الفصل الأول

الحملة الفرنسية على مصر

(١٢١٢–١٢١٦ﻫ/١٧٩٨–١٨٠١م)

قضت مصر تحت حكم ولاة العثمانيين والأجناد والمماليك نحو ثلاثة قرون عانت فيها من أنواع الظلم وسوء الإدارة ما أضعف تجارتها وجعلها في معزل عن بقية العالم؛ فأصبحت لا تدري شيئًا عن قوى الدول الأوروبية وأطماعها أو علاقة بعضها ببعض. وقد كان يقيم بمصر في ذلك الحين كثير من جالية الفرنسيين والإنجليز، ولكن المصريين لم ينتفعوا بإقامتهم بينهم، بل اكتفَوْا بالنظر إليهم بعين الازدراء والمقت؛ ظنًّا منهم أن دولهم ما زالت على الضعف الذي سمعوه عنهم أيام الحروب الصليبية، وفاتهم أن الزمن قد تغيَّر، وأن أوروبا أصبحت على مبلغ من القوة وسعة العلم وعظم الدراية بالفنون الحربية بحيث لا يمكن مصادمته إلا بمثله.

وكانت دولة فرنسا قد قويت شوكتها بين دول أوروبا، وظهر فيها في أواخر القرن الثامن عشر — من التاريخ الميلادي — قائد حربي عظيم أخذ يتغلب على ممالك أوروبا، وبات كثير من دولها في خوف منه؛ ذلك هو البطل الشهير «نابليون بونابرت».

وفي أواخر سنة (١٢١٢ﻫ/١٧٩٨م) جرَّد «نابليون» هذا حملةً على مصر، فامتلكها، ودخلت البلاد من ذلك الحين في طورٍ يُعتبر ابتداؤه مبدأ تاريخها الحديث. نعم، لم يلبث الفرنسيون بمصر أكثر من ثلاث سنين، ولكن فتحهم لها كان الحلقة الأولى من سلسلة حوادث، لعبت أوروبا أهم أدوارها، وأفضت عاقبتها إلى المركز الاجتماعي والسياسي الذي تشغله مصر الآن.

ولم تكن الحملة الفرنسية على مصر فجائية أو من خواطر اللحظات، بل إن «ليبنتز» أحد وزراء لويس الرابع عشر ألحَّ عليه سنة ١٦٧٢م بوجوب غزو مصر، وبيَّن له أن امتلاكها يجعل فرنسا سيدة العالم، وقد رأى ذلك غيره من وزراء فرنسا بعده، ولكن فرنسا لم تَخْطُ خطوة في هذه السبيل إلا في عهد «نابليون».

على أن نابليون نفسه لم يُقْدِم على هذه الحملة إلا بعد تفكير طويل؛ فاستشار فيها العلماء، وقرأ لأجلها الكتب، وبعدئذٍ عرض اقتراحه على هيئة الحكومة الفرنسية مع إيضاح طويل.

أما أهم الأسباب التي حَدَتْ بنابليون إلى الإقدام على هذه الحملة واقتنعت بها الحكومة الفرنسية فهي؛ أولًا: رغبته في زيادة نفوذ فرنسا في البحر الأبيض المتوسط، وضم وادي النيل إليها لِمَا فيه من الخيرات الكثيرة التي تُغني فرنسا عن كثير من المستعمرات البعيدة، ولِمَا له من المكانة التجارية العظمى. وثانيًا: تمهيد الطريق لقهر الإنجليز بطردهم من الهند واستيلاء الفرنسيين عليها؛ لأن مصر هي مفتاح الطريق إلى تلك البلاد. وفي الحقيقة كانت لنابليون أطماع كبيرة في الشرق بأَسره، وكانت نفسه تتوق إلى أن يأتيَ فيه بمثل ما أتاه الإسكندر من قبله.١

كل هذه الاعتبارات — إلى ما عسى أن يكون قد نال الفرنسيين المقيمين بمصر من عسف المماليك وظلمهم — جعلت فرنسا تُقْدِم على تجريد تلك الحملة، مع ما فيها من المبادأة بالعدوان لسلطان آل عثمان الذي كان صديقها في ذلك الحين.

figure
نابليون بونابرت.

ورأت الحكومة الفرنسية أن يكون إعداد هذه الحملة بغاية التستُّر والتكتُّم كي لا يعلم بمسيرها أحد، وخاصةً إنجلترا أشد أعداء فرنسا في ذلك الحين؛ فسهر «نابليون» على إعداد ما يلزم لها من الجند والسفن الحربية والمراكب النقَّالة؛ فجهز لها نحو ٤٠ ألف مقاتل، عليهم ضباط من نخبة قواد فرنسا، مثل: «كليبر» و«دييزيه» و«مينو» و«مورات»، وأعد لها أسطولًا كبيرًا جعل على رأسه القائد العظيم «بروي»، وسلَّحه بالكثير من المدافع والذخيرة، واصطحب معه كذلك مَن لا يقلون عن مائة رجل من أعظم علماء فرنسا؛ جمعهم من أكبر أساتذة كل علم وفن، وجهَّزهم بكثير من الكتب والآلات العلمية، مما رأى أن يكون له فائدة في الاستكشاف عن حالة مصر خاصةً والشرق عامةً. ومن أهم ما عُني بإحضاره معهم مطبعة عربية كان للحملة منها فوائد كبرى.

وفي (اليوم الثاني من ذي الحجة سنة ١٢١٢ﻫ/١٩ مايو سنة ١٧٩٨م) أقلع نابليون بهذه القوة من ميناء طولون، وانضمت إليها بعض المراكب من الجهات الأخرى، وقصد جزيرة مالطة فاستولى عليها بلا عناء، وكانت إذ ذاك في يد «فرسان القديس يوحنا»، وترك أحد قواده حاكمًا عليها، ثم غادرها.

وكان إعداد هذه الحملة قد تمَّ وعلمه بعض الدول، غير أنه لم يعلم بمقصدها أحد.

