه أن نقبل معيار التحقق على أساس قريب من البرجماتية؛ لأنه سوف يمكننا من تحقيق الهدف: تمييز المعرفة العلمية واستبعاد الميتافيزيقا، وبالتالي تحديد مجالات الأنشطة العقلية بدلًا من أن تختلط ببعضها.

وثمة مناقشات أخرى حول طبيعة الكائنات التي ينطبق عليها المعيار، أهي القضايا أم الجمل أم العبارات؟ إذا كان يطبق على القضايا، فإن القضية بحكم تعريفها المنطقي هي ما يُوصف بالصدق أو الكذب، فهي لا بد وأن يكون لها معنى خبري نبحث عن صدقه، فكيف نجعل إمكانية التحقق — التي قد تكون أو لا تكون — في ذات الهوية مع المعنى؟ وعلى أحسن الفروض يكون هذا المعيار الذي يبحث عن المعنى زائدًا ولا ضرورة له، على أساس أن السؤال الذي وضع للإجابة عليه لا بد وأن يكون مجابًا قبل أن نفكر في تطبيق المبدأ. وأبرز من دافعوا عن هذا، الفيلسوف البريطاني ألفرد جوليوس أير (١٩١٠–١٩٨٩م) الذي قام باستيراد الوضعية المنطقية من فيينا إلى بريطانيا … وقد حاول درء هذا الاتهام بتقديم مصطلحات فنية يمكن عرضها على هذا النحو:
  • الجملة Sentence: هي أية صورة للكلمات تراعي القواعد النحوية للغة.
  • العبارة Statement: كل جملة دلالية indicative، أي إخبارية، سواء أكان لها معنى أم لا، تبعًا لمفهوم الوضعية للمعنى. وعلى هذا فأي جملتين خبريتين يمكن أن تترجم الواحدة منهما للأخرى، يعبران عن عبارة واحدة.
  • القضية Proposition: هي العبارة التي لها معنى حرفي، أيضًا تبعًا لمفهوم الوضعية للمعنى. وعلى هذا تكون القضايا فئة فرعية للعبارات، كما يوضح الرسم:
ويكون التحقق معيارًا لتمييز العبارات التي تنمي لفئة القضايا عن تلك التي لا تنتمي لها، متخذًا الصورة الآتية: «تكون العبارة ذات معنى حرفي فقط إذا ما كانت تحليلية أو كانت ممكنة التحقق تجريبيًّا.»٣٧ ونلاحظ أن التعديل الوحيد هو استبدال مصطلح عبارة بمصطلح جملة، وآير فعلًا يحل المشكلة كما لو كانت اصطلاحية بحتة، وليس هذا غريبًا من فيلسوف تبنى مذهبًا لغويًّا متطرفًا.
ومن المناقشات التي أُثيرت في وجه المعيار أن القضايا قد تكون غير قابلة للتحقق، إما لأننا لا نستطيع التحقق منها في اللحظة الراهنة، أو لأننا لا نستطيع التفكير في طريقة للتحقق منها، أو لأنه من المستحيل علينا فيزيائيًّا التحقق منها، أو لأننا نستبعد أية محاولة للتحقق منها لأسباب منطقية بحتة. فأي وجه من هذه الوجوه لعدم القابلية للتحقق يحمل معه الخلو من المعنى؟ فالقضية قد تكون علمية تجريبية، ولكنها مستحيلة التحقق — الآن على الأقل — مثل: «ثمة جبال على كوكب أورانوس» ويستحيل أن نذهب إلى أورانوس لنتحقق منها. لحل هذه المشكلة ميز الوضعيون بين التحقق المباشر، وهو للقضايا التي تقرر شيئًا ما حول المدركات الحالية، والتحقق غير المباشر لبقية القضايا العلمية ذات المعنى.٣٨ وقريب من هذا ما فعله آير حين اقترح التفرقة بين: التحقق بالمعنى القوي وهو الفوري والحاسم والقاطع، والتحقق بالمعنى الضعيف، كمجرد إمكانية وليست استحالة. وهذا هو فقط المطلوب من العلم البحت.
غير أن هناك مشكلة معينة على درجة كبيرة من الأهمية، وهي أن قوانين العلم بطبيعة الحال مستحيلة التحقق؛ إذ ليست هناك أية مجموعة من الخبرات يكون اكتسابها مكافئًا لصدق قانون علمي. وقد تنبه فتجنشتين إلى هذا مقدمًا في رسالته، فأكد أثناء بحثه للمنزلة المنطقية للقضايا العلمية على أن الكثير من العبارات العامة في العلم لا تحتاج إلى معاملتها على أنها دالات صدق للقضايا الأولية؛ لأنها ليست تجريبية، وبالتالي ليست قضايا بالمعنى الدقيق، هي على الأصح توصيات بمنهج لتمثيل فئة معينة من الظواهر.٣٩ وكان حل شليك قريبًا من حل أستاذه وصديقه فتجنشتين، فقد ادعى أن القوانين العلمية ليست عبارات، بل هي قواعد أو رخص للاستدلال، غير أن كارناب ونويرات اعترضا على هذا؛ لأن القواعد لا يمكن اختبارها أو تكذيبها، وما هكذا قوانين العلم. وقد كان هذا الخلاف بشأن القوانين العلمية، واعتبار أنها ليست قضايا ورفض البعض لهذا فيصلًا في تاريخ الوضعية قسمها، أو قسم جماعة فيينا على ذاتها إلى شعبتين.

تلك بصفة عامة المشاكل التي تبدت في وجه معيار التحقق، مما جعله يتخذ تدريجيًّا صورًا أخرى، على أمل التغلب على هذه الصعوبات.

أول هذه الصور «القابلية للتأييد Conformability» وهي تعني أن القضية لا تكون ذات معنى إلا إذا أمكن تأييدها، أي اشتقاق قضايا صادقة منها. وقد ارتبط معيار القابلية للتأييد بالقابلية للاختبار Testability. والواقع أن نقد كارل بوير لمعيار التحقق هو الذي أجبر أعضاء الجماعة على تعديله والاتجاه به نحو القابلية للاختبار، ومنطوقة كالآتي: تكون الجملة قابلة للاختبار إذا كنا نعرف الإجراءات المعينة (مثلًا تنفيذ تجارب معنية) التي من شأنها أن تؤيد الجملة أو تؤيد نفيها بدرجة ما، بينما تكون الجملة قابلة للتأييد إذا أمكن منطقيًّا لأي نوع من الأدلة التجريبية أن يؤيدها، حتى ولو كنا لا نعلم المسار المعين لإجراءات الحصول على هذه الأدلة. وواضح أن القابلية للاختبار مجرد صور قوية فعلية من القابلية للتأييد المضعفة. والفارق بينهما يطابق الفارق بين التحقق القوي أو المباشر والتحقق الضعيف أو غير المباشر، مما يعني أن القابلية للتأييد هي الأصل وهي الأوسع في ماصدقاتها، والقابلية للاختبار تابع لها يحدد فئة معينة من ماصدقاتها، هي الفئة القابلة للتأييد فعلًا.

ورغم هذا ميزت الوضعية في أحد أطوارها بين أربعة معايير: القابلية التامة للتأييد – القابلية التامة للاختبار – درجة معينة من القابلية للتأييد – درجة معينة من القابلية للاختبار، وكلها تتعاون معًا لتمييز العلم واستبعاد الميتافيزيقا.

وكان كارل همبل C. Hempel (١٩٠٥–١٩٩٧م) بالذات أكثر الوضعيين استجابة لنقد بوير للتحقق، فأكد أن هذا المبدأ يفضي إلى مشكلات منطقية يستحيل الخروج منها، فضلًا عن أن تاريخ العلم لا يدلنا بصورة واضحة على ما يمكن أن نسميه بالتحقق.٤٠ ولهذا تمسك بمعيار القابلية للتأييد والاختبار بصورة تجعله معيار الوضعيين الوحيد الذي يفيد العلم ومنهجه؛ إذ يمكن بواسطته تمييز النظرية العلمية، وأيضًا المفاضلة بينها وبين النظريات العلمية الأخرى عن طريق ما أسماه بدرجات القابلية للتأييد والاختبار، وقد عُني همبل عناية شديدة بمسألة الدرجات هذه، التي هي فعلًا ذات فائدة عظمى للمنهج وإجراءات البحث العلمي، في حين أننا لم نسمع إطلاقًا عن درجات للقابلية للتحقق.

هكذا نجد أن معيار التحقق بعد أن كان غاية في القوة والمضاء قد قنع بأن يحل محله معيار التأييد الذي هو غاية في الضعف والتواضع؛ إذ يقنع فقط بإمكانية تأييد أية قضية لكي يقول بأنها ذات معنى، ومع هذا لم يستطع أن يؤدي المهمة بجدارة أو أن ينجو من الصعوبات ومن النقد العنيف.

إن هذه المعايير جميعًا تنحو في التحليل المنحى السيمانطيقي، أي تحليل الدلالات والمعاني؛ لتصل إلى الهدف الوضعي وهو الشيء التجريبي العيني المحسوس، ولما تبدت الصعوبات في وجه هذه المعايير، حاول نفر من الوضعيين المنطقيين الوصول إلى تمييز المعرفة العلمية واستبعاد الميتافيزيقا من الطريق التحليلي الآخر، وهو طريق السينتاطيقا أو التركيب اللغوي بتحليل منطق اللغة ذاتها، ومن حيث هو مطابق لمنطق بنية العالم التجريبي.

