الفصل الثاني

محمد علي باشا

(١) نشأته ونهوضه

وُلد محمد علي باشا ابن إبراهيم أغا من سلالة ألبانية ببلدة «قَوَلَة» أحد المواني الصغيرة التي على الحدود بين تراقية ومقدونية عام (١١٨٣ﻫ/١٧٦٩م)، وهو العام الذي وُلد فيه «ولنجتون» القائد الإنجليزي العظيم «ونابليون» الفاتح الكبير، ولكلٍّ منهما أثر عظيم في تاريخ حياة المترجم. وإنه لمن العبث أن نسرد هنا الأقاصيص التي تُعزَى إليه في حداثة سنه؛ إذ لم نعثر عليها في أصل يُعتمد عليه.

تُوفِّي والده إبراهيم أغا وهو في سن الطفولة، فتولى أمره عمه «طوسون»، غير أن هذا وافته منيته بعد مدة وجيزة، فقام بأمر تربيته أحد أصدقاء والده، وقد تبنَّاه وعُني به حتى بلغ الثامنة عشرة من عمره، فتعلم طرفًا من الفروسية واللعب بالسيف، ثم زوَّجه إحدى قريباته، وكانت من ذوات اليسار. وخدم حاكم قولة، واكتسب رضاه بما كان يأتيه من ضروب المهارة والحذق في جباية الأموال من القرى المجاورة التي كانت لا تؤدي ما عليها إلا بالشدة واستعمال القوة الجبرية، وأعانته ثروة زوجته على الاتجار في الدخان، فاصطحب المسيو «ليون» أحد صغار التجار — ويغلب أنه كان وكيلًا لأحد المحال التجارية بمرسيليا مسقط رأسه — وشاركه في الاتجار في هذا الصنف، فلم تَعُدْ عليه هذه التجارة بالأرباح الطائلة، إلا أنه استفاد فائدة جمة من مرافقته للمسيو «ليون»؛ فاكتسب منه كثيرًا من العادات والآداب الفرنسية التي تركت في نفسه أثرًا عظيمًا، وساعدته مساعدة كبيرة في بقية أطوار حياته.

هذا كل ما رواه التاريخ من سيرته الأولى، وهو يحملنا على أن نترك الثلاثين سنة الأولى من تاريخ حياته صحيفة بيضاء؛ وذلك أمر لا بد منه لمن نشأ في بلدة صغيرة لم تكن ذات شأن كبير من قبل.

وقبل أن نشرح طريقة استيلاء محمد علي على الديار المصرية وإبادته للمماليك يجب علينا أن نصف حالة الدولة العثمانية في إبَّان شبابه، حتى يتمكَّن القارئ من الوقوف على سر نجاحه: كانت الدولة العثمانية إذ ذاك مكوَّنة من عدة شعوب مختلفة، ذوي أديان متباينة ونِحَل متضادة؛ مما طرَّق إليها الضعف، وأدخل عليها الوَهَنَ والاختلال الذي كاد يبلغ أقصاه في عصر محمد علي؛ إذ قد بدأ في عهد صغره أمر «علي باشا والي يانينة»، وهو أيضًا من الألبانيين: أولئك القوم الذين فتحوا الشرق بقيادة الإسكندر، واستوطنوا مصر في عهد البطالسة، وهدَّدوا رومية في زمن بيروس. خرج ذلك الرجل على دولته، فنكث فَتْلها، وأقلق بالها، واستقل بأمر ألبانيا مدة خمسين عامًا انتهت بقتله غِيلة سنة (١٢٣٧ﻫ/١٨٢٢م).

وكانت كذلك جميع أجزاء الدولة مفككة العُرى ثائرة على الباب العالي؛ فمصر والأناضول وسورية كلها كانت في فتن وقلاقل، وبلاد العرب مع الدولة في حرب عوان، وكانت الولاة في يانينة وبغداد كأمراء مستقلين، واستقلَّ بالفعل في عكاء أحمد باشا الجزَّار، وشرع يحذو حذوه معظم ولاة الدولة، ووقف دولاب أعمال الحكومة الداخلية جملة، وكان الجيش مؤلفًا من رعاع الناس وسِفْلَتهم، وكان السلطان أشبه بسجين أو ألعوبة في يد وزرائه وعساكره الإنكشارية، وكان الباب العالي مكوَّنًا من فئة الوزراء الذين يتهددهم الخطر في كل لحظة؛ فقد كان كلٌّ منهم يتحيَّن الفرص لاغتيال زميله، أو للسعي في عزل السلطان وتولية غيره؛ ليكون هو الصدر الأعظم الجديد.

تلك كانت حال الدولة بالاختصار في شبيبة محمد علي، ومنها يسهل تفهم أطوار حياته وعلاقته مع الدولة. وبالرغم من كل هذا كان عامة مسلمي الدولة مُطيعين خاضعين للسلطان من آل عثمان؛ لأنه خليفة رسول الله والإمام الواجب تنصيبه دينًا، ولو لم يكن له من الأمر شيء. بخلاف الوزير أو الوالي اللذَين لم يكن كلٌّ منهما في نظرهم إلا فردًا من رجال الحاشية توصَّل إلى مركزه السامي بالحظوة أو الرشوة؛ لذلك نرى أن كل الفتن والقلاقل في ذلك العهد كانت نتيجة المنافسة القائمة بين حكام الأقاليم ورجال الباب العالي، وأن فوز أحدهم بأمنيته كان متوقفًا على حسن الحظ والإقدام والخداع، لا على الكفاءة الشخصية والمواهب الطبعية.

بلغ محمد علي الثلاثين من عمره عام (١٢١٢ﻫ/١٧٩٨م)، وكان لا يزال في مسقط رأسه بين أولاده الثلاثة: إبراهيم وطوسون وإسماعيل. وقد ذكرنا أن تجارة الدخان لم تَعُدْ عليه بربح طائل؛ لذلك كان ميالًا للاحتراف بمهنة أخرى، فلم يلبث إلا قليلًا حتى دخل في طور جديد من أطوار حياته، والسبب في ذلك يرجع إلى الحملة الفرنسية على مصر.

وذلك أنه في (سنة ١٢١٣ﻫ/عام ١٧٩٩م) أعلن الخليفة الحرب على الفرنسيين لغزوهم مصر، فأصدر الأوامر بجمع الجيوش من أنحاء الدولة، فجمع حاكم قولة «الشربجي» فرقة عددها ٣٠٠ من الجنود المتطوعين —الباش بُزُق — بقيادة ابنه «علي أغا»، ورافق محمد علي هذه الفرقة وكيلًا له عليها، فتوجهت بطريق البحر إلى الدردنيل، ومن ثَمَّةَ انضمت إلى عامة الجيش في جزيرة رودس.

ولما وصل الجيش إلى ميناء بوقير من الديار المصرية التحم بالجيش الفرنسي، فكانت الدائرة على الترك، واضطرهم الفرنسيون إلى الالتجاء لسفنهم وسفن الإنجليز المرافقة لها بعد مذبحة شنيعة. وكان محمد علي قد أشرف على الغرق لولا أن قيض الله له «السير سِدْني سِمث» فانتشله من الماء بيده وأنزله في سفينته.

وبعد ذلك رجع محمد علي إلى بلدته، ثم عاد سنة (١٢١٥ﻫ/١٨٠١م) مع جيش «القبطان حسين باشا» الذي جاء ليساعد القائد الإنجليزي «أبِرْكُرومبي» على إجلاء الفرنسيين. ومن هذا الوقت بقي في مصر حتى صار واليًا عليها.

وقد نال إعجاب قائده والقوَّاد الإنجليز بما كان يأتيه من ضروب الشجاعة وشدة البأس عند هجومه على حصن الرحمانية؛ إذ دخله عنوة بعد أن اضطر القائد الفرنسي إلى إخلائه؛ وكان هذا سببًا في رقيه إلى رتبة قائد في الجيش.

(١-١) نهوض محمد علي

بعد إخلاء الحملة الفرنسية البلاد ورجوعها إلى فرنسا ابتدأت جماعة المماليك تشْرئبُّ أعناقها لأن تقبض على زمام الأمور في البلاد كما كانت من قبل، في حين أن الباب العاليَ كان يطمح إلى طرد المماليك من الديار المصرية، واسترجاعها بعد أن اغتُصبت منه مدة من الزمان، لكن المقادير جاءت بعكس ما أمل الفريقان؛ إذ أراد الله أن تكون نصيبًا لمحمد علي.

بدأ النزاع بين الباب العالي والمماليك عندما أراد الأول أن يستقل بالسيادة في مصر، فاستخدم للتغلب عليهم طريقة غير مقبولة؛ وذلك أن القبطان حسين باشا دعا البكوات العظام من حزب مراد بك إلى معسكر بوقير، بعلَّة التفاوض معهم في صيرورة حكومة مصر، فكان معظمهم غير مرتاح البال إلى هذه الدعوة، إلا أن خوفهم من نزع السلطة كلها من أيديهم حملهم على تلبيتها، وطَمأن خاطرهم قربُ معسكر القائد «هتشنسون» الإنجليزي.

قابلهم الباشا القبطان بتهلُّل واستبشار وأكرم مثواهم، ثم دعاهم إلى ركوب زورق له لزيارة القائد الإنجليزي، بحجة أنه يريد أن يتفاوض معه أيضًا، ولما بعدوا عن الشاطئ قليلًا لحقه زورق يحمل بعض الأوراق، فاستأذنهم ليقرأها على انفراد وترك الزورق بمن فيه من البكوات؛ فظهر لهم عند ذلك أنه يريد بهم سوءًا، فأمروا النواتي بالرجوع فامتنعوا وأطلقوا عليهم النار، فقتلوا ثلاثة وجُرح عثمان بك البرديسي واثنان آخران، فلما علم القائد الإنجليزي بذلك استشاط غضبًا، فاعتذر له الباشا القبطان بأسباب واهية. وفي الوقت الذي حدثت فيه تلك الحادثة عند ساحل البحر كانت تمثَّل الرواية نفسها في القاهرة، وقد احتمى معظم من بها من البكوات بالمعسكر الإنجليزي فيها، فأسعفهم القائد «رَمْزي» رغم إلحاح الصدر الأعظم في تسليمهم إليه؛ فكانت هذه الحادثة مدعاة إلى اشتعال نيران الحقد في صدور المماليك، وقد زادها لهيبًا جعل «محمد خُسْرُو» مملوك الباشا القبطان واليًا على مصر في (ربيع الأول سنة ١٢١٦ﻫ/يوليو سنة ١٨٠١م)؛ حصَّل له القبطان ذلك المنصب بتوسط الصدر الأعظم يوسف باشا لدى الباب العالي.

ويُعتبر خسرو باشا الوالي الجديد على الديار المصرية من أشهر رجال الترك في القرن الثالث عشر، وكان ذا حُظْوة عظيمة لدى السلطان، وقد خاصم محمد علي مدة نصف قرن كان في أثنائها عدوَّه المبين لأسباب سنذكرها في موضعها. وكان من الذين يُعتدُّ برأيهم في جسام الأمور ومعضلات السياسة كما سيجيء، ولا يُعزَى فشلُه في مصر إلى قلة الذكاء والشجاعة، بل لأنه ابتدأ حروبًا داخلية في وقت كانت فيه خزانته خلوًا وجيشه غير مدرب، على قوة عظيمة من فرسان المماليك الذين كان في قبضتهم خيرات البلاد وفيضُها.

ومن العبث أن نتجاهل ما كان للمماليك من المزايا العظيمة التي يمتازون بها على الأتراك في حربهم لهم؛ وذلك لأنهم التحموا بالجيوش الفرنسية أكثر من الأتراك، فاقتبسوا من طرقهم الحربية ما زادهم فَوْقًا على الأتراك، ذلك إلى أنهم يعرفون البلاد أكثر من جنود الترك الذين وصلوا إليها حديثًا، وأنهم كانوا لا يزالون أصحاب النفوذ والسلطان في البلاد.

فلما أراد «خسرو» مطاردتهم ونزْع البلاد من أيديهم، ظهرت كل هذه العقبات أمامه، فضلًا عن أنهم القابضون على أَزِمَّة الأحكام في المديريات، فأصبح القصد إذنْ من حربه لهم انتزاعَ البلاد من قبضتهم؛ فأرسل لذلك «طاهر باشا» قائد الألبانيين بجيش كان نصيبه الخيبة والفشل، وطارده عثمان بك البرديسي قائد المماليك من الوجه القبلي إلى الوجه البحري حتى ساحل البحر. ولما وصلت أخبار هذه الهزيمة إلى خسرو أعدَّ مددًا أرسله بقيادة محمد علي، وكان ممن نال ثقة خسرو في هذا الحين، إلا أن عثمان بك بادر إلى مناجزة الجيش التركي قبل أن يصل إليه المدد الذي كان يقوده محمد علي، وبدَّد شمله.

فلما علم خسرو بالهزيمة الثانية وجَّه لومًا إلى الألبانيين وخاصة إلى محمد علي، وأراد أن يحاكمه على تقصيره أمام مجلس عسكري، وكان غرضه بذلك اغتياله، فامتنع محمد علي عن الحضور، ومن هذا العهد ابتدأت بذور العداوة تنبت بين هذين الرجلين؛ تلك العداوة التي فتَّت في عضد الدولة ومزَّقت أحشاءها كلَّ ممزق.

وبعد الهزيمة الأخيرة أبت عساكر الترك الحرب كل الإباء لتأخر رواتبهم، وثاروا وحاصروا الخزانة ونهبوا وسلبوا القاهرة، فاعتصم خسرو بالقلعة، وأصلى العصاة منها نار حامية، فأراد إذ ذاك طاهر باشا قائد فرقة الألبانيين — وعددهم ٥٠٠٠ — أن يتوسط بين خسرو والعصاة، فأبى خسرو وساطته، فانضم إلى العصاة عليه، ولما لم يجد خسرو لديه حينئذٍ جندًا تحميه ولَّى هاربًا إلى دمياط، وبقي بها ينتظر فرصة يسترد بها ما فقده.

ولما علم طاهر بذلك جمع رءوس العلماء وأشراف العاصمة وشاورهم في الأمر، فرضُوا أن يكون نائبًا عن الوالي عليهم، فأعلن أنه هو الحاكم على مصر حتى يولِّيَ الباب العالي خلفًا لخسرو باشا، وذلك في (صفر ١٢١٨ﻫ/مايو ١٨٠٣)، وكان من سوء طالع طاهر باشا أنه وقع في نفس الحيرة التي وقع فيها خسرو؛ إذ لم يمكنه دفع مؤخر رواتب الجند، وبعد ٢٢ يومًا من قبضه على زمام الأحكام تألَّب عليه الجند، واغتاله ضابطان — موسى أغا وإسماعيل أغا — بعد أن تظلَّما له من تأخير رواتب الجنود.

فأصبح محمد علي — بعد هرب خسرو وقتل طاهر — رئيس الأجناد غير المماليك من الأرناءوط وغيرهم؛ لأن رتبته في الجيش كانت تلي رتبة طاهر باشا، ولأنه كان محبوبًا لدى العلماء والأهالي لما كان يُبديه من العطف والحنان عليهم، فحاز رضاهم بدفاعه، وكاد يعلن نيابته عن الوالي لولا أن رأى مركزه لا يقل خطرًا عن مركز طاهر؛ لعدم قدرته على دفع مؤخر رواتب الجند، وعلى مقاومة خسرو باشا والمماليك معًا بمن كان تحت إمرته من الألبانيين؛ فرأى أنه من الحكمة والكياسة أن ينضم إلى عثمان بك البرديسي هو ومن معه، فتحالفا ونصَّبا إبراهيم بك الكبير نائبًا عن الوالي العثماني، لكبر سنِّه ومكان احترامه عند المماليك، وطردوا الإنكشارية من مصر.

وكان بمصر وقتئذٍ «أحمد باشا» والي المدينة وينبع، مارًّا بها، يستمدُّ واليها ويتأهب للخروج إلى منصبه، ويؤلِّف حملة يكافح بها الوهابيين؛ فاشترك في هذه الحوادث وفي مقتل طاهر باشا، وجعل نفسه واليًا على مصر، أو على الأقل نائبًا عن خسرو ريثما يحضر من دمياط، وكاد يتم له مراده لولا مناصبة محمد علي وإبراهيم بك له وعدم اعترافهما له بأي حق في التدخُّل في شئون البلاد. ولم يشعر بسلطته أحد؛ لأنها لم تَدُمْ أكثر من يوم وليلة، ثم جاءه التقليد من الأستانة بنيابته عن الوالي حتى يحضر، ولكن بعد فوات الفرصة؛ فإنهم طردوه وباقيَ الإنكشارية من مصر، فخرج إلى الحجاز.

ثم إن البرديسي ومحمد علي تعاونا على إخضاع المماليك الثائرين الذين كانوا يهددون العاصمة، وبعد أن تم لهما ذلك عمِلا على بت الأمر في قضية خسرو؛ فأعدَّ لذلك عثمان بك البرديسي جيشًا بريًّا، أما محمد علي فإنه جهَّز أسطولًا صغيرًا ونزل به إلى دمياط، وكان قد أخذ لذلك عدته، وبعد مناوشات خفيفة أخذ خسرو سجينًا إلى القاهرة.

ولما علم الباب العالي بسير الأحوال في مصر استولى عليه الخوف والقلق، واتضح له جليًّا أن خسرو أصبح غير لائق لولاية مصر، فأصدر عهدًا بتولية «علي باشا الجزائري»، ونزل هذا الوالي الجديد بالإسكندرية في (ربيع الأول سنة ١٢١٨ﻫ/٨ يوليو سنة ١٨٠٣م)، فرأى أنه لا يمكنه مقاومة البرديسي ومحمد علي بحد السيف، فاتفق معهما ظاهرًا، على حين أنه كان يعمل في الخفاء على هدم قوتهما وتكوين حزب وطني مصري يناهض المماليك، ولكن من سوء حظه أن بعض مراسلاته مع السيد «السادات» وقعت في يد البرديسي — وكان هذا ضيفًا عنده — فاحتال البرديسي في قتله، وتم له ذلك في (شوال سنة ١٢١٨ﻫ/يناير سنة ١٨٠٤م).

وفي الشهر التالي لمقتل علي باشا الجزائري ظهر رجل ذو سطوة وبأس وأعوان كثيرين، وهو «محمد بك الألفي» الذي يُعَدُّ من أكبر المماليك في الديار المصرية؛ وذلك أنه رجع من إنجلترا بعد أن مكث بها سنتين، وكان قد سافر إليها عام (١٨٠٢م) مع الحملة الإنجليزية، وسبب سفره أن الإنجليز كانوا قد عاهدوا المماليك في واقعة سنة (١٨٠١م) أن يأخذوا بناصرهم، ليتخذوهم صنائع وأعوانًا لهم بمصر إذا اقتضى الحال تدخلهم في شئونها مرة أخرى. فلما رجعت الحملة صار يتغنى قوادها بفروسية المماليك وشجاعتهم وخدماتهم، فسهل على الأمة الإنجليزية تعزيز هذا الاتفاق، وعزموا على مساعدة الألفي وحماية المماليك. فلما وصل إلى السواحل المصرية علم أنه لا يمكنه الوصول إلى ضالته إلا بتوحيد قوى المماليك وجعْلهم تحت حماية الإنجليز، وكان ذلك لا يتم له إلا بالاتحاد مع البرديسي عدوه العنيد، وإبراهيم بك الكبير. فلما نزل عند بوقير قابله أعوانه بكل حفاوة وإكرام، وإذ كان في ريبة من أمر البرديسي اتخذ مسكنه في دمياط، وأصدر الأوامر إلى أتباعه بالاجتماع في ضيعته بالجيزة، ومعهم كل ما يمكن جمعه من العدة والعدد، على أن يلحق بهم بعد.

إلا أن وصوله إلى الديار المصرية لم يَرُقْ في نظر كلٍّ من البرديسي ومحمد علي؛ لأن الأول رأى أن من الخطل أن تكون نتيجة خلعه واليَيْن وقتله ثالثًا أن يشاركه في السلطة مناظر كان بعيدًا عن الديار أثناء حربه معهم، وفاته أنه لو اتحد مع الألفي كما اتحد مع إبراهيم بك لاستعادوا سلطة المماليك في مصر؛ لأن محمد علي غريب عن البلاد وهو وحده لا يقوى على مقاومتهم، ولكن تدبير محمد علي ودهاءه وسعوده كلها حالت دون اتفاقهم، خصوصًا أنه رأى أن البرديسي في قبضته ولا داعيَ قط لإشراك مملوك آخر في حكم البلاد؛ فاتفق الاثنان على أن يتخلصا من محمد الألفي، وفعلًا حاصر محمد علي ومن كان معه من الألبانيين قصرَه في الجيزة وأخذ أتباعه على غرة، وقتل منهم خلقًا كثيرًا، وفر الباقون. أما البرديسي فسار بجيشه ليفتك بالألفي في طريقه إلى القاهرة، فقابله بالمنوفية هو وحاشيته، فأفْلت الألفي من يده وهرب إلى سورية، أما من كان معه فقتل معظمهم وسلب كل ما معهم من المتاع والمال.

اتَّبع محمد علي أثناء كل هذه المكافحات التي ناصب بها السلطان ومحمد الألفي خطة أظهرت ما كان عليه من الدهاء والحكمة؛ إذ إنه اختفى وراء الستار، وأظهر البرديسي بمظهر العاصي في وجه السلطان والمهاجم للألفي بك، مع أن محمد علي كان يساعده في جباية الأموال اللازمة للجيش الذي كانا يستظهران به على من ينازعهما السلطة.

ولما هرب الألفي من الديار المصرية طلب محمد علي من البرديسي رواتب الجند، وأنذره أنه إذا تأخر اضطُر إلى تركه وحيدًا وساعد الترك عليه وانضم إليهم، فلم يسع البرديسي إلا تلبية طلبه، وبذل كل جهده في جباية ما يلزم من المال بالقوة من التجار، فأثار غضب الأهالي وهيَّجهم، ولا سيما أن ذلك أعقب ضرائب فادحة جمعتها الحكومة واستَعمل الجباة في استخراجها العنف والشدة معهم؛ إذ كانوا يضربون من يمتنع منهم، وقد يقتلونه.

فانتهز هذه الفرصة محمد علي وانسلخ من البرديسي، وأظهر استياءه لجمع هذه الضرائب الفادحة، ووعد الأهالي بالأخذ بناصر الذين يعارضون في جمعها، فمال إليه الناس، وأصبح محبوبًا عند عامة أهل القاهرة وأشرافها، ولَمَّا وثق من أن الرأي العام يؤيِّده، وأن هذه أحسن فرصة للقضاء على سلطة البرديسي والتخلُّص منه ومن أتباعه، قام في فجر يوم (٣٠ ذي القعدة سنة ١٢١٨ﻫ/١٢ مارس سنة ١٨٠٤م) هو وجميع من التفَّ حوله من الجند وحاصروا قصر البرديسي — الذي كان محصنًا بالمدافع — فتمكَّن محمد علي من رَشْوِ رجال مدفعية البرديسي فحوَّلوا مدافعهم على سيِّدهم؛ إلا أن البرديسي وإبراهيم بك الكبير اقتحما الطريق وفرَّا هاربَين إلى بلاد سورية.

فصفا الجو عندئذٍ لمحمد علي، وأصبح صاحب الكلمة النافذة في القاهرة، إلا أنه رأى الفرصة لم تَحِنْ بعدُ للقبض على زمام الأمور في الديار المصرية للأسباب الآتية:
  • (١)

    أنه رأى لا بد من أن عثمان بك البرديسي ومحمد بك الألفي سيتفقان على مناوأته، وهو لا يقوى على مكافحتهما متَّحدَين.

  • (٢)

    أن أتباعه من الجند لم تكن إلا عصابة صغيرة من الألبانيين لا تقوى على منازعة جميع الماليك.

  • (٣)

    أنه كان يعتبر في هذه الفترة خارجًا على الدولة لاشتراكه في خلع خسرو، وأن الدولة ربما أرسلت جيشًا لقهره والضرب على يده.

فأراد أن يتخلص من هذا المأزق الحرج بإذاعته أنه يريد تحرير القطر المصري من جور المماليك وعسفهم، حتى يكون قد خدم الدولة خدمة جليلة تمحو ما مضى من سيئاته وعصيانه، ومهَّد السبيل لذلك أنه لَمَّا علم أن الباب العاليَ عين واليًا جديدًا بدلًا من الجزائري١ قام في الحال وأطلق خسرو باشا — وكان سجينًا — ليتولى الأمور حتى يصل الوالي الجديد، ولكن الجند لم يرضَوْا بأي حالٍ إعادة تنصيبه واليًا؛ فاضطُر محمد علي بعد إطلاقه بثلاثة أيام أن يُسفِّره إلى رشيد، ومن ثَمَّ أبحر إلى القسطنطينية بعد أن أظهر له عجزه عن حمايته.

وبعد هذا الحادث بزمن وجيز وصل «أحمد خورشيد باشا» الوالي الجديد، واعترف بتوليته كل الجيش من تُركٍ وألبان، وأذعنوا له بالطاعة، ولكنه أظهر بعد فترة من الزمن أنه والٍ ضعيف الإرادة غير كفء لهذا المنصب، وعجز كسابقيه عن دفع مرتب الجند والأتراك، فرجعوا إلى السلب والنهب. أما محمد علي فاتبع الطريق الأقصد، ومنع أتباعه من الألبانيين من مصادرة الأهالي، بل كان بالعكس يجتهد في حمايتهم من ظلم الأتراك وعسفهم. ولَمَّا رأى الأهالي ما ارتكبه الجنود ثاروا على الوالي والتجئوا إلى محمد علي ليوقف هذه المظالم، فأمَّنهم على حياتهم وأموالهم بشرط أن يدفعوا له من المال ما يقوم بحاجة أتباعه من الألبانيين. وفي هذه الأثناء جاء إلى خورشيد باشا الوالي أمر سلطاني باستدعاء الألبانيين وقائدهم محمد علي، فتأهب هو وجنده للرحيل من الديار المصرية، فرجاه كبار الأمة وعلماؤها في البقاء بمصر خوفًا من تسلط الأتراك وبطشهم، فقبل ذلك منهم وأبى الرجوع. وفي هذه الأثناء جمعت المماليك جموعها على مقربة من المنية للإغارة على القاهرة، فولى خورشيد محمد علي قائدًا على الجيش الذي أعده لمحاربة المماليك، فحاربهم في عدة وقائع لم تكن فاصلة. وفي خلال هذه الحروب وصل جيش من الدلاة من قِبل الباب العالي أكثر همجية وأبشع حالًا من الجيش الذي في داخل البلاد ليحل محل الألبانيين، فلما علم محمد علي بذلك ظن أنه وقع بين نارين، فقفل راجعًا إلى القاهرة وواجه الجيش الجديد جهة «البساتين» و«دير الطين»، وأخبرهم أنه لم يحضر لخلاف ولا عصيان، ولكن لطلب النفقة والمئونة، وأنه يرمي معهم إلى غرض واحد وهو تأييد الوالي والسلطان وإبادة المماليك؛ فانخدعوا بقوله، وأفسحوا له الطريق، فدخل القاهرة دخول المنتصر بعد أن اتفق مع الدلاة وأجزل لهم العطاء والهدايا، فأصبحوا معه على الوالي، وسمح لهم بالذهاب في طول البلاد وعرضها، يجمعون الضرائب ويأكلونها.

