الفصل الأول

الفتح العثماني لمصر

كانت الدولة العثمانية منذ استتبَّ سلطانها بآسيا الصغرى على تصادُقٍ ومصافاةٍ لدولة المماليك الجراكسة المصرية، تدور بين سلاطينهما رسائلُ الوداد وعقودُ المهادنة. وابتدأ ذلك من عصر السلطان الظاهر برقوق المصري ومُعاصره السلطان يَلْدِرِمَ «بايزيد» العثماني.

وبقيت هذه الحال مرعية إلى زمن السلطان «بايزيد الثاني» ابن محمد الفاتح؛ إذ نازعه أخوه الأمير «جَم» في الملك، فقاتله بايزيد وهزم جيوشه، وفرَّ جم إلى الأشرف قايتباي سلطان مصر ملتجئًا فأجاره، وطلب بايزيد تسليمه إليه، فلم يُجِبْه قايتباي، فحقد عليه. وانضم ذلك إلى النزاع القائم بينهما على إمارة أبناء ذي الغادر١ — التي كانت في حماية مصر، ثم تدخلت الدولة العثمانية في شئونها وادعت حمايتها — وإلى ما بلغ بايزيد من أن قايتباي أخذ من رسول ملك الهند هدايا كان أرسلها إلى السلطان بايزيد؛ فاتخذ بايزيد من كل ذلك ذريعة إلى إعلان الحرب على الدولة المصرية، فجهز جيشًا عظيمًا توغَّل في البلاد الشامية إلى قُرب حلب؛ حيث التقى به جيشٌ للمصريين؛ فكانت الهزيمة على العثمانيين، فأتبعه بجيش آخر كانت عاقبته كسابقه. وزحف الجيش المصري على البلاد العثمانية فالتقى بجيش جرَّار عثماني، فكانت الحرب بينهما سجالًا مدة انتهت بالصلح والمصافاة، إلا أنها صارت سببًا لتجسيم التنافُس والتزاحُم بين الدولتَين على الاستئثار بالعظمة وبسط النفوذ والزعامة على الممالك الإسلامية.

من أجل ذلك لم يَدُمْ هذا الصلح طويلًا؛ إذ أخذ العثمانيون من جهةٍ يحرضون القبائل والإمارات التابعة لمصر على التخلُّص من سيادتها، ويضعون العراقيل في سبيل تجارتها مع غربي آسيا وأواسطها؛ مما جعل ورود الصوف ومنسوجاته وأنواع الفِرَاء الفاخرة والمماليك الجراكسة إلى البلاد المصرية نادرًا جدًّا، بل ممتنعًا في أواخر أيام الغوري، وكان أشدَّها على المصريين امتناعُ ورود الرقيق من المماليك؛ إذ هُم مادة الجيش ورجال الحكومة. ومن جهةٍ أخرى أخذ سلاطينُ مصر يُجيرون كل من التجأ إليهم من أبناء السلاطين العثمانيين والأمراء الفارِّين من وجه الدولة العثمانية، ثم استرسلوا في الأمر وهبُّوا يوادُّون من عادى العثمانيين من سلاطين الدول المجاورة لهم، مثل «أُوزون حَسَن» سلطان العراق، ثم بعده الشاه إسماعيل الصَّفوِي «المؤسس الثاني لدولة إيران الحالية» وغيرهما، ولم تَزِدْ هذه المُوَادَّة على أكثر من تبادُل المراسلات، مع أن الشاه حاول جعلَها محالفة دفاع وهجوم فلم يفلح لبُعد ما بين الأمتين في المذاهب؛ وذلك من أغلاط الغوري. واستطار شرر هذه الإحن والأحقاد بسماح الغوري بأن يمر بطريق الشام الوفدُ الذي أرسله الشاه إسماعيل إلى مملكة البُندقية ليَعرِض عليها أن يتحدا معًا على محاربة العثمانيين، وبإجارة السلطان الغوري للأمير قاسم ابن أخي السلطان سليم الأول العثماني، وإجارة الشاه إسماعيل للأمير مراد أخي قاسم، وكان السلطان سليم أراد قتلهما، فطلبهما منهما فلم يجيباه؛ فكان ذلك — إلى خوفه من استفحال دولة الفرس الجديدة أو تَحوُّل المودة القليلة بين مصر وفارس إلى حِلف سياسي وتناصُر حربي — سببًا لإعلان سليم الحرب على الفرس أولًا ثم على مصر ثانيًا.

