الفصل التاسع عشر

عودة الموت الأسود

هل اختفى الطاعون النزفي أخيرًا عام ١٦٧٠، أم أن هذا لم يحدث؟ عندما كانت محطة تليفزيون دنماركية تعد برنامجًا عن عملنا، أخبَرَنا المنتجُ عن طاعون كوبنهاجن عامَ ١٧١١؛ فكل شيء متعلق بهذا الوباء يتطابق مع أوصافنا لانتشار الطاعون النزفي كما ذكر. حَمَلَنا هذا على التفكير حقًّا؛ لأنه لو كان هذا صحيحًا، فإن المرض لم يَخْتَفِ تمامًا عامَ ١٦٧٠ كما اعتقدنا واعتقد الجميع، ولكنه عاود الظُّهور بعدها بأربعين عامًا، وغالبًا في أكثر من مناسبة، كما اكتشفنا من قراءتنا اللاحقة. إذا كان قد نجح في معاودة الظُّهور مِرارًا وتَكْرارًا على مدار ٢٠٠٠ عام من مَكْمَنِهِ أينما كان، فلِمَ يُفترضُ أنه لن يُجَدِّدَ الْكَرَّةَ؟

باستخدام مُخَيِّلَتِنا وما توصلنا إليه فِعْليًّا حتى الآن، يمكننا أن نوضِّح كيف ظل هذا المرضُ متربصًا وقادرًا على الانقضاض مرةً أخرى فجأةً على الجنس البشري. يبدو السيناريو الآتي نصًّا سينمائيًّا لفيلم رُعب، لكن هل هو شديد البُعد عن الحقيقة؟

(١) في وقتٍ ما من القرن الواحد والعشرين

أعاد علماءُ البيولوجيا الذين كانوا يعملون عن كَثَبٍ مع الرئيسيات في غابات وَسْط أفريقيا الكثيفةِ الطاعونَ النزفي إلى العالم الغربي؛ فقد عادوا إلى مَسْقَطِ رأسهم في لندن، ونشروا العدوى عن دُونِ قَصْد على نِطاق واسع لدى تنقلهم بشكل يومي في المواصلات العامة المزدحمة. وقد سمح مترو أنفاق لندن، المزدحم بالركاب المتغيرين باستمرار، بانتقال الفيروس إلى عدد كبير من الضحايا الوافدين إلى العاصمة في نطاق دائرة نصف قطرها ٢٥ ميلًا. بعض هؤلاء الضحايا كانوا زُوَّارًا من مختلف أنحاء العالم. نشرت كافة الرحلات إلى النوادي الرياضية، والمسارح والسينمات العَدْوَى على نطاق واسع قبل ظُهور الأعراض على أيٍّ من الضحايا.

عندما لَقِيَتِ الحالاتُ الأولى حَتْفَها، أدركت السلطات الصحية أن مرضاها كانوا قد أُصيبوا بمرض خطير مجهول؛ فاتخذوا الاحتياطات المناسبة، بما في ذلك ارتداء ملابس الوقاية الكاملة لدى تمريض الضحايا في أيامهم الأخيرة. وُضِعَت الجثث في أكياس خاصة مُحكَمة، وفيما عدا ذلك لم يكن بمقدورهم فعلُ شيءٍ آخرَ.

لم يتضحْ حجمُ الوباء إلا عندما بدأت جُموع حالات المرحلتين الثانية والثالثة في الظُّهور في كل أنحاء المملكة المتحدة. في نهاية المطاف أعلن رئيس الخدمات الطبية أنه يوجد وباءٌ كبير لمرض فتاك مجهول، ينتشر سريعًا وعلى نطاق واسع، وأن الموقف خارج عن نطاق السيطرة. واعتُقد أنه مرض ناشئ جديد قادم من أفريقيا، وأغلب الظن أنه انتشر عن طريق العدوى الرَّذاذية، وفيما خلا ذلك لم يَعْرِفِ الأفرادُ أيَّ شيء عن الأسس العلمية لطبيعة هذا الوباء ومَنْشَئِه، وكان قد فات الأوانُ فقد وقعت الخسائر بالفعل، وانعزلت بريطانيا تمامًا، فلم يكن شيء يدخل عبر الموانئ أو نَفَقِ القنال الإنجليزي، فما من أحد في العالم سيجازف بالمجيء إلى وَكْر مثل هذا المرض الشنيع. كان البريطانيون وَحْدَهم، وتَعَيَّنَ عليهم أن يَعُولوا أنفسهم.

ثبت أنه من المستحيل فَرْض حَجْر صحي على التمدد العمراني الشاسع لضواحي لندن، وفي جميع الأحوال كان ذلك عديم الفائدة، بسبب الانتشار السريع للمرض عبر الأقاليم. لقد كان خارجًا عن نطاق السيطرة؛ فقد كان هناك أناسٌ كثيرون مكتظُّونَ في جزيرةٍ بالغة الصغر.

فَضَّلَتِ الآفةُ المرعبةُ بالأخص المراقصَ، ومراكزَ التسوق، والسينمات، ومباريات كرة القدم، والمكاتب والحانات مركزية التدفئة، فأُغْلِقَتْ جميعُها بأمر القانون. في غُضون أسابيع قليلة، استطاعت العدوى أن تُودِيَ بحياة معظم أطفال إحدى المدارس، الذين ذهبوا إلى منازلهم — إبَّان فترة الحضانة الطويلة — وحملوا الآفة إلى عائلاتهم. وهكذا أُغلقت جميع المؤسسات التعليمية.

في النهاية، رفضت المستشفياتُ استقبالَ أي ضحايا لهذا المرض المريع والغامض؛ فقد امتلأتْ عن آخِرِها، ولم تشأ استقبالَ المزيد من الأفراد حاملي العدوى، وعلى كل حال كان استقبالُها لهم عديمَ الفائدة؛ إذ إنها لم تستطع علاج هؤلاء المرضى.

من المثير للدهشة أن مجموعة من الأشخاص في إنجلترا كانوا مقاومين للمرض (نحن نعرف السبب الآن)؛ فلم يُصابوا بالمرض حتى بعد الاتصال المتكرر عن قُرْب بالأشخاص حاملي العدوى، بل الأمر الأكثر إثارةً للدهشة هو أن بعض الأشخاص كانوا يُصابون بالمرض، لكنهم تعافَوْا تمامًا رغم مرضهم مرضًا شديدًا. كانوا يبرزون من بيوتهم، راجفين ومَهازِيل، ينظرون إلى العالم المتحول بالخارج. لكنهم ما لبثوا أنْ صارت لديهم مشكلات مُلِحَّة أخرى يقلقون بشأنها.

واحدة من المشكلات التي لم تَكُنْ لتخطر على بالٍ، كانت التخلص من جثث الضحايا. أكانت الجثث مُعدية؟ لقد تطور كل شيء سريعًا جدًّا، لدرجة أن علماء الأحياء الدقيقة الطبيين كانوا عاجزين عن الإجابة على هذا السؤال البدائي. ورفض الأصحاء الاقتراب سواء من الجثث أو المنازل التي مات أصحاب الجثث فيها. هكذا كان الأفراد يَجُرُّونَ الجثث فحَسْبُ إلى الحدائق في الضواحي والريف، وفي البداية كان يدفنونها في قُبور ضحلة، إلا أنهم سرعان ما أصابتهم حالة من اللامبالاة المخيفة؛ فهم على كل حال سوف يموتون جميعهم ميتة مرعبة، فتركوا الجثث تحت رحمة الظُّروف المُناخية والكلاب الضالَّة والجُرذان. لم يكن هذا خيارًا لقاطني المدينة، وبالأخص لأولئك الذين يعيشون في وحدات سكنية في ناطحات السحاب، ففي يأس، كانوا يُلْقُون الجُثث هناك إلى الشوارع، ويتركونها لتتعفن، وكانت النتائج تفوق كل وَصْف.

عندئذ تفشت أوبئةُ الكوليرا والتيفود في الكثير من البلدات، وخرجت ملايين الجُرْذان البُنِّيَّة بكل جراءة من المجارير، وكانت على وشك احتلال تلك الأماكن.