ولما عاثت جنود الأكراد — الدلاة — في الأرض فسادًا قام الأهالي في وجه خورشيد، وطلبوا من محمد علي أن يحميَهم ويكون الواليَ عليهم، فقبل ذلك وشنَّ الغارة على الوالي، فاعتصم هذا بالقلعة، ولما لم يجد له وسيلة يتخلص بها من محمد علي اجتهد في الحصول على عهد من الباب العالي بتنصيب محمد علي واليًا على جدة، فلم يلتفت محمد علي لهذا التنصيب، وحاصر خورشيد باشا في القلعة، وأطلق عليها المدافع إطلاقًا ذريعًا، وذلك في (صفر سنة ١٢٢٠ﻫ/مايو سنة ١٨٠٥م).

وحينئذٍ اجتمع علماء البلد ووجهاؤها وأقاموا محمد علي واليًا على مصر، فقام إليه الشيخ الشرقاوي و«السيد عمر مكرم» نقيب الأشراف وألبساه «الكرك» إيذانًا بالولاية. وكان في يد السيد عمر أمر العامة في جميع أنحاء مصر، لا يعصون له أمرًا؛ فأيد أمر محمد علي بنفوذه وجاهه أكثر من ٤ سنين تأييدًا لم يقم به أحد مثله، وأرسل العلماء رسولًا إلى الباب العالي ليلتمس العفو عما فرط منهم في حق الوالي ويرجو اعتماد تنصيب محمد علي خلفًا له، فعلم السلطان من ذلك مقدار ميل الأهلين لمحمد علي، وأيقن أنه أصبح صاحب الكلمة العليا في مصر، فوافق على تنصيبه واليًا عليها في (ربيع الآخر سنة ١٢٢٠ﻫ/يوليو سنة ١٨٠٥م). ولما علم خورشيد باشا بهذا النبأ سلَّم له القلعة وتخلى عنها.

(١-٢) توطيد سلطة محمد علي في مصر

كانت لا تزال سلطة محمد علي بعد يوليو سنة ١٨٠٥ مزعزعة الأركان؛ لأن اختياره واليًا كان بالرغم من الباب العالي، فكان أولياء الأمور في القسطنطينية يتحيَّنون أول فرصة للتخلُّص منه، فإنه وإن كان أدار الشئون المصرية بالضبط والمهارة، وقام بها خير قيام، لا يبعد أن يجاهر يومًا ما بالعصيان في وجه الباب العالي كما فعل من قبل. هذا إلى أن ما حاق بالمماليك من المصائب والنكبات المتتابعة جعلهم يتَّحدون معًا على محمد علي عدوهم العنيد، ثم دهمه أمر لم يكن في الحسبان، وهو ورود حملة إنجليزية لغزو مصر، والسبب فيها يرجع إلى تحالف فرنسا مع الترك بعد توليته بعام ونصف، وكانت فرنسا إذ ذاك في حرب عوان مع إنجلترا، فأرسلت الأخيرة حملة لتغزوَ البلاد المصرية باتفاق مع حليفتها الروسيا مؤملة أن ترجع البلاد المصرية إلى حكم المماليك على الأقل، وتقضي على آمال الترك فيها «وأرسلت أيضًا أسطولها ليقتحم الدردنيل»، فساعد الحظ محمد علي باشا وتخلص من كل هذه الأخطار التي كانت تحدق به، الواحد بعد الآخر؛ فأرضى الباب العالي، وقضى على المماليك وسلطتهم، وتغلب بمعونة الأهالي وحامية رشيد على الحملة الإنجليزية.

ذكرنا سابقًا أن المماليك كانوا يهددون القاهرة في أول ولاية محمد علي، وكان هذا أول خطر يحدق به؛ لأن جميع ما لديه من الجند كانوا مشاة لا يقوَوْن على مكافحة فرسان المماليك خصوصًا في الخلوات؛ حيث يمكنهم الكرُّ والفرُّ بكل نظام وبدون أدنى خطر، فدبَّر لهم مكيدة أنفذها بعض الموالين له؛ وذلك أنهم اتفقوا سرًّا مع رؤساء المماليك على أن يفتحوا لهم أبواب القاهرة في يوم الاحتفال بفتح الخليج، أي في الوقت الذي يكون فيه محمد علي وجميع ضباطه مشغولين لاهين في الاحتفال خارج المدينة، على شرط أن يدفعوا لهم مالًا في مقابل هذه الخدمة. فاغترَّ المماليك ووقعوا في هذه الأُحبولة، فلما حلَّ اليوم المعهود دخلوا المدينة من باب الفتوح، فلم يجدوا في حراسته إلَّا ثُلَّة ضئيلة من الفلاحين تغلبوا عليها بدون عناء، ثم ساروا قاصدين باب زَوِيلة، فلما صاروا في قلب المدينة انصبَّت عليهم النيران من جانبَي الشارع من النوافذ، وكان قد استعد لذلك محمد علي، فلما تنبهوا لغلطتهم الْتَجأ أكثرهم إلى جامع برقوق، وسلَّم معظمهم عندما أمَّنهم الوالي على حياتهم، إلا أنه رغم ذلك ذُبح معظمهم في (جمادى الآخرة سنة ١٢٢٠ﻫ/أغسطس سنة ١٨٠٥م).

ثم أراد محمد علي أن يجمع مالًا لإعطاء الجند مرتبهم مخافة أن يُعزل كسابقيه، وأراد أيضًا أن يجزل العطايا إلى أمير البحر التركي — وكان راسيًا بأسطوله في مياه الإسكندرية، يحمل الأوامر بمساعدة المماليك على محمد علي. ولما رأى أنه من المحال أن يضرب الضرائب على الفلاحين، ولا سيما أن جميع الأراضي كانت لا تزال في قبضة المماليك، جمع بعض المال من أقباط مدينة القاهرة، ووجد بفحص دفاتر الحساب أن الجُباة منهم اختلسوا ما لا يقل عن ٤٨٠٠ كيس، فأجبرهم على دفعها؛ وبذلك أجزل العطايا إلى أمير البحر التركي وأرجعه من حيث أتى، وكان ذلك في أكتوبر سنة ١٨٠٥. ولم يمر على هذا الحادث إلا زمن يسير حتى عاد أمير البحر التركي نفسه يصحبه «موسى باشا» والي سلونيك ليكون واليًا على مصر، ولينتقل محمد علي معه ليتولى منصب موسى باشا؛ فتظاهر محمد علي بإظهار الطاعة لأوامر الباب العالي، ثم ادَّعى أنه يتعذر عليه أن يغادر مصر توًّا؛ لأن الجنود أبوا عليه النقلة ولا حيلة له في دفعهم، فإن فئة كبيرة من الضباط عاهدوا أنفسهم وأغلظوا الأيمان والمواثيق ألا يخضعوا لأحد غيره، وأن يعاضدوه ويأخذوا بناصره ولو على السلطان. وقد تظلَّم العلماء والأشراف لدى الباب العالي، والتمسوا إبقاء محمد علي. ومن حسن حظه أن نشبت في هذه الفترة نار حرب بين الروس والترك، فاضطُر الترك بطبيعة الحال إلى استدعاء أسطولهم إلى المياه التركية، فأبحر الأسطول بعد أن أجزل محمد علي العطاء لأمير البحر وموسى باشا معًا، وأخيرًا وصل إلى مصر في (٢٤ شعبان سنة ١٢٢١ﻫ/نوفمبر سنة ١٨٠٦م) عهد بتأييد محمد علي في منصب والي مصر.

وفي أثناء هذه الحوادث جمع الألفي بك والبرديسي شعَث جيشهما، وأوثقا عُرى التحالف بينهما وبين البدو، وشنَّا الغارة على محمد علي في بلاد الوجه البحري، وشجعهم على ذلك الأسطول التركي الذي كان راسيًا في المياه المصرية. فاشتبك الألفي مع فرقة أرسلها عليه محمد علي، فانهزمت عند «النجيلة»، ثم انضم الألفي بعد انتصاره إلى البرديسي وحاصرا دمنهور، فدافع الأهالي عنها دفاعًا صادقًا، وأظهروا شدةً وبسالةً لم تكن في الحسبان، على حين أن الألفي والبرديسي كانا يتنازعان السيادة والأفضلية، وكان محمد علي يستعد للواقعة الفاصلة بينه وبين المماليك بعدما تخلص من الأسطول التركي كما تقدم، فساعدته السعادة وحسن الجد بموت عدويه العظيمين؛ فمات البرديسي بالحُمَّى في (سنة ١٢٢١ﻫ/أكتوبر سنة ١٨٠٦)، ومات الألفي في (ذي القعدة سنة ١٢٢١ﻫ/يناير سنة ١٨٠٧م)، وبموتهما تفرَّق أتباعهما أيدي سبأ، وفرَّ معظمهم إلى الوجه القبلي.

ثم وصلت الحملة الإنجليزية التي أسلفنا الذكر عن سبب مجيئها إلى الديار المصرية باختصار، وكان الغرض من هذه الحملة تأييد سلطة المماليك ونزع البلاد من يد الباب العالي، ولكن كانت نتيجةُ الحملة الفشلَ التام؛ والسبب في ذلك يرجع إلى غلو الإنجليز في تقدير ما كان لدى المماليك من الجند.

وصلت هذه الحملة في (أول المحرم سنة ١٢٢٢ﻫ/مارس سنة ١٨٠٧م) واستولت على الإسكندرية، ثم سيَّر قائدها «فريزر» قوة لتحتل رشيد، فتغلَّبت عليها أولًا لضعف حاميتها، إلا أن الحامية عادت وأخذتهم على غِرَّة وبددت شملهم. ولَمَّا علم محمد علي بما جرى في الإسكندرية رجع من مطاردة المماليك في الصعيد إلى القاهرة، وجهز جيشًا سيَّره إلى رشيد، فالتقى هو وأهالي البلاد من رشيد ودمنهور وبعض أهل البحيرة مع الإنجليز عند قرية «الحمَّاد» — جنوبي رشيد — وهزموهم شرَّ هزيمة، ثم ذهب محمد علي إلى جهة الإسكندرية وأراد أن يحاصرها، ولكن ولاة الأمور الإنجليز كانوا أرسلوا إلى قائد الحملة بالرجوع، فأخلى الإسكندرية بعد أن عقد شروط الصلح مع الوالي في دمنهور، وتركت الحملة البلاد المصرية في (رجب سنة ١٢٢٢ﻫ/سبتمبر سنة ١٨٠٧م). أما العمارة البحرية التي أرسلتها الأمة الإنجليزية لاختراق الدردنيل فإنها حُطِّمت، ولم ينجُ منها إلا بضع سفن.

وكان من نتائج هذه الحملة رضاء الباب العالي عن محمد علي، فمنحه السلطان خلعة وسيف شرف، وأمر بإرجاع ابنه إبراهيم إليه — وكان معتقلًا في القسطنطينية. وقد صار لهذه الإنعامات السلطانية أثر عظيم في توطيد سلطته؛ إذ كان في هذا الوقت في وَجَلٍ شديد من جنده، حتى إنه استعد للاعتصام بالقلعة إذا تألَّبوا عليه.

(١-٣) القضاء على المماليك

لَمَّا وثق الباب العالي من محمد علي أراد أن يستخدمه في إصلاح شئون الدولة، فأول أمر كلَّفه إياه إخضاع طائفة الوهابيين الذين كانوا يتدخلون في أمر الحج، واحتلوا الحرمين الشريفين وسلبوهما. ولهذه الطائفة مذهب خاص سنتناول الكلام عليه فيما بعد. فجاءت الأوامر إلى محمد علي بإخضاع هؤلاء القوم، فاضطُر أن يُعِدَّ جيشًا أعظم عددًا وأكثر تدرُّبًا من الجيش الذي عنده، وأن يكون له أسطول لنقل الجنود في البحر الأحمر، فوجد أن لا مندوحة من زيادة الضرائب إلى درجة أقصت عنه كل من كان ملتفًّا حوله، ولقد كان مركزه إذ ذاك غاية في الخطر، فرأى أن لا يتحرك بجيشه إلى محاربة الوهابيين قبل أن يقضيَ على البقية الباقية من المماليك، وخاصةً بعد أن ظهر له أنهم جميعًا مزمعون على قتله. وكان قد رأى أولًا أن يتفق معهم، وأرسل لهذا الغرض حسين باشا الأرناءوطي يبلغهم أنه يعطيهم كل ضِياعهم، فأبَوْا ذلك، ففكر في قهرهم بحد السيف، فحاربهم في موقعة عند أسيوط انهزم فيها جيشه، إلا أن المماليك انتكث فتلهم وتفرقوا ثانية في طول البلاد وعرضها، في (أواخر رجب سنة ١٢٢٥ﻫ/أغسطس سنة ١٨١٠م). ولم تمضِ مدة يسير حتى خُدع شاهين بك — رئيس المماليك بعد موت الألفي — واحتال لذلك محمد علي بمنحه كل الأراضي التي على ضفة النيل اليسرى من الجيزة إلى بني سويف وفيها الفيوم؛ فخضع كل المماليك اقتداءً به، ووقَّعوا على شروط الصلح في سلخ عام ١٨١٠م، ورجعوا إلى القاهرة واتخذوا مساكنهم في قصورهم كما كانوا من قبل.

وكان شغل محمد علي الشاغل في هذه الأثناء تخليص الحرمين الشريفين من أيدي الوهابيين، إلا أنه لم يجرؤْ على تسيير جندي واحد إلى بلاد العرب ما دامت المماليك تهدد ولايته وتناصبه العداء، وكان على يقين من وثوبهم به في أول فرصة تتغيب فيها الأتراك عن البلاد، وقد تمثل له جليًّا مبلغ تحفزهم لقتله غِيلة عندما وافته الأخبار وهو في مدينة السويس مهتمًّا بشئون الحملة إلى بلاد العرب من «محمد بك لاظ الكخية» يحذِّره من المماليك، وكانوا يريدون اغتياله وهو راجع إلى القاهرة؛ فأخذ الحيطة، وبدلًا من مكثه في السويس إلى اليوم الذي ضربه لرجوعه تركها في غَلَس الظلام على ظهر نجيب سريع العَدْو غير معلنٍ أحدًا وجهتَه، ووصل القاهرة في فجر اليوم الثاني يصحبه أربعة من الخدم؛ فهذه المؤامرة وغيرها جعلته يفكر في القضاء عليهم بأية وسيلة قبل أن يسبقوه إلى ذلك.

وفي شهر (صفر سنة ١٢٢٦ﻫ/فبراير سنة ١٨١١م) جمع محمد علي جيشًا مؤلَّفًا من ٤٠٠٠ جندي في القاهرة تحت قيادة «طوسون باشا» ثاني أولاده، لغزو بلاد العرب وإخضاع الوهابيين، ورأى أنه لا بد قبل مسير الحملة من الديار من الاحتفال بها وتسليم وسام الشرف السلطاني له، فدعا في اليوم المضروب جميع ضباط الجيش والأعيان، وعددًا عظيمًا من الجند، ثم دعا جميع المماليك ورؤسائهم، وأعدَّ لهم وليمة فاخرة تذكارًا لهذا اليوم المشهود، فاجتمع الجميع في القلعة في يوم الجمعة خامس صفر — أول مارس — وكان عدد من حضر من المماليك يقرب من الخمسمائة.

وكان الغرض الحقيقي من دعوة المماليك التخلُّص من شرهم ودسائسهم، فأسرَّ محمد علي بذلك إلى «حسن باشا» و«صالح قوج» الأرناءوطيين فقط، وفي صبيحة هذا اليوم أسرَّ به إلى «إبراهيم أغا» — حارس الباب — فنُظِّم الموكب في القلعة على الترتيب الآتي: ابتدأ الموكب بعساكر الدلاة، ثم تبعهم العساكر الإنكشارية، ثم الجنود الألبانية بقيادة صالح قوج، وتلاهم المماليك، ففرقة من الجنود النظامية. فلما سار الموكب وانفصل الدلاة ومَن خلفهم من الإنكشارية عند باب العزب، أمر صالح قوج بإغلاق الباب وأشار إلى طائفته بالمقصود، فأعملوا السيف في رقاب المماليك، وقد انحصروا جميعهم في المضيق المنحدر، وهو الحجر المقطوع في أعلى باب العزب — بين الباب الأسفل والباب الأعلى — الذي يُتوصل منه إلى رحبة سوق القلعة. وكان قد جهز محمد علي عددًا من الجند على الحجر والأسوار، فلما بُدئ بالضرب من أسفل أراد المماليك التقهقر فلم يستطيعوا إلى ذلك سبيلًا؛ وذلك لوجود خيلهم في مضيق صغير جدًّا لا يسع جوادين جنبًا إلى جنب، وقد أعمل جنود محمد علي فيهم السيف قتلًا وفتكًا حتى فني كل من كان منهم في القلعة.

ولما قُتل شاهين بك كبير المماليك وعلم الناس بهذا الخبر أغلقوا الحوانيت، وصارت العساكر بعد ذلك تنهب وتسلب في جميع أنحاء العاصمة بدعوى البحث عمن هرب من المماليك للفتك بهم، ولَمَّا علم محمد علي بما ارتكبه الجنود من السلب، والنهب، ركب جواده ونزل بشخصه يمنع العسكر من ارتكاب هذه الجرائم. وقد حذا حذوه ابنه طوسون باشا في إيقاف الجنود عند حدها. ويقال إن محمد علي كان في شدة الوجل خوفًا من خيبة تدبيره، وكان قد أعد الخيل للهرب إذا لم يفلح.

وفي أثناء حدوث هذه الحوادث في القاهرة أصدر في الوقت نفسه أوامره لكل حكام المديريات بقتل من يعثرون عليه من المماليك؛ فكان مجموع من قُتل منهم بالقاهرة والمديريات يزيد على الألف. وهكذا انقرضت هذه الطائفة التي عاثت في الأرض فسادًا أكثر من ستة قرون، أذاقت في خلالها المصريين كل صنوف الذل والعذاب.

figure
محمد علي في القلعة وقت مذبحة المماليك (رسم علي أفندي يوسف، عن صورة بدار الكتب السلطانية).

(٢) الحروب الوهابية في بلاد العرب

من أعظم الثورات المشهورة، وأكبر الفتن الدينية التي شاهدتها بلاد العرب من عهد القرامطة، الثورة التي أضرم نارها الوهابيون؛ وذلك أنهم أثبتوا في حماستهم العسكرية وشجاعتهم البدوية صفات العرب القديمة وتمسُّكهم بالدين. ومؤسس هذه النهضة رجل اسمه «عبد الوهاب» من بني تميم بنجد، وقد أُطلق على ما كان متمسكًا به من العقيدة «المذهب الوهابي».

ولد عبد الوهاب صاحب هذا المذهب عام (١١٠٨ﻫ/١٦٩٦م) في قرية تُسمَّى «العُيَيْنَة» من إقليم «العارِض». وقد جاور في أثناء شبابه بمكة والمدينة ومعظم مدن المشرق المشهورة، وخاصة البصرة. ولما رأى في أثناء سياحاته العديدة أن الدين الحقيقي داخله الفساد، وتسلطت عليه البدع والمنكرات، عزم على إصلاح ما أفسده المفسدون. وكانت قواعد مذهبه وسياسته على غاية من الإيجاز في الإصلاح الإسلامي، وهي أشبه بالإصلاح البروتستنتي عند المسيحيين.

وكان الوهابيون في عقيدتهم ومذهبهم على طريق أهل السُّنة والجماعة، والأساس الأصلي لمذهبهم هو توحيد الله، واعتقاد أن النبي إنسان أدَّى ما يجب عليه من إبلاغ الرسالة، ورفض جميع تفاسير القرآن التي لم تأتِ من طريق السُّنة، ومن معتقداتهم أن الناس عند الله سواء، وكلهم عباده، أكرمُهم عنده أتقاهم وأصلحهم في أعماله، وبنَوْا على هذا الاعتقاد أن الاستغاثة بالذين تُوُفُّوا من الأولياء الصلحاء والأنبياء إثمٌ عند الله، وبدعة حدثت في الدين يجب استئصالها وإزالة كل أثر يُقوِّيها، كالتناصيب التي على القبور والقباب وما أشبهها، فأزالوها وحرَّموا زيارتها والتوجه إليها والاستغاثة عندها. ويرَوْن أن الحلف بسيدنا محمد جريمة كبرى، ويلعنون مَن يُكثر من الخضوع للموتى لعنًا مؤبدًا، ولا يلفظون بلفظ «سيد» للنبي في صلاتهم.

أما آدابهم فهي على نقاء وصفاء؛ إذ يحرِّمون جميع الموائع المسكرة وكل المواد المخدرة، ويحرِّمون جميع أنواع الفجور والفسق والعدول عن الحق والإنصاف والعمل بالحيل والخداع والاغتصاب والمقامرة. أما في شهامة التعصب الحقيقي للدين فإنهم يغارون على كل صغيرة مخلة بالدين الحق، ووجَّهوا أيضًا جُلَّ قوتهم إلى تحريم الملابس الحريرية، والترف في العيش، وحلق الرأس، والبكاء والنحيب على الميت.

ولما أراد عبد الوهاب نشر مذهبه قام في وجهه أناس كثيرون واضطهدوه، ففرَّ هاربًا إلى «الدرعية»، وهي إحدى مدن نجد وعلى بُعد ٤٠٠ ميل من شرق المدينة، فحماه «محمد بن سعود» حاكمها، ومال إلى مذهبه فاعتنقه وعمل على نشره، وكان غرضه من ذلك أن يمدَّ سلطانه على البلاد العربية، فاتخذ ذلك وسيلة إلى مطامعه الشخصية، فامتد سلطانه وسلطان ابنه «عبد العزيز» على جميع بلاد نجد من سنة (١١٥٩ إلى ١٢٠٦ﻫ/١٧٤٦–١٧٩١م). ولا يفوتنا أن نذكر هنا أن عبد الوهاب عاش حتى رأى مذهبه منتشرًا في طول البلاد وعرضها، وتُوفِّي سنة (١٢٠١ﻫ/١٧٨٧م) بعد أن بلغ من العمر الخامسة والستين تقريبًا، تاركًا ثمانية عشر ولدًا من عشرين زوجة.

ولقد أقلق بالَ شريف مكة انتشارُ مذهب عبد الوهاب وازدياد نفوذ عبد العزيز بن سعود في البلاد العربية، فجرَّد في عام (١٢١٣ﻫ/١٧٩٨م) حملة على عبد العزيز كان نصيبها الفشل.

ولما أمن عبد العزيز جانب شريف مكة — لأنه كان لا يقوى على مقاومته — وجَّه جُل عنايته إلى نشر مذهب الوهابية، وتوسيع نطاق ملْكه في وادي الفرات ودجلة، فلم يوفَّق إلى ذلك لأن واليَ بغداد هزمه هزيمة منكرة، وإن كان لم يقتفِ أثره في أواسط بلاد العرب خوفًا من هلاك جيشه في وسط الصحراء؛ ومن ذلك الحين لم يجرؤْ عبد العزيز على محاربة والي بغداد، إلا أنه قام في عام (١٢١٦ﻫ/١٨٠١م) وهاجم «كربلاء» وقتل رجالها، واستحيا نساءها، وانتهك حرمة ضريح الحسين وسلب أشياء كثيرة. وفي العام التالي دخل مكة بدون معارضة من شريفها «غالب»، وكان تركها وانحاز إلى جدة.

وفي نفس العام قام أحد المتعصبين من الأعجام واغتال عبد العزيز وهو يصلي، انتقامًا لما ارتكبه من الفظائع في كربلاء، فقام بأعباء الملك بعده ابنه «سعود الثاني»، وهو أعظم رجال هذه الأسرة؛ إذ وصلت في عصره مملكة الوهابيين إلى أوج عزها ومجدها. وقد دخل في السنة التي تولى فيها الضريحَ النبوي، ونهب كل ما فيه من الكنوز؛ ومن هذا العهد أصبحت بلاد العرب كلها تحت سلطانه، ثم ابتدأ من عام (١٢٢١ﻫ/١٨٠٦م) يتشدد في جمع الضرائب، حتى كره الناس حجَّ بيت الله الحرام، ومن غلوه في مذهبه أنه أغلق أبواب جميع القهوات وحرَّم شرب الدخان ولبس الحرير وغيره مما يُتزيَّن به.

ومما سبق يُعلَم أن ما كُلفه محمد علي من قِبل الباب العالي كان في الحقيقة فتح بلاد العرب للدولة من جديد، وكان بقاؤه على ولاية مصر متوقفًا على نجاحه في إخضاع الوهابيين.

(٢-١) حملة محمد علي على الوهابيين

قبل أن يعدَّ محمد علي حملته على بلاد العرب كاتَب شريف مكة، ولما وثق من موالاته له، وعلم أنه لم ينقد للوهابيين إلا كرهًا، جهَّز جيشًا عظيمًا يبلغ ٨٠٠٠ من الألبانيين، وأرسله بطريق البحر الأحمر في أسطول أعدَّه لهذا الغرض، كان يصنع سفنه قطعًا مفككة بالقاهرة، ثم يرسلها إلى السويس على ظهور الإبل لتركَّب هناك، وقد أفاد من هذا الأسطول فائدة عظيمة؛ إذ به يمكنه أن يسيطر على جميع ثغور العرب، ويصبح في قبضته كل التجارة وطرق الحج إلى بيت الله الحرام.

نزلت هذه الحملة في ثغر «ينبُع» بقيادة ابنه طوسون، فلم يلقَ بها أدنى مقاومة؛ لأن شريف مكة «غالبًا» سلَّمها طوع إرادته؛ ومن ثَمَّ سار نحو المدينة. وكان العدو قد كمن له، فتغلب في طريقه بعد مناوشات خفيفة على قريتَي «بدر» و«الصفراء»، إلا أن العدو بيَّته عند «الجُدَيدة» في درب ضيق جدًّا وكاد يقضي على كل الجيش، فلم يبقَ منه إلا ٣٠٠٠ جندي التجَئُوا إلى ينبع بعد أن أنهكهم التعب، وهرب بعد هذه النكبة كل الألبانيين، فلما علم محمد علي بذلك استشاط غضبًا وأنَّب «صالح قوج» رئيسهم على تخاذلهم وما أظهروه من الجبن. وكان يريد الفتك بصالح قوج، لولا ما له عليه من المآثر خصوصًا بلاءَه في حادثة القلعة، فاكتفى بنفيه من مصر مع مَن هرب معه مِن الألبانيين بعد أن أجزل لهم العطاء. وكان يعتقد أنه لا يهدأ له بال ما دامت هذه الفئة الثائرة المتمردة في داخل البلاد.

