الفصل السادس

الحوادث العرابية

١٢٩٨-١٢٩٩ﻫ/١٨٨١-١٨٨٢م

عندما كانت الإصلاحات التي ذكرناها سائرة في طريق تقدُّم البلاد كان روح الاستياء يتفشَّى في الجيش يومًا بعد يوم؛ ذلك لأن معظم الترقي بين ضباطه كان قاصرًا على الأتراك منهم والشراكسة، وقلَّما وُجد وطني متقلدًا إحدى الرتب والألقاب السامية. وكان الضباط المصريون يتوقعون أن ينال الجيشَ شيءٌ من الإصلاح العام الذي دخل البلاد فلم يحظَوْا بأمنيتهم، فحقدوا على الحكومة. وازداد سخطهم حينما أصدر «عثمان رفقي باشا» الشركسي الأصل ناظر الحربية قانون القرعة القاضي بمنع الترقِّي من «تحت السلاح»؛ إذ جُعلت فيه مدة الخدمة العسكرية في الجيش العامل أربع سنوات فقط، يذهب الجندي بعدها إلى بلده، ويبقى «رديفًا» خمس سنوات و«احتياطيًّا» ست سنوات. والمدة الأولى غير كافية للحصول على معلومات عسكرية تؤهل الجند للترقي.

عند ذلك تذمر بعض الضباط المصريين بزعامة «علي فهمي» و«أحمد عرابي» و«عبد العال حلمي» من أمراء «الآلايات«، وقرَّروا الاحتجاج على ذلك بإرسال معروض إلى رياض باشا رئيس النظار يطلبون فيه: أولًا عزل «رفقي باشا» من وزارة الحربية، وثانيًا إجراء تحقيق في كفاءة من فازوا بالترقي حديثًا بدون استحقاق. وكان المعروض شديد اللهجة فأدَّى إلى سلوك الحكومة مسلكًا جعل هذه الحادثة فاتحة لغيرها من الحوادث التي سُميت بالثورة العرابية.

ولم يكن أحمد عرابي المحرك الأول لهذه الثورة، وإنما كان المحرك لها «علي فهمي بك»؛ لأنه أمير «الآلاي» المعهود إليه حراسة القصر الخديوي، وكان قد أوقع به رفقي باشا عند الخديوي لأمرٍ في نفسه، فحقد «علي فهمي» عليه ذلك وعمل على النكاية به. أما إطلاق لفظ «عرابية» على هذه الحوادث، فلأن أحمد عرابي هو الذي بعد انضمامه إلى أصحاب الحركة الأوَّلين ظهر عليهم حتى صار هو المحرك لكل شيء فيما بعد. وسبب ظهوره على غيره أنه كان قبل الانضمام إلى الجيش يطلب العلم بالأزهر الشريف، فكانت له مقدرة متوسطة في الخطابة لم تكن عند غيره من الضباط، فضلًا عن أن انتماءه للبيت العلوي الشريف يرشحه لأكبر زعامة إسلامية، فأصبح بكل هذا صاحب المقام الأكبر في الثورة. واعتقد الناس في إخلاصه لأنهم لم يرَوْا له غرضًا خاصًّا مما كان يُظن في غيره من أصحاب هذه الحركة.

أما المعروض الآنف الذكر فقدمه إلى رياض باشا أحمد عرابي وعلي فهمي بأنفسهما (١٣ صفر سنة ١٢٩٨ﻫ/١٥ يناير ١٨٨١م)، فألح عليهما أن يسترجعاه، وهو في نظير ذلك يبذل غاية وسعه في تلبية مطالبهما. فلما لم يذعن الضابطان لنصحه وسمع الخديوي بالأمر، استشاط غضبًا وأمر بتأديب هؤلاء العصاة وقمع روح الفتنة في الجيش. وفي يوم (٢٨ صفر/٣٠ يناير) عُقد مجلس النظار برياسة الخديوي — ولم يصرَّح للمراقبين الأوروبيين بحضور الجلسة — وقرر القبض أولًا على الضابطَين المشار إليهما ومحاكمتهما أمام مجلس حربي، ثم النظر في مظالمهما.