وأوجست إنجلترا منها خيفة، وظنت أنها ربما تقصد شواطئ «إرلندا» رجاء الإغارة على الجزائر البريطانية؛ فعهدت البحرية الإنجليزية إلى «نِلْسُن» أمير البحر الإنجليزي العظيم بأن يقتفيَ أثر هذا الأسطول الفرنسي، وأن يُلحق به كل ما أمكنه من الضرر، فتلقى «نلسن» هذه التعليمات، ولكنه لم يبحث عن نابليون غربي البحر الأبيض حيث يُنتظر وجوده لو كانت وجهته الحقيقة إرلندا، بل أدَّاه ذكاؤه الفطري أن يقصد «مالطة»، فلما وصلها وجد أن نابليون قد غادرها بجيشه منذ خمسة أيام، وأنه سار شرقًا؛ فأدرك أن وجهة نابليون لا بد أن تكون مصر، ورأى أن يتبعه إليها، وبالفعل وصل بأسطوله الإنجليزي إلى الإسكندرية يوم (٨ المحرم سنة ١٢١٣ﻫ/٢١ يونيو سنة ١٧٩٨م)، فلم يعثر للفرنسيين فيها على أثر، فبعث وفدًا إلى حاكم المدينة «السيد محمد كريم» — وكان مصري الجنس — يستفسر منه عن قدوم أسطول فرنسي إلى البلاد المصرية، فراع أهل المدينة رؤية الأسطول الإنجليزي، وأوجسوا منه خيفة؛ إذ لم يكن لهم علم بعزم الفرنسيين على غزو بلادهم، وحاروا أيضًا في أمر استعلام الإنجليز عن مجيء الأسطول الفرنسي؛ فلم يعرفوا لاهتمامهم هذا علة. وذلك يدلك على الدرجة التي وصلت إليها مصر في تلك الأيام من قِصَر النظر وقلة الدراية بأخبار العالم والتنافس الحاصل بين ممالكه. فأكَّد رجال «نلسن» للحاكم أن الأسطول الإنجليزي ما أتى إلى هذه البلاد إلا ليدفع عنها الأسطول الفرنسي، وأن غاية ما يبغيه الإنجليز أن يُسمح لهم بانتظار الأسطول الفرنسي خارج الميناء، وأن يشتروا من المدينة بالمال ما يحتاجون إليه من الزاد، فلم يقتنع السيد محمد كريم بحسن نية الإنجليز، وامتنع عن إجابة ملتمسهم، وأجابهم بصراحة — ما كانت لتغنيَ عنه شيئًا لو قصد الإنجليز البلاد سوءًا — إذ قال: «إن مصر بلاد السلطان، وليس للفرنسيين أو سواهم شيء فيها، فاذهبوا أنتم عنا.»

figure
نلسن.

ولمَّا كان همُّ نلسن منصرفًا إلى مطاردة الأسطول الفرنسي، لم يرَ داعيًا إلى استعمال القوة في الإسكندرية، وأقلع عنها مؤقتًا ليتجوَّل قليلًا في البحر الأبيض المتوسط ويأخذ من بعض جزائره ما يحتاج إليه من الزاد.

ومضى أسبوع بعد إقلاع العمارة الإنجليزية، ولم يظهر في المياه المصرية أحد من الأعداء؛ فهدأ روع الناس بالإسكندرية والقاهرة، وبينا هم كذلك إذا بالعمارة الفرنسية العظيمة قد لاحت أمام الثغر الإسكندري، فعاد الفزع وزاد عما كان، وبعث حاكم المدينة بالرسل إلى القاهرة على جناح السرعة، يستنجد مراد بك وإبراهيم بك، ويصف لهما حرج الحالة وهول العمارة الفرنسية، وقال عنها إنها: «لا يُعرف أولها من آخرها.»

فلما وصل الخبر إلى مراد بك أسرع إلى مقابلة إبراهيم بك بمنزله — مستشفى قصر العيني الآن — فبادر إلى عقد جمعية عمومية من كبراء البلاد ليتداولوا فيما يجب عمله لصد الأعداء، فاجتمعت الجمعية توًّا من كبار المماليك والعلماء، وحضرها «بكر باشا» والي السلطان بمصر،٢ وبعد أن تباحثوا في الأمر قرَّ قرارهم على أن يسير مراد بك إلى الإسكندرية لصدِّ الأعداء، وأن يبقى إبراهيم بك بالقاهرة للدفاع عنها لو اقتضى الأمر ذلك.

هذا ما كان من أمر المماليك. أما العمارة الفرنسية فإنها وصلت أمام الإسكندرية في (اليوم الثامن عشر من المحرم/أول يوليو) وعند ذلك أرسلت زورقًا إلى الميناء يطلب القنصل الفرنسي، فتردد «السيد محمد كريم» أولًا في تسليمه ثم أذن له بالذهاب، فعلم منه نابليون ما كان من أمر العمارة الإنجليزية وما يعدُّه المماليك للدفاع عنه البلاد، فأقر على إنزال جيشه إلى البر في الحال، واختار لذلك نقطةً غربي الإسكندرية بنحو ثلاثة أميال — العجمي الآن — فسار بأسطوله إليها وشرع في إنزال رجاله وعدده ليلًا بكل سرعة، فتم له ذلك من غير أن يعترضه أحد. وبعد أن استراح برهة على الرمال جرد قسمًا من جيشه وسار على الأقدام قاصدًا الإسكندرية، فقابلتهم قُبيل الفجر بعض فصائل من عرب «أولاد علي»، تبادلوا معهم بعض الطلقات، ثم فروا مذعورين، فاستمر الجيش في المسير نحو الإسكندرية، حتى صار على مقربة من أسوارها.

فقابلتهم حامية المدينة بما لديها من وسائل الدفاع، فقسم نابليون رجاله إلى ثلاثة أقسام وهاجم بهم الأسوار هجومًا عامًا من اليمين واليسار والقلب، فدخلوا المدينة عَنوة، وانسحب الحاكم ورجاله إلى قلعة «فاروس» في طرف الميناء الشرقية — قايتباي الآن — ولما دخل الفرنسيون المدينة مخترقين شوارعها الضيقة، أمطرهم الأهلون من نوافذ المنازل وابلًا من المقذوفات، فقابلهم الفاتحون بأشد منها، وكادوا يفتكون بالعباد فتكًا ذريعًا لولا أن أرسل نابليون رسولًا إلى الإسكندريين يؤمِّنهم على أموالهم وأرواحهم ودينهم وتقاليدهم، وأخبرهم بأن فرنسا لا تقصد سوءًا إلا بالمماليك، وأنها تحرص على مودَّة الأهلين ووُدِّ سلطانهم الأعظم؛ فهدأ الناس حقنًا للدماء، واستسلم إليه السيد محمد كريم، لقلة ما بقي معه من الذخيرة، فأكرم نابليون مثواه، وقال له: «قد أخضعتُك بالقوة، ولي أن أعاملك معاملة الأسير، ولكن نظرًا لما أبديتَه من الشجاعة، ولأن الشجاعة حليفة الشَّرف، أردُّ إليك سيفك، أملًا أن تُخْلص للجمهورية الفرنسية بقدر ما أخلصتَ لتلك الحكومة العاتية.» فأعرب السيد محمد كريم عن رغبته في خدمة الجمهورية، وأبقاه نابليون في منصبه تحت إشراف «الجنرال كليبر» — وكان هذا قد اضطُرَّ إلى البقاء بالإسكندرية لجُرح أصابه وقت مهاجمة الأسوار.

ولم تكد الجنود الفرنسية تنزل إلى المدينة وتتجوَّل في أنحائها، حتى لحقهم الملل واستولت عليهم الكآبة؛ فإنهم — فضلًا عن تألُّمهم من الحرِّ الشديد الذي لم يعتادوه في بلادهم، والذي كان بالطبع على أقصى درجاته في هذا الفصل من السنة — لم تَرُقْ المدينة في أعينهم، ولم يجدوا فيها شيئًا من العظمة والبهاء مما سمعوا به قبل مجيئهم، وكان من مميزات الإسكندرية في القرون الأولى، ثم ذهب باضمحلال شأن المدينة على مدى الأيام. وكل ما وقع عليه نظرهم من شوارع ملتوية، وأزقَّة ضيقة قذرة، وآثار مهملة، وملابس وأزياء لا تنطبق على ذوقهم الفرنسي؛ لم يزدهم إلا قنوطًا واعتقادًا بأنهم مسخَّرون في غزوة لا فائدة فيها.

