الفصل السابع

عهد الاحتلال البريطاني

(١) قدوم اللورد دُفرين إلى مصر

دخلت مصر منذ عام (١٢٩٩ﻫ/١٨٨٢م) في طور جديد، وهو الاسترشاد بدولة أوروبية عظيمة في السير في سبيل تهدئة أحوالها وتنظيم إدارتها. وقد سبق أن أوضحنا الأسباب التي دعت بريطانيا العظمى إلى إرسال جيش لاحتلال مصر، والآن نبيِّن كيف امتد هذا الاحتلال إلى اليوم، مع ذكر أهم الأعمال العامة التي تمت في عهده.

بعد أن أُودِع عرابي السجن وأُخمدت نار الثورة كان أول واجب إعمال التدبير لتهدئة أحوال البلاد ومنع حدوث مثل هذه الفتنة في المستقبل؛ لذلك أمرت الحكومة البريطانية اللورد «دُفْرين» — سفيرها في الأستانة — أن يسافر إلى مصر ويُبدي للحكومة الخديوية ما يراه من المشورة والنصح، لاتخاذ الحيطة الكافلة بتثبيت عرش سمو الخديوي وإسعاد جميع طبقات الأمة. وكانت الحكومة قد سجنت — غير زعماء الثورة — عددًا كبيرًا من الأهلين، والعلماء لشبهات يسيرة. فلما حضر اللورد «دفرين» إلى مصر نصح للحكومة بالنظر في أمرهم، فعملت بمشورته، ثم أصدر الخديوي أمرًا بالعفو عن جميع الضباط الذين تقل رتبتهم عن «البكبشي»، مع تجريدهم من رتبهم وحرمانهم من معاشهم.

figure
اللورد دفرين.

ثم عُيِّنت «لجنة تحقيق» للنظر في أمر عرابي ومحمود سامي، وعبد العال وطلبة وعلي فهمي، فأقرَّت محاكمتهم أمام مجلس عسكري بتهمة ثورانهم على الحكومة. فأثبت المجلس إدانتهم وحُكم عليهم بالإعدام، ثم أُبدل بالحكم أخف منه وهو النفي المؤبد إلى جزيرة «سَرَنْديب» — سيلان — بالهند.

بعد أن دخلت الجنود الإنجليزية مصر واحتلتها لم يكن هناك داعٍ للمراقبة الثنائية؛ إذ في إنجلترا وحدها الكفاية للمحافظة على الأموال الأوروبية، وفي بقاء المراقبة احتمالٌ لفساد العلائق بين فرنسا وإنجلترا لتوقُّع الخلاف بينهما في الرأي، على أن الحكومة المصرية نفسها طالما وجدت المراقبة الثنائية حجرَ عثرة في سبيل أعمالها؛ ولذلك اقترح شريف باشا إلغاءها، فأيدته الحكومة الإنجليزية في رأيه وساعدته على إنفاذ رغبته بالرغم من احتجاج فرنسا، وتشنيع الصحف الفرنسية عبثًا، وفي (٩ ربيع الأول سنة ١٣٠٠ﻫ/١٨ يناير سنة ١٨٨٣م) أصدر الخديوي أمرًا عاليًا بإلغائها، فغادر المراقب الفرنسي مصر بحجة قيامه بإجازة، وعُيِّن المراقب الإنجليزي مستشارًا ماليًّا للحكومة المصرية.

ونظر اللورد دفرين أثناء إقامته بمصر في عدة أمور لإصلاح البلاد، فمن أهم ذلك إنشاء جيش مصري جديد؛ لأن القديم قد حُلَّ لقيامه بالثورة، ولأن إنجلترا كانت في ذلك الوقت تنوي استرجاع جيوشها من مصر في أقرب فرصة، فيحل الجيش الجديد محل الجيوش البريطانية. ولما لم يَجِد اللورد دفرين العدد الكافيَ من المصريين اللائقين لأنْ يكونوا ضباطًا في الجيش، اقترح أن يُنصَّب عليه قائد إنجليزي، ويُضَم إليه بعض كبار الضباط من الإنجليز، فوقع الاختيار على «السير إفلن وُود» فنُصِّب «سردارًا» للجيش المصري في أوائل سنة (١٣٠٠ﻫ/١٨٨٣م) وأخذ في القيام بتنظيم الجيش.

واقترح اللورد دفرين إصلاح الشرطة، فعُهد بأمرها إلى «الجنرال بيكر» وأُلحقت إدارتها بوزارة الداخلية.