وفي عام (١٢٢٧ﻫ/١٨١٢م) أرسل محمد علي مددًا إلى طوسون بطريق القُصَير، فسار به نحو المدينة، ودخلها عنوة بعد أن دوَّخ الوهابيين؛ وكانت هذه ضربة قاضية على سعود الثاني، وابتدأ المذهب الوهابي يتدهور بعض الشيء، ثم ذهب طوسون توًّا إلى مكة بطريق جدة، فلم يلقَ إلا الإكرام من شريف مكة وسلَّمه مفاتيح الكعبة، فأرسلها طوسون هي ومفاتيح الحجرة الشريفة إلى والده، فأرسلها إلى الباب العالي يبشره برجوع الحرمين إلى حوزته. وأراد بعد ذلك طوسون أن يقتفيَ أثر الأعداء في داخل البلاد؛ فهزمه الوهابيون شرَّ هزيمة عند «طَرَبة»، وهي بلد صغيرة في شرقي مكة وعلى مقربة منها. وكانت خسائر هذه الهزيمة عظيمة جدًّا، حتى إن سعودًا زحف بجيشه على المدينة ثانية وهددها بالأخذ عنوة.

ولما وصل خبر هذه النكبة إلى محمد علي، عزم على أن يتولى قيادة الجيش بنفسه، فأخذ العُدَّة لذلك، وتوجَّه إلى الأقطار الحجازية، ولَمَّا وصل هناك أدى فريضة الحج، ثم علم من بعض الأفراد أن الشريف غالبًا مذبذب في ولائه، فاحتال في القبض عليه بواسطة طوسون ابنه، وأرسله إلى القسطنطينية حيث قُتل هناك بعد مدة وجيزة.

ثم ابتدأ محمد علي بعض مناوشات مع الوهابيين لم تكن فاصلة، وكان كلا الفريقين يخاف منازلة خصمه.

وفي أوائل سنة (١٢٢٩ﻫ/١٨١٤م) مات سعود الثاني، وبموته فقد الوهابيون أعظم ساعد وأكبر بطل، بلغت في مدته دولتهم شأوًا بعيدًا لم تبلغه من قبلُ ولا من بعدُ؛ فإن عبد الله ابنه الذي خلفه كان أقل منه ذكاءً وفروسية وقدرة. وكان آخر ألفاظٍ فاه بها سعود يوصي بها ابنه الأكبر: «يا عبد الله، لا تدخل في حرب مع الترك في ميدان مكشوف أبدًا، والزم أنت وعساكرك في حربهم المواقع الصعبة حتى لا يتيسر لهم النصر، وخذ لنفسك الحذر، ولا رادَّ لقضاء الله وقَدَره.» ولو اتبع عبد الله هذه النصيحة لَمَا تغلب عليه المصريون قط، إلا أنه خالف والده، والتحم مع محمد علي في أول واقعة عند «بَيْصل» حيث دارت الدائرة فيها عليه، وذلك في سنة (١٢٣٠ﻫ/١٨١٥م).

ثم حصلت حوادث في هذه الفترة اضطَرت محمد علي أن يرجع إلى مصر، منها أنه لما علم بهرب نابليون من منفاه في «إلبا»، وتوقع احتمال غزو الترك للبلاد المصرية، رجع مسرعًا بطريق القصير فقنا، ووصل القاهرة في اليوم الذي جرت فيه موقعة «ووترلو». ومنها أنه علم أيضًا بتدبير مؤامرات على عزله وقتله، وظن أن ذلك بإيعاز من رجال الباب العالي، أما رئيس المؤامرة فهو «لطيف باشا» أحد المماليك، وكشفَ سر هذه المؤامرة «الكخيا لاظ أوغلي باشا»، فقتل لطيفًا ومن معه بعد أن حاول الهرب والاختفاء، وكان غرضه أن يكون واليًا على مصر إذا نجح في قتل محمد علي.

وعند عودة محمد علي همَّ بتنظيم جيشه على الطراز الغربي، فأبى عليه ذلك الجند، مقلِّدين الأتراك في ذلك، ولما علم طوسون بتلك الفتن والقلاقل من جهة، وتألُّب الجيش عليه من جهة أخرى عاد مسرعًا إلى مصر، وتُوفِّي بالإسكندرية عقب مرض لم يمهله أكثر من عشر ساعات.

وكان قبل سفره قد عقد شروط صلح مع الوهابيين، إلا أنهم نبذوها ظهريًّا؛ ولذلك جهز محمد علي حملة أخرى إلى بلاد العرب بقيادة ابنه إبراهيم باشا في (شوال سنة ١٢٣١ﻫ/سبتمبر ١٨١٦م). ولم يسلك إبراهيم طريق السويس، بل نزل في النيل بجنده — في سفن أُعدت لذلك الغرض — إلى قنا، ومن ثَمَّ على ظهور الإبل إلى القصير، ثم إلى ينبع، ومنها إلى طريق المدينة المنورة.

قد أعمل الفكرة ذلك البطل العظيم في استنباط الخطط الحربية التي وقَّفته بين صميم عظماء الرجال ومشاهير القوَّاد، وأعانه على تنفيذ تلك الخطط مَهَرة الضباط والمهندسين الفرنسيين، على أن والده قد أوصاه أن يحارب كل قبيلة معاضدة للعدو على انفرد؛ ليكون بذلك أقدر على الفتك بجنودها، وتفريق كلمتها وتمزيقها شرَّ ممزق، كما نصح له ألا يتوغل داخل البلاد، وحذَّره من الإغارة على الدرعية من طريق غير طريق المدينة المنورة؛ ليحفظ لنفسه خط الرجعة، وليكون وصول المدد إليه من السهولة بمكان. وأول موقعة الْتَحم فيها جيشه مع الوهابيين كانت عند «الريْس» سنة (١٢٣٢ﻫ/١٨١٧م)، وفي هذه الملحمة انهزم جيشه هزيمة لم تَثْنِ من عزمه، ولم تَفُتَّ في ساعده، بل استمر سنة كاملة في كفاح وجلاد، حتى ذلل كل صعوبة اعترضته في هذا المضمار؛ ولذلك أخضع قرًى كثيرة، وصار قاب قوسين أو أدنى من الدرعية حاضرة الوهابيين، وهي على بعد ٤٠٠ ميل من المدينة المنورة التي اتخذها قاعدة لأعماله الحربية.

وابتدأ إبراهيم باشا في حصار الدرعية في (جمادى الآخرة سنة ١٢٣٣ﻫ/أول شهر أبريل سنة ١٨١٨م)، فمكث مدة يعالج فتحها وهو مستعصٍ عليه، وفي غضون ذلك انفجر مخزن ذخيرته فلم تفتر همته ولم يساوره اليأس؛ لأنه كان على يقين من استياء العالم الإسلامي أجمع من فظاعة الوهابيين، هذا إلى أن تلك الحروب في الحقيقة كانت حربًا بين العنصرين التركي والعربي، وكلاهما يود لو يضعف الآخر أمامه، فيميل عليه ميلة واحدة يكون فيها القضاء المبرم عليه.

figure
عبد الله سعود في سرادق إبراهيم باشا.

بعد ذلك أخذ إبراهيم باشا يمد يد التخريب والتدمير في ضواحي مدينة الدرعية، ليحول بينها وبين المؤنة والمدد؛ وبذلك اضطُر عبد الله إلى الخضوع والاستسلام لسيطرته وسلطانه، فسلَّم نفسه في (ذي القعدة سنة ١٢٣٣ﻫ/سنة ١٨١٨م). ولم يعامله إبراهيم باشا إلا بكل كرامة وإحسان، ثم أرسله إلى والده بالقاهرة فبالغ في إكرامه أيضًا، ثم أرسله إلى الباب العالي بعد أن استرد منه كل ما سلبه من الحرم الشريف، وبعد وصوله بزمن يسير أُمر به فقُتل. فلما بلغ أهل الدرعية مقتله هاجوا وماجوا، وانتثر عقد نظامهم؛ ولذلك أرسل محمد علي في طلب قرابة عبد الله إلى القاهرة، وأجرى عليهم وظائف تقوم بمعاشهم.

أما مدينة الدرعية فأصبحت أثرًا بعد عين؛ لأن إبراهيم باشا رأى بقاءها عامرة حجر عثرة في طريقه، ولو تركها من غير تخريب لكانت ركنًا مكينًا ومعقلًا حصينًا لأعدائه، فلم يُبقِ عليها لذلك، وساعده على تخريبها الأهالي أنفسهم، تقرُّبًا إليه واسترضاءً له.

هكذا انتهت الحروب في بلاد العرب بعد القضاء على سلطة الوهابيين، الذين كانوا يدَّعون أنهم يسعَوْن في سبيل استرداد مجد الإسلام الضائع.

(٣) فتح السودان

بعد أن تم النصر المبين لمحمد علي وقضى على الوهابيين القضاء المبرم، واستأصل شأفتهم من بلاد العرب، عنَّت له حاجة شديدة إلى فتح السودان، وضمه إلى سلطانه ونفوذه؛ وذلك لأسباب سياسية ومادية.

أما الأسباب السياسية فتُلخَّص فيما يأتي: لَمَّا قضى محمد علي على دولة المماليك في مذبحة القلعة هرب أناس كثيرون منهم واعتصموا بالوجه القبلي، فطاردهم إبراهيم باشا حتى اجتازوا الحدود المصرية، وتحصَّنوا في دنقلة وأقاموا بها القلاع والحصون، وقد احتال محمد علي في القبض عليهم والإيقاع بهم فلم يفلح.

هذا إلى أن جنده الألبانيين كانوا خطرًا عليه في كل وقت؛ لأنهم كانوا لا يُنزلونه من أنفسهم إلا منزلة فرد منهم، وكان الضباط يشقُّون عصا طاعته ويأتمرون فيما بينهم ليُسقطوه، ولم يذعنوا للإصلاح الذي أدخله في الجيش؛ ولذلك كان يصدِّرهم في مقدمة الجيش عند الالتحام ليبيدهم ويقضيَ عليهم فيربأ بنفسه عنهم، ويستبدل بهم أبناء السودان — الذين شبوا على الشجاعة والصبر ومقاومة أعباء الحروب — بعد تدريبهم على الفنون الحديثة الحربية؛ لأنه اعتقد أن أبناء مصر لا يصلحون للتجنيد لما ينقصهم من الصفات التي تؤهلهم لذلك.

أما الأسباب المادية فتُلخَّص أيضًا فيما يأتي: أراد محمد علي فتح السودان ليتسنى له بذلك تجديد طرق القوافل التي كانت بين مصر والسودان؛ فيتسع نطاق التجارة بين القطرين، ويناله من هذه التجارة ما يفرضه عليها من ضرائب ومكوس جمة، حتى يسترد ما أنفقه في محاربة الوهابيين، ويكون ذلك موردًا دائميًّا من موارد خزانته، فضلًا عما كان يسمع عن السودان وما فيه من مناجم الذهب الغنية التي يمكن استخراجها والانتفاع بها.

وإن من البواعث التي حرَّكته لفتح السودان ما رآه من أن سعادة مصر متوقفة على استحواذه عليه وضمِّه إلى ملكه؛ لأن ريف مصر متوقف ريُّه على روافد النيل العليا؛ ولذلك أصبح من المحتم أن يكون النهر وروافده تحت سلطة واحدة، ليمكنها بذلك توزيع المياه على حسب الحاجة مع مراعاة المصلحة العامة.

ولما عزم محمد علي على إنفاذ رأيه، ورأى أن فتح السودان أمرٌ من العِظَم بمكان، سيَّر جيشًا بادئ بَدء إلى واحة سيوة لإخضاعها قبل الزحف على السودان، حتى لا تكون مصدر شرٍّ بجواره، فسار هذا الجيش الصغير في (جمادى الأولى سنة ١٢٣٥ﻫ/فبراير سنة ١٨٢٠م)، فأخضع سكان الواحة، وصارت جزءًا متممًا لمصر من ذلك الوقت.

أما حملة السودان فإنها ابتدأت السير من القاهرة في (شوال سنة ١٢٣٥ﻫ/يوليو سنة ١٨٢٠م)، وكانت مؤلفة من ثلاثة آلاف راجل، وألف وخمسمائة فارس، واثني عشر مدفعًا، وخمسمائة من عرب العبابدة تحت إمرة شيخهم «عابدين كاشف» — وكان قد وعده محمد علي بولاية دنقلة بعد فتحها — فتجمع الجيش في أسوان، حيث رُتِّبت هناك الميرة والذخيرة.

ولما خرج إسماعيل باشا — وهو أصغر أولاد محمد علي — لتولي قيادة الجيش اجتاز هو ومن معه الحدود المصرية، ودخلوا أرض دنقلة، حيث تقيم البقية الباقية من المماليك الذين طاردهم إبراهيم باشا كما تقدم والتجَئُوا إلى هذا الإقليم.

فلما علموا بذلك انقسموا قسمين: قسمًا سلَّم صاغرًا بدون معارضة، وآخر ركب رأسه فارًّا إلى كردفان بعد أن تشتت شمله وناله من العناد والذلة ما ناله.

ومما هو خليق بالذكر هنا أن إبراهيم بك الكبير مات بدنقلة قبل الحملة بزمن يسير، وبموته انقرضت رؤساء هذا العنصر الذي حكم مصر ستة قرون تقريبًا.

سار إسماعيل وبيده زمام القيادة العامة ولم يعترضه في طريقه عقبات تُذكر حتى وصل مدينة «كُرْتي»، حيث سحق عرب الشيخية وشتت شملهم في موقعتين فاصلتين؛ ومن ثَمَّ يمم جيشه «بربر»، ودخلها بدون مقاومة في (جمادى الآخرة سنة ١٢٣٦ﻫ/مارس سنة ١٨٢١م). وفي ٤ شعبان من تلك السنة دخل أيضًا مدينة «شِنْدِي» التي سلَّمها الملك «نَمِر»، وتم له إخضاع قبيلة الشيخية. وما زال إسماعيل متوغلًا في البلاد حتى وصل رأس الخرطوم، ثم حوَّل وجهه شطر النيل الأزرق، ولحسن حظه دخل «سنَّار»، وهي حاضرة أكبر إقليم في السودان، بدون معارضة تذكر؛ وذلك أن سلطانها «بادي» وأخاه كانا إذ ذاك يتنازعان الملْك، فنجح إسماعيل في تثبيت عرش «بادي»، الذي قابله بكل تجلة وحفاوة، ثم قَبِلَ أن يكون نائبًا عن محمد علي في هذه الأرجاء الشاسعة مع الاعتراف بسلطانه. ومن هناك أرسل إسماعيل آلافًا من العبيد إلى أسوان؛ حيث أُعدَّ لهم معسكر لتدريبهم على الفنون الحربية الحديثة.

وتفشَّى المرض في جيش إسماعيل أثناء إقامته بسنار، حتى اضطُر إلى أن يطلب مددًا ومئونة من أبيه لانحطاط قوة الجيش لقلة عدده وفتور عزيمته، ذلك إلى أن جنده كانوا بين قبائل شتى معادية لهم، ولا يمكنهم أن يصدوا هجماتهم إذا ثار ثائرهم وخرجوا عليهم.

لذلك كان إسماعيل قلقًا مضطربًا، ولكن هدأ روعه وسكن اضطرابه إذ علم بوصول المدد إليه، فرجع قافلًا منحدرًا إلى ملتقى النيل الأزرق بالنيل الأبيض، حيث وصل المدد الذي أرسله أبوه تحت إمرة أخيه «إبراهيم باشا»، فلما وصل إسماعيل بجيشه والتقى بأخيه اتفقا على تقسيم العمل والجيش معًا؛ فكانت مهمة إسماعيل الزحف بجيشه إلى أعالي النيل الأزرق بقدر استطاعته، وأما مهمة إبراهيم فهي الاستكشاف عن النيل الأبيض من الجهة الغربية، وكان الباعث له على ذلك رغبته في الوصول بجيشه إلى المحيط الأتلنتي إذا كان النيل الأبيض متصلًا بنهر النيجر، وإذا لم يتحقق له ذلك عاد إلى كردفان وعبَّأ جيشًا يسيرُ به نحو الشمال مخترقًا الصحراء حتى يصل إلى طرابلس، ومن هناك إلى البحر الأبيض المتوسط. وإن هذه الخطة لتدل صراحة على مقدار ما كان يطمح إليه محمد علي وأولاده، كما تدل على مقدار هممهم العالية وثقتهم بأنفسهم.

وصل إسماعيل في زحفه على النيل الأزرق إلى «تومات»، أما إبراهيم باشا فقد اعترضه مرض شديد، حال بينه وبين تنفيذ خطته، واضطره إلى العودة لمصر بعد أن وصل جيشه إلى جبل «دِنْكا» جنوبًا.

وفي منتصف عام (١٢٣٧ﻫ/١٨٢٢م) أرسل محمد علي جيشًا ثالثًا تحت قيادة صهره «محمد بك الدفتردار» لغزو كردفان، فهزم بعض القبائل عند مدينة «بارا»، واستولى على الأبيض، وضم إقليم الأبيض إلى مصر.

ومما قام به هذا الجيش أيضًا الانتقام من «نمر» ملك شندي على نكايته بإسماعيل ومن معه.

وذلك أن إسماعيل وهو عائد إلى مصر ظافرًا منصورًا أهان نمرًا إهانة شنيعة، فأسرَّها نمر في نفسه، وأخذ يفكر في طريقة الانتقام من إسماعيل، حتى بيَّت رأيه على أن يأدب مأدبة فاخرة يدعو فيها إسماعيل ومن معه، فلما تم له ذلك، ولبَّى دعوته إسماعيل ومن معه، أمر أتباعه وأشياعه بأن يجمعوا حول نُزُله حطبًا ومواد ملتهبة ثم يضرموا فيها النار، ففعلوا فشبت النار في النُّزُل، فدمرته وحرقت جميع من فيه، وكان بين المحروقين إسماعيل، الذي لبَّى دعوته جاهلًا بنيته الخبيثة.

figure

على أن الجيش لم يظفر بقتل نمر، ولكنه أحرق شندي بعد أن أخضع كل الإقليم، وبعد ذلك بنى مدينة الخرطوم سنة (١٢٣٨ﻫ/١٨٢٣م)، وجعلها حاضرة البلاد.

ومما تقدم نعلم أن الحملة على السودان لم تقم بتحقيق جميع الأغراض التي كان يرمي إليها محمد علي؛ لأنه لم يجد في السودان ذهبًا يفي بنفقات استخراجه من مناجمه، ولأن طرق القوافل لم تثمر لكثرة الضرائب الفادحة التي كانت تجبى على البضائع عند الحدود المصرية. أما التجنيد من أبناء السودان فلم يتحقق تمامًا؛ لأنه جنَّد منهم جيشًا عظيمًا، ولكن جوَّ مصر لم يكن ملائمًا لهم؛ فمات عدد عظيم من هذا الجيش؛ ولذلك أضرب محمد علي عن التجنيد منهم، وعاد إلى التجنيد من المصريين.

وقد ازداد الاتجار بالرقيق بعد فتح السودان زيادة عظيمة، حتى اضطُرت إنجلترا وفرنسا للتدخل في الأمر، فوعد محمد علي أن يقضيَ على هذه الحرفة الشنيعة التي تنافي الإنسانية؛ ولذلك خرج لزيارة السودان عام (١٢٥٤ﻫ/١٨٣٨م)، وأمر بمنع بيع الرقيق جملة، ولكن رغم ذلك كله بقي الاتجار به منتشرًا إلى زمن قريب، ولم يضمحل تمامًا إلا بعد الاحتلال البريطاني كما سيأتي.

(٤) أعمال محمد علي باشا في الديار المصرية

مقدمة

علمنا ما كانت عليه البلاد من الفوضى في عهد العثمانيين، وكيف كانت تئنُّ تحت ظلم المماليك وعسفهم، وجور الجنود الأتراك الذين ساموا العباد نهبًا وسلبًا، حتى عمَّ الفقر وكثرت الاضطرابات، وأصبحت البلاد كأنها بلا حكومة؛ فلم يكن إصلاح هذه الحالة بالأمر الهين على كل من أراد النهوض بالبلاد، وجعلها في صف الأمم الراقية.

فلما قبض محمد علي على زمام الأمور بمصر وهمَّ بإصلاح شأنها، ظهرت أمامه كل هذه الصعوبات، وعرف مقدار الأعباء الملقاة على عاتقه، فلم يَدَعْ وسيلة في سبيل تحقيق هذه الأمنية إلا اتخذها. وقد كان يشعر بصعوبة المهمة التي أقدم عليها، حتى قال في حديث له عن إصلاحاته: «إن ثمرة غرسي سيجنيها أحفادي من بعدي؛ لأن بلادًا عمَّ فيها الارتباك وساد، ودُرست فيها معالم الحكومة وآثارها، وأصبح أهلها في الدور الأول من النشء، وبلغوا من الجهل درجة لا يتسنَّى لهم معها أن تقوم بعمل نافع؛ لا يدخلها التمدين إلا ببطء.»

ولو نظرنا إلى الأعمال الخطيرة التي قام بها في سبيل إصلاح البلاد لدُهشنا من أن فردًا واحدًا وُفِّق لكل هذه الأعمال التي لا زالت خالدة بيننا إلى الآن؛ فهو الذي وضع أساسًا متينًا لحكومة عادلة منتظمة، وأنقذ البلاد من ذلك النظام الممقوت الذي وضعه السلطان سليم، وهو تقسيم البلاد بين الوالي المُوَلَّى من قِبل الباب العالي وبين المماليك، وأغاثها من جور الجنود العثمانيين الذين كانوا يغيرون على البلاد إذا تأخر ما هو مفروض لهم، وأنشأ الطرق وحفر الترع وأصلح الزراعة، وشيَّد المعامل ودور الصناعة، وأسس المدارس الابتدائية والثانوية والعالية، واستحضر إليها كبار الأساتذة الغربيين لنشر العلوم الحديثة بين أبناء رعيته، وأوفد البعوث العلمية إلى أوروبا لتعود مزوَّدة بعلومها ومعارفها وأسرار تقدمها، وكان في ذلك يحارب جهل الأمة حتى قضى على ما عندها من خرافة أو عادة ممقوتة، وكان يسوق التلاميذ إلى تلقِّي العلوم والمعارف رغم معارضة آبائهم وعويلهم كأنما يُساقون إلى الموت وهم ينظرون.

قام محمد علي بتلك الأعمال الجليلة التي لا ينكرها إنسان، مع أنه لم يَنَلْ في صغره نصيبًا من التعلم، كما أنه لم يكن ملمًّا تمام الإلمام بالحضارة الأوروبية؛ ولذلك لا يُدهش المؤرخَ خطؤه أحيانًا في بعض الإصلاحات والمشروعات الصناعية، ولا يأخذ عليه ذلك، بل يغتفر له غلطاته بملء صدره بشفاعة أعماله النافعة.

وإذا قلنا بأن غرضه الأول في مصر لم يكن إلا أن ينشئ له مُلكًا ينصره بجميع الوسائل الممكنة لجمع الأموال، وحشد الجنود لحروبه العديدة التي لم تجنِ منها مصر ثمرة تُذكر؛ فلا يغرب عنا أنه ما لبث حتى أدرك أن لا قيام لملكه إلا بإصلاح مصر، فأخلص في محبتها، وعمل على أن ينهض بها إلى مستوى الرقيِّ والفلاح قدر استطاعته، مقتديًا في ذلك بالدول الأوروبية العظيمة، وكفاه فخرًا أنه أول حاكم شرقي أدخل المدنية الحديثة في بلاده، وكثيرًا ما كان يصرِّح في خلال أحاديثه بمحبته لمصر وميله لرقيها. من ذلك أنه قال لأحد الغربيين أثناء حديث له:

لا شك أنك تعلم أن مصر كانت في قديم الزمان سيدة ممالك العالم وعلمها الذي يُهتدى به. أما الآن فقد أخذت أوروبا هذه المكانة، وإني لآمل أن يأتيَ يوم تنهض فيه إلى مكانتها الأولى في التمدين والعمران. وما هذه الدنيا إلا صعود وانخفاض.

(٤-١) الحكومة في عهد محمد علي

إن من يفكر في الصعوبة التي تعترض الحاكم عند إنشائه نظام حكومة جديدة في بلاد كمصر كانت مجالًا فسيحًا للسلب والاضطهاد والفوضى؛ لا يسعه إلا أن يعترف بأن ما قام به محمد علي في تلافي هذا الخلل يستحق عليه أعظم ثناء، ويجعله في عداد كبار المصلحين على قلة عددهم وبُخل الزمان بأمثالهم؛ لذلك يُقابَل بالقبول ما بالغ به في مدحه «السير مَرِي» — في مذكراته عن حياة محمد علي — إذ يقول:

إن العالم الإسلامي منذ فناء دولة العرب الزاهرة من بلاد الأندلس لم يظهر فيه حاكم يضارعه في أعماله وصفاته، فَمثَلُهُ مَثَلُ صلاح الدين في عدله وتسامحه الديني.

ويجب على من يريد أن يحكم على محمد علي وما أدخله على حكومة مصر من التغييرات، وأن يقارنه بنابغ من ساسة عصره الغربيين، أن يلاحظ الزمان والمكان لكلٍّ منهما، حتى تكون مقارنته قوية الأساس، لا يتطرق إليها الخطأ.

تولى محمد علي الحكم فلم يغير ما كان عليه نظام الحكومة في عصر المماليك حتى عام (١٢٤١ﻫ/١٨٢٦م)، وهو العام الذي أدخل فيه التعديل العظيم في نظام الحكومة، متخذًا الأنظمة التي وضعها نابليون للبلاد رائدًا له.

فأنشأ «ديوانًا خديويًّا»٢ جعل مقرَّه القلعة، وكان يرأسه الوالي، وينوب عنه في غيابه «الكتخدا»، وكان عمله الفصل في الأمور التي ليست خاصة بالقاضي الشرعي أو التي لا يحتاج الأمر فيها إلى عرضها على القاضي، أو على مجلس آخر وذلك لظهورها وجلائها. وكان هذا الديوان يفصل في القضايا التي يعرضها ضابط القاهرة٣ بعد تحقيقها ابتداءً في المحارس «القرهقولات».

ثم أنشأ مجلسين: أحدهما كان يُسمَّى «مجلس المشاورة الملكي» وينتخب هو أعضاءه بنفسه، وكان عددهم يتراوح ما بين ٣٠ و٤٠ عضوًا، وكانوا ينظرون في شئون البلاد العامة، وعليهم تُعرَض القوانين قبل سنِّها. ومع أن رأي هذا المجلس كان استشاريًّا محضًا، تمكن به محمد علي من تخفيف عبء المسئولية الملقاة على عاتقه أمام شعبه وأمام الدول الأجنبية.

وأما المجلس الآخر فكان بمثابة مجلس الوزراء الآن.

وقد أنشأ محمد علي فوق ذلك عدة دواوين أخرى تنم أسماؤها عن اختصاصاتها، وأهمها «مجلس المشاورة العسكرية»، و«ديوان دار الصناعة — الترسخانة — أو البحرية»، و«ديوان التجارة»، وكان هذا الديوان مكونًا من تجار مختلفي الجنس والديانة، يرأسهم نقيب — شاهبَنْدَر — التجار أو رئيس تجار القاهرة.

وقد اقتضت إدارته الداخلية للبلاد تقسيم القطر إلى سبع مديريات، وإلغاء الأقسام التي كانت في عهد المماليك، ثم قسم كل مديرية إلى عدة مراكز بلغت ٦٤ مركزًا، ثم قسم المراكز إلى أخطاط أي نواحٍ، يدير شئونها موظف يلقَّب بالناظر، وإلى قرًى يتولى أمورها العُمَد ومشايخ البلاد، وكان غرضه من هذا التقسيم تسهيل جمع الضرائب.

