مُقدِّمة

بقلم  محمد مندور

كاتب مسرحية «نزوات ماريان» وقصائد الليالي التي ننشرها في هذا الكتيب هو الشاعر الفرنسي الرومانسي الكبير ألفريد دي موسيه، الذي ولد في باريس سنة ١٨١٠ وتوفي بها في أول مايو سنة ١٨٥٧، أي في وقت مبكر، وقبل أن يطول به العمر، ومع ذلك فقد استطاع هذا الأديب الكبير أن يُغني الأدب الفرنسي، بل الأدب العالمي، بطائفة كبيرة من القصائد الرومانسية الحارة، ومن القصص والمسرحيات النثرية العامرة بروح الشعر، وروح الدعابة اللطيفة.

فبعد أن انتهى الشاب ألفريد دي موسيه من دراسته الثانوية بليسيه هنري الرابع بباريس أخذ يتردد، وهو لا يزال حَدَثًا صغيرًا، على الندوات الرومانسية التي استُقبل فيها بحرارة، وفي سنة ١٨٣٠ — أي وهو في العشرين من عمره — نشر أول ديوان له بعنوان «حكايات من إسبانيا وإيطاليا».

وفي الفترة التي تمتد من ١٨٣٣ إلى ١٨٣٥ تقع علاقته الشهيرة بالكاتبة جورج صاند، وقد رحلا معًا إلى إيطاليا في ديسمبر سنة ١٨٣٣ وهي الرحلة التي انتهت نهاية سيئة، إذ سقط ألفريد دي موسيه مريضًا في مدينة البندقية، حيث عالجه طبيب اسمه الدكتور باجللو، وعاد وحيدًا إلى فرنسا قاطعًا علاقته بجورج صاند، وإذا كان قد عاد إلى عشيقته مرة ثانية، فإن القطيعة النهائية لم تلبث أن وقعت بينهما، وقد قص ألفريد دي موسيه قصة علاقته بجورج صاند في كتابه «اعترافات فتى العصر» الذي نشر سنة ١٨٣٦، وقد أُثيرت هذه العلاقة بعد ذلك بردح من الزمن، وفي سنة ١٨٥٩ على وجه التحديد دار جدل طويل بين السيدة جورج صاند التي نشرت كتابًا بعنوان «هي وهو» وبين بول دي موسيه — أخي ألفريد — الذي رد بكتاب «هو وهي»، واشتركت في هذه المناقشة مدام لويز كوليه بكتابها المسمى «هو». ومهما تكن قسوة هذه التجربة على شاعرنا الشاب، فإنها قد ألهبت شاعريته، إذ عرَّفته ما هو الألم، بل ما هي منابع الشعر، وبوحي هذه التجربة كتب أجمل أشعاره ونشرها في مجلة «دي موند»، وهي الليالي الأربع (ليلة أكتوبر، ومايو، وأغسطس، وسبتمبر) ثم قصيدته التي أسماها «خطاب إلى لامارتين» وقصيدة «الأمل في الله» وقصيدة «الذكرى».

وبعد هذه الأزمة العاطفية الخطيرة، سلخ ألفريد دي موسيه ستة عشر عامًا فيما يشبه العقم الأدبي، إذ لم ينشر خلالها غير قليل من القصائد والأغاني القصيرة وبعض القصص والكوميديات النثرية، ولكن المجد لم يلبث أن ابتسم له ابتداء من سنة ١٨٤٧م، فنجحت المسرحيات التي نشط لكتابتها وكان نجاحها في ظروف غريبة، كما قُبل عضوًا بالمجمع اللغوي — مجمع الخالدين — في ٢٧ مايو سنة ١٨٥٢، ومات في سن مبكرة — كما قلنا — نتيجة لإسرافه على نفسه في الشراب والعربدة، ولسوء الحظ لم يتجاوز من ساروا في جنازته، الثلاثين، ودفن في مقبرة بيرلا شيز بباريس، وغرست — بناءً على طلبه — فوق قبره شجرة صفصاف.