ولما زحف السلطان سليم على بلاد الشاه إسماعيل وهزمه هزيمة منكرة أراد أن يكتسح جميع بلاده ويقضيَ على البقية من دولته، فوجد الشاهَ أتلف كل ما خلفه في مدنه وقلاعه من المئونة والذخائر، وانتظر سليم ورود غيرها من بلاده، فعلم أن قبائل التركمان وإمارة الغادرية التابعة لمصر قد أغارت على قوافله ومنعت وصولها إليه؛ فقلَّت الأقوات في معسكره واضطرب الجيش، فحرَمه ذلك ثمرة انتصاره.

هذه كل المساعدة التي قامت بها مصر للشاه، مع أنها لو سيَّرت جيشًا يقطَع خط الرَّجْعة على العثمانيين لكان التاريخُ على غير ما هو عليه. فاضطُرَّ سليم إلى الرجوع إلى بلاده منتقِمًا في طريقه من إمارة الغادرية؛ فقتل أميرَها علاء الدين وضمَّ بلاده إلى ملكه، وولَّى غيرَه من أبناء أسرته الغادرية، واحتجَّ الغوري على ذلك، فقابل سليم احتجاجه بإرسال رأس علاء الدين إليه؛ وحينئذٍ علم الغوري أن الحرب واقعة لا محالة؛ فاستعد لملاقاته بتجهيز جيش عزم على أن يقوده بنفسه، ولكن بعد فوات الفرصة؛ فإن الشاه إسماعيل لم يَعُدْ في القوة التي كانت له قبلُ؛ فقد هلكت أبطاله، وتشتَّت شملُ رجاله، وخربت بلاده، فأمِن السلطان سليم غائلته وتفرَّغ لحرب مصر. ومع كل هذا كان من الممكن انتفاع الغوري بما بقي للشاه من القوة، ولكنه لم يفعل أو لم يُقنع الشاه بضرورة ذلك.

أراد الغوري أن يستجمع كل ما عنده من قوة العَدد والعُدة، وكانت موارد الثروة قد نضَبت بمصر لقطع البُرتقالِ طريقَ التجارة الهندية عليها، فلم يَكَدْ يَهُمُّ بجمع المماليك حتى تخاذلوا وتعلَّلوا عليه بقلة النفقة المصروفة لهم وما هم فيه من العُسر. وكان الفساد قد دبَّ في أخلاقهم، وقلَّت وطنيتهم، وجرَّأهم على ذلك ميلُ الغوري إلى مماليكه الخاصة الذين جلبهم لنفسه واتخذهم عُدة له يتقوَّى بهم على المماليك القدماء إذا هموا به، وبعد تساهُل من الطرفَين أمكن الغوريَّ أثناء شتاء سنة (١٥١٥م/٩٢٢ﻫ) إعدادُ جيش يخرج به إلى حدود آسيا الصغرى، فجمع في هذا الجيش — على قلته — أكثر مَن في مصر مِن رجال القوة الحربية والأدبية؛ فخرج فيه الخليفة العباسي، وقضاة المذاهب الأربعة، ورؤساء مشايخ الطرق الصوفية، وكبار العلماء والأعيان، ورؤساء المغنين والموسيقيين والمضحكين وأرباب الصناعات وغيرهم، وترك بمصر حامية من المماليك تُقدَّر بنحو ألفَين، وأناب عنه الدَّوَادارَ الكبيرَ «طومان باي» ابن أخيه، وبلغه أن الأسطول العثماني يقصِد الإسكندرية؛ فعزَّز حاميتها، وحصَّن قلاعَها بنحو مِائَتِي مدفع، وخرج من القاهرة بموكب عظيم تتقدَّمه الطبول والزمور وتُدَق أمامه الكئوس. خرج بهذا الجيش في شدة حَمَارَّة الصيف على غير عادة الملوك في خروجهم؛ فقاسى الجنود الأهوال والشدائد في اجتياز صحراء طور سيناء وأودية فِلَسْطِين، ودخل كلَّ مدينة في الشام بموكب عظيم وخاصةً مدينة دِمَشْق وحلب وحَماة.