ونظر أيضًا في تشكيل هيئات نيابية تساعد الحكومة في إدارة شئون البلاد؛ فاقترح إنشاء مجلس شورى لسنِّ القوانين يؤلَّف من ٢٦ عضوًا، يكون بمثابة مرشد لمجلس النظار، وتشكيل جمعية عمومية مكوَّنة من ٤٦ من الأعيان، تجتمع كل سنتين مرة يسترشد بهم كلٌّ من مجلس النظار والشورى في الوقوف على رغبات أهل البلاد، على أن هذا النظام لم يمكن إنفاذه دفعة واحدة لعدم تدرُّب البلاد على الحكومة النيابية، ورأت إنجلترا إرجاءه إلى أن يتم هذا التدريب.

على أن إنجلترا لم تقصد بقاءها بمصر أمدًا طويلًا، بل كانت على العكس من ذلك عازمة على الجلاء عنها بعد أن ترسخ قدم الإصلاح فيها، وتخرج من الأزمة التي كانت سببًا في نزول الجيش البريطاني الديار المصرية. يدل على ذلك ما جاء في خطاب الملكة فكتوريا يوم افتتحت البرلمان البريطاني في (٧ ربيع الآخر سنة ١٣٠٠ﻫ/١٥ فبراير سنة ١٨٨٣م) وتصريحات اللورد دفرين في التقرير الذي رفعه للحكومة البريطانية عن حالة مصر.

غير أنه حدثت أمور ومشاكل عاقت تقدُّم مصر على الوجه الذي تريده إنجلترا، فاضطُرت للبقاء فيها إلى هذا اليوم. ومن أعظم هذه المشاكل قيام الفتن والحروب في السودان؛ فإنها — فضلًا عن جعْلها البلاد في خطر إذا انجلت عنها الجيوش البريطانية — عاقت سير الإصلاحات العديدة التي اقترحها اللورد دفرين، وهي تتناول أمورًا كثيرة، أهمها الجيش والشرطة والهيئات النيابية والتعليم والمحاكم والري ومسح الأراضي وتخفيض الضرائب وإصلاح حال الفلاح وغير ذلك.

وبعد أن وضع اللورد دفرين الخطة للإصلاح الذي يريده في مصر عاد إلى مقره بالأستانة، وعُهد بإنفاذ هذا الإصلاح إلى معتمد بريطانيا العظمى في مصر؛ بحيث يكون مركزه في ذلك مركز الناصح والمرشد للحكومة المصرية ووزرائها.

ثم اختير لهذا المنصب «السير إفلين بيرنج» — اللورد كرومر فيما بعد — فوصل إلى مصر في (٩ ذي القعدة سنة ١٣٠٠ﻫ/١١ سبتمبر سنة ١٨٨٣م)؛ أي بعد مغادرة اللورد دفرين بأربعة أشهر، فبقي فيها يواصل هذا العمل إلى أن استقال من منصبه في صيف عام (١٣٢٥ﻫ/١٩٠٧م).

ولمَّا كان للحروب السودانية الأثر الأكبر في تأخير سير هذه الإصلاحات، حسُن بنا أن نأتيَ على ذكرها أولًا، ثم نعود إلى الكلام على الإصلاحات التي لم نشرحها بعد.

figure
اللورد كرومر.

(٢) حروب السودان

استولى محمد علي باشا على السودان سنة (١٢٣٥ﻫ/١٨٢٠م)، ولكنه لم يوطِّد فيه نفوذ مصر؛ فبقيت سلطة الحكومة عليه ضئيلة منذ هذه المدة، وكاد يكون الحل والعقد فيه بأيدي الباشوات التُّرك وجباة الضرائب من البشبزق وغيرهم ممن لم يكن لهم همٌّ سوى جمع الثروة وابتزاز الأموال من أبناء السودان التِّعاس. وكان الشغل الشاغل لكل حاكم عام ولي السودان في هذه المدة إطفاء الثورات التي لم تخمد نارها قط في أنحاء البلاد، وصد هجمات الحبشة على الحدود السودانية.

وقد استتب النظام نوعًا في المقاطعات الاستوائية في سنة (١٢٩١ﻫ/١٨٧٤م) على يد والٍ إنجليزي هو «الجنرال غُردون»، ولكنه ما لبث أن غادر البلاد في سنة (١٢٩٣ﻫ/١٨٧٦م) فعاد باشوات الأتراك إلى ظلمهم القديم، وبعد قليل قامت ثورة في السودان استفحل أمرها وانتهت بزوال حكم المصريين من تلك البلاد.

ومن أهم الأسباب التي أفضت إلى قيام هذه الفتنة:
  • أولًا: ظلم جباة الضرائب وحبهم للرشوة.
  • ثانيًا: وقوف الحكومة المصرية في وجه تجارة الرقيق.
  • ثالثًا: مؤازرة بعض رجال الجيش المصري للثائرين، وإطماعهم في النجاح إذا ثاروا على الحكومة، فقد قيل: إن «عرابيًّا» كان يرسل إشارات برقية إلى أهل السودان يحرضهم على مقاومة سلطة الخديوي.