على أن نابليون ذاته لم يظهر عليه شيء من ذلك، بل بقي ثابت الجأش، كلُّه حركة ونشاط، ولم يكد يتمُّ له الاستيلاء على الإسكندرية حتى أمر بإنزال كل المعدات الحربية إلى البر، كي لا يفاجئه «نلسن» على غير أهبة. ثم التفت إلى تنظيم حكومة الإسكندرية، فعهد بإدارة شئونها إلى ديوان، فشُكِّل من سبعة أشخاص مختارين، وأمر بإنزال جماعة العلماء الذين معه، وكلَّفهم مباشرة البحث والتنقيب بالإسكندرية ريثما يتم له فتح العاصمة فيستدعيهم إليها، فشرعوا في عملهم بكل همة ونشاط. ومن أنفع ما بدءوا به أنهم رسموا مصورًا وافيًا للإسكندرية وضواحيها.

وقبل أن يزحف نابليون بجيشه إلى القاهرة أمر بكتابة منشور بالعربية ليُلقيَ به السكينة في قلوب الأهلين، وعهد بكتابته إلى المستشرقين من علمائه، وطُبع بالمطبعة العربية التي معهم، وقد رأى نابليون في هذا المنشور أن يُخضع المصريين من باب الدين واحترامه لعقائدهم وخليفة نبيهم؛ فغالى في مصانعتهم حتى شك معظم الأهلين في صدق نيته، وأخذوا يهرعون إلى القرى والبلاد التي بمعزلٍ عن طريق الفرنسيين حتى لا يقعوا في حبال مكايدهم. ومما قلَّل من ثقة الأهلين بهذا المنشور أن نابليون كان وعدهم عند استيلائه على الإسكندرية بعدم التعرض لحريتهم وتقاليدهم، ولكن ما لبث أن جرَّدهم من السلاح وأمرهم أن يحملوا على صدورهم شارة الجمهورية الفرنسية — وهي قطعة مستديرة من القماش مؤلفة من ثلاثة الألوان: الأزرق والأبيض والأحمر — وها هي بعض عبارات هذا المنشور العجيب، نقلًا عن كتاب المؤرخ الشهير الشيخ عبد الرحمن الجبرتي الذي كان معاصرًا لهذه الحملة:

بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا الله، ولا ولد له ولا شريك له في ملكه. من طرف الفرنساوية المبني على أساس الحرية والتسوية؛ السر عسكر الكبير أمير الجيوش الفرنساوية بونابارته، يعرف أهالي مصر جميعهم أن من زمان مديد الصناجق الذين يتسلطون في البلاد المصرية يتعاملون بالذل والاحتقار في حق الملة الفرنساوية، ويظلمون تجارها بأنواع الإيذاء والتعدي، فحضر الآن ساعة عقوبتهم. واحسرتاه، من مدة عصور طويلة هذه الزمرة المماليك المجلوبين من بلاد الأبنزة والجراكسة يُفسدون في الإقليم الحسن الأحسن الذي لا يوجد في كرة الأرض كلها. فأما رب العالمين القادر على كل شيء، فإنه قد حكم على انقضاء دولتهم. يا أيها المصريون، قد قيل لكم إنني ما نزلت بهذا الطرف إلا بقصد إزالة دينكم، فذلك كذب صريح، فلا تصدقوه، وقولوا للمفترين إنني ما قدمت إليكم إلا لأخلِّص حقكم من يد الظالمين، وإنني أكثر من المماليك أعبد الله — سبحانه وتعالى — وأحترم نبيه والقرآن العظيم. وقولوا أيضًا لهم: إن جميع الناس متساوون عند الله، وإن الشيء الذي يفرِّقهم عن بعضهم هو العقل والفضائل والعلوم فقط، وبين المماليك والعقل والفضائل تضارب، فماذا يميزهم عن غيرهم حتى يستوجبوا أن يتملكوا مصر وحدهم ويختصوا بكل شيء أحسن فيها من الجواري الحسان والخيل العتاق والمساكن المفرحة؟ فإن كانت الأرض المصرية التزامًا للمماليك فلْيُرُونا الحجة التي كتبها الله لهم، ولكن رب العالمين رءوف وعادل وحليم، ولكن بعونه تعالى من الآن فصاعدًا لا ييأس أحد من أهالي مصر عن الدخول في المناصب السامية وعن اكتساب المراتب العالية؛ فالعلماء والفضلاء والعقلاء بينهم سيدبرون الأمور؛ وبذلك يصلح حال الأمة كلها. وسابقًا كان في الأراضي المصرية المدن العظيمة والخلجان الواسعة والمتجر المتكاثر، وما أزال ذلك كله إلا الظلم والطمع من المماليك.

أيها المشايخ والقضاة والأئمة والجربجية وأعيان البلد، قولوا لأمتكم: إن الفرنساوية هم أيضًا مسلمون مخلصون، وإثبات ذلك أنهم قد نزلوا في رومية الكبرى وخربوا فيها كرسي البابا، الذي كان دائمًا يحث النصارى على محاربة الإسلام، ثم قصدوا جزيرة مالطة وطردوا منها الكواللرية الذين كانوا يزعمون أن الله تعالى يطلب منهم مقاتلة المسلمين، ومع ذلك الفرنساوية في كل وقت من الأوقات صاروا محبين مخلصين لحضرة السلطان العثمانيِّ وأعداءَ أعدائِه، أدام الله ملكه. ومع ذلك إن المماليك امتنعوا من إطاعة السلطان غير ممتثلين لأمره، فما أطاعوا أصلًا إلا لطمع أنفسهم، طوبى ثم طوبى لأهالي مصر الذين يتفقون معنا بلا تأخير، فيصلح حالهم وتعلو مراتبهم، طوبى أيضًا للذين يقعدون في مساكنهم غير مائلين لأحدٍ من الفريقَين المتحاربَين، فإذا عرفونا بالأكثر تسارعوا إلينا بكل قلب، لكن الويل ثم الويل للذين يعتمدون على المماليك في محاربتنا؛ فلا يجدون بعد ذلك طريقًا إلى الخلاص، ولا يبقى منهم أثر.

ترك نابليون «كليبر» بالإسكندرية، وشرع في الزحف على القاهرة في (٢٣ المحرم/٧ يوليو) واختار لذلك طريق الصحراء الغربية مخترقًا مدينة «دمنهور»، وكان قد أرسل قسمًا من جيشه بطريق الساحل الشرقي للاستيلاء على «رشيد»٣ وعزَّزه بأسطول من المراكب الصغيرة، حتى إذا تمَّ لهما فتح المدينة سار الأسطول في النيل وبجانبه الجيش لينضما إلى جيش نابليون عند «الرحمانية». وجدَّ «نابليون» في البر حتى وصل إلى دمنهور بعد أن لاقت جيوشه من التعب والحر والظمأ ما ذهب بقواهم٤ وزاد من سخطهم، فاستراحوا بها يومًا، ثم واصلوا المسير نحو الرحمانية فجر يوم ٢٦ المحرم، وقبل وصولها التقوا بشرذمة من المماليك لم تكد تشتبك معهم حتى فرَّت أمام نيرانهم الحامية.