من هنا جاءت محاولة عضو الجماعة البارز رودلف كارناب R. Carnap (١٨٩١–١٩٧٠م) في البناء المنطقي للغة العلم، على أساس أن العلم يتعامل فقط مع وصف الخصائص البنائية للأشياء في الزمان والمكان والعلاقات التي تربطها ببعضها، ووضع كارناب قواعد هذه اللغة على نوعين؛ هما قواعد تشكيل وصياغة الجمل والتعبيرات الفيزيائية ثم قواعد استنباط جملة من أخرى، وهي قواعد يمكن تعديلها فور أن يتضح لنا ما هو أفضل،٤١ المهم أن تكون هذه القواعد دقيقة فتستوعب كل التعبيرات الفيزيائية وتستبعد تمامًا أي تعبير ميتافيزيقي.

أما الأسس التجريبية التي ترتكز عليها لغة العلم فهي ما يسمى بجمل البروتوكول، ويعرفها كارناب بأنها الجمل التي تشير مباشرة إلى خبرات حسية متاحة، جمل البروتوكول هي المحك الذي نبدأ منه قياس واختبار بقية جمل اللغة العلمية، بغير أن تكون هي ذاتها، بحاجة إلى قياس أو اختبار أو تبرير، وهي جمل أساسية غير قابلة للتعديل.

على هذه الأسس تكون لغة العلم المنطقية التي شيدها كارناب برفقة أوطو نويراث O. Neurath (١٨٨٢–١٩٤٥م) قادرة على حصر التعبيرات داخل حدود العالم التجريبي، وتنغلق دون متاهات الميتافيزيقا التي لا تقبل بحال الصياغة في حدود هذه اللغة، وكل ما هو ذو معنى يمكن التعبير عنه في حدودها، خصوصًا علم النفس على قدر ما هو علم، هكذا ترتد العلوم جميعها إلى الفيزياء داخل إطار هذه اللغة، وأي مجال فرعي للعلم يمكن ترجمة عباراته — بصورة مكافئة تمامًا لصورتها الأصلية — إلى لغة العلم. ونخلص إلى أن العلم نسق واحدي تكاملي مركزي، لا نجد داخله مجالات لمواضيع ذات تباين جوهري، وتبعًا لهذا لا نجد هوة بين العلوم الطبيعية والعلوم السلوكية مثلًا،٤٢ وهذا صلب من أصلاب الوضعية المنطقية، إنه الدعوة إلى العلم الموحد في إطار الفيزياء؛ ليغدو أي علم آخر مجرد فرع أو امتداد للفيزياء، فيقول كارناب: إنه مع لغة العلم كلغة عمومية ستتحول جميع العلوم إلى الفيزياء وتستبعد الميتافيزيقا على أنها لغو، وتصبح العلوم المختلفة أجزاء من العلم الموحد.

اتفق الوضعيون المنطقيون جميعًا على مشروع العلم الموحد، الذي يبرز مدى تطرفهم في الافتتان بالفيزياء بنفس درجة تطرفهم في الغضب المُضري الذي لا يبقي ولا يذر على الميتافيزيقا. لكن الدائرة انقسمت على نفسها انقسامًا حادًّا بين فريقين، أحدهما فريق التحقق السيمانطيقي وعلى رأسه شليك وفيزمان، حصر نفسه في الخبرة التجريبية. والثاني هو فريق التركيب اللغوي السينتاطيقي، على رأسه كارناب ونويراث، حصر نفسه في العبارات والأنساق اللغوية. هذا في حين أن الوضعية المنطقية قامت أصلًا للربط بين هذين الجانبين: الخبرة التجريبية والتعبيرات اللغوية؛ لتنحصر الثانية في حدود الأولى كوسيلة لاستبعاد الميتافيزيقا وتمييز المعرفة العلمية، استمرارًا لمهمة فلسفة العلم منذ أن نشأت في القرن الأسبق من أجل تبرير وتمييز العلم.

في القرن العشرين لم تعد حجة التعميم الاستقرائي تصلح بحال لتمييز وتبرير العلم، فجاء الوضعيون مواصلين لنفس التطرف التجريبي، ويحاولون إنقاذ النزعة الاستقرائية باستخدام سلاح مستجد هو المنطق الرياضي، وعن طريقه كانت محاولاتهم التي رأيناها لتمييز المعرفة العلمية، وبدلًا من أن يستخدموه لتطوير التجريبية والكف من غلوائها الاستقرائي بإثبات دور العقل الإنساني كما ينبغي أن تفعل التجريبية المنطقية المتبصرة في القرن العشرين، فعلوا العكس وحاولوا استغلال وتسخير المنطق الرياضي للإبقاء على الحسية التجريبية المتطرفة. هذا بينما كان العلم يواصل السير قدمًا في الابتعاد عن الحسي المباشر إثباتًا لدور العقل الإنساني في صنع التقدم العلمي، فلا غرو أن تنقسم دائرة فيينا على نفسها، وتصل الوضعية المنطقية إلى نفس الطريق المسدود الذي وصلت إليه النزعة الاستقرائية.

كان تطرفهم القاصم حقًّا في قصر الفلسفة بأسرها فقط على التحليل المنطقي للعلم. لا شك أن منهج التحليل مفيد ومثمر للغاية، لكن غاب عنهم أنه يكون أكثر فائدة إذا تعاون مع المناهج الفلسفية الأخرى، ومتى كان فريق فلسفي واحد يستطيع الزعم باحتكار الحقيقة؟! هذا فضلًا عن الحروب الضروس وجبهات الرفض العريضة التي فتحوها على أنفسهم بإثارتهم لحفيظة كل مُقدر لدور الميتافيزيقا في ملحمة العقل البشري، وكل رافض لأن تنحسر الفلسفة بجلال قدرها إلى مجرد ظل باهت للعلم. كما أن الماركسيين رأوهم ثبوتيين رجعيين تعمل تحليلاتهم المنطقية على تسكين الأمر الواقع والحيلولة دون الثورة والتغيير.

ومع كل هذا لا مندوحة عن الاعتراف بالجوانب الأخرى الإيجابية. يكفي فضل الوضعيين في تطوير المنطق الرياضي وتطبيقاته الفلسفية. ومنذ الوضعية المنطقية فصاعدًا لم تعد فلسفة العلم نشاطًا على هامش الفلسفة، ولا تسكعًا للعقول المتميزة، بل أصبحت فلسفة العلم نشاطًا فنيًّا احترافيًّا دقيقًا ومرموقًا. والحق أن فلسفة العلم كنشاط أكاديمي تخصصي إنما هي ربيبة جامعة فيينا، كانوا تنويريين يشنون الحرب على الخرافة والعقل المنطلق بلا ضوابط، ألقوا في النفوس رهبة من الاسترسال في الأقوال الفضفاضة بغير حساب، وأجبروا الفلاسفة الآخرين على مزيد من الدقة والوضوح في التعبير، حتى بات التعبير الواضح المفهوم من سمات الفلسفة في القرن العشرين، بعد أن اشتهرت طوال تاريخها بالغموض والإلغاز والصعوبة.

وفي الحضارة العربية ظفرت الوضعية المنطقية بما لم يظفر به سواها من مذاهب الفلسفة الغربية، ظفرت بنصير متحمس هو عملاق الفلسفة العربية في القرن العشرين زكي نجيب محمود (١٩٠٥–١٩٩٣م). وكان يدرس للدكتوراه في جامعة لندن إبان الأربعينيات، وحضر محاضرات لرسل وآير وسواهما يقول:
شعرت في اللحظة التي قرأت فيها عن الوضعية المنطقية بأنه إذا كانت الثقافة العربية في حاجة إلى ضوابط تصلح لها السير، فتلك الضوابط تكمن ها هنا.٤٣ فهي دعوة إلى الأخذ بأحكام العقلي العلمي الصارم — وحده دون العاطفة — والتزام الدقة البالغة في استخدام الألفاظ والعبارات.٤٤
وتبنى زكي نجيب الوضعية المنطقية تبنيًا كاملًا، واتخذها عنوانًا وبطاقة لهويته الفلسفية وتكرس إبان الخمسينيات لنشرها والدعوة إليها، غير آبه بمردودها على العقائد الدينية. وفي عرضه المنهجي الأستاذي الرائد للمنطق الرياضي وفلسفة العلم، وضع عمله بجزأيه تحت عنوان «المنطق الوضعي»! أجل بعض فصول الكتاب مكرسة للوضعية التي تنتسب إلى المنطق، ولكن المنطق الرياضي ذاته بحث مجرد لا ينتسب لمذهب دون الآخر، ومهما كان استغلال فلاسفة الوضعية للمنطق وإنجازاتهم فيه، فهذا «ليس من شأنه أن يسحب صفة الوضعي على المنطق نفسه، فلم يأت المنطق الرياضي لخدمة مقاصد الفلاسفة الوضعيين»،٤٥ على العموم أعقبه الدكتور زكي نجيب بكتابيه «خرافة الميتافيزيقا ١٩٥٣م»، و«نحو فلسفة علمية ١٩٥٨م»، وهما من أفضل عروض الوضعية المنطقية، وعلى مستوى العالم. وثمة أيضًا الجزء الثاني من «قشور ولباب ١٩٥٦م»، هذا بجانب أنها منبثة في معظم ما كتبه بعد هذا.