قصة مسرحه

من المعلوم أنَّ الرومانسيين أهملوا الكوميديا التي مزاجهم العاطفي الحار يصرفهم عنها، ومع ذلك، فقد انفرد ألفريد دي موسيه بكتابة المسرحيات الفكاهية، غير أن أول كوميديا قدمها وهي «ليلة البندقية» لاقت فشلًا شديدًا عندما مثلت بمسرح الأوديون في أول ديسمبر سنة ١٨٣٠م، وقد هز هذا الفشل كبرياء دي موسيه هزًّا عنيفًا، فأقسم على ألا يكتب للمسرح بعد ذلك، ولكنه لما كان مغرمًا بالصورة الدرامية، فقد استمر يكتب المسرحيات الفكاهية نثرًا وينشرها للقراءة في مجلة دي موند، وكان من بين هذه الكوميديات نزوات ماريان التي نشرها سنة ١٨٣٣م، وننشرها نحن اليوم مترجمة إلى العربية في هذا الكتيب.

ومع ذلك، فقد حدثت ظروف غريبة حققت لمسرحيات ألفريد دي موسيه نجاحًا رائعًا على المسرح، وذلك أن ممثلة فرنسية شهيرة هي مدام آلان دي بريه، مرت مصادفة بمدينة سان بترسبرج الروسية، حيث سمعت بإطراء شديد لمسرحية صغيرة تمثل على أحد مسارح المدينة، وحضرت هذه المسرحية التي راقتها فطلبت ترجمة فرنسية لها لتقوم بتمثليها في البلاط الإمبراطوري الروسي، وإذا بها مسرحية «نزوة» لألفريد دي موسيه، فمثلتها بالفرنسية بنجاح كبير في سانت بترسبرج، وعندما عادت إلى باريس، قامت بتمثيلها على مسرح الكوميدي فرانسيز في ٢٧ نوفمبر سنة ١٨٤٧م، وكان تمثيلها كشفًا للجمهور الباريسي عن عبقرية دي موسيه الدرامية، وقد شجع هذا النجاح على تمثيل عدد آخر كبير من مسرحيات ألفريد دي موسيه في باريس ثم في العالم كله.

ولقد جُمعت هذه المسرحيات الخفيفة لألفريد دي موسيه بعد وفاته تحت عنوان «كوميديات وأمثال»، وهي كلها نثرية، ولكنها أقرب ما تكون إلى الشعر في أسلوبها المجنح، وفي انطلاقها الغنائي الذي تطرب له كل روح شاعرة، ثم إنها تجمع إلى الروح الشعرية المرهفة، روح الدعابة اللطيفة حينًا والقارصة حينًا آخر، وهي كلها تحمل الكثير من شخصية ألفريد دي موسيه وعواطفه الخاصة، ففي كل مرة يتحدث فيها عن الحب يُخيل إلينا، بل نُحس إحساسًا واضحًا بأنه يتحدث عن مشاعره الخاصة، وها نحن ننشر في هذا الكتيب بعد مسرحية «نزوات ماريان» ثلاثًا من لياليه التي نظمها على أثر نكبته في حبه لجورج صاند، وقد اخترنا هذه الليالي الثلاث بالذات لأنه قد كتبها في صورة حوار بينه كشاعر وبين «الميز» إلهة الشعر، لكي يدرك القارئ بنفسه وحدة المعدن بين مسرح موسيه النثري وقصائد شعره، حتى ليسمى مسرحه بالمسرح الغنائي.

وأما سر تسميته بعض مسرحيات موسيه بالأمثال، فإنما يرجع إلى أنه قد كتب فعلًا عن عدة مسرحيات فكاهية تصور أحداثها لتنطبق على أحد الأمثال السائرة، وقد شهد مسرحنا العربي المعاصر بالفعل إحدى تلك المسرحيات وهي مسرحية «لا عبث في الحب» التي عُرِّبت ومُثِّلت باسم «راح يصيدها صادته»، وهي اسم نُحس فيه رنين أمثلتنا الشعبية مما يصح معه أن نسميها «مثلًا».

وأما عن ترجمة «نزوات ماريان» و«الليالي» الثلاث التي ننشرها في هذا الكتاب الشعبي، فكل ما نقوله عنها هو أننا قد حاولنا جهد المستطاع أن نحتفظ لهذه النصوص بروحها وتصويرها الشعري الرائع ما استطعنا إلى ذلك سبيلًا رغم مشقة نقل الشعر من لغة إلى أخرى، وبخاصة هذا الشعر المجنح الذي يكاد يبز فيه ألفريد دي موسيه معظم زملائه الرومانسيين بقوة عاطفته وانطلاق خياله وبراعة تصويره.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