ولما وصلوا إلى الرحمانية رأت جنود نابليون النيل لأول مرة، فهرولوا إليه يُطفئون ظمأهم، ويمتِّعون أبصارهم التي ملَّت الصحراء ورمالها، وأبدَوْا رغبة عظيمة في البقاء طويلًا بالرحمانية، فرأى نابليون أن يبقى بها بضعة أيام ريثما يلحق به الجيش والأسطول اللذان ذهبا لفتح رشيد.

وكان هذان قد نجحا في مهمتهما، وسار الأسطول في النيل، وانضم الجيش إلى نابليون، ثم سار الجيش إزاء الأسطول على ضفة النيل الغربية، إلا أن الريح كانت شديدة، فساقت الأسطول أمام الجيش حتى وصل منفردًا إلى «شبراخيت» — بعد الرحمانية — فالتقى هنالك قبل وصول نابليون بأسطول المماليك وجيشهم المؤلَّف من ٤٠٠٠ فارس على رأسهم «مراد بك»، فوقع الأسطول الفرنسي بين نارين، وكاد الماليك يفتكون به لولا أن اشتعلت النار بذخيرة إحدى سفن المماليك، فعاقهم ذلك حتى وصل نابليون، فقسم جيشه إلى خمسة مربعات، وأمسك عن إطلاق النار حتى أقدم عليه فرسان المماليك بشجاعتهم المعتادة، ولما صاروا على مرمى مدافعه أطلقها عليهم، فكانت تحصدهم حصدًا؛ فاضطُر مراد بك إلى الانحياز إلى القاهرة بمن بقي من رجاله (٢٩ المحرم/١٤ يوليو).

وكان أهل القاهرة قد استولى عليهم الجزع منذ نزول الفرنسيس إلى أرض الإسكندرية، فلما جاءهم نبأ انهزام مراد بك بشبراخيت وتقهقره إلى القاهرة هاجوا وماجوا، وأخذ الكثير منهم يفرون من المدينة. ولما سمع «إبراهيم بك» بتقهقر زميله شرع في تحصين «بولاق» — فرضة القاهرة في ذلك الحين — وعمل على نصب المدافع على النيل بين بولاق وشبرا، وأقبل عليه الأهلون يساعدونه بكل ما لديهم من الوسائل، فاكتظت بهم بولاق حتى كان يخيل للناظر أن سكان القاهرة انتقلوا إليها، وكان الجميع يزداودن فزعًا كلما سمعوا باقتراب الفرنسيس، فامتلأ الجو بصياحهم وعويلهم وتضرعاتهم، والعقلاء منهم ينصحون لهم بالتزام السكينة، ويذكِّرونهم بأن ذلك لا يجدي نفعًا، وأن النبي وأصحابه كانوا يقاتلون بالسيوف والرماح، لا بالعويل والصياح.

أما مراد بك فإنه استعد للقاء الفرنسيس ببلدة «أُنبابة» من أعمال الجيزة وخندق بها، ونصب المدافع أمام عسكره مخافة أن يحصل له ما حصل بشبراخيت يوم هاجم الأعداء بفرسانه من غير المدافع.

وقد كانت تجزئة المماليك لقواهم على الوجه المتقدم من أكبر غلطاتهم؛ إذ كان خير طريقة لهم أن يجمعوا كل قواهم على الشاطئ الشرقي وينتظروا قدوم العدو، فيضطروه إلى عبور نهر النيل العظيم، فيهاجموه مجتمعين أثناء عبوره، ولكنهم غفلوا عن ذلك كما غفلوا عن غيره من الحيل الحربية، واعتمدوا على شجاعتهم وانتصاراتهم القديمة، ونسُوا أنهم إنما يحاربون دولة في مقدمة دول أوروبا؛ لها من الدراية بالفنون الحربية الحديثة ما تذوب أمامه كل شجاعة، ويفنى به كل استبسال. وصل نابليون إلى «أنبابة» في (اليوم السابع من شهر صفر/٢١ يوليو)، فرأى المماليك أمامها في انتظاره، وقد ملَئُوا الجو بصياحهم وحماستهم، وبريقُ دروعهم وملابسهم المطرزة بالقصب يتلألأ في الشمس فيزيد منظرهم روعة ومهابة، ورأى وراءهم الأهرام تتجلَّى في الصحراء وتُذكِّر القادم بأنه في أرض الفراعنة الأقدمين، فأشار إليها وقال محرضًا جنوده على القتال:

أيها الجند، إن أربعين قرنًا تنظر إليكم من قمة هذه الأهرام.

فكانت هذه الكلمة من أشهر كلماته المأثورة.

ورأى نابليون أن المماليك يتأهبون لمهاجمته من الأمام كعادتهم، فقسَّم جيوشه فِرَقًا، كلٌّ منها على شكل مربَّع مجوَّف، وساقها على المماليك على هيئة هلال؛ يستعد وسطه للقاء قلب المماليك، ويحيط طرفاه بجناحيهم.

فأدرك مراد بك قصده، فأمر أبسل قوَّاده «أيوب بك الدفتردار» أن يهاجم الفرقة التي أرادت الالتفاف حولهم من الغرب، فانطلق أيوب بك على الفرنسيس برجاله انطلاق السهام، فأفسح لهم هؤلاء الطريق حتى صاروا في وسط المربع، ثم أصلوهم نارًا حامية من ثلاث جهات، ففتكوا بهم فتكًا ذريعًا.

ثم هجم قلب الجيوش الفرنسية على خنادق المماليك واستولَوْا عليها برءوس الحراب، وساقوا فرقة أخرى للإحاطة بالمماليك من الشرق، فلما رأى مراد بك أن الفرنسيس كادوا يحيطون به، وأن طرفَي هلال جيوشهم آخذان في الاقتراب، بادر بالتقهقر، واضطُر إلى ترك مئات من رجاله في الميدان، فحصرهم الفرنسيس بينهم وبين النهر، وما زالوا بهم حتى أفنوهم قتلًا وغرقًا.

ولم يستطع مراد بك بعدُ استئناف القتال، فأسرع إلى منزله وأخذ ما قدر على حمله من المال والنفائس، وقصد إلى الصعيد.

هذه هي الموقعة التي تُعرف عند المصريين بواقعة «أُنبابة» وعند الفرنسيس بواقعة «الأهرام»؛ استمرت أقل من ساعة من الزمان، فكانت — كما رأيت — القاضية على المماليك، ولم يخسر فيها الفرنسيس غير عشرة قتلى وثلاثين جريحًا؛ فكانت أكبر برهان على فضل الأنظمة الحربية الحديثة وفوقها على شجاعة القرون الوسطى وإقدامها.

