الرسالة الثانية

من المَرِيَّة إلى قرطبة

أظنك، يا أخي، لا تزال على ذِكر من أن الرسالة الأولى من هذه الرسائل كتبت ونحن على متن البحر، قبل أن نصل إلى مرافئ الأندلس. أما هذه الرسالة الثانية فقد وضعناها بعد أن حططنا رحالنا في قرطبة؛ حضرة هذه البلاد (عاصمتها). وقد خصصت هذه الرسالة بوصف كل ما مر بنا من حين اقترابنا من ميناء المَرِيَّة إلى أن وصلنا إلى قرطبة.

أما المَرِيَّة فهي إحدى مدن الأندلس الكبيرة الواقعة في شرقيها، وهي على ساحل البحر الرومي (البحر الأبيض المتوسط)، وهي مرسًى للسفن القادمة إلى هذه البلاد الأندلس — وفي مينائها يربض الجانب الأكبر من أسطول الأندلس الأعظم، والجانب الآخر يرسي في بجاية — وهي واقعة بين جبلين، فعلى الجبل الواحد قصبتها المشهورة بالحصانة، وعلى الآخر ربضها، والسور محيط بها وبالربض، وفي غربيها ربض لها آخر يسمى ربض الحوض، ذو فنادق وحمامات وخنادق وصناعات. وقد استدار بها من كل جهة حصون مرتفعة، وأحجار أولية، وكأنما غربلت أرضها من التراب، ولها مدن وضياع عامرة متصلة الأنهار، وطول واديها أربعون ميلًا في مثلها، كلها بساتين بهجة، وجنات نضرة، وأنهار مطردة، وطيور مغردة، وتشتمل كورتها على معدن الحديد والرخام، وبها لنسيج طرز الحرير ثمانمائة نول، وللحلل النفيسة والديباج الفاخر ألف نول، وللثياب الجرجانية والأصفهانية كذلك، ويصنع بها من صنوف آلات الحديد والنحاس والزجاج ما لا يوصف، وقد علمت أنه لا يوجد في بلاد الأندلس أكثر مالًا من أهل المَرِيَّة، ولا أعظم متاجر وذخائر، وبها من الحمامات والفنادق نحو الألف، وفاكهة المَرِيَّة يقصر عنها الوصف حسنًا، وفيها كثير من العلماء والأدباء والفلاسفة.١

وجملة القول: إن المَرِيَّة هذه كما رأيت تزخر بالحياة زخرًا، وتنطق بنشاط المسلمين وجدهم، وبأقصى غايات عزِّهم لذلك ومجدهم.

فلو أن السماء دنتْ لمجد
ومكرمة دنتْ لهم السماء
ولما صافح مركبنا أمواه المَرِيَّة — وكان يسير بحذائنا مركب آخر علمنا أن فيه أبا علي القالي اللغوي؛ وافد العراق، وسائر من قاموا معنا من الإسكندرية في مركب أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر — آنسنا من جانب الميناء «ميناء المَرِيَّة» أسطولًا كبيرًا قادمًا علينا حتى إذا صار منا أدنى ذي ظَلَم،٢ أخذ يحيينا مَن فيه بالرايات والأعلام — وكان فيه الأمير عبد الرحمن بن رماحس؛ قائد أساطيل الأندلس الأكبر — إذ أمره مولاي الحكم ابن أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر وولي عهده أن يتلقانا في وفد من وجوه الأندلسيين، ويجيء معنا إلى قرطبة تكرمةً من الأمير لنا ولأبي علي القالي — حفظه الله — فكان من رجال ذلك الوفد شاعر الأندلس يوسف بن هارون الرمادي، وأبو بكر بن القوطية؛ سيد علماء اللغة في الأندلس، وابن رفاعة الألبيري؛ أحد أدباء ألبيرة، وفتى نشأ يتوقد ذكاءً، ويقطر أدبًا وألمعية، يُسمَّى أبا بكر الزبيدي، وكثير غير أولئك من علماء الأندلس وأعيانها وقوادها. وهذه، عمرك الله، أية مُحَسَّة على شدة عناية الأمير بالعلم وأهله، ولا بدعَ؛ فقد وقفنا من ذلك على الشيء الكثير الذي سما بهذا الأمير في أعيننا. فمن ذلك فيما تحققناه أنه يبعث الحين بعد الحين في شراء الكتب إلى الأقطار رجالًا من التجار، ويرسل إليهم الأموال لابتياعها؛ حتى جلب منها إلى الأندلس ما لم يعهدوه في ربوعها، وقد بعث في كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، وأرسل إليه فيه ألف دينار من الذهب العين، فبعث إليه بنسخة من قبل أن يخرجه إلى العراق، وكذلك فعل مع القاضي أبي بكر الأبهري في شرحه لمختصر ابن الحكم، فهكذا هكذا تكون الملوك والأمراء، وبمثل هذا ينتعش العلم والعلماء.

ولما أرسى مركبنا والمركب الذي يقلُّ أبا علي القالي على ميناء المَرِيَّة، قدم لنا ابن رماحس جميع رجال الوفد الأندلسي وعرَّفنا بهم، ثم امتطينا المطايا الفارهة وذهبنا إلى دار ابن رماحس الكائنة في قصبة هذه المدينة.

ولما استقر بنا النوى، وألقينا عصا التسيار، وانتظم شملنا في تلك الدار، أخذ الرمادي الشاعر ينشدنا أبياتًا له في إسماعيل بن عيذون القالي يمتدحه بها،٣ علق بالذاكرة منها هذه الأبيات:
مَن حاكمٌ بيني وبين عذولي
الشجو شجوي والعويل عويلي
في أي جارحة أصون معذبي٤
سَلمَتْ من التعذيب والتنكيل
إن قلت: في بصري، فثَمَّ مدامعي
أو قلت: في قلبي، فثَمَّ غليلي
لكن جعلت له المسامع موضعًا
وحجبتها عن عذل كل عذول

إلى أن يقول متخلصًا بعد أن وصف الروض:

روضٌ تعاهده السحاب كأنه
مُتَعاهدٌ من عهد إسماعيل
قِسْه إلى الأعراب تعلم أنه
أولى من الأعراب بالتفضيل
حازت قبائلهم لغات فرقت
فيهم وحاز لغات كل قبيل
فالشرق خالٍ بعده وكأنما
نزل الخراب بربعه المأهول
فكأنه شمسٌ بدت في غربنا
وتغيبت عن شرقهم بأفول
يا سيدي هذا ثنائي لم أقل
زورًا ولا عرَّضت بالتنويل
من كان يأمل نائلًا فأنا امرؤ
لم أرجُ غير القرب في تأميلي
وبعد ذلك أخذنا في ضروب من الحديث أفضت في نهايتها إلى حادث كدَّر علينا صفاءنا، وذلك أن أبا علي أخذ ينثر على الحفل دُرر أدبه، فكان من بين ما جاء في حديثه أدب عبد الملك بن مروان، وأنه قال يومًا لجلسائه: أي المناديل أشرف؟ فقال قائل: مناديل مصر كأنها غِرقِئُ البيض،٥ وقال آخر: مناديل اليمن كأنها نَور الربيع، فقال عبد الملك: ما صنعتما شيئًا، أفضلُ المناديل مناديلُ أخي بني سعد عبدة بن الطيب إذ يقول:
لما نزلنا نصبنا ظل أخبية
وفار للقوم باللحم المراجيل٦
ورد وأشقر٧ ما ينئيه طابخه٨
ما غَيَّر الغَليُ منه فهو مأكول
ثُمتَ قمنا إلى جُرد مسوَّمة٩
أعرافهن لأيدينا مناديل
وأنشد القالي الكلمة في البيت: «أعرافها لأيدينا مناديل»، فما كان من الأديب ابن رفاعة الألبيري — وقد لاحظنا في خلقه حرجًا وزعَارة١٠ — إلا أن استعاد أبا علي البيت متثبتًا مرتين، في كلتيهما ينشد: «أعرافها»، فقام ابن رفاعة وقال: مع هذا يوفد على أمير المؤمنين وتتجشم الرحلة لتعظيمه، وهو لا يقيم وزن بيت مشهور بين الناس لا تغلط الصبيان فيه. والله لا تبعته خطوة، ثم همَّ بالانصراف، فندبه الأمير ابن رماحس أن لا يفعل، فلم يجد فيه حيلة، فاضطر ابن رماحس إلى أن يكتب إلى الحكم يعرِّفه ويصف له ما جرى من ابن رفاعة ويشكوه، فجاء جواب الحكم إلى ابن رماحس بما نصه — كما أطلعني عليه ابن رماحس:
الحمد لله الذي جعل في بادية من بوادينا مَن يخطئ وافد العراق إلينا، وابن رفاعة أولى بالرضى عنه من السخط، فدَعْه لشأنه، وأقدم بالرجل غير مُنْتَقصٍ من تكريمه؛ فسوف يعليه الاختبار — إن شاء الله — أو يحطُّه.١١