ومما سهل الأمر على الثائرين جلاء الجنود المصرية عن السودان لإطفاء الثورة العرابية.

ثم استفحلت الثورة بزعامة رجل يُدعى محمد أحمد ظهر في السودان وادَّعى أنه «المهدي» المنتظَر؛ ولذلك لُقب بالمهدي.

وُلد «المهدي» في مدينة دنقلة عام (١٢٥٩ﻫ/١٨٤٣م)، واشتغل في صباه مع عمه في صُنع السفن بجزيرة أمام «سنار»، ثم ضربه عمه ذات يوم ففر منه، والْتَحق بأحد معاهد التعليم العربية التي كان يتعلم فيها الدراويش، فدرس بها الدين مدة، ثم ذهب إلى «بربر» ومنها إلى «كانا» على النيل الأبيض، فتقلد منصب «فقير» — شيخ — في سنة (١٢٨٧ﻫ/١٨٧٠م) واستوطن بجزيرة «أبَّا» بالقرب من كانا المذكورة.

ثم أخذ صيته في الازدياد، فجمع ثروة طائلة، والتفَّت حوله التلاميذ، وتزوج ببنات أعاظم رؤساء قبائل البقَّارة؛ فعظمت بذلك عصبيته بين قبائل تلك الجهة. وفي سنة (١٢٩٨ﻫ/١٨٨١م) أخذ يكتب الرسائل إلى فقهاء السودان يخبرهم أنه هو المهدي المنتظر، وأن كل من لم يؤمن به هالك لا محالة، سواء أكان وثنيًّا أم مسيحيًّا أم مسلمًا. فشاع ذكره في السودان، حتى بلغ أمرُه مسامع الحاكم العام رءوف باشا في (أوائل رمضان سنة ١٢٩٨ﻫ/يوليو سنة ١٨٨١م). ولم يكد يسمع العلماء بأمره حتى أفتَوْا بأنه دجَّال، وكاد السودانيون أنفسهم ينفضُّون من حوله، بالرغم من جهلهم وتخريفهم، ولولا اسيتاؤهم من الحكومة في ذلك الوقت ما اندفعوا معه في مقاومتها.

figure
المهدي.

فاستدعاه رءوف باشا إلى الخرطوم ليحضر في مجمعٍ من العلماء ويقيم الحجة على دعواه، فأبى المهدي الظهور. وخرج رءوف باشا ليقبض عليه، فانقض عليه أتباع المهدي في الطريق وفتكوا بمن معه وقتلوه.

فلما خلفه «عبد القادر باشا حلمي» في ولاية السودان انتصر على أتباع المهدي — الدراويش — في بضع مواقع صغيرة. غير أن ذلك لم يذهب بقوتهم، وأخذت ثروتهم تتضاعف يومًا فيومًا حتى اتَّضح للحكومة المصرية المتباطئة في أمره أنها ليست بالأمر اليسير، بعد أن أهملت المهدي حتى انقض على مدينة «الأبيِّض» في (أوائل سنة ١٣٠٠ﻫ/١٨٨٣م) واستولى عليها.

fig57

على أن مركز الحكومة المصرية إزاء هذا الحادث كان في شدة الحرج؛ لعدم وجود جيش مدرَّب لديها تمدُّ به واليَ السودان، الذي لم يعدل منذ نشوب الفتنة عن استصراخها واستنجادها. وقد كان لإنجلترا جيش احتلال في مصر، لكنها لم ترغب إذ ذاك في التدخُّل في الأمر، كي لا تُضطَر إلى تجريد حملة على السودان كالتي جرَّدتها على مصر. فأخبرت الحكومة أنها إذا أرادت إخماد الفتنة في السودان فليكن ذلك بالجيوش المصرية.

وفي ربيع سنة (١٣٠٠ﻫ/١٨٨٣م) استخدمت الحكومة المصرية عددًا من الضباط الإنجليز في الجيش المصري المؤلَّف لإنقاذ السودان، وعلى رأسهم «هِكْس باشا»، فتقلد قيادة الجيوش السودانية في (رمضان/يوليو)، وجعل وكيله «علاء الدين باشا» التركي، غير أن جيوشه لم تكن على ما يُرام من التدرُّب، ومعظمهم — من جنود وضباط — كان من جيش عرابي المُنحل وممن نبذهم «الجنرال وود» لعدم لياقتهم لجيشه الجديد، ذلك إلى قلة وسائل النقل، وعدم توافر الأموال الكافية للإنفاق على الحملة.

