الفصل الثالث

حكم العثمانيين في مصر

٩٢٣–١٢١٣ﻫ/١٥١٧–١٧٩٨م

باستيلاء السلطان سليم على مصر في سنة (٩٢٣ﻫ/١٥١٧م) أصبحت جزءًا من أملاك الدولة العثمانية، ودخلت في طور طويل دام نحو ثلاثة قرون (٩٢٣–١٢١٣ﻫ/١٥١٧–١٧٩٨م) لم يكن لها فيه شأن سياسي يُذكر في التاريخ، وقد كانت مصر في معظم ذلك العصر مشهدًا للفتن والمُشاحَّات؛ إما بين سلائل المماليك أنفسهم، وإما بنيهم وبين الولاة العثمانيين، وإما بين هؤلاء وجنود الحامية العثمانية. وكل هذه الحوادث متشابهة، ولم يكن لها أثر دائم في تاريخ مصر؛ لذلك نعدِل عن تتبُّع أخبار فتن ذلك العصر، ونكتفي بالكلام على حالة البلاد فيه بوجه عام، فنقول:

(١) نظام الحكومة

بعد أن تمَّ للسلطان سليم فتح مصر وضع لإدارتها نظامًا يكفُل بقاء خضوعها وعدم استقلال أحد فيها بأمرها، فأودع مقاليدَ حكمها ثلاثَ سلطات، له مِن تنافُس رجالها أكبر كفيل ببغيته:
  • «السلطة الأولى» الوالي: وأهم أعماله الأوامر التي ترد عليه من السلطان إلى عُمَّال الحكومة ومراقبة تنفيذها.
  • «والسلطة الثانية» جيش الحامية: وقد كوَّنه السلطان سليم من ست فِرَق — وجاقات — ونصَّب عليهم قائدًا يقيم بالقلعة، وجعل على كل فرقة ستة من الضباط، وشكَّل من هؤلاء الضباط مجلسًا — ديوانًا — يساعد الوالي في إدارة شئون البلاد، وجعل لهذا الديوان الحقَّ في رفض مشروعات الوالي إذا لم يَرَ فيها مصلحة.
  • «والسلطة الثالثة» المماليك: نصَّب كل واحد منهم على سنجق — مديرية — من الأربع والعشرين مديرية التي تتكوَّن منها البلاد. وكان هؤلاء الرؤساء من المماليك يُعرَفون «بالبيكوات» وتُسمَّى مديرياتهم «سناجق».
ولما انقضى حكم السلطان سليم في (سنة ٩٢٦ﻫ/١٥٢٠م) وخلفه السلطان سليمان القانوني أنشأ مجلسَين آخرَين يُعرفان بالديوان «الأكبر» و«الأصغر»، يجتمع أولهما عند التحدث في الشئون الخطيرة، ويجتمع الثاني كل يوم، وأعضاء الأول من رجال الجيش والعلماء معًا، وليس بالثاني أحد من العلماء ونحوهم، وأضاف سليمان أيضًا فرقة سابعة إلى الجيش ضم إليها عتقى المماليك؛ فبلغ بذلك جيش الحامية نحو ٢٠٠٠٠.١

ذلك هو النظام الذي وضعه العثمانيون لإدارة مصر، ولا غاية لهم منه سوى المحافظة على بقاء البلاد خاضعة للدولة، سواء أكان ذلك في صالحها أم لم يكن. وقد بقيت هذه السياسة ناجحة نحو قرنين من الزمان، إلى أن أخذت الدولة في أسباب التقهقر، وزحفت النمسا والروسيا على حدودها الشمالية، فضعف نفوذها في مصر، وانتقلت السلطة الحقيقية إلى أيدي المماليك.

(٢) الضرائب

لما فتح العثمانيون مصر في سنة (٩٢٣ﻫ/١٥١٧م) فرضوا عليها خَراجًا سنويًّا يُرسل للسلطان، يُجمع من ضرائب الأملاك وخاصة الأراضي، وكانت هذه الضرائب تسمى «الميري» — أي الأموال الأميرية — وكان لكل جهة ملتزِم يتعهد بتوريد ما يخصها من الخراج، ومن أجل ذلك تُعفى أرضه من الضريبة، ويُكلَّف الفلاحون زرعَها له بالمجان، علاوةً على ضريبة أخرى يجبيها لنفسه منهم، وكانت حقوق هؤلاء الملتزمين ومناصبهم وراثية.

وكان جانب عظيم من الأرض موقوفًا على المساجد والمدارس والأربطة وغيرها من الأمور الخيرية، وهو مُعفًى أيضًا من الضريبة، ويُزرع بعضه — إن لم يكن كله — بالتسخير.٢

وأنشأ السلطان سليم بالقاهرة قلمًا يُعرف بقلم «الأفندية» لتقرير الضرائب ومراقبة جمعها وتسلُّمها من الملتزمين، وجعل فيه دفاتر لحصر حساب الحكومة وأخرى لتدوين انتقال الملكية.

فيُعلم مما تقدم أن كاهل الفلاح كان مُثْقَلًا بالضرائب وأعمال السخرة. وليت مصابه وقف عند ذلك الحدِّ؛ فإن ما كان يبتزُّه منه بيكواتُ المماليك أنفسهم كان أدهى وأمر، فإن كل بيك من حكام المديريات كان يفرض على محصول الأراضي ضريبة لإدارة المديرية تُسمى «كشوفية»، وكثيرًا ما يفرض على السكان ضرائب أخرى إضافية كما احتاج إلى المال لمحاربة نظرائه من المماليك أو مكافحة الباشا أو السلطان.

بهذه الضرائب المضاعفة — التي لم يكن لها حد معلوم — تسرَّب الفقر إلى أهل البلاد حتى وصلوا في أواخر القرن الثاني عشر الهجري إلى درجة من الفاقة التي لم يسبق لها مثيل.

(٣) المباني

لم تَعُدْ مصر بعد أن فتحها العثمانيون دولة ذات أملاك عظيمة كما كانت من قبل، بل صارت ولاية لا ثروة لها إلَّا من داخلها، وهذه الثروة ذاتها أخذت في الاضمحلال بتسرُّب الإهمال في مرافق الزراعة والصناعة، ثم إن اهتداء البرتقال إلى طريقٍ للهند حول جنوبي أفريقيا حوَّل التجارة المارة بين أوروبا والهند من طريق مصر إلى المحيط الأتلنتي — كما سيأتي ذكره — كل ذلك أضعفَ كثيرًا من ثروة البلاد فصارت لا تقوى على إنشاء الآثار العظيمة التي كانت تقام من قبل.

على أنه لم ينشأ عن هذه الحالة إهمال المباني جملةً؛ فالقاهرة مملوءة بالجوامع التركية، وبها من السُّبُل والأربطة — التكايا — والوكائل والربوع التي شُيِّدت في هذا العصر شيء كبير، وإنما نشأ عنها توخي الاقتصاد في إقامة المباني وزخرفتها، فلم تعد الجوامع تُبنى بتلك السعة العظيمة التي نشاهدها في أبنية القرون السالفة، ولم يُصرف على زخرفتها من المال شيء يُذكر بجانب ما كان يُنفق على مثلها في تلك الأزمان. ومن نتائج الاقتصاد في مباني هذا العصر أيضًا أنْ صارت السُّبُل والمكاتب تُبنى لها أبنية قائمة بذاتها بعد أن كانت من ملحقات الجوامع.

كذلك قلَّت الدقة في البناء، لقلة الثروة من جهة، ولتقهقر الصناعات من أخرى، وليس من آثار هذا العصر ما يلاحَظ عليه آثار الدقة إلا القليل، ومثل ذلك شُيد في أوائل عهد العثمانيين في مصر. ومن أهم هذا النوع سبيل «خسرو باشا» بالنحاسين المُشيَّد (٩٤٥ﻫ/١٥٣٨م) وهو المجاور لقبة الصالح أيوب بالنحاسين.