الأسطول الأندلسي وروح العظمة التي ترفرف عليه

أسلفنا لك في الرسالة الأولى من هذه الرسائل شيئًا من القول، قد يكون مغنيًا في معنى الأسطول وأثره الصالح في الدولة التي تُعنى به، وأن الدولة الفاطمية في أفريقية والدولة الأموية في الأندلس؛ لهذا السبب بعينه، ولأن بلادهما واقعة على سِيف البحر الرومي (البحر الأبيض المتوسط) وبحر الظلمات (المحيط الأطلانطي) قد بذَّتا سائر الدول في العناية بالأساطيل؛ حتى قبضتا بها على أعنة البحار، واستوتا١٢ على ما فيه من جزائر وأقطار، وآضتا بذلك، وآضت رعاياهما سادة البر والبحر؛ بل ذل الزمان لهم، ولانت أعطاف الدهر. وهذا هو الذي أرهج بين هاتين الدولتين بالفساد، وأرسل بينهما عقارب الأحقاد، وأثار بينهما نقع الحرب والجهاد؛ حتى لا تكاد الحروب بين الدولتين ينطفئ لهيبها، فتراهما للتافه من الأسباب يجردان الجيوش بعضهما على بعض، وتتلاقى أساطيلهما مصرحة بالشر، ولعلك لم تنسَ بعدُ حادثة هذا المركب الأندلسي الذي قمنا فيه من الإسكندرية، وأنه تحرش وهو ذاهب إلى المشرق بمركب للمعز لدين الله الفاطمي، وأخذ ما فيه من بريد وبضائع، فما كان من المعز إلا أن أرسل أسطولًا كبيرًا إلى مربض الأسطول الأندلسي في المَرِيَّة، كما أُخبرنا بذلك ونحن في هذا البلد — فعاث فيه عيثًا، وألحق به وبالمَرِيَّة ما أرضاه، ونقع غلته، وأطفأ لهيبه، فلم يسع أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر إلا الانتقام من المعزِّ، فأمر بتجريد الأسطول، وحشد المقاتلة، والذهاب إلى أفريقية، فذهب إليها تحت إمرة حاجبه الوزير أحمد بن عبد الملك بن شُهَيد أسطول كبير يُقلُّ عددًا عظيمًا من رجالات الحرب، فعاج أولًا على مدينة وهران، وجمع من فرسان الأندلس المحتلين بلاد المغرب نحوًا من خمسة وعشرين ألف فارس، ثم هجم بالرجلان والفرسان على أفريقية، ودارت بينه وبين رجال المعز رحَى الحرب، فهزم الأندلسيون قبائل صنهاجة وكتامة — وكان يتألف منها السواد الأعظم من جيش الأفارقة — واقتفوا آثارهم حتى بلغوا ضواحي تونس — وهي غنية بتجارتها الواسعة، يسكنها كثير من تجار اليهود الأغنياء — فحصروها برًّا وبحرًا، وألحوا في الحصر، فلما رأى أهلوها أن الخطر محدق بهم عرضوا أن يسلموهم المدينة، وقدَّموا مبلغًا كبيرًا من المال إلى الحاجب ابن شهيد، وقدموا إليه كذلك أنسجة من كل نوع، وطرفًا من الحلي، وذهبًا، وحجارة كريمة، وملابس من الصوف والحرير، وأسلحة وخيلًا وعددًا عظيمًا من الأرقَّاء، ثم غنم عدا ذلك سفن الميناء وأثقالها، وضمَّها إلى سفنه، وكرَّ راجعًا إلى الأندلس.

ومن سُنَنِهم التي مضوا عليها، وجرت عادتهم بها أن يحتفلوا بالأسطول عند رجوعه ظافرًا من حرب، فتقوم الأساطيل بألعاب وحركات بمرأى من عظماء الدولة ومسمع، كأنها في حرب مع الأعداء، فاتفق في اليوم الذي وصلنا فيه إلى المَرِيَّة أن آب الأسطول الأندلسي رافعًا أعلام النصر في هذه الواقعة، فأمر أمير البحر عبد الرحمن بن رماحس بأن تقوم الأساطيل بألعابها، فما كان منا إلا أن بادرنا إلى إمتاع أنفسنا بمشاهدة هذه الألاعيب صحبة الأمير، فذهبنا إلى الميناء «ميناء المَرِيَّة»، فوجدنا ثمت في انتظارنا مركبًا كبيرًا كأنه رضوى أو ثبير أو الأمل الكبير، فدعينا إلى النزول فيه، ثم أخذ الأمير ابن رماحس في أن يرينا ما في هذا المركب من بروج وقلاع ومناظر وتوابيت، ومن منجنيقات ومكاحل بارود ونفط، ومن نوتية، ومن مقاتلة وأسلحة، وهلم مما قضينا منه عجبًا. وهذا المركب نوع من الأنواع التي يتألف منها الأسطول يسمى «الشواني»، الواحد منه «شونة»، وبعد ذلك أخذ هذا المركب يسير بنا الهُوَينَى في اختيال، مترجحًا ذات اليمين وذات الشمال، كأنه عروس مجلوة يرفرف عليها روح الجمال والجلال. وبعد أن سار بنا في البحر شيئًا، وقف حيث نشاهد حركات الأسطول وألاعيبه، وكان الشاطئ ساعتئذٍ قد غُصَّ بالنظارة من كل صنف من أصناف الناس، والزوارق قد انتثرت على متن البحر من جميع النواحي، وفيها ما لا يعلم عديدهم إلا الله من الأندلسيين والأندلسيات؛ كي يشاهدوا حركات الأسطول، فكان لذلك منظر تحسر دونه الظنون، وتتراجع دون إدراكه الأوهام؛ منظر يبهر رواؤُه الفكر، ويشيع الروعة في الصدر، وينتقل من هذا العالم إلى عالم آخر كأنه الخلود.

مجال أسود وملهَى سفين
فيا طيبَ لهوٍ ويا منظر
ويا حسن دنيا ويا عز مُلْك
يسوسهما السائس الأكبر
ثم بصرنا بعد ذلك بالأساطيل على اختلاف ضروبها وقد أخذت بصورة شيطانية في ألاعيبها، فإذا رأيت ثَمَّ رأيت كنائن،١٣ غير أنها تمرق مروق السهام، ورواكد١٤ هي مدائن، بَيدَ أنها تمرُّ مرَّ السحاب غير الجَهام،١٥ وأطيارًا، إلا أنها جوارح لا تصيد إلا الأرواح، وأفراسًا في سرعة البرق اللامح، سوى أنها ذات دُسُر وألواح.
تتخاذل الألحاظ في إدراكها
ويحار فيها الناظر المتأمل
فكأنها في اللطف فهم ثاقب
وكأنها في الحسن حظ مقبل

•••

فيا للجواري المُنْشَآت وحسنها
طوائر بين الماء والجو عُومَا
إذا نشرت في الجو أجنحة لها
رأيت به روضًا ونورًا مكممَا

•••

ذات هُدب من المجاذيف حاكٍ
هُدبَ باكٍ لدمعه إسعادُ
حمم فوقها من البيض نارٌ
كل مَن أرسلت عليه رماد

•••

ملأ الكماة ظهورها وبطونها
فأتت كما يأتي السحاب المغدق
عجبًا لها ما خِلت قبل عِيانها
أن يحمل الأسد الضواري زورق

•••

زأرت زئير الأسد وهي صوامت
وزحفن زحف مواكب في زورق

•••

ترمي ببروج إن ظهرت
لعدو مخرقة بطنَا
وبنفط أبيض تحسبه
ماء وبه تذكي السكنا١٦

وما زالت الأساطيل تلعب كأنها في سوح القتال من لدن ذَرِّ قرن الشمس إلى أن جاء وقت الزوال.