كانت الوضعية المنطقية مع الأستاذ المعلم زكي نجيب محمود رسالة تنويرية وسبيلًا إلى صحوة عربية، بتوجيه الأنظار إلى الواقع بدقة وصرامة المنهج العلمي، ووجِهت بهجوم عربي حاد لم ينل من عزيمة الأستاذ المعلم. لكن خفت وطأة الهجوم حين انتقل زكي نجيب إلى الاهتمام بتجديد الفكر العربي والبعد الإسلامي لحضارتنا وتمثل الوضعية المنطقية بشيء من الهوادة، فأخرج طبعة ثانية من «خرافة الميتافيزيقا» تحت عنوان «موقف من الميتافيزيقا ١٩٨٣م». وظل زكي نجيب دائمًا على إيمان بضرورة الوضعية المنطقية لتوجيه العقل العربي نحو الواقع، ومحاربة الخرافة التي تعشعش فيه وكبح استرسالنا في الإنشائيات والخطابيات والخوض في لغو العقول.

خامسًا: الأداتية

الاتجاه السياسي الآخر في فلسفة العلم هو الأداتية instrumentalist بمعنى النظر إلى القوانين والنظريات والأنساق العلمية بوصفها أدوات للربط بين الظواهر والتنبؤ بها والسيطرة عليها توصف بالصلاحية أو عدم الصلاحية، وليست تعميمات استقرائية أو قضايا إخبارية ذات محتوى معرفي عن العالم التجريبي لتوصف بالصدق أو الكذب. فتقاس قيمة النظرية العلمية بقدرتها على أداء وظائف العلم، وليس بقدرتها على التعبير عن الواقع بصدق. القانون العلمي لا يصف الطبيعة، بل لعله يصف تصورنا للطبيعة. إنه اختراع أكثر منه اكتشاف ولا يمليه الواقع التجريبي. العقل يُبدع النظرية العلمية بقدر من الحرية، مثلما يُبدع أية أداة أخرى يريدها لأداء وظيفة معينة. وليست التجربة محكًّا حاسمًا للحكم على النظرية العلمية، المحك هو الملاءمة لأداء الوظيفة، ومعايير الملاءمة منطقية منهجية قبل أن تكون تجريبية، فهي المرونة والخصوبة والدقة في التنبؤات والشمولية والاتساق، ومن قبل ومن بعد البساطة. والمقصود بالبساطة Simplicity أن تكون النظرية محتوية على أقل عدد ممكن من المفاهيم الأساسية والعلاقات. والوقائع التجريبية ذاتها تُقبل أو تُرفض تبعًا لقرار منهجي بناءً على تلك المعايير المنطقية.

أطاح الأداتيون بالأساس الاستقرائي، وألقوا مشكلة الاستقراء وراء ظهورهم، أصبح العلم في نظرهم مجرد نسق منطقي من عبارات هي دوال منطقية، لا تعدو أن تكون مجرد أدوات تحقق هدف العلم أو تؤدي وظيفته؛ وهي السيطرة على العالم ثم التقانة «التكنولوجيا». وبالتالي أعفوا أنفسهم من العلية وافتراض الاطراد في الطبيعة، فلا تواجههم مشكلة الاستقراء، ما دامت قوانين العلم ليست تعميمات نحكم عليها بالصدق وحدود الصدق، بل هي — كما ذكرنا — أدوات نافعة ومفيدة لأداء وظيفة معينة، ومن إبداع العالم وخلقه الحر. وهذه الحرية ليست عشوائية أو تعسفية، بل محكومة بالمعايير المنطقية. القانون العلمي لا يمكن التحقق التجريبي من صدقه أو كذبه، ولا جدوى من هذا، يكفي أن يكون عبارة متسقة بسيطة ومثمرة، فيوصف بالمواءمة والصلاحية.

أصر الأداتيون على أنه لا يمكن اعتبار القانون العلمي مشتقًّا من الاختبارات التجريبية؛ لأن القانون عام والتجربة جزئية، القانون محدد بدقة والتجربة تقريبية تحتوي على عديد من التعقيدات يستبعدها القانون.٤٦ التجربة منتهية والقانون قابل دائمًا للتطور والتقدم، فكيف تكون النظرية العلمية نتاجًا للوقائع التجريبية؟! إنها نتاج العقلية العلمية المبدعة، وتكشف عن عمليات منطقية أكثر مما تكشف عن وقائع تجريبية. قد تتكيف النظرية وفقًا لمقتضيات التجربة التي لا تمثل أكثر من مرشد، فدورها استشاري فقط لتحديد أنسب الفروض العلمية والأكثر ملاءمة، أي الأدق في التنبؤ والأوسع في العمومية، دون الزعم بأن القانون حقيقة متمثلة في الواقع التجريبي.

لم تعد التجربة إطارًا مرجعيًّا للحكم على القوانين والنظريات. الإطار المرجعي معايير منطقية هي على وجه التحديد المواءمة والاتساق والبساطة المرتبطة بمبدأ الاقتصاد في التفكير، خصوصًا البساطة؛ لأن الواقع معقد ومهمة القوانين العلمية تبسيطه. البساطة إذن معبرة عن وظيفة العلم في نظرهم، من هنا كانت أهم المعايير المنطقية والإطار المرجعي الأكبر بالنسبة للأداتيين.

ومع رفع لواء البساطة وتحجيم دور التجربة، تظل الأداتية فلسفة تجريبية منطقية بالمعنى الشامل المستخدم على هذه الصفحات. إنها لا بد وأن تكون تجريبية مهما جعلت دور التجربة استشاريًّا وتاليًا للمعايير المنطقية؛ لأنها فلسفة للعلم التجريبي. والواقع أن الأداتيين أخذوا الأساس الوضعي الذي صاغه كونت حين قال إننا لا نبحث عن حقيقة الظاهرة إنما نكتفي بالوقوف عند سطحها الخارجي وعلاقاتها بالوقائع الأخرى. وهذا إرنست ماخ التشيكي المولد النمساوي الجنسية الذي اعتلى لأول مرة في تاريخ الجامعات كرسيًّا لفلسفة العلوم التجريبية، ويُعد ماخ رائدًا للأداتية وفي الوقت نفسه رائدًا للوضعية المنطقية. إنه وضعي متطرف في فلسفته التي ترتكز على رد كل شيء إلى الإحساسات حتى إنه يرفض الصعود من الإحساسات إلى أية دلالة إخبارية للعبارات العلمية. من هنا رأى ماخ في النظرية العلمية محض أداة نافعة وإجراء مفيد ليس أكثر، والقوانين العلمية مجرد وصف للعالم التجريبي وليست تفسيرًا له، وصف لعلاقات بين الظواهر قابلة للملاحظة، ولا مكان في العلم لغير هذا. وكان ماخ يبرر انطباق الرياضة على الواقع الفيزيائي بأن علم الرياضة التطبيقية ميكانيكا، وهو ببساطة وصف مناسب للظواهر. والنظرية الفيزيائية عند ماخ أوصاف من حيث هي تعريفات ضمنية مطابقة للخبرة، وهي في الواقع وصف له دور وقوة الأداة. والقانون العلمي مهما كان مجرد أداة، هو أسلوب للبحث ودالات قضايا توصف بالصلاحية وعدم الصلاحية، ولا توصف بأنها صادقة أو كاذبة.

هكذا انطلق ماخ من الأساس التجريبي الوضعي الحاد ليصل إلى لُب الأداتية، وهو في هذا وذاك يهدف إلى نفس هدف الوضعية المنطقية وهو تأمين العلم من أي اختراق ميتافيزيقي أو تسلل لمفاهيم وأبعاد ميتافيزيقية. قصر ماخ وظيفة العلم على الوصف ورفض أن يضطلع العلم بالتفسير؛ لأن التفسير هو الباب الذي تتسلل منه الرؤى الميتافيزيقية إلى نسق العلم. وقد بلغ به الأمر أن حارب النظرية الذرية في الفيزياء؛ لأنها ليست توصيفات قائمة على الخبرة! وبالمثل يجاهر بيير دوهيم بأن «فلسفته تقتصر على إثبات أن الفيزياء ليست مأخوذة من أية رؤية ميتافيزيقية».٤٧ يقترن اسم بيير دوهيم برفيقه هنري بوانكاريه H. Poincare (١٨٥٤–١٩١٢م) بوصفهما مؤسسين للأداتية في فلسفة العلم في القرن العشرين في شكل الاصطلاحية. وقد أشاد كارناب بماخ وبوانكاريه بوصفهما من أبطال حركة تحرير العلم من الميتافيزيقا. لكن الأداتيين لم يشنوا حربًا هوجاء لا قبل للعلم بها على الميتافيزيقا لتحقيق هذا الهدف، كما فعلت الوضعية المنطقية، بل اقتصروا على حدود العلم وحاولوا تجريدها من الأبعاد الأنطولوجية التي تسمح بتسلل الميتافيزيقا. وعلى أية حال، فإن هذا الموقف من الميتافيزيقا في نظرية العلم لا يتأتى إلا من تجريبية قاطعة.
وتجريبية الأداتيين بدورها تجريبية منطقية، لكن بأسلوبهم المختلف. حقًّا لم يستخدموا المنطق الرياضي بالتقنية الحرفية التي رأيناها مع الوضعيين المنطقيين والتحليليين، ولم يهتم دوهيم بأبحاث بيانو وفريجه ورسل. درسها بوانكاريه، لكن لم يستفد كثيرًا منها، وهاجم إفراطهم في التفاصيل المنطقية، وقال متهكمًا: «إذا كانوا قد احتاجوا إلى سبع وعشرين معادلة لإثبات أن الواحد عدد، فكم معادلة يحتاجونها لإثبات مبرهنة حقيقية؟!»٤٨ واستأنف بوانكاريه هجومه على رسل وكواترا وأقرانهما. ومع هذا كانت التجريبية الأداتية تجريبية منطقية في احتكامها لمعايير منطقية مثل البساطة والاتساق والمواءمة، هذا بعد أن أطاحوا بالأساس الاستقرائي لتنفرد المعايير المنطقية بالميدان. وفوق هذا نجد أن الأداتية في جوهرها مد لنطاق فلسفة العلم الرياضي إلى فلسفة العلم التجريبي، على أساس أن أي نسق منطقي أو رياضي متسق ومترابط قابل للتطبيق على الواقع، ولا فارق في نظرهم بين النسق الرياضي والنسق التجريبي. في كلتا الحالتين ثمة حقائق بسيطة ومتسقة وموائمة، أبدعها العقل بحرية ولم تفرضها عليه التجربة ويمكن أن نصطلح عليها لتنظيم وقائع الخبرة، «والرياضيات تصدق على الطبيعة؛ لأن هذا النمط من التفكير يمكننا من التعامل مع الطبيعة بأكثر الصور ملاءمة. وإنها لصورة منتقاة عبر عملية تطور لصور الفكر الكائنة في أذهاننا».٤٩ هكذا تساهم الأداتية بدورها في إبراز النقلة المحورية لفلسفة العلم في القرن العشرين في اتجاه أبعاد المنطق والرياضيات بحيث أصبحت التجريبية منطقية.