وقصارى القول أن آثار العصر التركي في مصر — وإن كانت جميلة في بابها — هي أقل رونقًا ودقة من آثار المماليك، وسواء في ذلك المباني أو الترميمات؛ فإن هذه الترميمات لم تتناسب في أي أثر رُمِّم في هذا العصر مع جمال البناء الأصلي، وكثيرًا ما تكون أشبه بالرقع الخلقة في الثوب الجميل.

واستحدث العثمانيون في بناء الجوامع بمصر الشكل التركي، وهو متخَذ من شكل كنائس «بوزنطية» القديمة. وأهم شيء في أوضاعه اتخاذ القباب بدلًا من السُّقُف المستوية، فصارت القبة في كل جامع هي المركز الذي يدور عليه البناء بعد أن كانت إشارة إلى الأضرحة والتُّرَب في الزمن السابق، ومن مميزات هذه المباني أيضًا اتخاذ «القاشاني»٣ المُحلَّى بالأشكال الفرنجية دون العربية، وبناء المنائر الأسطوانية الشكل أو المنشورية الكثيرة الأضلاع جدًّا حتى تقرب من الأسطوانية، وتنتهي غالبًا بمخروط أو هرم كثير الأضلاع يُتَّخذ من الخشب.

فأول جامع بُني في مصر على هذه الأشكال البوزنطية هو جامع سليمان باشا الشهير الآن بسارية الجبل الذي شُيد داخل القلعة سنة (٩٣٥ﻫ/١٥٢٨م)، ويليه جامع سنان باشا ببولاق المشيد سنة (٩٧٩ﻫ/١٥٧١م)، ثم جامع الملكة صفية بالداودية المبني سنة (١٠١٩ﻫ/١٦١٠م).

وقد حوكيت الأوضاع العربية في بعض مباني هذا العصر، إلا أن هذه المحاكاة قلما كانت تامة، حتى في أقرب المباني إلى الوضع العربي مثل سبيل عبد الرحمن كتخدا المبني سنة (١١٥٧ﻫ/١٧٤٤م)، وهو في ملتقى شارعَي النحاسين والجمالية، ويكفي للدلالة على أنه ليس عربي الشكل من كل وجه شكل شبابيكه ومصبَّعاتها النحاسية — قارن هذه بشبابيك خسرو باشا العربية الشكل.

ولم يكن الولاة وحدهم هم المشيدين لهذه الآثار، بل إن معظمها كان من عمل أمراء المماليك أنفسهم، وشيخُ المشيدين والمرممين في ذلك العصر هو «عبد الرحمن كَتُخْدَا» من كبار المماليك الذين استحوذوا على جانب عظيم من السلطة في أواسط القرن الثامن عشر بعد الميلاد، فإن بالقاهرة من آثاره ١٨ جامعًا ما بين مُنشأ ومُجدَّد، وذلك عدا الكثير من الزوايا والأضرحة الصغيرة التي رممها، وعدا السبل الكثيرة التي أنشأها، وله أيضًا قناطر — كبارٍ — وأعمال أخرى هندسية، ومن أجمل آثاره سبيله الصغير، السالف الذكر، وإن كان في الحقيقة أصغر أعماله. ومن مبانيه جامع خارج باب الفتوح وآخر بالقرب من باب الغُرَيِّب ملحق به صهريج وسبيل ومدرسة، وبنى صهريجًا آخر للسقائين بالقرب من جبَّانة الأزبكية، وجدَّد ضريح السيدة زينب وضريح السيدة سكينة، وشيد غيرهما بالقرب من باب القرافة وبجهة عابدين وغيرها. ومن أهم آثاره تجديداته بالأزهر، فإن معظم ما جُدِّد أو زِيدَ في هذا الجامع حتى جعله في شكله الحالي؛ من عمل عبد الرحمن كتخدا، ذلك إلى ما أنشأه فيه من دور الكتب والمطابخ وغيرها تشجيعًا لطلب العلم.

وآخر ما أقيم بمصر من الآثار التركية الجميلة المكتب والسبيل اللذان بناهما السلطان مصطفى الثالث (١١٧٣ﻫ/١٧٥٩م) تجاه مسجد السيدة زينب عند مدخل شارع الكومي الموصل للمدرسة السنية، والمدرسة والسبيل والمكتب التي بناها السلطان محمود الأول (١١٦٤ﻫ/١٧٥٠م) في شارع درب الجماميز في مدخل حارة الحبانية أمام قنطرة سنقر. والبناءان في قمة ما وصل إليه فن العمارة التركية البحتة من الإتقان.

يُعلم مما تقدم أن الآثار العربية لم تُهمَل أثناء العصر العثماني في مصر، بل عُني بصيانتها وزِيد عليها بقدر ما تسمح به ثروة البلاد في ذلك الحين، وإن ما أصاب الآثار العربية من الإهمال — بل الإبادة — لم يبتدئ إلا منذ أوائل القرن الثالث عشر الهجري — التاسع عشر م — عندما استولت الحكومة على ريع الأوقاف التي كان يُصرف منها على صيانتها. وزاد الطين بلة ما ابتدأ به ذلك العهدُ من إصلاح البلاد على النمط الأوروبي؛ إذ اقتضى ذلك إنشاء شوارع مستقيمة بالقاهرة، وغالى القائمون بهذا الإصلاح، فهدَّموا كثيرًا من الآثار النفيسة لإيجاد فضاء للشوارع أو الميادين المراد إنشاؤها. وأوضحُ مثال لذلك «شارع محمد علي»، فإنه لم يتم إنشاؤه إلا بعد أن هُدِّمَ لأجله الكثير من المباني الأثرية الفاخرة؛ من ذلك جامع بديع كان ﺑ «ميدان باب الخَرْق» تلهج كتب التاريخ بفخامته،٤ وجامع «قوصون» — قيسون — وجامع أزبك — موضع العتبة الخضراء — وكان الأخيران من الجوامع الفخمة العظيمة.
figure
(١) سبيل ومكتب خسرو باشا، (٢) وسبيل ومكتب عبد الرحمن كتخدا. (رسم علي أفندي يوسف).

وربما كان الخطب أعظم لو لم تؤلَّف «لجنة حفظ الآثار العربية»؛ ألَّفها الخديوي توفيق باشا سنة ١٨٨١ لمنع العبث بهذه الآثار وللمحافظة عليها، فكان لأعمالها أعظم ثمرة في ذلك.

(٤) المماليك وأهل البلاد

مماليك هذا العصر — كمن سبقهم من المماليك — لم يمتزجوا بالسكان الأصليين، بل عاشوا مترَفِّعين في مَعْزلٍ عنهم. وقليل منهم من تزوج وكوَّن له أسرة؛ إذ كان دَيْدَنهم الحروب والفروسية، فلا يرضَوْن بشيء يشغلهم عنها. ومعظمهم كان يموت في ساحة الوغي وسِنُّه لا تتجاوز الخامسة والثلاثين، ومن عاش منهم عيشة هادئة ورضي بالزواج — وهو النزر اليسير — كان نسله يندمج على مدى الأيام في المصريين.

وقد غالى المماليك في أواخر العصر العثماني في ابتزاز الأموال من الأهلين، وانغمسوا في الترف في مسكنهم وملبسهم ومعيشتهم، على غير عاداتهم الأولى المبنية على الخشونة والسذاجة في كل شيء، وصارت حُلَّة البيك منهم لا يقل ثمنها عما يعادل ٦٠٠ جنيه الآن — مع عظم قيمة النقود في تلك الأيام — ولا يمتطون إلا خيول «نجد» العربية الأصيلة التي يبلغ ثمن أحدها نحو ٣٠٠ جنيه.

ولم يكن ذلك قاصرًا على البيكوات أنفسهم، بل إن مماليكهم الذين لم يرتقوا بعدُ إلى مراتب الرياسة كانت ركائبهم مزيَّنة بأفخر الحرائر، ومُرَقَّشة من كل جانب بالذهب والفضة، على حين أن المصريين الأصليين لم يُسمح لهم إلا بركوب البغال والحمير.

figure
شكل مملوك (عن كتاب وصف مصر).