بَيْدَ أنه رغم هذه الأنظمة والتقسيمات كان يتولى شئون البلاد بنفسه منفردًا بالسلطة وحده؛ فكان يفاوض سفراء الدول الأجنبية بنفسه، ويسمع شكوى رعاياه ومطالبهم بلا واسطة، ويتصرف في مالية البلاد، ويقوم بالمشروعات العامة.

(٤-٢) التقدم المادي

أراد محمد علي أن ينهض بالبلاد بإدخال الإصلاحات الغربية فيها ابتداءً، وفاتَه أن البلاد كانت تسبح في ظلمات الجهل، وأنها في حاجة إلى زمن كبير تنفقه في التعليم حتى تصل إلى درجة تمكِّنها من استثمار الأرض بالطرق الفنية، وإدارة المعامل والسير في التجارة حسبما يقتضيه النظام الأوروبي الذي عمل على إدخاله في البلاد. ولا شك أنه كان يشعر بشيء من ذلك، إلا أن الأحوال التي وُجِدَ فيها كانت تحتِّم عليه السير في هذه الطريق بسرعة؛ إذ كان في شدة الحاجة إلى المال للإنفاق على الجيش ودفع الجزية للباب العالي، وإرضاء أولي الشأن في القسطنطينية، ورأى أنه لا يتم له هذا الغرض إلا إذا جعل جميع موارد البلاد تحت سيطرته مباشرة؛ من زراعة وصناعة وتجارة.

الزراعة

كانت الزراعة أول عمل وجَّه إليه محمد علي عنايته الخاصة؛ إذ رأى أنها ينبوع ثروة البلاد، وعليها يتوقف أهم دخلها السنوي؛ فجعل زراعة جميع الأراضي تحت إشرافه، كي لا يفرَّ أحد من دفع الضرائب، وتشدد لذلك في المحافظة على الأمن العام، فقبض بيدٍ من حديد على عصابات اللصوص التي كانت منتشرة في جميع أنحاء البلاد.

ولم يكتفِ بضرب الضرائب الفادحة، بل عزم على نزع مِلكية جميع الأراضي ليستغلها على نفقته الخاصة، فلما همَّ بإبراز هذه الفكرة إلى حيز الفعل قامت في وجهه صعوبات عظيمة كان لا بد من تذليلها؛ وذلك أن الأراضيَ الزراعية في مصر كان بعضها أوقافًا خيرية يدير شئونها جماعة العلماء، وكان جزء آخر كبير جدًّا ملكًا للمماليك أصحاب الشأن والنفوذ في البلاد، وما بقي كان في قبضة عامة أفراد الأمة، فاستعمل محمد علي مع كل طائفة من هؤلاء التهديد والوعيد، حتى أصبح المالك الوحيد لأكثرها؛ فإنه استولى على أملاك المماليك في الوجه البحري بعد حربه مع الإنجليز عام ١٨٠٧م وطرده المماليك من ريف مصر إلى صعيدها.

واستولى بعد ذلك على معظم الأراضي الموقوفة التي كانت تحت رعاية العلماء، فجعل الوقف تحت رقابته من غير أن يحله، فاحتجَّ عليه العلماء وتجمهروا وعارضوه معارضة شديدة، فأقنعهم بالدليل القاطع أنه الوالي من قِبل الخليفة الذي يتولى أمور المسلمين جميعًا، فهو أحق فرد في مصر برعاية الوقف؛ ومن هذا الوقت بقي الوقف تحت إشراف الأسرة المحمدية العلوية.

ونزع بعد ذلك ملكية الأراضي التي كانت لبقية الأفراد، مدعيًا حقَّ التسلط على كل الأراضي؛ لأنه الحاكم النائب عن الخليفة المالك للأرض بحكم الفتح الإسلامي القديم، فاستحضر كل المُلَّاك وطلب منهم إبراز حقوق ملكيتهم، فقدموا إليه حججهم رغم أنوفهم، فكان يضرب ببعضها عُرض الحائط، ويُظهر بطلان بعضها، ويُمنِّي بعضَ الملاك أحيانًا بعوض يُعطاه من الخزانة. ولما أصبحت جميع الأملاك في قبضة يده جمع كل ما لديه من الحجج وأعدمها، وبتعاقب الأيام أصبح من المستحيل معرفة ما كان للمماليك أو للوقوف أو لأفراد الأمة من الأرض؛ إذ لم تَقْوَ المحاكم على معارضة محمد علي، وكانت الأهالي تحت رحمته؛ وبذلك أصبح معظم أراضي القطر في قبضة يده إلا جزءًا يسيرًا كان في قبضة بعض العلماء والأمراء.

اهتم بعد ذلك بتدبير الوسائل التي تسهِّل عليه زراعة هذه الأراضي، فاستخدم الفلاحين طبعًا في زراعتها، فأصبحوا بمثابة الموالي، وكانت القاعدة أنه مادام الفلاح قادرًا على دفع ما فُرض عليه أداؤه من ثمرتها، يبقى في الأرض يتعيَّش منها وتخلفه من بعده ذريته.

وظل الفلاحون هكذا محرومين من التمتع بحق امتلاك الأراضي إلى زمن غير بعيد، وذلك عندما سنَّ سعيد باشا قانونه المختص بأرض مصر، وتلاه من بعده قانون المقابلة الذي وضعه إسماعيل باشا، ثم القانون الذي سنَّتْه المحاكم الحديثة خاصًّا بحق امتلاك الفلاح للأرض.

ثم أمر محمد علي مديري البلاد بمسح الأطيان، وتقدير عدد الفدادين التي تخص كل قرية، ماعدا الضِّياع التي كانت توهب للمقرَّبين وذوي الحظوة؛ فهذه كانوا لا يتدخلون في أمرها، وكانت بالطبع شيئًا قليلًا، أما العدد الأوفر من القرى المصرية فكانت تحت سيطرة محمد علي؛ إذ كان يدير شئون كل قرية فئة من مشايخ البلد يرأسهم عمدة مُنصَّب من قِبل المدير، مسئول أمامه عن مقدار ما يُطلب من قريته من الضرائب؛ ولذلك كان العمدة يوزع الأراضي على الفلاحين حسب اختياره، ثم يجمع منهم الضرائب على قدر ما يفلح كلٌّ من الأرض. وما أشبهَ الفلاحَ في هذه الحالة بالحيوان تحت رحمة العمدة! أما العمدة فكان مَثَلُه كمَثَل السوط في يد المدير الذي كان صاحب البأس والسطوة الذي لا يسيطر عليه أحد إلا الوالي مالك مصر الوحيد.

هذه هي الطريقة التي اتبعها محمد علي منذ عام (١٢٢٣ﻫ/١٨٠٨م) وسار على مقتضاها ٢٠ عامًا، وبها أمكنه أن يجنِّد الجيوش، ويعدَّ الأساطيل، ويحارب الأمم ويُخضعها.

وكان من عادته أن يعيِّن أنواع المحصولات التي تُزرع في كل بقعة من بقاع المملكة، ثم تؤخذ المحصولات جميعها وتوضع في أهراء الحكومة، ويُقدِّر أثمانها طائفة من رجال الحكومة؛ فكان جزء منها يؤخذ في مقابل الضرائب التي على الأرض، وما بقي تشتريه الحكومة فتصنع بعضها في مصانعها، والجزء الأعظم يباع إلى التجار الأوروبيين؛ وبهذا احتكر محمد علي كل التجارة في مصر.

ولا يسعنا في هذا المقام إلا أن نذكر شيئًا عن المحصولات التي جلبها هذا المصلح الكبير إلى البلاد ولا نزال ننتفع بها، وكانت نتيجة زرعها ازدياد ثروة البلاد؛ مما أعانه على شنِّ الغارة على أعدائه. وأهم هذه النباتات وأعظمها ربحًا للبلاد القطن الذي أشار بغرسه المسيو «جوميل» في عام (١٢٣٥ﻫ/١٨٢٠م)، وهو أحد النساجين الفرنسيين المستخدمين بالحكومة المصرية وقتئذٍ، وقد أنتجت تجارب زرعه محصولًا حسنًا، لجودة التربة وملاءمة الجو؛ وبذلك ابتدأ طور جديد في تاريخ مصر المادي. وجلب بذوره من الهند أولًا، ثم من أمريكا فيما بعد من صنف يُعرف بقطن «الجزائر»، وهو أجود نوع في العالم. وقد كان يُزرع القطن في مصر قبل عصر محمد علي بقرون عديدة، غير أنه كان من صنف رديء، ولا يُعرف تاريخ جلبه إلى البلاد.

وقد عُني فرنسي آخر بزراعة القِنَّب في مصر، لصنع الحبال اللازمة للأسطول، بزراعتها من جزائر الهند الشرقية، وأحضر من آسيا الصغرى زُرَّاعًا مهرة في زراعة الخشخاش، وزرع الغابات والحِراج، ليستغنيَ بها عن الأخشاب التي تُجلَب من البلاد الأجنبية. ولم يَفُتْه تحسين زراعة الجنائن؛ إذ أنشأ ابنه إبراهيم باشا في جزيرة الروضة حديقة غنَّاء، فيها من الفاكهة والرياحين ما لذَّ وطاب، وذلك بهمة رجل أيقوسي من مهرة العالِمين بفن الجنائن.

ومما سبق يظهر جليًّا أن جلب هذه المحصولات وزراعتها، وتحسين حالة الري، — مما سيأتي ذكره عند الكلام على الأعمال العامة — كان من أكبر النعم على مصر لو كان الفلاح يضمن بيع محصوله بأثمان مناسبة، ولكن لسوء حظه كانت معاملاته كلها وبيع محصوله يتوقف على عمَّال الحكومة الذين يلاحظون الزراعة، وعلى أمانة الذين يقدِّرون أثمان المحصولات التي كانت تشتري جميعَها الحكومة. والظاهر أن الفلاحين كانوا يتحمَّلون في ذلك مغارم كبيرة؛ إذ كانت تُشترى منهم بأثمان بخسة وموازين مغشوشة، فضلًا عن أنهم كانوا لا يأخذون أثمان سلعهم نقدًا، بل في معظم الأحيان يُجبَرون أن يبادلوا بها مصنوعات معامل الحكومة ترويجًا لها.

الصناعة

رأى محمد علي أن الممالك الصناعية بأوروبا على جانب عظيم من الثروة وسعة الرزق، فحاول إدخال صناعاتها في مصر، وأن يشجِّع الصناعات الوطنية أيضًا، حتى يتسنى له صنع كل ما يحتاج إليه من لوازم الجيش ومعدات الأسطول، وينافس الغرب في صناعة المنسوجات.

ولا يخفى ما في ذلك من المصاعب لضرورة جلب الفحم والحديد والأخشاب والآلات من الخارج، ولأنه أيضًا يلزم المصريين زمن طويل وخبرة كبيرة حتى يصلوا إلى درجةٍ بها يمكنهم أن ينافسوا أعمال أوروبا. إلا أنه قاوم كل هذه الصعوبات وأنشأ عدة معامل في أنحاء القطر، وفت بغرضه مدةً من الزمان.

فمن أهم ما أنشأه معامل الغزل ونسيج القطن والحرير والكَتَّان والصوف. فكان للقطن خاصةً ثمانية عشر معملًا في أمهات مدن القطر، كالمنصورة ودمياط ورشيد — التي كان ينسج فيها كِرْباس أشعة السفن — وفي المحلة الكبرى وزفتى ومُنية غمر وبني سويف. وأهم هذه المعامل معمل بولاق، وكان يسمى «معمل مالِطة» لكثرة المالطيين فيه، وكان رئيسه المسيو «جوميل» الفرنسي.

وأنشأ مُبَيِّضَةً للمنسوجات بين بولاق وشبرا.

وأنشأ في بولاق معملًا للجوخ، أحضر له في مبدأ الأمر رجالًا من الفرنسيين لإدارته، ثم أرسل الشبان إلى معامل «سيدان» و«ليون» بفرنسا ليتعلموا صناعته، فلما رجعوا حسَّنوا صناعة هذا الصنف، وصار يُستعمل في ملبوس الجيش.

وأسس مصابغ للمنسوجات استعمل فيها النيل — النيلة — الذي كان يستخرج من البلاد.

وأنشأ كذلك معملًا عظيمًا للطرابيش بمدينة فُوَّه بإدارة رجل مغربي، وجلب له مهرة العمال من تونس، فنجح نجاحًا باهرًا؛ إذ كان ما يصنعه في اليوم يربو على ٧٢٠ طربوشًا.

وأنشأ أيضًا معامل للسكر في الصعيد؛ أهمها معمل الروضة ومعمل ساقية موسى، وأوجد معاصر للزيت، فكان في الوجه البحري منها عشرون، وفي القاهرة أربعون.

وقد وجَّه عنايته الخاصة إلى إيجاد جميع المواد الأصلية اللازمة لهذه الصناعات في البلاد المصرية؛ فأكثر من زراعة القطن والقِنَّب والكَتَّان — كما أسلفنا — وربَّى الأغنام وعُني بأمرها عناية عظيمة، وجلب كل صنف منها لتحسين نوع الصوف الذي في البلاد، غير أن ذلك لم يُجْدِ نفعًا لعدم ملاءمة الجو لهذه الأغنام؛ فاضطُر أخيرًا للعدول عن ذلك بعد أن بذل فيه كل مجهود.

واجتهد أيضًا في إنماء دودة القز في البلاد، ليستغنيَ بنتاجها عما يأتي إليه من الخارج، فزرع لأجلها أشجار التوت بوفرة في رأس الوادي، وحفر السواقيَ لريها، وجلب أناسًا كثيرين ممن لهم دراية بتربية دودة القز، فبلغ ما جمعه من الحرير سنة (١٢٤٩ﻫ/١٨٣٣م) عشرة آلاف أقة تقريبًا.

هذه بعض المصانع التي شيدها محمد علي في أنحاء البلاد، وناهيك بمصانعه الأخرى من المسابك وغيرها من لوازم الجيش والأسطول. ولكنها لم تَدُمْ طويلًا للصعوبات التي بيَّنَّاها آنفًا، وتلاشى بعضها في مدة حياته، واضمحل الباقي عقب موته، وأصبحت كأن لم تكن؛ يشهد بذلك ما قاله أحد مهندسي الإنجليز من أنه «زار دار الصناعة ببولاق عقب وفاة محمد علي، فوجد فيها من الآلات المهملة ما لا تقل قيمته عن ١٢٠٠٠٠٠ جنيه.»

والسبب في عدم اضمحلال هذه المعامل جملةً في أيام محمد علي يرجع إلى أمرين؛ أولهما: أنه كان القابض على زمام مالية البلاد، فكان ينفق على هذه المعامل كل ما تحتاج إليه. ثانيهما: أن المحصولات التي كان يشتريها من الأهالي كان لا يدفع ثمنها نقدًا، بل كان يبادل بها منهم مصنوعات المعامل. على أن معظم المعامل — كما سبق — أُغلق في أواخر أيامه، وبادت البقية الباقية منها في أيام عباس الأول.

(٤-٣) الأشغال العامة

قام محمد علي بعدة أشغال عامة عظيمة، عادت على البلاد بالمنفعة الجليلة والفوائد التي لا تزال مصر تجني ثمارها إلى الآن. ومن أعظم هذه المشروعات ثلاثة: حفر ترعة المحمودية، وإصلاح مرفأ الإسكندرية، وإنشاء القناطر الخيرية.
  • «أولًا» ترعة المحمودية: لا يخفى أن تجارة مصر في ذلك الوقت كانت تتوقف على نهر النيل وفروعه المنتشرة في أنحاء البلاد، وكان أهم الثغور التجارية حينئذٍ دِمياط ورشيد، غير أنهما لوقوعهما عند مصبَّي النيل تَسُد فُرَضَهما رمالُ البحر وغِرْيَنُ النهر؛ مما يجعلهما غير صالحَين للسفن الكبيرة التي تنقل التجارة الخارجية. ولاحظ ذلك محمد علي فعزم على تحويل مجرى تلك التجارة إلى الإسكندرية رغم ما بها من العيوب؛ لأنها معرضة للرياح الشمالية الغربية، وماء البحر عندها ضَحْضاح، فرأى أن من أعظم المشروعات المفيدة لذلك حفرَ ترعة تربط الإسكندرية بالنيل، فحفرها وسمَّاها «المحمودية» نسبةً إلى السلطان محمود الثاني، فأفادت هذه الترعة البلاد فائدة كبرى؛ إذ أصبحت تجري فيها السفن ذاهبة إلى الإسكندرية حاملة حاصلات البلاد في زمن قصير بدون مشقة كبيرة. وقد جمع الألوف من العمال وسخَّرهم لحفرها من جميع مديريات القطر، حتى تمت في أقرب وقت مع الأبنية اللازمة لها. وقد بلغت نفقاتها ٣٠٠ ألف جنيه، كما أورده «كلوت بك» في كتابه على مصر.

    ومن فوائد هذه الترعة أيضًا أنها كانت سببًا في عمران البلاد التي مرَّت بها وإحياء أراضيها من العطف إلى الإسكندرية، بعد أن كان أكثرها غير صالح للزراعة.

    أما مدينة الإسكندرية فإنها تغيرت بسببها تغيُّرًا عظيمًا، وجرت شوطًا بعيدًا في الثروة والعمارة، وبقيت هذه الترعة أعظم طريق للتجارة بين مصر والإسكندرية حتى أُنشئت السكة الحديدية.

  • «ثانيًا» ميناء الإسكندرية: بعد أن حفر محمد علي باشا ترعة المحمودية، كلَّف «موجيل بك» أن يصلح مرفأ الإسكندرية حتى يتسنى له بناء عمارة بحرية يحقق بها ما تطمح إليه نفسه، ويجذب بها التجار الأجانب إلى الثغر؛ تسهيلًا لبيع حاصلات البلاد التي كانت جميعها في قبضة يده. فأصلحه وبنى فيه دار صناعة بحرية وأحواضًا لبناء السفن؛ فاتسع بذلك نطاق المدينة، وانتابها التجار من كل حَدَب وصَوْب، وأصبحوا يتنافسون في شراء حاصلات مصر، حتى إن إحدى الشركات التجارية الإنجليزية اشترت في عامٍ من الأعوام محصول القطن كله.
  • «ثالثًا» القناطر الخيرية: هذه من أجَلِّ مشروعات محمد علي باشا وأعظمها فائدة للزراعة، وقد كان لها الفضل الأكبر في تنظيم الري في الوجه البحري.

    وقد قيل إن نابليون لما قَدِم إلى مصر في غارته المشهورة أدرك الفائدة التي تنجم عن إنشاء قناطر على النيل عند تفرعه لتنظيم المياه في الفرعين وقت انخفاضه؛ لأنه إذا حُجزت المياه عن أحد الفرعين اتجه ماء النيل كله إلى الفرع الآخر، فيرتفع سطحه على سطح النيل الأصلي، وتفيض المياه منه إلى الترع فتروي الأراضي، وقال نابليون عندئذٍ: «إن هذه الفكرة لا بد أن تخرج يومًا ما إلى حيز الوجود.»

    فلم يمضِ طويل عهد حتى تحقق ذلك القول، وظهر المشروع إلى حيِّز الوجود على يد البطل العظيم محمد علي باشا. ومن أهم الأمور التي حَدَتْ به إلى إنفاذه انتشار زراعة القطن في الوجه البحري؛ إذ كان ينمو في فصل الصيف ويُروَى فيه.

    وأول فكرة خطرت لمحمد علي لتدارُك ذلك أن يُزاد في عمق الترع حتى تنصب فيها مياه النيل وقت انخفاضه، فتُرفع منها بالسواقي والشواديف وغيرها من آلات الرفع إلى الأرض التي يراد ريُّها. غير أنه اتضح أن إنفاذ هذا المشروع يتطلب أموالًا جمة وجهدًا عظيمًا من الحكومة والأهلين لا يكاد يكون في الإمكان.

    ثم لاحظ محمد علي أن أكثر ترع الوجه البحري واقع بطبيعة الحال شرقي دال النيل وفي وسطها لارتفاع سطح الفرع الشرقي عن الغربي؛ فعمد إلى زيادة المياه في تلك الترع بإقامة سد أصم على الأخير يكوَّن من أحجار يُرمَى بعضها فوق بعض، ليمتنع الماء عن فرع رشيد ويرتفع في فرع دمياط فيملأ الترع الكثيرة المتفرعة من هذا الفرع. وفعلًا شرع في العمل سنة (١٢٤٩ﻫ/١٨٣٣م).

    ولكن «لينان بك» — لينان باشا فيما بعد — أحد المهندسين الفرنسيين النبغاء الذين كانوا في خدمة الحكومة المصرية، أشار عليه بعدم إقامة هذا السد الأصم لِمَا ينشأ عنه من حرمان أراضي فرع رشيد، ولرفعه مياه النيل وقت الفيضان في فرع دمياط إلى درجة يُخشى منها، وعرض عليه مشروعًا آخر، وهو إقامة قنطرتين عظيمتين في عرض فرعي دمياط ورشيد بعد نقطة افتراقهما عند رأس الدال، في كل قنطرة عيون تُحكم عليها أبواب تُرتَج في كلا الفرعين بالتناوب أثناء الصيف، فإذا حُجزت المياه وراءها عن فرعٍ ارتفع الماء في الفرع الآخر، وملأ الترع العظيمة التي تستمد منه والتي يتوقف عليها الري الصيفي في الوجه البحري، وفي أيام الفيضان تُفتح الأبواب فتسير المياه في مجراها الطبيعي بلا مقاومة.

    فأعجب محمد علي باشا بالمشروع الجديد، وأمر بتشكيل لجنة لدرسه والبدء بإنفاذه في الحال.٤ وبعد فحص طويل قرَّ رأي اللجنة على مشروع لينان باشا كما هو، واختير لموضع القنطرتين موضعان على بُعد ٩ كيلومترات في فرع رشيد و٥ كيلومترات في فرع دمياط. وعُمل التصميم على أن تستقي من النيل ثلاثة «رياحات» عظيمة؛ أحدها من فرع رشيد، والآخران من فرع دمياط.

    ثم ابتدأ العمل في أواخر (١٢٤٩ﻫ/١٨٣٣م)، واستعان محمد علي على إنجازه بسرعة بتسخير الألوف من العمال، ولكن لسوء الحظ انتشر بالبلاد وباء عام (١٢٥١ﻫ/١٨٣٥م)، ففتك بكثير من العمال، وكاد العمل يقف جملةً بالرغم من مقاومة لينان باشا ومثابرته. وما زال كذلك في الاحتضار حتى نُصِّب لينان باشا على وزارة الأشغال فلم يَعُدْ له ذلك الإشراف المباشر على إنشاء القناطر. وسئم محمد علي بطء العمل، وانقلب شغفه مللًا إلى أن أمر بتشكيل لجنة للنظر في الاستغناء عن المشروع، فأقرت اللجنة فائدة المشروع وأوصت بمواصلة العمل فيه، ولكن ملل الباشا كان قد بلغ أشده، فأمر بإيقاف العمل واستعمال ما بقي من المواد المعدة له في غيره من الأعمال.

    وبقي المشروع كأن لم يكن إلى أن قدم إلى مصر مهندس فرنسي آخر يُدعى «المسيو موجيل» — موجيل بك فيما بعد — عام (١٢٥٨ﻫ/١٨٤٢م)، فعرض على محمد علي مشروعًا آخر ضمَّنه إنشاء قلاع على القناطر لجعلها مركزًا حربيًّا للدفاع عن مصر، لعلمه باهتمام الباشا بالشئون الحربية، فأُعجب الباشا بالمشروع أيَّما إعجاب، وأمر لينان باشا أن يمد موجيل بك بما لديه من المعلومات في هذا الشأن.

    ويختلف مشروع موجيل بك عن مشروع لينان باشا بأن موضع القنطرتين في الأخير كان على بعد ٩ كيلومترات من رأس الدال في فرع رشيد و٥ كيلومترات في فرع دمياط، بَيْدَ أن موجيل بك رأى إقامة القنطرتين في موضعين قريبين جدًّا من رأس الدال؛ فصارتا قريبتين إحداهما من الأخرى كأنهما عمل واحد، وفي ذلك تسهيل لإدارة حركة القناطر وصيانتها بعد إنشائها. على أن مشروع لينان باشا كان يمتاز باختيار موضعين صالحين جدًّا لإنشاء القناطر، لصلابة الأرض عندهما وموافقة الشواطئ لذلك.

    فشرع موجيل بك في العمل عام (١٢٥٩ﻫ/١٨٤٣م) مبتدئًا بفرع دمياط، فلم تعترضه صعوبة تُذكر، إلى أن ابتدأ العمل في فرع رشيد سنة (١٢٦٣ﻫ/١٨٤٧م). فأخذ الملل يستولي على محمد علي، وأمر أن تضاعَف السرعة في إنجاز العمل، فأضرَّ ذلك بالأساس حتى صار من الضروري إصلاحه في العام التالي. ورأى موجيل بك أن يرجئ العمل سنةً حتى يصلح وتعظم متانته فلم يرضَ الباشا. وبينا الأمر كذلك إذ مات محمد علي عام (١٢٦٤ﻫ/١٨٤٨م) قبل أن يرى نتيجة المشروع الذي طالما تاقت نفسه إلى إتمامه.

    ثم تولى عباس باشا الأول ولم تكن له ثقة في نجاح هذا العمل فأراد توقيفه، لكنه خشي الرأي العام، وسمح بمواصلته. وفي سنة (١٢٦٩ﻫ/١٨٥٣م) أغضبه بطء موجيل بك فعزله، وسلَّم القناطر إلى مظهر بك، ثم استؤنف العمل في إنجاز القناطر دون الشروع في إصلاح أساسها وتقويم ما تصدع منها، فتمت بكل لواحقها من طرق وشرفات وقلاع عام (١٢٧٧ﻫ/١٨٦١م).

    وقد قُدِّرت نفقاتها لذلك الوقت بنحو ١٨٠٠٠٠٠ جنيه، عدا أعمال السخرة التي لا يستهان بها، وقد قدَّر «السير وِلْكُكْس» ما تكلفته القناطر على البلاد بنحو ٤٠٠٠٠٠٠ جنيه.

    وعندما جُربت القناطر لأول مرة اتضح أنها لا تفي بكل الغرض المراد منها إلا بعد الإصلاح. وسنأتي على ذكر ذلك عند الكلام على الأعمال العامة التي تمت بعد عام (١٣٠٠ﻫ/١٨٨٢م).

    figure
    القناطر الخيرية.
    هذه هي أهم الأشغال العامة التي قام بها محمد علي، وقد كاد يهم بإنفاذ مشروعات أخرى خطيرة، مثل مد سكة حديدية بين السويس والقاهرة، ومثل حفر قناة السويس مما سنتكلم عليه في موضعه. ونقول بمناسبة هذا المشروع الأخير: إنه بعد أن خرجت الحملة الفرنسية من مصر ظلَّ بعض العلماء الفرنسيين يفكرون في إبراز هذا المشروع الخطير إلى الوجود، وقصد جماعة منهم ليحببوا إلى محمد علي حفر هذه الترعة، فقابل مشروعهم في أول الأمر بصدر رحب، وكلف المسيو لينان — لينان باشا — أن يرسم له خطة لذلك، لكنه عاد فتراخى في الأمر. ويقال إنه لم ينظر إلى المشروع بعين الرِّضَى؛ إذ قال مرة في حديث له: «إني لا أريد أن أجعل واديَ النيل طريقًا دوليًّا.» وقال في حديث آخر: «إني أخشى أن تكون هذه الترعة بسفورًا آخر.»٥

(٤-٤) نهضة التعليم

تولى محمد علي شئون مصر في عصرٍ ساد فيه الجهل بين أهلها، وانحطت فيه مداركهم، ودُرست دور العلم عندهم، وهذه نتيجة طبيعية لحكم المماليك البيكوات، الذين قبضوا على البلاد بيدٍ من حديد مدة وضعوا فيها بين المصري وبين نور العلم الحديث حجابًا كثيفًا لم يَزِدْه طول حكمهم إلا جدَّة؛ والسبب في ذلك يرجع إلى ما فُطروا عليه من الجهالة، وعدم ميلهم إلى التعلم، واعتزالهم العالم بأسره.