figure
السلطان الغوري في حاشيته — وهو الجالس على يمين الباب — (رسم علي أفندي يوسف، عن صورة بدار الآثار العربية).

وخرج السلطان سليم من القسطنطينية بجيش عظيم مدرَّب على الحرب، ذكر بعضُهم أنه يبلغ ١٥٠ ألف مقاتل مسلَّحين بكثير من المكاحل والمدافع والبندقيات، فلما صار على حدود الشام أراد أن يكيد للمصريين بمكيدتَين، نجح في إحداهما وأخفق في الأخرى؛ ففي الأولى تمكَّن من أن يستميل إليه «خير بك» نائب حلب من قِبل مصر و«جان بَرْدِي الغزالي» نائب حماة، ووعد الأول بولاية مصر والآخر بولاية الشام، ومع أن نائب الشام وغيره أخبروا السلطان الغوري بخيانة خير بك، لم يعبأ بكلامهم لما يرى من شدة تواضعه وإخلاصه.

وفي الثانية أراد أن يخدع الغوري بصرفه عن القتال وأخْذه على غِرة؛ فأرسل إليه أولًا أثناء بروزه من القاهرة بتوسُّط الخائن نائب حلب رسالة يعتذر فيها عما فرط منه في شأن البلاد التابعة لمصر، ويَعِده بأن يُعِيدها إليه ويفتح طريق تجارة الرقيق والصوف والفِراء، وبالجملة يفعل كل ما يطلبه الغوري؛ وكاد الغوري وأمراء عسكره يُخدعون بذلك لولا مراعاتهم جانب الحيطة بالخروج إلى الشام. وأرسل إليه ثانية وهو بحلب رسلًا عليهم أحد قواده وقاضي «عسكر الروم إيلي» يصرفون الغوري عن قصده، ويؤكدون إخلاص سلطانهم له وشدة رغبته في المهادنة والصلح، بشرط أن لا يتدخل الغوري بينه وبين الشاه إسماعيل الذي لم يقصد سليم بخروجه غيرَه، والذي أفتى علماء القسطنطينية بجواز حربه وقتله لرفضه وخروجه عن شعائر أهل المِلَّة. فأكرمهم الغوري وسيَّرهم معزَّزين إلى معسكر سليم، وأرسل إليه رسله صحبة أمير كبير من المصريين يعرض عليه توسُّطه في الصلح بينه وبين الشاه؛ فغضب سليم وهمَّ بقتل الرسول، فشُفِع فيه فأطلقه مُهانًا مُشعَّثًا، وقال له قُل لأستاذك: إن إسماعيل الصفوي خارجيٌّ وأنت مثلُه، وسأبدأ بك قبله، وموعدنا «مرج دابق» — على بعد يوم شمالي حلب — فخرج الغوري في نحو ثلاثين ألف مقاتل، وخلَّف أمواله وذخائره في قلعة حلب الحصينة في حامية لها. فلما كان صبيحة يوم الأحد ٢٥ رجب سنة ٩٢٢ﻫ — وهو اليوم الذي سقطت فيه الدولة المصرية من عالم الدول المستقلة العظيمة — دهَمَه العثمانيون بجيش يربو على الجيش المصري بأضعاف، فعبَّأ الغوري كتائبه. وكان من غلطاته الكبرى في خَرْجَته هذه أنه آثر مماليكه الخواصَّ — الذين اشتراهم بماله — بكل كرامة ورعاية وإنعام، وقصَّر في استجلاب مودة المماليك القدماء من عَتْقَى السلاطين والأمراء، حتى شاع بينهم أن السلطان يريد أن يجعلهم أمام مماليكه الخواص ليكونوا دريئة لهم من مدافع العثمانيين التي تفوق مدافع المصريين عظمًا وسرعةَ قَذْفٍ وبُعْدَ مرمًى؛ ففسدت نيَّات بعضهم، وانضمَّ ذلك إلى خيانة «خير بك» و«جان بردي الغزالي».