وفي (غرة ربيع الأول/فبراير) استُدعي الضابطان إلى وزارة الحربية دون أن يُخبَرا بأن ذلك لمحاكمتهما. ولكن قرار مجلس النظار كان قد بلغهما سرًّا، فاتفقا مع ضباط فِرَقهما ورجالهما على أن هؤلاء إن وجدوا أن رئيسيهما لم يعودا بعد ساعتين ذهبوا لإنقاذهما بالقوة. ولما بلَغ الضابطان نظارة الحربية — قصر النيل — قُبض عليهما، وأُحيلا في الحال على مجلس عسكري للمحاكمة. فبينا هذا المجلس مجتمع إذ هجم ضباط «الآلايين» ورجالهما وأخرجوا رئيسيهما من حجرة اجتماع المجلس بعد أن عبثوا بأثاثها وأهانوا ناظر الحربية، ثم سار أحمد عرابي وعلي فهمي بجندهما إلى قصر عابدين وطلبا إلى الخديوي عزل ناظر الحربية. وبعد أن نظر الخديوي في حرج الأمر لم يرَ بدًّا من إجابة طلبهما، فصرف عثمان رفقي باشا بمحمود باشا سامي البارودي؛ ففرح الثوار، وطلب فهمي بك وعرابي بك العفو من الخديوي بعد أن أعربا له عن رغبتهما في الولاء لسموه.

هذ هي ثاني مرة ثار فيها رجال الجيش؛ ثاروا في عهد إسماعيل فلم يصبهم أذًى، وعُزل نوبار باشا من رياسة الوزراء عقب ثورانهم، وثاروا هذه المرة فغلبوا الوزارة والخديوي على أمرهم، وفازوا في الحال بعزل رفقي باشا موضوع كراهتهم وأصل تمرُّدهم، فعلموا من ذلك أن لا شيء يقف في سبيل مطالبهم، وأن الفوز في ثباتهم وتمسُّكهم برأيهم.

وبعد أن عزل الخديوي ناظر الحربية أمر بتشكيل لجنة للنظر في مظالم رجال الجيش ورفع رواتب الضباط والجند المصريين، وأعلن أنهم سيكونون في مستوًى واحد مع غيرهم من الأتراك والجراكسة. وبالاختصار هدأت الأحوال قليلًا، وكان يُظن أن الخطب انتهى عند هذا الحد.

على أن رجال الجيش لم يهدأ روعهم، وعاشوا في خوف من الخديوي خشية أن يكيد لهم كيدًا، عقابًا لهم على ثورانهم. وكانوا يرَوْن كل يوم من الشبهات ما زاد اضطرابهم، خصوصًا أن ناظر الحربية الجديد «محمود سامي باشا» عُزل ونُصِّب مكانه «داود باشا» ابن أخي الخديوي. وفي مساء (١٣ شوال/٨ سبتمبر) ذهب إلى بيت عرابي بك رجل غير معروف، فلم يسمح له بالدخول، فراب عرابي بك أمره، وذهب في الحال ليقص ذلك على زملائه من الضباط، وإذا بهم قد حدث لهم ذلك الأمر بعينه! فأيقنوا أن هناك مكيدة لاغتيالهم.

وازداد اعتقادهم يقينًا عندما أصبحوا فرأَوْا أن الأوامر صدرت ﻟ «الآلاي» الثالث «من الرجالة» بالسفر إلى الإسكندرية؛ فهاجوا وماجوا، وسار عرابي بك بقسم من الجيش يبلغ ٢٥٠٠ رجل معهم ١٨ مدفعًا إلى ميدان عابدين، واصطفوا أمام قصر الخديوي في عصر (١٤ شوال/٩ سبتمبر) يريدون مطالب جديدة.

فهال الخديوي الأمر وطلب «السير أوكْلَنْد كُلفِن» المراقب الإنجليزي١ ليستشيره فيما يجب عمله، فحضر هذا وسار مع الخديوي إلى قصر عابدين، ونصح له بالظهور بالثبات، وأن لا ينسَ أنه مليك البلاد، وأن له هيبة تَصغُر أمامها كل شجاعة لعرابي ورجاله.

فنزل الخديوي إلى الميدان، فتقدم إليه عرابي بك ليعرض مطالبه، وكان ممتطيًا جواده وبيده حسامه، فناداه الخديوي أن «تَرجَّلْ واغمد سيفك.» ففعل ذلك بالامتثال الواجب للملوك. ثم سأله الخديوي عما يقصد من عمله هذا، فقال: «يا مولاي، للأمة ثلاثة مطالب قد أتى الجيش إلى هنا للحصول عليها بالنيابة عن الأمة، ولن ينصرف حتى يحظى بها.»