فلما رأى محمد علي ما عليه البلاد من التدهور أراد أن يُصلح حال رعيته بالتعليم، فوجَّه إليه شطرًا عظيمًا من عنايته، فاعترضه في طريقه عدة عقبات؛ إذ كان الآباء يمتنعون عن إرسال أبنائهم إلى دور العلم مع تكفُّله بنفقات تعليمهم وإطعامهم وإلباسهم، وكان يحبِّب إليهم العلم والتعليم بإعطائهم الرواتب الشهرية. ومن العجيب أنه كان مع هذا يُضطَر غالبًا إلى أن يقود التلاميذ إلى دور العلم بالسلاسل والأغلال. ومن هؤلاء أفراد نبغوا وساروا فيما بعد بالتعليم شوطًا بعيدًا.

أما المدارس التي أسسها محمد علي فكانت على ثلاثة أنواع: ابتدائية، وتجهيزية، وخاصة، فأنشأ خمسين مدرسة ابتدائية في أمهات البلاد، وكان عدد مَن فيها مِن الطلبة أحد عشر ألفًا تقريبًا، وأسس مدرسة لتعليم نخبة أبناء الأمة سمَّاها كلية الأمراء، كان يتعلم فيها أبناؤه وأبناء الأمراء، بلغ عدد تلاميذها نحو ٥٠٠ تلميذ.

أما مدارسه الخاصة فكانت عديدة، وأهمها وأعظمها فائدة للبلاد مدرسة الطب، التي قضت على عهد التمائم، والسحر، والرُّقَى وغيرها من أنواع الشعوذة التي كان يتطبَّب بها المصريون. والفضل في إنشاء هذه المدرسة راجع إلى الدكتور «كلوت بك» أحد نجباء الفرنسيين الذين كانوا في خدمة الحكومة المصرية.

أُسست هذه المدرسة بأبي زعبل كطلب الدكتور المذكور سنة (١٢٤٢ﻫ/١٨٢٧م)، وكان غرضه من إنشائها ترقية هذا الفن في البلاد حتى يوجد بها أطباء تسد حاجة الجيوش البرية والبحرية. وقد قدم له في هذا الشأن تقريرًا جاء في آخره: «يجب أن يكون بمصر مدرسة للطب تكون تلاميذها من المصريين المخلصين، الذين يغارون على بلادهم ويحبون تقدُّم وطنهم. ويُتوصل إلى ذلك بإنشاء مستشفًى عموميٍّ يتعلم فيه مائة وخمسون شابًّا ممن لهم إلمام تام بمعرفة اللغة العربية قراءةً وكتابةً ومبادئِ الحساب، ويجب أن تدرس لهم اللغة الفرنسية وأنواع الطب بفروعه ولا سيما الجراحة، وتكون مدة الدراسة بها أربع سنوات، يُختبر التلميذ في آخر كل سنة منها.»

figure
كلوت بك.

فسُرَّ محمد علي من المشروع وأمر بتأسيس المدرسة وجعلها تحت رياسة كلوت بك، وأسس محمد علي بجوار هذه المدرسة مدرسة للطب البيطري، وولَّى رياستها للمسيو «هامون» الفرنسي، ومدرسة للهندسة بالخانقاه جعل رئيسها «لامبير بك» وأخرى للموسيقى بالقلعة، وبنى مدرسة لتعليم الفنون والصنائع، وأخرى لتعليم الألسن، وقد قال عنها «علي باشا مبارك» في كتاب «الخطط» في ترجمة رفاعة بك ناظرها ما يأتي: «عرض رفاعة بك على محمد علي تأسيس مدرسة لتعليم اللغات الأوروبية ينتفع بها الوطن، ويُستغنى بمن يتخرج فيها عن الدخي، فأجابه إلى ذلك، ووجَّه به إلى مكاتب القُطر لينتخب التلاميذ لهذا الغرض، فأسس المدرسة، وعند الامتحان امتُحن التلاميذ في اللغة الفرنسية وغيرها من العلوم المدرسية فظهرت نجابتهم. ثم أنشأ بها قلمًا للترجمة، تُرجم فيه كثير من الكتب الأوروبية في كل فرع من العلوم، وكان بهذه المدرسة أيضًا قسم تجهيزي خاص، فنبغ فيها رجال بارعون في إنشاء اللغة العربية والعلوم. غير أن هذه المدرسة قد أُلغيت في عهد عباس باشا الأول.»

ولم يَفُتْ محمد علي أمر تحسين الزراعة العملية، فأنشأ لها مدرسة ببلدة «نَبَرُوه» من أعمال مديرية الغربية، وأحضر إليها المعلمين وآلات الفلاحة من أوروبا لتدريس هذا الفن علمًا وعملًا، إلا أن جهل الأهالي وقف عقبة كئودًا أمام سيرها؛ فاضطُر محمد علي إلى نقلها إلى شبرا الخيمة لتكون تحت رياسة «المسيو هامون»، ولكن ذلك لم يُجْدِ نفعًا أيضًا، وأخذت في الاضمحلال حتى أُغلق بابها.

ولم تقف همَّة محمد علي باشا عند إنشاء المدارس في جميع أنحاء القطر، بل أرسل عددًا كبيرًا من الشبان المصريين إلى أعظم ممالك أوروبا — وخصوصًا فرنسا — لتلقِّي العلوم بها، حتى إذا ما عادوا إلى مصر استغنى بهم عن استزادة عدد الأوروبيين. فأرسل البعوث من المصريين ليتعلموا العلوم الغربية، وليستعينوا بآراء الفرنسيين وأفكارهم وطرق حياتهم على إصلاح شأن مصر. ومن الغريب أن آباء التلاميذ كانوا يندبون حظ أبنائهم الذين ساعدهم الحظ الأوفر باختيارهم للرحيل إلى أوروبا، واستعملوا كل الوسائط لحرمان أولادهم من ثمرة العلم، فلم يَثْنِ كل ذلك عزم محمد علي، وأرسل في عام (١٢٤٢ﻫ/١٨٢٦م) أربعين طالبًا فُتحت لهم مدرسة خاصة في باريس عُهد أمر إدارتها إلى الأستاذ الشهير «المسيو جومار»، فقام بها خير قيام، واختار لها مدرِّسين أكْفَاء، وخصص كل واحد من التلاميذ بدراسة فرع من العلوم خاص ليتقنه. وكان ممن تعلم بهذه المدرسة إسماعيل باشا الخديوي، والأمير أحمد، والأمير مصطفى فاضل، والأمير حليم باشا، وشريف باشا، ومراد باشا، وعلي مبارك باشا.٦
ثم أرسل عام (١٢٤٨ﻫ/١٨٣٢م) اثني عشر طالبًا آخرين إلى باريس ليتمموا علوم الطب، ثم أرسل غيرهم حتى صار ما أرسله إلى أوروبا إلى عام (١٢٥٨ﻫ/١٨٤٢م) يربو على ١٢٠ طالبًا، أكثرهم إلى فرنسا، وقليل منهم إلى إنجلترا، وألمانيا.٧

وكان ديوان المعارف في ذلك العصر يديره رجل كبير الهمة خطا به خطوات واسعة، وقد أشار إلى ذلك «بيتون» المؤرخ الإنجليزي في كتابه على مصر؛ إذ قال: «إن ديوان المعارف في عصر محمد علي كان في يد «أدهم بك» الذي قام بإدارة شئونه خير قيام، حتى كان أحسن دواوين الحكومة نظامًا.»

figure
بعض طلبة البعوث العلمية.

ومع ما بذله محمد علي في نشر العلوم، كان كثيرون ممن زاروا البلاد المصرية من الغربيين في أيامه متفقين على أن أكبر غلطة له أنه أراد أن يطفر بمصر طفرة في سبيل الرقي؛ فكانت النتيجة أن ما تعلمه الأهالي لم يُبْنَ على أساس متين. ونحن لا يسعنا إلا أن نقول: إن مساعيَ محمد علي في تحسين حال التعليم في البلاد كانت من أنجح أعماله في مصر؛ إذ كان هو نفسه ممن يعتقد نفع التعليم الأوروبي، فأثر هذا الاعتقاد في كثير من الأهالي أصحاب النفوذ في البلاد، وكان إدخاله العلوم الحديثة في البلاد ونبوغ الذين تعلموها في مدارس أوروبا من المصريين من الدواعي التي أدَّت إلى محو كثيرٍ من الاعتقادات القديمة في التعليم. ولا شك أن بعض الذين تعلموا في فرنسا نبغوا وبنَوْا ركنًا عظيمًا في تاريخ مصر الحديث، فضلًا عن أن ما ترجموه هم وتلاميذهم من الكتب إلى اللغة العربية وطُبع في مطبعة بولاق التي أسسها محمد علي أفاد العالم المصري فائدةً خالدة الأثر.

ومن أياديه على العلم أنه شجَّع العلماء الغربيين — وخاصةً الفرنسيين — الذين أتَوْا إلى مصر ليدرسوا تاريخ الآثار المصرية، ونخص بالذكر من هؤلاء الأفاضل العالم «شمبليون» الذي خص كل حياته بحل رموز هذه اللغة حتى أُتيح له ذلك في عام (١٢٣٦ﻫ/١٨٢١م) بعد أن جاهد في سبيل ذلك جهاد الأبطال. ثم العالم «لبسيسوس»، وقد وضع قاموسًا لهذه اللغة. ثم العالم «أمبير». وقد حل هؤلاء العلماء مشكلات عويصة في هذه اللغة ومهَّدوا الطريق لمن جاءوا بعدهم، واشتُهروا في هذا الفن إلى وقتنا هذا.

(٤-٥) الجيش

نال محمد علي ولاية مصر بفطنته وذكائه، وباغتنام الفرص والتغلب على من نازعه، وقد حصَّل ذلك على كره من الباب العالي، وإن استطاع أن يرضيَه ويحافظ على مركزه سنين قلائل بما ناله من الفخار بعد قهره الحملة الإنجليزية عام (١٢٢٢ﻫ/١٨٠٧م)، وتغلُّبه على المماليك في جميع أنحاء القطر، وقهر الوهابيين. ولكن بتعاقب الأيام ظهر له جليًّا أن رِضَى الباب العالي غير ثابت، وأن لا مندوحة له من تنظيم جيش قوي يعتمد عليه في دفع كل عدو؛ لذلك وجَّه جُلَّ عنايته لإعداد جيش يحميه من تدخل الباب العالي في الشئون المصرية، ويقهر به كل مَن ناوأه. وقد عظم شأنه بهذا الجيش، حتى قيل إنه كان في نهاية عظمته يريد أن يرث الدولة العثمانية.

ولا يخفى أن قوته كانت في أول أمره مستمدة من أبناء جلدته من العساكر الألبانية، وهو لم يكن في نظرهم ممتازًا عنهم إلا برتبيته العسكرية؛ لذلك كان وجودهم حوله خطرًا يتهدده في كل لحظة، كما كانت الجنود العثمانية أيام المماليك خطرًا على مَن يرسله الباب العالي من الولاة؛ فعمل على إبادتهم والاستعاضة عنهم بغيرهم ممن هم أقل تمردًا وعصيانًا.

ولما رأى أنه لا يستطيع إبادتهم مرة واحدة اضطُر إلى مجاملتهم في مبدأ الأمر، ورأى أن أهم أسباب ثورانهم وسلبهم ونهبهم في البلاد راجع إلى تأخير رواتبهم، فكبح جماحهم وجعلهم طوع إرادته مدة بدفعه رواتبهم بحالة منتظمة وبذله العطايا لهم.

وفي شهر (شعبان سنة ١٢٣٠ﻫ/أغسطس سنة ١٨١٥م) أراد أن ينظم جيشه على الطريقة الأوروبية، وكان الجنود لا يألفون النظام ولا سيما الأوروبي؛ فعارضوا في ذلك أشد المعارضة، وكانت النتيجة أن شبت نار الثورة في القاهرة، وتآمر الجنود على الفتك به، ونهبوا الأسواق، واضطروه إلى الاعتصام منهم بالقلعة، وقُتل في تلك الفتنة كل منظمي الجيش، إلا أنه بحذقه ودهائه تمكَّن من إخضاع الضباط بالعطايا، وأظهر لهم عدوله عن هذا المشروع، فمال الجند إلى الخضوع.

على أن كل هذا لم يثْنِ عزم محمد علي عن تنظيم الجيش كما أراد، غير أنه اتبع الحيطة والسياسة في إبراز فكرته وتنفيذ غرضه، فأقصى الألبانيين عن القاهرة تدريجًا؛ فأرسل بعضهم إلى بلاد العرب، وبعضهم إلى بلاد النوبة، ومَن بقي فرَّقه في معسكرات الأقاليم.

بعد ذلك أسس مدرسة لتعليم النظام الحربي في بلدة أُسوان لتكون قريبة من بلاد النوبة وبعيدة عن القاهرة، وعهد بأمرها إلى رجل من ضباط نابليون بونابرت اسمه المسيو «سيف».

ولد هذا الجندي العظيم في مدينة «ليون» من أعمال فرنسا عام ١٧٨٨م، وابتدأ أول طور في حياته بالخدمة البحرية، وحارب الإنجليز في موقعة «الطرف الأغر»، ثم انضم إلى جيش نابليون البري، وحارب في عدة مواقع بقيادة نابليون. ولم يساعده الحظ في الالتحام بموقعة «وُوتَرلو»، فترك فرنسا قاصدًا مصر، حيث نال الحظوة التامة عند محمد علي بما قام به من الخدم التي سنذكرها في موضعها. وقد اعتنق الدين الإسلامي، وترقَّى في الجيش المصري حتى وصل إلى أعلى رتبة فيه، وكان يُعرف بعد إسلامه باسم سليمان باشا الفرنسي — الفرنساوي.

figure
القلعة (منظر عام).

قام ذلك الرجل العالي الهمة بتنظيم هذا الجيش بأسوان مدة ثلاثة أعوام، أعدَّ في أثنائها ضباطًا كثيرين ليقوموا بأمر الجيش الجديد، وكان معظمهم من شبان المماليك وصغار ضباط الألبانيين والأتراك، أما العساكر الذين تألف منهم الجيش الجديد فكانوا في أول الأمر من أسرى حروب السودان، غير أن كثرة الوَفَيَات بينهم؛ لعدم ملاءمة الجو اضطرت محمد علي إلى العدول عن التجنيد منهم، وابتدأ يجنِّد الجيش من فلاحي مصر. وقد كان هؤلاء يأبون الانتظام في سلك الجندية كل الإباء، وبذلوا في ذلك كل طاقتهم؛ فكان الآباء يشوِّهون خَلْق أبنائه: إما بقطع الأصابع، أو بفقء العين، أو بنزع الثنايا، وكثير منهم هربوا إلى بلاد سورية. فلم يَثْنِ كل ذلك عزم محمد علي، ونجح أخيرًا في تجنيد عدد عظيم منهم، صار فيما بعد على جانب عظيم من النظام وكمال العُدَّة، حتى إنه في عام (١٢٣٨ﻫ/١٨٢٣م) عندما ثار الألبانيون لَمَّا علموا بحرق إسماعيل باشا ابن محمد علي في قرية شندي دخل «سيف» القاهرة يقود ٢٥٠٠٠ من الجنود المدرَّبين على النظام الجديد ليحموا الباشا من شر هذه الطائفة الطاغية، ويثبتوا قدمه ويوطدوا سلطانه؛ فأنعم على هذا البطل الفرنسي برتبة الكولونيل «بك» مكافأةً له على ما قام به، ثم رفع راتبه إلى ١٦٠٠ جنيه في السنة، ومن هذا الوقت أصبح لمحمد علي جيش يركن إليه، وكان معظمه من السودان والفلاحين.

ثم أسس مدرسة للعساكر المشاة في «الخانقاة». أما الفرسان فاتخذ لهم قصر مراد بك على الضفة اليسرى من النيل، وعهد بأمر تعليمهم إلى أحد رجال نابليون، وهو المسيو «فران». ولم يَفُتْه أمر تعليم فرقة خاصة للمدفعية لِمَا يعلمه من الأعمال الجليلة التي تقوم بها هذه الفرقة في حومة الوغى؛ إذ كانت ذكرى حروب الفرنسيس في موقعة أُنبابة لا تزال جديدة في ذهنه، وقد أبلت فيها المدفعية الفرنسية بلاءً حسنًا، فناط بالكولونيل «سيجيرو» الإسباني تأسيس مدرسة للمدفعية، فنظمها وقام بأمرها خير قيام؛ فرفع مقامه محمد علي ومنحه رتبة بك.

ولم يترك محمد علي بابًا إلا طرقه رغبةً في تقوية جيشه الذي تتوقف عليه قوته وعظمته، فحوَّل جزءًا عظيمًا من قلعة الجبل إلى دار صناعة؛ حيث كان يشتغل فيها مئات من المصريين في صب المدافع وصُنع معدات الجنود والذخيرة وكل ما يلزمهم. وكان يشرف على هؤلاء عمال مهرة أحضرهم محمد علي من أوروبا لهذا الغرض، وقد تمكَّن بكل هذه المعدات من إعداد جيش من أعظم جيوش العالم في ذلك العصر.

ولم يتبع في تأليف الجيش الطريقة التي كان يتبعها في أعماله الأخرى؛ أي السرعة، بل كانت زياداته تدريجية؛ ففي عام (١٢٣٨ﻫ/١٨٢٣م) كان عدد الجيش الجديد ٢٥٠٠٠ جندي، وفي عام (١٢٤١ﻫ/١٨٢٦م) عندما أشعل اليونان نيران حرب استقلالهم بلغ ٩٠٠٠٠، وفي عام (١٢٤٨ﻫ/١٨٣٢م) بلغ ١٥٠٠٠٠ من الجنود النظامية يَستعملون ١٠٠ مدفع من مدافع الميدان. وقال كلوت بك في كتابه على مصر، عند كلامه على الجيش: إن عدد الجنود المصرية عظم في عصر محمد علي حتى بلغ ٢٧٦٠٠٠، منهم ١٣٠٠٠٠ من الجنود المنتظمة، و٤١٠٠٠ من المرتزقة — الباشبزق — و١٩٠٠٠ بحري، والباقي من المهندسين وغيرهم.

(٤-٦) البحرية

أول أسطول أنشأه محمد علي كان أيام حربه مع الوهابيين، وكان الغرض منه نقل العساكر من السواحل المصرية إلى بلاد العرب، وقد أفاده فيما بعد؛ إذ كان يحافظ به على السفن التجارية الذاهبة إلى الشرق من لصوص البحر، وعلى مر الأيام رأى ضرورة بقاء أسطول في البحر الأبيض لحماية السفن التجارية من لصوص اليونان.

وقبل نشوب حرب اليونان اشترى بعض السفن من البندقية ومرسيليا، وصنع بعضها الآخر هناك على حسابه، إلا أن معظم أسطوله حُطم في هذه الحرب في واقعة «نوارين» كما سيأتي بعدُ في موضعه.

ولما علم محمد علي ما للأسطول من الفائدة بعد هذه الواقعة، أسس في عام (١٢٤٥ﻫ/١٨٢٩م) دار صناعة بحرية بالإسكندرية، وبنى فيها مصانع خاصة لفتل الحبال وصناعة الحديد وعمل الصواري والقلوع وكل ما يلزم للسفن، وأنشأ فيها أيضًا مدرسة بحرية أعدَّها لتمرين عدد من الشبان المصريين على العلوم والمعارف اللازمة لضباط البحرية. وكان المنوط به إنشاء هذه السفن المهندس البحري «دي سريزي»، أما إدارة المدرسة فكانت في يد المسيو «بيسون»، وقد ترقَّى بعدُ إلى رتبة أمير البحر للأسطول المصري ورقَّى هذان الرجلان العمارة البحرية إلى درجة جعلتهما في صف سليمان باشا منظِّم الجيش البري.

وقد بلغ عدد المراكب الحربية في عام (١٢٤٨ﻫ/١٨٣٢م) ثلاثين قطعة تحمل ١٣٠٠ مدفع، وفيها من العساكر البحرية من لا يقل عن ١٢٠٠٠ جندي.

وأرسل جملة من التلاميذ لتلقِّي الفنون البحرية العملية على سطح المراكب الإنجليزية.

ولم يَفُتْه أمر تحصين الشواطئ، فأنشأ الحصون — الاستحكامات — اللازمة لحفظ السواحل، مخافةَ الإغارة على البلاد كما حصل في عام (١٢٢٢ﻫ/١٨٠٧م)؛ فأحضر لذلك مهندسين حربيين من الأجانب، وكلَّفهم اختيار المواقع المهمة من جميع السواحل المصرية، وأنشأ بها المعاقل، ونصب بها المدافع اللازمة والعساكر الكافية؛ فتضاعفت بذلك قوة مصر، وعظم شأنها، كما يدل على ذلك حروبه التي سنذكرها.

(٤-٧) ميزانية الحكومة

قد رأينا المشروعات العظيمة التي قام بها محمد علي؛ من إصلاح الزراعة وتنمية الصناعة، ونشر التعليم وترقيته، وتنظيم الجيش وإنشاء البحرية. ويجدر بنا الآن أن ننظر كيف كان يتسنَّى له جمع المال اللازم لكل هذه المشروعات وتوزيعه عليها. على أن الوقوف على ذلك باليقين ليس بالأمر الهيِّن؛ لأن دفاتر المالية في ذلك العهد لم يكن يُعتمد عليها، ولأن الحكومة المصرية لم تُنشر لها ميزانية سنوية إلا بعد عهد محمد علي، إلا أن بعض الأوروبيين الذين كانوا بمصر في ذلك العهد وعُنُوا بهذه الشئون قدَّروا ذلك بوجه تقريبي يساعدنا على تفهُّم الوارد والمنصرف. وقد كانت الميزانية في أول أمرها صغيرة بالطبع، لصغر الجيش وعدم اتساع نطاق المشروعات، وقد قُدِّر الدخل لعام (١٢٣٦ﻫ/١٨٢١م) بمبلغ ١٢٠٠٠٠٠ جنيه، والمصروف بأقل من ذلك بيسير. أما في عام (١٢٤٩ﻫ/١٨٣٣م) فكان تقدير الميزانية كما يأتي:
الإيراد ٢٥٠٠٠٠٠ جنيه المنصرف ٢٠٠٠٠٠٠ جنيه
منه: منه:
١١٢٥٠٠٠ ضريبة الأراضي ١٢٠٠٠٠٠ للجيش
٤٥٠٠٠٠ «الميزانية الصغيرة» (من تجارة الحاصلات) ٤٠٠٠٠٠ للبحرية
١٨٠٠٠٠ المكوس على الحبوب
١١٢٠٠٠ الرسوم الجمركية
٣٥٠٠٠٠ ضريبة الرءوس (الفِرضة)
ثم نمت بعد ذلك الميزانية، حتى قُدِّر الدخل في سنة (١٢٥٣-٥٤ﻫ/١٨٣٨م) بنحو ٤٥٠٠٠٠٠، والمصروف بنحو ٣٥٠٠٠٠٠ جنيه.

(٥) حرب اليونان

بعد سقوط نابليون بونابرت أُبرم تحالف متين بين الروسيا وبروسيا والنمسا «الحلف المقدس»، كان الغرض منه المحافظة على عروش الملوك في أوروبا، ومقاومة كل ثورة عليهم بحد السيف. غير أن هذه المحالفة لم تُسكِن تيار مبادئ الثورة الفرنسية؛ ذلك التيار الذي لم يكد يعم فرنسا حتى فاض على جميع بقاع أوروبا؛ ففي سنتَي (١٢٣٥ و١٢٣٦ﻫ/١٨٢٠ و١٨٢١م) شبت ثورات في جنوبي إيطاليا وإسبانيا وبلاد اليونان.

على أن الثورة في بلاد اليونان كان الغرض منها إعلان الحرب على الترك لنيل استقلال داخلي؛ فكان قيصر الروس بمقتضى ذلك التحالف المتين مضطرًّا إلى محاربة اليونان، مع أن السياسة الروسية كانت من زمن بعيد ترمي إلى مساعدة اليونان وكل المسيحيين في شبه جزيرة البلقان على الدولة العثمانية. أما فرنسا وإنجلترا فلم ترَ حكومتاهما مؤازرة اليونان بالرغم من ميل الأهالي فيهما إليها؛ وذلك لعدم إضعاف الترك أمام الروس؛ فكانت النتيجة أن اليونان لم تساعدها إحدى هذه الدول رسميًّا، إلا بأفراد تطوَّعوا من تلقاء أنفسهم.

وكانت الدولة العلية في هذا الوقت في منتهى الضعف والانحلال؛ إذ كان علي باشا والي يانينة قد أنهك قواها كما سبق ذكره. هذا إلى أن السلطان محمودًا الثانيَ لَمَّا رأى ما عليه جيشه من سوء النظام والاختلال اجتهد في إصلاحه وتنظيمه على الطرق الحديثة الغربية، فثار الجنود به وتألبوا، وأبَوْا إدخال النظام الجديد — كما حصل في عام (١٢٣٠ﻫ/١٨١٥م) لمحمد علي حينما أراد إصلاح جيشه — فاحتال على قتل العساكر الإنكشارية، رأس كل فتنة وسبب كل نكبة نُكبت بها الدولة، فتم له ذلك عام (١٢٤١ﻫ/١٨٢٦م). فكان قضاؤه عليهم وقت أن كانت الدولة في حاجة إلى جندي واحد؛ وبذلك أصبح بلا جيش تقريبًا.

ولَمَّا شبت نار الثورة اليونانية وتفاقم خطبها، وكادت تنتهي باستقلال اليونان بدون مساعدة الدول الأخرى لها، رأى السلطان محمود الثاني أن يستنجد بمحمد علي على قمع الفتنة في البلاد اليونانية.

