الفصل العشرون

هل هناك ما هو أبشع من الموت الأسود؟

نعلم أن القُوَى العظمَى في العالم لطالما عملت في الخفاء لعُقود عديدة على ابتكار الأسلحة البيولوجية. كان تطوير هذه التكنولوجيا الضرورية هو نتيجة حَتْمِيَّة للاكتشاف الذي حدث عام ١٩٥٣ بشأن الكيفية التي يحكم بها الدي إن إيه الوراثة ويتحكم في آلية عمل كافة الكائنات الحية، بَدْءًا من الميكروبات ووُصولًا إلى الإنسان. أنفقت الحُكومات كمًّا هائلًا من الوقت والمال في سبيل ابتكار طُرُق لمهاجمة الأفراد في مجموعات وقتلهم من خلال إطلاق كائنات حية فتاكة أو سُمومها، وكذلك في سبيل إعداد وسائل للتصدي لمثل هذه الهجمات.

إن الحرب الجُرْثُومية هي بديل القنبلة النووية الرخيص؛ لأن الأسلحة النووية باهظة التكلفة وصعبة النقل وسهلة الرصْد. توضح مقاومة صدام حسين لوقف برنامج الأسلحة البيولوجية الخاص بالعراق، الذي كبَّده الحرمان من وضع يدِه على مليارات الدولارات من عوائد النفط، توضح الأهميةَ التي عقَدها على هذه الطريقة في الهُجوم. وقد تلجأ أي منظمة إرهابية — إلا إذا كانت مدعومة من قوة عظمى يمكن أن تمدها بالأسلحة النووية وسبل نقلها — إلى الحرب الجُرْثُومية، وبمقدور أي عالم أحياء دقيقة مُحَنَّك بسُهولة أن يُعلِّم مثل هذه الجماعة من المتطرفين كيفيةَ صُنع أسلحة بيولوجية فتاكة، «باستخدام القليل من قاذورات فناء المنزل الخلفي، وبعض مُعَدَّات المعامل المتوافرة في كل مكان» (مقتبسة من كتاب «الجراثيم: السلاح الأخير»، انظر الآتي).

في نظر الإرهابي، ثمة مِيزةٌ إضافية للأسلحة البيولوجية متمثلةً في غُموض عواقبها، فبمجرد انفجار قنبلة تقليدية، يمكن تحديد حجم الدمار الذي ألحقتْه وعدد الوفيات الذي أسفرت عنه، لكن في حال وُقوع هجمة بيولوجية، فلن تستطيع السلطات الصحية أن تعرف طبيعة الضربة ولا حجمها، ولن تستطيع التنبؤ بالتطورات المستقبلية أو عدد الوفيات النهائي. كل ما يمكنها فعله هو الاستعداد للسيناريو الأسوأ، الذي قد يكون استجابةً مبالغًا فيها لهجمة صغيرة.

(١) الإرهابيون البيولوجيون الأوائل

إن تاريخ الحروب البيولوجية طويل وغير مُبتَكَر. إن قصة العهد القديم المذكورة في سِفْر الخُروج في الإصحاح التاسع والعددين ٨ و٩ التي يَنْصَحُ فيها الرَّبُّ موسى أن يَذُرَّ الرَّمادَ أمام فِرْعَوْنَ تُعَدُّ مثالًا على حربٍ جُرْثُومية ووَصْفًا لموجة تفشي الجمرة الخبيثة؛ إذ لا بد أن الغبار قد تحول إلى هباء جوي من بكتيريا العصيات لأنها صارت «دمامل متقيحة على كلٍّ من الإنسان والحيوان.»

في القرن السادس قَبْلَ الميلادي لَوَّثَ الآشوريونَ آبارَ أعدائهم بمهماز الشيلم (فُطْر الإرجوت)، وهو نوع من المرض الفُطْريِّ. واستخدم حكيم أثينا سولون عُشْبَ الخربق في تسميم موارد مياه أهل مدينة كريسا.

منذ ما يزيد عن ألْفَيْ عام، غَمَسَ رُماة السِّهام السكوثيون رُءوس سِهامهم في رَوْث الحيوانات والجُثث المتعفنة لرفع قُدرة أسلحتهم على الإماتة. وكما رأينا قبلًا، قذف جثث ضحايا الطاعون من فوق جُدران المدينة على أمل نَقْلِ العدوى إلى العدو إبَّان طاعون أثينا وحصار كافا.