وهنا يجمل بنا أن نجمل لك القول على أنواع السفن التي يتألف منها الأسطول الأندلسي وعُددها وآلاتها،١٧ فمن تلك الأساطيل نوع يقال له: «الشواني»، جمع الشونة أو الشيني كما مر بك آنفًا، وهي أجفان حربية كبيرة تقام فيها الأبراج والقلاع للدفاع والهجوم، وأبراجها ذات طبقات مربعة؛ فالطبقة العليا منها تقف فيها الجنود المسلحة بالقسي والسهام، وفي الطبقة السفلى الملاحون الذين يجذفون بنحو من مائة مِجْذاف، ويتراوح ما تحمله الشونة من المقاتلة ما بين المائة والخمسين وبين المائتين. وتجهز الشواني وقت الحرب بالسلاح والنفطية والأزودة، بَلهَ الجنود البحرية. ومن أنواع الأسطول نوع يعرف «بالبوارج»، جمع البارجة، وهو أكبر من الشواني، ومثله نوع يقال له: المسطحات، ومن هذه الأساطيل نوع يقال له: «الحراقات»، جمع الحراقة، وهي مراكب حربية كبيرة قرابة الشواني، بيد أن هذه تنماز عن تلك بالمنجنيقات، وتلك عن هذه بالقلاع، فتراهم يحملون في الحراقة مكاحل البارود والعرادات والمنجنيقات١٨ يرمى بها النفط المشتعل على الأعداء — وهم يعملون الحراقة في صورة الأسد، وفي صورة الفيل، وفي صورة العقاب، وفي صورة الحية، وفي صورة الفرس، كتلك الحرَّاقات التي كانت للأمين رشيد، والتي يقول فيها الحسن بن هانئ:
سخر الله للأمين مطايا
لم تسخر لصاحب المحراب
فإذا ما ركابه سرن برًّا
سار في الماء راكبًا ليث غاب
أسدًا باسطًا ذراعيه يعدو
أهرت الشدق كالح الأنياب
لا يعانيه باللجام ولا السو
ط ولا غمز رجله في الركاب
عجب الناس إذ رأوه على صو
رة ليث يمر مر السحاب

إلى أن قال يصف هذه المطايا:

تستبق الطير في السماء إذا ما
استعجلوها بجيئة وذهاب
ذات سور ومنسر وجناحين
تشق العباب بعد العباب

وكحراقة طاهر بن الحسين التي يقول فيها بعض الشعراء:

عجبت لحراقة ابن الحسين
لا غرقت، كيف لا تغرق
وبحران: من فوقها واحد
وآخر من تحتها مطبق؟
وأعجب من ذاك أعوادها
وقد مسها كيف لا تورق؟
أما الطرائد،١٩ فهي السفن التي تحمل الخيل للأسطول، وأكثر ما يكون فيها أربعون فرسًا، والقراقير٢٠ فهي السفن الكبيرة التي تحمل الزاد والكراع والمتاع، والفلائك والقوارب والشلنديات،٢١ فهي من توابع الأسطول كالطرائد والقراقير.

أما عدد الأساطيل وآلاتها ومعداتها وأسلحتها، فهي الرماح والعصي والتراس والزرد والدرق والخوذ والمنجنيقات والعرادات.

وقد رأيت الأندلسيين يستعملون في حروبهم البحرية النار اليونانية، وهي مزيج من الكبريت وبعض الراتنجات والأدهان في شكل سائل، يُطلقونه من أسطوانة نحاسية مستطيلة يشدونها في مقدم السفينة، فيقذفون منها السائل مشتعلًا، أو يطلقونه بشكل كرات مشتعلة، أو قطع من الكتان الملتوت بالنفط، فيقع على السفن فيحرقها حرقًا. ومن غريب هذه النار أنها تشتعل في الماء والهواء كالنفط. وقد رأيتهم كذلك يستظهرون بالبارود الذي يسمونه «الثلج الهندي» — ونحن لم نسمع بأمة من الأمم اهتدت إلى هذا «الثلج الهندي» قبلهم٢٢ — ذلك إلى معدات أخرى لا أظنهم قد سبقوا إليها أرَانِيهَا الأمير ابن رماحس في الشونة التي كنا نشاهد منها حركات الأسطول، مثل التوابيت المعلقة فوق البروج، وهي صناديق كبيرة مفتوحة من أعلاها يصعد إليها الرجال قبل استقبال العدو، فيقيمون فيها للاستكشاف ومعهم حجارة صغيرة في مخلاة معلقة بجانب الصندوق، فيرمون العدو بها وهم مختبئون في هذه الصناديق، ومعهم عدا الحجارة قوارير النفط وجرار النورة، وهي مسحوق ناعم مؤلف من الكلس والزرنيخ يرمون به الأعداء في مراكبهم، فتُعمي أبصارهم بغبارها، وقد تلتهب فيهم التهابًا.

وقد رأيتهم وهم يرمونهم أيضًا بقدور الحيات والعقارب، وبقدور الصابون اللين كي يزلقوا أقدامهم. ومن حيلهم التي يتخذونها وقاء لهم من أعدائهم أنهم يحيطون المراكب بالجلود، أو اللبود المبلولة بالخل والماء، أو الشب والنطرون؛ كي لا يفعل النفط فيها فعله، ومن حيلهم أنهم يجعلون في مقدم المركب هناة كالفأس يسمونها اللجام؛ وهي حديدة طويلة محددة الرأس، وأسفلها مجوف كسنان الرمح، تدخل من أسفلها في خشبة كالقناة بارزة في مقدم المركب يقال لها: «الأسطام»، فيصير اللجام كأنه سنان رمح بارز في مقدم المركب، فيطعنون مركب العدو به، فلا يلبث حتى ينخرق فينصب فيه الماء فيغرق، ومن تلك الحيل أنهم إذا جن الليل لا يشعلون في مراكبهم نارًا، ولا يتركون فيها ديكًا، وقد يسدلون على المراكب قلوعًا زرقاء، فلا يرى العدو مراكبهم التي يشبه لونها لون الماء أو السماء. فسبحان المُلهِم من يشاء ما يشاء، ويخلق ما لا تعلمون، لا إله غيره.

أما رئاسة الأساطيل فقد جعلوا على كل أسطول قائدًا ورئيسًا؛ فالقائد يدبر أمر سلاحه وحربه ومقاتلته، والرئيس يدبر أمر جريه بالريح أو المجازيف، ومعرفة مسالك البحر وطُرُقه بواسطة الرهنامج٢٣ وبيت الإبرة، التي هي من مبتكراتهم ولم يسبقهم إليها سابق فيما علمنا. أما النظر في الأساطيل كلها، فيرجع إلى أمير واحد من أعلى طبقات المملكة يلقبونه أمير البحر أو أمير الماء.

وبعد أن أقمنا في المَرِيَّة ثلاثة أيام بلياليها، تحملنا منها في ركب فخم نبيل موفٍ على الغاية في الأبهة والروعة والجلال، قاصدين إلى قرطبة حضرة هذه البلاد، وكان في طليعة الركب أمير البحر عبد الرحمن بن رماحس؛ إذ أمره سيدي الحكم ابن أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر وولي عهده — كما أسلفنا — أن يتلقَّانا في وفد من وجوه الأندلسيين، ويجيء معنا إلى قرطبة مبالغةً من الأمير — حفظه الله — في الاحتفاء بنا، وبأبي علي القالي البغدادي، وبأبي عبد الله الصقلي الفيلسوف الذي وصل إلى المَرِيَّة قبل انفصالنا عنها، وكان في الركب من الأندلسيين الرمادي الشاعر، وأبو بكر بن القوطية، وأبو بكر الزبيدي، وكثير من أدباء الأندلس وأعيانها.

وقد بهرنا وسحر أعيننا وملك علينا ألبابنا ما رأيناه في طريقنا من استبحار العمران في هذا القطر الأندلسي؛ فقد كنا نمر في اليوم الواحد بثلاث مدن وأربع، وفي حيثما سرنا نرى الحوانيت في الأودية ورءوس الجبال؛ لبيع الخبز والفواكه والجبن واللحم والحوت وما إلى ذلك من ضروب الأطعمة، وكنا نتعثر تعثرًا بالجداول والأنهار تحفها البساتين وصنوف الزرع والنجوم والأشجار؛ حتى لظننا أنه ليس في هذه البلاد صحراء مقفرة أو أرض غامرة.

