الطريق البري بين الهند وأوروبا
كان من أهم موارد الثروة في مصر في عهد المماليك الضرائب التي كانت تُجبى على البضائع والسلع المتبادلة بين أوروبا والهند على طريق مصر، وقد ظلت هذه الطريق مسلوكة حتى كشف البرتقال طريق الرجاء الصالح كما سبق، فتحوَّلت التجارة إليها منذ ذلك العهد، وهُجرت طريق مصر لسهولة الأولى وقلة نفقاتها وصون البضائع وقلة الخطر فيها، خصوصًا أن البحر الأبيض المتوسط كان يهدِّد تجارتَه في ذلك العهد لصوصُ البحر من الترك وغيرهم. وكانت القوافل التي تحمل التجارة من السويس إلى الإسكندرية تسطو عليها قبائل الأعراب وقُطاع الطريق.
بقيت طريق الرجاء الصالح متبَعة حتى أواخر القرن الثامن عشر، عندما فكر بعض رجال إنجلترا في إحياء طريق مصر. ولا غرابة؛ فإن نفوذ الدولة البريطانية كان قد اتسع في بلاد الهند، وأصبح من الضروري لها اتخاذ طريق أقصر للمواصلة بينها وبين هذه المستعمَرة العظيمة من طريق الرأس التي كانت تستغرق زمنًا طويلًا.
وأول من عُني بإحياء هذا المشروع «جورج بُلْدِوِين» سفير إنجلترا في مصر في عهد الثورة الفرنسية، وأول عمل قام به للوصول إلى غرضه أنه حصل على إذْن من الباب العالي يخوِّل له الملاحة في البحر الأحمر، ثم أحضر سفينة من لندن إلى الإسكندرية، وأخرى من «كلكتة» إلى ميناء السويس، ثم صعد الهرم الأكبر يرافقه ثُلة من أصدقائه، ومعه ثلاث زجاجات ملئت بالماء: إحداها من النيل، والثانية من نهر التاميس، والأخيرة من ماء الكنج، ثم شربوا من مزيج الثلاث على ذكر اتحاد الثلاثة الأنهار واتساع نطاق التجارة البريطانية على طريق الديار المصرية. غير أن الباب العاليَ لم يلبث أن ألغى الإذْن.
وبعدئذٍ أظهر أحد التجار الإنجليز بمدينة الإسكندرية، وهو «المستر بِرِجْز» لمحمد علي الفوائد المادية التي تعود على البلاد من اتصال التجارة بين مصر والهند، وذلك أثناء حربه مع الوهابيين، فصادف هوًى في نفس الوالي، وأرسل بعض السفن إلى مياه بمباي، ولكن المشروع لم يفلح طويلًا.
ولما ابتدأ احتكار محمد علي للتجارة في الديار المصرية، تلهَّى الفرنسيون النازلون بمصر بالوظائف الأميرية عن سواها من الأعمال، وكان نظير ذلك لرجال الإنجليز الحظ الأوفر في التجارة المصرية، فكانوا يتغنَّوْن بمدح محمد علي في بلادهم، ويذكرون له الأياديَ البيضاء في تشجيع التجارة، فلما سمع بذلك «توماس وَجْهُورْن» أحد رجال الأسطول الإنجليزي الموظفين في «شركة الهند الشرقية» أخذ يعمل بكل قواه العقلية والجثمانية لإحياء هذه الطريق، خصوصًا بعد أن توطدت دعائم الأمن العام في مصر بفضل إصلاحات محمد علي، وصار استعمال البخار في تسيير السفن من أكبر المشجعات أيضًا على الدأب وراء إنفاذ فكرته. فقدَّم اقتراحه في أول مرة إلى شركته في سنة (١٢٣٨-٣٩ﻫ/١٨٢٣م)، فلم توافق عليه بالرغم من مساعدة «بَرْكَر» سفير إنجلترا في مصر، ظنًّا منها أنه من الأمور الصعبة التنفيذ.
ولكن المشروع لم يندثر نهائيًّا؛ ففي سنة (١٢٤٤-٤٥ﻫ/١٨٢٩م) أرسل السير «جون مَلْكُم» حاكم بمباي باخرة إلى السويس لنقل التجارة، فلم تواصل رحلاتها إلا زمنًا يسيرًا لكثرة نفقات الفحم، إلا أن «بركر» ما زال بفكرة «وجهورن» يحمدها ويعضدها حتى طلبت منه الحكومة الإنجليزية تقريرًا رسميًّا في هذا الصدد. فاقتنعت إنجلترا بالتقرير، وما جاء شهر (رمضان سنة ١٢٤٦ﻫ/فبراير ١٨٣٠م) حتى أصبح نجاح مشروع «وجهورن» من المحقق.
وفي أثناء هذا الجهاد الطويل كان محمد علي من أكبر المشجعين لوجهورن، حتى إنه من شدة ميله لمحمد علي، قدَّم رسالة إلى البرلمان الإنجليزي يرجوه فيها أن ينظر إلى مصر بعين الرعاية والشفقة، وأن لا يجعلها في حوزة تركيا، ولا شك أن محمد علي خدم الأمة الإنجليزية من هذه الوجهة؛ ولذلك يعترف بعض الإنجليز بأن بريطانيا العظمى مدينة له في إحياء هذه الطريق.
وقد زاد في سهولة هذه الطريق أنه قبل ممات محمد علي أُسست شركة سفن تجارية تجري في ترعة المحمودية والنيل بين مصر والإسكندرية، فكان متوسط المسافرين على طريق مصر بين عامي (١٢٥٨–١٢٦٥ﻫ/١٨٤٢–١٨٤٩م) يبلغ ١٥٠٠٠ في العام الواحد.
إلى مشجع العلم والتجارة والنظام، الحامي لرعايا وأموال الممالك المتضادَّة، والفاتح للطريق البري إلى الهند.