خرج هكس باشا بجيشه المختلط من الخرطوم في (ذي القعدة سنة ١٣٠٠ﻫ/سبتمبر سنة ١٨٨٣م) يريد استرداد «الأبيِّض»، فوصل إلى «الدويم» دون أن يلقى أحدًا من الأعداء، وقد أخذ التعب والظماء يفعلان بجيشه أكثر مما تفعله النيران، وبينا هم بين الدويم والأبيض إذ خرج عليهم الدراويش من كمين في الطريق، وأفنَوْهم عن آخرهم.

وصل خبر هذه الفاجعة إلى القاهرة في (المحرم سنة ١٣٠١ﻫ/نوفمبر سنة ١٨٨٣م)، فكان وقعه كالصاعقة في نفوس أُولِي الشأن؛ إذ به انقطع كل أمل في القضاء على المهدي عاجلًا، وخشي الناس أنه عما قريب يأخذ «الخرطوم» نفسها.

إخلاء السودان

وكانت الحكومة الإنجليزية لا تزال مُصرَّة على عدم إرسال جيش من قِبلها إلى السودان، ورأت أن الجيوش القليلة التي يتسنى للحكومة المصرية إرسالها لا تفيد بشيء، بل ربما أدَّى إرسالها إلى زيادة الويل؛ فنصحت للحكومة المصرية بإخلاء السودان من خط الاستواء إلى جنوبي وادي حلفا، ريثما تتحسن الأحوال ويقوى مركز مصر ذاتها فتعود إلى فتح السودان من جديد. فلم يوافق «شريف باشا» رئيس الوزارة على إخلاء السودان بحجة أنه المورد الحيوي لمصر، ولأن الإقرار بسلخه عنها مُسقط لحقوقها عليه، فيصبح نَهبًا للدول، فاعتزل منصبه وخلفه في رياسة الوزارة «نوبار باشا» فوافق على سلخه من مصر.

وكان في النية أولًا إرسال عبد القادر باشا إلى الخرطوم لتولِّي استرجاع الجنود المصرية من السودان، ولكن قرَّ الأمر أخيرًا على إرسال غردون باشا — الجنرال غردون — الإنجليزي في هذه المهمة، لِمَا له من النفوذ والمحبة عند أهل السودان، فيكون ذلك أكبر عون في هذا العمل الشاق الذي إن لم تُراعَ فيه الحكمة ورباطة الجأش، استخف السودان بالحكومة المصرية وفتكوا بجيشها قبل أن يجلوَ عنهم، وكان يُظن أن «غردون» يستطيع بما لَه من المكانة المذكورة أن يُطيِّب خاطر القبائل فلا تنتشر الثورة أثناء جلاء الجيش المصري. وفي (ربيع الأول سنة ١٣٠١ﻫ/يناير ١٨٨٤م) أُرسل غردون في هذه المهمة وجعل وكيله «الكولونيل استيوارت»، وكان من أحذق الضباط الإنجليز.

وفي أثناء ذلك كان أمر المهدي قد استفحل، وأخذت دعوته تنتشر في أنحاء السودان حتى لحقت السودان الشرقي؛ ففي (شوال سنة ١٣٠١ﻫ/أغسطس سنة ١٨٨٤م) وصلت رسل المهدي إلى تلك الجهة بالقرب من «سِنكات» وأخذوا يثيرون القبائل على الحكومة. وكان زعيمَ هذه الحركة رجلٌ من سلالة تركية قديمة يُدعى «عثمان دِقْنَة»، أصله تاجر رقيق جهة سواكن، ولمَّا كسدت تجارته بتضييق الحكومة على الرقيق تألَّب عليها وانضم إلى المهدي، فلقَّبه أميرًا من أمرائه، ولم يلبث أن انضمت إليه جميع قبائل السودان الشرقي، فلم يبقَ تحت نفوذ الحكومة المصرية إلا حاميات «سنكات» و«طوكر» و«سواكن» و«تِرِنْكِتات» على البحر الأحمر.

ورأت الحكومة المصرية أن ترسل لإنقاذ حاميتَي طوكر وسنكات «الجنرال بيكر» مع رجال الشرطة الذين عُهد إليه تدريبهم. وربما كان هؤلاء الرجال في الجملة خيرًا ممن خرج بهم «هكس باشا»، وإن لم يكونوا على ما يُرام من النظام والتدرب؛ إذ إن بعضهم لم يَفُقْ في تعلُّمه رجال الشرطة العاديين، وكثير منهم كان قريب العهد بمبادئ الحركات النظامية. خرجت هذه القوة لإنفاذ غرضها، فالتقت بالدراويش عند «الطيب» في (جمادى الأولى سنة ١٣٠١ﻫ/فبراير سنة ١٨٨٤م)، فانهزمت شرَّ هزيمة؛ إذ كانت الجنود ترمي سلاحها وتلوذ بالفرار لقلة تدرُّبهم على الحرب. وقد كان عدد رجال هذه الحملة ٣٧٠٠، فلم ينجُ منهم سوى ١٣٠٠ رجل.