ففي عام (١٢٣٩ﻫ/١٨٢٣م) عيَّن الباب العالي محمد علي واليًا على جزيرة إقريطش فوق ولايته لمصر، وأصدر إليه الأوامر بإخماد الثورة هناك، فأرسل ابنه إبراهيم باشا، فهَزم الثوار في صيف ذلك العام.

figure
إبراهيم باشا.
وفي سلخ هذا العام (١٨٢٤م) جعله السلطان واليًا على بلاد المورة لإخضاعها؛ فجهز لذلك جيشًا مؤلَّفًا من ١٧٠٠٠ مقاتل بإمرة إبراهيم باشا، وأقلع الجيش من ميناء الإسكندرية في (ذي القعدة سنة ١٢٣٩ﻫ/يوليو ١٨٢٤م)، فالتقى الأسطول التركي الذي كان بقيادة خسرو باشا بالعمارة البحرية المصرية في جزيرة رودس، إلا أن فوز القائد «بياوليس» اليوناني أجبر العمارتين على الانزواء في جزيرة إقريطش عدة شهور. ثم تحين إبراهيم باشا الفرص، وأفلت من المدمرات اليونانية، ونزل في «مُودِن» بالقرب من «نَوَارِين»،٨ في (شعبان سنة ١٢٤٠ﻫ/فبراير ١٨٢٥م). وبعد أشهر قلائل أخضع كل بلاد المورة، واستولى على أمهات المدن فيها إلا «نوبليا». وكان أهم وقائع هذه الحرب الاستيلاء على «تريبولِتْزا»؛ إذ فتحها إبراهيم باشا عَنوة بعد جهاد عظيم.

ولَمَّا أمدَّه والده بمدد جديد انتقل إلى شمالي بلاد اليونان ليساعد رشيد باشا في حصار «مِسُّولُونجي»، وكان هذا يحاصرها من عدة شهور بدون فائدة، فعبر إبراهيم خليج «كورِنْثة» ومعه ١٠٠٠٠ جندي، واستولى على الجزائر الواقعة عند مدخل ميناء المدينة، وبنى فيها قلاعًا حصينة؛ فأغلق بذلك الميناء، وأتمَّ الحصار برًّا وبحرًا حتى لم يَعُدْ من الممكن وصول المدد إليها بأية طريقة، فسلَّمت في (رمضان ١٢٤١ﻫ/أبريل سنة ١٨٢٦م)، بعد أن خسر الجيش المصري عليها ٦٠٠٠ جندي، وخسر الترك ٢٠٠٠٠.

وفي أثناء ذلك قامت نار الثورة في بلاد المورة ثانية، فرجع إبراهيم باشا لإطفائها، إلا أنه عامل الأسرى اليونان بالقسوة، وأرسل ما يقرب من ٥٠٠٠ أسير إلى مصر بيعوا بها — على ما قيل — بيع الرقيق.

وكان رشيد باشا أثناء تلك الفترة يحاصر «أثينا»، وفتحها عَنوة بعد المقاومة الشديدة، ثم وجَّه السلطان محمود الثاني ومحمد علي جُلَّ جهدهما إلى تدمير الأسطول اليوناني الراسي عند «هيدرا»، وكان لا يزال قويًّا.

ولما علمت الأمة الإنجليزية والأمة الفرنسية بما فعله إبراهيم باشا في بلاد المورة من تخريب البلاد واستعباد نسائها وأطفالها، حنقتا عليه. وانتهزت الروسيا هذه الفرصة فبدأت تفاوضهما في أمر التدخل؛ فعُقد لذلك مؤتمر في لندن في (٢٩ ذي القعدة سنة ١٢٤١ﻫ/يوليو سنة ١٨٢٦م)، قرر إرسال عمارة بحرية قِبل الدول الثلاث، تكون القيادة العامة فيها للقائد الإنجليزي «كُدْرِنْجتون».

وكانت إنجلترا وفرنسا لا تزالان تحذَران ازدياد النفوذ الروسي في شبه جزيرة البلقان، فأمرت الحكومة الإنجليزية القائد «كدرنجتون» بأن يتجنب محاربة الترك ما أمكنه ذلك، وأن يعمل طاقته لإبرام اتفاق أساسه أن يمنح الخليفة اليونان استقلالًا داخليًّا مع بقائها جزءًا من أملاك الدولة العثمانية.

وفي أثناء هذه المفاوضات أرسل محمد علي عمارة بحرية لتساعد العمارة التي كانت في المياه التركية على تحطيم الأسطول اليوناني، الذي كان يتوقف عليه مصير الحرب. وعندما وصلت هذه العمارة إلى المياه التركية كان القائد «كدرنجتون» قد تمكَّن من إبرام هدنة مع إبراهيم باشا في مصلحة اليونان، وفي أثنائها كانت المفاوضات دائرة بين السلطان وبينه؛ للنظر في منح اليونان استقلالًا داخليًّا كما قدَّمنا، فلم يتعرض كدرنجتون لدخول العمارة التركية المصرية في خليج «نوارين».

وفي اليوم التالي أخبر إبراهيم باشا القائد «كدرنجتون» أن أحد زعماء اليونان — كوكرين — ومن تبعه من مواطنيه يهاجمون «بَتْراس»، وأنه مضطر إلى الذهاب إلى تخليصها من أيديهم، فلم يقبل «كدرنجتون» مبارحته خليج نوارين، إلا أنه تمكَّن من الإفلات ببعض سفنه، وحاولت بقية العمارة اتِّباعه فلم يمكنها، واضطُرت إلى الانزواء في الخليج.

عند ذلك أصدر كدرنجتون أوامره إلى أسطول المتحالفين بالدخول في خليج نوارين، وأن تَرسوَ سفينته على مقربة من العمارة التركية المصرية، فأراد الترك أن يمنعوه من الدخول فلم يفلحوا، فلما دخلت أساطيل المتحالفين وجدت الأسطول التركي المصري مصفوفًا داخل الميناء على شكل نصف دائرة، يرتكز أحد طرفيها على قلعة البلد، والآخر على قلعة جزيرة «سفا كتيري» عند مدخل الميناء، وكان يحمل ما لا يقل عن ١٩٠٠٠ جندي و٢٠٨٢ مدفعًا تقريبًا.

ولما رست الأساطيل المحالفة في الميناء، اقتربت إحدى الحرَّاقات التركية من إحدى البوارج الإنجليزية، فأرسلت هذه لها زورقًا يأمرها بالابتعاد؛ فكان الجواب أن صوَّبت على الزورق نارًا حامية أتت على كل من فيه، فانتشب حينئذٍ القتال، وتكاثف الدخان حتى أصبح من الصعب الوقوف على ما حصل، إلا أن «محرم بك» قائد الأسطول المصري أخبر كدرنجتون أنه لا يريد القتال، فأخلى له السبيل. لكنه عدل عن فكره الأول وصوَّب مدافعه على السفينة الإنجليزية «آسيا»، فاستؤنف القتال، ولم يمكث طويلًا حتى دُمرت سفينته، وظلت الحرب مشتعلة مدة ثلاث ساعات، فأسفرت النتيجة عن تدمير معظم العمارة المصرية التركية.

وتقول الحكومة الإنجليزية إنها لم تكن تقصد الحرب، وإنها عادت باللائمة على كدرنجتون؛ إذ كان غرضها الوحيد من هذه المظاهرة البحرية إجبار الدولة العلية على منح اليونان استقلالًا داخليًّا وإيقاف القتال بأي حال.

أما إبراهيم باشا فلم يكن حاضرًا تلك النكبة، بل كان في بلاد المورة يُهدِّئ الأحوال بها، وقد أصبحت كلها في قبضته. فلما سمع هذا الخبر أبرق وأرعد، فلم يُجْدِه ذلك نفعًا. ولما ثاب إلى رشده اختار خطة للدفاع، فكان حاله في بلاد المورة كحال نابليون بونابرت في مصر بعد موقعة بوقير البحرية؛ إذ انقطعت بينه وبين أبيه طرق المواصلات.

ولم تكن موقعة «نوارين» هذه كافية لاستقلال اليونان؛ ولذلك أصبح من المحتم على الحلفاء التدخُّل في أمرها، إلا أنه ظهر لإنجلترا وفرنسا أن كل تدخُّل من قِبلهما يخفض من شأن الدولة العلية ويزيد النفوذ الروسي؛ فاقترح «بالمرستون» وزير خارجية إنجلترا في ذلك الوقت أن يحتل بلاد المورة ستة آلاف من الجنود الإنجليزية، ومثلها من الفرنسيين، حتى يمنح الباب العالي تلك البلاد استقلالها الداخلي، فأبى البرلمان الإنجليزي ذلك، فقامت فرنسا بالأمر وحدها وأرسلت ١٥٠٠٠ جندي لتحتل المورة (صفر سنة ١٢٤٤ﻫ/أغسطس سنة ١٨٢٨م).

وعند ذلك ظهر «كدرنجتون» في المياه المصرية عند الإسكندرية، وأرجع بعض السفن التي كانت ذاهبة لمساعدة إبراهيم، ثم أرسل إلى محمد علي باشا إنذارًا نهائيًّا بتخريب الإسكندرية إذا لم يسرع باستدعاء إبراهيم وإخلاء المورة، وبمساعي المستر «بَرْكر» السفير الإنجليزي في مصر تم الاتفاق مع محمد علي على إخلاء بلاد المورة بشروط، أهمها:

أن يُطلق محمد علي سراح الأسرى اليونانيين الذين بِيعُوا في مصر، وأن تتخلى الجيوش المصرية عن «المورة» في أقرب وقت، بحيث ينقلهم محمد علي على سفنه، وأن يخفر الأسطول الإنجليزي السفن المصرية في ذهابها وإيابها، وأن يتعهد «كدرنجتون» بإرجاع أسرى المصريين وسفنهم التي أُخذت منهم أثناء الحرب.

ويقال إن محمد علي وافق على هذه الشروط بدون معارضة كبيرة، خصوصًا لِمَا وصله من الأخبار أن الباب العاليَ أراد أن يقبض على جنوده؛ إذ أصدر الأوامر إلى قائد الأسطول التركي أن يدعوَ الجنود المصرية إلى النزول في سفنه بدعوى أنه يريد نقلهم إلى الإسكندرية — وهو مأمور سرًّا أن يرسلهم إلى الدردنيل. والسبب في نصب هذه الأحبولة التي فطن لها إبراهيم باشا وتجنبها أن الباب العاليَ هاله نجاح محمد علي في «المورة» برًّا، فخشي بأسه وخاف على ملْكه.

فأخلى إبراهيم باشا بلاد «المورة» في (ربيع الأول سنة ١٢٤٤ﻫ/أكتوبر سنة ١٨٢٨م). ولما كان السلطان محمود الثاني لا يزال مصممًا على رفض تحرير بلاد اليونان أعلنت عليه الروسيا الحرب سنة (١٢٤٥ﻫ/١٨٢٩م) وهزمت جيوشه في عدة مواقع فاصلة، فلما رأى السلطان ذلك اضطُر إلى إبرام معاهدة «أدِرْنَة» في السنة نفسها، وكان من أهم شروطها تحرير بلاد اليونان واستقلالها استقلالًا تامًّا.

(٦) حرب الشام

بعد أن وضعت حرب اليونان أوزارها ورجعت الجنود المصرية إلى بلادها، طلب محمد علي من الباب العالي أن يولِّيَه على عكاء علاوةً على ولاية مصر مكافأةً له على مساعدته في هذه الحرب، كما وعده بذلك من قبل، فرفض طلبه، فلما أعلنت الروسيا الحرب على الدولة في عام (١٢٤٥ﻫ/١٨٢٩م) لم يهتم محمد علي بإجابة طلب السلطان أن يمد الدولة بجيش مؤلَّف من ٢٠٠٠٠ مقاتل وبعمارته البحرية؛ إذ رأى أن لا فائدة تعود عليه وعلى بلاده من إفناء ثروتها ورجالها في مساعدة دولة تضنُّ بمكافأته على جليل خدماته.

ولاحظ محمد علي حينئذٍ أن الأحوال ملائمة لأن ينال بحد السيف ما منَّاه به الباب العالي، وأن هذه أحسن فرصة لديه؛ إذ كانت الدولة في هذه الفترة في منتهى الضعف والانحلال لتشتيت السلطان محمود شمل العساكر الإنكشارية، وفتكه بهم جملة في عام (١٢٤١ﻫ/١٨٢٦م) على يد حسين باشا — كما قدَّمنا — ولتضعضع الجيوش التركية لِمَا حل بها من الانهزام الأخير على يد الروس في حرب عام ١٨٢٩م.

ولم يكن أمام محمد علي إذ ذاك معارض من دول أوروبا العظام؛ إذ كان كلٌّ منها مشتغلًا بما في بلاده من الاضطراب والفتن؛ فكانت فرنسا منهمكة في إطفاء نار «ثورة يوليو سنة ١٨٣٠» وإنجلترا مغلولة اليدين من جراء الاضطرابات التي قامت من أجل قانون الإصلاح، وكانت الثورة مشتعلة في بلجيكا وإسبانيا والبرتغال. أما الروسيا فكانت مشغولة أيضًا بإخضاع ثورة «بولندا».

ومما ساعد في فساد العلائق بين محمد علي والدولة أن خسرو باشا كان حينئذٍ أكبر رجال الدولة نفوذًا؛ إذ كان هو المدبِّر للخليفة وقطب السياسة في القصر السلطاني، ولا يخفى ما في صدره من الحقد والبغضاء لمحمد علي من يوم خلعه عن ولاية الديار المصرية عام (١٢١٨ﻫ/١٨٠٣م) كما سبق آنفًا. فصار همُّه الوحيد طول حياته إيغار صدر الخليفة على محمد علي، والعمل على ثلِّ عرشه. وكان له في ذلك غرضان؛ الأول: أن ينتقم لنفسه منه، والثاني: أن يحظى هو بولاية مصر؛ ولذلك لما نُصِّب خسرو أمير البحر للعمارة التركية في حرب اليونان لم يساعد إبراهيم باشا تمام المساعدة، بل عمل جهده على إفناء الجيش المصري بعد الحرب بالمكيدة التي لم تفلح — كما ذكرنا.

وكانت حالة الفلاح المصري في هذه الفترة غايةً في الشقاء والبؤس؛ إذ أثقل عاتقه محمد علي بالضرائب، وبتسخيره في حفر الترع، وتجنيده تجنيدًا إجباريًّا، وقد أثَّرت هذه العوامل فيه تأثيرًا سيئًا؛ فكان يهلك من المصريين الآلاف في حفر الترع وتحت تعذيب محصِّلي الضرائب. ولَمَّا ضاقت الحال واشتد الكرب بالناس هاجر خلق كثير من سكان الوجه البحري إلى بلاد الشام هربًا من مظالم الحكام. ورجا محمد علي من «عبد الله الجزار» والي عكاء إرجاع كل من هاجر إلى مصر ثانية، فحرَّضه خسرو باشا على ألا يجيب طلبه، ولَمَّا لم تُجْدِ مساعي محمد علي عند والي عكاء هدَّده بإعلان الحرب عليه. وزيادة على ما سبق كان عبد الله الجزار قد شجع المصريين على نقل حاصلات الوجه القبلي بطريق صحراء سورية بدلًا من تصديرها عن طريق الإسكندرية؛ فكان ذلك مضرًّا بمصالح محمد علي.

عند ذلك لجأ عبد الله الجزار إلى الباب العالي ليوقف محمد علي عند حدوده، وأن لا يتدخل في شئون ولاية عكاء، فأرسل الباب العالي إلى محمد علي بأن المصريين ليسوا عبيده، بل هم أحرار يسكنون أنى شاءوا، وفي أي جزء من أجزاء الدولة أرادوا.

وفي هذه الآونة جرت مفاوضات بين رئيس الوزارة الفرنسية ومحمد علي بشأن غزو بلاد الجزائر بأسطول فرنسي مصري، فاقترح محمد علي على فرنسا أن تسلمه أسطولها ليكون بقيادته، ويتعهد هو بإخضاع «داي» الجزائر، فلم تقبل فرنسا ذلك. وخاف أيضًا محمد علي من أن تفتح فرنسا الجزائر، فتمتد الفتوح الفرنسية شرقًا وتكون خطرًا على مصر. هذا إلى أن ولنجتون الإنجليزي أعلنه أن أي تدخُّل منه في أمر بلاد الجزائر يكون مدعاة إلى خلعه. ولَمَّا علم الباب العالي بذلك حضَّ محمد علي أيضًا على عدم التدخُّل في هذا الأمر وهدده بالخلع، ثم علم محمد علي بعد ذلك أن السلطان على وشك أن يخلعه لما سبق، فأعلن الحرب عليه خوفًا على ضياع ملكه.

ابتدأ محمد علي في إعداد الحملة لذلك في أواخر سنة ١٢٤٦ﻫ، إلا أنها تأخرت إلى (جمادى الأولى سنة ١٢٤٧ﻫ/نوفمبر ١٨٣١م) لتفشي الهيضة — الكلرا — في مصر وفتكها بالناس فتكًا ذريعًا.

فسار الجيش البري من الطريق القديم مجتازًا الصحراء إلى العرش، وكان عدده يتراوح بين الثلاثين والأربعين ألف مقاتل، وكان مؤلفًا من ست فِرَق من المشاة وأربع من الخيَّالة وقوة كافية من المدفعية. أما الأسطول فإنه كان يحمل المدافع الضخمة والذخيرة، ويقل إبراهيم باشا وأركان حربه، وبينهم البطل العظيم «سليمان باشا الفرنسي».

زحف الجيش البري في أوائل شهر نوفمبر، فاستولى على غزة ويافا بدون أدنى مقاومة، وفي هذا الميناء اجتمع الجيش بالأسطول، ثم تولى إبراهيم باشا قيادة الجيش وزحف على عكاء، حيث اجتمعت جموع عبد الله الجزار، وكان غرض هذا أن يقهر إبراهيم ويرده على عقبيه كما فعل ذلك من قبلُ «أحمد باشا الجزار» مع نابليون، ولكن فاته أن أحمد باشا الجزار كان يساعده أسطول السير سدني سمث من جهة البحر. ومع عظم جيش إبراهيم وحُسن استعداده قد دافع عبد الله الجزار عن المدينة دفاعًا شديدًا مدة ستة أشهر حاول في خلالها عثمان باشا والي حلب أن يُخلص حامية عكاء، إلا أن إبراهيم باشا داهمه في الطريق، وهزمه هزيمة منكرة. وبعد ذلك سقطت عكاء في يده في (ذي الحجة سنة ١٢٤٧ﻫ/مايو ١٨٣٢م)، وأُسِر عبد الله الجزار ومَنْ معهُ وأُرسلوا إلى الإسكندرية.

وفي أثناء حصار عكاء أصدر الباب العالي أمرًا في أول ذي الحجة سنة ١٢٤٧ﻫ/٢ مايو سنة ١٨٣٢م يقضي بعزل محمد علي عن الديار المصرية وجزيرة إقريطش — كريد — وتولية حسين باشا — مبيد الإنكشارية — عليها، وتسليمه قيادة الجيش الذي سيَّره على محمد علي، إلا أن ذلك كان على غير رغبة خسرو باشا؛ إذ كان غرضه من عزل محمد علي أن يكون هو خلفه، على أنه قد نظَّم الجيش على الطريقة الغربية عدة سنوات ليكون هو القائد له في ساحة القتال، وبذل جُلَّ طاقته ليحصل على قصده، فلم يُصغِ له الباب العالي. فلما خابت كل أمانيه عزم على أن يُعرقل مساعيَ حسين باشا ويفسد عليه كل خططه، وساعده على ذلك أنه كان وزيرًا للحربية في هذه الآونة. فلما اجتمعت الجيوش في «أذَنَة» — أطَنَة — وكان عددهم ٤٥٠٠٠ أبَوُا الإذعان لأوامر حسين باشا — بتحريض من خسرو باشا — ونبذوا كل نظام أراده.

وبعد سقوط عكاء سار إبراهيم باشا بجيشه إلى «دمشق» فسلمت إليه بدون مقاومة، وكان ذلك في (١٦ المحرم سنة ١٢٤٨ﻫ/١٥ يونيو سنة ١٨٣٢م).

ثم زحف على «حمص» حيث الْتَقى بمحمد باشا والي طرابلس يقود نحوًا من ٣٠٠٠٠ مقاتل — وكانوا مقدمة الجيش التركي — وذلك في (٩ صفر سنة ١٢٤٨ﻫ/٨ يوليو سنة ١٨٣٢م)، فلم ينتظر محمد باشا لسوء تدبيره تلاحُق الجيش التركي الذي يقوده حسين باشا شمالي هذه النقطة بنحو ٥٠ ميلًا، بل هاجم جيش إبراهيم، فهزمه إبراهيم شرَّ هزيمة وأخذ منه كل ما لديه من الذخيرة والميرة وألفي أسير وستة وثلاثين مدفعًا؛ وبذلك أصبحت جُلُّ بلاد الشام في يد إبراهيم. ولَمَّا علمت القبائل المجاورة بانتصارات إبراهيم باشا أرسلت إليه وفود المهنئين، ووعدته بالمساعدة.

أما حسين باشا فإنه كان قاصدًا حلب، فلَمَّا علم أهل البلدة بهزيمة الجيش العثماني أغلقوا أبوابها في وجهه؛ فاضطُر إلى التقهقر إلى إسكندرونة، حيث يرسو الأسطول العثماني. أما إبراهيم باشا فإنه دخل حلب بدون عناء ولا مقاومة في (١٨ صفر/١٧ يوليو)، ثم اقتفى أثر الجيش التركي فوجده محتميًا في مضيق «بيلان» — بين حلب والإسكندرونة — فهاجمه وشتت شمله، وذلك في (أول ربيع الأول/٢٩ يوليو)، وكانت نتيجة هذه الهزيمة أن غادر الأسطول العثماني الإسكندرونة.

وفي الحال أرسل إبراهيم باشا ابن أخيه عباسًا ليحتل بلدة أذَنة خلف «جبال طوروس»؛ وبذلك استولى إبراهيم باشا في مدة لا تتجاوز سبعة أشهر على كل بلاد سورية.

وقد عد إبراهيم باشا في الطبقة الأولى من قوَّاد ذلك العصر بما أظهره من الحذق والدراية بالفنون الحربية. ولا يفوتنا أن نعطيَ سليمان باشا الفرنسي — رئيس أركان حربه — نصيبه من الفخر في هذه الحروب؛ إذ كان في هذه الوقائع سيفه القاطع، وعضده المتين.

figure
سليمان باشا الفرنساوي في حضرة محمد علي باشا وإبراهيم باشا.

أما حسين باشا فإنه نُفي إلى نهر الطونة بعد أن ألقى خسرو باشا كل اللوم على عاتقه، وطلب خسرو ثانية من الباب العالي أن يولِّيَه قيادة الجيش ويمنحه ولاية مصر، فأبى السلطان عليه ذلك وعهد بقيادة الجيش إلى «رشيد محمد باشا» وهو أحد رجال الدولة العظام؛ اشترك مع إبراهيم باشا في حرب «المورة»، وخاصةً في حصار «مسولونجي»، واشتُهر بعدها بمحاربة مصطفى باشا والي أشقودرة عند خروجه على الدولة. فعزم خسرو على إحباط مساعي مُناظره الجديد كما قضى على حسين باشا وجيشه من قبل.

ويظهر أن خسرو كان يعتقد أن من مصالح دول أوروبا المحافظة على كيان الدولة العلية؛ فكان لا يهمه هزيمة جيش حسين باشا، أو القضاء على جنود رشيد باشا أمام جيش محمد علي؛ إذ كان على يقين أن الدول العظام لا تسمح لمحمد علي أن يجنيَ ثمار انتصاراته. ولا غرابة، فقد أحس محمد علي بخطر تدخل الدول، ورحَّب بالصلح عندما كان جيش إبراهيم في أطنة، غير أنه طلب من السلطان ولاية سورية فلم يقبل.

وفي هذه الأثناء طلب إبراهيم باشا من والده المدد، فسيَّر له جيشًا مؤلَّفًا من ٥٠٠٠٠ مقاتل، وأمره بمواصلة القتال والزحف، فتقدم في زحفه حتى وصل إلى «قونية». وفي خلال ذلك جمع رشيد باشا جموعه عند «أخشير» — شمالي قونية — وكانت الدولة وعدته أن تمده بعساكر البشناقيين هناك، فخندق عند أخشير وعزم على انتظار هجوم المصريين في هذا المكان، غير أن خسرو باشا لم يرسل له المدد واستبقاه في القسطنطينية، محتجًّا بأن ما لديه من الجند كافٍ للتنكيل بجيش محمد علي، ثم سعى في إرسال الأوامر إلى رشيد بالإسراع في مهاجمة المصريين خوفًا من تدخُّل الروسيا، فأمر السلطان رشيد باشا بالهجوم على المصريين، فحاول رشيد باشا إقناع السلطان أنه ليس لديه مئونة في أخشير، وأن الجيش في حالة يُرثَى لها.

وفي أثناء هذه الأزمة وصل «الكونت مورافْيِيف» الروسي إلى القسطنطينية في خدمة خاصة، فساعد خسرو في آرائه، فكانت النتيجة أن رشيد باشا لم يُجَب إلى طلبه وتُرك للقضاء والقدر.

على أن الجيش المصري كان في حالة صعبة جدًّا لِمَا كان يقاسيه من البرد، ولو انتظر رشيد باشا قليلًا لاضطُر إبراهيم إلى التقهقر، ولكنه عجَّل بمناجزته حسب أوامر السلطان. وكان جيش إبراهيم حينئذٍ لا يتجاوز الثلاثين ألف مقاتل.

وبعد أن تأهب الجيشان تقدَّم الجيش العثماني إلى الأمام، أما الجيش المصري فمكث في مكانه لا يُبدي حراكًا، وكان الضباب الكثيف الكثير الانتشار في بلاد الأناضول — وفي مثل هذا الشهر خاصةً — سادلًا أستاره على الجيشين ومخفيًا كلًّا منهما عن الآخر؛ ولذلك لم يبدأ إبراهيم باشا بالضرب كي لا يعرف العدو مكانه. أما رشيد باشا فبمجرد وصوله على مسافة ٤٠٠ متر ابتدأ بإطلاق النار، فعلم إبراهيم باشا وسليمان باشا ترتيب الجيش العثماني وتفريق مدفعيتهم، ثم شاهد أيضًا سليمان باشا أن المشاة العثمانية انفصلت بسبب الضباب عن الفرسان، فأمر المشاة المصرية بالدخول بين الفريقين ليستحيل اجتماعهما ورجوعهما إلى ما كانا عليه من الالتئام. ولقد أوقعت هذه الحركة الرعب والفزع في قلوب الترك، وأخذتهم الدهشة، إلى أن فاجأتهم الفرسان المصرية وأعملت في فرسانهم السيف فبددت شملهم، ووجَّهت المدفعية المصرية نارها على مشاة الترك فحصدتها حصدًا. ولَمَّا رأى رشيد باشا أن لا مناص من الهزيمة اجتهد أن يستجمع جناح جيشه الأيسر فلم يفلح، ووقع أسيرًا في يد المصريين، فجاءوا به إلى إبراهيم باشا، ولَمَّا علم الجيش بأسر قائدهم ولَّوُا الأدبار؛ وبذلك انتهت واقعة «قونية» الفاصلة (٢٧ جمادى الآخرة سنة ١٢٤٨ﻫ/٢١ نوفمبر ١٨٣٢م).

وقد فرح سكان آسيا الصغرى فرحًا عظيمًا بانتصارات إبراهيم. أما هو فتقدم بجيشه إلى «كوتاهْية» غربي «أخشير» وهدَّد «بروسة»، في الوقت الذي كان فيه بعض جنوده وعمَّاله قد أخضعوا أكثر بلاد الأناضول، وأصبح اسمه ذا تأثير عظيم في قلوب القوم، حتى إن أربعة من جنده وضابطًا واحدًا استولَوْا على مدينة «أزمير» العظيمة.٩

ولما وصلت أخبار هذه الهزيمة إلى الأستانة حنق الباب العالي وخاف من ضياع ملكه؛ لأن بلاد آسيا الصغرى تعتبر قلب الدولة وحصنها المكين.