يا أهل أندلس لله دركم
ماء وظل وأنهار وأشجار
ما جنة الخلد إلا في دياركم
ولو تخيرت هذا كنت أختار
لا تختشوا بعد ذا أن تدخلوا سقرًا
فليس تدخل بعد الجنة النار

أما القرى والمعاقل والحصون فإنها لا تحصى كثرة، وقراها جميلة لتأنُّق أهلها في أوضاعها وتبييضها؛ لئلا تنبو العين عنها.

لاحت قراها بين خضرة أيكها
كالدر بين زبرجد مكنون

وأكثر مدنها مسور من أجل الاستعداد للعدو، وفي مدنها لذلك ما يبقى في محاربة العدو ما يربي على عشرين سنة؛ لامتناع معاقلها، ودربة أهلها على الحرب.

وكنا في طريقنا نتذاكر الأدب، ونتناشد الأشعار، ونخوض في ضروب من الحديث، لا علينا إذا نحن أوردنا شيئًا منها في هذه الرسالة؛ فمن ذلك أن أبا علي قال من كلمة له: «لما مررت بالقيروان وأنا أعتبر مَن أمرُّ به من أهل الأمصار، فأجدهم درجات في العبارات وقلة الفهم بحسب تفاوتهم في مواضعهم منها بالقرب والبعد، كأن منازلهم من العلم محاصة ومقايسة، فقلت: إن نقص أهل الأندلس عن مقادير ما رأيت في أفهامهم بقدر نقصان هؤلاء عمن قبلهم؛ فسأحتاج إلى ترجمان في هذه الأوطان، ولكن لما جئتَ إلى هنا قضيت عجبًا من أهل هذا الأفق الأندلسي في ذكائهم.»٢٤ ومن ثم كنا نراه٢٥ يتغطى عن الأندلسيين عند المباحثة والمناظرة ويقول لهم: «إن علمي علم رواية وليس علم دراية، فخذوا عني ما نقلت؛ فلم آل لكم أن صححت.»٢٦ ثم فرط منه قول ذهب فيه إلى تفضيل شعراء المشرق على شعراء المغرب، فانتدب له أحد الأدباء ممن كانوا في هذا الركب، وقال: «إن أهل الأندلس أشعر الناس فيما كثره الله تعالى في بلادهم، وجعله نصب أعينهم من الأشجار والأنهار والطيور والكئوس، لا ينازعهم أحد في هذا الشان. أما إذا ذهب نسم، ودار كأس في كف ظبي رخيم، ورجَّع بمٌّ وزير.٢٧
وصفق للماء خرير، أورقت العشية، وخلعت السحب أبرادها الفضية والذهبية، أو تبسم عن شعاع ثغر نهر، أو ترقرق بطل جفن زهر، أو خفق بارق، أو وصل طيف طارق، أو وعد حبيب فزار من الظلماء تحت جناح، وبات مع من يهواه كالماء والراح، إلى أن ودع حين أقبل رائد الصباح، أو أزهرت دوحة السماء بزُهر كواكبها، أو قوضت عند فيض نهر الصباح بيض مضاربها، فأولئك هم السابقون السابقون، الذين لا يجارون ولا يلحقون، وليسوا بالمقصرين في الوصف إذا تقعقعت السلاح، وسالت خلجان الصوارم بين قضبان الرماح، وبنت الحرب من العجاج سماء، وأطلعت شبه النجوم أسنة، وأجرت شبه الشفق دماء. وبالجملة فإنهم في جميع الأوصاف والتخيلات أئمة، ومن وقف على أشعارهم في هذا الشأن فضلهم فيه على أصناف الأمة.» فقال أبو علي:٢٨ نعم، وفي الحق ما تقول؛ بيد أن شعراء المشرق، فضلًا أن شعرهم أصفى ديباجة، وأكثر ماء وطلاوة، وأسد مسلكًا، وأوضح منهجًا، وأشكل في مبناه بالشعر القديم حتى لا يكاد يشذ عنه قيد شعرة، وفضلًا أنه في الأعم الأغلب رصين متماسك جزل قوي غير مهلهل النسج؛ تراهم مع ذلك ذهبوا به كل مذهب من القول، وأفتنوا في مناحيه أيما افتنان، وغاصوا على المعاني غوصًا حتى بلغوا في ذلك المبالغ، ووصلوا إلى الغاية التي لا وراءها.

وإني لا أظن أن لعلي بن العباس الرومي أو بشار بن برد أو أبي نواس أشباهًا ونظائر في هذه البلاد، على أني مع ذلك لست أنكر على الأندلسيين ذكاءهم وتوقدهم، وأنهم — كما رأيت وكما وُصفوا لي — «عرب في العزة والأنفة، وعلو الهمة، وفصاحة الألسن، وإباء الضيم، والسماحة بما في أيديهم، والنزاهة عن الخضوع والاستخذاء، هنديون في فرط عنايتهم بالعلوم ورغبتهم فيها وضبطهم لها، بغداديون في نظافتهم وظرفهم، ورقة أخلاقهم، وذكائهم، وجودة قرائحهم، ولطافة أذهانهم، ونفوذ خواطرهم، يونانيون في استنباطهم للمياه، ومعاناتهم لضروب الغراسات، واختيارهم لأجناس الفواكه، وتدبيرهم لتركيب الشجر، وتحسينهم للبساتين بأنواع الخضر، وصنوف الزهر، صينيون في إتقان الصنائع العملية، وإحكام المهن الصورية، تركيون في معاناة الحروب، والحذق بالفروسية، والبصر بالطعن والضرب.»

كبَّرتُ حول ديارهم لما بدتْ
منها الشموس وليس فيها المشرق

•••

ولو أبصروا ليلى أقروا بحسنها
وقالوا بأني في الثناء مقصر

وهنا انبعث أبو عبد الله الصقلي الفيلسوف وقال ما تلخيصه: الذي أراه أن شعراء كل قطر من الأقطار أو جيل من الأجيال لا بد من أن يتأثروا بالمحيط الذي يحيط بهم، وأن يصطبغ شعرهم بصبغة ما يرون ويحسون من حولهم؛ فالشاعر الجاهلي أو المتَبدِي في الجاهلية والإسلام الذي لا تقع عينه إلا على صحراء مقفرة، أو سماء ماطرة، أو وحش كاسر، أو غزال نافر، لم ير ريفًا، ولم تغذه رقة الحضر، ولم يشبع من طعام، قد خالط الغيلان، وأنس بالجان، وأوى القفر واليرابيع والظباء، فإنه حريٌّ أن لا يقول إلا في جنس ما هو بسبيله من وصف البيد والمهامه والظبي والظليم والناقة والجمل وما إلى ذلك، في قول مونق مشرق واضح الطريقة، لا تعمُّل فيه ولا كلفة، يوائم أمزجتهم وطبائعهم، ويلائم المحيط الذي فيه عاشوا، والجو الذي فيه درجوا، والفطرة الأولى التي فطروا عليها، والسذاجة التي هي من خاص صفاتهم. وقد يكون لهم مع ذلك الحكمة البارعة، والكلمة الرائعة، والمثل السائر، والموعظة الحسنة مما يبهر أعرق المتحضرين، ويصيب منهم أقصى غايات الإعجاب والإكبار، ولكنه الوحي والإلهام الذي تُلهَمه الفطرة القوية النقية البريئة، ويؤتي الطبيعة الكريمة ما يؤتي سهوًا رهوًا، وليس هو بنتاج العقل المسموع، ولا بثمار الملكات المكتسبة.