عند ذلك اضطُرَّت الحكومة الإنجليزية بعد إبادة الجيوش المصرية القديمة والجديدة إلى فعل ما لم ترضَ به من قبل، وهو إرسال حملة إلى السودان؛ فأمرت القائد البحري «هِيوِت» بإنزال قوة في «سواكن»، وأرسلت إلى «ترنكتات» قسمًا من جيش الاحتلال بمصر بقيادة «السير جيمس جراهام»، وكانت حاميتا طوكر وسنكات قد اضطُرَّتا إلى التسليم قبل أن تصلهما النجدة، فخرج «جراهام» إلى الطيب حيث هُزم بيكر من قبل، فكسر الأعداءَ كسرة شنيعة، ثم جدَّ في اقتفاء «عثمان دقنة» فالتقى به بجهة «طماي» ففتك بجيشه من قبل وأحرق معسكره، ولكنه لم يقدر على القبض عليه.

وبعد أن ألحق هاتين الهزيمتين بالدراويش اكتفى بالرجوع إلى سواكن، وباتت هذه المدينة هي وترنكتات في مأمن من العدو، ثم استُدعي جراهام إلى مصر في (أواخر جمادى الأولى سنة ١٣٠١ﻫ/مارس سنة ١٨٨٤م).

figure
غردون باشا.

أما غردون باشا فإنه بلغ الخرطوم في (١٩ ربيع الآخر سنة ١٣٠١ﻫ/فبراير ١٨٨٤م) فنُصِّب حاكمًا عامًّا على السودان. وقد كان لقدومه في أول الأمر وقْع حسن في نفوس القبائل، واستتبت السكينة في الخرطوم. غير أنه لم يشرع توًّا في إخلاء السودان حسبما كان معهودًا إليه، بل أخذ يُضيع الوقت في مخابرة أُولِي الشأن بالقاهرة في الطريقة التي يجب أن يحكم بها السودان بعد إخلائه، وعرض عليهم من ذلك عدة خطط ومشروعات، مندفعًا في ذلك بخوفه على الأهلين من ثورة المهدي ومن الفوضى التي لا بد أن تنتشر في طول البلاد وعرضها عقب جلاء الجيش المصري. ومما اقترحه في هذا الشأن أن يُرسَل إليه «الزبير باشا» ليساعده في الجلاء، وبعد ذلك تُعُهِّد إليه ولاية السودان. وقد عرض هذا الاقتراح بإلحاح أكثر من مرة، ثم رأى أُولو الشأن بعدُ رفضه بتة. على أن غردون كان في ذلك الحين يستهين بقوة المهدي ويطلب من الحكومة مرارًا أن تمده بجيش «ليقضيَ على المهدي»، وأن تعدل عن إخلاء السودان.

ولا يخفى أن ذلك كان مخالفًا للاتفاق الذي أُرسل بمقتضاه إلى السودان، فلم ترسل إليه الحكومتان الإنجليزية والمصرية شيئًا من الجند، وصار نطاق نفوذ المهدي يتسع يومًا بعد يوم حتى عمَّ القبائل التي بين «بربر» و«الخرطوم»، فانضموا إلى المهدي في (أواخر رجب سنة ١٣٠١ﻫ/مايو ١٨٨٤م)، فانقطع بذلك خط الرجعة على غردون، وأصبحت حالته تؤذن بالخطر.

حملة إنقاذ غردون

والظاهر أن الحكومة الإنجليزية لم تعرف بادئ الأمر الخطر الذي كان يتهدد «غردون» مع وجوده بلا جيش في السودان، فلما حدث ما تقدَّم ورأت الخطر يحدق به، أسرعت إلى إرسال نجدة من القاهرة لإنقاذه بقيادة «اللورد وُلْسلِي».١ وبينا هذه الحملة في طريقها أرسل غردون «الكولونيل استيوارت» في نفر من الرجال على باخرة من الخرطوم قاصدين مقابلة الحملة القادمة لنجدته، وإبلاغها ما يهمها معرفته عن الحالة في السودان. فمرت الباخرة على «بربر» دون أن تلاقيَ شيئًا، إلا أنها اصطدمت بصخر قُرب «أبي حمد»، وفتكت بمن فيها إحدى قبائل البدو غدرًا بعد أن أنزلتهم في ضيافتها.