عند ذلك مدت الروسيا يد المساعدة للدولة العثمانية، فطلبت من الباب العالي أن يسمح لها أن ترسل له قوة بحرية وأخرى برية لمساعدته، إلا أن السلطان محمودًا الثاني توانى في قبول ذلك، وفاوض محمد علي في شروط الصلح، فلم يرضَ إلا بكل بلاد سورية وولاية «أذَنَة» — أطنة. وفي هذا الحين أرسلت الروسيا القائد «مورافْيِيف» يلتمس من محمد علي بكل وداد واحترام إيقاف إبراهيم عن الزحف على الأستانة.

وأما بقية الدول العظام فقد أزعجها تدخُّل الروسيا، فاستفسر «الكونت بروكِش أوسْتين» سفير النمسا في مصر من محمد علي عن أغراضه، واجتهدت إنجلترا وفرنسا في إيقاف زحف إبراهيم، ونصحتا للباب العالي أن يتنازل عن صيداء وعكاء ونابلس وبيت المقدس إلى محمد علي. إلا أن هذا أبى إلا كل بلاد سورية وأذنة، وأمر إبراهيم بالزحف على الأستانة؛ وذلك بتحريض من فرنسا لأنها رغم اتفاق سفيرها مع السفير الإنجليزي في الأستانة كانت تعمل في الخفاء مع محمد علي، وتشجِّعه بتوسط سفيرها في القاهرة رغبةً في ازدياد نفوذها في البلاد المصرية.

فلما احتل إبراهيم باشا «كوتاهية» (فبراير سنة ١٨٣٣م) اضطُر الباب العالي إلى طلب المساعدة من الروسيا رسميًّا، فأرسلت له جيشًا مؤلَّفًا من ١٢٠٠٠ مقاتل تساعده عمارة بحرية، وعسكر الجيش على الشاطئ الآسيوي عند «أنكيار سكلِسِّي» — هُنْكار إسْكِلَهْ سي — على البسفور؛ فأقلق تدخُّل الروسيا بالَ فرنسا وإنجلترا، فشدَّدتا على الباب العالي في الاتفاق مع محمد علي؛ فأبرم معه اتفاق «كوتاهية» في (ذي الحجة سنة ١٢٤٨ﻫ/مايو سنة ١٨٣٣م)، وبه ولَّى الباب العالي محمد علي بلاد سورية، وجعل إبراهيم باشا محصِّلًا لولاية أذنة، وعلى ذلك تمَّ الصلح واطمأن خاطر إنجلترا وفرنسا من جهة روسيا.

أما قيصر روسيا فإنه لم يقف عند ذلك الحد، بل اجتهد في إقناع السلطان أن كيان دولته يتوقف على مساعدة الروسيا لها ومحالفتها إياها؛ فاقتنع بذلك لِمَا رآه من خذل الدول الغربية له، وأبرم معاهدة هجومية دفاعية مع الروسيا تُعرف بمعاهدة «أنكيار سكلسي» — هنكار إسكله سي — في (صفر سنة ١٢٤٩ﻫ/يونيو ١٨٣٣م). وأهم شروطها أن تتعهد روسيا بحماية البلاد العثمانية من إغارة أي دولة، وفي مقابل ذلك تتعهد الترك بإغلاق الدردنيل في وجه أساطيل جميع الدول. وكان إبرام هذه المعاهدة سرًّا بدون علم الدول الأخرى.

(٦-١) حكومة محمد علي في بلاد الشام وغزوته الثانية لها

لم يكن اتفاق كوتاهية حلًّا نهائيًّا للنزاع بين الدولة العثمانية ومحمد علي؛ إذ كان هذا من جهة يعتقد أن حكمه في كل الولايات التي تحت سلطته لم يكن إلا لأجَل محدود، وكان على يقين أن الباب العاليَ لا بد أن ينزعها من يده متى سمحت له قوته وساعدته الأحوال، وأن ما امتلكه بحد السيف لا بد له أن يعمل جهده ليحافظ على كيانه بحد السيف أيضًا، فأفلح في إثارة نار الفتنة في بلاد ألبانيا، وكان يدس الدسائس في الأستانة لخلع محمود الثاني وتولية ابنه عبد المجيد مكانه. ومن جهة أخرى كانت الإشاعات تتواتر أن السلطان يريد الاستفادة من معاهدة «أنكيار سكلسي» بإعلان الحرب على محمد علي، وكانت الفرص مساعدة للسلطان؛ إذ تألب معظم أهل الشام على إبراهيم باشا، وثاروا في وجهه، وابتدأ تذمرهم منه في ربيع عام (١٢٥٠ﻫ/١٨٣٤م).

والسبب في ذلك يرجع إلى عسف حكومته وظلمها؛ إذ اتضح جليًّا لأهل الشام أن حكومة الباب العالي كانت أقل ظلمًا، وأحسن حالًا من حكومة محمد علي. وقد ذكرنا آنفًا أنه لَمَّا دخل إبراهيم باشا بلاد الشام قابله الأهالي بالتهلل والاستبشار والتفوا حوله، وإنما كان ذلك يرجع إلى أمرين:
  • الأول: عدم ميل الأهالي إلى السلطان محمود الثاني من جراء المصائب التي انصبَّت على الدولة العثمانية في مدته، ولا سيما إبرامه لمعاهدة «أدرنة» التي اعتبرتها الأمة من أعظم النكبات التي انتابت الدولة.
  • والثاني: قسوة الأحكام التركية منذ فارقها الفرنسيون سنة (١٢١٤ﻫ/١٧٩٩م)؛ لأنها قبل حملة نابليون عليها كانت تتمتع بشبه استقلال، ولكن بعد الحملة قررت الدولة عليها الضرائب الفادحة، وأبقت الجنود التي أرسلتها لطرد الفرنسيين في البلاد يعيثون فيها فسادًا.

فلا غرابة بعدئذٍ أن يستقبل أهل الشام إبراهيم باشا بكل فرح وابتهاج؛ لأنه أدخل بعض إصلاحات في بادئ الأمر كانت مفيدة له وللبلاد؛ إذ صرف معظم السنتين الأُوليَين في درس أحوال الشام، وفي توطيد عُرى التحالف بينه وبين القبائل القوية التي يُنتظر أن يركن إليها عند الحاجة في تنظيم قوة حربية يعتمد عليها في إخماد نار الفتن الداخلية، أو صد هجمات الدولة حال إعلانها الحرب عليه. وقد جعل الحاكم العام على البلاد الشامية «شريف باشا» أحد أقربائه، وكان ذا أخلاق فاضلة وخبرة في الأمور السياسية، وجعل «حنا بحري» أحد السوريين مساعدًا له في إدارة الشئون المالية، وكان ذا حذق ومهارة في ذلك، ثم ساوى بين كل الديانات أمام القانون؛ لا فرق بين المسلم والمسيحي، وعقد في كل بلدة من أمهات البلاد مجلسًا كانت تنتخب أعضاؤه من المسلمين والمسيحيين على السواء. وكل هذه المجالس كانت تحت سيطرة «مجلس المشاورة» في عكاء؛ إذ كان بمثابة محكمة عليا، تتسلم دخل البلاد، وتولِّي الحكام، وتخابر الحكومة الرئيسية في مصر.

وبعد أن وضع إبراهيم هذه الأنظمة، رأى أن لا بد لضمان سير الأحوال على ما يروم من جيش عظيم يعوَّل عليه، وأن يكون له موارد للثروة يستقي منها. فأول عمل قام به للحصول على المال أن احتكر جميع أصناف الحرير وبعض المواد الأخرى، وسخَّر الأهاليَ وأكرههم على زرع الحاصلات التي لا غنى للبلاد عنها كالحبوب، وعلى غرس النباتات التي تُلائم طبيعتها، فكان من نتائج ذلك مهاجرة الأهلين إلى بلاد الجزيرة وآسيا الصغرى، كما هاجر أهل مصر عام (١٢٤٥ﻫ/١٨٢٩م) وكان سببًا من أسباب حربه الأولى مع الدولة.

وفي أثناء سير الأحوال في البلاد الشامية أصدر محمد علي باشا ثلاثة أوامر لابنه إبراهيم، وهي: (١) أن يضرب الجزية «الفرضة» على كل فرد بدون تمييز بين الجنسية والديانة (٢) أن يجنِّد جيشًا من البلاد بالإجبار، وأن يأخذ كل ما يحتاج إليه هذا الجيش من الحيوان (٣) أن ينزع السلاح من كل السكان.

ومن الغريب أن هذه الأوامر كلها صدرت دفعة واحدة؛ فكانت النتيجة أن تذمَّر الأهالي وثاروا في عام (١٢٥٢ﻫ/١٨٣٥م)، وأحدثوا فتنة تفاقم خطبُها وامتد لهيبها في طول البلاد وعرضها، وكان أهم ما دعاهم إلى العصيان نزع السلاح منهم، غير أن إبراهيم باشا استطاع أن يُخضع العصاة في دمشق وحلب، وما جاورهما من البلاد بدون عناء.

أما في طرابلس وعكاء وجبال لبنان ونابُلُس — التابعة لولاية دمشق — فقد قاومه الثائرون فيها مقاومة عنيفة، حتى إن محمد علي لَمَّا علم بحرج مركز إبراهيم باشا أعدَّ كل ما يمكن جمعه من الجند والذخيرة وسار بنفسه إلى مساعدته، فنزل في يافا، وبحذقه ومهارته تمكَّن من ضم سبعة من رءوس الثوَّار إليه في مدة وجيزة، ثم حارب أهاليَ نابلس، ودخل بلدهم دخول المنتصر، وفي هذه الأثناء ثارت طائفة النُّصَيرية١٠ فأخضعها المصريون سريعًا، إلا أن الدروز، والمارونية١١ استمروا في مقاومة الجنود المصرية حتى (رجب سنة ١٢٥٢ﻫ/أكتوبر سنة ١٨٣٦م)؛ إذ تمكَّن فيه إبراهيم باشا ومحالفه الأمير بشير الشهابي١٢ والي لبنان من إخضاعهم ونزع السلاح منهم في أقل من ستة عشر شهرًا.

ومن ذلك الحين ابتدأ الأهالي في الشام ينفرون من محمد علي، وينظرون إليه بعين العداوة والبغضاء، ولا سيما بعد أن بدَّل بالحكام الملكيين غيرهم من الجيش، ونشر عساكره في جميع أنحاء البلاد.

ولا يفوتنا أن نذكر أن إخضاع الثورات الداخلية في الشام — التي تبلغ مساحتها أربعة أمثال مساحة مصر الزراعية — وجلْب الجنود إليها وما يلزمهم من البلاد المصرية؛ كل ذلك أثقل عاتق الحكومة المصرية وسبَّب أزمة مالية سنة (١٢٦٠ﻫ/١٨٤٤م).

وفي أثناء هذه الفتن الداخلية في بلاد الشام كان السلطان محمود الثاني يريد منازلة محمد علي، آملًا استرجاع ما فقد؛ ففي سنة (١٢٤٩ﻫ/١٨٣٤م) احتجَّ على دول أوروبا العظام التي كانت تمنعه عن الدخول في الحرب مع خصمه محمد علي لتخليص رعاياه من ظلمه. فلما علم محمد علي بنية الباب العالي أعلن للدول أنه إذا ظهر الأسطول العثماني في جنوب جزيرة رودس، فإنه لا يرى مندوحة من مهاجمته وإعلان عدم الطاعة والإذعان للخليفة. فصرحت الدول العظام بأنها ستكون ضد المعتدي؛ ولذلك خاف كلٌّ من الفريقين، وأُجِّل إعلان الحرب مدة ست سنوات. ولكن بالرغم من كل ذلك بقي كلا الجانبين يستعد للحرب.

أما الروسيا التي كان الباب العالي يعتمد على مساعدتها، فإنها أحجمت عن الخوض في هذا المشروع الذي لم تتحقق من حسن عواقبه؛ لأن قيصر الروس ابتدأ يدرك أنه إذا شرع في إنفاذ شروط معاهدة هنكار إسكله سي، قامت في وجهه دول أوروبا وأخضعته بحد السيف. فإن دول أوروبا الكبرى وخاصة إنجلترا وفرنسا والنمسا كانت تحذر تدخُّل الروسيا، وأخذت على عاتقها أن تمنع استنجاد الدولة العلية بها، سواءٌ أكان الاعتداء من السلطان على محمد علي أم من محمد علي عليه.

ومما شجع الباب العاليَ الأخبارُ التي كانت تأتيه عن تمرد أهل الشام، وعدم رضاهم بحكم إبراهيم باشا، وعن انهزام المصريين شرَّ هزيمة أمام عرب «حوران» في سنة (١٢٥٤ﻫ/١٨٣٨م)؛ ولذلك ابتدأ في استعداده البري والبحري بهمة جديدة.

وكان محمد علي في هذه الأثناء في رحلته إلى بلاد السودان (١٢٥٤ﻫ/١٨٣٨م) ليقف على حقيقة كنوز الذهب التي كان يُمنِّي نفسه أن يستعين بها على شن الغارة على السلطان إذا اضطره الحال إلى ذلك.

وفي (ذي القعدة سنة ١٢٥٤ﻫ/يناير سنة ١٨٣٩م) عقد الباب العالي مجلسًا حربيًّا قرر فيه تجهيز ٨٠٠٠٠ جندي بقيادة حافظ باشا. فلما علم سفراء الدول بذلك اضطربوا وخافوا من ضياع الدولة؛ لأن فرنسا وإنجلترا والنمسا كانت لا تزال تخاف من تدخُّل الروسيا تنفيذًا لمعاهدة هنكار إسكله سي.

وفي ٢٢ يناير عقد الباب العالي مجلسًا آخر لتقرير الحرب أو السلم، انتهى بتقرير محمود الثاني أخيرًا إعلان الحرب؛ وذلك لأن حافظ باشا كان يُمنِّيه بالنصر، ورشيد باشا — الذي كان في هذه الآونة قائمًا بتأدية مأمورية خاصة في باريس ولندن — صرَّح للباب العالي خطأً أن كلًّا من إنجلترا وفرنسا لا تتعرضان للسلطان إذا هو هاجم محمد علي.

قفل محمد علي راجعًا من سنار عندما علم من عباس بن طوسون — وكان نائبًا عنه في مصر — بالاستعدادات الحربية التي كانت قائمة على قدم وساق في القسطنطينية، ولَمَّا وصل إلى القاهرة كتب منشورًا وأرسله إلى جميع سفراء الدول معلنًا فيه أنه بريء من كل هذه المشاكل، وأن لا بد له من مقابلة القوة بالقوة. ولَمَّا وصل هذا المنشور إلى يد السلطان احتدم غيظًا وشدد في الإسراع بتجديد الحملة، ومن فرط حنقه قال: «إني أفضِّل الموت على التراخي في إخضاع هذا العاصي.»

أما محمد علي فإنه أراد أن يداهم الدولة قبل أن تُتم إعداد جيشها الذي كان يقوم بأمر تنظيمه القائد «فون مُلْتِك» وضباط آخرون من الألمان. وحدث أن الحكومة الإنجليزية أبرمت مع الدولة في ذلك الحين معاهدة تجارية تتعلق بجميع ممالك الدولة؛ فكانت ضربة قاضية على آمال محمد علي التجارية؛ لأنه كان محتكرًا كل التجارة المصرية كما سبق، فلما علم بذلك محمد علي هدَّد الدولة بإعلان استقلاله، ولو تمَّ له ذلك لكان الضربة القاضية على الباب العالي؛ إذ كان في ذلك نزع سيادته الاسمية والفعلية حتى من بلاد الحجاز مصدر زعامته الدينية. إلا أن الحكومة الإنجليزية أنذرت محمد علي بواسطة سفيرها في مصر المستر «كَمْبِل» أنه إذا شرع في ذلك كانت إنجلترا خصمه.

وحذرت إنجلترا الباب العاليَ أيضًا، وأظهرت له أنها لا تساعده إذا كان هو المعتدي، ولا تتحمل شيئًا من نتائج هذه الحرب. أما إذا اعتدى محمد علي فإنها تأخذ بناصر الدولة؛ ولذلك خاف كلٌّ منهما أن يبتدئ بالعداء. إلا أن شدة بغض محمود الثاني لمحمد علي جعلته يهاجمه أولًا؛ ولذلك عندما طلب محمد علي أن يكون لخلفه حق الوراثة لجميع الولايات التي تحت سلطته من بعده، أعلن السلطان أن محمد علي خائن للخليفة، وأرسل الجيش لإخضاعه.

تجمَّع الجيش التركي عند «سيواس» بقيادة حافظ باشا، ثم زحف إلى جهة الجنوب حتى وصل إلى نهر الفرات، عند بلدة صغيرة تُسمَّى «بيرجِك» على الضفة اليسرى منه، ثم وصلت الأوامر إلى حافظ باشا بأن يجتاز النهر، وينتقل إلى الشاطئ الأيمن.

فلما وصل هذا الخبر إلى إبراهيم باشا أرسل إلى والده يخبره بذلك، فأمدَّه بالذخيرة وجيش بقيادة أحمد باشا «المنكلي» ناظر الحربية المصرية. وكان إبراهيم باشا في هذا الحين بمدينة حَلَب لقُربها من الحدود الشمالية، ووفرة المئونة فيها، ثم سار من هذه البلدة قاصدًا «نَصِيبِين» — بلدة على نهر الفرات — وكان قد علم أن الجيش التركي عسكر فيها، وأنه حصلت بعض مناوشات بين الباش بزق السلطانية وبين فرسان العرب عند «تل باشر» جعلت سليمان باشا الفرنسي يهتدي أثناءها إلى التحصينات المهمة التي أُقيمت أمام نصيبين، وتبيَّن له أنه يتعذر مهاجمتها من هذه الجهة، ففكر إبراهيم باشا وسليمان باشا في الدوران حول نصيبين ليهاجموها من الجهة التي لم يحصِّنها الترك.

عند ذلك أشار القائد «ملتك» ومن معه من الضباط الألمان على حافظ باشا أن يهاجم المصريين أثناء سيرهم غير متأهبين للحرب، فلم يقبل حافظ باشا ذلك، فدار إبراهيم بجيشه وهاجم الجيش التركي. وبالرغم من محاولة بعض الفِرق الشامية من جيش إبراهيم الانضمام إلى جيش الترك شتَّت الجيش المصري شمله في (١١ ربيع الآخر سنة ١٢٥٥ﻫ/٢٤ يونيو سنة ١٨٣٩م). وكانت خسائر الترك فادحة جدًّا حتى أصبح السلطان في الحقيقة بلا جيش، ومن حسن حظ الخليفة محمود أنه مات قبل أن يصل خبر هذه الهزيمة إلى القسطنطينية بعدة أيام؛ وهكذا أصبحت الدولة العلية للمرة الثانية تحت رحمة محمد علي.

ولمَّا تولى الخلافة السلطان «عبد المجيد» كان سنه إذ ذاك لا يتجاوز السابعة عشرة، فتسلَّم خسرو باشا منصب الصدارة العظمى، وكان قبل ذلك مغضوبًا عليه. ولَمَّا علم بذلك أحمد باشا فوزي أمير البحر التركي — وكان خسرو باشا من أشد أعدائه — حزن حزنًا شديدًا، وصمَّم على تسليم العمارة البحرية إلى محمد علي، بدعوى أنه خائف على حياته من خسرو، وأنه ربما اغتاله كما اغتال السلطان محمودًا الثانيَ — حسب اعتقاده — وأظهر أن لا بد من عزله لسلامة الدولة، وقد صرح برأيه هذا إلى القبودان «ووكر» الإنجليزي مساعده.

فأقلع بأسطوله من الدردنيل، وكانت مأموريته في هذا الحين أن يساعد حافظ باشا من جهة البحر، فالتقى في أثناء سيره بالأسطول الفرنسي، وأخبر قائده «لالند» بما أخبر به الأميرال «ووكر» من أن الحزب الروسي — أي حزب خسرو — سمَّ السلطان، وأنه متوجه بالأسطول إلى إقريطش، فأخبره «لالند» أن إقريطش في يد محمد علي، وأن معنى الذهاب إليها تسليم العمارة البحرية له. وبعد ذلك بأيام قلائل وصل الأسطول التركي إلى المياه المصرية، وانضم إلى الأسطول المصري. فلمَّا علم الضباط بنية أميرهم همُّوا بالتألُّب عليه، فاستمالهم محمد علي.

رسا الأسطول التركي في الميناء الغربي بالإسكندرية، على بُعد ستة أميال من الشاطئ، وكان مؤلفًا من ٢٠ بارجة تحمل ٢١ ألف جندي بحري، ثم نَزَل الضباط وقابلوا محمد علي، إلا أن القائد «ووكر» لم يرجع ثانيةً إلى الأسطول، محتجًّا بأن الحكومة الإنجليزية لم تخوِّل له الخدمة تحت إمرة محمد علي.

ولما علم سفراء الدول بهذا الحادث استولى عليهم الهلع، وأظهروا لمحمد علي استياءهم من خيانة أمير البحر، وأنهم لا يريدون أن يكون شريكًا له في هذه الجريمة، ونصحوا له أن يُرجع الأسطول التركي إلى الأستانة؛ فغضب لذلك محمد علي، وقال: إن الحرب تبيح لأحد الفريقين أن يقبل الفارِّين من الفريق الآخر. وكانت حالة الدولة في هذا الحين في منتهى التعس والاضمحلال، حتى إن خسرو باشا طلب من أمير البحر أن يرجع مع العفو التام من الخليفة، فأجابه هذا أنه ليس خارجًا على الباب العالي، وإنما يخشى غدره وخيانته، وأنه لن يبرح المياه المصرية ما دام هو المحركَ لسكان سياسة الدولة، والقابض على زمامها.

(٦-٢) تدخُّل دول أوروبا

كان أول همٍّ لدى الدول الكبرى منع الروسيا من إنفاذ شروط معاهدة «هنكار إسكله سي» والانتفاع بها؛ ولذلك كان من المحتم عليها أن تعمل جميعها للوصول إلى ذلك. إلا أن الباب العاليَ، لمنع زحف إبرهيم باشا على القسطنطينية، قرَّر إعطاء مصر لمحمد علي وذريته من بعده، وإعطاء الشام لإبراهيم إلى أن يخلف والده على مصر. وكان هذا الاتفاق على رغبةٍ من الروسيا لأنه يخلصها من اتفاق هنكار إسكله سي، ولا يحط من سلطتها في القسطنطينية، فرأت الدول الكبرى أن الأمر أشد خطورة من أن يفصل فيه الباب العالي وحده؛ ولذلك كتبت إليه تُعلمه ألا يفاوض محمد علي في شيء، ولا يتفق معه إلا بواسطة الدول. فلما فطنت الروسيا لغرضهم لم تعارض في الأمر؛ وبذلك ظهرت الدول الكبرى بمظهر المشجع للباب العالي على معارضته لمحمد علي ورفضه لمطالبه.

إلى هذا الحد كانت فرنسا وإنجلترا متفقتين؛ لأنهما اجتهدتا معًا في إيقاف النفوذ الروسي في البلاد العثمانية، ورأتا أن أحسن حل للمشكل القائم بين محمد علي والدولة وضْع الدولة تحت حماية الدول الكبرى جميعًا. ثم ابتدأ الخلاف لأن «بالمرستون» وزير خارجية إنجلترا كان يعتقد أن الدولة العلية لا تصير في أمان إلا إذا كانت صحراء سيناء الحدَّ الفاصل بينها وبين محمد علي. والرأي العام في فرنسا من جهة أخرى كان ميالًا لمحمد علي؛ إذ كان يرى فيه حليفًا يعتمد عليه في منازعة الدولة البريطانية في البحر الأبيض المتوسط.

لذلك عرضت فرنسا على إنجلترا أن يُمنح محمد علي وذريته من بعده كل الولايات التي تحت يده؛ فلم يوافق على ذلك بالمرستون مع شدة ميله إلى استجلاب مودة فرنسا. غير أنه عرض عليها في (شعبان سنة ١٢٥٥ﻫ/أكتوبر سنة ١٨٣٩م) أن تكون مصر وراثية لأسرة محمد علي، وأن يتولى محمد علي أيضًا ولاية عكاء إلى طرابلس ودمشق. وبعد مفاوضات طويلة أعلن «تِيِيرْس» رئيس الوزارة الفرنسية في مايو سنة ١٨٤٠ أن فرنسا لا تقبل ذلك، بدعوى أن هذه الشروط لا توافق محمد علي، وأنه إذا أُعلن بها اندفع في زحفه على آسيا الصغرى، وأن أساطيل الدول لا يمكنها أن تقوم بعملٍ ما ضده «اللهم إلا امتلاك بعض البلاد على الساحل»، وليس في قدرتها طرده من بلاد الشام. وكان تييرس في هذه الأثناء يخابر محمد علي والباب العاليَ سرًّا في إبرام اتفاقٍ لمنح محمد علي كل بلاد سورية، فلما علم بالمرستون بذلك قطع كل رجاء في مؤازرة فرنسا له.

وفي أثناء ذلك أرادت الروسيا أن تتفق مع إنجلترا في حل المسألة التركية المصرية، فأرسلت سفيرًا عرض على الحكومة الإنجليزية أن الروسيا مستعدة أن لا تتدخل في المسألة التركية وحدها، وأنها تبادر إلى النزول عن شروط معاهدة هنكار إسكله سي، وفي مقابل ذلك يُقْفَل الدردنيل والبسفور في وجه كل السفن ويُسمح للروسيا وحدها أن تمر منها لحماية الدولة العلية وقت الخطر.

فابتدأت الدول الأربع «الروسيا، وبروسيا، والنمسا، وإنجلترا» تُفاوض محمد علي بواسطة «الكولونيل هُدْجِس» السفير الإنجليزي بمصر — وكان قد عُين بدلًا من الكولونيل «كَمْبِل» للقيام بهذه المهمة خاصة — فلم يُصغِ محمد علي لكل تهديدات «هدجس» ووعيده، مرتكنًا على ما كانت تعده به فرنسا من المساعدة؛ ولذلك رفض كل مفاوضات الدول الأخرى، فلما يئست الدول الأربع منه أبرمت مع الدولة العثمانية «معاهدة لندن» في (١٥ جمادى الأولى سنة ١٢٥٦ﻫ/١٥ يوليو سنة ١٨٤٠م) بدون علم فرنسا، وقررت في هذا المجتمع أيضًا الطرق التي يجب اتخاذها لإخضاع محمد علي. وأهم شروط هذه المعاهدة ما يأتي:
  • (١)

    إلزام محمد علي بإرجاع ما فتحه من بلاد الدولة العلية، وأن يحفظ لنفسه الجزء الجنوبي من الشام الشامل مدينة عكاء.

  • (٢)

    أن يكون لإنجلترا الحق بالاتفاق مع النمسا في محاصرة فرض الشام، ومساعدة كل من أراد الهجرة من أملاك محمد علي والرجوع إلى الدولة.