وبعد، فأما المولدون — وهم الذين تصح المفاضلة بينهم وبين شعراء المغرب؛ لأنهم جميعًا تحضروا وعاشوا في رونق النعيم، واعتركوا بالدنيا واعتركت بهم — فالرأي عندي أن يقال: إن الشعر لفظ ومعنى، فأما اللفظ فإن شعراء المشرق — لأن أكثرهم جاور الأعراب وأهل البادية، ولقنوا اللغة منهم، والتصقوا بهم، ونُشِّئوا في أحضانهم، وغذوا بلبانهم — ترى لهم الألفاظ المتخيرة، والديباجة الكريمة، والطبع المتمكن، والسبك الجيد، وكل كلام له ماء ورونق، وترى شعرهم رصينًا متسقًا على استواء واحد، لا يتدافع من جهاته، ولا يتعارض من جوانبه، ولا يجمح ولا يشتط، ولا يأتيه الضعف والهلهلة والاسترخاء من أية ناحية من نواحيه. وأما المعنى، فإن فحولة شعراء المشرق الذين افتنوا في المعاني افتنانًا، وغاصوا عليها وأمعنوا حتى ظفروا بكل معنًى عجيب يعمر الصدر، ويذكي الروح، ويشع في دُنا العقل، فتنجاب له ظلمته، وتنير نواحيه، وتنفتح مغالقه؛ مثل بشار بن برد، وأبي نواس، وابن الرومي، وهذه الطبقة؛ فهم إنما بلغوا هذه الدرجة لأنهم من الموالي أبناء تلك الأمم الحمراء الذين امترسوا بالحضارة قبل العرب امتراسًا، وعالجوها وعالجتهم، وداوروا صنوفها من الصناعات والعلوم وما إليها، وصرفوا فيها أعنة الفكر، وقدحوا لها زناد الرأي، وهلم حتى أنمى ذلك على كرِّ الغداة ومرِّ العشي عقولهم، وشحذ أذهانهم، وأذكى أرواحهم، وأكسبهم ملكات عبقرية عجيبة، فورث ذلك منهم أبناؤهم، وانحدر مع دمائهم، وكان منهم هذا النبوغ الذي نرى آثاره في السلام.

وما كاد أبو عبد الله يتم قولته تلك حتى صاح أبو بكر ابن القوطية وقال: أشيخنا شُعوبي؟٢٩ فقال أبو عبد الله: إني وإن كنت لا أرى لعربي فضلًا على أعجمي إلا بالتقوى، وأن تفاضل الناس فيما بينهم ليس بآبائهم ولا بأحسابهم، ولكنه بأفعالهم وأخلاقهم، وشرف أنفسهم، وبُعْد هِمَمِهم؛ فمن كان دنيء الهمة ساقط المروءة لم يشرُف، وإن كان من بني هاشم في ذؤابتها، ومن أمية في أرومتها، وقيس في أشرف بطن منها؛ ومن ثَمَّ يقول الله جل شأنه: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ، ويقول رسول الله في خطبة الوداع: «أيها الناس، إن الله أذهب عنكم نخوة الجاهلية وفخرها بالآباء؛ كلكم لآدم، وآدم من تراب. ليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى.» فإني مع هذا أقول ما قاله ابن المقفع وقد سأل جماعةً من أشراف العرب: أي الأمم أعقل؟ فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا: لعله أراد أصله من فارس، فقالوا: فارس، فقال: ليسوا بذلك؛ إنهم ملكوا كثيرًا من الأرض، ووجدوا عظيمًا من الملك، وغلبوا على كثير من الخلق، ولبث فيهم عقد الأمر، فما استنبطوا شيئًا بعقولهم، ولا ابتدعوا باقي حكم في نفوسهم، قالوا: فالروم، قال: أصحاب صنعة، قالوا: فالصين، قال: أصحاب طرفة، قالوا: الهند، قال: أصحاب فلسفة، قالوا: السودان، قال: شر خلق الله، قالوا: الخزر، قال: بقر سائمة، قالوا: فقل، قال: العرب، فضحكوا، فقال: «أما إني ما أردت موافقتكم، ولكن إذ فاتني حظي من النسبة فلن يفوتني حظي من المعرفة. إن العرب حكمت على غير مثال مُثل لها، ولا آثار أثرت، أصحاب إبل وغنم، وسكان شَعَر وأَدَم، يجود أحدهم بقُوته، ويتفضل بمجهوده، ويشارك في ميسوره ومعسوره، ويصف الشيء بعقله، فيكون قدوة، ويفعله فيصير حجة، ويحسِّن ما يشاء فيَحسُن، ويقبِّح ما يشاء فيَقبُح، أدَّبتهم نفوسهم، ورفعتهم هممهم، وأعلتهم قلوبهم وألسنتهم، فلم يزل حِبَاء الله فيهم، وحباؤهم في أنفسهم، حتى رفع لهم الفخر، وبلغ بهم أشرف الذِّكر، وختم لهم بملكهم الدنيا على الدهر، وافتتح دينه وخلافته بهم إلى الحشر، على الخير فيهم ولهم، فقال: إِنَّ الْأَرْضَ لِلهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، فمن وضع حقهم خسر، ومن أنكر فضلهم حُسر، ودفع الحق باللسان أكبت للجنان.»

بَيدَ أن العرب لم يكن لهم بادئ ذي بدء دراية بالحرف والصناعات، وبالعلوم وتعلمها الذي هو في عِداد الصناعات؛ وذلك لمكانهم من البداوة ورسوخ أقدامهم فيها؛ ومن ثم كانت الشريعة الإسلامية — إذ كان القومُ أكثرُهم أُمِّيينَ — تُتَناقل في صدورهم، وجرى الأمر على ذلك أزمان الصحابة والتابعين، فلما بَعُد النقل من دولة الرشيد فما بعدُ احتيج إلى وضع التفاسير القرآنية، وتقييد الحديث مخافة ضياعه، ثم كثر استخراج أحكام الواقعات من الكتاب والسنة، وفسد مع ذلك اللسان فاحتيج إلى وضع القوانين النحوية، وصارت العلوم الإسلامية ذات ملكات محتاجة إلى التعليم فاندرجت في جملة الصنائع، وهو معلوم أن الصنائع من منتحل الحضر، والعرب أبعد الناس عنها، والحضر لذلك العهد هم العجم أو مَن في معناهم من الموالي، فكان صاحب صناعة النحو سيبويه، ثم الفارسي من بعده، ثم الزجَّاج، وكلهم عجمٌ في أنسابهم، وكذا حَمَلَة الحديث وعلماء أصول الفقه وعلماء الكلام والمفسرون، وأكثر فقهاء الأمصار؛ مثل الحسن بن أبي الحسن ومحمد بن سيرين؛ فقيهي البصرة، وعطاء بن أبي رباح، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وسليمان بن يسار؛ فقهاء مكة، وزيد بن أسلم، ومحمد بن المنكدر، ونافع بن أبي نجيح؛ فقهاء المدينة، وربيعة الرأي وابن أبي الزناد؛ فقهاء قباء، وطاوس وابن منبه؛ فقيهي اليمن، وعطاء بن عبد الله؛ فقيه خراسان، ومكحول؛ فقيه الشام، والحكم بن عتيبة وعمار بن أبي سليمان؛ فقيهي الكوفة، وهَلُمَّ. وبالجملة، لم يقم بحفظ العلم وتدوينه إلا الأعاجم، وظهر بذلك مصداق قوله : «لو تعلق العلم بأكناف السماء لناله قوم من أهل فارس.» وأما العرب الذين أدركوا هذه الحضارة وسوقها، وخرجوا إليها عن البداوة؛ فقد شغلتهم الرئاسة في الدولة وما دُفعوا إليه من القيام بالملك عن القيام بالعلم والنظر فيه، فإنهم أهل الدولة وحاميتها وأولو سياستها، مع ما يلحقهم من الأنفة عن انتحال العلم بما صار من جملة الصنائع، والرؤساء أبدًا يستنكفون من الصنائع والمهن وما يجر إليها، ودفعوا ذلك إلى من قام به من العجم والمولدين، فكان امتراس العجم من القديم القديم بالحضارة وما تستتبعه من العلوم والصنائع سببًا في كَيسهم وفِطنتهم، ونماء عقولهم، ورجحان أحلامهم، ومِران ملكاتهم على الاستنباط والتخريج، والتماس الحيل وتوليد المعاني؛ ومن ثَمَّ كان شعر الموالي منمازًا عن شعر العرب الأقحاح باستفتاح إغلاق المعاني الدقيقة العبقريات، والافتنان بها، وتلوينها بكل لون، وهاك شعر بشار، وأبي نواس، ومروان بن أبي حفصة، وابن الرومي، ومن إليهم من الشعراء الموالي؛ تَرَ الشاهدَ الصِّدقَ لِمَا أقول، وعرب الأندلس منذ فتحهم هذه البلاد إلى وقتنا هذا لا تزال نزعتهم عربية في كل شيء؛ حتى في شعرهم، إلا ما أكسبتهم إياه طبيعة بلادهم وخصوبتها، فمن ثَمَّ كان فرق ما بين شعرهم وشعر المشارقة في الجملة.