وبات الجدريُّ طريقةً لإخضاع القبائل الهندية في أمريكا الشمالية. في إحدى المرات، إبَّان الحرب الفرنسية والهندية في كندا، قيل إن السير جيفري أمهيرست أهدى زعماء القبيلة أغطيةً ملوثة بقُشور الجدريِّ؛ مما نَقَلَ العدوى إلى السكان وسهَّل الزحف البريطانيَّ. استخدم البريطانيون أيضًا أغطيةً ملوثة بالجدريِّ لنقل العدوى إلى أفراد قبيلة في معقِل فورت بيت على حُدود بنسلفانيا عامَ ١٧٦٣.

كل هذا عاد ليطاردنا. جريج بورلاند، زعيم قبيلة تشايين ريفر سيوكس بجنوب ولاية داكوتا، سليل امرأة من الأمريكيين الأصليين لَقِيَتْ حَتْفَها جَرَّاء الإصابة بالجدريِّ، وكانت تُدعى بلو إيرنجز. وهو يزعم أنه، على عكس الأوروبيين، لم يكوِّن السكانُ الأصليون لأمريكا الشمالية مناعةً ضد المرض، ويُطالب بتطعيم جماعيٍّ لأبناء قبيلته تحَسُّبًا لوُقوع هجوم بيولوجي.

في عام ١٧٩٧، نقل نابليون إلى أهل مدينة مانتوفا عدوى حمى المستنقعات. وثمة روايات عن جُنود قاموا إبَّان الحرب الأهلية الأمريكية بتسميم موارد المياه عن طريق الإلقاء عَمْدًا بجِيَف الحيوانات في بِرَك المياه.

(٢) كابوس وقتنا الحاضر

تظهر هذه الجُهود البدائية في الحُروب الجرثومية وكأنها لا شيء مقارنةً بطُرق اليوم. يصف كلٌّ من جوديث ميلر وستيفن إنجلبرج وويليام برود في كتابهم «الجراثيم: السلاح الأخير»، كيف أن الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي قد كَرَّسا إبَّان الحرب الباردة أموالًا طائلة وعَمالةً بشرية هائلة من أجْل تطوير أسلحة بيولوجية؛ فمع مطلع ثمانينيات القرن العشرين، كان البنتاجون ينفق في الخفاء ٩١ مليون دولار سنويًّا على ما يُطلق عليه الدفاع البيولوجي. وكان إرث هذا السباق في تطوير الأسلحة السرية نفعًا غير متوقع لصالح الإرهابيين.

وقَّعت كافة الأمم معاهدةً عام ١٩٧٢ تُحَرِّم تصنيع الأسلحة البيولوجية، لكن في صدام مباشر مع جوهر المعاهدة، قَرَّرَ السوفييت سرًّا توسيع برنامجهم ليصبح على مستوى صناعي هائل. قدم ميلر وإنجلبرج وبرود قدرات إنتاج الجراثيم الصناعية المذهلة الآتية (بالأطنان المترية للعام الواحد) عند أعلى مستوياتها:

الولايات المتحدة الأمريكية الاتحاد السوفييتي
الجمرة الخبيثة ٠٫٩ ٤٥٠٠
فيروس التهاب الدماغ الخيلي الفنزويلي ٠٫٨ ١٥٠
اليرسينية الطاعونية ٠ ١٥٠٠
فيروس الجدري ٠ ١٠٠
فيروس ماربورج ٠ ٢٥٠

ترتبت على الحرب الباردة عاقبتانِ في غاية السوء؛ أولهما: مخزون من الجراثيم لا يمكن تخَيُّله بمعنى الكلمة، وثانيهما: عدد كبير من العلماء المدربين القادرين على إنتاج ميكروبات وتعديلها على حَسَبِ الطلب. كان من ضمن المشاريع العمل على جعل اكتشاف الهجوم البيولوجي أكثر صعوبة، وعلى تمكين الجراثيم من التغلب على اللقاحات.

كان كل من المخزون الهائل من الجراثيم والعلماء متاحين لأنْ تشتريَهما البُلدان المعادية والجماعات الإرهابية. وحتى عام ١٩٨٩ كان أمْن الولايات المتحدة الأمريكية متساهلًا للغاية، لدرجة أن إحدى الشركات كانت تبيع سلالات من الجَمْرة الخبيثة للعراق عن طريق الطلب بالبريد. وفي تدريب أمنيٍّ أُجْرِيَ مؤخَّرًا، تمكن فريقٌ من العملاء الأمريكيين من إنشاء معمل حرب جُرْثُومية فعليٍّ بتكلفة مليون دولار فقط دون أن تعرف وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية بما كانوا يفعلون. وفي أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي عام ١٩٩١، اكتُشِفَ أن علماء سابقين من السوفييت ساعدوا العراق في حيازة مخزون من بكتيريا الكلوستريديوم (المطثية) والبوتولينيوم (الوشيقية) والجمرة الخبيثة.