بدأت مظاهر الحياة في التوقف تمامًا، وأُغلقت معظم المكاتب والمصانع؛ ونظرًا لأن الجميع تقريبًا كانوا يعملون في وظائفَ غيرِ حيوية، لم يمثل ذلك أهمية كبرى، لكن الأمر الكارثي هو أن سُبُل التوزيع والحُصول على المؤَن توقفت أيضًا.

للتَّوِّ بدأ التهافُت على الشراء وجُنون تخزين الغذاء. ارتفعت الأسعار إلى عشرة أضعافها واكتظت الأسواقُ المركزية بالأفراد الذين كانوا يحاولون تفريغ الأرفُف، وهي ظُروف مثالية لنشر المرض.

حالما جَرَى استهلاكُ هذه الأغذية، لم يَتَّبَقَّ هناك سوى مُؤَنٍ محدودة أخرى، ولم تُرْسَ مبادئ ترشيد الاستهلاك لأن الغذاء المتوافر كان محدودًا للغاية بحيث تعذر توزيعُه، ولم يَكُنْ هناك متَّسعٌ من الوقت لتأسيس بِنْية تحتية للمؤن والإنتاج الغذائي، وقد كان من المستحيل أن تختبئ وتعزل نفسك؛ لأنه كان لا بد أن تتحرك وتبحث عن أي مصدر للغذاء إن كان مقدرًا للعائلة النجاة. وانتشر النهب والسرقات الصغيرة، وطافت العصابات المسلحة بالسكاكين — أو أي أسلحة أخرى طالتها أيديها — في الشوارع، مستوليةً على أي طعام يمكن أن تجدَه.

لجأت الكثير من المجتمعات الريفية إلى الذبح الجماعي للخِراف والغنم، ولم يكن بِيَدِ المزارعين كثيرٌ من الخيارات، مع أنهم كانوا يطلقون النار بلا رادعٍ على من يَضْبِطونه. خفف هذا ظُروفَ المجاعة إلى حين، إلا أنه لم يَكُنْ ذا نفعٍ كبير لقاطني المدينة؛ إذ لم يكونوا قادرين على بُلوغ الريف، وحتى لو تمكنوا من الاستيلاء على خروف، فلم يكونوا ليستطيعوا ذبحه وسلخه وتقطيعه.

أَسْدَتِ السلطاتُ نصيحةً — فيما يَنِمُّ عن حكمة كبيرة — ما مَفاده أنَّ تجَمُّع الناس في مَقارِّ أعمالهم يمثل خُطورة عليهم، إلا أنه عندما امتنع عمال مصانع الطاقة عن الحُضور إلى العمل تدهورت إمدادات الكهرباء. ولم تُجْدِ وُعودُ الحكومة بأُجور مبالغ فيها للغاية؛ فقد صارت النُّقود الآن بلا قيمةٍ على الإطلاق. كانت الكهرباء — وليس البنزين — هي شِرْيان حياة هذا الاقتصاد المتطور، ولم يَعُدْ حتى بمقدور كثير من الناس تعقيمُ مياه الشرب بِغَلْيِها.

انهار نسيج الحياة المعقدة في القرن الواحد والعشرين تمامًا. لقد ولَّى منذ زمن طويل الاستقلالُ والاكتفاءُ الذاتيُّ الصارمان اللذان عاشَهما الأجداد، وبات الناس يَحْيَوْنَ حياةً مصطنعة تمامًا بِناءً على تكنولوجيا الكمبيوتر، التي يحركها الوضع المالي الدولي والاقتصاد العالمي. لقد كانوا محاطِينَ بالتدفئة المركزية، والثلاجات، والتليفزيونات، ووسائل المواصلات السريعة، والأطعمة المُعالجة، وأجهزة الميكروويف، ومجموعة من الأجهزة الكهربائية، والصناعات الدوائية. لم تَكُنْ هناك مشكلةٌ تَعْجِز التكنولوجيا عن حَلِّها.

كان الناس مَهَرَةً في تصفُّح الإنترنت، إلا أنهم فقدوا رغبتهم الغريزية في البقاء. لقد ابتعدوا عن جُذورهم للغاية ولم يعودوا قادرين على تحقيق الاكتفاء الذاتي. لقد اكتظ المكان بهم ومن ثَمَّ أَنْهَكُوا التربة، وكانوا يُعَوِّلون بشدة على مؤن الطعام التي تأتي من الخارج. أفراد قليلون في القرن الواحد والعشرين هم من رَأَوُا الطعامَ في مرحلة إنتاجه، ولعل أطفالًا كثيرين اعتقدوا أن الدجاج الذي يتناولونه على طاولة الطعام نشأ تلقائيًّا في مُجمِّد الأطعمة، ملفوفًا بالبلاستيك.

لم تكن الحضارة التكنولوجية العالمية متينةً، وأي خلل في عملها، سَيُسْفِر عن كارثة. وكان هذا الوباء الغامض والمرعب حادثةً على وَشْك الوُقوع.

على العكس من ذلك، نَجَتْ أستراليا تمامًا تقريبًا؛ فقد أغلقت السلطات هناك كافة منافذ الدُّخول، وأقامت عزلًا كاملًا لدى وُرود الأنباء عن نوبة تَفَشٍّ.

تم اكتشافُ المصاب الوحيد الذي وصل إلى ملبورن وعزلُه. والأهم من ذلك، أن كل تواصُل أجْراه على أرض أستراليا أو على مَتْنِ الطائرة جَرَى تتبُّعُه بشكل دقيق وعزلُ أصحابه، الذين جرى تتبع من تواصلوا معهم بِدَوْرِهم وعزلُهم. بهذه الطريقة أحكمت السلطات الصحية قبضتَها الصارمة على المرض، ثم طَوَّقَتِ المناطقَ التي استشعرَتْ أنه ربما يكون فيها بقايا مخاطرَ للعدوى، وأمروا الأفراد بارتداء أقنعةٍ في جميع الأوقات التي يتواجدون فيها في الأماكن العامة وَسْط الجُموع. أُغلِقَت المدارس والسينمات والمراقص والحانات في هذه المناطق إلى حين.

كانت هذه التدابيرِ الصارمة فعَّالةً للغاية، وسرعان ما انزوى الوباء الناشئ. وبلغ إجماليُّ الوَفَيَات ٢٠ فردًا.

تُغطي أستراليا مساحةً شاسعة، وتتمتع بالكثير من الموارد الطبيعية، وشعبها قليل العدد، لدرجة أنه حتى في ظل العزل الكامل كانوا قادرين على التعويل على أنفسهم بسُهولة. لقد كانوا يتمتعون بالاكتفاء الذاتي وبارعين في فعل الأُمور بأنفسهم. وقد تعين إدخال بعض التعديلات وترشيد استخدام بعض الأطعمة والسلع، وبعدها استطاعوا التفاوض بشأن إمداد نفطي محدود. وعندما ينتهي هذا الوباء المروع أخيرًا (إذا كان له نهاية من الأساس) فهل سيستعمر الأستراليون العالم؟

وعلى النقيض من ذلك، كانت النتائج كارثية حقًّا عندما انتشرت الجائحة في الهند والصين؛ إذ لم يكن التصدي لها ممكنًا. كانت التدابير الصحية للطوارئ محدودةً وغيرَ فعالة في المقام الأول، وسرعان ما نَفِدَتْ موارد مسكنات الآم والمهدئات، ولم يُظْهِر أيُّ فرد أيَّ أَمَاراتٍ مقاوِمة للمرض (على عكس الموقف في أوروبا، حيث كان هناك شخص مقاوِم للمرض من بين كل سبعة أشخاص؛ مما كان يثير الدهشة) وقد انتشر الوباء بين السكان المكتظين انتشارَ النارِ في الهَشِيم.