فلما الْتَقى الجمعان حملت الميمنةُ والقلبُ حملة أزالوا بها العثمانيين من مواقفهم، وقتلوا منهم بضعة آلاف، واستولَوْا على كثير من أعلامهم ومدافعهم، وكادت الغلبة تكون للمصريين، وهمَّ السلطان سليم بالهرب، لولا أن خير بك انهزم بكتيبته — وكان على الميسرة — وتبعه جان بردي الغزالي؛ فاختل نظام الجيش المصري، واتفق أن وصل للعثمانيين في ذلك الوقت مدد من المدفعية، وظهر كمين لهم أحاط بالجيش المصري، ورأى المماليكُ القدماءُ من المصريين أن المماليك الخواص لا يُقاتِلون؛ ففترت هِممهم ووَهَنَتْ عزائمهم وتخاذلوا ولم يصبروا على نيران المدافع العثمانية، فركنوا إلى الفرار، وبقيَ السلطان الغوري في جماعة قليلة يناديهم ليعودوا فلم يلتفتوا إليه، ففُلج لساعته، وسقط عن جواده. ولما شاع موته في العسكر تفرَّقوا واستولى العثمانيون على معسكرهم وغنموا منه ما لا يُحصى، ولم يُوقَف للغوري على أثر، واستمرت الواقعة من طلوع الشمس إلى ما بعد الظهر. ولما رجع المنهزمون إلى حلب انقلب عليهم أهلها واستولَوْا على ودائعهم عندهم وفتكوا بهم، فلاقَوْا منهم شرًّا مما لاقَوْا من العثمانيين. وانتظر أهل حلب قدوم السلطان سليم فسلَّموه المدينة، واستولى على قلعتها بدون قتال، وغنم منها ألوف الألوف من الأموال والذخائر، وخُطِبَ باسمه في مسجدها، وانضم إليه خير بك وغيره من المماليك الخوَنة، وحلَقوا لحاهم أو قصروها، وتزيَّوْا بزيِّ العثمانيين، ثم ذهب السلطان سليم إلى دمشق فاستولى عليها، ودانت له جميع مدن الشام بلا مُنازع، ومكث بها مدة ثلاثة أشهر يرتِّب نظامها، ويُحكِم أمورها.