وبعد أن أتم أبو عبد الله كلامه أفضى بنا الحديث إلى ذكر الغزال؛ الشاعر الأندلسي الظريف، ومِلَحه ونوادره، وهذا الغزال — كما أخبرنا ابن القوطية — هو يحيى بن حكم البكري الجياني المُلقَّب بالغزال لجماله، وقد كان في المائة الثالثة مِن بني بكر بن وائل، وكان حكيمًا شاعرًا عرَّافًا، وكان آية في الظرف وخفة الروح، وجَّهه الأمير عبد الله بن الحكم المرواني إلى ملك الروم، فأعجبه حديثه وخف على قلبه، وطلب منه أن ينادمه، فتأبى ذلك واعتذر عنه بتحريم الخمر. وكان يومًا جالسًا معه، وإذا بزوجة الملك قد خرجت وعليها زينتها وهي كالشمس الطالعة حسنًا، فجعَل الغزالُ لا يميل طرفه عنها، وجعل الملك يحدثه وهو لاهٍ عن حديثه، فأنكر ذلك عليه وأمَر الترجمان بسؤاله، فقال له: عرِّفه أني قد بهَرني من حُسن الملكة ما قطعني عن حديثه، فإني لم أر قط مثلها، وأخذ في وصفها، والتعجب من جمالها، وأنها شوقته إلى الحور العين، فلما ذكر الترجمان ذلك للملك تزايدت حظوته عنده، وسُرَّت الملكة بقوله، وأمرت الترجمان أن يسأله عن السبب الذي دعا المسلمين إلى الختان وتجشُّم المكروه فيه مع خُلوِّه من الفائدة، فقال للترجمان: عرِّفها أن فيه أكبر فائدة؛ وذلك أن الغصن إذا زُبر قوي واشتد وغلظ، وما دام لا يُفعل به ذلك فإنه يبقى رقيقًا ضعيفًا، فضحكت واستظرفته. ومن نوادره أنه أُرسل مرة سفيرًا إلى بلاد المجوس (أسوج ونروج) وقد قارب الخمسين، وقد وَخَطَه الشَّيب، ولكنه كان مجتمع الأشد، فسألته زوجة الملك يومًا عن سنِّه، فقال مداعبًا لها: عشرون، فقالت: وما هذا الشيب؟ فقال: وما تنكرين من هذا؟ ألم تري قط مُهرًا ينتج وهو أشهب؟ فأعجبت بقوله، فقال في ذلك — واسم الملكة تود:

كُلِّفتَ يا قلبي هوًى مُتعبا
غالبت منه الضيغم الأغلبا
إني تعلَّقت مجوسية
تأبى لشمس الحُسن أن تغرُبا
أقصى بلاد الله في حيث لا
يُلفِي إليه ذاهب مذهبَا
يا تود يا ورد الشباب الذي
تطلع من أزرارها الكوكبا
يا بأبي الشخص الذي لا أرى
أحلى على قلبي ولا أعذبا
إن قلت يومًا: إن عيني رأت
مُشْبِهه لم أَعدُ أنْ أكذبا
قالت: أرى فَوْدَيْهِ قد نوَّرا
دعابة توجب أن أدعبا
قلت لها: ما باله إنه
قد ينتج المهر كذا أشهبا
فاستضحكت عجبًا بقولي لها
وإنما قلت لكي تَعْجبَا

ولما فهَّمها الترجمان شعرَ الغزال ضحكت وأمرته بالخضاب، فغدا عليها وقد اختضب وقال:

بَكَرتْ تُحسِّن لي سواد خضابي
فكأن ذاك أعادني لشبابي
ما الشيب عندي والخضاب لواصف
إلا كشمس جُلِّلت بضباب
تخفى قليلًا ثم يقشعها الصبا
فيصير ما استترت به لذهاب
لا تنكري وضح المشيب فإنما
هو زهرة الأفهام والألباب
فلديَّ ما تهوين من زهر الصبا
وطلاوة الأخلاق والآداب

ومن شعر الغزال الهين اللين الذي يرتفع له حجاب السمع، ويوطأ له مهاد الطبع — كما يقولون — قوله:

قالت: أحبك، قلت: كاذبة
غُرِّي بذا من ليس ينتقد
هذا كلام لست أقبله
الشيخ ليس يحبه أحد
سيان قولك ذا وقولك
إن الريح نعقدها فتنعقد
أو أن تقولي: النار باردة
أو أن تقولي: الماء يتقد

وقوله:

لا ومن أعمل المطايا إليه
كل من يَرتَجي إليه نصيبَا
ما أرى ها هنا من الناس إلا
ثعلبًا يطلب الدجاج وذِيبَا
أو شبيهًا بالقط ألقى بعينيـ
ـه إلى فارة يريد الوثوبا

وحدثنا أبو بكر بن القوطية قال: كان عباس بن ناصح الثقفي؛ قاضي الجزيرة الخضراء، يغدو على قرطبة ويأخذ عنه أدباؤها، فمرَّت بهم يومًا قصيدته التي أولها:

لعمرك ما البلوى بعار ولا العدم
إذا المرء لم يعدم تُقَى الله والكرم

حتى مر بهم قوله:

تجاف عن الدنيا فما لمُعجَّز
ولا عاجز إلا الذي خط بالقلم

وكان الغزال إذ ذاك في الحلقة، وكان حدثًا نظامًا متأدبًا متوقد القريحة فقال: أيها الشيخ، ما الذي يصنع مفعل مع فاعل؟ فقال: كيف تقول؟ فقال: كنت أقول: فليس لعاجز ولا حازم، فقال له عباس: والله، يا بني، لقد طلبها عمك فما وجدها.

(تمت هذه الرسالة.)

وقد كُتبت في قرطبة بقصر سيدي الحَكَم ولي عهد المسلمين، وابن مولانا عبد الرحمن الناصر؛ أمير المؤمنين، وذلك في شهر أغشت الرومي سنة ست وخمسين وتسعمائة، الموافقة سنة خمس وأربعين وثلاثمائة هجرية.