عند ذلك أشار «السير أوكلند كلفن» على الخديوي أن لا يناقش الجند في هذه الأمور حفظًا لكرامته، وأن يدخل القصر ويترك له أمر المفاوضة معهم فيما يريدون، فخاطب السير أوكلند كلفن الجيش، وشرح لهم حرج الحالة، ونصح لهم بالانصراف قبل أن يتفاقم الخطب. فتمسك الثائرون بمطالبهم، وهي:
  • (١)

    عزل جميع النظَّار وتشكيل وزارة جديدة.

  • (٢)

    تشكيل مجلس نيابي للأمة.

  • (٣)

    زيادة عدد الجيش إلى ١٨٠٠٠.

وبعد المداولة رضي الخديوي بعزل النظار، مع إرجاء الفصل في الطلبين الآخرين إلى أن يؤخذ رأي الباب العالي.

فقبل عرابي ذلك، وانصرف الجيش داعيًا للخديوي بطول البقاء. وطلب عرابي إلى الخديوي أن يصفح عنه؛ فكان له ذلك.

وكانت شوكة عرابي قد عظمت، ونفذت كلمته في الجيش، ثم تعدته إلى الكثير من العمد والأعيان والعلماء، بما ينشره بينهم من الأقوال الجاذبة من «إنقاذ الوطن» وغير ذلك من الزخارف الباطلة التي كان لها أسوأ عاقبة في البلاد. وسهَّل انقياد بعض الأهلين له ما رأَوْه من تدخُّل الأجانب في شئون مصر، وإجحافهم بحقوق الوطنيين عند إعداد قانون التصفية. ثم داخل «عرابيًّا» الغرورُ، فبالغ في ادِّعاء ما ليس من حقه؛ من ذلك أنه أصدر في ٩ سبتمبر منشورًا لقناصل الدول يطمئنهم فيه على رعايا دولهم، ويخبرهم أنه المؤاخَذ على حفظ النظام! وهو حق غريب استباحه لنفسه، وكان الأجدر تركه لأمير البلاد أو لأحد وزرائه.

ولما انقضت مظاهرة عابدين طلب الخديوي من شريف باشا أن يشكل وزارة جديدة، فتردد أولًا لعلمه أنه سيكون ألعوبة في يد الحزب العسكري؛ إذ كانوا هم العاملين على إسقاط مَن قبله. ثم ألحَّ عليه الأعيان ورجال الجيش، فقبلها على شرط أن يتعهد رؤساء الحزب العسكري بالامتثال للأوامر، فقبلوا ذلك وشُكلت الوزارة في (١٩ شوال سنة ١٢٩٨ﻫ/١٤ سبتمبر سنة ١٨٨١م).

figure
أحمد عرابي.

ورأى شريف باشا تهدئةً للأفكار أن يُبعد رؤساء الحزب العسكري عن العاصمة، فأشار على عرابي بالذهاب مع «آلايه» إلى رأس الوادي، وعلي عبد العال بالذهاب مع آلايه إلى دمياط، فامتثلا. وصادف غيابهما عن القاهرة حضور وفد من قِبَل الباب العالي للنظر فيما سمعته الدولة من المشاكل الجارية في مصر، فوجد ظاهر الأمور هادئًا فأعلم الدولة بذلك.

وبعد سفر الوفد أصدر الخديوي أمرًا في (٢٦ المحرم سنة ١٢٩٩ﻫ/١٨ ديسمبر ١٨٨١م) بتنصيب «محمد سلطان باشا» رئيسًا لمجلس شورى النواب، فاجتمعت أعضاؤه، وشُكلت منهم لجنة المراجعة قانون المجلس، فأقرت اللجنة أكثر مواده إلا ما تعلق منها بميزانية الحكومة؛ فإن اللجنة رأت أن للمجلس الحق في مراجعتها، مع أن شريف باشا قد شرَّع في القانون عدم جواز ذلك للمجلس، عملًا برغبة المراقبين والدول الأوروبية؛ لأنهم كانوا يخشَوْن تسرُّب الاضطراب ثانيةً إلى الشئون المالية؛ مما يؤدي إلى نقض أحكام قانون التصفية.