ولم يكد إبراهيم بك يسمع بهذه الكارثة حتى أسرع بالتأهب للفرار من القاهرة، وحذا حذوه بقية المماليك، ثم ازداد الفزع فتبعهم معظم الأهلين، وظل الناس طول الليل يخرجون بنسائهم وأطفالهم من المدينة، بعضهم قاصد إلى الصعيد، وبعضهم إلى جهة بُلْبَيْس والسُّوَيس، وفي هذه الطريق سار إبراهيم بك.

وفي الصباح (٨ صفر) اجتمع علماء المدينة بالجامع الأزهر ليتداولوا في الأمر، فقرَّ قرارهم على التسليم، وذهب وفد منهم ومن الأعيان إلى بونابرت بالجيزة يخبره بالأمر، فأحسن مقابلتهم، وأمَّنهم على حياتهم ومالهم ودينهم بعبارات تشبه عبارات المنشور، مؤكدًا أنه صديق المصريين والسلطان، وأنه ما أتى إلا لتخليصهم من نير المماليك الظلمة.

ولما سمع أهل المدينة بذلك هدأ روعهم، وأُرسلت الزوارق إلى الجيزة، فجاءت بمعظم الجيش، فنزل قسم منه بالقلعة. وفي يوم (١٠ صفر/٢٥ يوليو) دخل نابليون نفسه القاهرة بعد أن ترك «ديزيه» لحماية الشاطئ الغربي، ونزل بقصر محمد بك الألفي على شاطئ بركة الأزبكية — حديقة الأزبكية الآن.

ورأى نابليون أن يبدأ باستئصال شأفة المماليك؛ فأرسل «ديزيه» في فرقة من الجيش لمطاردة مراد بك بالصعيد، وأرسل أخرى في طلب إبراهيم بالشرقية، فلم تقوَ عليه لقلة عددها، واضطُر نابليون أن يذهب إليه في جيش بنفسه، فقابله إبراهيم بك بالصالحية، فانهزم واضطُر إلى الفرار جهة الشام، بعد أن كبَّد الجيوش الفرنسية خسارة كبيرة.

ثم عاد نابليون إلى القاهرة، واستولت رجاله على أملاك البكوات وأموالهم، وتشددوا مع نسائهم حتى اضطروهن إلى أن يفدين أنفسهن بالمال؛ من ذلك أن زوجة مراد بك فدت نفسها بمبلغ ١٢٥٠٠٠ ريال. وحاول بعض الغوغاء الاشتراك مع الجند في نهب بيوت المماليك، فقابلهم نابليون بالشدة؛ فساعد ذلك على رجوع السكينة بعض الشيء.

figure
نابليون أمام الأهرام (رسم علي أفندي يوسف، عن صورة بدار الكتب السلطانية).

ولما رأى نابليون أنْ قد هدأت الأمور، عمل على تنظيم الحكومة، وأن يُدخل في البلاد كل ما يستطيع من الإصلاحات التي تقتضيها الحضارة الفرنسية، فنصَّب أحد رجاله حاكمًا على القاهرة، وجعل آخر مديرًا للشئون المالية، وأمر بتشكيل مجلس نيابي — ديوان — من الأهلين ليسترشد بهم في إدارة البلاد. وتكوَّن الديوان بادئ الأمر من عشرة من المشايخ، منهم الشيخ عبد الله الشرقاوي — مؤلف كتاب «تحفة الناظرين» في تاريخ مصر — والسيد خليل البكري — نقيب الأشراف وشيخ سجَّادة البكرية في ذلك الوقت — وغيرهما من أفاضل العلماء. ثم وُسِّع من نطاق المجلس، فانضم إليه أعضاء يمثِّلون جميع الطوائف المقيمة بمصر، ومن جملتهم أعضاء من الفرنسيين.

واندفع نابليون في إدخال كثير من الإصلاحات الأخرى الخاصة بالصحة العامة أو الأمن وغير ذلك، غير ناظر لاستياء الناس أو رضاهم، ومكتفيًا باعتقاده أنه إنما يريد الإصلاح على النمط الأوروبي. فمن ذلك أنه أمر الأهلين بكنس شوارعهم ورشِّها في أوقات معينة، وبوضع مصباح على كل منزل، مع تهديد كل من يخالف ذلك بالعقوبات الشديدة، ووضع أنظمة لقيد عقود الزواج والوَفَيَات والمواليد، مع تأدية مغارم لكل ذلك؛ مما جعل المصريون يُحسون تدخله في حريتهم الشخصية — وكانوا لم يعهدوا شيئًا من ذلك في عهد أظلم المماليك — فقلَّت ثقتهم بوعود نابليون ومواثيقه، وأخذوا ينظرون شزرًا إلى كل قانون جديد يَسنُّه، خصوصًا عندما أمر بهدم أبواب الحارات والدروب.

وكان نابليون قد أخذ يحصن القاهرة؛ فهدم لذلك كثيرًا من الآثار والمساجد، فزاد استياء الأهلين، ولمَّا جمع العلماء وكلفهم تعليق شارات الحكومة الفرنسية ذات الألوان الثلاثة، ونهرهم عندما رفضوا ذلك، أمسكوا عن مساعدته في تحسين العلائق بينه وبين العامة، وأخذ سخطهم في الاستفحال.

وبينما نابليون مشتغل بإصلاحاته هذه إذ جاءه نبأ تدمير الإنجليز لأسطوله في خليج «بوقير».

وذلك أن «نِلْسن» أمير البحر الإنجليزي لم يفتُر عن البحث عن الأسطول الفرنسي حتى عثر عليه في خليج «بوقير» في (١٧ ربيع الأول/أول أغسطس)، فوقعت بين الأسطولين موقعة بحرية عظيمة انتهت بتدمير الأسطول الفرنسي؛ فكانت من أهم الوقائع التي كوَّنت مجد بريطانيا البحري، والفضل في ذلك للبطل العظيم «نلسن» قائد الأسطول الإنجليزي، فإنه مع فَوْقِ الفرنسيس عليه في عدد مراكبهم، ونصبهم القلاع والاستحكامات على الشواطئ لمعاونة الأسطول، تمكَّن من شطر الأسطول الفرنسي شطرَين، أحاط بأحدهما من الجانبين وفتك به، وشتَّتَت السفن الإنجليزية شمل المراكب الباقية؛ فلم ينجُ منها من الغرق أو الحريق إلا القليل.

وكان الفرنسيس في أول الواقعة قد أرسلوا بعض مراكبهم الصغيرة لتغريَ الأسطول الإنجليزي على الاقتراب من شواطئهم المحصنة، حتى يقع بين نارين، فلم يعبأ بهم نلسن، وكان من مهارته ما رأيت. وفي هذه الواقعة جُرح نلسن في رأسه جُرحًا خفيفًا، ومات «برويس» قائد الأسطول الفرنسي بعد أن أظهر من البسالة والثبات ما يجعله في مقدمة أعاظم الرجال.