هذه الحدود المموهة بين الرياضيات والعلوم التجريبية تبرز الفارق المحوري بين الأداتية وسواها من مذاهب فلسفة العلم، ويتمثل هذا الفارق في عدم التزام الأداتية بالواقعية، بمعنى الوجود الواقعي المستقل للعالم الخارجي كإطار مرجعي. لقد رأينا فلسفة العلم من حيث هي فلسفة تجريبية تسلم بالواقعية، وترى العلوم التجريبية إخبارية، أي تحاول أن تعطينا مضمونًا خبريًّا ومحتوى معرفيًّا عن هذا العالم. وهي محاولات ليست نهائية أو مطلقة الصدق، لكنها متطورة وتظل في الوقت المعني أفضل ما لدينا. وهي على أية رؤية حصيفة لبنية العالم وطبيعته ومحاولة بارعة لوصف وتفسير جوانب معينة منه، تلتزم بأفضل صياغة نستطيعها للعالم التجريبي. بالنسبة للأداتية الموقف مختلف، فليس هناك مضمون خبري أو محتوى معرفي، ولا التزام بصياغة الواقع، بل فقط أدوات لإقامة الروابط بين ظواهره والتنبؤ والسيطرة، أدوات مفيدة، لكنها خاوية. إنها مجرد اصطلاحات ومتواضعات اتفقنا عليها؛ لأنها أكثر ملاءمة من البدائل أو النظريات الأخرى. وفي النهاية تنفرد الأداتية بهذا الفصل بين المعرفة والوجود، وتجريد الإبستمولوجيا العلمية من دلالاتها الأنطولوجية، في حين تتفق بقية الأطراف على أن معلم نجاح العلم الحديث هو هذا التمثل الواقعي للإبستمولوجيا وهذه القيمة الأنطولوجية للنظرية العلمية، خصوصًا الفيزيائية. ومن الصعوبة بمكان تجريد الفيزياء بالذات من ارتباطها بمشكلة تفهم العالم الذي نحيا فيه. هذا الموقف من أنطولوجية النظرية العلمية واعتبارها بنية إبستمولوجيا خالصة، هو الذي صنع حدودًا للاتجاه الأداتي.

ولكن الأداتية مثل كل الأطروحات الفلسفية الكبرى، يمكن تتبع الأصول إلى مراحل تاريخية أسبق، وتصل بنا إلى الخطوة الأولى من نسق العلم الحديث في القرن السادس عشر، حين كتب اللاهوتي أوسياندر — كما ذكرنا — مقدمة لكتاب كوبرنيقوس «دوران الأجرام السماوية» كان يعبر عن هذا الموقف الأداتي؛ إذ يقول إن الفلكي يبدع فروضًا يمكن بواسطتها وطبقًا لمبادئ الهندسة أن نحسب بدقة حركة الأجرام السماوية، وليس من الضروري أن تكون هذه الفروض صادقة في الواقع، شيء واحد يكفي هو أن تمدنا بحسابات مطابقة للملاحظة. معنى هذا أن نظرية كوبرنيقوس ليست وصفًا صادقًا أو كاذبًا للعالم، بل مجرد «جهاز حسابي يسمح بربط مجموعة من مواقع الكواكب القابلة للملاحظة بمجموعة أخرى مماثلة. والحسابات تكون أيسر وأسهل إذا عوملت منظومة الكواكب وكأن الشمس تشغل مركزها».٥٠ وأمل أوسياندر أن ينجح هذا التفسير الأداتي في تمرير النظرية أمام رجال الدين، ما دامت مجرد أداة وليست خبرًا عن الواقع يناقض أو يطابق ما هو مذكور في الكتب المقدسة. ثم تبناها بيير جاسندي وأعلنها كنظرية للعالم في كتابه Syntagma عام ١٦٥٨م.٥١
أما عن الأصول الفلسفية الصريحة، فقد أسهب كارل بوير في إيضاح أن مؤسس الاتجاه الأداتي في فلسفة العلم هو الأسقف جورج باركلي الذي رأيناه في «حوار الفلسفة والعلم الحديث» بالفصل الثالث من أعلام التجريبية الإنجليزية في القرن الثامن عشر، رهن الوجود بالإدراك الحسي له، ورأى أن النظريات العلمية كنظريات كوبرنيقوس وكبلر وجاليليو ونيوتن مجرد أدوات للحساب والتنبؤ بشأن الظواهر وشيكة الحدوث. إنها لا تصف العالم ولا أي جانب من جوانبه، ولا يمكنها أن تفعل هذا؛ لأنها ببساطة خالية من المعنى. المصطلحات الواردة فيها من قبيل القوة والتثاقل والجذب والقصور لا معنى لها من حيث إنها لا تُشير إلى وقائع مدركة أو ملاحظات حسية أو ظواهر طبيعية، بل تصف خصائص غير مرئية لعالم غير مرئي، إنها مفاهيم خفية غامضة occult. وبالتالي فإن نظرية نيوتن لا تعني شيئًا، وليست تفسيرًا للعالم، بل هي ببساطة وهم Fiction رياضي وحيلة رياضية، لا يمكن أن تكون صادقة أو كاذبة، بل فقط مفيدة أو غير مفيدة. ويستعمل باركلي مصطلح «الفروض الرياضية» لهذا النوع من الحيل الخلو من المعنى لكن المفيدة، والتي وُضعت من أجل المواءمة الرياضية لاختزال وتيسير الحسابات.

وفي أعقاب باركلي جاء شيخ الفلسفة الحديثة إيمانويل كانط بنظريته في المعرفة التي تجعل العقل مزودًا بمقولات معينة تنصب في إطارها المعطيات الحسية، فتتشكل المعرفة. وهذا يعني: العقل هو الذي يفرض مقولاته وتصوراته على الطبيعة، وليست الطبيعة هي التي تفرض صورتها على العقل، كما توحي النزعة الاستقرائية التي تمثل التجريبية المتطرفة والمادية الخالصة. تلك هي الدرة الثمينة في فلسفة كانط التي تُوصف بأنها مثالية، واستفادت منها الأداتية وفلسفات علم مناهضة للأداتية، وسوف تستوعبها تجريبية القرن العشرين فتغدو متبصرة أكثر، وتمثل مركبًا جدليًّا يجمع خير ما في المثالية والمادية ويتجاوزهما إلى الأفضل، كما سبق أن فعل الرائد الأكبر برتراند رسل بطريقته.

وعلى مشارف القرن العشرين نجد أن الأداتية كاسم وكمسمى صيغت في إطار الفلسفة البرجماتية الأمريكية التي رأيناها تؤكد على أن الفكرة لا تُوصف بأنها صادقة أو كاذبة، بل بأنها مفيدة أو غير مفيدة، وارتهن المعنى عندهم بالنفع في الواقع العملي الذي يوجه السلوك ويرسم العمل كما تفعل الخريطة الجغرافية. ألقوا بالمشاكل المنطقية للصدق وراء ظهورهم، وعُني جون ديوي على وجه الخصوص بطرح النظرة الوظيفية للمفاهيم، وتبيان أن التفكير أداة للمعرفة والمعرفة أداة لتنظيم الخبرة، والعلم ذاته مجرد أداة كي يؤمن وجود الإنسان ويكفل له الانتصار في معركة الصراع من أجل البقاء، والمعيار هو الصلاحية لأداء هذه الوظيفة وليس الصدق أو الكذب. ويُستخدم مصطلح «الأداتية» أيضًا للدلالة على فلسفة ديوي. لا مغالاة إذن في القول: إن الأداتية هي تطبيق إبستمولوجي للبرجماتية في فلسفة العلم.