هوامش

(١) أرجأنا ذكر من أنجبته المَرِيَّة وبجاية إلى الرسالة الرابعة.
(٢) قريبًا جدًّا.
(٣) مدح الرمادي أبا علي القالي حقيقة بهذه الأبيات.
(٤) من هنوات الشعراء المستظرفة ما روي أن المتنبي لما سمع هذا البيت قال: يصونه في استه، وأن الرمادي لما بلغه قول المتنبي:
كفى بجسمي نحولًا أنني رجل
لولا مخاطبتي إياك لم ترني
قال — وأكرم الله سمع القارئ: أظنه ضرطة.
(٥) غرقئ البيض: القشرة الرقيقة التي تعلو البيضة دون قشرها الأعلى، وقشرها الأعلى يقال له: القيض.
(٦) جمع مرجل، وكان حقها المراجل، ولكن لما كانت الكسرة لازبة أشبعها للضرورة.
(٧) أي ما تغير من اللحم قبل نضجه.
(٨) أي ما يؤخره؛ لأنه لو آناه لأنضجه؛ لأن معنى أناه: بلغ به إناه، أي إدراكه، والعرب لا تنضج اللحم لتعجيل القِرَى؛ ومن ثم قال: ما غير الغلي منه فهو مأكول.
(٩) أي معلمة.
(١٠) شراسة وسوء خلق.
(١١) هذه الحكاية واقعة تاريخية حدثت لأبي علي القالي عند دخوله الأندلس.
(١٢) استولتا.
(١٣) جمع كنانة: جعبة السهام.
(١٤) ثوابت.
(١٥) السحاب الجهام هو الذي لا ماء فيه.
(١٦) البيتان من أبيات لابن حمديس يمدح بها أبا يحيي الحسن بن علي بن يحيي يقول فيها:
أنشأت شواني طائرة
وبنيت على ماء مُدنَا
ببروج قتال تحسبها
في شُمِّ شواهقها قننا
ترمي ببروج. البيتين، وبعدهما:
ضمِن التوفيقُ لها ظفرًا
من هلك عداتك ما ضمنا
وقوله: «مخرقة» هكذا قرأناها بالخاء المعجمة، ولعل الصواب محرَّقة بالحاء، أي إن ظهرت هذه البروج لعدوٍّ في حال إحراقها قُتل في التوِّ واللحظة؛ لأن معنى بطنَا: أُصيب في بطنه، يريد مقتله، والسَّكن: النار، وتُذكي: تشعل.
(١٧) راجعنا فيما راجعناه في ذلك رسالة لصديقنا الفاضل عبد الفتاح أفندي عبادة.
(١٨) مكاحل البارود: هي المدافع التي يُرمى عنها بالنفط، وحالها تتنوع، فبعض يرمى عنه بأسهم عظام تكاد تخرق الحجر، وبعض يرمى عنه ببندق من حديد زنة عشرة أرطال، وزنة مائة، والعرادات جمع عرادة، وهي آلة تصغر عن المنجنيق ترمي بالحجارة أو السهام المَرْمَى البعيد، وبقدور النفط أو العقارب وما إليها، والمنجنيق آلة من خشب لها دفتان قائمتان بينهما سهم طويل رأسه ثقيل، وذنبه خفيف، وفيه تجعل كفة المنجنيق التي يوضع فيها الحجر يجذب حتى ترتفع أسافله على أعاليه، ثم يرسل، فيرتفع ذنبه الذي فيه الكفة، فيخرج الحجر أو النفط منه، فما يصيب شيئًا إلا عصف به عصفًا.
(١٩) جمع طريدة، وقد أخذ الإسبانيون هذا الاسم فقالوا: Tariddo، وقال الطليان: Tartana، وقال الفرنسيون: Tartan.
(٢٠) جمع قرقور، وهي المسماة اليوم كراكة. أخذناها من الإفرنج بعد أن أخذوها هم منا.
(٢١) أخذها الروس فقالوا: Schelaudo، والطليان فقالوا: Scialaudo، والفرنسيون فقالوا: Chaland.
(٢٢) قال كوندي — المستشرق الإسباني: إن المعروف أن العرب استعملوا البارود سنة ٩٠٦، وهم الذين نقلوه إلى الأندلس، ومنها أخذه الإفرنج، قال: وقد استعمله العرب في محاصرتهم جزيرة صقلية سنة ٦٧٢ هجرية، وفي محاربة الإسبانيين سنة ١٢٤٩م، واستخدمه صاحب غرناطة في حصار باجة، ثم نقله عن العرب في القرن الثالث عشر روجر باكون الإنكليزي وغيره من الكيماويين، وأول ما استخدمه الفرنج في واقعة كريسي سنة ١٣٤٦. وإنها منحة عظيمة فتحها العرب للأوروبيين.
(٢٣) الرهنامج: كتاب الطريق، وهو الكتاب الذي يسلك به الرُّبَّانيَّة البحر، ويهتدون به في معرفة المراسي وغيرها.
(٢٤) هذه الكلمة هي لأبي علي القالي بنصها.
(٢٥) أي القالي.
(٢٦) وهذه كذلك للقالي.
(٢٧) الزير: هو أسفل أوتار العود، والذي يليه مثنى، والذي يليه مثلث، والذي يليه بم.
(٢٨) كل ما وضع على لسان أبي علي وأبي عبد الله الصقلي لا أصل تاريخي له، وإنما هذا الموضوع برمته هو من وضعنا، وقد زوَّرناه تزويرًا لم نسبق فيما نظن إليه، ولعلنا قاربنا الحقيقة في هذه المفاضلة بين شعر المشارقة وشعر الأندلسيين، على أنَّا لم نر لأحد قبلنا كلامًا في هذا المعنى، وسنوفيه حقه في الكلام على شعراء الأندلس في الرسالة الرابعة من هذه الرسائل.
(٢٩) أي على مذهب الشعوبية، والشعوبية — ويسمون أنفسهم أهل العدل والتسوية — يذهبون إلى أن الناس كلهم سواء، وأن ليس شعب أفضل من شعب، وأن لا فضل للعرب على غيرهم، وإذ أبى العرب إلا الذهاب إلى أنهم أفضل من غيرهم، ذهبوا هم كلَّ مذهب في الطعن على العرب وتنقَّصوهم وألصقوا بهم كل معاب ومنقصة. ولعل هذا قد نشأ بادئ ذي بدء من احتقار العرب هذه الأمم الحمراء من الأعاجم ومن إليهم؛ إذ كان العرب هم السادة وذوي الملكة والسلطان، وكانت هذه الأمم عبيدًا لهم وموالي، أو مستظلين برايتهم مستعمرين لهم.
ونحن نورد هنا نبذًا من مفاخرات الفريقين ومحاوراتهم وتطعانهم بعضهم على بعض؛ لأنه معنًى مستلذ، فضلًا أنه ليس يخلو من فائدة. فمن قول العرب أو المتعصبين للعرب على العجم — ويراد بالعجم كل من ليس بعربي — فمن قولهم: لو لم يكن منا على المولى عتاقة ولا إحسان إلا استنقاذنا له من الكفر، وإخراجنا له من دار الشرك إلى دار الإيمان، كما في الأثر: إن قومًا يقادون إلى حظوظهم بالسواجير — جمع ساجور؛ وهو القلادة أو الخشبة التي توضع في عنق الكلب — وكذلك جاء في الأثر: عجب ربنا من قوم يُقادون إلى الجنة في السلاسل؛ على أن تعرَّضنا للقتل فيهم، فمن أعظم عليك نعمة ممَّن قتل نفسه لحياتك؟ فالله أمرنا بقتالكم، وفرض علينا جهادكم، ورغبنا في مكاتبتكم — المكاتبة أن يكاتب الرجل عبده أو أمته على مال ينجمه (يقسطه) عليه، ويكتب عليه أنه إذا أدى نجومه (أقساطه) في كل نجم كذا وكذا فهو حرٌّ، فإذا أدَّى جميع ما كاتبه عليه فقد عتق، وولاؤه لمولاه الذي كاتبه؛ وذلك أن مولاه سوغه كسبه الذي هو في الأصل لمولاه.
وقدَّم نافع بن جبير بن مطعم رجلًا من الموالي يصلي به، فقالوا له في ذلك فقال: إنما أردت أن أتواضع لله بالصلاة خلفه. وكان نافع هذا إذ مرت به جنازة قال: من هذا؟ فإذا قالوا: قرشي، قال: وا قوماه! وإذا قالوا: عربي، قال: وا بلدتاه! وإذا قالوا: مولًى، قال: هو مال الله يأخذ ما يشاء ويدع ما يشاء … وكانوا لا يكنونهم بالكنى، ولا يدعونهم إلا بالأسماء والألقاب، ولا يدعونهم يصلون على الجنائز إذا حضر أحد من العرب، وإن كان الذي يحضر غريرًا.