هاجمت طائفةُ أوم شنريكيو مترو أنفاق طوكيو عام ١٩٩٥ بعبوة غاز الأعصاب سارين؛ مما أسفر عن مقتل ١١ شخصًا وإصابة ٥٥٠٠ آخرين. عثر المحققون بعدَها على معمل أبحاث للأسلحة البيولوجية في مجمع الطائفة، وكان أتباعُها قد حاولوا بالفعل إطلاق سم الجمرة الخبيثة والبوتولينيوم على السكان، ولكن المحاولة باءت بالفشل من حسن الحظ. وكان أعضاء من هذه الطائفة قد زاروا زائير إبَّان موجة تفشي وباء الإيبولا عام ١٩٩٢، في محاولة للحُصول على عَيِّنات من الفيروس من أجل استزراعه وتصنيع الأسلحة. بل اكتشف المحققون أنه كان هناك تخطيطٌ لهُجوم أكثر خطورة باستخدام أجهزة من شأنها أن تضُخَّ عوامل بيولوجية وكيميائية في شوارع طوكيو.

إن أبحاث الحروب الجرثومية، ونشاط الإرهاب البيولوجي العارض، والتخطيط المحتمل لمكافحة مخاطر إطلاق عَمْدِيٍّ لعامل بيولوجي، تجري في المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية منذ عُقود عديدة دون أن تجذب قدرًا كبيرًا من اهتمام العامة، إلا أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١ بدَّلت كل هذا، وبينت للجميع حقيقةَ الموقف. إن كون الولايات المتحدة الأمريكية الأمة العظمى الوحيدة في العالم جعل الهُجوم البيولوجي هناك أكثر احتمالًا، كما أن الثورة التكنولوجية في القرن العشرين (بما اشتملت عليه من بناء ناطحات سحاب ضخمة) والكثافة المرتفعة للأشخاص المتدفقين باستمرار إلى المدن زادتا من ضَعْف المجتمع الحديث إلى أقصى حد.

أخيرًا استجاب العالَمُ الغربي سريعًا، وبات يتفهَّم الآنَ أن خطر شنِّ هُجوم بيولوجي على السكان المدنيين هو خطرٌ قائم ومستمر. قدَّر تحليل أُجرِيَ عامَ ١٩٩٧ أنه في بعض السيناريوهات المحتملة للهُجوم ستصل نسبة التأثر الاقتصادي إلى ٢٦ مليار دولار عن كل ١٠٠ ألف شخص يتعرض للجمرة الخبيثة، وقد كان خطر الأسلحة البيولوجية كافيًا بما يكفل تصنيع مخزون مدني غير مسبوق من الأدوية واللقاحات.

أعلن الرئيسُ الأمريكي بوش تخصيصَ ١١ مليار دولار كنفقات جديدة في ميزانية الصحة للسنة المالية ٢٠٠٣ لمكافحة الإرهاب البيولوجي، وينوي الجيش الألماني مضاعفة استثماره في مجال أبحاث الوقاية من الأسلحة البيولوجية ثلاثَ مرات، إلا أن رئيس معهد روبرت كوخ الأستاذ راينهارد كورت يرى أنه ينبغي وضع برامج التطعيم المدنية بمعزل عما يقوم به الجيش؛ ومن ثَمَّ بناء مصدٍّ من الأفراد المُطعمين في حال وُقوع وباء محليٍّ، ويخلص إلى الآتي:

في رأيي، وهو الرأي العامُّ للخبراء في هذا المجال، أن الخطر المحتمل للأسلحة البيولوجية أشد فتكًا من خطر الأسلحة الكيماوية والذرية.

في يناير ٢٠٠٢، أعلن رئيس الخدمات الطبية عن خُطَط إنشاء هيئة وقاية جديدة تتمتع بصلاحيات واسعة لتسيير خدمات مكافحة العدوى والتغلب عليها، بما فيها الأمراض الناشئة في المستقبل (التي تعتبر حَتْمِيَّة الحُدوث) وتلك الأمراض التي يصنعها الإرهابيون. ويرغب مدير «المعهد الوطني لأمراض الحساسية والأمراض المعدية» أنطوني فوتشي «في إدراج الإرهاب البيولوجي تحت مظَلَّة الأمراض المعدية الناشئة وتلك التي تعاود الظهور.»

بَيْدَ أن مادلين دريكسلر تقول في كتابها «العملاء السريون: خطر الأمراض المعدية الناشئة»: إننا لا يجدر بنا أن نستهين بالطبيعة الأم التي ربما تكون أكثر الإرهابيين البيولوجيين وحشية على الإطلاق. فأيًّا كان هو العامل المعدي، بما في ذلك بعض التهديدات الميكروبية الجديدة التي لم نكتشفها بَعْدُ، فالخلاصة هي أن المراقبة الدقيقة والاستجابة السريعة هما السلاح الوحيد في ترسانتنا.