وصار أهل البلاد هم العبيد الحقيقيين، و«المماليك» هم السادة؛ إذ استولى المماليك على جميع الأملاك إلا ما كان منها موقوفًا على الأعمال الخيرية في وصاية العلماء. وتشعثت حال الفلَّاح حتى صار رثًّا في ملبسه ومسكنه ومأكله؛ لا يكاد يُفيق من دفع ضريبة شرعية أو غير شرعية حتى يُطالَب بدفع أخرى، وإذا امتنع عن الدفع — فقرًا أو ادِّعاء — ضُرب وعُذِّب حتى يدفع، وربما قُتل من أجل ذلك.

واختلَّ الأمن في تلك الأيام، وكثرت مناسر اللصوص وقطَّاع الطرق؛ فتأخرت التجارة، وأُهملت مرافق الزراعة، وانقرض معظم الصناعات، وكانت قد دخلت في طُور تقهقُر بعد أن نقل السلطان سليم أمهر الصنَّاع إلى القسطنطينية، فقضى الفقرُ واختلال الأمن على البقية الباقية منها.

وفي أواخر القرن الثاني عشر ﻫ — الثامن عشر م — كان تكرير السكر لا يزال جاريًا في بعض أنحاء البلاد، وكذلك بقي أثر من صناعة الحرير والكَتَّان التي كانت لمصر فيها شهرة فائقة من قبلُ، كما بقيت نماذج من صناعة الزجاج.

على أن الذي لطَّف هذه الحالة أن ما كان يُجْبَى من البلاد كان يصرَف في نفس البلاد؛ فالثروة التي كانت تَرِدُ متجزئة إلى خزائن الأمراء وتتجمع فيها، تُنفق بعدُ متجزئةً إلى التجار من الأهلين بعد دفع الخراج، الذي لم يكن كبيرًا. ولم يكن ظلم المماليك وعسفهم ليمنعهم من الكرم وبذل الصدقات؛ فكان كبار القوم يعيشون في رخاء وسعة، وكانت بيوتهم مفتَّحة للقادمين في الغداء والعشاء، وكانوا في الأعياد يوزِّعون كثيرًا من الأرز والعسل واللبن على الفقراء والمساكين، كما يوزعون عليهم الحلوى أيضًا في أيام الجمعة والمواسم.

ولم يكن أمراء المماليك وحدهم هم أصحاب القصور الفاخرة، بل شاركهم في ذلك كثير من التجار، وكان من بين المنازل الكبيرة المطلة على بِرْكة الأزبكية — حديقة الأزبكية الآن — منزل لتاجر شهير يُدعى «أحمد الشرايي» غاية في الحسن، وكانت لهذه الأسرة ثروة طائلة، وبيتهم يؤمه العلماء من كل جانب لاشتماله على كل ما يرغبه الطالب من الكتب التي كانوا يُعْنَوْنَ بجمعها من كل سوق، ولا يضنون على أحد بإعارتها.

وإن اهتمام هذه الأسرة وأمثالها بجمع الكتب وتسهيل إعارتها يدلنا بعض الدلالة على مقدار إقبال الناس على العلم في هذه الأيام. ويؤيد لنا ميل الناس إلى الانقطاع إلى طلب العلم ذِكر ذلك العدد الكبير من أهل العلم والتأليف الذي عُني «الجبرتي» بكتابة تراجمهم؛ من مشايخ الأساتذة والعلماء، والمؤرخين والشعراء، وغيرهم ممن ليس لهم نظير في زماننا، غير أن اشتغالهم كان قاصرًا على مدارسة قواعد العلوم اللسانية والشرعية والرياضة النظرية، فلا هُم تأثروا بالنهضة العلمية بأوروبا، ولا هم رجعوا إلى النهضة العربية القديمة التي جعلت عصر الرشيد والأمين والمأمون من أزهر عصور العلوم العملية.

(٥) تجارة مصر وشواطئ البحر الأبيض، وتأثرها بالاستكشافات البرتقالية في أفريقيا

كان سلاطين دولتَي المماليك البحرية والبرجية في سعة عظيمة من المال، تدل عليها مبانيها الشاهقة وآثارهم النفيسة؛ لأن موارد ثروتهم لم تكن بالطبع قاصرة على الزراعة التي هي أساس ثروة مصر الآن، بل إن كثيرًا منها كان من الضرائب المفروضة على التجارة الهندية العظيمة عند مرورها إلى أوروبا؛ وذلك أنه قبل الاهتداء إلى الطريق المؤدِّية من أوروبا إلى الهند حَوْل جنوبي أفريقيا لم يكن للتجارة الهندية مع أوروبا إلا طريق البحر المتوسط؛ تُنقل البضائع برًّا من الخليج الفارسي أو البحر الأحمر إلى إسكندرونة أو الإسكندرية على شاطئ البحر الأبيض، ومنهما تنقل بطريق هذا البحر إلى مدينة «البندقية» حيث تُوزَّع في أوروبا، وسواء أنُقلت البضائع بطريق الخليج الفارسي أم بطريق البحر الأحمر — وهو الأغلب لموافقته — تمرُّ لا محالة من أراضي المماليك؛ إذ هم المالكون في ذلك الوقت لمصر والشام معًا؛ فانتفع المماليك بهذه المزية أيَّما انتفاع، وضربوا مكوسًا كبيرة على التجارة عند دخولها في أملاكهم وعند خروجها منها؛ فكان ذلك يأتيهم بدَخْل لا يُستهان به.

figure
بقايا الصناعات المصرية: (١) مصنع نسيج (٢) مصنع زجاج.

وقد كان لمرور التجارة الهندية من هاتين الطريقين أكبر أثر في ترويج تجارة البحر الأبيض المتوسط، وعظمت بسببها ثروة الدولتين اللتين اشتُهِرَتا بالملاحة فيه؛ وهما: «جنوة» و«البندقية»، ولا سيما الأخيرة؛ فإن تُجَّارها نالوا لدى المماليك حُظوة كبيرة وصلت بهم في آخر الأمر إلى احتكار نقل هذه التجارة العظيمة.

ولم يتفق المؤرخون على تفاصيل مقدار المكوس التي كان يجبيها المماليك من هذه التجارة، ولكن المفهوم من تقدير معظمهم أنها لم تقلَّ عن سدس ما تساويه البضاعة وقت وصولها إلى حدود الأملاك المصرية، وسدس ما تساويه أيضًا عند خروجها من موانيها؛ فإذا فرضنا أن أحد تجار العرب اشترى من الهند بضاعة بما يعادل ١٠٠٠٠ جنيه مثلًا، وسلك طريق البحر الأحمر حتى رسا بها في السويس، أصبحت قيمتها بالطبع أعظم كثيرًا مما اشتُرِيَتْ به من المواني الهندية، ولنفرض أنها صارت تساوي ١٨٠٠٠ جنيه مثلًا؛ فيكون ما يُدفع عنها من المكوس حينئذٍ يعادل ١٨٠٠٠ × = ٣٠٠٠ جنيه، ثم يشتريها تاجر آخر، فينقلها إلى الإسكندرية ليبيعها إلى أحد تجار البندقية، فتزيد قيمتها بالطبع بقدر ما دُفع عليها من المكس وأجر النقل، وبقدر الربح الذي يريده التاجر الثاني، ولنفرض أنها صارت تساوي ٣٠٠٠٠ جنيه، فتكون مكوسها بالإسكندرية تعادل ٣٠٠٠٠ × = ٥٠٠٠ جنيه؛ أي إن مجموع ما دُفع عليها من المكوس يبلغ ٣٠٠٠ + ٥٠٠٠ = ٨٠٠٠ جنيه، وذلك عدا ما يكون قد دُفع عنها لعمال الحكومة على سبيل الهدايا أو الرشوة مما يقدر بألف جنيه أو ألفَين؛ أي إن مجموع ما دخل الأراضيَ المصرية من المال بسبب مرور هذه البضاعة فيها «١٠٠٠٠ جنيه تقريبًا» يقرب من الثمن الأصلي الذي دُفع عنها في الهند. زد على ذلك أن تجار العرب كانوا تحت رحمة المماليك؛ يصادرونهم أحيانًا، ويقترضون منهم قهرًا كلما احتاجوا إلى المال، ومن ذلك نعلم السر في بقاء دولتَي المماليك البحرية والجراكسة على تلك الدرجة العظيمة من الثروة التي مكَّنتهم من حفظ أبَّهة الملك وتشييد القصور الشاهقة والمباني الفاخرة جيلًا بعد جيل.