لمَّا انتابَ الجميعَ الرعبُ، قام الجميع برد الفعل المعتاد، ففرُّوا بالحافلات والقطارات ناشرين المرض في كل حَدَبٍ وصَوْبٍ. وعندما منعت السلطات كافة أشكال المواصلات، سعى الناس إلى الفرار سَيْرًا على الأقدام، جارِّين عربات يدٍ وراءهم. إلا أن هذا كان عديمَ الجدوى؛ فقد حملوا المرضَ معهم، وانتشر الوباء بثبات وبلا هَوَادة في صُورة أشعة منطلقة من المركز وكأنه موجات تنتشر في بِرْكة لدى إلقاءِ حَجَرٍ فيها، موجة عنيدة وكريهة وهائلة من الرعب والمعاناة المفجعة. ثم التقى الفارُّون موجة اللاجئين القادمة من الاتجاه المعاكس. كانت الظُّروف مثاليةً للآفة، وقد وفرت الملايين الغفيرة المكتظة مصدرًا لا يَنْضُب على ما يبدو من الأفراد الذين لديهم قابلية للإصابة. قُدر فيما بعدُ أن التَّعْداد النهائي للخسائر في الأرواح سوف يُحصى بالمليارات في النهاية. وقد استحال دَفْنُ الأجساد التي تحلَّلتْ سريعًا في ظل درجة الحرارة المرتفعة؛ مِمَّا أسفر عن مشاهد لا يمكن تخيُّلها.

لقد عاد الموت الأسود بعد مُرور ٧٠٠ عام من ظُهوره الأول، وكان نمطُ انتشاره في البُلدان النامية مشابهًا إلى حدٍّ بعيد لنمط انتشار الوباء الأصلي، باستثناء أنه كان هناك الآن مصدرٌ لا يَنْضُب من الضحايا المكتظين معًا بشدة في نطاق ضيق. من المفارقة أن انتقال العدوى كانت غايةً في السُّهولة في البُلدان المتقدمة، وقد انهار اقتصادها تمامًا.

فهل يستطيع العالم أن يتعافى مِنْ مِثْلِ هذه الكارثة؟

(٢) هل الوقت مُوَاتٍ لظُهور الطاعون النزفي من جديد؟

لقد اقتُرِحَت كثيرٌ من السيناريوهات الكارثية التي تنبئ بنهاية العالم كما نعلم، منها الاحترارُ العالمي، واصطدامُ النيازك بالأرض، وموجاتُ المدِّ والجَزْر الهائلة، والانفجارات البركانية، وبالطبع الحُروب النووية الشاملة. تستثمر الحكومات مبالغَ ماليةً وجُهودًا متفاوتةً استعدادًا لهذه التهديدات المحتملة، إلا أن قليلين هم مَنْ أخذوا على مَحْمل الجِدِّ احتمالَ أن يظهر مرضٌ فيروسيٌّ فتاك، مثل الموت الأسود أو ما شابه، بدونِ سابقِ إنذارٍ — في الغالب من أحد العوائل الثَّدْيية في أفريقيا، كما ألمحنا سابقًا — ويدمر حضارتنا.

إن ظُروف الحياة البشرية في القرن الواحد والعشرين — التي تختلف تمامَ الاختلاف عن ظُروف الحياة البشرية في أوروبا العصور الوسطى — سوف تُسهِّل كما أشرنا من قَبْلُ تطورَ مثل هذا الوباءِ أكثرَ مما ستُعَوِّقُه، وسيكون الدمار على نطاق أوسع كثيرًا. يسافر السياح بأعداد غفيرة الآن إلى أفريقيا وينقل السفر جوًّا الفيروس سريعًا في أنحاء العالم؛ إذ لم ينطلق وباء الإيدز إلا عندما هرب فيروس نقص المناعة البشرية من أفريقيا إلى هايتي ومنها إلى الولايات المتحدة الأمريكية.

بدأت قصتُنا بظُهور البشر في الوادي المتصَدِّع الكبير في شرق أفريقيا من حَوالَيْ ربع مليون سنة، في زمن كان يعيش فيه نوعُنا في ارتباط وثيق بمجموعة كبيرة من الحيوانات البَرِّيَّة. حتى بعد قيام الثورة الزراعية الأولى منذ حوالي ١٢ ألف عام، عندما حَلَّتِ الزراعةُ محلَّ الصيد وجمعِ الطعام كعماد حياة الإنسان، عاش الناس في مستوطنات صغيرة ولم يعانُوا من الأوبئة، ولم تبدأ الأمراض المعدية الفتاكة في الظُّهور إلا عندما بدأ الناس يتجمعون في المدن. ومع ذلك، فعلى مدار حوالي ٣٠٠٠ سنة لم يكن هناك سوى عدد قليل من مثل موجات التفشي هذه. أغلب الظن أنها خرجت من أفريقيا، وأسفرت عن أعداد وَفَيَات هائلة، لكن الناجين كانوا أقوياء وواسعي الحيلة، وسرعان ما أعادوا بِناء مجتمعاتهم. بل حتى بعد الرعب المترتب على الموت الأسود في القرن الرابع عشر، عادت أوروبا إلى وضعها الطبيعي تقريبًا في غُضون سنوات قليلة.

ثم قامت الثورةُ الزراعية الثانية في القرن الثامن عشر. لقد أدى إدخال الآلة والإدارة الأكثر تعقيدًا للمحاصيل إلى زيادة الإنتاجية، التي كانت ضرورية لإطعام السكان سريعي التزايد. كان الطاعون قد اختفى وقتَئذٍ، إلا أن المدن الكبرى كانت أماكنَ غيرَ صحية. فقد أوْدَتْ أمراضُ الجدريِّ والحصبة والسُّعال الديكي والدفتيريا وغيرُها من الأمراض المُعدية بحياة نحو رُبع الأطفال في إنجلترا، وتُوُفِّيَ الكثير من الكبار على إثر الإصابة بالسُّلِّ والإنفلونزا، ومع ذلك تعلم الناس أن يتعايشوا مع هذه الأمراض، وبالرغم منها استمر السكان في النمو.

ثم جاءت الثورة التكنولوجية في القرن العشرين. وبفضل التطورات الرائعة في عُلوم الطب، واختراع المضادات الحيوية وتصنيع اللقاحات، لم تَعُدِ الأمراض المعدية تزعج الدُّول المتقدمة تقريبًا الآن، لكن هذا ليس الحال في البلدان الفقيرة، حيث تُواصل الأمراض المُعدية التي تسببها الطفيليات الحيوانية (مثل الملاريا) قَتْلَ أعدادٍ كبيرة من الناس.

في هذه الأيام، في البلدان المتقدمة، نقلق بشأن السرطان، وأمراض القلب، والشيخوخة أكثر كثيرًا من الأمراض المُعدية. لعلنا نعيش في وهم؛ فالميكروبات تتكاثر بمعدلات هائلة وتتطور على الدوام وتأتي بأسلحة جديدة في الحرب البيولوجية للبقاء على قيد الحياة؛ فالسرعة التي تُطوِّر بها مقاومتها للمضادات الحيوية هي دليل على عبقريتها.

إننا عاجزون تمامًا أمام أي فيروس جديد إلى أن يمكن التعرف على سِماته وتصنيع لَقاح له، وإذا حدث وكان فيروسًا فتاكًا ومعديًا للغاية، فإنه يمكن أن يأتيَ على الأخضر واليابس، بل الأسوأ من ذلك، إذا كانت فترةُ حضانته طويلةً، فإن بإمكانه أن يتسبب في جائحةٍ قبل أن يَفْطِنَ أي أحدٍ إلى ظُهوره.

بمساعدة محرك الاحتراق الداخلي، يستطيع معظمُنا الآن السفرَ إلى مسافات بعيدة كلَّ يوم؛ فقد وسَّع السفرُ جوًّا، بغرض العمل والاستمتاع، آفاقَ الأفراد أكثر. على النقيض من ذلك، كانت القلة الأوفر حظًّا هي من تملك جوادًا في القرن الرابع عشر، ولم يكن يُسمع بالسياحة، وكان السفرُ بحرًا بطيئًا وعشوائيًّا. وليس من المستغرب أن الأمراض الناشئة قلما كانت تهرب من أفريقيا في تلك الأيام.

كان الموت الأسود محصورًا في أوروبا، وقد أقام معقِلَه في فرنسا، وكان يبعث الأوبئةَ إلى بقيةِ القارَّة بانتظام، بَيْدَ أنه، إن كان مُقدَّرًا له أن يعود، فإن الموقف اليوم سيكون مختلفًا تمامًا.