وفي يوم ٣٠ ديسمبر وصل «ولْسلِي» بجيشه إلى «كورتي» فرأى أن يُسيِّر قوتين للقاء الدراويش جهة «المتمَّة»؛ قوة تذهب بطريق النيل، والأخرى بالصحراء، فوصلت هذه القوة الأخيرة إلى «المتمة»، وهزمت جيوش المهدي عند «أبي قليع» ثم بلغت «جوبات» في (٣ ربيع الأول سنة ١٣٠٢ﻫ/٢٠ يناير سنة ١٨٨٥م)، وهنا اتصلت بالبواخر التي ذهبت بطريق النيل. وعلم «ولسلي» أن غردون في خطر، وأنه يخشى العاقبة كثيرًا إذا تأخر وصول النجدة عن ٢٤ يناير، فأسرع «ولسلي» إلى تسيير باخرتين بالجند لإنقاذه، ولكن هذه الرحلة لم تكن بالأمر السهل. وفي (٨ ربيع الآخر/٢٥ يناير) اصطدمت إحدى السفينتين بصخور الشلال السادس، فعطل المسير أربعًا وعشرين ساعة.

وبينا هذه النجدة تعاني الوصول إلى «الخرطوم» إذ استولى الدراويش على المدينة، وقتلوا «غردون»، وذلك في (٩ ربيع الآخر سنة ١٣٠٢ﻫ/٢٦ يناير ١٨٨٥م). ومما ساعد على سقوط المدينة خيانة «فرج باشا» قائد الحصون؛ فإنه انضمَّ إلى جيوش المهدي في الليلة السابقة لسقوط المدينة.

وعند ذلك صدرت الأوامر للورد «ولسلي» أن يهاجم الخرطوم ليستردها، فشرع يهاجمها من ثلاث جهات، ولكن بعد قليل عدلت الحكومة الإنجليزية عن استمرار القتال لاشتغالها ببعض مناوشات على حدود الهند، وفي (٢٢ رمضان/٥ يوليو) أُخليت مدينة «دنقلة»، وصارت «وادي حلفا» أقصى الحدود المصرية.

وكان هذا النصر قد ضاعف ثقة أتباع المهدي به، وظنوا أنه سيقودهم إلى فتح جميع ممالك الأرض، وأنه لن يموت إلا بعد فتح الحرمين. ولكن ما لبث أن خاب فَأْلُهم؛ إذ لم تمضِ عليه بضعة أشهر في عاصمته «أم درمان» حتى لحقته المنيَّة كغيره من البشر في (٩ رمضان سنة ١٣٠٢ﻫ/٢١ يونيو سنة ١٨٨٥م). وكان قبل وفاته قد أوصى بالخلافة من بعده ﻟ «عبد الله التعايشي»، فبايعه أتباع المهدي وسمَّوْه «خليفة المهدي». أما جثة المهدي فإنها دُفنت في الحجرة التي فارقته الحياة فيها، ثم أقيمت عليها قُبة صار الناس يزورونها للتبرك.

ولم يكد «التعايشي» يتسلم مقاليد الأمور حتى عزم على فتح مصر، ولكن الجيش المصري كان قد تمَّ تدريبه، فخرجت من مصر فرقة بعض جيوشها مصرية وبعضها إنجليزية، وهزمت جيوش «الخليفة» بلا عناء عند «جنس» في (٢٣ ربيع الأول سنة ١٣٠٣ﻫ/٣٠ ديسمبر سنة ١٨٨٥م) فسلِمت مصر من غارته.

ولكن نفوذه عمَّ السودان ولم يخرج عن دائرة سلطته إلا عدة من المقاطعات النائية؛ فإنها كانت من نصيب الممالك المجاورة لها؛ فأُعطيت «مصوَّع» وما يجاورها لإيطاليا، وأُعطيت «بوغوس» لملك الحبشة مكافأةً له على مساعدته في تسهيل جلاء الجيوش المصرية من «أماديت» و«سنبيت» و«غلباط»، خصوصًا أن هذه كلها بلغت مصر سالمة. وأعلنت إنجلترا امتلاك مقاطعة «بربرة» وزَيلع وأوغندا، وضمَّت بلجيكا إلى مستعمراتها — الكنغو الحرة — وبعض الأقاليم المجاورة لها، وشرعت فرنسا في الاستيلاء على بحر الغزال والنيل الأبيض.

مضت كل هذه الحوادث ولم يفعل الباب العالي فيها شيئًا يُذكر، وإنما أرسل في آخر الأمر سفيرًا إلى مصر ليساعد الخديوي في توطيد الأمن في السودان بالطرق السلمية، فابتدأت المفاوضات مع الدراويش، ولكن لم يكن لذلك أية نتيجة. على أن مصر كانت طول هذه المدة آخذةً في النهوض من إفلاسها شيئًا فشيئًا، وقوي جيشها وصار يصد جموع الدراويش كلما حاولوا الاعتداء على الأراضي المصرية، وفي (ربيع الآخر سنة ١٣٠٦ﻫ/ديسمبر سنة ١٨٨٨م) أجلتهم حامية سواكن عن الجهات المجاورة لها، فلم يعيدوا الكَرَّة عليها بعد.