ولا يخفى أن البضاعة التي اشتراها تاجر البندقية من مصر بمقدار ٣٥٠٠٠ جنيه كانت تباع في أوروبا بأبهظ الأسعار، وربما بلغ ثمنها هنالك ٧٠٠٠٠ جنيه؛ فاشتغل الحسد في الممالك الأوروبية الأخرى من هذه الأرباح العظيمة، التي لا ينقطع تدفقها في جيوب البنادقة والمصريين بسبب احتكار التجارة الهندية؛ فدفعهم ذلك إلى التفكير في الاهتداء إلى طريقٍ أخرى توصل إلى الهند، حتى ينالهم شطرٌ من أرباح تلك التجارة العظيمة، وساعد على إثارة هذه الهمة قيامُ النهضة العلمية العامة التي ابتدأت في أوروبا بعد فتح القسطنطينية — نهضة إحياء العلوم — وولَّدت في تلك البلاد روح الاستطلاع والاستكشاف.

وأول من فكَّر من الأوروبيين في البحث عن طريق أخرى إلى الهند هم «البرتقال»، وهم أمة تسكن الجزء الغربي من شبه جزيرة الأندلس، كانوا إحدى الإمارات التي استولت عليها العرب في الأندلس، وانسلخوا عن حكمهم قبل إجلاء العرب من تلك البلاد في سنة (٨٩٧ﻫ/١٤٩٢م) بقرنَين تقريبًا. ومن ذلك الحين أخذوا يدافعون عن استقلالهم من غارات مملكة «قَشْتالة» — كستيل — المجاورة لهم، حتى أمِنوا شرَّها بانتصارهم عليها في واقعة «الجَبَرُوتا» سنة (٧٨٧ﻫ/١٣٨٥م).

ثم تولى عرش البرتقال الأمير «هنري» — الشهير بهنري «الملَّاح» لكثرة استكشافاته البحرية وعظم ما أصلحه في الملاحة — فتمَّ في أيامه من الاستكشافات ما نسخ آراء الأقدمين بشأن شكل العالم المعمور، وكانت عاقبته كشف طريق الهند والدنيا الجديدة.

شرع هذا الملك منذ سنة (٨٢١ﻫ/١٤١٨م) في العمل على كشف طريق جديد للهند، فأقام بثغر «سجر» في الجنوب الغربي من البرتقال — وهو يكاد يكون أقصى نقطة في أوروبا من جهة الغرب — وأنشأ فيه مرصدًا ومدرسة بحرية لتعليم الملاحة، ودعا إليها علماء الفلك وكبار المُلمِّين برسم المصورات الجغرافية، وعُني بصنع السفن العظيمة للاستكشاف خاصة، وأدخل فيها استعمال بيت الإبرة — البوصلة — ناقلًا استعمالها عن العرب، وحسَّن آلة «الأسطرلاب» التي يُعرف بها خط العرض بالتقريب.

ثم عوَّل بعد استشارة من حوله من العلماء على تتبُّع شاطئ أفريقيا بقصد بلوغ الهند. وكان الشاطئ الغربي من أفريقيا لا يُعلم منه حينئذٍ لأهل أوروبا شيء جنوبي «رأس بوجادور». وكانت المصورات الجغرافية التي رسمها الأقدمون بعضها يمثِّل بقية أفريقيا بنصف دائرة تمتد من الشمال الغربي — جهة مُرَّاكُش — إلى جنوبي البحر الأحمر، وبعضها يتركه غير محدود إشارةً إلى أنه لم يُكشف بعد.

فرأى هنري أن يستكشف عن هذا الشاطئ، حتى إذا سار حوله إلى الشرق بَحَثَ عن طريق تؤدي إلى الهند من تلك الجهة؛ فأرسل لهذا الوجه بعوثًا بحرية سنةً بعد أخرى، فكان كل بعث يصل إلى وراء ما وصل إليه سالفه، حتى وصل آخر بعث في عهده إلى «جزائر الرأس الأخضر». وما زالت هذه الاستكشافات يتْبع بعضها بعضًا حتى بلغ «بَرْتُلُومْيُودِيَاز» الملَّاح البرتقالي الشهير إلى طرف أفريقيا الجنوبي، وسار حوله حتى وصل إلى خليج «ألَجوَا» سنة (٨٩١ﻫ/١٤٨٦م)، وسُمِّي هذا الطرف «رأس الزوابع» — لهول ما لاقاه في السير حوله — ولكن ملك البرتقال «ابن هنري» أدرك قيمة هذا الكشف العظيم، ورأى أنه فاتحة خير لتحقيق أمنية دولته؛ وهي الاهتداء إلى طريق الهند، وعمل على مواصلة هذه الاستكشافات.

وفي هذه الأثناء كان المستكشف العظيم «خِرِسْتُوف كُلُومْب» قد خرج في بعث بحري أمدَّه به ملك الإسبان، وسار به غربًا يأمل الوصول إلى الهند من هذا الطريق الغربي اعتقادًا منه بكُروية الأرض، فوصل إلى إحدى جزائر الهند الغربية سنة (٨٩٧ﻫ/١٤٩٢م)، فظن الناس أن هذه جزء من بلاد الهند، وأن «كلومب» قد كشف للإسبان طريقًا إلى تلك البلاد أقصر وأسهل من الطريق الطويل الذي يعاني البرتقال كشفه، فوقفت الاستكشافات البرتقالية فترة من الزمن، إلى أن اتَّضح أن كلومب لم يهتدِ إلى طريق الهند ذاتها، وأن طريقه إن أدى إليها يكون أطول من الطريق حول أفريقيا؛ فرجع البرتقال إلى مواصلة استكشافاتهم، وفي سنة (٩٠١ﻫ/١٤٩٦م) أرسل ملكهم «إمانويل» بعثًا لهذا الغرض برياسة الملَّاح العظيم «فاسكو دي جاما»، فوصل إلى رأس الزوابع الذي سمَّاه تفاؤلًا «رأس الرجاء الصالح»، وبعد أن كابد مصاعب جمة في المسير حوله، لشدة الرياح الجنوبية الشرقية، سار إزاء شاطئ أفريقيا الشرقي.

ومن ثَمَّ شرع يسأل من الثغور التي يمر عليها عن الطريق المؤدية إلى الهند، فكان كلما حلَّ بثغر وجده مسكونًا بالعرب، فكانوا يمتنعون عن إرشاده مخافة أن يجرَّ عليهم ذلك منافسة تجارية لا طاقة لهم بها، وبعد أن أخفق سعيه في «مُزَنْبيق» و«كِلْوة» و«مَنْبَسة» فاز في «مِلِنْدة»؛ حيث أخذ ما يلزمه من الزاد واصطحب معه أحدَ الهنود العالمين حق العلم بالطريق إلى «قليقوت» — على الشاطئ الغربي للهند — فوصلها «جاما» بهداية هذا الدليل في ثلاثة وعشرين يومًا.

figure
فاسكو دي جاما في حضرة الزامرين.

ولم يرحِّب به في بادئ الأمر ملكها الملقب «زامُرِين» — أي ملك البحار — بل زاد في تنفيره منه تجار العرب في تلك الجهات؛ إذ أفهموه أن البرتقال ليسوا إلا لصوص بحر لا عمل لهم إلا النهب والسلب في البحار، ولكن «جاما» — أول مستعمر أوروبي في الشرق — استعمل الملق والثبات، وما زال بالزامرين يتملقه ويشرح له غرضه حتى استماله ورغَّبه في تبادل التجارة مع البرتقاليين، وعقد معه معاهدة تجارية كانت بعد ذلك سببًا في زوال ملْكه.