وكانت عُرى الاتفاق بين الأعيان ورجال الجيش قد وثقت، ثم قوي جانب الجميع بثبوت قدم الحزب العسكري وتنصيب عرابي باشا في (ربيع الأول سنة ١٢٩٩ﻫ/يناير ١٨٨٢م) وكيلًا لنظارة الحربية إرضاءً لذلك الحزب، فتمسكت اللجنة برأيها، ولم يرَ شريف باشا وسيلة إلى إجابة طلبه لعلمه أن الدول لا تسمح بذلك مطلقًا.

وكانت الحكومة الفرنسية منذ مظاهرة ٩ سبتمبر سنة ١٨٨١م ترى وجوب بسط إنجلترا وفرنسا شيئًا من الإشراف على الديار المصرية. فلما رأس الوزارة الفرنسية المسيو «غَمْبِتَّا» في شهر ديسمبر عمل بكل قواه على تنفيذ هذه السياسة، وعرض الفكرة على اللورد «غِرَنْفِل» وزير الخارجية البريطانية، موضحًا له أن الحوادث الجارية بمصر تستدعي التدخل في شئون تلك البلاد محافظةً على الأموال والمصالح الأوروبية.

ولم يكن من سياسة بريطانيا العظمى في ذلك الحين مشاركة فرنسا في بسط شيء من النفوذ على مصر، ولكن دَفعتها الرغبة في إرضاء تلك الدولة — لما بينهما من التحالف — إلى إظهار شيء من الموافقة على رأي المسيو غمبتَّا، على أن هذا الوزير طالما عرض عليه اللورد غرنفل أن يطلب من الباب العالي أن يتدخل هو في أمر مصر ويحتلها بجنوده إن اقتضى الأمر ذلك؛ فكان دائمًا يقابل ذلك بالرفض.

ثم وجد المسيو غمبتا مِن عزم مجلس شورى النواب المصري على طلب فحص الميزانية فرصةً للشروع في إنفاذ ما يرمي إليه؛ فعرض على اللورد غرنفل أن ترسل حكومتا إنجلترا وفرنسا — بالاشتراك — مذكرة إلى معتمدَيها بمصر ليخبرا الخديوي ﺑ «رغبة دولتيهما في مساعدته ومساعدة حكومته للتغلب على المصاعب المتنوعة التي تزيد الارتباك والقلق في القطر المصري، وأن الدولتين على وفاق تام فيما يختص بمصر، خصوصًا بعد ما حدث من الحوادث الأخيرة التي مِن أهمها اجتماع مجلس شورى النواب.»

فوافق اللورد غرنفل على إرسال المذكرة بعد تردُّد، واشترط في جوابه أن موافقة الحكومة البريطانية على ذلك لا يقيدها بالقيام بأي عمل في المستقبل للتدخل في مصر إن اقتضى الأمر ذلك؛ فرضيت الحكومة الفرنسية بالشرط، وأُرسلت المذكرة وبُلِّغت رسميًّا للخديوي في (١٩ صفر سنة ١٢٩٩ﻫ/٨ يناير ١٨٨٢م)، فقابلها الخديوي بالشكر والامتنان.

على أن المذكرة وقعت على غير الخديوي وقوع الصاعقة، وارتاب جميع الطبقات في نيات الدولتين، واعتقد أعضاء مجلس الشورى أنهم المقصودون بذلك، وأن الدولتين تريدان تقويض سلطة مجلسهم؛ فزاد اتحادهم مع رجال الجيش وتمسَّكوا بأذيال عرابي وحزبه. أما الباب العالي فثار خاطره أيضًا لهذا العمل الذي فيه افتيات على حقوقه؛ إذ هو صاحب السيادة في مصر، وكان هو الأولى بالتدخل في شئونها.

فلما رأى شريف باشا ما كان للمذكرة من الأثر السيئ، طلب إلى الدولتين أن ترسلا مذكرة إيضاحية تفسر الأولى وتُبيِّن أن الدولتين لا ترميان إلى غرض سيئ. فوافقت الحكومة الإنجليزية على هذا الرأي، ولكن المسيو غمبتا عارض أشد المعارضة، وقال إنه يذهب بهيبة الدولتين، فعملت الحكومة الإنجليزية هذه المرة أيضًا برأيه على غير رغبتها.