فلسوف توفِّر أجزاءٌ من جنوب الولايات المتحدة، والهند، والصين، وأستراليا، وساحل المتوسط ظُروفًا مثالية للفيروس كي يقيم معاقلَ حيثُما يمكنه الاستمرار. وفي ظل الاحْترارِ العالميِّ، يوجد الآنَ المزيدُ من مثل هذه المناطق. وسيكفل السفرُ جوًّا وُصولَ الفيروس إلى هذه المناطق؛ فمصاب واحد كفيل بأن ينقل المرض، الذي ينتشر بعدها بلا هوادة بمساعدة التدفئة المركزية وتكييف الهواء، ولا يردعه مُناخ الشتاء البارد. ستوجد قلة من الأفراد المقاوِمين الحاملين لطفرة سي سي آر ٥-دلتا خارجَ أوروبا، وحالما تترسخ المعاقل، سرعان ما سيكون المصابون في حالة تنقل منتظمة إلى أجزاء أخرى من العالم سواء برًّا أو جوًّا.

إن كوكب الأرض أكثر ازدحامًا بكثير مما كانت أوروبا في القرن الرابع عشر. ولسوف يهيِّئ ملياراتُ الناس الذين يقطنون آسيا بالأخص مَرْتَعًا مثاليًّا للفيروس. لا بد أن نتذكر أن ثُلُثَيِ الوَفَيَات التي سقطت في وباء إنفلونزا عامَ ١٩١٨ كانت في الهند. أيضًا، تتجمع نسبةٌ أكبرُ كثيرًا من الأشخاص اليوم معًا في البلدات؛ إذ يتكدسون في الأسواق المركزية، والسينمات، ومباريات كرة القدم، ويتنقلون في المواصلات العامة. ومن شأن أي وباء أن يستفحل سريعًا في مثل هذه الظُّروف.

نَحْيَا الآنَ في ظل اقتصاد عالمي، على المستويين المالي والاجتماعي. تتجاوب أسواق المال في كل مكان في الحال مع أي حَدَثٍ يقع في أي مكان في العالم ويرى المتداولونَ أنه سوف يؤثر في قيمة الأسهم. والنتائج المترتبة على أي اضطراب في المجتمع العالمي المعقد — مثل وباء كبير — تؤثر في الحال في كل أنحاء العالم من فَوْرها.

أخيرًا، وبسبب الثورة التكنولوجية، صار الناس في البُلدان المتقدمة معزولين عن الطبيعة؛ فنحن لسنا أقوياءَ أو مَرِنين أو نتمتع بالاكتفاء الذاتي بنفس القدر الذي كان عليه أجدادُنا، فإنتاجُ السلع وتوزيعها يعتمد على مجموعة محيرة من التِّقْنِيَّات، بالأخص الكهرباء ومحركات الاحتراق الداخلي. وإذا بدأت أعداد كبيرة من الناس تموت جَرَّاء الموت الأسود، ولجأ آخرون إلى التمَلُّص والهُروب، فإن نسيجَ مجتمعنا التكنولوجي المعقد سوف يتمزق؛ مما يترتب عليه استفحالُ آثار الوباء استفحالًا هائلًا. بعدئذ كيف سيتمكن الناجون من بَدْء حياتهم من جديد؟ معظمنا سيعجز حتى عن إشعال النيران من دون ثقاب.

(٣) خطوط المكافحة

هل من الممكن الاستعداد لمثل هذه الاحتمالية؟

المعرفة قوة. لقد صرنا ندرك الآنَ أن وِجْهة النظر التقليدية عن الموت الأسود خاطئة؛ فهو لم يكن موجةَ تفشٍّ للطاعون الدَّبْلِي، ولم يكن ينتقل عن طريق الفئران والبراغيث، فلو أنه كان طاعونًا دَبْليًّا وعاد إلى أوروبا، ما كان هناك مَدْعاة للقلق لأن الطاعون الدَّبْلِي يُعالَج بسُهولة، وأي وباء كان سيمكن التغلب عليه بسُهولة. إلا أن الموت الأسود كان في الواقع نتيجة لفيروس غير معروف يَحْتَمِل أن يُعاوِدَ الظُّهور في أي وقت. إلا أنه لن يكون جديدًا بالكامل علينا. نأمل أن يعرف أيُّ شخص قرأ هذا الكتاب ماذا يتوقع.

إذا عاود الموت الأسود الظهورَ فِعْليًّا، فسوف تظهر على أول الضحايا أعراضٌ مشابهة لتلك الأعراض الموصوفة في الروايات المختلفة التي اقتبسناها من قَبْلُ. نأمل أن يتم تمييزُ هذه الأمارات في الحال على أنها طاعون نزفي وألَّا يتمَّ تشخيصُها عَرَضًا على أنها «مجرد مرض ناشئ آخر»؛ ذلك لأن نجاح أي مكافحة للموت الأسود سوف يعتمد على التشخيص المبكر واتخاذ الإجراءات الفورية.

للأسف، ليس هناك ما يمكن فعله من أجل الضحايا، إلا أنه ينبغي فرضُ تدابيرَ صحيةٍ صارمة في الحال لمحاولة التغلب على العدوى المبدئية إن أمكن. ستتضمن هذه التدابير: عزل الضحايا، والاستخدام واسع النطاق والإجباري للأقنعة الطبية (نظرًا لأن انتقال العدوى يحدث عن طريق العدوى الرَّذاذية)، وإلغاء كافة التجمعات العامة التي تُقام على مساحة كبيرة، وفرض حجر صحي مدته ٤٠ يومًا على أي شخص مشتبه في إصابته بالعدوى، وارتداء الملابس الواقية، وتحريم كافة التنقلات من المنطقة المصابة وإليها، وبالأخص التنقلات جوًّا.

لكن كما بينَّا، فالسلاح الخفي للطاعون النزفي الذي جعله فعَّالًا إلى حد مرعب هو فترة حضانته الطويلة إلى حد استثنائيٍّ؛ لهذا السبب، سيستحيل تقريبًا تَعقُّب كل شخص ربما يكون أُصيب، فلن تكون السلطات الصحية مستعدة كما ينبغي. والإجراءات المذكورة سابقًا لن تكون وَحْدَها كافية، مثلما وَجَدَها شعب أوروبا من واقع خبرتهم السيئة في القرن الرابع عشر.

سيحتاج مسئولو الصحة العامة تَبَنِّي استراتيجيات أكثر جذريةً؛ فالأعراض الأولى لن تظهر إلا بعد مُرور شهر على الأقل من إصابة الضحية الأولى — أغلب الظن ستكون في أفريقيا — وفي خلال هذا الشهر ربما يكون قد سافر لمسافات كبيرة ونقل العدوى عن غير قَصْدٍ إلى أشخاص كثيرين.

مِنْ ثَمَّ سيكون هناك ضرورة لخط مكافحةٍ ثانٍ. كما شرحنا، يمكن تحديد تواريخ إصابة الضحايا ومتى يصيرون قادرين على نقل العدوى بدقة من تاريخ الوفاة. لا بد من التتبع الصارم لتنقلاتهم من اليوم الذي يصبحون فيه قادرين على العدوى، واقتفاء أثر كل الأشخاص الذين يُحْتَمَل أن يكونوا قد احْتَكُّوا بهم. ستكون هذه مهمة شاقَّة للغاية تقتضي تعاونًا دوليًّا كاملًا ونشطًا. في أفضل الأحوال الممكنة، حيث لا تتنقل الضحية كثيرًا إبَّان الفترة التي تكون فيها قادرة على نقل العدوى، ستتمكن تقنيات العزل الشامل من التغلب على موجة التفشي.

الاحتمال الأغلب أن الضحايا سيكونون قد انتقلوا عبر مساحات كبيرة، بل نقلوا العدوى إلى رُكَّاب على متن رحلات الطيران الدولية القادمة من أفريقيا، ولربما استقلوا وسيلة مواصلات عامة مزدحمة، وحضروا مباريات رياضية، وتواجدوا وَسْط تجمعات أخرى. إن تعقب كافة الأشخاص الذين احْتَكُّوا بهم سيكون مستحيلًا، وستكون هناك ضرورة عاجلة لتنفيذ عزلٍ ومنعٍ شامِلَيْنِ لكافة التحركات في أي منطقة من المناطق التي زاروها. ستكون السلطات الصحية في كل أنحاء العالم في حالة تأهب لموجات العدوى الثانية والثالثة؛ فنظرًا لأنهم يعرفون صفات الفيروس، فإنهم سيتمكنون من تحديد التواريخ التقريبية للوقت الذي يُتوقع ظُهور الأعراض فيه. سيتعين تطبيق نفس التدابير — من عَزْل، وارتداء الأقنعة الطبية، واقتفاء أثر من تعرضوا للعدوى — تطبيقًا صارمًا في كل مرة تظهر فيها حالة جديدة.