ومع كل هذه الأصول والأساس الذي ألقاه باركلي والريادة المباشرة لإرنست ماخ، فإن الأداتية احتلت موقعها المرموق في فلسفة العلم في القرن العشرين بفضل يعود إلى الفلسفة الفرنسية قبل سواها. وكانت الأصول المباشرة في حركة نقد العلم التي رأيناها تسود الفلسفة الفرنسية في القرن التاسع عشر حاملة التأثير الكانطي، وفي سياقه تلك الدرة الثمينة: العقل هو الذي يفرض تصوراته على الطبيعة. وكما رأينا في الجزء الأول من هذا الفصل، هدفت حركة نقد العلم إلى تحجيم الحتمية العلمية انتصارًا لحرية الإنسان، وكانت وسيلتهم إلى هذا هي الزعم بأن الحتمية العلمية مجرد أداة إبستمولوجية خالصة لتنظيم المعرفة العلمية والمشروع العلمي، ولا تنطوي البتة على أي تصور للوجود أو خبر أنطولوجي بشأن الواقع. ونذكر على وجه الخصوص إميل بوترو ورسالته «إمكان قوانين الطبيعة ١٨٧٤م» التي تؤكد أن الحتمية والضرورة فكرة عقلية خالصة لا توجد إلا في الأنساق المنطقية والرياضية، ويحاول العقل أن يفرضها قسرًا على تصوراته للواقع؛ لأن هذا مفيد للبحث العلمي، في حين أن الواقع خلو منها ويتسم بالتعددية والتداخل فهو احتمالي وقوانين الطبيعة ممكنة وليست ضرورية. وإذا اتسمت الأبنية الإبستمولوجية العلمية بالضرورة فلا يعني ذلك اتسام الواقع بها؛ لأن عالم الأعيان يختلف عن عالم الأذهان بتعبير الإسلاميين. الخلاصة أن حركة نقد العلم فسرت الحتمية العلمية تفسيرًا أداتيًّا، ثم واصلت الفلسفة الفرنسية تعميم هذا التفسير على النسق العلمي بأسره.

وكان هذا كشأن كل اتجاهات فلسفة العلم في القرن العشرين، مدفوعًا بثورة العلم الكبرى التي عرضها الفصل السابق. ولما كانت الأداتية في جوهرها مدًّا لنطاق فلسفة الرياضيات إلى العلم التجريبي، فإن ظهور هندسات لا إقليدية متسقة ومكافئة لهندسة إقليدس كان أقوى سند للفلسفة الأداتية، فقد اتضح أن مسلمات إقليدس ليست البتة حقائق مطلقة، بل متواضعات أبدعها العقل الإنساني، ثم اصطلحنا عليها؛ لأنها موائمة ونافعة. وما أسهل الزعم بأن اتخاذ هندسة إقليدس أو سواها مسألة متروكة للاختيار الحر المحكوم باعتبارات الفائدة البرجماتية والبساطة والمواءمة. وحين كشفت مبرهنة كورت جودل عن لا اكتمال في الأنساق الرياضية، مثلت هي الأخرى سندًا قويًّا، فهنالك صياغة غير قابلة للبت ولا يمكن إثباتها ولا إثبات نفيها، إذن قبولها أو رفضها لن يتم إلا على أساس برجماتي ولاعتبارات المواءمة. ويخرج الأداتيون من هذا بأن الحقائق الحسابية مثل الحقائق الهندسية، لا تُفرض على الذهن ويتوقف قبولها أو رفضها على المتواضعات التي اصطلحنا عليها. يختلف المنطق عن الهندسة ونظرية الحساب، ولا يخضع للرؤية الاصطلاحية فكل حقائقه مبرهنة ولا يمكن الاستغناء عن مسلماته، وقواعده كافية للاستدلال ولوضع معايير الملاءمة. ولكن ما أسهل أن نمد التفسير الأداتي إلى الفيزياء، بعد أن انهارت الفيزياء الكلاسيكية وصعدت فيزياء الكوانتم والنسبية. فشهد العلم نظريات متعددة لنفس الظاهرة كلها ذات صلاحية ومواءمة في حدود معينة يختار العقل أن يعمل في إطارها، الضوء جسيم وموجة، والإلكترون داخل الذرة جسيم له كتلة، وإذا خرج منها تحول إلى طاقة، ومبدأ هيزنبرج يكشف عن أثر أدوات الرصد على الظاهرة المرصودة؛ ليمكن الزعم بأنه ليس هناك واقع متعين يكشف عنه العلم. وأسفر اقتحام عالم الذرة بأسره عن معرفة استدلالية بحتة، ولم تعد النظرية العلمية تشير إلى وقائعه بعلاقة واحد إلى واحد كما تصور الكلاسيكيون. وعلى هذا نزعوا البعد الأنطولوجي عن المفاهيم العلمية وحولوها إلى أدوات. فهل المفاهيم الذرية كيانات حقيقية حتى وإن تعذر إدراكها؟ أم إنها مجرد أدوات تيسر الاستنباط والتنبؤ؟ بدا للأداتيين أن البديل الثاني أصوب وأقرب إلى واقع ممارسة البحث العلمي.

وعلى هذا الأساس أمكن لفلسفة العلم الفرنسية في القرن العشرين، بفضل بوانكاريه ودوهيم، أن تستهل طريقها بتأسيس أقوى صورة للاتجاه الأداتي تُعرف باسم الاصطلاحية Conventionalism، وتعني أن حقائق المنطق والرياضة متواضعات اصطلح العلماء على استخدامها تبعًا لرموز معينة وقواعد لصياغة التعريفات والمسلمات وللاستدلال، وتظل صادقة ما دامت تستخدم بطريقة متفقة مع هذه الرموز والقواعد، بصرف النظر عن معطيات الواقع. ومع بدايات القرن العشرين قام هنري بوانكاريه بتطبيق هذه الرؤية الاصطلاحية على الفيزياء، فتدين الاصطلاحية بنشأتها الناضجة إليه. أخرج بوانكاريه ثلاثة أعمال رائدة في فلسفة العلم هي «العلم والفرض ١٩٠٢م»، و«قيمة العلم ١٩٠٥م»، و«العلم والمنهج ١٩٠٨م». لقد كان فيلسوف علم وأيضًا عالم رياضيات عظيم الشأن. حصل على درجة الدكتوراه في الرياضة عام ١٨٨٣م، وأصبح أستاذًا للفيزياء الرياضية بكلية العلوم بباريس، وعضوًا بالأكاديمية الفرنسية للعلوم منذ عام ١٨٨٧م. «قبيل ظهور النسبية وبالتحديد عام ١٩٠٤م أعطى بوانكاريه محاضرة أشار فيها إلى أن نظرية نيوتن لا تستطيع تفسير الظواهر المستجدة في الفيزياء، وناقش إمكانية أن تحل نظرية أخرى محل الميكانيكا النيوتونية. فكان بوانكاريه أكثر من مجرد ممهد للنظرية النسبية».٥٢

رأى أن الفيزياء لا تنفصل أبدًا عن الهندسة، وكان منطلق اهتمامه المركزي الهندسات اللاإقليدية، رأى أن هندسة إقليدس ستظل دائمًا متربعة على عرش العلم لأنها الأبسط، ومع هذا لا توجد هندسة أفضل من الأخرى، فقط ثمة بدائل عديدة لحل المشكلة العلمية، ثم يتخذ العالم قرارًا باختيار بديل دون سواه، كما ذكرنا، ليست الوقائع التجريبية هي التي تحسم هذا القرار، بل الاعتبارات المنطقية المذكورة. إنها اعتبارات برجماتية وأيضًا جمالية. فماذا عسى أن يكون الجمال الخلاب سوى تكامل قيم الاتساق والبساطة والمواءمة، لكنه ليس الجمال الحسي المباشر الذي تتذوقه الحواس، بل هو نوع رفيع من الجمال لا يتذوقه إلا الذكاء العلمي.

كان بوانكاريه في طليعة المؤكدين على أن دور التجربة ليس ملزمًا بحال، بل فقط يتفاعل مع العوامل الأخرى لاتخاذ القرار، وأن الوقائع التجريبية لا تكفي أبدًا لتبرير المعرفة العلمية، فهي تعطينا ركامًا مهوشًا، ولا بد من عنصر في ذهن العالم يضفي الوحدة والنظام والنسقية على ركام الوقائع المتناثرة. وهذه في رأيه هي وظيفة العلم في مواجهة الوقائع، إنها التفسير والتنبؤ والسير نحو الوحدة. يميز بوانكاريه بين الواقع المعقد والقوانين البسيطة، وإذا كان هناك تعميم استقرائي فمهمته التنبؤ، وليجعل الواقع أبسط ويعبر عن الوحدة في مجال العلم «إبستمولوجيًّا»، ولكن لا يتبعها بالضرورة افتراض الوحدة أنطولوجيًّا. فكما رأينا، يجعل الأداتيون جميعًا الإبستمولوجيا في وادٍ والأنطولوجيا في وادٍ آخر.

بطبيعة الحال رفض بوانكاريه تمامًا التفسير التجريبي لأصول الرياضيات مع جون ستيوارت مل، وجعل الرياضيات عقلية خالصة. أما في الفيزياء فيميز بوانكاريه بين عناصر التجربة والنتائج الاختبارية وبين عناصر التعقل الرياضي والاصطلاح والفرض، موضحًا أننا نميل إلى الخلط بينهما، لكن لا بد من التمييز بين المبادئ والنظريات البحتة وبين القوانين الجزئية، ودور العناصر التجريبية في القوانين الجزئية فقط. صحيح أن التجربة تصدق على قوانين نيوتن الثلاثة، إلا أن التجربة لا يمكنها أبدًا انتهاك هذه القوانين أو إثبات خطأها، وستظل إلى أبد الآبدين صحيحة، فهي مجرد اصطلاحات وتعريفات متفق عليها ونحن نقبلها؛ لأنها الأبسط، ونمارس البحث العلمي كما لو كانت هي أبسط نظرية، على الرغم من صعوبة إثبات هذا. وأخيرًا انتهى بوانكاريه إلى أن هذه النظرة الاصطلاحية لا تنطبق على العلم التجريبي بأسره، بل فقط على المبادئ الأولية والنظريات البحتة والقوانين شديدة العمومية كقانون القصور الذاتي مثلًا، أما القوانين التجريبية الجزئية فليست اصطلاحية.