وفي سنة ١٨٨٩م حدث حادث من أكبر حوادث هذه الحروب؛ إذ إن «ولد النجومي» — أحد الأمراء المستمسكين بدعوة المهدي — خرج في ١٣٠٠٠ مقاتل يريد غزو مصر في (رمضان سنة ١٣٠٦ﻫ/مايو سنة ١٨٨٩م)، فالتقى بجيش يقوده «السير فرنسيس غِرِنْفِل» عند «طوشكى»، فكانت هذه أول تجربة عظيمة لاختبار قوة الجيش المصري الجديد، فانتصر على جيش «ولد النجومي» انتصارًا مبينًا فلم ينجُ منه إلا ٣٠٠٠ رجل وصُرع ولد النجومي نفسه وهو يقاتل في هذه الموقعة قتالًا شديدًا. وبعد هذه الموقعة أخذت قوة التعايشي في أسباب الضعف.

وفي سنة (١٣٠٨ﻫ/١٨٩١م) رأت الحكومة أن الدراويش لا يزالون في سواكن، وأن تجارة الرقيق سائرة بلا انقطاع بين بلاد العرب وفُرض البحر الأحمر، فأرسلت عليهم حملة بحرية من سواكن إلى «ترنكتات»، فانهزم الدراويش بجهة «طوكر» وفرَّ «عثمان دقنة» وقُتل معظم من معه من الأمراء، ومن ذلك الحين هدأت الأحوال في السودان الشرقي.

استرجاع السودان

لم يأتِ عام (١٣١٣ﻫ/١٨٩٥م) حتى تقدمت مالية مصر وتحسنت حال جيشها؛ فصار يُظن من السهل تجريد حملة على السودان لاسترجاعه. وكانت الحكومة إذ ذاك تنظر في مشروع آخر عظيم وهو إقامة خزان على النيل — خزان أسوان — ورأت أن ادِّخار المال لهذا المشروع النافع أَولَى من صرفه على الحروب السودانية، فكان يُظن أن فتح السودان سيُرجأ إلى ما بعد ذلك، لولا أن حدثت أمور خارجية اضطرت الحكومة إلى العمل بغير رغبتها؛ وذلك أن الأحباش اتحدوا مع الدراويش وشنُّوا الغارة على الطليان وهزموهم بجهة «عَدوة» في (رمضان سنة ١٣١٣ﻫ/مارس ١٨٩٦م) وذاع الخبر أنهم عما قريب يهجمون على كَسَلة؛٢ ولذلك طلبت إيطاليا من إنجلترا — لِمَا بينهما من الصداقة — أن تساعدها بإرسال حملة إلى السودان تتهدد الدراويش فتقل وطأتهم على المستعمرة الإيطالية الجديدة — مصوَّع والإريتريا.

وقد كان لدى إنجلترا حينئذٍ من الأسباب والاعتبارات ما يحملها على تلبية هذا الطلب، الذي أقل ما فيه سبق فرنسا إلى أعالي النيل وصدها عن التوغل في جنوبي السودان، والأخذ بثأر غردون الذي لم يزل قلب كل إنجليزي يدمَى لمصرعه. فقررت إنجلترا إجابة دعوة إيطاليا، وفي الحال أُعد لذلك جيش مكوَّن من الجنود المصرية والإنجليزية، بقيادة «السير هِرْبَرْت كِتْشِنَر» سردار الجيش المصري في ذلك الوقت — وهو اللورد كتشنر المُتوفَّى غرقًا سنة ١٩١٦م، وكان يشغل منصب وزير الحربية البريطانية.

figure
اللورد كتشنر.

خرج كتشنر من مصر ووجهته دنقلة، فأمر بإنشاء خط حديدي من وادي حلفا، وكلما أُنشئ منه جزء تقدَّم الجيش، حتى وصل في (ذي الحجة سنة ١٣١٣ﻫ/يونيو ١٨٩٦م) إلى جهة قريبة من «عُكاشة». فبلغه هناك أن ٣٥٠٠ من الدراويش مجتمعون عند «فِرْكة» جنوبي عكاشة على بعد ١٦ ميلًا منها، فسار إليهم ليلًا وفتك بهم فتكًا ذريعًا، ثم تفشَّى الهواء الأصفر في الجيش، ولكن تيسَّر التغلب على المرض وعلى غيره من المصاعب حتى سقطت «دنقلة» في يد الجيش المصري الإنجليزي في (١٥ ربيع الآخر سنة ١٣١٤ﻫ/٢٣ سبتمبر سنة ١٨٩٦م)، وجلت جيوش التعايشي عن هذه المديرية بأكملها. ثم استمر الجيش في الزحف نحو الخرطوم، متغلبًا على ما لاقاه من المصاعب في طريقه، حتى استولى على «أبي حمد» في ٧ أغسطس سنة ١٨٩٧م وعلى «بربر» في ٣١ منه، ووقف تقدُّم الجيش بعد ذلك عدة أشهر ريثما يتم إنشاء الخط الحديدي المخترق صحراء العطمور.