(٣) عملية يوم الدَّيْنُونة

ثارت رؤيةٌ مرعبةٌ لبريطانيا وهي معرَّضة لهُجوم إرهابي في فبراير ٢٠٠٣ عندما كشفت الحُكومة البريطانية النِّقاب عن أكبر عملية تغيير لتدابير التخطيط للكوارث منذ الحرب الباردة؛ فقد أوضحت بتفاصيل مرعبة كيف أن خدمات الطوارئ سوف تطهِّر أولئك الذين تعرضوا لهجمة كيميائية أو بيولوجية أو نووية.

تنطوي هذه الخُطَط التي تتحسب ليوم هلاك كهذا أن يقوم طاقم مكافحة حرائق متخصص — يرتدي أفرادُه ملابسَ واقيةً — بتشغيل وحدات التطهير الجماعية التي فيها يُجَرَّد الناجون من ملابسهم ثم يتعرضون لحمامات مياه دافئة لإزالة آثار المواد الخطيرة بمعدل ١٥ ثانية لكل شخص. وسوف تُصادَر منهم ساعاتُهم ونظاراتُهم والوسائلُ السماعية الخاصة بهم، وعندئذ يرتدي الضحايا أثوابًا بيضاءَ ثم يُرْسَلون إلى محطات تطهير المصابين.

رُصِدَ مبلغ ٥٦ مليون جنيه إسترليني لمعدات التطهير والمراقبة الجماعية، وتضاعف عدد البدلات الواقية المانعة لتسرب الغاز إلى ٤٠٠٠ بدلة، ولسوف تُخصص أطواقٌ من أفراد الشرطة بالإضافة إلى قوات عسكرية مسلحة احتياطية لدَرْءِ حالة الفزع الحتمية وضمان تطهير المصابين قبل علاجهم.

(٤) الحرب الجُرْثُومية

جرى تحديدُ حوالي ٢٥ ميكروبًا أو سُمًّا بكتيريًّا باعتبارها أسلحةً بيولوجية محتملة. وتعتبر الجمرةُ الخبيثةُ والجدريُّ والطاعون الدَّبْلِي والحمى النزفية الفيروسية أخطرَ هذه التهديدات؛ إما لأنها سهلةُ الانتشار، أو لأنها تنتقل من إنسان إلى آخَرَ، أو لأنها تؤدي إلى معدل وَفَيَات كبير، أو لأنها قد تثير ذُعْرًا واضطرابًا اجتماعيًّا على نِطاق واسع. ذكر مركزُ مكافحة الأمراض واتِّقائها أن منها الحمى النزفية الفيروسية باعتبارها تمثل أكبرَ خطرٍ — وهي نقطة في غاية الأهمية في بَحْثنا — إذا ما استُخْدِمت كسلاح بيولوجي لِمَا تتمتع به من قدرة على الانتقال عن طريق الهباء الجوي وارتفاع معدل وفياتها. إن تصنيع العوامل المسبِّبة لهذه الأمراض يحدُث بسُهولة الآنَ، إلا أن إنتاجها في صورة تُمَكِّنُ من إرسالها بسُهولة ومن إلحاق الضرر بأعداد كبيرة من البشر، يكون أكثر صعوبة من الناحية الفنية في الوقت الراهن.

(٥) الخوف من الجَمْرة الخبيثة

إذن ماذا حدث في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١، وبَدَّلَ تمامًا تفكيرَ الجميع وتقييمَهم لاحتمالِ وُقوع هجمة إرهابية بيولوجية، وأدَّى إلى إعادة تخصيص مبالغَ ماليةٍ ضخمةٍ لهذا الغرض؟ السلاح الذي استُخدم في هذه الواقعة هو أبواغ الجمرة الخبيثة التي أُرسلت عبر البريد إلى الولايات المتحدة؛ مما أسفر عن خمس حالات وفاة، صاحَبَها اضطرابٌ كبير وذُعر بين صُفوف العامَّة.

وإلى جانب الخوف من هُجوم بريدي آخر، أشار الخبراء إلى أن الأبواغ الصغيرة التي يحملها الهواء يمكن إقحامُها في نُظُم تكييف الهواء في التجمعات السكنية أو في مناطق التسوق وفي المباني الحكومية مثل البيت الأبيض أو مقر البرلمان الأمريكي الكابيتول. هجمة مثل هذه من شأنها أن تُودِيَ بحياة الآلاف من البشر، بل أن تثير نوبة ذُعر جماعية في أنحاء أمريكا كذلك.