لا مَنَاصَ من هُروب الفيروس وانتشارِه في كل حَدَبٍ وصَوْب، مُودِيًا بحياة الكثيرين، لكن من المفترض أن تكون مكافحته والتغلب عليه ممكنَيْنِ في النهاية، بالاستعانة بالتدابير السليمة. سيتمثل الهدف الأول في كبح معدل انتشاره في كل منطقة بدأ فيها. عندما يُعزَل الوباء بالكامل، فسيتعين إجراءُ عملية اجتثاث كبرى لأية جُذور متبقية من خلال فرض حَجْر صحي مدته ٤٠ يومًا. ستكون المهمة هائلةً، وسيقتضي الأمر توافر حُشود من المسئولين المعنيين بالصحة للتصرف سريعًا لاقتفاء أثر من تعرضوا للعدوى، ولتطبيق التدابير الضرورية. لكن لو تحلينا باليقظة وتصرفنا بسرعة وبحكمة، قد تنجو قارَّات بأكملها.

إذا لم يَتِمَّ التغلبُ على الفيروس في هذه الموجة الثانية، فسيكون قد فات الأوان وسينتشر المرضُ في أنحاء المعمورة في آخر الأمر.

(٤) ثمن السلامة

ليس الإنسان وَحْدَهُ هو المعرض للأمراض الناشئة؛ ففي النصف الثاني من القرن العشرين، انمحى شجر الدَّرْدار كله تقريبًا من إنجلترا بفعل مرض فُطْري انتقل إليه عن طريق خنافس صغيرة؛ مِمَّا ترتب عليه تغير وجه الريف بلا رجعة. قد تعاني قريبًا بعض الأشجار الأخرى من مصير مماثلٍ؛ فقد اكتُشف مرض موت البَلُّوط المفاجئ — ومرض فُطْري يقتل جِنْسَيْ نباتات الرباطية والرودودندرون — في إنجلترا في مايو من عام ٢٠٠٢، ويمكن أن يترتب عليه مضاعفات كارثية. طُبِّقت تدابيرُ مكافحةٍ صارمة، منها الاستعانة بفريق مكوَّن من حوالي ١٠٠ مفتش في مجال الصحة النباتية. وكان هذا المرض قد دمر أعدادًا كبيرةً من شجر البَلُّوط ذي لِحاء الدباغة في كاليفورنيا الساحلية وجنوب أوريجون. وفي ديسمبر ٢٠٠٣، أطلقت حكومة المملكة المتحدة إنذارًا جديدًا لأن الفُطْريات وُجِدَتْ للمرة الأولى في أشجار الزَّان والكَسْتناء الحُلْو، والتَّنُّوب السيتكي، ودوجلاس التَّنُّوب، بالإضافة إلى الكاميليا، والكلمية، والليلك، والبيريس، ونبات الطقسوس المزروعة كنباتات زينة في مراكز الحدائق. يبدو أن المرض ينتقل إلى الأشجار من نباتات الرودودندرون المصابة، وكان يتعين غالبًا تدميرُ روابٍ فسيحة من هذه الشجيرات.

أصابت الحمى القُلاعية (داء القدم والفم) الأغنامَ والماشيةَ في بريطانيا عام ٢٠٠١، وانتشرت انتشارًا هائلًا ومرعبًا، على الرغم من شن حملة عملاقةٍ للتغلب على المرض ذُبحت فيها آلافٌ من الحيَوانات غيرِ المصابة، ويُعَدُّ ذلك أحد تدخلات الصحة العامة التي لا يمكن — لحسن الحظ — تطبيقُها مع الإنسان عندما تظهر الأمراض الفتاكة التي تصيب البشر.

مرض اللسان الأزرق هو مرض فيروسي يصيب الأغنام، وتحمله بعوضة صغيرة ماصَّة للدماء. يترك المرض الحيوانات في حالة هُزال شديد حتى إنها لا تقوى على الرؤية أو تناول الطعام أو الحركة، وتَنْفُق سبعين بالمائة من القُطْعان المصابة، وتضاهي قدرتُه على الفتك قدرةَ الحمى القُلاعية. عَبَرَ البعوضُ — المنتشر في شمال أفريقيا — البحرَ المتوسط ووَصَلَ إلى جنوب أوروبا عام ١٩٩٨. أسفرت موجاتُ تفشي الوباء في أنحاء إسبانيا وإيطاليا واليونان وبلغاريا عن نُفوق ما يزيد عن نصف مليون من الأغنام. ذكر المتحدث الرسمي باسم معهد بُحوث الصحة الحيوانية أنه يرى أن انتشار مرض اللسان الأزرق ربما يعود إلى التغير المُناخي؛ فمع كل ارتفاع — ولو لدرجة واحدة مئوية في متوسط درجات الحرارة السنوية — تمد البعوضة مداها أكثر شمالًا لمسافة ٥٦ ميلًا في المتوسط، بل الأمر الأكثر إنذارًا بالسوء أن مدى البعوضة يتداخل الآن مع مدى نوعٍ آخرَ من البعوض وثيق الصلة بهذا النوع الأول، الذي يستطيع أن يعيش في مناطق أبعد من الشمال؛ مما يثير احتمالَ وُصول خطر المرض إلى مُناخاتٍ أكثرَ بُرودة.

عودة إلى الإنسان، إن الطبيعة قادرة على تدمير البشرية أكثر تقريبًا مما يستطيع أي هجوم إرهابي أو كارثة بيئية. تمثل الأمراضُ المعدية أكثر من ٤٠٪ من عبء المرض العالمي، ويَلْقَى الملايين حَتْفَهم كلَّ عام بفيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز، والسُّل، والملاريا، كذلك يَلْقَى نحو ٧٠ ألف فرد حَتْفَهم سنويًّا في إنجلترا بالأمراض المعدية، والأمر المزعج أن ٥٠٠٠ فرد منهم تنتقل إليهم العدوى في المستشفيات.

تتعايش الفيروسات والبكتيريا مع الإنسان وتشاركه البيئة، إلا أن المشكلة لا تقف أبدًا عند حدٍّ معين، ومن المتوقع أن تتفاقم بدرجة كبيرة. يسرد تقريرٌ صدر مؤخرًا عن رئيس الخدمات الطبية بالمملكة المتحدة، الأسبابَ وراء عدم إمكانية التنبؤ بانتشار الأمراض المعدية والتغلب عليها، وأسبابَ تزايد صعوبة التعامل معها:
  • زيادة التنقل بين أنحاء الكرة الأرضية، وقد عكس الاتجاه الجديد إلى السفر إلى أماكن أكثر غرابة، وازدهار سياحة المغامرات، اتجاهًا جديدًا للإصابات بالأمراض المعدية، مثل أنواع الملاريا الأكثر حِدَّة.

  • تأثير التكنولوجيا؛ فيمكن أن يكون لوسائل التكنولوجيا الحديثة آثارٌ غير متوقَّعة على صحة الإنسان (على سبيل المثال، ثمة صلة مباشرة بين مكيِّف الهواء وداء الفيالقة).

  • التغير البيئي؛ فقد تفضي التغيرات المناخية المستقبلية إلى زيادةٍ في بعض الأمراض التي تنتقل عن طريق المياه، بالإضافة إلى زيادة حالات التسمم الغذائي، التي ترتبط بالمُناخ الأكثر دفئًا في المملكة المتحدة وصارت أكثر انتشارًا بالفعل.

  • قد تُسَهِّل التغيرات في أنماط السلوك البشري انتشار أحد الأوبئة. (على سبيل المثال، تُعزى زيادة نسبة الأمراض التي تنتقل عن طريق العلاقات الجنسية مؤخرًا — منها فيروس نقص المناعة البشرية — مباشرةً إلى تغيرات في السلوكيات الجنسية.)