  • (٣)

    أن يكون لسفن الروسيا والنمسا وإنجلترا معًا حق الدخول في البسفور والدردنيل لوقاية القسطنطينية لو تقدمت الجيوش المصرية نحوها، وأن لا تدخلها سفن ما دامت الدولة غير مهددة بخطر.

وفي مادة خاصة اشترطت الدول أنه إذا خضع محمد علي لرأي الدول في مدة عشرة أيام أعطته ولاية مصر وراثية، وجنوبي بلاد الشام الشامل لولاية عكاء مدة حياته، وإذا أصر على عصيانه إلى ما بعد هذه المدة أعطته ولاية مصر فقط، وإذا لم يخضع في مدة عشرة أيام أخرى عادت الدول إلى النظر في الأمر من جديد.

ولَمَّا وصل خبر هذه المعاهدة إلى فرنسا هاج الرأي العام، وقامت الاستعدادات الحربية على قدم وساق؛ فنصحت الحكومة الإنجليزية لملك فرنسا «لويس فليب» بواسطة ملك البلجيك أن يتبصر في عواقب هذه الاستعدادات الحربية، ففطن لذلك الملك وعزَل «تييرس» رئيس الوزارة، وعيَّن بدله «جيزُوت». إلا أنه لم يتمكَّن من إيقاف الاستعدادات الحربية لهياج الرأي العام.

أما محمد علي فقد مضت عليه المدة المعينة ولم يقبل شيئًا من هذه الشروط؛ فأعلن الباب العالي خلعه وحصر الشواطئ المصرية والشامية. وكان محمد علي من جهةٍ لا يزال مؤملًا مساعدة فرنسا له، ومرتكنًا على قوة جيش ابنه إبراهيم، ومن جهة أخرى كانت فرنسا تعتقد في عظم جيوش محمد علي وأنه يمكنه أن يقاوم الدول حتى تجهز هي جيشها. ولكن الحوادث أظهرت غير ذلك، فأحجمت فرنسا عن مساعدة محمد علي بعد سقوط وزارة «تييرس» وتلاشي جيش إبراهيم أمام قوى الدول المتحدة كما سيأتي، وسهَّل عليها الأمر نزول إنجلترا عن الإصرار على حرمان محمد علي من مصر ذاتها.

(٦-٣) الحملة الأخيرة

لما جاء إلى سليمان باشا الفرنسي والي بيروت نبأ ما قرره الباب العالي بدأ في الاستعداد الحربي، وأبلغ سفراء الدول أن بلاد الشام في حالة حرب. وكان إبراهيم في ذاك الوقت في دمشق بجيشه المؤلَّف من أربعين ألفًا كاملي العدة، وهو الجيش الذي كسر الترك في واقعة نصيبين وقونية من قبلها.

وكان محمد علي في أعظم سطوته وبأسه؛ إذ قد بلغ عدد جيشه في هذا الوقت ربع مليون جندي منها ١٣٠٠٠٠ من الجنود النظامية و٤٠٠٠٠ من رجال البحرية، فأول عمل قام به مناصبًا الدولة أن أعلن:
  • (١)

    أن الفرنسيين آتون لمساعدته.

  • (٢)

    أنه حامي الإسلام ضد الكفار.

  • (٣)

    تحذيره المارونية من الإنجليز، وقال: إنهم يقصدون بتدخُّلهم في الأمر نصرة الدروز على كاثوليك لبنان.

إلا أن ذلك لم يجد نفعًا؛ لأن أهاليَ الشام كانوا قد سئموا حكمه، فثاروا على إبراهيم باشا بمساعي «رِتشَرْد وُود» أحد رجال السفارة الإنجليزية، فإنه جمع رؤساء القبائل، وأوضح لهم عاقبة الحالة حتى أفلح في إثارة خواطرهم على إبراهيم. وربما كان هذا أكبر سبب في هزيمة الجيش المصري؛ إذ بمجرد ظهور أسطول المتحالفين في المياه الشامية قامت الثورة في لبنان، فكان تأثيرها في القضاء على ملْك محمد علي في الشام أكثر من أساطيل الحلفاء وجيوشهم.

ابتدأت المناوشات عندما وصلت أساطيل الحلفاء أمام بيروت بقيادة «ستُبْفُورْد» و«نِبْيِير» الإنجليزيَّين، ومعها جيش عثماني مؤلَّف من ٤٠٠٠ جندي. فشرعت الأساطيل في إطلاق قنابلها على بيروت (رجب سنة ١٢٥٦ﻫ/سبتمبر ١٨٤٠م)، ونزل الجيش العثماني بالقرب من المدينة، إلا أنها لم تفلح في الاستيلاء عليها لحسن دفاع سليمان باشا عنها، ولَمَّا وصل الخبر إلى إبراهيم في دمشق سيَّر مددًا إلى بيروت، هُزم في الطريق عند قرية «برُومانة» في (رجب سنة ١٢٥٦ﻫ/سبتمبر سنة ١٨٤٠م)، ثم أنزل الحلفاء قوة أخرى عند صيداء فاستولت عليها عَنوة قبل أن يصل إليها إبراهيم باشا الزاحف لتخليصها، فاشتبك مع الحلفاء في ٨ أكتوبر في موقعة فاصلة عند «قلعة ميدان» كانت الدائرة فيها عليه، وقد قال شاهد عيان: إن إبراهيم باشا نجا مع ثُلَّة صغيرة من الفرسان بكل مشقة راجعًا إلى دمشق. ولَمَّا سمع سليمان باشا بذلك أخلى بيروت وانضم إلى إبراهيم، ثم استولت أساطيل الحلفاء على «عكاء»، وكانت فيها حامية مصرية عظيمة، فلم تقوَ على المقاومة أكثر من ثلاثة أيام.

فلَمَّا علم محمد علي بسقوط هذه المدينة حزن حزنًا شديدًا، ثم أرسل بعدها بزمن يسير إلى إبراهيم يأمره بإخلاء كل بلاد الشام؛ لأن مركزه أصبح حرجًا جدًّا. ولم يتمكن من إرسال النجدات برًّا؛ لأن ما لديه من الجند كان يحرس بحَّارة الأسطول التركي الذين تألَّبوا على أحمد باشا فوزي قائدهم، وأنكروا عليه ما أتى به من العصيان؛ فاضطُر محمد علي إلى إنزالهم إلى الشاطئ وحراستهم، ولم يمكنه إرسال المدد أيضًا من جهة البحر خوفًا من أسطول الحلفاء الذي كان يتجوَّل في تلك المياه.

ولَمَّا وصل الخبر إلى إبراهيم بإخلاء بلاد الشام أخذ في إخلائها. وقد أظهر من المهارة والحذق هو وسليمان باشا في تقهقر جيشه في وسط صحراء سورية ما شهدت به الأعداء، وقام كل ضابط من رجاله بواجبه، وحافظ على النظام إلى آخر لحظة من حياته.

ابتدأ ذلك التقهقر من مدينة دمشق في (٥ ذي القعدة سنة ١٢٥٦ﻫ/٢٩ ديسمبر سنة ١٨٤٠م)، وكان عدد الجيش ٦٢٠٠٠ جندي، يتبعهم عشرون ألفًا من الأطفال، والنساء. وقد لاقى الجيش في سيره عناءً شديدًا؛ إذ كانت الأعراب تتخطفه من أطرافه وأهل البلاد يناوشونه، حتى كان يُضطَر إلى محاربتهم من آنٍ لآخر. وبعد أسبوع وصل إلى بلدة «المزاريب»، ومن ثَمَّ سيَّر إبراهيم باشا سليمان باشا بالمدافع والخيل من طريق الصحراء إلى العقبة، وسار هو ومن معه إلى أن وصل إلى «غزة». وكان قد هلك أثناء هذا التقهقر ثلثا من معه من الجند وكثير من المستخدمين الملكيين. فكتب إلى والده يخبره بقدومه، ويطلب منه إرسال ما يلزم من السفن لنقل الجند إلى الإسكندرية وما يلزمهم من المئونة، فأرسل له أسطولًا مكوَّنًا من ثماني سفن.

وبعد سقوط «عكاء» أبحر «نبيير» بأسطول الحلفاء إلى الإسكندرية، وقابل محمد علي وأخبره أنه إذا خضع للخليفة أخذت دول التحالف على عاتقها أن تتوسط لدى الباب العالي ليعطيَه مصر وراثة، أما إذا استمر على عدم الإذعان فإنه يُضطَر إلى ضرب الإسكندرية وتخريب قصر رأس التين نفسه؛ فقبل ذلك محمد علي بعد أن يئس من مساعدة فرنسا له، ورد الأسطول العثماني إلى القسطنطينية.

أما الباب العالي فلم يقبل هذا الاتفاق، إلا أن «بالمرستون» أشار على دول التحالف أن تنصح له بالقبول، فطلبت الدول أولًا من محمد علي أن يخضع للباب العالي خضوعًا تامًّا بلا قيد ولا شرط، فامتثل لذلك وأرسل في (ذي القعدة ١٢٥٦ﻫ/يناير ١٨٤١م) رقعة يُظهر فيها خضوعه ويعترف بسيادة الباب العالي.

figure
بالمرستون (زعيم ساسة أوروبا في المسألة التركية المصرية).
ولما وصلت هذه الرسالة إلى الباب العالي عاد «بالمرستون» فأوعز إلى الدول المتحالفة أن يطلبوا إلى الباب العالي أن يمنح محمد علي ولاية مصر وراثية، فتمَّ ذلك بتقليد «فرمان» في (٢١ ذي الحجة سنة ١٢٥٦ﻫ/١٣ فبراير سنة ١٨٤١م)، هذا مؤداه:
  • أولًا: أن الولاية تكون لمن يختاره الباب العالي من أولاد محمد علي باشا الذكور، ثم لأولاد أولاده الذكور، وهلمَّ جرًّا، بحيث لا يكون لأولاد البنات الحق في الحكم مطلقًا.
  • ثانيًا: يجب على من يختاره السلطان واليًا على مصر أن يسافر بنفسه إلى القسطنطينية لتسلُّم تقليد التولية بيده.
  • ثالثًا: أن الذي يُنتخب واليًا لمصر يُعتبر كأحد وزراء الدولة في مخاطباته مع الباب العالي، وفي المقابلات السلطانية؛ بحيث لا يكون له أدنى امتياز عنهم من هذه الوجهة مطلقًا.
  • رابعًا: أن واليَ مصر يكون ملزمًا باتباع أمر التنظيمات العالي الذي أصدره السلطان عبد المجيد عند توليته، وكل ما أصدره أو يصدره الباب العالي من القوانين واللوائح. ويكون الوالي ملزمًا أيضًا بالسير في ولايته طبق المعاهدات المُبرَمة أو التي تُبرَم بين الباب العالي والدول الأجنبية أيًّا كانت بلا تغيير ولا تبديل؛ إذ الحكومة المصرية لم تخرج عن كونها ولاية عثمانية كباقي الولايات.
  • خامسًا: أن سائر الضرائب على اختلاف أنواعها يكون تحصيلها باسم الجناب السلطاني، ويكون تحصيلها وتوزيعها بحسب القواعد المتبعة في باقي ولايات الدولة العلية.
  • سادسًا: أن ربع المتحصل يُدفع للخزانة الشاهانية، والثلاثة الأرباع الباقية يُصرف منها ما يلزم لنفقات الإدارة وجباية الأموال، وما يلزم أيضًا للوالي وأسرته، وثمن البُر الذي يُرسل سنويًّا إلى مدينتَي مكة والمدينة المنورة.
  • سابعًا: أن هذه الضرائب تُدفع بقيمة واحدة مدة خمس سنين تبتدئ من سنة ١٢٥٧ هجرية. وبعد انقضاء هذه المدة يمكن تعديلها، إما بزيادة أو نقصان حسبما تستدعيه ثروة الحكومة والأهالي.
  • ثامنًا: أنه لضبط المتحصل من الضرائب ومعرفة ما يخص الدولة بالتحقيق يلزم أن تعيَّن لجنة من الدولة تقيم في مصر لهذه الغاية، ويُنظر في تعيينها بعدُ كما تقتضيه الإرادة الشاهانية.
  • تاسعًا: يكون لمصر الحق في ضرب العملة، من فضية وذهبية ونحاسية، بشرط أن يكون ذلك باسم السلطان المعظَّم، وأن لا تختلف العملة المصرية عن العملة العثمانية لا في الشكل ولا في الهيئة ولا في العيار.
  • عاشرًا: عدد الجيش المصري يجب أن لا يتجاوز ثمانية عشر ألفًا في مدة السلم، وأما في أيام الحرب فيُزاد هذا المقدار إلى الحد الذي تقرره الدولة؛ إذ إن العساكر المصرية تكون ملزمة حينئذٍ بالاشتراك والمساعدة في القتال مع باقي الجنود الشاهانية.
  • حاديَ عشر: أن مدة الخدمة العسكرية يجب أن لا تتجاوز خمس سنين، ويكون جمع العسكر بطريق القرعة كما هو المتبع في الدولة، ومن حيث إن الجيش المصري يبلغ — في ذاك الوقت — زهاء ثمانين ألفًا، يؤخذ منهم عشرون ألفًا، ويُرجَع الباقي إلى بلادهم، ويُرسل أيضًا من هذا المقدار ألفان إلى دار السعادة كي لا يبقى في مصر إلا الثمانية عشر ألفًا المقررة.
  • ثانيَ عشر: من حيث إن مدة الخدمة العسكرية خمس سنين، يؤخذ سنويًّا من أفراد القرعة أربعة آلاف شاب، يُرسل منهم إلى دار الخلافة أربعمائة، ويبقى الباقون في مصر.
  • ثالثَ عشر: أن من أدى مدة الخدمة المطلوبة من الجند يعود إلى بلده، ولا يجوز إدخاله في الجيش مرة أخرى.
  • رابعَ عشر: أن ملابس العساكر المصرية وعلامات رتبهم تكون مشابهة لجنس ولون ملابس العساكر الشاهانية.
  • خامسَ عشر: كذلك ملابس البحَّارة وضباط البحرية وبيارق المراكب تكون مماثلة لما هو متَّبَع في بحرية الدولة العلية.
  • سادسَ عشر: لا يكون لوالي مصر الحق في منح الرتب العسكرية للضباط البحرية والبرية إلا لغاية «صاغ قول أغاسي» — بدخول الغاية.
  • سابعَ عشر: لا يكون لوالي مصر الحق في إنشاء سفن حربية إلا بعد الحصول على إذْن صريح من الدولة العلية.
  • ثامنَ عشر: من حيث إن حق الوراثة على ولاية مصر لم يُمنح لمحمد علي باشا وأسرته إلا بهذه الشروط، فلو أخلُّوا بأحدها سقط حقهم، وصار لجلالة السلطان الحق في تولية مَن يشاء.

ومنح الباب العالي محمد علي أيضًا ولايات النوبة ودارفور وكردفان وسنَّار مدة حياته بدون أن تنتقل إلى ورثته كمصر، بمقتضى تقليد شاهاني أُصدر في اليوم الذي أُصدر فيه التقليد الأول، أعني في ١٣ فبراير سنة ١٨٤١م. وكلفه أن يقدم حسابًا عن هذه الولايات سنويًّا إلى دار الخلافة العظمى، وأن يمنع ما كان متبعًا في السودان من إغارة الجند على قرى الأهالي وخطْف بناتهم وصبيانهم. وأن يمنع جملةً عادة خصي بعض هؤلاء التعاس الحظ لاستخدامهم في القصور حرسًا على الحريم — أغاوات — وأن يحفظ للضباط الموجودين رتبهم، ويرسل إلى الباب العالي قائمة بأسمائهم، من الرتبة التالية لصاغ قول أغاسي فما فوق، ليُصدر أمرًا بتثبيتهم في وظائفهم.

فقبل محمد علي باشا كل هذه الشروط وإن لم يكن ذلك عن رِضًى، ثم طلب من الدول أن تساعده في تخفيف بعضها وتغيير بعضها الآخر. فقبلت الدول ملتمسه وأرسلت إلى الباب العالي لائحة بتاريخ (١٨ المحرم سنة ١٢٥٧ﻫ/١٣ مارس سنة ١٨٤١م) تطلب منه ذلك؛ فتنازلت الحضرة السلطانية بمقتضى تقليدٍ آخر تاريخه صفر (١٢٥٧ﻫ/أبريل سنة ١٨٤١م) بتعديل تقليدها الصادر في (٢١ ذي الحجة سنة ١٢٥٦ﻫ/١٣ فبراير سنة ١٨٤١م)، وهاك أهم ما فيه من الشروط المعدلة:
  • أولًا: أن حق الوراثة يكون للأكبر سنًّا بين أولاده الذكور، مع بقاء الشرط الملزِم لمن يستحق الولاية بهذه الكيفية بالسفر إلى مقر دار الخلافة العظمى لتسلُّمه التقليد بيده.
  • ثانيًا: أن ما تدفعه الحكومة المصرية للدولة العلية — صاحبة السيادة — من الخراج لا يكون ربع دخل الحكومة قبل أخْذ نفقات الجباية والإدارة، بل يصير تقديره فيما بعد مع مراعاة حالة الحكومة المصرية.
  • ثالثًا: أن يكون للوالي حق في منح الرتب لغاية «أميرالاي» — بدخول الغاية — أما ما فوق ذلك فلا يكون إلا بإذنٍ من الباب العالي.

ولما أقرت الدول هذا التعديل أصدرت الحضرة الشاهانية تقليدًا آخر في ١١ ربيع الآخر سنة ١٢٥٧ﻫ/أول يونيو سنة ١٨٤١م مؤيدًا لما في التقليد السابق.

وفي (غرة جمادى الأولى سنة ١٢٥٧ﻫ/٢٠ يونيو سنة ١٨٤١م) صدر تقليد آخر بجعْل مقدار ما تدفعه الحكومة المصرية إلى الدولة العلية سنويًّا ثمانية آلاف كيس.

(٧) شيخوخة محمد علي وحكم إبراهيم

بعد أن انكمش محمد علي في ولاية مصر، وحرمته الدول من فتوحاته التي اكتسبها بحد السيف وأريقت من أجلها دماء المصريين، لم يكن في قدرته النهوض بها إلى الدرجة التي كانت تصبو إليها نفسه. والسبب في ذلك يرجع إلى أمرين؛ الأول: تقدُّمه في السن واضمحلال قواه العقلية والجثمانية، والثاني: أن حالة البلاد الداخلية كانت قد انحطت دفعةً واحدة لِمَا حلَّ بأهلها من المصائب من جراء كل هذه الحروب التي قاموا بأعبائها، وأنفقوا عليها من دمائهم وأموالهم، حتى أصبحت البلاد في حالة يُرثى لها.

ومع ذلك ابتدأ محمد علي يحصِّن مدينة الإسكندرية على يد مهندسين فرنسيين، وذلك حينما أجبرته الدولة على تنقيص جيشه إلى ثمانية عشر ألف جندي. وأرسل حفيده عباس باشا إلى الباب العالي يلتمس منه أن يمنحه تقليدًا أوسع نطاقًا من الأخير، فأرضاه الباب العالي بأن منحه لقب الصدارة العظمى من غير أن يجيبه إلى طلبه.

ولكن شاءت المقادير إلا معاكسة محمد علي؛ ففي سنة (١٢٥٩ﻫ/١٨٤٣م) انتشر طاعون الماشية في البلاد وتبعه هبوط النيل؛ فأصبحت البلاد على حافة الخراب. وفي العام نفسه اجتاح الجراد زراعة البلاد فتركها قاعًا صفصفًا؛ وبذلك وقف دولاب الحكومة، واستولى الرعب والوجل على قلوب حكام البلاد، فاجتمع مجلس في القاهرة وكتب تقريرًا عن سير الأحوال في البلاد وما آلت إليه من الانحطاط، إلا أنهم لاقَوْا صعوبة عظيمة في تبليغ هذا التقرير إلى الباشا، ولَمَّا وصل إليه استشاط غضبًا. وكان يخاف أن يخلعه ابنه إبراهيم، ففكر في التخلِّي عن الملك والذهاب إلى مكة ليقضيَ باقيَ أيامه فيها، فتوسط سفراء الدول، وأزالوا ما في نفسه نحو ابنه البار.

وابتدأت بعد ذلك الأحوال تتحسن شيئًا فشيئًا في السنتين التاليتين، إلا أن صحة إبراهيم في هذه الأثناء اضمحلت دفعة واحدة، فأشار عليه الأطباء بالسفر إلى أوروبا، فعمل بذلك. وبعد أن طاف في كثير من البلدان — خصوصًا إيطاليا وفرنسا وإنجلترا — رجع إلى الديار المصرية وعلامات الصحة بادية عليه، فلم يجد والده هناك، بل علم أنه سافر إلى مقرِّ الخلافة (رجب سنة ١٢٦٢ﻫ/يونيو سنة ١٨٤٦م) ليحظى بالمثول بين يدي الخليفة ويقدم له ولاءه وطاعته.

وقد قوبل محمد علي من الخليفة بكل حفاوة وإكرام، وهنا تقابل مع أشد أعدائه خسرو، فتعانقا طويلًا واتفقا على تناسي الماضي. ولَمَّا طالت مدة إقامة محمد علي في دار الخلافة ابتدأ رجال القصر يعاملونه معاملة قاسية؛ فأثَّر ذلك في صحته تأثيرًا سيئًا، فلَمَّا رجع إلى مصر في أواخر ذلك العام كان أشبه بالشبح منه بالإنسان.

وفي أثناء عودته زار مسقط رأسه «قَوَلَة» التي تركها منذ عام (١٢١٤ﻫ/١٧٩٩م)، وبعد ذلك ترك مقاليد الأمور لحفيده عباس باشا الأول؛ لأن حالة إبراهيم الصحية لم تمكِّنه من القيام بأعباء الأمور في البلاد. وكانت خاتمة أعمال محمد علي وضْع أول حجر أساسي للقناطر الخيرية في (٢٢ ربيع الآخر سنة ١٢٦٣ﻫ/أبريل سنة ١٨٤٧م) بين جم غفير من المشاهدين.

ثم أشار الأطباء ثانيًا على إبراهيم بالسفر إلى أوروبا، وفي مدة غيابه ذهب والده إلى نابلي في إيطاليا، حيث سمع بخلع «لويس فِليب» ملك فرنسا، فتذكَّر خدماته له في الأزمة الأخيرة، وعزم على تجريد حملة لإرجاعه إلى عرشه، فلما علم بذلك إبراهيم قفل راجعًا إلى مصر.

figure
جامع محمد علي (بالقلعة).

وفي (شعبان سنة ١٢٦٤ﻫ/يوليو سنة ١٨٤٨م) أصدر الباب العالي تقليدًا بتولية إبراهيم باشا على الديار المصرية، فذهب لتقديم ولائه إلى الباب العالي في القسطنطينية، وبعد عودته بزمن يسير جدًّا، عاوده المرض الذي أضنى صحته منذ سنين عديدة، فقضى على ذلك الرجل العظيم في (١٣ ذي الحجة سنة ١٢٦٤ﻫ/نوفمبر سنة ١٨٤٨م) ودُفن بالقرافة، وبموته رجع عباس باشا من مكة، فتقلد الأمور في البلاد، ثم سافر توًّا إلى القسطنطينية ليتسلم تقليد التولية.

أما محمد علي فلم يمكث بعد تولية عباس إلا أشهرًا قلائل، كان في أثنائها منحط القوى العقلية والجثمانية جملةً لكبر سنِّه، إلى أن فاضت روحه بالإسكندرية في (١٣ رمضان سنة ١٢٦٥ﻫ/٢ أغسطس سنة ١٨٤٩م)، وبذا انتهت حياة عظيمٍ من أكبر رجال الشرق.

ونقلت جثته إلى القاهرة حيث دُفنت بمسجده الذي شيَّده بالقلعة سنة (١٢٤٦ﻫ/١٨٣١م)، وهو من أجمل المباني التي شُيدت بمصر على الطراز التركي الحديث.

١  ويسمى علي باشا الطرابلسي أيضًا نسبةً إلى طرابلس الغرب.
٢  هكذا كان يُسمَّى، وإن كان لم يمنح لقب «خديوي» رسميًا للوالي إلا في عهد إسماعيل.
٣  هذا الضابط بمثابة الحكمدار في وقتنا هذا.
٤  ومن شدة رغبته في إنجازه على وجه السرعة أنه أراد هدم أهرام الجيزة لاستخدام أحجارها فيه، لولا أن أقنعه لينان باشا أن قطع الأحجار من المحاجر أسهل من ذلك، وأشد اقتصادًا.
٥  يعني أنها تصبح موضع نزاع بين الدول العظام ربما أفضى إلى استيلاء أقواهن على مصر.
٦  وقد جاء في كتاب المسيو «هامون» في تاريخ مصر في عهد محمد علي، نقلًا عن تقرير المسيو «جومار» إلى محمد علي سنة (١٢٤٤ﻫ/١٨٢٨م) ما يأتي:

أنه خصص تلميذين بدرس العلوم السياسية، وكان يدرس لهما قانون حقوق الدول والاقتصاد السياسي، وأكثر لغات أوروبا المستعملة في السياسة، وتنقلا في بلاد أوروبا للوقوف على عادات أهلها. واختار أربعة للإدارة العسكرية، وثلاثة للبحرية، وثلاثة للعلوم الآلية — الميخانيكية — يتعلمون الهندسة العلمية، ويتدربون في المعامل، ويتمرنون على الأشغال اليدوية. وخص فرقة بفن المدفعية والاستحكامات، وتفرغ منهم أيضًا عدد لدرس الكيمياء الصناعية، وخاصةً ما يتعلق بالصباغة وعمل الزجاج، وصناعة السكر؛ ليكونوا مديرين للمعامل التي شُيدت في مصر. وخص بعضهم بالزراعة العملية، والتاريخ الطبيعي والتعدين؛ وذلك للبحث عما عساه أن يوجد في مصر من المعادن.

٧  وقد أوردنا في الصفحة التالية صور بعض طلبة البعوث العلمية، التي أرسلها محمد علي باشا إلى أوروبا، وهم: (١) رفاعة بك «ناظر مدرسة الألسن» (٢) مختار بك «أحد وزراء المعارف» (٣) حسن بك «وزير بحرية» (٤) مظهر بك «مهندس القناطر الخيرية» (٥) مصطفى محرمجي «مهندس» (٦) محمد شافعي «أحد نظار مدرسة الطب» (٧) محمد علي باشا الحكيم «طبيب وجراح» (٨) محمد السكري «مدرس بمدرسة الطب».
٨  على الشاطئ الغربي من شبه جزيرة مورة.
٩  ثم عادت الجنود العثمانية فاحتلتها لعدم إرسال إبراهيم باشا ما يكفي من الجند للاحتفاظ بها. وقد ذكرنا الحادثة إيضاحًا لمقدار تأثير صيت إبراهيم باشا.
١٠  طائفة قريبة من الإسماعيلية في المذهب، تقطن الجبل بين لبنان ونهر العاصي.
١١  طائفة مسيحية تقطن لبنان، تابعة لكنيسة رومية ظاهرًا، لكنها محافظة على تقاليدها القومية.
١٢  هو رأس بيت عربي يزعم انتماءه إلى قريش، وقد تنصَّر بشير هذا وتبعه بعض أهل بيته ليتولى زعامة نصارى لبنان — وهم أكثر قطانه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