بذلك تمَّ للبرتقال كشف طريق جديدة للهند؛ فكانت فاتحة لانقلاب عظيم في تجارة العالم بأسره؛ إذ أن نقل البضائع صار يُنفق عليه بهذه الطريق ثلث ما كان يُنفق بالطريق القديمة، فوق متاعبها ومضايقها؛ فكانت النتيجة أن تَحوَّل مجرى هذه التجارة العظيمة من مصر والشام والبحر الأبيض المتوسط إلى المحيط الأتلنتي حول شواطئ أفريقيا.

وقد وقع خبر كشف الطريق الجديدة وقوع الصواعق على مصر والأمم التجارية بالبحر الأبيض، ولا سيما البنادقة؛ لعلمهم أن فيه الضربة القاضية على أهم منابع ثروتهم. وكان البرتقال قد أخذوا في توسيع نفوذهم في بلاد الهند، غير مكتفين بالعلائق التجارية، بل استولَوْا بالسيف والمدفع على إمارة «قليقوت» وجعلوها في عداد مستعمراتهم.

وذلك أن السلطان الغوري اتَّحد سرًّا مع البنادقة ومع ملك «قليقوت» — الذي اتضح له سوء نية البرتقال — على أن يعملوا معًا على نزع سيادة البرتقال من الشرق؛ فأنشأ الغوري أسطولًا عظيمًا، وساعده البنادقة بجلب الأخشاب اللازمة لبنائه، فظهر الأسطول في البحار الهندية والتقى بسفن البرتقال بالقرب من شواطئ بمباي، فكانت الغلبة للمصريين، وقُتل ولد الوالي البرتقالي «ألْميدا» بالهند في تلك الموقعة، ولكن لم يلبث البرتقال أن جمعوا أسطولًا آخر، وحاربوا المصريين في موقعة بحرية عظيمة بالقرب من جزيرة «دِيُو» أمام بمباي سنة (٩١٥ﻫ/١٥٠٩م) انتصروا فيها على المصريين في موقعة كانت هي الفاصلة في أمر التجارة الهندية.

فإنه لمَّا خضعت مصر بعدُ للدولة العثمانية لم يصبح لها من الأمر شيء في مكافحة البرتقال. ولما اشتدَّ عبث البرتقال بسفن غيرهم ممن حاولوا الاتِّجار في تلك البحار، بعث السلطان سليمان القانوني أحد ولاة مصر بأسطول لردعهم فلم يفلح. والحق أن العثمانيين لم ينتهزوا الفرص المناسبة لمنازلة البرتقال والاستيلاء على الثروة الهائلة التي كان يجنيها المماليك من مرور تجارة الهند من مصر والشام، فكان الواجب عليهم أن يتحدوا مع البنادقة — شركائهم في هذه الخسارة — ويستعينوا بهم في القضاء على أساطيل البرتقال، ولكنهم غفلوا عن ذلك، بل كانوا هم القاضين على قوة البنادقة بحروبهم التي شنُّوها عليهم واستيلائهم على كثير من أملاكهم.

ومن ذلك الحين كثر التلصُّص في البحر الأبيض، فقضى على البقية الباقية من التجارة التي كانت تمر من هذا البحر.

(٦) أشهر الولاة وأهم الحوادث

أول من ولَّى العثمانيون على مصر من الولاة «خير بك»؛ ولَّاه السلطان سليم مكافأةً له على مساعدته في فتح مصر والشام، وبقي في منصب الولاية أكثر من خمس سنوات كان فيها مكروهًا من جميع الرعايا المسلمين؛ فقرب منه اليهود والنصارى وأخذ يناصرهم، فلم يغنِ ذلك عنه شيئًا، ولمَّا ازداد كَربه من الحياة أفرج عن كثير من مسجوني القاهرة، ووزَّع كثيرًا من المال والخيرات على المساكين وخدمة المعاهد الدينية، وقد أبدى أسفه الشديد وهو في سياق الموت على ما فرط منه، ودُفن بمسجده الذي بناه بالتبانة بالقرب من باب الوزير بجهة الخيربكية المسماة بهذا الاسم نسبة إليه.

وخلفه «مصطفى باشا» زوج أخت السلطان سليمان القانوني، وهو أول من لُقب بلقب باشا من ولاة مصر، وكان لا يعرف العربية، ولا يُظهر شيئًا من الحفاوة للوافدين عليه والمهنئين له من أهل البلاد.

ولم يمضِ عهد طويل بعد الفتح حتى ظهر فضل احتياط السلطان سليم لتقييد سلطة الوالي، فإن الواليَ الثالث «أحمد باشا» همَّ بعمل ما كان يُخشى منه؛ إذ أراد الاستقلال بملْك مصر؛ فأمر بضرب السكة باسمه، والدعاء له في الخطبة، ولكنه لم يلبث أن قُبض عليه وأُرسل رأسه إلى القسطنطينية بعد أن عُلِّق على باب زَوِيلة.

على أن تاريخ مصر في القرنين الأولين من الفتح العثماني ليس به شيء من الأخبار الممتعة، ولا يشتمل غالبًا على غير سلسلة من الولاة لا يكاد الواحد منهم يعيَّن حتى يُعزَل، منهم نفر قاموا بتشييد بعض المساجد والمدارس، ومنهم من لم يشتغل بشيء سوى التزوُّد من المال قبل أن تنقضيَ مدة ولايته. ومع ذلك كان ولاة القرن الأول وأكثر الثاني في العدل وضبط الأمور خيرًا ممن أتى بعدهم.

ومن أعظم الولاة العاملين في ذلك العصر «سليمان باشا»؛ نُصِّب على مصر سنة (٩٣١ﻫ/١٥٢٥م)، فاهتمَّ بالنظر في أحوال البلاد وإصلاح ما فسد منها، فعَيَّن مأمورًا لمسح الأراضي، ورتب الضرائب على أحسن نظام، واستحدث دفاتر جديدة لأعمال الحكومة، وشيَّد كثيرًا من المباني النافعة. وفي مدة ولايته كثر تعدِّي سفن البرتقال على بلاد البحر الأحمر وسواحل الهند حتى قُطعت المواصلات التجارية بين مصر وتلك الجهات؛ فاستغاث «درشاه» حاكم «كجرات» بالسلطان سليمان القانوني، فأصدر السلطان أمرًا إلى سليمان باشا بإنشاء أسطول بالديار المصرية والخروج به إلى البحر الأحمر لكسر شوكة البرتقال؛ فجهز سليمان باشا الأسطول وشحنه بالجيوش وأقلع به من السويس سنة (٩٤٤ﻫ/١٥٣٨م)، فاستولى على «عدن»، ثم توجه إلى بلاد الهند، فالتحم مع البرتقال في المياه الهندية في موقعة عظيمة كان النصر فيها للبرتقال بالرغم مما بذله سليمان باشا من الجهد العظيم.

وكانت ولاية مصر قد أُسندت أثناء اشتغال سليمان باشا بأمر حملة الهند إلى «خُسْرُو باشا» سنة (٩٤١ﻫ/١٥٣٥م)، فأتمَّ الإصلاحات التي بدأها سليمان باشا، ثم زاد في مقدار الجزية التي تُرسل للدولة، فاستُدعيَ إلى الأستانة مخافة أن يكون قد أحدث ضرائب جديدة تضر بالبلاد، ولما عاد سليمان باشا إلى مصر تسلم مقاليد الأمور ثانية، وبقيَ واليًا عليها إلى ان استُدعيَ إلى الأستانة وأُسند إليه مسند الصدارة العظمى بها.