  • المتعضيات المقاومة للعقاقير؛ فيمكن للأمراض التي صارت تمثل خطرًا بسيطًا نسبيًّا على صحة الإنسان أن تعاود الظُّهور لأن العوامل المعنية تكون مقاوِمة للعقاقير التي صُنعت لعلاجها. بكتيريا مرسا (أو المكورات العنقودية الذهبية المقاومة للميثيسيلين) هي جراثيم خارقة يمكنها أن تقاوم الكثير من المضادات الحيوية، ولطالما كانت تمثل مشكلة خطيرة في المستشفيات وبُيوت الرعاية؛ حيث تصيب جُروحَ المرضى الذين أوهنهم مرضٌ أو إصابة. بل الأمر الأكثر إثارة للإزعاج، أنها هربت الآن من المستشفيات حيث تطورت، وأصبحت تكمن في الأنحاء المحيطة بنا. عند أخذ عينات عشوائية، عُثِر على البكتيريا على قَلَمٍ في أحد بُنوك الشوارع الرئيسية، وعلى مقعد في مترو الأنفاق، وعلى أحد أزرار شارة عُبور المشاة، وعلى أرضية متجر بيع ملابس.

    يبدو الآن أن سلالةً جديدة من سلالات مرسا آخذةٌ في البُزوغ، وهي تنتقل عبر الاتصال الجلدي، بل يمكنها أن تصيب حتى الأصِحَّاء، وهي تنتشر كالنار في الهشيم داخل الزنازين المكتظَّة بالأفراد، وقد كان هناك أيضًا العديدُ من موجات التفشي ضيقةِ النطاق مؤَخَّرًا في مدُن وبُلْدانٍ في أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية. معظم المصابين يكونون من الذُّكور الْمِثْلِيِّينَ، لكن قطعًا لا تنحصر جراثيمُ مرسا الخارقة في هذه الفئة فقط؛ فقد سقط رياضيون، وأطفال مدارس، وحديثو ولادة ضحايا أيضًا، وأولئك الذين يمارسون رياضات تقتضي التلامس في خطر أيضًا؛ ففي ولاية تكساس في سبتمبر عام ٢٠٠٢، على سبيل المثال، ظهرت ٥٠ حالة بين أطفال المدارس في باسادينا، بعضهم كانوا مشتركين في فريق كرة القدم.

    انتقلت جراثيم مرسا الخارقة إلى الحيوانات المستأنسة؛ مما أثار المخاوف من أن تصيب أصحابَ هذه الحيوانات، وقد تأكد ظُهور حالات بين القِطَط والكلاب وفئرانِ التجارِب والخُيول في الولايات المتحدة الأمريكية. وذكر تقرير صادر في ديسمبر ٢٠٠٣ رصد حالات في القطط والكلاب وأرنب واحد في المملكة المتحدة.

  • تستطيع الميكروبات الموجودة أن تتحور إلى أشكال أكثر خبثًا. على سبيل المثال، ثمة خطر دائم من ظُهور جائحة إنفلونزا فتاكة أخرى مثل تلك التي ظهرت عام ١٩١٨ بسبب ظُهور سُلالة جديدة.

يوضِّح التقرير أن أنماط السُّلوك البشري اليوم تُحَوِّل الأمراضَ المُعدية إلى خطر عالميٍّ، ليس فقط على صحة السكان، وبقائهم على قَيْد الحياة، ورفاهتهم، وإنما أيضًا على اقتصادات كثير من البُلدان، بل على الاستقرار والأمن الاجتماعيين وفي بعض الأجزاء من العالم. يتخفى حجم الخطر تحت قناع حقيقةِ أن هذه التغيرات تحدث تدريجيًّا. على ما يبدو، لا يزال معظم الناس على قناعة بأن الإجراءات المعتادة لمكافحة الأمراض المُعدية ستكون قادرة على مواكبة التغيير. الأمر المذهل هو اكتشاف حوالي ٤٠٠ مرض يمكنها أن تنتقل من الحيوان إلى الإنسان، لكن العمل الصَّبُور والدقيق الذي يقوم به علماء الأوبئة والأحياء الدقيقة يشير إلى أنه يمكننا الآن أن نتعامل معها وأن نَنْعَمَ بِنَوْمٍ هادئ ليلًا.

بَيْدَ أنَّ الخطر الأكثر جسامة يتمثل في انبثاق أمراض فيروسية جديدة ومريعة من الحيوانات. لقد ظهر فعليًّا منذ عام ١٩٧٠ على الأقل ٣٠ مرضًا مُعديًا لم تكن معروفة قبلًا وليس لها علاج فعال تمامًا. ويفوق عددُ هذه الأمراضِ الأمراضَ التي ظهرت في خلال الثلاثة الآلاف عام السابقة، وإن كانت التطورات الحديثة في الطب وعلم الأحياء قد سهَّلت بالطبع التعرف عليها. في الغالب نشأت أمراض كثيرة — بما فيها الطاعون النزفي — في أوقات مختلفة في حيوانات أفريقية لتصيب قرًى وقبائلَ صغيرة؛ مما أسفر عن حالاتِ وفاةٍ غامضة لم يَأْتِ أحدٌ على ذِكْرها، وبعدَها صارت في طي النسيان. بالتأكيد كان هذا هو الحال قبل عهد الطبيب ليفنجستون.

ظهر مرضٌ غيرُ معروف في قرية أفغانية في مارس ٢٠٠٢، وأودَى بحياة ٤٠ شخصًا. والسبب الحقيقي للذعر هو حَتْمِيَّة ظُهور المزيد من الأمراض الفتاكة في السنوات المقبلة. ها هنا تكمن المشكلة: فبمقدورنا مكافحة حتى الأمراض شديدة البشاعة، مثل الإيبولا والنسخة الجديدة من سُلالة مرض كروتزفيلد جاكوب، والتعامل معها، وإن كانت حُمَّى غَرْب النِّيل والحمى النزفية لا تزالان تثيران بعض المخاوف ويَجْرِي ترصُّدُهما بحذَر شديد، لكن مثال فيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز ينتصب بارزًا أمام أعيننا؛ فهذا الفيروس ظهر وهرب وانتشر في أنحاء العالم قبل أن يتمَّ التعَرُّف عليه بالكامل، وحتى بعدما تم التعرف عليه، أبى الأفرادُ فرضَ التدابير اللازمة للفحص والمكافحة الجماعِيَّيْنِ. على سبيل المثال، عوَّلَت السلطات الصحية في بريطانيا على حملة دعائية. واليوم يدفع العالمُ الثمنَ؛ فلسوف يفقد ٤٢ مليون طفل في ٢٧ دولة أحدَ والديهم أو كليهما بالإيدز بِحُلول عام ٢٠١٠، مع أنه مرض لا ينتقل بسهولة، فالعدوى الرَّذاذية أكثر فاعلية بدرجة هائلة.

من المستبعد أن يتم القضاء على فيروس نقص المناعة البشرية تمامًا الآن؛ فلسوف يواصل الانتشار ببطء وإزهاق أرواح الأفراد على نحو متزايد باستمرار. بَيْدَ أن سكان العالم يواصلون النمو بمعدل أسرع، ووفيات فيروس نقص المناعة البشرية تافهة مقارنة بالوفيات المترتبة على ضربة مفاجئة من مرض جديد شديد العدوى مثل الموت الأسود.

(٥) حالة فزع

حتى الأوبئة التافهة بمقدورها أن تثير حالة هلع واسعة النطاق، تَعْقُبُها مضاعفاتٌ دولية، إذا كانت موجة التفشي لمرض مجهول. ظهر فيروس رئوي مجهول في إقليم جوانجدونج في جنوب الصين في ديسمبر ٢٠٠٢، وبعدَها بشهرين، كانت حالة من الهلع قد انتشرت على نطاق واسع، ووصلت إلى شنغهاي، التي تبعد مسافة يوم سفر بالقطار. اجتاح ملايين الصينيين الصيدليات والمتاجر لشراء المضادات الحيوية ومضادات الالتهاب والخل والأقنعة الجراحية بكَمِّيات ضخمة، ونَفِدَ كل مخزون هذه الأشياء بالرغم من ارتفاع أسعارها.