بلغ نابليون ذلك فحزن حزنًا شديدًا لانقطاع كل اتصال بينه وبين فرنسا، ولكنه أظهر الجَلَد واستمر في تقوية مركزه في الديار المصرية، وبقيت مشروعاته تلي بعضها بعضًا من غير أن يعبأ باستياء الأهلين، حتى بلغ السيلُ الزُّبى، وخرج سكان القاهرة على الفرنسيس خروجًا عامًّا في (١٠ جمادى الأولى/٢٢ أكتوبر)، أي بعد نزولهم مصر بشهرين تقريبًا.

figure
بعض أعضاء المجلس النيابي: (١) السيد خليل البكري، (٢) الشيخ عبد الله الشرقاوي، (٣) الشيخ المهدي الكبير، (٤) الشيخ سليمان الفيومي. (رسم علي أفندي يوسف، عن مجموعة بدار الكتب السلطانية).
figure
بيان واقعة بوقير البحرية أغسطس سنة ١٧٨٩.
وتُلخَّص أهم أسباب هذه الثورة فيما يأتي:
  • (١)

    قتل الفرنسيس للسيد محمد كريم — حاكم الإسكندرية — لاتهامه بمخابرة المماليك.

  • (٢)

    غلو الفرنسيس في ضرب الضرائب وكثرة إلحاحهم ولجاجهم في الاستفسار عن الأملاك الشخصية.

  • (٣)

    هدم بعض المساجد لتحصين القاهرة.

  • (٤)

    خوف الأهلين من بعض إصلاحات نابليون وحملها على محمل سيئ، مثل هدم أبواب الحارات. وكانت هذه الأبواب تُغلَق في الليل فتصير كل حارة كأنها حصن في ذاتها.

  • (٥)

    انهزام الفرنسيين في موقعة بوقير البحرية، وسماع المصريين بأن الباب العالي أرسل جيشًا لفتح مصر.

وقد استفحل أمر الثورة وأظهر فيها عوام القاهرة إقدامًا كبيرًا لم يُعهد فيهم من قبل؛ فذبحوا كثيرًا من رجال الفرنسيين، ثم تحصنوا في الأحياء الوطنية — داخل حدود مدينة الفواطم — ونصبوا المتاريس على مداخلها، ووقفوا يدافعون عنها بما لديهم من الأسلحة والذخيرة. ولكن ماذا تجدي الشجاعة والحماسة أمام القوة والعلم؟ فإن نابليون لم يكد يسمع بالخبر حتى طار برجاله إلى مواضع المتاريس، فصوَّب عليها المدافع، ثم رأى أن الثائرين لجهلهم لم يحصِّنوا التلول المشرفة على القاهرة من الشرق٥ فأسرع بإرسال المدافع لتنصب عليها، وطاول زعماء الثورة؛ يطلب منهم الصلح خديعة منه ليتم له نقل المدافع إلى المواقع المذكورة، فلما أصبح الصباح ورأى الثائرون المدافع مصوَّبة عليهم استولى عليهم الفزع، وعلموا أنهم وقعوا في شرك أعمالهم، ولما انهالت المقذوفات طول المساء على حي الأزهر — مقر المشايخ ومنبعث الفتنة — هاج الأهلون وماجوا، واضطُر المشايخ إلى الذهاب إلى بونابرت وإظهار خضوعهم له، فأشبعهم تأنيبًا وتعنيفًا على ما سبَّبوه من سفك الدماء، ثم أمر بالكف عن إطلاق النيران وأمسك الأهلون أيضًا عنه، إلا سكان حي الحسينية — ومعظمهم من طائفة الجزارين — فإنهم لِمَا فُطروا عليه من الشدة والعنف استمروا في القتال حتى نفدت جميع مقذوفاتهم، والفرنسيس يُصْلونهم طول الوقت نارًا حامية حتى ألحقوا كثيرًا من الضرر بحيِّهم، وما زالت آثار هذا التخريب باقية إلى الآن.

ثم دخل الفرنسيس المدينة وتجوَّلوا في أسواقها لإعادة النظام والسكينة، ثم دخلت طائفة منهم الجامع الأزهر بخيولهم، وحطَّموا قناديله، وأزالوا بعض الآيات القرآنية المنقوشة على جدرانه، ثم غالَوْا فاتخذوا الجامع إصطبلًا لخيولهم؛ فعظم استياء الناس، وأرسل المشايخ وفدًا إلى نابليون يلتمسون إصدار الأمر بإخلاء الأزهر من الجند، فأجاب ملتمسهم بعد التحذير والتهديد.

فهدأت المدينة ورجعت المياه إلى مجاريها، وإن كان نابليون قلَّل بعد ذلك من اعتبار المشايخ في الديوان وغيره، وأصبح عملهم قاصرًا على نشر المنشورات التي يحثُّون العامة فيها على التزام السكينة والخضوع للفرنسيس والاعتراف بما أبداه إليهم نابليون من الجميل.

وبعد أن أخمد نابليون الثورة تفرَّغ لتحصين مصر لصد غارات العثمانيين. وكان هؤلاء قد أخذوا يسعَوْن في استرجاعها، وعقدوا لذلك معاهدة مع إنجلترا وروسيا، وعوَّلوا في فتحها على تسيير جيشَيْن إليها: الأول يزحف على «العريش» من جهة الشام، والثاني يجتمع في جزيرة «رودس» ومنها ينقله الأسطول الإنجليزي إلى سواحل مصر، إلا أنهم أساءوا التدبير في إنفاذ هذه الخطة؛ إذ وصل الجيش الأول إلى العريش قبل أن يستعد الثاني للقيام؛ فتسنى لنابليون مقابلة كلٍّ منهما على حدة بجموع جيوشه، مع أنه كان يُضطَر إلى تجزئتها لو وصل الجيشان في وقت واحد.

فلما علم نابليون بذلك أسرع بمعظم جيشه للقاء جيش الشام، فبلغ العريش بعد أحد عشر يومًا واستولى عليها عنوة، وسقطت «غزَّة» في يده بعد ذلك بقليل. وفي (اليوم الخامس والعشرين من رمضان سنة ١٢١٤ﻫ/٣ مارس سنة ١٧٩٩م) بلغ «يافا» وحاصرها، ولما رأت حاميتها أن لا قِبَل لهم به استأمنوا إليه فأمَّنهم، ولكنه غدر بهم واستعرضهم جميعًا رميًا بالرصاص؛ وتلك وصمة كبرى في تاريخ حياته لا يغفرها له التاريخ مهما انتُحل له من الأعذار، وإنه إنما قتلهم جميعًا ليخلص من عبء ثقيل هو إطعامهم وحراستهم.

وبعد أن حصَّن يافا أسرع إلى حصار «عكاء»، فلم يقدر عليها لحسن دفاع حاكمها «أحمد باشا الجزَّار» ومساعدته بحرًا بأسطول إنجليزي بقيادة «السير سِدني سمِث»، فرجع عنها بعد أن حاصرها ٥٠ يومًا.