وروي أن عامر بن عبد القيس في نسكه وزهده وتقشفه وعبادته كلَّمه حمران مولى عثمان بن عفان عند عبد الله بن عامر؛ صاحب العراق، في تشنيع عامر على عثمان وطعنه عليه، فأنكر ذلك، فقال له حمران: لا كثر الله فينا مثلك، فقال لهم عامر: بل كثر الله فينا مثلك، فقيل له: أيدعو عليك وتدعو له؟ قال: نعم، يكسحون طرقنا، ويخرزون خفافنا، ويحوكون ثيابنا، فاستوى ابن عامر جالسًا وكان متكئًا فقال: ما كنت أظنك تعرف هذا الباب لفضلك وزهادتك، فقال: ليس كل ما ظننت أني لا أعرفه لا أعرفه. ويُروى أن أعرابيًّا من بني العنبر دخل على سوار القاضي فقال: إن أبي مات وتركني وأخًا لي وخط خطين، ثم قال: وهجينًا، ثم خط خطًّا ناحية، فكيف يقسم المال؟ فقال له سوار: ها هنا وارث غيركم؟ قال: لا، قال: فالمال بينكم أثلاثًا، قال: ما أحسبك فهمت عني أنه تركني وأخي وهجينًا، فكيف يأخذ الهجين كما آخذ أنا وكما يأخذ أخي، قال: أجل، فغضب الأعرابي. ومن قول الشعوبية: أخبرونا إن قالت لكم العجم هل تعدون الفخر كله أن يكون ملكًا أو نبوة، فإن زعمتم أنه ملك قالت لكم: فإن لنا ملوك الأرض كلها من الفراعنة والنماردة والعمالقة والأكاسرة والقياصرة، وهل ينبغي لأحد أن يكون له مثل ملك سليمان الذي سُخِّرت له الإنس والجن والطير والريح، وإنما هو رجل منا، أم هل كان لأحد مثل ملك الإسكندر الذي ملك الأرض كلها، وبلغ مطلع الشمس ومغربها، وكيف ومنا ملوك الهند؟ وإن زعمتم أنه لا يكون الفخر إلا بنبوة، فإن منا الأنبياء والمرسلين قاطبة من لدن آدم ما خلا أربعة: هودًا وصالحًا وإسماعيل ومحمدًا، ومنا المصطفون من العالمين: آدم ونوح، وهما العنصران اللذان تفرع منهما البشر، فنحن الأصل وأنتم الفرع، وإنما أنتم غصن من أغصاننا، فقولوا بعد هذا ما شئتم وادَّعوا، ولم تزل للأمم كلها من الأعاجم في كل شقٍّ من الأرض ملوك تجمعها، ومدائن تضمها، وأحكام تدين بها، وفلسفة تنتجها، وبدائع تفتقها في الأدوات والصناعات؛ مثل صنعة الديباج، وهي أبدع صنعة، ولعب الشطرنج، وهي أشرف لعبة، ومثل فلسفة الروم وما إليها، وما كان للعرب ملك يجمع سوادها، ويضم قواصيها، ويقمع ظالمها، وينهى سفيهها، ولا كان لها قط نتيجة في صناعة ولا أثر في فلسفة، إلا ما كان من الشعر، وقد شاركتها فيه العجم؛ وذلك أن للروم أشعارًا عجيبة قائمة الوزن والعروض، وكذلك الخطابة، فإنها شيء في جميع الأمم، وبكل الأجيال إليه أعظم الحاجة، حتى إن الزنج — مع الغثارة، ومع فرط الغباوة، ومع كلال الحد، وغلظ الحس، وفساد المزاج — لتطيل الخطب، وتفوق في ذلك جميع العجم، وإن كانت معانيها أجفى وأغلظ، وألفاظها أخطأ وأجهل. وقد علمنا أن أخطب الناس الفرس، وأخطب الفرس أهل فارس، وأعذبهم كلامًا، وأسهلهم مخرجًا، وأحسنهم أداء، وأشدهم فيه تحنكًا أهل مرو، ومَن أحبَّ أن يبلغ في صناعة البلاغة، ويعرف الغريب، ويتبحر في اللغة؛ فليقرأ كتاب كاروند، ومن احتاج إلى العقل والأدب والعلم بالمراتب والعبر والمثلات والألفاظ الكريمة، والمعاني الشريفة؛ فلينظر إلى سير الملوك، فهذه الفرس ورسائلها وخطبها وألفاظها ومعانيها، وهذه يونان ورسائلها وخطبها وعللها وحِكَمها، وهذه كتبها في المنطق التي قد جعلتها الحكماء بها تعرف السقم من الصحة، والخطأ من الصواب، وهذه كتب الهند في حكمها وأسرارها وسيرها وعللها، فمن قرأ هذه الكتب عرف غور تلك العقول، وغرائب تلك الحكم، وعرف أين البيان والبلاغة، وأين تكاملت تلك الصناعة.
قال الجاحظ ينضح عن العرب: أما الهند، فإن لهم معاني مدونة، وكتب مجلدة، لا تضاف إلى رجل معروف، ولا إلى عالم موصوف، وإنما هي كتب متوارثة، وآداب على وجه الأرض سائرة مذكورة.
ولليونانيين فلسفة وصناعة منطق. وكان صاحب المنطق نفسه بكيء اللسان، غير موصوف بالبيان، مع علمه بتمييز الكلام وتفصيله ومعانيه، وبخصائصه. وهم يزعمون أن جالينوس كان أنطق الناس، ولم يذكروه بالخطابة، ولا بهذا الجنس من البلاغة.
وفي الفرس خطباء إلا أن كل كلام للفرس، وكل معنى للعجم، فإنما هو عن طول فكرة، وعن اجتهاد وخلوة، وعن مشاورة ومعاونة، وعن طول التفكر ودراسة الكتب، وحكاية الثاني علم الأول، وزيادة الثالث في علم الثاني، حتى اجتمعت ثمار تلك الفكر عند آخرهم.
وكل شيء للعرب فإنما هو بديهة وارتجال وكأنه إلهام، وليست هناك معاناة ولا مكابدة، ولا إجالة فكرة، ولا استعانة، وإنما هو أن يصرف وهمه إلى الكلام، وإلى رجز يوم الخصام، أو حين أن يمتح على رأس بئر، أو يحدو ببعير، أو عند المقارعة والمناقلة، أو عند صراع أو في حرب، فما هو إلا أن يصرف وهمه إلى جملة المذهب، وإلى العمود الذي إليه يقصد، فتأتيه المعاني أرسالًا، وتنثال عليه الألفاظ انثيالًا، ثم لا يقيده على نفسه، ولا يدرسه أحدًا من ولده، وكانوا أميين لا يكتبون، ومطبوعين لا يتكلفون، وكان الكلام الجيد عندهم أظهر وأكثر، وهم عليه أقدر وأقهر، وكل واحد في نفسه أنطق، ومكانه من البيان أرفع، وخطباؤهم أوجز، والكلام عليهم أسهل، وهو عليهم أيسر من أن يفتقروا إلى تحفظ، أو يحتاجوا إلى تدارس. وليس هم كمن حفظ علم غيره، واحتذى على كلام من كان قبله، فلم يحفظوا إلا ما علق بقلوبهم، والتحم بصدورهم، واتصل بعقولهم من غير تكلف ولا قصد، ولا تحفظ ولا طلب. وإن شيئًا هذا الذي في أيدينا جزء منه التراب، وهو الله الذي يحيط بما كان والعالِمُ بما سيكون.
ونحن — أبقاك الله — إذا ادَّعينا للعرب أصناف البلاغة من القصيد والأرجاز، ومن المنثور والأسجاع، ومن المزدوج وما لا يزدوج، فمعنا العلم على أن ذلك لهم شاهد صادق من الديباجة الكريمة، والرونق العجيب، والسبك والنحت الذي لا يستطيع أشعر الناس اليوم ولا أرفعهم في البيان أن يقول مثل ذلك إلا في اليسير والنبذ القليل، ونحن لا نستطيع أن نعلم أن الرسائل التي في أيدي الناس للفرس أنها صحيحة غير مصنوعة، وقديمة غير مولدة، إذا كان مثل ابن المقفع وسهل بن هارون وأبي عبيد الله وعبد الحميد وغيلان وفلان وفلان لا يستطيعون أن يولدوا مثل تلك الرسائل، ويصنعوا مثل تلك السير، وأخرى أنك متى أخذت بيد الشعوبي فأدخلته بلاد الأعراب الخلص ومعدن الفصاحة التامة، ووقفته على شاعر مفلق، أو خطيب مصقع؛ علم أن الذي قلت هو الحق، وأبصر الشاهد عيانًا، فهذا فرق ما بيننا وبينهم.
فتفهَّمْ عني — فهَّمك الله — ما أنا قائل في هذا، واعلم أنك لم تر قومًا قط أشقى من هؤلاء الشعوبية، ولا أعدى على دينه، ولا أشد استهلاكًا لعرضه، ولا أطول نصبًا، ولا أقل غُنمًا من أهل هذه النِّحلة، وقد شفي الصدور منهم طول جثوم الحسد على أكبادهم، وتوقد نار الشنآن في قلوبهم، وغليان تلك المراجل الفائرة، وتسعُّر تلك النيران المضطرمة. ولو عرفوا أخلاق كل ملة، وزي كل لغة وعللهم في اختلاف إشاراتهم وآلاتهم وشمائلهم وهيئاتهم، وما علة كل شيء من ذلك، ولم اختلقوه ولم تكلفوه؛ لأراحوا أنفسهم وتخففت مئونتهم على من خالطهم. ا.ﻫ. ملخصًا من «العقد» و«البيان والتبيين». ويظهر أن هؤلاء الشعوبية نجمت أوائل الدولة العباسية، وإن كانت جرثومتها أقدم من ذلك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