أثَّر الهلعُ على أسواق الأوراق المالية الإقليمية، وأدَّى إلى ارتفاع أسهم شركات الأدوية، ولم يتفوَّق عليها سوى مُصَنِّعي الخل. كان كثير من الصينيين يعتقدون أنه إذا غُلِيَ وعاءٌ من الخل حتى يتبخر، فإن البخار سيكون مطهِّرًا فعالًا لمكافحة المرض. أُبْلِغَ عن وُقوع ٤ حالات وفاة أخرى نتيجة غلي الخل فوق مواقد تعمل بحرق الفحم مما أدى إلى انبعاث أبخرة قاتلة.

كل هذا الهلع نتج عن وجود ٣٠٠ حالة مصابة بالالتهاب الرئوي في المستشفى — ثلثهم أطباء وممرضون، وعاملون آخرون بمجال الصحة — عن طريق الفيروس. إلا أن ٥ أفراد فقط لَقُوا حَتْفَهم بحُلول فبراير ٢٠٠٣.

بالرغم من أن هُوِيَّة الشيء الذي اعتُقد أنه فيروس لم تكن معروفة، فإن أحد العاملين بمركز إقليميٍّ للوقاية من الأمراض المعدية ومكافحتها أعلن أن: «المرض تحت السيطرة، ونولي أولويتنا الآن لاكتشاف سببه. لم ندرك في البداية أنه وباء خطير؛ ومن ثَمَّ لم نتعامل معه بجدِّيَّة.»

ناشدت حكومات المنطقتين الإداريتين ماكاو وهونج كونج السكان أن يلتزموا بضبط النفس، إلا أنهم كانوا أكثر دراية من غيرهم بأن جنوب الصين قد ضُرِبَ بفيروسات جديدة فتاكة مِرارًا وتَكرارًا في السنوات الأخيرة.

لربما استفحلتْ موجةُ التفشي في إقليم جوانجدونج لتصبح وباءً صغيرًا هو سارس. نروي في النقاط التالية قصةَ سارس الآخذة في التكشُّف شيئًا فشيئًا:
  • «٢٦ فبراير ٢٠٠٣»: سافر رجل أعمال صيني أمريكي جوًّا إلى هانوي بفيتنام بعد قضاء وقت في شنغهاي وهونج كونج. مَرِضَ الرجل بعد ذلك بيومين، وفي السادس من مارس نُقِل إلى المستشفى حيث تدهورت حالته، ومات في الثالث عشر من مارس، فترك وراءه في فيتنام نوبةَ تفشٍّ لنوع فتاك من الالتهاب الرئوي أصبح معروفًا باسم المتلازمة التنفسية الحادة الوخيمة (سارس)، وقد نَقَلَ العدوى إلى العاملين بالمستشفى الفرنسي بهانوي حيث تلقى العلاج.

  • «٥ مارس»: في تورنتو تُوُفِّيَت العجوز سوي تشو كوان، وتبعها ابنها كاي واي تسي البالغ من العمر ٤٤ عامًا في اليوم التالي، وقد كانا في زيارة إلى هونج كونج. أُصيب أيضًا ٤ من الأقرباء وشخص وطيد العلاقة بالعائلة. وأُبلِغ عن وقوع ضحيتين في كولومبيا البريطانية لنفس المرض الغامض.

  • «٦ مارس»: وُصول المرض إلى سنغافورة، حيث أُبلِغ عن ظُهور الأعراض على ثلاثة أشخاص كانوا في زيارة لهونج كونج. بحلول السادس عشر من مارس، كان قد دخل إلى المستشفى ١٠ من أقاربهم وأصدقائهم و٧ أفراد من العاملين بالرعاية الصحية، الذين كانوا قد تَوَلَّوْا رِعايتهم، بنفس المرض.

    لم يَكُنْ هناك علاج لأن الأطباء لم يكونوا قد عَرَفُوا حتى تلك اللحظة ما إذا كان المرض بكتيريًّا أم فيروسيًّا. لقد استنتجوا أن المرض ينتقل من شخص إلى آخر وأن فترة حضانته قصيرة تتراوح ما بين يومين إلى سبعة أيام. وعادة ما تتضمن أعراضُه ارتفاعًا في درجة الحرارة أكثر من ٣٨ درجة مئوية، مصحوبًا بمشاكل تنفسية مثل السعال أو قصر النفس أو صُعوبات في التنفس أو آلام العضلات. قد تتضمن الأعراضُ الأخرى الصداعَ وتيبس العضلات وفقدان الشهية وتوعك اضطراب ذهني وطفحًا جلديًّا وإسهالًا.

  • «١٠ مارس»: في تايبيه، مَرِضَ ثلاثة أشخاص، منهم سيدة في الرابعة والستين من العمر كانت قد وصلت إلى ديارها عن طريق هونج كونج بعد زيارة بَرِّ الصين الرئيسي. كان هناك شعورٌ بالحساسية في هونج كونج جَرَّاء اعتبار أنها مصدر المرض لأن هذا قد يطيح بقطاعها السياحي. جرَّد المتسوقون في هونج كونج — تلك المستعمرة البريطانية السابقة — الصيدليات من الأقنعة الجراحية ومن الأدوية التقليدية لعلاج الإنفلونزا الصينية، حيث احتُجز ٤٢ شخصًا، منهم كثيرون من العاملين بمجال الصحة، بالمستشفى. أُخليَت ثلاثة عنابر، واضْطُرَّت عيادة متخصصة في علاج أمراض القلب إلى تخفيض خدماتها، وأُلغيت العمليات الجراحية غير العاجلة، كل هذا من أجل توفير أَسِرَّة العناية المركَّزة. بعدها بثمانية أيام ارتفع إجماليُّ عدد الأفراد الذين سقطوا مرضى في هونج كونج — الذين كان معظمهم من القائمين على الرعاية الطبية — إلى ١٠٠ فرد.

  • «١٥ مارس»: وصل المرض إلى أوروبا عندما مَرِضَ طبيب كان عائدًا من مؤتمر في نيويورك إلى دياره على متن طائرة قبل توقف طائرته مؤقتًا بفرانكفورت بألمانيا. وكان هذا الطبيب قد عالج بعض الضحايا في سنغافورة. اتَّخذتِ السلطات الألمانية إجراءً حكيمًا غيرَ مسبوق بإخضاع رُكاب الطائرة لحَجْرٍ صحيٍّ معظم يوم السبت قبل إطلاق سراحهم لمواصلة رحلاتهم.

  • «١٨ مارس»: استقبل المستشفى رجلًا كان قد سافر من هونج كونج إلى مانشستر بالمملكة المتحدة للاشتباه في إصابته بسارس، وهي أول حالة في بريطانيا. أطلقت منظمة الصحة العالمية إنذارًا بشأن انتشار المرض، واصفةً إياه ﺑ «خطر عالمي على الصحة»، ونصحت المسافرين من الصين وهونج كونج وجنوب شرق آسيا الذين ظهرت عليهم أعراضُ المرض الاتصال بالخدمات الصحية المحلية لبلادهم.

  • «١٩ مارس»: جرى تشخيص المرض مبدئيًّا على أنه ينتمي إلى عائلة الفيروسات المخاطية، لكنْ بعدَها بستة أيام تغير التشخيص إلى نوع جديد من الفيروسات التاجية (كورونا). حتى ذلك الحين، كانت نزلة البرد هي المرض البشري الوحيد المعروف أنه يَحْدُث بسبب فيروس تاجيٍّ.

  • «١ أبريل»: أشارت صحيفة ذا تايمز إلى أن انتشار سارس قد لا يمكن ردعُه الآن. وذكر المحللون أن اقتصاد الشرق الأقصى يمكن أن يكون الضحية التالية للفيروس؛ فالسياحة انهارت وتصدع النشاط التِّجاري تَصَدُّعًا عميقًا.

  • «٢ أبريل»: طبَّقت المصارفُ حولَ العالم إجراءات طوارئ في محاولة لمنع موظفيها من الاتصال بسارس. أخضع بنك يو بي إس — بنك سويسري يعمل لديه آلاف الموظفين في مدينة لندن — موظفيه العائدين من المناطق المنكوبة لظُروف حَجْرٍ صحي؛ إذ طلب منهم المُكوث في المنزل لمدة ١٠ أيام. منع بنك ستاندرد تشارترد — واحد من أكبر البُنوك الاستثمارية في هونج كونج — موظفيه من السفر من وإلى الشرق الأقصى.