أما بقية المنهزمين من المصريين فرجعوا إلى مصر في حالة يُرثى لها، ورجع معهم جان بردي الغزالي، وكأنه قصد برجوعه إلى مصر أن يَفُتَّ في عَضُدِ المصريين، ويكون عونًا وجاسوسًا للعثمانيين، وكانت أفعاله كلها في مصر ترمي إلى ذلك؛ لأنه خرج عَقِبَ دخوله مصر بحملة إلى الشام ليُنقذ غزة من العثمانيين، ففرق عساكره في البلاد، ولم يلاقِ العثمانيين إلا بفئة قليلة لم تلبث أن انهزمت، وكانت هزيمتهم سببًا في فشل طومان باي — الذي خلَّفه الغوري سلطانًا على مصر — في تأليف جيش عظيم آخر يدافع عن القاهرة؛ فقد كابد في جمعه مشقات عظيمة، وتخاذل المماليك واشترطوا عليه شروطًا أشدَّ مما اشترطوا على الغوري، وبَقُوا في خلاف: هل يحاربون العثمانيين على حدود جزيرة الطور وهم منهوكو القوى من قطع الصحراء أو في شمالي القاهرة، حتى دهمتهم جيوش العثمانيين وصارت على مقربة من القاهرة؛ فخرج طومان باي في جيش مختلط من جميع أجناس المحاربين، وأسرع في حفر الخنادق ونصب المدافع في ظاهر الرَّيْدَانِيَّة — صحراء العباسية وعين شمس إلى بركة الحج — وكان يظن أن الجيش العثماني يقابله وجهًا لوجه فيها، فكان غيرُ ما ظنَّ؛ إذ لم يكد الجيشان يتلاقيان يوم ٢٩ ذي الحجة سنة ٩٢٢ﻫ حتى افترق الجيش العثماني لكثرته إلى ثلاث فِرَق: فرقة كانت وِجهتها المصريين بالريدانية، وفرقة سارت تحت الجبل الأحمر والمقطم وأحاطت بهم من اليمين إلى الخلف، وفرقة سارت إلى جهة بولاق وأحاطت بهم من الشمال.

وصبر المماليك ساعةً قُتل فيها عدد عظيم من العثمانيين وقوادهم، منهم سِنان باشا أكبر القواد والوزراء للسلطان سليم، ولم يَدُمْ ذلك إلا ريثما تمَّت حركة الالتفاف، وعندها وُجهت المدافع والبنادق على المصريين من كل صَوْب، ولم يكن لهم نظيرها، فلم يسعهم إلا الفِرار، وصبر طومان وجماعة صبْر الأبطال، ولكنهم اضطُروا أخيرًا إلى الفِرار إلى الجيزة، وسار العثمانيون إلى القاهرة فدخلوها فِرَقًا ونزل السلطان سليم بمعسكره الخاص على ساحل بولاق والجزيرة الوسطى٢ ولم يدخل المدينة، وبقي كذلك إلى يوم الثلاثاء رابع المحرم سنة ٩٢٣ﻫ، فلما كانت ليلةُ الأربعاء خامس الشهر لم يشعر السلطان سليم بعد صلاة العشاء إلا وقد هجم عليه في معسكره السلطان طومان باي بمن التفَّ حوله من المماليك؛ فاختل نظام المعسكر واختلط الحابل بالنابل، وساعد المماليك كثير من العامة والغوغاء ونُوتية بولاق، فما بزغ الفجر حتى قُتل من العثمانيين خلق كثير، ثم جاءت فرقة أخرى مددًا للمماليك بقيادة الدوادار الأمير عَلَّان من جهة الناصرية، وحَمِيَ وَطيسُ القتال بين الفريقين من بولاق إلى الناصرية، وملك المماليك أكثر المدينة بعد أن قتلوا الألوف في شوارعها وحاراتها من العثمانيين المتفرقين، ثم جمع العثمانيون شملهم وطردوا المماليك من حي بولاق إلى قناطر السباع — السيدة زينب — حتى تحصنوا — المماليك — بحي الصليبة وحفروا الخنادق حولهم من جميع الجهات. وخُطِبَ يوم الجمعة للسلطان طومان باي على منبر جامع شَيْخون وغيره، واستمر القتال كذلك أربعة أيام بلياليها من ليلة الأربعاء إلى صبيحة يوم السبت ٨ المحرم، فحاصر العثمانيون حي الصليبة من كل جهاته، واشتد الأمر على المماليك؛ فتخاذلوا وتسللوا عن السلطان طومان باي، فبقي يُقاتل في نفر من المقدَّمين الأمراء وبعض العبيد، حتى إذا لم يبقَ للدفاع فائدة فرَّ إلى بركة الحبش — بين الساحل القبلي بمصر القديمة وبين معادي الخبيري — وعدى من ساحل طرة إلى ضفة النيل الغربية بالجيزة، واستولى العثمانيون على المدينة مرة أخرى، وطلع السلطان سليم إلى القلعة بعد ذلك بعشرة أيام، واستحوذ على ما فيها من الأموال والذخائر، وبقيَ بالقلعة نحو شهر شاع في خلاله أن طومان باي صار في عسكر عظيم ممن تراجع إليه من المماليك والتفَّ حوله من عرب الصعيد، وأنه قادم إلى القاهرة.