قارن باتريك كيلي — مدير أنظمة المراقبة والاستجابة للأمراض المعدية الناشئة على مستوى العالم التابع للبنتاجون — هذه الهجمة بنتائج فيروس نقص المناعة البشرية والملاريا في كل أنحاء العالم قائلًا: «لا يمكنك أن تتوقع منهم الاكتراث لخمس حالات وفاة من الجمرة الخبيثة.» ومع ذلك كان لهذه الحملة الإرهابية التي تبدو تافهةً عواقبُ هائلة على نطاق واسع. أرسل مكتب التحقيقات الفيدرالي خطابًا إلى أعضاء الجمعية الأمريكية للأحياء الدقيقة في يناير ٢٠٠٢ يشير فيه إلى أن بكتيريا الجمرة الخبيثة التي استُخدمت في هذه الهجمات ربما جاءت من معمل بالولايات المتحدة كان يُجْرِي أبحاثًا لمكافحة الأسلحة البيولوجية. وقد أثبت التأريخ باستخدام الكربون المشعِّ الآنَ أن الجمرة الخبيثة التي أُرسلت عبر البريد إلى عُضْوَيْنِ بمجلس الشيوخ وصحفيين بارزين قد صُنِّعَت وطُحِنَت لتصبح مسحوقًا ناعمًا في خلال العامين السابقين للهُجوم.

قَطْعًا هناك آلاف الأطنان من أبواغ الجمرة الخبيثة المخفية في مستودعاتٍ حولَ العالم، ما يكفي لإبادة البشرية إذا ما تم إرسالها على نحو سليم. وقد أنتج العلماءُ الروسيون بالفعل سُلالةً من الجمرة الخبيثة مقاوِمة لِلَّقَاح. تستطيع ١٠٠كجم فحَسْبُ من الأبواغ التي تُطلق في صورة هباء جوي عكس الرياح في منطقة حضرية كبرى أن تُودِيَ بحياة مليون شخص، علاوة على أن الأبواغ قوية للغاية وسيكون من الصعب جدًّا القضاء عليها وتطهير المنطقة المعرضة للهجوم؛ ومن ثم سيكون الخللُ في الخدمات ونمط الحياة الطبيعي كبيرًا وطويلَ المدى.

على الرغم من المخاوف المبرَّرة بشأن الإطلاق الجماعي العَمْدِيِّ لأبواغ الجمرة الخبيثة، فإن إجماليَّ آثارها على العالم لن يُذكَر مقارَنة بعودة الموت الأسود أو مرض ناشئ مشابه. حَتْمًا ستكون هناك معدلات وفيات هائلة، إلا أن الجمرة الخبيثة ليست سلاحًا مثاليًّا لأنها لا تنتقل من إنسان إلى آخر، وستكفي احتياطات العزل بإقامة الحواجز لدَرْئه. ستكون موجة التفشي قاصرةً في المقام الأول على المنطقة التي تكون باتجاه الريح من نقطة الانطلاق، ولن يتأثر بقية العالم. من المفترض ألا يكون هناك جائحة. أضف إلى هذا أن السلطات الصحية صارت متأهبة الآن لمكافحة أي هجمة بالجمرة الخبيثة، وستتمكن من تقليل عدد الوفيات على نحو كبير.

(٦) اليرسينية الطاعونية

وماذا عن الطاعون الدَّبْلِي؟ قيل إنه إبَّان الحرب العالمية الثانية أسقط اليابانيون براغيثَ مصابةً بالطاعون الدَّبْلِي على المدن الصينية، وربما نجحت في قتل بعض الأفراد من خلال إطلاق موجات تفشٍّ محلية للطاعون الرئوي كما يُفترض. وإبَّان الحرب الباردة أَوْلَى الاتحاد السوفييتي اهتمامًا كبيرًا لأبحاث اليرسينية الطاعونية باعتبارها سلاحًا محتملًا، وهي تتصدر قوائمَ معظم الحُكومات للعوامل المعدية التي لا بد أن تكون سبلُ مكافحتها جاهزة، لكن لماذا؟

لا ينبغي أن ينزعج أي شخص على الإطلاق من احتمال حُدوث هُجوم إرهابي باستخدام الطاعون الدَّبْلِي. لقد عاشت الولايات المتحدة بهذا المرض على مدار المائة عام الأخيرة، وهو لا يسفر إلا عن عدد محدود من الحالات سنويًّا. إن إرسال وباء من الطاعون الدَّبْلِي وترسيخه سيكون في غاية الصُّعوبة؛ لأن عوامل كثيرةً جدًّا — كما رأينا في الفصل الحادي عشر — سوف تؤثر بقوة في النتائج، وانتشار الوباء سيكون مستحيلًا. في جميع الأحوال، يُعالَج الطاعون الدَّبْلِي بسهولة باستخدام المضادات الحيوية.