كان بوانكاريه عالمًا ثوريًّا تقدميًّا مشهودًا له بالنجاح، بينما هو فيلسوف علم محافظ، يتحفظ في تطبيق اصطلاحيته ذاتها. ثم يرى الإقليدية ستظل متربعة دائمًا على عرش العلم، ويصر على أن قوانين نيوتن فوق مطاول الاختبار التجريبي، وهذا ما نقضته تطورات العلم التالية في القرن العشرين.

أما بيير دوهيم (١٨٦١–١٩١٦م) فقد سحب التفسير الاصطلاحي على العلم بأسره، وذلك في كتابه «هدف وبنية النظرية الفيزيائية ١٩٠٦م»، رأى أن النظرية العلمية تمدنا بنظام صوري عام لضم عدد كبير من القوانين الجزئية. وهي بهذا بنية من كيانات مجردة، ليست وصفًا ولا تفسيرًا لوقائع العالم التجريبي، بل هي مجرد أدوات اصطلحنا عليها للتنبؤ، صيغت بحيث تكون أكفأ وتنبؤاتها أدق. كل ما يبدو وصفًا هو مجرد تعيين لعلاقات تجعل التنبؤ أسهل وأدق. أما التفسير فغير ذي قيمة ولا دور. مهمة العلم تنحصر في تحديد العلاقات بين الظواهر.

يتفق دوهيم مع بوانكاريه على دور الرياضيات الجوهري في أداء هذه المهمة. وأوضح دوهيم أننا حين نستخدم الرياضيات في العلم فإننا نعبر بها عن خصائص قابلة للقياس بطريقة اصطلاحية بحتة، وذلك عن طريق الرموز الرياضية التي تربط الظواهر بعلاقات فيما يسمى «بالفروض» وتترابط الفروض على أساس الطرق الرياضية، والنتائج تترجم إلى لغة الفيزياء لكي تصبح تنبؤات. وبشكل عام يلعب «الفرض» دورًا بارزًا في الفلسفة الاصطلاحية بأسرها.

لم يهتم بوانكاريه بتاريخ العلم، بينما كان دوهيم شديد الاهتمام به. وهذا الوعي التاريخي الفريد جعل دوهيم يرى النظريات العلمية في نشأتها ونموها ثم ذبولها لتحل محلها أخرى، ورفض تمامًا ما ذهب إليه بوانكاريه من أن قوانين نيوتن تظل دائمًا صحيحة ولا يمكن أن تنتهكها تجربة. كان دوهيم على عكس بوانكاريه الفيلسوف المحافظ والعالم الثوري التقدمي الناجح، أما دوهيم فهو فيلسوف ثوري تقدمي وعالم محافظ، بل رجعي وذو نجاح محدود، وعلى الرغم من قدراته المنطقية العالية، فإنه في كل قضية علمية تصدى لها اتخذ الجانب الخاطئ الخاسر، رفض معادلات ماكسويل الكهرومغناطيسية الفذة وانتصر لنظرية هلمهولتس التي راحت الآن في طي النسيان. لم يرحب بالفرض الذري في الفيزياء وهاجم النسبية بشراسة حين ظهورها، على الرغم من أن هذه الجوانب التي يرفضها هي الأكثر اتساقًا مع فلسفته الاصطلاحية.٥٣

ويبدو أن ما دفع دوهيم وأقرانه إلى مثل هذه المواقف المناوئة لخطى التقدم العلمي هو المذهب الاصطلاحي ذاته حين ينفصل عن الدلالة الأنطولوجية للقانون العلمي، ويرفض المحك التجريبي ومفهوم التجربة الحاسمة، وتغدو النظريات المتعاقبة أوصافًا متكافئة لنفس الظاهرة. ولن يعترف الاصطلاحيون والأداتيون عمومًا بتزايد المحتوى الإخباري أو عمق القوة التفسيرية للعالم الذي نحيا فيه. ولم يكن بوانكاريه موفقًا في هجومه على المدرسة المنطقية في أصول الرياضيات، تمامًا كما لم يكن ماخ موفقًا في رفضه للنظرية الذرية في الفيزياء، ولا كان دوهيم موفقًا في هجومه على النسبية.

ثم شهدت فلسفة العلم في القرن العشرين فلاسفة آخرين قادرين على جعل الاصطلاحية مسايرة وموائمة أكثر لخطى التقدم العلمي الثورية، منهم آرثر إدنجتون نفسه الذي ربط منزلة القوانين العلمية بمناهجنا لاكتساب المعرفة، ولويس C. I. Lewis الذي بحث في عناصر أولانية سابقة على الخبرة التجريبية تتسلل إلى نسق العلم في شكل التعريفات والتصنيفات والمعيار المقبول ضمنًا للحقيقة. ذهب لويس إلى أنه لا توجد معرفة بدون تأويل عقلي، والتأويل يعتمد على هذه العناصر الأولانية، وفي إطارها ينمو العلم ويتطور بحيث إن ما يبدو قانونًا تجريبيًّا قد يصبح في مرحلة لاحقة مبدأً اصطلاحيًّا، وأخرج لويس عملية «العقل ونظام العالم ١٩٢٩م»، و«المفهوم البرجماتي للأولانية ١٩٣٢م»، وهما من العروض الهامة للمذهب الاصطلاحي. ثم عمل آرثر باب A. Pap على تطوير نظرية لويس في التصور البرجماتي للمعرفة الأولانية، وأخرج كتابه «الأولانية في النظرية الفيزيائية ١٩٤٦م»، حيث يؤيدها بالممارسات الفعلية وإجراءات البحث العلمي في الفيزياء.
وها هنا نعرج على صورة أخرى من الصور القوية التي اتخذتها الأداتية في فلسفة العلم، وهي الصورة التي تُعرف باسم الإجرائية Operationalism. صاغ هذا المصطلح العالم الفيزيائي بيرسي بريدجمان P. W. Bridgman الحاصل على جائزة نوبل عام ١٩٤٦م عن دراساته لفيزياء الضغوط العالية، وقدم لفلسفة العلم كتابيه «منطق الفيزياء الحديثة ١٩٢٧م»، و«طبيعة النظرية الفيزيائية ١٩٣٦م»، حيث نجد عروضًا للإجرائية. إنها مذهب يربط المفاهيم العلمية بإجراءات البحث العلمي والتجارب المعملية ومحصلات الملاحظة، ويستبعد كل المفاهيم التي لا تتعين إجرائيًّا بوصفها ليست تجريبية، وبالتالي يغدو النسق العلمي بأسره أدوات للبحث. فأي قانون مؤلف من مفاهيم، وأي مفهوم هو طريقة قياسه والإجراءات التي تتخذ بشأنه، فلا يمكن الحكم على القانون العلمي بالصدق أو الكذب ولا معنى لهذا.

يزعم الإجرائيون أن مفاهيم المتصل الزماني المكاني والتآني والتكافؤ في النظرية النسبية هي التي فرضت المنظور الإجرائي، خصوصًا بعد أن تقدم مفهوم «التعريفات الإحداثية» الذي أشار إليه الفصل السابق من جراء تطبيق النسبية لهندسة ريمان. إن النظرية النسبية بأسرها فروض عبقرية غاية في التجريد، ولا يمكن فهمها حقيقة إلا بوصفها إجراءات معينة للبحث العلمي. هكذا دأب بريدجمان على تعريف المفاهيم العلمية بواسطة عمليات قياسها وتكميمها؛ لتتلاقى الإجرائية مع معايير الوضعية المنطقية الدالة على المعنى. والواقع أن بريدجمان يكاد يتخذ موقفها، فما هو الطول؟ هو إجراءات قياسه؛ ليكافئ المفهوم ما هو ملاحظ بشأنه، لا من وقائع تجريبية، بل من إجراءات فعلية. وعلى الرغم من أن هذا التعريف الإجرائي قليلًا ما استخدمه العلماء وفلاسفة العلم، فإن بريدجمان يرى أن الإجرائية تعبر عما يحدث بالفعل في الواقع العلمي. وهكذا يعمل العلماء أنفسهم بالنظريات والقوانين والمفاهيم العلمية. وباقتدار وتطرف واصلت الإجرائية ما دأبت عليه الأداتية من حذف مفهوم الحقيقة العلمية والواقع والصدق وإمكانية التحقق من القانون أو تكذيبه.