  • «٣ أبريل»: تَصدَّر صحيفةَ الديلي ميل العنوانُ التالي: «أيمكن أن يكون هذا إنذارًا مبكرًا بشيء أكثر فتكًا؟»

    نقلت هونج كونج أكثر من ٢٠٠ مقيم في المجمع السكني أموي جاردنز بمنطقة كولون إلى معسكرات العزل بعد تفشي سارس؛ لأن منظمة الصحة العالمية أعلنت أن «إفرازات الجسم» التي تحتوي على الفيروس قد تتسلل بطريقة ما إلى الأنظمة المشتركة التي تربط الغرف أو الوحدات السكنية.

    وعلى متن رحلة متجهة من هونج كونج إلى بكين، انتقل المرض إلى ٢٢ شخصًا من مصاب واحد فحَسْبُ.

  • «٤ أبريل»: خفضت شركة الخطوط الجوية الأسترالية كانتاس رحلاتها الجوية بمعدل رحلة واحدة من كل خمس رحلات بسبب انخفاض الحُجوزات؛ نظرًا لامتناع العملاء عن السفر بالطائرات في أعقاب تفشي سارس. أعلنت الخُطوط الجوية البريطانية أيضًا انخفاضَ أعداد المسافرين بنسبة ١١ بالمائة بسبب الوباء، وتوقع الاتحاد الدولي للنقل الجوي أن الخُطوط الجوية يمكن أن تواجهَ خسائر مذهلة بنسبة ٦٫٥ مليارات جنيه إسترليني.

  • «٧ أبريل»: توقع خبراء وول ستريت أن نوبة تفشي سارس يمكنها أن تُسْفِر عن كساد عالمي؛ ومن ثم تدفع الاقتصاد العالمي إلى الرُّكود.

  • «١٥ أبريل»: أفاد العلماء بأن ثمة حيواناتٍ كثيرةً يمكنها أن تقوم بدور العائل لسارس؛ مما يزيد احتمالات أن المرض كان متواريًا عن الأنظار في مكان ما، وقد توقعوا بقاء المرض في آسيا.

على الرغم من خُطورة موجة التفشي تلك، فإنها كانت وباءً صغيرًا فحَسْبُ؛ فقد كانت القدرةُ على نقل العدوى منخفضةً، ولم يُتوَفَّ من الضحايا سوى ٤ بالمائة، كما يوضح الجدول الآتي. وهذه موجة صغيرة مقارنة بموجات تفشي الموت الأسود في حالِ إذا ما عاود الظُّهور.

عدد الحالات الوفيات
أستراليا ١ ٠
بلجيكا ١ ٠
البرازيل ١ ٠
كندا ٦٩ ٠
الصين ١٢٢٠ ٤٩
هونج كونج ٨٠٠ ٢٠
تايوان ١٥ ٠
فرنسا ٣ ٠
ألمانيا ٥ ٠
إيرلندا ١ ٠
إيطاليا ٣ ٠
رومانيا ١ ٠
سنغافورة ١٠٠ ٥
إسبانيا ١ ٠
سويسرا ٢ ٠
تايلاند ٧ ٢
المملكة المتحدة ٣ ٠
الولايات المتحدة ١٠٠ ٠
فيتنام ٥٩ ٤
الإجماليُّ ٢٣٩٢ ٨٧

فيما استمر الوباءُ جَنُوبيَّ شرق آسيا، تمت السيطرة على المرض عن طريق اتخاذ تدابير الصحة العامة السليمة في أماكنَ أخرى من العالم التي ظهر المرض فيها، من خلال المسافرين جوًّا. حدد العلماء تدريجيًّا بعضًا من خواصِّ المرض. تتراوح فترةُ حضانة المرض ما بين يومين إلى عشَرة أيام، ولا يكون الأفراد قادرين على نقل العدوى أثناءَ تلك الفترة على الأرجح — على خلاف الطاعون النزفي — من ثَمَّ من المفترض أنه يسهُل التغلبُ على سارس من خلال العَزْل الفوري للحالات المصابة.

ينتقل المرض أيضًا عن طريق الرَّذاذ وليس الهباء الجوي، ويبدو أن انتقال العدوى يتطلب اتصالًا أقرب كثيرًا بسوائل وإفرازات الجسم. قد ينتقل الفيروس إليك بمجرد لمس سطح طاولة أو زر مِصْعَد أو مَقْبَض بابٍ مُلَوَّثَيْنِ، ويمكن أن ينتقل عبر مواسيرِ المجاري أو الهواء بداخلِ طائرة. بَيْدَ أن وكالة حماية الصحة بلندن صرحت أنه إذا كان سارس ينتقل عن طريق الهباء الجوي، لتراوح عدد المصابين ما بين ١٠–١٠٠ مرة أمثال المصابين الفعليين.

سلط وباء سارس الصغير الضوء على العديد من التحذيرات الهامة. أولها: أن أمراضًا جديدة آخذة في الظُّهور طَوالَ الوقت، وعلى السلطات الصحية في أنحاء العالم أن تكون في حالة يقظة مستمرة. يُعتقد أن فيروس سارس ظهر أول ما ظهر في حيوانٍ شبيه بالقِطِّ يُطلق عليه زباد النخيل المقنَّع، ثم اخترق الحاجز النوعي ليصيب الإنسان. يعتبر لحم الزباد لحمًا شهيًّا في إقليم جوانجدونج.

ثانيًا: أن أي مرض جديد يمكنه أن ينتشر سريعًا إلى جميع أرجاء الكرة الأرضية عن طريق السفر جوًّا.

ثالثًا: دائمًا ما يثير أيُّ وباء حالةَ فزع؛ لأنه في هذه المرحلة، يكون كلٌّ من العامل المعدي والعواقب مجهولين، ولهذا الوضع عواقب وخيمة، مثل التوقعات بتكبد الخُطوط الجوية الدولية خسائر هائلة، والإشارة إلى احتمال انهيار الاقتصاد العالمي.

أخيرًا: لا بد من اتخاذ إجراء فوري بمجرد اكتشاف موجة التفشي. يشير تقرير في «دورية الجمعية الطبية الأمريكية» إلى أنه سرعان ما أمكن السيطرة على وباء سارس في بكين بمجرد أن توقفت السلطات الصينية عن التكتُّم على وُجوده، ففي خلال ستة أسابيع فقط، تراجع الوباء بحيث لم تَعُدْ هناك حالاتُ إصابة جديدة على الإطلاق بعد أن كان المستشفى يستقبل كلَّ يوم ١٠٠ حالة جديدة في ذروة الوباء.

(٦) هل تعلمنا الدرس؟

بصفة عامَّة، تُدرك السلطات الصحية في كل أنحاء العالم جيدًا مخاطرَ الأمراض الناشئة، وثمة فِرَقٌ دولية في حالة تأهُّب للتعامل مع أي موجة تفشي يُبلَّغ عنها، لكن هل تعلمنا الدروسَ المستفادة من فيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز؟ فلو حَدَثَ وظهر مرض له شراسة وقدرة على الفَتك تضاهيان تلكما اللتين كانتا للموت الأسود، حينَها لن تكون مجرد حماقة من الحكومة أن تحذِّر منه بحملات دعائية، وإنما سيكون هذا أمرًا كارثيًّا، وكذلك إذا فكر أي شخص قائلًا: «مستحيل أن يحدث هذا في بلدي.» حالما يتم التعرف على طرق انتقال العدوى وتحديد طبيعة المرض، فسيتعين في الحال اتخاذ تدابير مكافحة وسلامة صارمتين. يكمن السر في تحديد فترتي الحضانة وانتقال العدوى. وبالطبع ينبغي أن تتوافر المساعدة والتعاون الدوليان الكاملان؛ إذ لا بد أن تعمل فِرَقٌ من علماء الأوبئة والأحياء الدقيقة بلا انقطاع على مدار الساعة لتحديد خصائص المرض الجديد، حتى يمكن التنبؤ بانتشار الوباء وعواقبه، وبِناءً على ذلك تُتَّخَذ التدابيرُ المناسبة.

كما هو الحال دائمًا، فثمن السلامة هو اليقظة الأبدية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