إذن لماذا كرست الحُكومات الكثيرَ من الجهد والمال من أجل إنتاج اليرسينية الطاعونية كسلاح بيولوجي؟ الإجابة واضحة: هم يعتقدون أن الطاعون الدَّبْلِي كان السبب في الموت الأسود الذي أَوْدَى بحياة نصف سكان أوروبا في ضربة واحدة، وفي رأيهم لا بد أنه بكل تأكيد السلاح المثالي.

هذه حماقة بالتأكيد؛ إذ لم يكن هناك أي اعتبار للبيولوجية الأساسية للطاعون الدَّبْلِي، وقد ازداد الأمر سوءًا بشدة بسبب المبالغ المالية الهائلة المتوفرة بلا حُدود لأي شخص يعمل في أي شيء له صلة من بعيد بالإرهاب البيولوجي. وكنتيجة لذلك، تتولى العديد من الفرق الآن نمذجة آثار وُقوع وباءٍ للطاعون الدَّبْلِي الذي قد يطلقه إرهابي. في رأينا هذا إهدار تامٌّ للوقت والموارد. يجدر بعلماء هذه الأبحاث قراءة الفصل الحادي عشر، إلا أن لديهم رغبة راسخة ومالية في الحفاظ على الوهم الحاليِّ. نرى أنه من الضروري أن يفهم كل فرد — وبالأخص أولئك الذين يوزِّعون مبالغَ كبيرةً من الأموال العامة بلا داعٍ — الطبيعةَ الحقيقية للطاعونين الدَّبْلِي والنزفي والمشكلات الحقيقية للحرب الجُرْثُومية.

(٧) الفيروسات الفتاكة

يجدر بنا أن نوليَ اهتمامًا أكثر لاحتمال أن يستخدم الإرهابيون الأمراضَ الفيروسية؛ فهي رخيصة وسهلة النقل ويقوم المصابون أنفسهم بكل العمل الذي يساعد على تكاثرها ونشرها؛ فالفيروس يتكاثر بداخل الضحية بمعدل مذهل، وسرعان ما يكون جاهزًا للانتقال المستمر ليصيب كثيرين آخرين. ومع وُجود السفر الجوي الحديث، ستكون النتيجة وباءً عالميًّا.

لطالما اعتُبر فيروس الجدريِّ سلاحًا بيولوجيًّا محتملًا، ومن المعروف أن كَمِّياتٍ مخزنةً منه جاهزة للاستخدام، وفي نوفمبر ٢٠٠٢ حددت الولايات المتحدة الأمريكية أربعَ دُول لديها عيِّنات سرية غير معلن عنها من الفيروس: وهي العراق وكوريا الشمالية وروسيا وفرنسا. كل ما يحتاجه الإرهابي هو إرسال مصاب واحد ليتنقل باستمرار، وليكن على سبيل المثال في مترو أنفاق لندن؛ كي يبدأ وباء كبير. قدم برنامج تليفزيوني مدته ٩٠ دقيقة في محطة البي بي سي هذا السيناريو التخيلي في فبراير ٢٠٠٢، الذي فيه وصل إجماليُّ العدد النهائي للوَفَيَات إلى حوالَيْ ٦٠ مليون شخص. تعمل الحكومات في الخفاء للتنبؤ بعاقبة هُجوم بفيروس الجدريِّ ولتنظيم سبل المكافحة عن طريق اتخاذ تدابير الصحة العامة المناسبة.

لقد أمضينا العديد من السنوات في بحث أوبئة الجدريِّ عبر التاريخ، مع أن موجة تفشي هذا المرض ستكون مرعبة، فإننا لا نظن أن ضربة إرهابية باستخدام الفيروس العادي سوف تسفر عن كارثة كاملة. إن سلالة الفيروس التي كانت في إنجلترا في القرنين السابع عشر والثامن عشر أودت بحياة ٢٠٪ فقط من الأطفال المصابين.

بمجرد أن يتم التعرف على المرض في أعقاب هجمة إرهابية، يمكن تقليل انتقال العدوى بنسبة كبيرة عن طريق استخدام الأقنعة، والأهم من ذلك، أن اللَّقاح الوقائي متاح. إن هذا المرض الفيروسي المعدي معروف جيدًا، ومع التخطيط المستقبلي المسبق، وتوافر تدابير صحية جيدة للتعامل مع الطوارئ، والتشخيص المبكر، والاستجابة السريعة والتطعيمات الجماعية، يمكن احتواء وباء الجدريِّ الناتج عن ضربة إرهابية في مدينة كبيرة والسيطرة عليه في النهاية.