وفي هذه الأثناء كان يزداد سخط أعضاء مجلس الشورى، وازدادوا تمسكًا برأيهم في أمر الميزانية. ولما رأَوْا أن شريف باشا يعارضهم طلبوا إلى الخديوي إقالته فاستقال. ثم شكَّل الخديوي وزارة جديدة في (٢٦ ربيع الأول سنة ١٢٩٩ﻫ/١٥ فبراير سنة ١٨٨٢) برياسة «محمود سامي باشا البارودي» طبقًا لرغبة أعضاء المجلس، وجُعل أيضًا عرابي باشا وزير الحربية فيها.

figure
محمود باشا سامي البارودي.

على أن إذعان الخديوي لرغبة الأعيان بهذه الصفة لم يُقصد به إلا حلٌّ عاجل للمشكلة ريثما يتم الاتفاق على مَن يوكل إليه قمع هؤلاء الثوار بالقوة؛ لأنه يستحيل حكم البلاد بوزارة رأسها من المنتمين للحزب الثائر، ووزير الحربية فيها عرابي نفسه، وهو أكبر عامل في الثورة.

وبمجرد تشكيل الوزارة الجديدة أخذ نفوذ الحزب العسكري في الازدياد يومًا بعد يوم، حتى امتد إلى جميع أعمال الحكومة، وفي يوم ٢٠ فبراير كتب «السير إِدْوَرْد مَلِتْ» المعتمد البريطاني بمصر إلى حكومته يخبرها بأن المراقبة الثنائية أصبحت اسمية فقط.

ثم زادت الوزارة الجديدة من عدد الجيش، ورفعت رواتب رجاله بلا اكتراث بما يصيب الميزانية من جرَّاء ذلك، ورقَّت كثيرًا من الضباط بدون اختبار؛ فجرَّ كل ذلك إلى اشتداد الخلاف بين الخديوي ووزرائه، وتفاقم الخطب حتى كان يُظن أن العرابيين يرمون إلى عزل الخديوي، وتنصيب محمود باشا سامي مكانه.

كل هذه الأعمال حرَّكت همة الدول الأوروبية من جديد. وكانت وزارة المسيو غمبتا في فرنسا قد سقطت وخلفه المسيو «دي فريسِنيه»، ولم يكن هذا شديد الإصرار على التدخل في مصر كما كان سلفه، إلا أنه رأى أن فرصة عدم التدخل قد فاتت، وأن الحال في مصر وصلت إلى حدٍّ يستحيل معه السكوت؛ إذ ظهرت كل معالم الثورة في أنحاء البلاد.

وكان الباب العالي قد احتجَّ على إرسال مذكرة إنجلترا وفرنسا، فرأت هاتان عرض المسألة على باقي الدول الأوروبية للنظر في الطريقة التي يجب بها الفصل في الأمر، فلم تُبدِ الدول معارضة في النظر في الأمر، ولكنها لم تفعل شيئًا فعَّالًا للوصول إلى نتيجة، فبادرت الحكومة الفرنسية بمفاوضة الحكومة الإنجليزية في الأمر، فأقرَّ قرارهما على إرسال أسطول من قِبل الدولتين إلى مياه الإسكندرية، وتكليف الوزارة المصرية الاستقالة، ورأت الحكومة الإنجليزية فوق ذلك أن يُطلب إلى الباب العالي أن يُصدر أمرًا إلى مصر يعضد به الخديوي، ويستدعي زعماء الثورة إلى الأستانة للإجابة عن عملهم، فوافقت على ذلك الحكومة الفرنسية بعد تردُّد.

وفي (٨ رجب/٢٦ مايو) قدَّم معتمدا إنجلترا وفرنسا مذكرة إلى رئيس مجلس النظار طلبا فيها استقالته من الوزارة، وإبعاد عرابي باشا عن القطر المصري مؤقتًا مع حفظ راتبه وألقابه، وأن يقيم عبد العال باشا وعلي فهمي باشا في الأرياف ولهما أيضًا رواتبهما وأوسمتهما، فاستقالت الوزارة، ولكن لم يسافر أحد ممن ذُكروا في المذكرة.