ثم تتالت الولاة على مصر حتى وليَها «سنان باشا» سنة (٩٧٥ﻫ/١٥٦٧م)، فأخذ يتصرف في شئون البلاد بحكمة وتدبُّر، وبعد تسعة أشهر وردت عليه الأوامر السلطانية بأن يستعد لفتح بلاد اليمن واستخلاصها من «الزيديين»٥ فجهز جيشًا، وخرج به من مصر سنة (٩٧٦ﻫ/١٥٦٨م) بعد أن أناب عنه في الولاية «إسكندر باشا»،٦ ولما عاد من فتح اليمن سنة (٩٧٩ﻫ/١٥٧١م) تسلَّم ولاية مصر ثانية وأخذ يشيِّد المباني؛ فأنشأ في بولاق سنة (٩٧٩ﻫ/١٥٧١م) رباطًا — تكية — ومسجدًا كبيرًا لا يزال إلى الآن من أعظم الآثار العثمانية بمصر، وهو ثاني مسجد بُني بها على الأشكال البوزنطية، وبقيَ سنان باشا بمصر سنتين كان أثناءهما موضع محبة الأهلين، لكثرة إصلاحاته وعظم مبرَّاته.

ومن أفضل الولاة الذين وُلُّوا مصر بعده «مسيح باشا» (٩٨٢–٩٨٨ﻫ/١٥٧٤–١٥٨٠م)، وكان من أكثر الحكام عفةً واستقامة،ً وأشدهم حرصًا على نشر الأمن وإقامة العدل. إلا أنه تشدَّد في معاقبة المفسدين؛ فقتل منهم نحو عشرة آلاف، وشيَّد مدرسة وتربة له خارج القرافة بشارع نور الدين بعرب اليسار، ووقف عليهما أوقافًا باسم الشيخ نور الدين القرافي.

ثم أخذ نفوذ الولاة في الاضمحلال، لعجز الكثير منهم وقوة شوكة الجنود بالبلاد وتدخُّلهم في كل شئونها، حتى صاروا هم الآمرين الناهين للولاة. فلما ولي «أُويس باشا» على مصر (٩٩٥–٩٩٩ﻫ/١٥٨٧–١٥٩١م)، وأراد أن ينظم أولاد العرب من المصريين في سلك الجيش، اشتعل لهيب الفتنة بين الجنود، ولم يقبلوا أن يتشبَّه بهم غيرُهم في لباسهم، وهجموا على أويس باشا وأهانوه (٩٩٧ﻫ/١٥٨٩م)، فاضطُر إلى الإذعان لمطالبهم. ومما يجدر ذكره بمنابسة ولاية أويس باشا أنه حدث في عهده زلزال عظيم سقط به عدة منارات وبيوت، وتفلَّق جبل المقطم قرب أطفيح إلى ثلاث فِلَق تفجر منها الماء.

figure
جامع سنان باشا: (١) من الخارج، (٢) من الداخل. (رسم علي أفندي يوسف).
وما زال روح الفتنة ينتشر في الجنود عامًا بعد عام، ويشتد تطاولهم على الولاة، حتى وُلِّيَ «قره مصطفى باشا» سنة (١٠٣٢ﻫ/١٦٢٢م)، وكان قوي البأس ساهرًا على توطيد السكينة، فأخذ يتجول بنفسه في الأسواق، وينظر في الشكاوى والأسعار، ويحكم في الجنايات بنفسه؛ فهابه الجند. وكان لأعماله وقْع حسن في القلوب، وعظُم في أعين الناس. ولما جلس السلطان مراد الرابع على عرش آل عثمان سنة (١٠٣٢ﻫ/١٦٢٣م) عزل هذا الوالي من مصر ونصَّب مكانه «علي باشا الجِشْنَجي»؛ فطلبت منه الأجناد الأعطية المعتاد توزيعها عند تولية الوالي الجديد، فلمَّا لم يُجب طلِبَتَهم لم يعترفوا بعزل قره مصطفى باشا، واضطَروا علي باشا إلى العودة من حيث أتى، وعندما ركب البحر أطلقوا على سفينته بعض القذائف من قلعة منار الإسكندرية،٧ فلم ينجُ إلا بصعوبة. ثم أرسل الجنود مندوبًا منهم إلى الأستانة، فنال لهم أمرًا سلطانيًّا ببقاء قره مصطفى باشا في الولاية؛ فعاد الباشا إلى مصر سنة (١٠٣٥ﻫ/١٦٢٥م)، وفي عهده ظهر بالبلاد وباء شديد، فصار يغتصب أموال المتوفَّيْنَ لنفسه كأنه الوارث للناس؛ فرُفعت في حقه الظلامات لدار الخلافة، فعزله السلطان ثم قُتل بعدُ بالقسطنطينية. ولقره مصطفى باشا من العمارات والمدارس التي شيَّدها بمصر شيء كثير.

ولم يكن الوباءُ الآنفُ الذكرِ الوحيدَ من نوعه في هذا العصر، بل حدث غيره طواعين كثيرة، وكانت تصحبها غالبًا المجاعات — وتلك سُنة معتادة في التاريخ. ومن أوبئة هذه المدة طاعون حدث سنة (١٠١٢ﻫ/١٦٠٣م) فتك بكثير من القرى والأمصار، وآخَر تفشَّى بالبلاد سنة (١٠٢٨ﻫ/١٦١٩م) فاشتدَّ بطشه حتى أُقفلت الأسواق وتعطلت الأعمال. وفي سنة (١٠٣٠ﻫ/١٦٢١م) حدث غلاء عظيم أعقبه وباء آخَر بقي يفتك بالبلاد نحو ثلاثة أشهر، ولم يكد يُنسى هذا حتى حدث سنة (١٠٣٥ﻫ/١٦٢٥م) وباء أنكى من السالف، وأعظم من هذا كله وباء حدث سنة (١٠٥٢ﻫ/١٦٤٢م) لم يُسمع بمثله من قبلُ، كثرت فيه المُوتان حتى صارت الموتى تُدفن بلا صلاة، وخربت به ٢٣٠ قرية، وأعقبه قحط وغلاء.

وفي هذه الأثناء كانت الجنود العثمانية بمصر دائبة على جمع السلطة في قبضتهم، حتى جعلوا الولاة أُلعوبة في أيديهم؛ فعجزوا عن رَدْعهم وتأمين الرعايا شرَّ مفاسدهم، وصارت كل طائفة من الجند تأخذ في حمايتها جملة من التجار أو المزارعين أو الملَّاحين فيقتسمون معهم الأرباح، وفي نظير ذلك يحمونهم من أداء حقوق الحكومة. وما زالوا في شغب على الولاة، وهم معهم في مكافحات، حتى عظمت قوة البيكوات المماليك، فقضَوْا على نفوذ الطائفتين.

(٦-١) عودة النفوذ إلى المماليك البيكوات

أدَّت كثرة تنقُّل ولاة العثمانيين إلى عدم تأييد نفوذهم في مصر، وإلى استرجاع المماليك — الراسخة قدمهم بالبلاد — لكثير من قوتهم الأولى، وساعد على نمو هذه القوة طول أمد النزاع بين الولاة والجند، حتى اشتغل الطائفتان بمشاحاتهم عن كل ما سواها.

ومما ساعد المماليك على القبض على السلطة تمهيدهم الطريق لاتحادهم، باختيارهم زعيمًا من بينهم وهو حاكم القاهرة، المُسمَّى إذ ذاك «شيخ البلد». وكان المماليك قد تعوَّدوا من قديم الزمان جلب مماليك أحداثٍ وتدريبَهم ليكونوا لهم حاشية وأنصارًا، فسمحت لهم الدولة بالسير على هذا النظام، فأصبح لزعمائهم من ذلك قوة لم يعُد للولاة قِبَلٌ بدفعها؛ وذلك أن المماليك الأحداث الذين يُشرَوْن بالمال كانوا يُحرَّرون عادةً بعد بضعة أعوام، فيُبقون الحرمة لأسيادهم، حتى إذا ولجوا أبواب الرقي وصاروا أنفسُهم بيكوات، لا يألون جهدًا في تلبية دعوة موالين الأولين متى استمدوا منهم المعونة؛ فكان يكون لشيخ البلد دائمًا عصبية من مواليه وعتقاه البيكوات يعظم بها شأنه، وصار للمماليك قوة لم يكتفوا باستخدامها في عزل من أرادوا عزله من الولاة، بل أخذوا يطمحون إلى التخلص من السيادة العثمانية جملة، وبخاصةٍ عندما دخلت الدولة في طور التقهقر وشُغلت بحروبها مع النمسا والروسيا — كما ذكرنا آنفًا.