ولم يكد يصل إلى مصر حتى جاءه خبر وصول البوارج العثمانية إلى الإسكندرية وإنزال ١٠٠٠٠ من الأتراك بجهة «بوقير» يوم (٩ المحرم سنة ١٢١٤ﻫ/١٣ يونيو سنة ١٧٩٩م)، فسار إليهم وهزمهم شرَّ هزيمة.

على أن ذلك لم يطيِّب من خاطر نابليون؛ فإن انقطاع المواصلات عنه بمصر بعد تدمير أسطوله بموقعة «بوقير البحرية»، وعجزه عن الاستيلاء على عكاء التي هي في نظره مفتاح الشرق، وضياع أمله في فتح الهند؛ كل ذلك ملأه يأسًا، وذهب أدراج الرياح ما كان له من الآمال في تكوين دولة عظيمة بالمشرق. ثم إن «السير سدني سمث» كان قد أرسل إليه طائفة من الصحف الأوروبية، فقرأ فيها أن الحرب تجددت بين فرنسا والنمسا، وأن الأخيرة استردت شمالي إيطاليا الذي كان قد استولى عليه هو قبل مجيئه إلى مصر؛ فعوَّل في الحال على أن يعود إلى فرنسا سرًّا، فغادر مصر يوم (١٩ ربيع الأول سنة ١٢١٤ﻫ/٢٢ أغسطس سنة ١٧٩٩م) بعد أن عهد بقيادة الجيش للقائد «كليبر».

خرج نابليون من مصر وترك الجيش الفرنسي تهدده الأخطار من كل جانب؛ إذ كان عدده قد نقص كثيرًا في معارك الشام وغيرها، ودبَّ السخط في نفوس الجند وقلَّت أموال الخزينة، وأصبح الجيش في حاجة إلى الذخيرة والملابس، وأرسلت الدولة العثمانية جيشًا آخر إلى العريش يقوده الصدر الأعظم، وأسطولًا إلى دمياط؛ تريد إعادة الكَرَّة على مصر، هذا إلى أن المماليك عادوا إلى مكافحة الفرنسيس. نعم، إنهم في جمادى سنة ١٢١٤ﻫ هادنوا المماليك الذين كانوا قد تغلبوا على معظم الصعيد بزعامة رئيسهم مراد بك، بأن ولَّوْا مرادًا حكم بلاد الصعيد، بشرط أن يكون خاضعًا لسلطتهم مستعدًّا لمعونتهم، ولكنه كان متربصًا بهم النوازل حتى يستبد في قومه بملك مصر.

figure
القائد كليبر (رسم علي أفندي يوسف، عن صورة بدار الكتب السلطانية).

وكان «كليبر» من أكبر قوَّاد الفرنسيس وأعظمهم مهارة، إلا أنه أدرك صعوبة التغلب على هذه الأمور، ورأى من المصلحة أن لا يبقى بمصر، وعرض الصلح على الصدر الأعظم والسير سدني سمث، واتفق معهما على أن يخرج من مصر بجنوده وجميع مهماته، ويسافر إلى فرنسا على نفقة الدولة العثمانية، ويُعرف ذلك «بمعاهدة العريش» (شعبان سنة ١٢١٤ﻫ/يناير ١٨٠٠م)، فلما علمت بذلك الحكومة الإنجليزية استنكرت تصرُّف السير سدني سمث، وأرسلت إليه الأوامر بأن لا يعقد صلحًا مع الفرنسيس إلا إذا سلَّموا جميع جيشهم بمصر. فكان ذلك من الغلطات التي دوَّنها التاريخ للحكومة الإنجليزية؛ إذ إن غرضهم الأصلي لم يكن إلا إخراج الفرنسيس من مصر، وها هو ذا قد عُرض عليهم بلا ضرب ولا طعن. فأبلغ السير سدني سمث أوامر حكومته إلى كليبر، فانقطعت بذلك المفاوضات بين الطرفين.

وكان كليبر بعد معاهدة العريش قد سمح لجيش الصدر الأعظم بدخول مصر، فسار وعسكر بجهة «بلبيس»، ثم انتشر عسكره في ضواحي القاهرة والأقاليم المحيطة بها يجمعون المعونات والضرائب، ودخل كثير منهم المدينة، وغفلوا عن احتلال القلاع والحصون التي أخلاها الفرنسيون. فلما تحقق الفرنسيون تغيُّر نية الإنجليز انتهزوا فرصة تشتُّت الجيش العثماني وأوقعوا بكل قسم منه على انفراده بغتة، وكانت الواقعة الفاصلة بعين شمس؛ فانهزم الترك وتبعهم الفرنسيس إلى «الصالحية»، فتقهقروا إلى الشام.

ولما عاد كليبر إلى مصر وجد أن رؤساء العثمانيين الذين بَقُوا بالقاهرة هم وبعض المشايخ والتجار أثاروا أهلها وعامتها على الفرنسيس، فهاجوا وملكوا البلد وحصَّنوا مداخل الدروب ومنعوا الفرنسيس من دخول المدينة؛ فحصلت بين الطرفين مناوشات عظيمة انتهت بعد نحو ثلاثين يومًا بإبرام الصلح بينهما على أن يخرج العثمانيون إلى بلادهم، وأن يغرم العلماء والأهلون نحو عشرة آلاف ألف فرنك.

أما شأن مراد بك ومن معه من المماليك في هذه الثورة، فإنهم جاءوا إلى «دير الطين» — الساحل القبلي — ينتظرون لمن يكون الغلب فيكونون معه، فلمَّا حدث ما حدث رجعوا إلى الصعيد.

وبذلك رجع للفرنسيس نفوذهم في مصر، إلا أنه لم يمضِ قليل حتى قُتل «القائد كليبر» غِيلةً؛ قتله «سليمان الحلبي» أحد طلبة العلم من نزلاء السوريين، بإيعاز من أحد زعماء المماليك — على ما قيل — وذلك في (٢٠ المحرم سنة ١٢١٥ﻫ/١٤ يونيو سنة ١٨٠٠م).

فعُهد بقيادة الجيش الفرنسي إلى القائد «مينو»، وكان أقل كفاءة من كليبر غير محبوب من الجيش مثله، وكان شديد الميل إلى البقاء بمصر، فتظاهر باعتناق الإسلام وتسمَّى «عبد الله مينو»، وتزوَّج ببنت أحد كبار المصريين من أهل رشيد.

ولم يفتُر الإنجليز عن العمل على إخراج الفرنسيس من مصر؛ ففي شهر (شوال سنة ١٢١٥ﻫ/فبراير سنة ١٨٠١م) أرسلوا جيشًا بقيادة «السير رَلْف أبِرْكرومبي» فوصلت السفن الإنجليزية إلى الإسكندرية، وأنزلت الجنود بجهة «بوقير»، ثم وصل جيش عثماني وانضم إليهم. فعهد مينو بقيادة مدينة القاهرة إلى القائد «بِلْيار» وجاء بمعظم الجيش الفرنسي إلى الإسكندرية؛ فالتحم الفريقان في موقعة فاصلة عند «كانوب» قرب بوقير انهزم فيها الفرنسيس وتراجعوا إلى الإسكندرية، فحوصروا بها ومات «أبركرومبي» في هذه الواقعة فعُهد بالقيادة إلى «هَتْشِنْسُن»، وفي أثناء ذلك تقدَّم الجيش التركي الذي كان بالعريش، فسار هتشنسن للانضمام إليه بعد أن عهد بفتح الإسكندرية إلى أحد قوَّاده.