أما الأسطول الإنجليزي الفرنسي فقد وصل إلى مياه الإسكندرية حسب الاتفاق. وكان قائد السفن الإنجليزية «السير بوشَمْب سيمور»، فلما وصل وجد أن النفوذ كله في المدينة بيد الحزب العسكري، وأن الأحوال في هيج واضطراب، فأخبر دولته بذلك. وكانت الوفود من الأعيان والعلماء وغيرهم تذهب إلى الخديوي يرجونه إرجاع عرابي إلى منصبه، فلم يقبل منهم.

أما الباب العالي فإنه لما بلغه رجاء إنجلترا وفرنسا أراد أن يظهر بمظهر صاحب السيادة في البلاد، وقال إنه سيرسل سفيرًا من قِبله لفحص المسألة، وإنه لا داعي لبقاء أساطيلهما بالإسكندرية، فلم توافق الدولتان على استرجاع أساطيلهما، ورأتا أن مجرد بقائها بالمياه المصرية يكفي لإرهاب الثائرين، وإلقاء الرعب في قلوبهم.

ولمَّا لم يُجْدِ هذا التأثير الأدبي نفعًا، وازدادت الحالة خطورة يومًا بعد يوم، دعت إنجلترا وفرنسا الدول الأوروبية إلى مؤتمر بالأستانة للنظر في المسألة المصرية، ودُعي إليه الباب العالي، فلم يرض بإرسال مندوب من قِبله اعتقادًا أن حل المسألة المصرية من شأنه هو، لا من شأن مؤتمر يعقده غيره من الدول. ثم أسرع إلى إرسال المشير مصطفى درويش باشا مبعوثًا من قِبله إلى مصر لتفقُّد أحوال العسكرية. ومن الغريب أن الباشا المذكور قال في تقريره إلى الحضرة السلطانية إن العسكر محافظة على الطاعة والنظام، وطلب لضباط الجيش نحو ٢٠٠ وسام، منها الوسام المجيدي من الطبقة الأولى لعرابي نفسه!

ثم اشتد غلو الحزب العسكري، وأخذ يجمع الجيوش ويعدُّ العدة، فزاد خوف الأوروبيين المقيمين بالبلاد، حتى إن سكان الإسكندرية منهم تأهبوا للدفاع عن أرواحهم عند الحاجة، وبقيت الأحوال تزداد صعوبة واضطرابًا حتى جاءت تلك الحادثة المشئومة الشهيرة بحادثة ١١ يونيو أو «واقعة الأحد».

وأصل هذه الحادثة أنه في يوم (٢٤ رجب سنة ١٢٩٩ﻫ/١١ يونيو سنة ١٨٨٢م) تشاجر رجل مالطي مع مُكارٍ مصري في الإسكندرية لامتناع المالطي عن إعطاء الأجر الكافي نظير ركوب حمار المُكاري. وكان المالطي ثملًا بالخمر، فطعن المكاري بمُدْية، فانتصر لكلٍّ منهما قوم من أبناء ملته، فتذمر بعض الرعاع من الوطنيين، وأرادوا أن يثأروا من الأوروبيين، ولا سيما أن حوادث الحركة العرابية كانت قد أوغرت صدور بعض الفريقين من بعض، وابتدأ الأوروبيون يطلقون النيران من نوافذ بيوتهم على كل مارٍّ من الوطنيين؛ فازداد غضب المتجمهرين، وتضاعف الخطب. ولم يوجد مَن يزجر الرعاع أو يشرح لهم ضرر فعلتهم، مع تمادي الأوروبيين المتحصنين في بيوتهم في إطلاق النار حتى عظم القتال بين الفريقين، ونُهب كثير من مخازن المدينة، ثم صدرت الأوامر للجند بتفريق المتجمهرين، فلم يأتِ الغروب إلا وقد هدأت الأحوال وسكن الاضطراب، وقبضت الحكومة على كثير ممن وقعت عليهم شبهة القيام بهذه الثورة.

وقد كان لهذه الحادثة المحزنة أثر سيئ لدى الدول الأوروبية، وقللت من عطفهم على مصر والقائمين بالحركة العرابية فيها، وقالوا إن هذه الحركة يصحبها شيء من التعصب الذميم. وقد كان ذلك من أكبر المؤثرات فيما قرروه في المؤتمر الذي عُقد في الأستانة للنظر في شئون مصر.