وإذا كانت الإجرائية مذهبًا أداتيًّا طرحه علماء محترفون، فثمة مذاهب أخرى للأداتية في فلسفة العلم طرحها فلاسفة محترفون، ساروا في الاتجاه الأداتي الذي يجرد النظرية العلمية من مضمونها المعرفي ودلالتها الأنطولوجية. وأول من يتقدم في هذا الصدد الفيلسوف الألماني هانز فاينجر H. Vaihinger (١٨٥٢–١٩٣٣م) الذي يُعد المواصل الحقيقي لميراث الرائد الأول باركلي وفلسفته عن الوهم الرياضي. درس فاينجر الدين والأدب والأساطير الإغريقية، وتأثر بنظرية دارون وبالفلسفة الكانطية. ورأى أننا لن نعرف حقيقة العالم، فلننظر أي التصورات التي نتوهمها أقدر على التعبير عن العالم، ويتصرف العقل «كما لو» كان العالم هكذا. وضع فاينجر فلسفة الأوهام fictions، الوهم يعني إهمال الواقع والانفصال عنه؛ لينصب الاهتمام على تشييد كيانات ذهنية تتصف بخصائص معينة. هكذا تشيد النظريات العلمية، بيد أنها أوهام مفيدة وسليمة بخلاف الأوهام الأسطورية الفارغة. وأوضح الأمثلة على أن مفاهيم العلم كيانات وهمية هو اللامتناهي الرياضي، سواء في الصغر أو في الكبر. إنه منفصل عن الواقع وتوهمه العقل ليفتح أمامه آفاقًا أوسع. إن الأبنية العلمية كيانات وهمية ترشد العقل لتحقيق المهام المنوطة بالعلم، حتى إذا أدت دورها زالت وحلت محلها نظريات أكثر تقدمًا؛ أي أوهام مفيدة أكثر. من هنا كانت الأوهام العلمية مؤقتة ومتطورة، بينما تتحجر الأوهام الأسطورية وتبقى دائمًا، النظرية المعمول بها هي الوهم العلمي الراهن، وتعني أن نعمل على تحقيق مهام العلم «كما لو» كان العالم بالصورة التي ترسمها النظرية. من هنا صاغ فاينجر فلسفته عن الأوهام العلمية في كتابه الشهير الصادر في برلين بعنوان «فلسفة كما لو ١٩١١م».
وفي النصف الثاني من القرن العشرين يظل الإنجليزي ستيفن تولمان S. Toulmin (١٩٢٢م–؟) من أهم الفلاسفة المحترفين الذين أفادوا الأداتية وطوروها وجعلوها تدفع فلسفة العلم إلى آفاق مستشرفة، بأعماله الكثيرة وأهمها: «فلسفة العلم ١٩٥٨م»، «البصيرة والفهم ١٩٦١م»، «الفهم الإنساني ١٩٧٢م»، وهو يشبه القانون العلمي بالخريطة الجغرافية التي توجه السائر وترشده في التعامل مع الواقع دون الزعم بأن الخريطة صورة طبق الأصل من الواقع. ويتميز تولمان بقدرته على تجسيد وعي الأداتية الفريد بتاريخ العلم والذي ناهضته الوضعية المنطقية؛ لذلك سوف يحتل موقعه بين فلاسفة الردح الأخير من القرن العشرين الواعدين بآفاق مستقبلية لفلسفة العلم، وسوف نعود إليه مجددًا.

إن الأداتية بلا جدال تيار قوي ومتميز يملك حيثياته، ويمثل إضافة حقيقية لفلسفة العلم ونجح في حل مشاكل منهجية فنية معقدة. وأجمل ما في الأداتية أنها تبرز دور العقل الإنساني المبدع في مواجهة الواقع وفي خلق قصة العلم، فتومئ لأهمية تاريخ العلم، وكانت قوة جذب لفلاسفة وفرق شتى. تستطيع الأداتية أن تفسر بطريقتها زوال النظريات العلمية بعد أن كانت عمدًا، ولماذا تعمل نظرية نيوتن في الماكروكوزم ومستوى الخبرة العادية حيث نعتمد عليها، ونحن نعلم أن هناك نظرية أفضل هي النسبية، وأيضًا كيف تدب الحياة ثانيةً في نظرية ماتت ودفنت كما حدث لفرض الذرة. إنهم يرون الواقع ثابتًا والعلم متغيرًا. وإذا اعتبرنا النظريات العلمية ليست تمثيلًا للواقع بل مجرد أدوات نصطلح عليها لتسفر عن إجراءات معملية، فنعدل هذه الأدوات ونطورها، استقامت النظرة إلى طبيعة المعرفة العلمية في مواجهة الواقع، وأصبح من السهولة أن يتدفق التقدم والتغير في العلم واستبدال نظرية بأخرى. لم يعد الحكم قاطعًا بأن هذه النظرية صادقة وتلك كاذبة، بل فقط ثمة نظرية أفضل وأكثر تقدمًا؛ ليس لأنها الأصدق، بل لأنها الأبسط والأنفع والأكثر مواءمة. وعلى مشارف القرن الحادي والعشرين، حين احتلت برامج الحاسب الآلي موقعها على صدر المسيرة المعرفية استبينت أكثر فعالية وجدوى التفسير الأداتي والإجرائي للأنساق العلمية.

ولكن مهما كانت إيجابيات الأداتية، ومهما أمكن الاستفادة منها في هذه الزاوية أو تلك، يصعب كثيرًا موافقتهم على نزع الدلالة الأنطولوجية عن العلم بأسره؛ لينصرف العلم والفلسفة جميعًا عن المشكلة الأنطولوجية ولا يبقى إلا أدوات مفيدة أجل لكن خاوية من المضمون. كيف تغض الفلسفة النظر عن الانسجام الآسر والمتنامي بين العلم وبين الواقع الفيزيقي الذي يوجهه ويدفعه نحو مزيد من التقدم؟! خصوصًا وأن الفيزياء كانت محور فلسفة العلم طوال القرن العشرين، ويظل العلم دائمًا ذا دلالة إخبارية هي أصدق وأفضل ما نملك، ولا نستطيع أن نلقيها وراء ظهورنا مع الأداتيين. فقال ماكس بلانك: «إن نشاط الأداتيين ضروري ونافع، ولكنه ينطوي على خطر لا يستهان به، وهو أن الصورة الفيزيائية للعالم يختفي معناها فتظهر صورة فارغة من المحتوى.»٥٤ وفنَّد رسل الإجرائية ببساطة حين أشار إلى أن العلماء كثيرًا ما يتحدثون عن إجراءات معملية أفضل من إجراءات أخرى للوصول إلى نتيجة معينة. معنى هذا أن هناك معيارًا يعلو على الإجراءات المعملية ويفاضل بينها، فكيف تحدد الإجراءات كل شيء؟!
ثم تقدم كارل بوبر بالنقد الحاسم فعلًا. فإذا كان إرنست ناجل يأخذ على هنري بوانكاريه أنه لم يميز بين الهندسة البحتة والهندسة التطبيقية، فإن بوبر يوضح خطورة إصرار الأداتية على أن تغفل أصلًا الفوارق الجوهرية العميقة بين العلوم البحتة والأساسية وبين التطبقيات التكنولوجية، فتنظر الأداتية إلى ميكانيكا نيوتن مثلًا تمامًا كما تنظر إلى القواعد الحسابية Computation rules لوضع جداول الملاحة أو ضبط عمل آلة التصوير الفوتوغرافي أو سواهما من تمثلات العلوم التطبيقية والهندسية،٥٥ في حين أن الفوارق ضخمة بين الجانبين سواء في البنية أو في الدور الإبستمولوجي أو في الاعتبارات المنهجية … إلخ. والنظرة الأداتية التي توحد بين الجانبين وتغفل هذه الفوارق الجوهرية تنطوي على تشويه جسيم لتصور العلم وفلسفته. هذا فضلًا عن أن بوبر يصر إصرارًا على أن الرؤية الواقعية للعالم وفكرة الاقتراب التدريجي من الصدق ضروريان ولا يمكن الاستغناء عنهما لتفهم منطق العلم أو فلسفته. لقد أخرج بوبر أكثر من دراسة لمناقشة ونقد الأداتية من زوايا عديدة، على أن نقده للوضعية المنطقية أعنف وأكثر تفصيلًا وأعمق تأثيرًا على تطور فلسفة العلم.

الأداتية والوضعية المنطقية كانتا التيارين الأساسيين المشكلين لفلسفة العلم في أواسط القرن العشرين، مثَّلا تطورًا ملحوظًا حين جعلا التجريبية منطقية. فعلت الوضعية هذا حين صبت الأساس الاستقرائي لتبرير العلم في القرن التاسع عشر في قالب منطقي هو معيار التحقق أو لغة العلم، هذا القالب قادر على تمييز المعرفة العلمية وتبريرها. أما الأداتية ففعلت هذا عن طريق معايير منطقية كالاتساق والبساطة قادرة على تمييز المعرفة العلمية وتبريرها. في كلتا الحالتين فلسفة العلم هي منطق تبرير المعرفة العلمية، تبرير يسوغ الوضع القائم وقد يمهد لتطوراته المقبلة.

ربما كانت الأداتية أكثر معقولية وتفتحًا وإيجابية. لكنها كما رأينا اتجاه شاع بين فلاسفة وفرق شتى واتخذ صورًا متعددة، لم تكن مذهبًا محددًا بمنهاج متعين ومشروع مرسوم أو فريق عمل متكاملًا كشأن الوضعية المنطقية التي تصدرت الواجهة. استطاعت الوضعية أن «تستوعب الأداتية بنقاط الالتقاء المشترك فضلًا عن أنها استخدمت الأداتية صراحة لمواجهة عدم قابلية النظريات العمومية للتحقق، فميزت الوضعية المنطقية بين العبارات التي تشير إلى وقائع ملاحظة وبين النظريات، الأولى تفترض عالمًا واقعيًّا، والثانية مجرد أدوات وحيل منطقية للربط بين الظواهر ولا تلتزم بتعيين الواقع التجريبي. وبجانب هذا تتقدم الوضعية المنطقية بوصفها مواصلة للمسيرة الرسمية لفلسفة العلم التي بدأت في القرن التاسع عشر بالنزعة الاستقرائية. ومع تعنت الوضعيين المنطقيين وحدَّة مواقفهم وصلابتهم وتماسكهم وتدفق أعمالهم نجدهم في الربع الثاني من القرن العشرين وقد استبدوا تمامًا بفلسفة العلم وكادوا أن ينفردوا بالميدان حتى استقر في التصورات العامة أن فلسفة العلم هي الوضعية المنطقية، هي تبرير المعرفة العلمية.