وبعد أيام جاءت رسل من عند طومان باي إلى السلطان يعرضون عليه الصلح بأن تكون مصر تحت سيادة العثمانيين في الخطبة والسكة والخراج، وأن يكون طومان باي نائبًا عن سلطان العثمانيين في مصر؛ فقبل ذلك السلطان سليم، وأرسل إليه وفدًا من قضاة مصر وأعيانها وبعض المقدمين، فلما وصلوا إلى السلطان طومان باي بجهة البهنسا ثار المماليك بطومان باي ولم يرضَوْا بالصلح وقتلوا بعض رجال الوفد، فلم يسعْ طومان باي إلا مجاراتُهم مكرهًا، وتقدم إلى بلاد الجيزة لينازل العثمانيين في موقعة فاصلة، فاجتاز السلطان سليم إليه النيل بجيوشه. والتقى الجيشان بقرب «وردان» يوم الخميس (١٠ ربيع الأول سنة ٩٢٣ﻫ/١٥١٧م)، فدارت الدائرة أولًا على العثمانيين وقتل منهم مَقتلة عظيمة، إلا أن نيران المدافع والبندقيات العثمانية مزَّقت جيش المصريين المختلط — الخالي يومئذٍ من أكثر المعدات الحربية — كل مُمَزَّق، فكانت هذه الموقعةُ الخامسةُ هي ختامَ الوقائع الحربية التي دافع بها المماليكُ المصريون عن بلادهم، ولم يقم لهم بعدها قائمة إلا ما كان من استبداد بعض سلائلهم بشأن مصر كما سيأتي.

أما السلطان طومان باي، فإنه لمَّا فرَّ من وجه السلطان سليم ذهب إلى أحد رؤساء الأعراب بالبحيرة المدعو «حسن بن مَرْعي» وكان له عليه أيادٍ عظيمة، فاختفى عنده واستحلفه أن لا يَخونه، ولكنه نقض الحَلِف وكاشف السلطان سليمًا بأمره، فأرسل إليه عسكرًا قبضوا عليه منتكِّرًا في زيِّ الأعراب، وجاءوا به إلى السلطان سليم، فحين رآه قام له وعاتبه ببعض الكلام وبقيَ معه في معسكره سبعةَ عشرَ يومًا يحضر مجلسه ويسائله السلطان سليم عن شئون مصر وإدارتها وسياسة أهلها وكيفية ريِّها وجباية خَرَاجها وبقية أمورها؛ مما جعل طومان باي يطمئن إليه ويظن من إقباله عليه أنه سيكون نائبًا عنه في ملك مصر.

غير أن ذلك الأمر كان استدراجًا من السلطان سليم؛ إذ بعدما وقف منه على كل ما أراد أمَر في يوم الاثنين (٢١ ربيع الأول سنة ٩٢٣ﻫ/١٥١٧م) بأن يعودوا بطومان باي إلى القاهرة، فدخلوا به وهو بزيِّ الأعراب من جهة شارع أمير الجيوش إلى البرقوقية، حتى إذا صار تحت باب زويلة أنزلوه عن فرسه، وكان لا يدري ماذا يُصنع به، فلما رأى الحبال مُدَلَّاة من حلقة الباب على أنه مشنوق، فتشهد وقرأ الفاتحة وسأل الناس أن يقرءوا له الفاتحة، وشُنق بين ضجيح الناس عليه بالبكاء، وبقيَ مصلوبًا ثلاثة أيام، ثم أُنزل ودُفن خلف مدرسة الغوري — جامع الغوري — وكان له من العمر نحو ٤٤ سنة، ولم يُشنق ممن حكم مصر — من الخلفاء والسلاطين — سلطان غيره.