أما ما كان من أمر هذا المؤتمر، فإنه عُقد بالأستانة في (٦ شعبان/٢٣ يونيو) وشرع أعضاؤه في التفاوض في الأمر، ولكن مفاوضاتهم سارت بغاية البطء لاختلاف مشارب الدول الأوروبية في أمر مصر، وخوف كلٍّ منها من تحمُّل المؤاخذة، بالرغم من اعتقادهم جميعًا بأن الحالة في مصر أصبحت تدعو إلى التدخُّل بالقوة، وبقي الباب العالي محجمًا عن إرسال مندوب من قِبله إلى المؤتمر. ثم عرض عليه المؤتمر في ٦ يوليو أن يرسل قوة إلى مصر بشروط معينة لتثبيت عرش الخديوي بمقتضى التقاليد السابقة، فأخذ يرجئ ويماطل إلى أن أعلن في يوم (٢١ شعبان/١٠ يوليو) أنه سيرسل مندوبًا إلى المؤتمر في اليوم الثاني.

على أن الفصل في أمر مصر كان في الحقيقة قد أفلت من يد الباب العالي والمؤتمر بإعلان قائد الأسطول الإنجليزي بالإسكندرية في فجر ١٠ يوليو المذكور أنه سيضرب قلاع المدينة إن لم تُسَلم له في مدة أربع وعشرين ساعة.

وذلك أنه منذ قدومه إلى المياه المصرية كان يلاحظ الهيج يزداد في المدينة يومًا بعد يوم، ثم بلغه أن عرابي باشا يأمر بزيادة تحصين قلاع الثغر ليضرب منها الأسطول الإنجليزي، فطلب إبطال هذا التحصين، فأخبره عرابي أنه ليس بالقلاع أدنى حركة تحصين جديدة، وأن ليس بها إلا المدافع القديمة العهد، ولكن «سيمور» أبصر بعد ذلك أن الاستعداد في القلاع قائم على قدم وساق، فأصدر بلاغًا إلى قناصل الدول بالإسكندرية في فجر ١٠ يوليو بأنه سيضرب المدينة إن لم تُسَلم إليه قلاعها.

وكانت الحكومة الإنجليزية قد عرضت على الحكومة الفرنسية أن تشرك أسطولها مع الأسطول الإنجليزي في ضرب المدينة إن اقتضى الأمر ذلك، فامتنع المسيو «فريسِنيه» بعلة أن حكومته تأبى أن تتحمل تبعة هذا العمل. فعزم الأسطول الإنجليزي على الانفراد بالعمل، وفي الساعة السابعة من صباح (٢٢ شعبان ١٢٩٩ﻫ/١١ يوليو سنة ١٨٨٢م) أطلقت العمارة الإنجليزية — وعددها ١٤ سفينة بين مدرعة ومدفعية — مدافعها على قلاع الإسكندرية، فجاوبتها قلاع الإسكندرية بعد ١٥ طلقة، واستمر تبادل النار بين الفريقين ١٠ ساعات، انتهت بدكِّ تلك القلاع الضعيفة دكًّا من غير أن يصيب السفن الإنجليزية أذًى يُذكر.

وفي اليوم التالي تراجعت حامية المدينة إلى الداخل، وعند خروجها من الإسكندرية أمر أحد الأمراء «الآلايات» المدعو «سليمان داود» — بغير علم عرابي — أن تُحرَق المدينة؛ فاشتعلت فيها النيران ونهبها الرعاع. وفي يومَي ٢٤ و٢٥ شعبان أنزل الأسطول الإنجليزي بعض الجنود فاحتلوا المدينة، فعاد إليها الأمن وأخذ الأهلون يرجعون إليها بعد أيام قلائل.