وكان كارل بوبر أعظم فلاسفة العلم في القرن العشرين وأهمهم وأخطرهم تأثيرًا؛ لأنه كان قادرًا على مواجهة كل هذا، وإحداث التطور الجوهري في فلسفة العلم الذي يفتح أمامها آفاقًا مستقبلية بلا حدود، ما دام ينتقل بها نقلة جذرية من منطق تبرير المعرفة العلمية إلى منطق الكشف العلمي والتقدم المطرد.

فكيف كانت فلسفته للعلم التي أدت إلى كل هذا؟

١  الشيخ المولوي محمد أعلى بن علي التهانوي، كشاف اصطلاحات الفنون، خياط، بيروت، ١٩٦٦م، الجزء الأول (المقدمة)، ص٣٣.
٢  الكليات الخمس هي: الجنس والنوع والفصل والخاصة والعرض العام، وعن طريقها يتم التعريف المنطقي للحدود.
٣  George Henrik fon Wright, Logic and Philosophy in The Twentieth Century.
وهي محاضرة افتتاح المؤتمر الدولي للمنطق ومناهج البحث وفلسفة العلم، أوبسالا، السويد، أغسطس ١٩٩١م.
٤  د. محمد مهران، مقدمة في المنطق الرمزي، دار الثقافة، القاهرة، الطبعة العاشرة، ١٩٩٩م، ص٣٦-٣٧.
٥  Irving M. Copi, Introduction To Logic, Macmillan, New York, 5th, Ed., 1978, P. 264.
٦  Bertrand Russell, Philosophy in the Twentieth Century, In his: Sceptical Essays, George Allen & Unwin, London, 1928, PP. 54–79, P. 72.
٧  B. Russell, Our Knowledge of External World (1914), George Allen & Unwin, London, 2nd ed., 1926, P. 42.
٨  التهانوي، كشاف اصطلاحات الفنون، الجزء السادس، ص١٣١٨.
٩  L. Wittgenstein, Tractatus Logico-Philosophicus, Trans, By C. K. Ogden, Kegan Panl, London, 1933, 4, 112.
١٠  Ludwig Wittgenstein, Philosophical Investigations, trasn by G. Ans-comb, Basil Blackwell, Oxford, 1958, Preface P.ix.
١١  Ibid, Passage 244, P. 89.
١٢  Anthony Kenny, Wittgenstein, Harvard University Press, 1973, P. 104.
١٣  Timothy Binkley, Wittgenstein’s Language, Nortinus Nijhof, The Hague, Netherland’s, 1973, P. 214–216.
١٤  د. محمد ثابت الفندي، في فلسفة الرياضة، ص١٤٣-١٤٤.
١٥  برتراند رسل، العقل والمادة ومقالات أخرى، ترجمة أحمد إبراهيم الشريف، مكتبة المتنبي، القاهرة، ١٩٧٥م، ص٣٦.
١٦  G. H. Von Wright, Logic and Philosophy in The Twentieth Century, P. 14-15.
١٧  نقلًا عن د. محمد مهران، فلسفة برتراند رسل، دار المعارف، القاهرة، ط٣، ١٩٨٦م، ص٦.
١٨  Ralph Schoenman, Bertrand Russell: Philosopher of the Century, George Allen & Unwin, London, 1967.
١٩  Bertrand Russell, My Philosophical Development (1959), George Allen & Unwin, London, 3rd ed., 1969, p.254.
٢٠  د. محمد مهران، فلسفة برتراند رسل، ص١٩٦-١٩٧.
٢١  وأيضًا الفرنسية والإيطالية، فضلًا عن أن لغته الأم آية من آيات النثر الإنجليزي البديع.
٢٢  B. Russell, My Philosophical Development, P. 44.
٢٣  B. Russell, My Mental Development, In: P.A. Schilpp (ed.), The Philosophy of Bertrand Russell, Vol, V of: The Library of Living Philosophers, Evanston, Illinois, (1944), 2nd, Ed., 1946, PP. 1–20. P. 11.
٢٤  B. Russell, The Autobiography, Unwin Books, London, 1975, P. 147.
٢٥  لذلك حين وضع رسل مع وايتهد «أصول الرياضيات» جعلا اسم الكتاب باللاتينية «برنكيبيا ماتيماتيكا» ليتمايز عن هذا الكتاب الصادر العام ١٩٠٢م الذي يحمل نفس الاسم «أصول الرياضيات»، والجدير بالذكر أن هذا الكتاب الأخير له ترجمة عربية جيدة قام بها د. محمد مرسي أحمد أستاذ الرياضيات، ود. أحمد فؤاد الأهواني أستاذ الفلسفة في تشارك جميل وخصيب بين العلم والفلسفة، تكرر في ترجمتنا لكتاب «فلسفة الكوانتم» بمشاركة أستاذ الفيزياء د. أحمد فؤاد باشا.
٢٦  B. Russell, Nightmares of Eminent Persons and Other Stories, The Bodley Head, London, 1954, PP. 40–44.
٢٧  عن: برتراند رسل، العقل والمادة، ترجمة أحمد إبراهيم الشريف، ص٣٥٩.
٢٨  B. Russell, The Analysis of Matter (1927), George Allen & Unwin, London, 1954, P. 314.
٢٩  B. Russell, The Analysis of Mind, Gerge Allen & Unwin, London, 1921, P. 387.
٣٠  B. Russell, The Analysis of Matter, P. 389.
٣١  برتراند رسل، ألف باء النسبية، ترجمة فؤاد كامل، مركز كتب الشرق الأوسط، القاهرة، ١٩٧٢م، ص١٢٦.
٣٢  برتراند رسل، العقل والمادة، ترجمة أحمد إبراهيم الشريف، ص٢٠٨.
٣٣  C. A. Fritz, Bertrand Russell’s Construction of External World, Routledge & Kegan Paul, London, 1952, P. 191–194.
٣٤  Donald Gillies, Philosophy of Science in Twentieth Century, m Blackwell, Oxford, 1993, P. 14-15.
٣٥  يذكر هنتر ميد أنهم أصبحوا يفضلون اسم التجريبية المنطقية دون سواه، ويرون أنه هو المعبر عن فلسفتهم في تطوراتها الأخيرة (هنتر ميد، الفلسفة: أنواعها ومشكلاتها، ترجمة د. فؤاد زكريا، دار نهضة مصر، القاهرة ١٩٦٩م، هامش ص٢٣٧).
٣٦  J. Passmore, A Hundred Years of Philosophy, Penguin Books, London, 1975, P. 367.
٣٧  A. J. Ayer, Language, Truth And Logic (1936), Penguin Books, London, 1974, P. 8–11.
٣٨  Norton White, The Age of Analysis: 20th, Century Philosophers, Mentor Books, New York, 1957, P. 210.
٣٩  James Griffen, Wittgenstein’s Logical Atomism, Oxford University Press, 1965, P. 102-103.
٤٠  كارل همبل، فلسفة العلوم الطبيعية، ترجمة د. جلال موسى، دار الكتاب العربي، القاهرة، ١٩٧٦م، ص٤٥.
٤١  R. Carnap, The Logical Syntax of Language, Routledge & Kegan Paul, London, 1951, P. 318.
٤٢  Ibid., P. 375.
٤٣  د. زكي نجيب محمود، قصة عقل، دار الشروق، القاهرة، ١٩٨٣م، ص٩٢.
٤٤  د. زكي نجيب محمود، من زاوية فلسفية، دار الشروق، القاهرة، ١٩٧٩م، ص٨ وما بعدها.
٤٥  يان لوكاشيفتش، نظرية القياس الأرسطية، ترجمة د. عبد الحميد صبرة، منشأة المعارف، الإسكندرية، ١٩٦١م، من مقدمة بقلم المترجم، ص١٣.
٤٦  هنري بوانكاريه، قيمة العلم، ترجمة الميلودي شغموم، دار التنوير، بيروت، ١٩٨٢م، ص٨٩.
٤٧  P. Duhem, The Aim And Structure of Physical Theory, Trans by P.P, Wiener, Princeton, New Jersy, 1954, P. 281.
٤٨  H. Poincare, Science And Method, Trans, By F. Maitland, London, P. 178.
٤٩  M. Cohen, Reason And Nature, P. 202.
٥٠  آلان شالمرز، نظريات العلم، ترجمة الحسين سحبان وفؤاد الصفا، دار توبقال، الدار البيضاء، ١٩٩١م، ص١٥٠.
٥١  R. Harre, The Philosophies of Science, Oxford University Press, 1985, P. 88.
٥٢  D. Gillies, Philosophy of Science in The Twentieth Century, P. 66.
٥٣  Ibid, P. 107.
٥٤  د. ياسين خليل، منطق المعرفة العلمية، منشورات الجامعة الليبية، ١٩٧١م، ص١٦٤.
٥٥  K. Popper Realism And The aim of Science (1983), Routledge, London, 1994, P. 112 et s-eq.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