فالتقى الجيشان بجهة «الرحمانية» وسارا نحو القاهرة، فلم يأنس بليار من نفسه مقدرة على صدهم وعرض عليهم الصلح على أن تخرج الجيوش الفرنسية من مصر وتسافر مخفورة إلى فرنسا على نفقة الحكومة الإنجليزية، فقبل الإنجليز ذلك، وأُنزلت الجنود الفرنسية بقوارب في النيل إلى رشيد وبوقير ونزلوا هنالك في السفن التي أُعدت لهم.

فدخلت الجنود العثمانية وبعض رجال الجيش الإنجليزي إلى مصر ومعهم من أمراء مصر إبراهيم بك الكبير والبرديسي والألفي والسيد عمر مكرم وغيرهم، فامتلأت قلوب الأمة المصرية فرحًا لتخلصهم من أذى الفرنسيس وجورهم.

أما عبد الله «مينو» فكان قد أصر على الدفاع عن الإسكندرية، فشدَّد الإنجليز والعثمانيون عليه الحصار، وانتهى الأمر بقبوله التسليم والخروج من مصر بنفس الشروط التي سلَّم بها «بليار»، فسافر بجنوده إلى فرنسا في (اليوم العاشر من جمادى الأولى سنة ١٢١٦ﻫ/١٨ سبتمبر سنة ١٨٠١م)؛ وبذلك تم جلاء الفرنسيس عن مصر بعد أن قضَوْا فيها نحو ثلاثة أعوام.

ذكرنا فيما تقدم أن نابليون أحضر معه إلى مصر نحو مائة رجل من أكبر علماء فرنسا الملمِّين بكل فن وعلم، وكان أهم غرض من إحضارهم الانتفاع بآرائهم في كل ما يلزم للجيش والجالية التي كان يرمي نابليون إلى توطينها بالبلاد، فلم يكد رجال البعث يبلغون الديار المصرية حتى انكبوا على دراسة جميع ما فيها من آثار ونبات وحيوان ومعادن، ورسموا كل شيء ووصفوه وصفًا مسهبًا، وقد نجحوا في أعمالهم نجاحًا تامًّا حتى إنه قيل في وصف الحملة الفرنسية: «إنها كانت علمية أكثر منها حربية.»

وبعد خروج نابليون من مصر عُني «كليبر» بتنظيم أعمال هذه الهيئة العلمية؛ فقسم أعضاءها إلى تسعة أقسام: قسم لدرس الشئون الزراعية، وآخر للصناعة والتجارة، وقسم للجغرافيا، وآخر للآثار، وآخر للإدارة، وآخر لدرس الأخلاق والعادات، وهكذا.

figure
القائد مينو (رسم علي أفندي يوسف، عن صورة بدار الكتب السلطانية).

ومن أهم أعمالهم بمصر أنهم فحصوا أمر برزخ السويس وإمكان شق ترعة فيه بين البحرين الأبيض والأحمر، فدرسوا المشروع درسًا دقيقًا برياسة مهندسهم العظيم «لابير»، وكتبوا فيه تقريرًا وافيًا كانت له أكبر فائدة للمسيو «ديلسبس» الذي حفر هذه الترعة فيما بعدُ في عهد الخديوي إسماعيل. ولم ينجز الفرنسيس هذا المشروع إذ ذاك لوقوعهم في خطأ حسابي توهموا به أن سطح البحر الأحمر أعلى من سطح البحر الأبيض بتسعة أمتار.

ومن أعمالهم أنهم درسوا الأمراض الخاصة بالبلاد وطرق علاجها، ولا سيما الرمد، وفحصوا نظام الري وطرق إصلاحه، ومسحوا أرض القطر، ورسموا له خريطة عظيمة نُشرت عند عودتهم إلى فرنسا.

أما بحوثهم في الآثار المصرية القديمة فكفاهم فخرًا أنهم أول من لفت نظر أوروبا إلى درس هذه الآثار، وأن ما دوَّنوه فيها كان الأساس الأول لبحوث العلماء الأوروبيين بعدُ، وقد كشفوا كثيرًا من المدن والآثار المصرية القديمة، ورسموا لها صورًا جميلة،٦ وأشكالًا تبيِّن دواخل أهم المعابد وما على جدرانها من النقوش، وكان كل ذلك طبعًا بالقلم والقرطاس؛ إذ لم يكن التصوير الشمسي وقتئذٍ معروفًا، ولا يفوتنا أن رجال هذه الحملة هم الذين عثروا على حجر رشيد الذي كان له الفضل الأكبر في انجلاء تاريخ مصر القديم.
وفي سنة (١٢١٧ﻫ/١٨٠٢م) أمرت الحكومة الفرنسية بجمع أعمال علماء الحملة ونشرها في مؤلَّف واحد، فظهرت في ذلك الكتاب العظيم المسمى «وصف مصر» Description de l’Egypte، فكان أكبر وأوفى مؤلَّف ظهر إلى الآن في وصف الديار المصرية.
١  ووافقت الحكومة الفرنسية أخيرًا على تجريد الحملة؛ لأنها أخذت تخشى سطوته بعد انتصاراته في أوروبا.
٢  كانت السطوة الحقيقية في هذه الأيام للمماليك، ولكن لَمَّا كان هؤلاء يعلمون أنهم أجانب عن البلاد، بعيدون عن أهلها في الشعور والعادات، خَشُوا ازدياد الجفاء بينهم، وعملوا على اكتساب مودة العلماء ليحببوا فيهم الأهلين؛ فكانوا يشاورونهم في الأمر، ويصغون لرغباتهم، حتى صار للعلماء قول مستمَع في إدارة شئون الحكومة.
أما الوالي فلم يكد يكون له من الأمر شيء سوى تسلُّم الجزية وإرسالها إلى السلطان. وكان المماليك دائمًا يرتابون في إخلاصه لهم ويخشَوْن دسائسه لدى الباب العالي، حتى إن «مراد بك» قال لبكر باشا في هذا الاجتماع الذي نحن بصدده: «إن الفرنسيس ما قَدِموا إلى هذه البلاد إلا برضاء الباب العالي، إن لم يكن بإيعاز منه.»
٣  وكانت إذ ذاك مدينة تجارية عظيمة وتمتاز عن الإسكندرية بكثرة حدائقها وجمال منظرها.
٤  لأن أكثر الترع كان نيليًا.
٥  أي من جهة باب الوزير وباب البرقية «جبانة المجاورين».
٦  هذه الصورة بعضها مطابق تمامًا لحالة الآثار وقت رسمها وبعضها يمثل شكلها في أيام رونقها، واستعانوا في رسمها بالنظر إلى الأجزاء التي لم تنهدم في الأثر واستنتاج شكل التي تهدمت بطريق المحافظة على التماثل في البناء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