ثم أخذت الجيوش الإنجليزية والهندية تَفِدُ إلى الإسكندرية لمحاربة عرابي، بقيادة «جارْنِت وُلسِلي»، وكان عرابي قد عسكر بجهة «كفر الدوَّار» على بُعد بضعة أميال من الإسكندرية، فلما وجد الإنجليز أن موقعه هناك حصين رأَوْا أن يدخلوا البلاد من الشرق من جهة قناة السويس. وعلم بذلك عرابي، فعزم على ردم القناة كي لا تمرَّ منها السفن الإنجليزية، ولكن المسيو ديلسبس حمله على الكفِّ عن هدم هذا العمل الخطير، وقال إنه يمنع بحق حياد القناة مرور أي سفن حربية منها، فخُدع عرابي بأقواله، ولم يقدر ديلسبس طبعًا على إنجاز وعده، ونزلت الجنود الإنجليزية من طريق القناة؛ فاستعد العرابيون للقائهم بجهة «التل الكبير». وكانت أهالي القطر تمد جيش عرابي بحاجاته طوعًا أو كرهًا، حتى اجتمع له من الخيل والبغال شيء كثير.

وكان الباب العالي طول هذه المدة يتباطأ في الفصل في أمر مصر، وأخيرًا اشترك في مفاوضات مؤتمر الأستانة بإرساله مندوبين من قِبله في ٢٠ يوليو. ثم أعرب لرجال المؤتمر أنه مستعد لإرسال جيش لإخماد الثورة المصرية، فاشترطت عليه الدول شروطًا خاصة، مؤدَّاها أن لا يغير علاقة الدولة بمصر عما تقضي به التقاليد السابقة. وكانت في مقدمتهم في ذلك بإنجلترا؛ لأنها أصبحت منذ ضرب الإسكندرية أكبر الدول ارتباطًا بالشئون المصرية، ولم تُبدِ لها إحدى الدول شيئًا من المعارضة لعلمها بوجوب قيام إحدى الدول بإطفاء الثورة.

فاشترطت إنجلترا على الباب العالي أن لا يرسل جنديًّا واحدًا إلى مصر إلا بعد أن يُصدر منشورًا بأن عرابي باشا عاصٍ للسلطان، وبعد إبرام اتفاق حربي مع إنجلترا بشأن أعمال الجيش التركي والإنجليزي بمصر.

فأخذ الباب العالي يعرض عدة صور بما يصدره في المنشور على إنجلترا — فتشير هذه بتعديلها حسبما تراه موافقًا للأحوال — ثم كتب صورة نهائية ونشرها قبل أن يطَّلع مندوب إنجلترا عليها (٢٢ شوال/٦ سبتمبر)؛ فغضبت لذلك إنجلترا، وامتنعت عن توقيع الاتفاق الحربي؛ عند ذلك شرع الباب العالي يفاوض إنجلترا بشأن توقيع الاتفاق بالرغم مما حصل، وكادت الحكومة الإنجليزية تقبل ذلك في (٢٩ شوال/١٣ سبتمبر) لولا أن جاءت الأنباء في ذلك اليوم بأن الجيوش الإنجليزية بددت شمل جيش عرابي في صبيحة ذلك اليوم عند التل الكبير؛ وبذلك زالت الأسباب الداعية إلى مفاوضة الباب العالي في هذا الشأن.

أما موقعة التل الكبير فكانت في السَّحَر في الساعة الرابعة من صباح (٢٩ شوال سنة ١٢٩٩ﻫ/١٣ سبتمبر سنة ١٨٨٢م)، وكان عدد الجيش الإنجليزي فيها يبلغ ١٧٤٠٠ مقاتل. وجيش عرابي نحو ٢٧ ألف جندي ما بين نظامي وغير نظامي، فلم يُجْدِ هذا الفرق شيئًا أمام العلم وحسن النظام، ولم تَدُم الواقعة أكثر من عشرين دقيقة انتهت بتبديد الإنجليز لجيش عرابي، وفرَّ عرابي نفسه إلى القاهرة بعد أن بذل جهده عبثًا في رد المنهزمين من جيوشه إلى أماكنهم، وأراد عرابي الوقوف للإنجليز في طريق القاهرة فخذله الناس، وانكسرت نفوس مساعديه.

فسار الإنجليز إلى القاهرة فدخلوها بلا مقاومة، وتسلَّموا القلعة وباقيَ الثُّكنات العسكرية في (٢٢ ذي القعدة سنة ١٢٩٩ﻫ/٥ أكتوبر سنة ١٨٨٢م)؛ وبذلك ابتدأ احتلالهم للقطر المصري.

ثم سلَّم عرابي نفسه، وقبض الإنجليز على معظم زعماء الثورة.

١  وكان هذا قد نُصب مكان السير إفلن بيرنج الذي نُقل إلى منصب آخر بالهند.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