أما السلطان «سليم»، فإنه أقام بمصر نحو ثمانية أشهر؛ فكان معسكره أول الفتح ببولاق والجزيرة الوسطى، ثم أقام بالقلعة نحو شهر، ثم بمدينة الجيزة وإمبابة قريبًا من شهر، ثم أقام بجزيرة الروضة والمقياس مدة، ثم توجه بجنده إلى مدينة الإسكندرية، فكانت مدة غيابه وإيابه ١٥ يومًا، ثم رجع وأقام بجزيرة الروضة وبُنيَ له بها بجانب المقياس في طرف الجزيرة الجنوبي جَوْسَق من الخشب أقام به بقية المدة إلا زمنًا يسيرًا أقامه ببيت الأشرف قايتباي المطل على بركة الفيل.

figure
السلطان سليم فاتح مصر (رسم علي أفندي يوسف).

وفي أثناء إقامته بمصر سنَّ لها بعض أنظمة إدارية، ونقل إلى القسطنطينية أكثرَ ما في القلعة ومنازلِ الأمراء والسلاطين والمساجد والزوايا والأربطة من النفائس والذخائر والكتب حتى أعمدة الرخام ومُركَّباته.

ونَفَى من مصر إلى القسطنطينية كلَّ أبناء السلاطين وأكثر المقدمين والأمراء والخليفة العباسي بعدما تنازل له عن الخلافة وأكثر العلماء والقضاة وكل من له نفوذ وإمرة بمصر.

ثم أمر بجمع رؤساء الصناعات المشهورين بإجادة العمل فيها من كل الطوائف؛ فجمعوا منهم نحو ألف صانع ونقلوهم إلى الأستانة ليُذيعوا الصناعات الدقيقة فيها، فرجع بعضهم إلى مصر بعد عهده وبقيَ آخرون. قيل إنه بطل في مصر بذلك نحو ٥٠ صناعة؛ فكان كل ذلك سببًا في تأخُّر مصر في الصناعات.

أما ولاية مصر فاختار لها السلطان سليم أثناء إقامته أكبر وزرائه «يونس باشا» واليًا عليها، ثم رجع عن ذلك قُبيل سفره من مصر وولَّى عليها ملك الأمراء «خير بك»، وولَّى على الشام «جان بردي الغزالي».

وباستيلاء السلطان سليم على مصر صارت البلاد جزءًا من الدولة العثمانية.

ويجدر بنا قبل الكلام على حكم العثمانيين في مصر أن نذكر شيئًا عن منشئهم ونهوضهم، وأهم الحوادث في تاريخهم أيام حكمهم في مصر، حتى نكون على علم بأهم الأحوال التي أحاطت بمصر في ذلك العهد.

١  وهي إحدى الدول التركمانية التي أُسست على أنقاض دول التتار ورأسها قراجا بن ذي الغادر، وقد استولت على أكثر أرمينية وكردستان وديار بكر، وخضعت أخيرًا للمصريين؛ فكان لا يتولى أمير منها إلا بإذن صاحب مصر.
ثم إن أحد أمرائها التجأ إلى العثمانيين مستنصرًا فنصروه وولَّوْه الإمارة افتياتًا على المصريين، بل أمدوه بما انتصر به على ولاة مصر؛ فكان ذلك سببًا للنزاع بين الدولتين المصرية والعثمانية.
٢  هي الجزيرة التي أمام قصر النيل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