قررت حكومة الولايات المتحدة تصنيع وتخزين لَقاح يكفي سكانها بالكامل: وهي مهمة عملاقة سوف تكلف مئات الملايين من الدولارات. بدأ الرئيس بوش التنفيذَ في الثالث عشر من ديسمبر ٢٠٠٢، عندما أعلن أنه بِحُلول الخامس عشر من مارس ٢٠٠٣ سيكون نصف مليون فرد من المدنيين العاملين بمجال الصحة بالإضافة إلى نصف مليون جندي قد تَلَقَّوْا تطعيمات ضد المرض. من حسن الحظ أن الأعراض الجانبية الحادة كانت نادرة، إلا أن هدف الولايات المتحدة المتمثل في تطعيم ١٠ مليون شخص بِحُلول يوليو ٢٠٠٣ يبدو بعيدَ المنال.

إلا أن ثمة تحفظًا كبيرًا؛ فقد حذرت الدكتورة فيفيان نيثنسون من الرابطة الطبية البريطانية من أن استعدادات المكافحة الميدانية يمكن أن تساعد في مكافحة الهجمات التي تتم باستخدام العوامل البيولوجية «المعروفة» فقط.

لا توجد استجابة طبية لمواجهة أسلحة بيولوجية مجهولة أو سلالات معدلة وراثيًّا لجراثيم خارقة لا يتوافر لَقاح لها. المكافحة الحقيقية الوحيدة لاستخدام الأسلحة البيولوجية أو الكيميائية هو منع تصنيعها في المقام الأول.

الخلاصة: إن الكمَّ الهائل من الوقت والمال المكرَّسين حاليًّا لمكافحة الأمراض المُعدية الناجمة عن هجمة إرهابية ضروري ومحبذ. لكن ينبغي ألا ننسى أن هذا النشاط الرائع لم يُثِرْهُ سوى وفاة خمسة أشخاص بعد إرسال أبواغ الجَمْرة الخبيثة عبْر البريد الأمريكي، وهناك إشارة واضحة إلى المبالغة في الاستجابة. لم يكن هناك قَطُّ — وبالطبع لا يكون هناك الآن مع كل هذه الاحتياطات المحبذة — أي إشارة إلى أن تأثير هجمة إرهابية بيولوجية أو حرب جُرْثومية باستخدام أي من الجراثيم المعروفة في العالم اليوم لن يكون سوى أكثر قليلًا من نُتْفَة مقارنةً بتأثير عودة الموت الأسود.

(٨) نهاية العالم؟

لماذا إذن أدرجْنا نشاط الإرهاب البيولوجي في هذا الفصل كطريقة يمكن أن يعود بها الموت الأسود أو أي شيء مشابه له؟ تكمن الإجابة في ثورة التكنولوجيا الحيوية. عندما أُبلِغ للمرة الأولى عن تفشي سارس في الشرق الأقصى، وُضِع الإرهاب البيولوجي في الحُسبان كسبب محتمل، وجرى التعامل معه بجدية على جانِبَيِ المحيط الأطلنطي. ذكرت وزارة الصحة البريطانية: «بلا شك يبدو نمط الإصابة كمرض طبيعي لكننا بالطبع ننتظر حتى تظهر كافة الحقائق قبل أن نحكم. من السخافة أن نستبعد أي شيء في هذه المرحلة.»

يبقى الاحتمال المرعب أن بمقدور الإرهابيين تصنيع شيء شبيه بالموت الأسود. ثمة الكثير من علماء الأحياء الدقيقة وخبراء الحرب الباردة الذين انتقلوا من تصنيع كميات كبيرة مخزنة من أبواغ الجمرة الخبيثة وتصنيع نسخ مقاوِمة للَّقاح من الأمراض المعروفة، إلى إنتاج جراثيم خارقة مصممة خصيصًا على حسب الطلب. إن إمكانيات التكنولوجيا الحيوية رائعة، وقد بات إنتاج كائنات بيولوجية جديدة متناهي السهولة. إن الميكروبات والسموم التي تهاجم الجهاز المناعي للإنسان أو الأغماد العصبية موجودة بالفعل، وقد نجح كل من الأمريكيين والروسيين في إنتاج نسخ أكثر فتكًا من الجمرة الخبيثة والجدريِّ وإيبولا والطاعون الدَّبْلِي.

في نوفمبر ٢٠٠٣، أُعلِن عن أن عالمًا كان يحصل على تمويلٍ من حُكومة الولايات المتحدة أَنْتَجَ عمدًا عن طريق الهندسة الوراثية شكلًا شديد الفتك من جدريِّ الفئران، وهو فيروس قريب من فيروس الجدري.