وتنبَّه بعض الولاة إلى ما يرمي إليه المماليك؛ فعملوا على دس الدسائس بينهم، وتفريق كلمتهم. وكان المماليك منقسمين إلى أحزاب — أعظمها «القاسمية»، و«الفِقارية»٨ — ولم تَسْلم الطائفتان من عداوةٍ بينهما، فلما عُهد بولاية مصر إلى «حسين باشا كتخدا» سعى في تفريقهما، وتفاقمت العداوة بينهما حتى وصلت سنة (١١١٩ﻫ/١٧٠٧م) إلى حدٍّ أثار بين الفريقين حربًا استعرت نيرانها ثمانين يومًا، وقيل إن المتخاصمين كانوا أثناء هذه المدة يخرجون من القاهرة نهارًا للمحاربة، ثم يعودون إليها بالليل فيبيتون فيها كغيرهم من السكان.

وأسفرت هذه الفتنة الطويلة عن قتل شيخ البلد «قاسم بك إيواظ» زعيم القاسمية، فخلفه ابنه «إسماعيل بك»، فأصلح ما بين المماليك ووحَّد كلمتهم، وصارت لشيخ البلد الكلمة العليا على الوالي؛ فعمل الوالي سرًّا على تحريض الفقاريين عليه إلى أن قتله أحدهم «ذو الفقار»، فوهب له الوالي ثروة إسماعيل بك، وأسند منصب شيخ البلد إلى «جركس بك» بعد أن فتك بأتباع إسماعيل بك. ويُعرف إسماعيل بك هذا بإسماعيل بك الكبير، ومِن آثاره بمصر سبيل ومكتب بجهة سوق العصر القديم بمدخل الداودية وحوش الشرقاوي كانا من أجمل مباني ذلك العصر، وبقي منهما الآن جزء خَرِب.

ثم استعان ذو الفقار بما آل إليه من الثروة في شراء المماليك وتدريبهم حتى صارت له قوة كبيرة؛ فانتزع السلطان من جركس بك، ووضع نفسه في منصب شيخ البلد، ولكنه لم يلبث أن ثار عليه المماليك وقتلوه، فقبض أحد قواده «عثمان بك» على السلطة، فصار شيخًا للبلد بعد أن انتقم لسيده شرَّ انتقام.

figure
سبيل ومكتب إسماعيل بك الكبير (في أيام رونقهما).

وكان عثمان بك ذا مقدرة وبأس؛ فعمل على توطيد السكينة وسهر على حفظ الأمن وإقامة العدل، فحسنت سيرته وأحبه الأهلون، وبقي ذكره بعده زمنًا طويلًا، حتى إنه لما ثار عليه أعداؤه واضطَروه إلى الهروب من مصر صارت الناس تؤرخ حوادثهم بسنة خروجه، فكانوا يقولون: «هذا الأمر حدث بعد خروج عثمان بك بكذا من السنين، ووُلد فلان في سنة كذا من خروج عثمان بك.»

وسبب فراره من مصر أنْ قَوِيَ في عهده شأن حزبَين من المماليك، وهما: «الكردغلية» و«الجلفية»، فاتفق «إبراهيم بك» زعيم الحزب الأول و«رضوان بك» زعيم الثاني على توحيد كلمة حزبَيهما، ونزع السلطة من عثمان بك، وجعلها في أيديهما معًا، وبعد نزاع طويل بينهما وبين عثمان بك تغلَّبا عليه، ففرَّ خوفًا منهما إلى الشام.

ثم اقتسما السلطة بينهما، واتفقا على أن يشغلا منصبَي شيخ البلد وأمير الحج بالتناوب سنةً بعد أخرى. ولمَّا رأى الولاة أن السلطة قد سُلبت من أيديهم، عملوا على النكاية بإبراهيم بك ورضوان بك، ودبَّروا لقتلهما مكايد لم يفلحوا فيها، إلا أن البلاد لم تهدأ من الفتن بعدُ، وبقيَ أمراء المماليك في هيج على أنفسهم.

هكذا كانت حالة البلاد في هذا العصر الأخير، لا يكاد يفارقها الخلل والفوضى؛ تارةً بثوران الجند ومكافحتهم للولاة، وطورًا بتنازع المماليك مع الولاة مرة ومع أنفسهم أخرى. وما زالت الحال كذلك حتى قبض على أَزِمَّة الأمور أحد المماليك الأقوياء، وهو «علي بك الكبير»؛ فكان ذلك ابتداء حوادث جديدة ذات شأن آخر.

زوال ما كان للسلطان من القوَّة والنفوذ في مصر، على يد علي بك الكبير

كان «علي بك الكبير»٩ في أول نشأته مملوكًا لإبراهيم بك السالف الذكر، فما زال يتقدم عنده لذكائه ومقدرته، حتى رقَّاه إلى رتبة «بك»، ومن ذلك الحين أخذ «علي بك» يعقد الآمال على أن يتقوَّى شيئًا فشيئًا حتى يصير يومًا ما شيخًا للبلد؛ فقضى ثمانية أعوام في شراء المماليك وتدريبهم، ولم يدخر في أثنائها وسعًا في استجلاب مودة البيكوات الآخرين. وأخيرًا تنبَّه شيخ البلد «خليل بك» إلى أفعاله، ورأى أن يقضيَ عليه قبل أن يستفحل أمره، فهجم عليه بجيوشه، فلم يقوَ عليه علي بك؛ فاضطُر إلى الفرار إلى الصعيد، وهنالك التقى بكثير من الساخطين على خليل بك فانضموا إليه، وزحف الجميع على القاهرة، فدخلوها بعد أن انتصروا على خليل بك وأتباعه في عدة مواقع أظهر فيها علي بك مقدرة كبيرة؛ وبذلك تم له أمر شياخة البلد سنة (١١٧٧ﻫ/١٧٦٣م).

وكان سيده إبراهيم بك قد مات قتلًا، فلما تولَّى علي بك شياخة البلد أمر بإعدام قاتله، فلم يَرُقْ ذلك في أعين بيكوات المماليك، وتألَّبوا عليه وأَلجَئوه إلى الفرار إلى بيت المقدس، ثم وشَوْا به إلى السلطان، فأمر بطلبه إلى الأستانة، فاحتمى بأمير عكاء، فسعى هذا له لدى الباب العالي وأظهر براءته، فثبته السلطان في منصب شيخ البلد، فرجع إلى القاهرة وتسلَّم زمام الأمور بها مرة أخرى.

ولمَّا استتب له الأمر سهر على إصلاح البلاد وتوطيد السكينة بها، ورأى أن يُكثر من أتباعه كي يأمن غوائل المستقبل، فرقَّى ثمانية عشر من المماليك إلى رتبة البيكوية، ليكونوا هم وحاشيتهم أنصارًا له إذا احتاج إلى مساعدتهم.

ثم طمحت نفسه إلى الاستقلال بمصر، فشرع يعمل على ذلك سرًّا وينتهز له كل فرصة.

ولما نشبت الحرب بين الدولة والروسيا في سنة (١١٨٢ﻫ/١٧٦٨م) طلب الباب العالي من مصر أن تمده باثنى عشر ألف مقاتل، فأذعن علي بك لمطالب الدولة، وشرع في جمع الجيش، ولكن الدولة شكَّت في إخلاصه، واعتقدت أنه يجمع هذا الجيش لمساعدة الروسيا عليها لتساعده على الاستقلال بمصر؛ فأرسلت بكتاب إلى الوالي بمصر تأمره فيه بقتل علي بك.