أثبت العلماء الأمريكيون مؤخرًا مدى سهولة إنتاج جراثيم فتاكة من أجل الأسلحة البيولوجية؛ فقد ركَّيبوا نسخة من صنع الإنسان من فيروس شلل الأطفال من خلال استخدام الدي إن إيه وخريطة جينية لمسبب المرض متاحة على الإنترنت. كانت هذه هي المرة الأولى التي يستخدم فيها فريق من العلماء التكنولوجيا المتاحة في صنع فيروس صناعي بالكامل من البداية. ولاختبار مدى كفاءته حقنوا به الفئران، التي عانت أولًا من الشلل ثم ماتت.

في الواقع، إن استخدام مرض ناشئ أو جُرثومة خارقة معدَّلة بيولوجيًّا سيكون حيلةً ماكرة من الإرهابيين. قد لا يثير هذا الشُّكوك لمدة طويلة يمكن أن تتكون خلالها جائحة عالمية، في حين أن تفشي الجدري في أي مكان في العالم سوف يُعرف في الحال أنه من صنع الإنسان.

بلا شك، يومًا ما عمَّا قريب، سوف يبدأ شخص ما في مكان ما بالعبث بالحمى النزفية الفيروسية. تخيل جُرثومة خارقة معدلة وراثيًّا أشد فتكًا وأكبر قدرة على العدوى من الموت الأسود؛ حينئذٍ سينتشر هذا المرض عن طريق العدوى الرَّذاذية، ولن يحتاج الأمر إلا إلى مصاب واحد (وإن كان الإرهابي سيتمنى وسيعمل من أجل إصابة المزيد، ويُفضل في مختلف البلدان لتوفير مساحة لوقوع أخطاء) كي يحدث الدمار التام. هذا هو خطر اللعب بالنار، وهو نتيجة مباشرة للثورة التكنولوجية الحيوية التي حدثت في أعقاب الاكتشاف المصيري للبنية الحلزونية المزدوجة للحامض النووي. وهكذا صارت خريطة الحياة خريطةً للموت.

(٩) دعوة لليقظة

لقد اكتملت رحلتُنا. لقد قلبنا التاريخ رأسًا على عقب. ومن اكتشافنا الذي حدث بمحض المصادفة لسِجِلِّ أحد الأوبئة في بلْدة تُقام فيها سوق مركزية بشمال إنجلترا، نعرف الآن أن الموت الأسود والطَّوَاعِين كان سببها أكثر الأمراض المعدية الناشئة رعبًا على مرِّ التاريخ. بعد أن هرب الطاعون النزفي من إثيوبيا منذ حوالي ٣٠٠٠ سنة، متنقلًا كما هو الحال دائمًا من خلال حركة التجار المصابين، وطَّد قاعدته في بلاد الشام، ومن هناك ضرب الحضارتين اليونانية والبيزنطية والإمبراطورية الإسلامية الأولى، وكانت الدويلات العامرة هي ضحاياه المفضلة.

وأخيرًا، في منتصف القرن الرابع عشر، دمر الطاعون النزفي سكان أوروبا، وهي أعظم كارثة بشرية على مرِّ التاريخ. في الأيام التي كانت فيها وسائل المواصلات محدودة للغاية، استطاع أن يصنع هذه الضربات طويلة المدى فقط بسبب فترة حضانته الطويلة للغاية، وعلى مدار الثلاثة القرون التالية، أحكم قبضته القاسية على أوروبا، ولم يَخْتَفِ أخيرًا إلا بفضل وُجود طفرة جينية لدى قلة محظوظة.

لا بد أن ندرك الأخطار المرعبة للأمراض المعدية الناشئة ونَقْبَلها. قلما كانت تحدث هذه الأمراض حتى حَوَالَيْ عام ١٩٧٠، عندما تغير نمط حياتنا سريعًا وكليةً، وباتت تتوارد البلاغات عن مرض جديد كل عام. لكن، رغم خُطورة هذه الأمراض وقدرتها الكبيرة على الفتك، فإنها لا تبلغ وحشية سفَّاح العُصور الوسطى على الإطلاق. تُظْهِر الروايات التي عرضناها بكل وُضوح المعدلَ الصاعق للخسائر في الأرواح؛ فقد لَقِيَ نحو نصف سكان العالم الغربي حَتْفَهم في وباءٍ واحد للموت الأسود، وهو حدث لا مثيل له. إن وصف الميتات الأليمة التي كان يِلْقاها الشخص وحيدًا تقشَعِرُّ له الأبدان ويجعل الدم يتجمد في عُروق كل مِنَّا.

إننا مدينون لأنفسنا ولمن ماتوا بأن نظل محترسين على الدوام لئلا يعاود الطاعون النزفي الظُّهور، وأن نتأكد أنه ليس لديه فرصة لإعادة تأسيس معقِل له من خلال الجهل والتحريف. بهذه الطريقة لن تذهب معاناة وموت الملايين سُدًى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