وكان لعلي بك عيون بالأستانة، فبادروا بتبليغه الخبر قبل وصول الكتاب إلى مصر؛ فتربص لحامل الكتاب وقتله قبل أن يصل إلى الوالي، ثم أعلن للمماليك أن الدولة أرسلت في هذا الكتاب أمرًا إلى الوالي بذبح جميع المماليك. وكان «علي بك» خطيبًا مؤثرًا، فأثار حميَّة المماليك، ونفَّرهم من الباب العالي، وذكَّرهم بمجد سلاطين المماليك الأقدمين، وأن الدولة تريد القضاء على هذا المجد، وعليهم أنفسهم؛ فأوقد النار في قلوبهم، وقرَّ قرارهم على خلع الباشا وإخراجه من مصر في الحال، والدفاع عن استقلال البلاد. ثم أعلن استقلال مصر وامتنع عن دفع الجزية للباب العالي سنة (١١٨٣ﻫ/١٧٦٩م).

ولاشتغال الدولة بمحاربة الروسيا لم تقدر على الالتفات إليه؛ فانتهز علي بك هذه الفرصة لتوطيد ملْكه بمصر، ثم أرسل جيشًا لفتح بلاد العرب، فاستولى على «جُدَّة» لتكون له مركزًا للتجارة الهندية وموضعًا يراقب منه ملاحة البحر الأحمر، ولم يلبث أن أخضع باقيَ جزيرة العرب، وفي ذلك الحرمان الشريفان.

ثم وجَّه همته لفتح الشام، فأنفذ لذلك جيشًا به ٣٠٠٠٠ مقاتل بقيادة «محمد بك أبي الذهب»، فكان حليفه النصر واستولى على كثير من مدن الشام.

وعند ذلك أكبر «أبو الذهب» على سيده هذا الملك العظيم فحسده، ورأى أيضًا أن الدولة ربما التفتت لمصر وأرجعتها إلى سلطانها فيصبح علي بك وأتباعه في خطر، فخطب وُدَّ الباب العالي واتفق معه على أن ينزع الملْك من علي بك، ويقبض هو على زمام الأمور بمصر، مع الخضوع للدولة. فقصد مصر بالجيش الذي كان معه بالشام، ولم يلبث أن استولى على البلاد، وفرَّ علي بك إلى عكاء واحتمى بحاكمها مرة أخرى، وهنالك وجد أسطولًا للروسيا، ففاوضه بشأن تحالفه معها، فأمدَّه الأسطول بالذخيرة والرجال؛ وبذلك استرجع المدن السورية التي كان قد فتحها له أبو الذهب، وعادت إلى الدولة بعد رجوع أبي الذهب عن الشام.

figure
مراد بك (عن كتاب وصف مصر).

ثم جاءته الأخبار من مصر أن الناس في استياء من حكم أبي الذهب، وأنهم يودون قدومه لإنقاذهم منه؛ فخرج إلى مصر بقوة صغيرة، فانتصر أولًا على جيوش أبي الذهب بجهة الصالحية، ثم دسَّ هذا على رجال علي بك مَن أوقع في قلوبهم الفتنة، فانقبلوا على «علي بك» وخذلوه، فانهزمت جيوشه وأُخذ هو أسيرًا إلى القاهرة، فمات بها بعد بضعة أيام بسبب الجراح التي أصابته وهو يدافع في الواقعة الأخيرة دفاعًا شديدًا.

ومن أعماله تجديد قبة الإمام الشافعي، وإنشاء سوق ببولاق.

وكافأ الباب العالي «أبا الذهب» على ذلك، فمنحه لقب «باشا» وولَّاه حكم مصر سنة (١١٨٦ﻫ/١٧٧٢م)، فلم يتمتع بذلك؛ إذا مات بعدها بعامين، ودُفن بجامعه الذي شيَّده أمام الأزهر، وهو آخر جامع كبير أُنشئ بمصر في عهد العثمانيين.

عند ذلك قبض على أَزِمَّة الأمور اثنان من المماليك، وهما: «إبراهيم بك» و«مراد بك»، واتفقا على أن يتولَّيَا شياخة البلد وإمارة الحج بالتناوب كما حدث بين رضوان بك وإبراهيم بك من قبل. فوقع بينهما شيء من الاختلاف في أول الأمر، ثم صلح ما بينهما وبقيا قابضَين على مقاليد الأمور من ذلك الحين إلى أن أغار الفرنسيون على البلاد سنة (١٢١٣ﻫ/١٧٩٨م)، ما عدا فترة (من ١٧٨٦ إلى ١٧٩٠م) عاد النفوذ فيها إلى العثمانيين.

وذلك أن الدولة أرسلت حملة لتوطيد السكينة وإطفاء الفتن التي انتشرت في البلاد في أوائل حكم إبراهيم بك ومراد بك، فوصلت الحملة في شهر يونيو سنة ١٧٨٦م، واستولت على القاهرة بعد قتال لم يقوَ فيه المماليك على مقاومة المدافع التركية؛ ففرَّ إبراهيم ومراد إلى الصعيد.

وعهد العثمانيون بشياخة البلد لأحد بيكوات المماليك المدعو «إسماعيل بك» وفي سنة (١٢٠٥ﻫ/١٧٩٠م) حدث بالبلاد وباء شديد اكتسح أسرة إسماعيل بك، فعاد إبراهيم بك ومراد بك من الصعيد واستردَّا منصبهما، وأخذا يحكمان البلاد بحزم لا بأس به، إلا أنهما اشتطَّا في ابتزاز أموال الناس، وخصوصًا التجار، حتى الفرنج منهم؛ فكثرت شكاوى هؤلاء إلى دولهم؛ ممَّا لفت نظر أوروبا إلى مصر وجعله الفرنسيس ذريعة لإغارتهم عليها في (١٢١٣ﻫ/١٧٩٨م).

١  وقد أدخل الترك كثيرًا من الألقاب في مصر، لا يزال كثير منها مستعملًا إلى الآن، منها: لقب «باشا» الذي كان يُطلَق على الولاة المرسَلين من القسطنطينية، ولقب «أغا» وكان يُطلَق على قائد الجيش أو الفرقة الواحدة، ولقب «كتخدا» أو «كخية» وهو وكيل الباشا، وكان يُطلَق أيضًا على موظف خاص في كل فرقة بالجيش، أما لقب «البك» و«الأفندي» فكان لكلٍّ منهما معنًى خاصٌّ في مبدأ الأمر فُقِدَ بالتدريج حتى صارا يستعملان في معنييهما الحاليين.
٢  رُوي أن السلطان سليم لمَّا همَّ بمغادرة الديار المصرية شاوره «خير بك» في إبقاء أوقاف المماليك أو حلها — وكانت نحو عشرة قراريط من أرض مصر، جميعها مُعفًى من الضرائب — فأمر السلطان سليم بإبقائها، فاعترض عليه وزيره، فضرب عنقه.
٣  القاشاني قطع من الخزف المطلي بالميناء، عليها أشكال هندسية أو نباتية ملونة.
٤  هو جامع إسكندر باشا المتولَّى على مصر سنة ٩٦٣ﻫ، وهو غير إسكندر باشا الفقيه الجركسي الذي أنابه سنان باشا عند خروجه إلى اليمن، وسيأتي ذكره بعد.
٥  وهم قوم من شيعة زيد بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي كرَّم الله وجهه، وهم جملة فرق جمهرتهم الآن باليمن ولهم فيها إمام لا يزال خارجًا على الخلفاء من العرب أو الترك.
٦  اسمه إسكندر باشا الفقيه الجركسي، وهو مسلم طبعًا.
٧  المُسمَّى الآن حصن قايتباي.
٨  نسبة إلى زعيمين لهما، هما: قاسم وذو الفقار.
٩  سُمِّي «الكبير» لكثرة انتصاراته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