وفي (٧ شعبان سنة ١٣١٥ﻫ/أول يناير سنة ١٨٩٨م) سمع السير هربرت كتشنر أن الدراويش سيهجمون على جيشه في جموع كبيرة، فبعث إشارة برقية إلى القاهرة يطلب المدد، فأُرسل إليه قسم من الجيوش البريطانية، ثم وقفت الجيوش المصرية الإنجليزية وقفة المُدافع إلى أن ترى فرصة ملائمة للزحف على الخرطوم.

وكان «الأمير محمود» — ابن عم التعايشي — قد عسكر بنحو ١٢٠٠٠ مقاتل عند «النخيلة» على نهر عطبرة، فخرج كتشنر لملاقاته في (٢٦ ذي القعدة/٢٠ مارس) متوخيًا التأنيَ في مسيره، وفي (١٦ ذي الحجة/٨ أبريل) الْتَحم الجيشان فلم تَدُم الموقعة أكثر من ٤٠ دقيقة، وانتهت بأسْر الأمير محمود وقتْل نحو ٢٠٠٠ من رجاله.

ولم ينتهِ شهر أغسطس عام ١٨٩٨م حتى تمكن السردار من حشد نحو ٢٢٠٠٠ مقاتل على بُعد ٤٠ ميلًا شمالي الخرطوم، وعزم على لقاء الأعداء، وفي (١٥ ربيع الآخر سنة ١٣١٦ﻫ/٢ سبتمبر سنة ١٨٩٨م) التقى بالدراويش في موقعة «أم درمان» الفاصلة التي لم تَقُمْ لهم بعدها قائمة؛ كان عددهم يتراوح بين ٤٠ و٥٠ ألف مقاتل، فقُتل منهم أكثر من ١١٠٠٠ وجُرِح نحو ١٦٠٠٠، ولم يخسر جيش السردار سوى ٥٠٠ ما بين قتيل وجريح. وفي اليوم الرابع من شهر سبتمبر استولى الجيش الإنجليزي المصري على الخرطوم، ورُفع على مكان مركز حكومتها العلمان المصري والإنجليزي أحدهما بجانب الآخر.

أما الخليفة التعايشي، فإنه فرَّ من وجه الجيوش الفاتحة، وأراد في العام المقبل أن يُغِير على أم درمان، فسار إليه جيش السودان، وقتله وبدَّد شمل جيشه في (رجب سنة ١٣١٧ﻫ/نوفمبر سنة ١٨٩٩م). وبقتله انقضت دولة الدراويش.٣
figure
واقعة أم درمان.

وقد هدأت أحوال السودان منذ فتح أم درمان بفضل حُسن إدارة الحكومتين الإنجليزية والمصرية اللتين تحكمانه بالاشتراك. وفي (٦ رمضان سنة ١٣١٦ﻫ/١٩ يناير سنة ١٨٩٩) عُقد وفاق بين الحكومتين يُعرف ﺑ «اتفاقية السودان» وُضِّحت فيه شروط حكم السودان، وأُلغي به ما كان للباب العالي من السيادة على تلك البلاد.

وما زال السودان في تقدُّم تدريجي مستمر منذ دخوله تحت حكم إنجلترا ومصر، وهو وإن كان للآن لم يُكسب إحدى الحكومتين شيئًا، وصُرفت من خزانة مصر الخاصة مبالغ سنوية لإصلاحه، فإنه بلا شك سيعوِّض ذلك لوفرة موارده الطبيعية، خصوصًا عندما يزداد عدد سكانه بعد أن نقص نقصًا فاحشًا أيام فتنة المهدي.

(٣) تقدم مصر منذ عام ١٨٨٢م (خصوصًا الأشغال العامة التي تمت بها منذ ذلك العهد)

يرجع التقدم العام الذي حدث بمصر منذ عام (١٢٩٩ﻫ/١٨٨٢م) إلى أمرين أساسيين؛ الأول: الإصلاحات الإدارية التي أُجريت في مصالح الحكومة على اختلافها، والثاني: الأشغال العامة التي أُجريت لتحسين الري وزيادة ثروة البلاد.

وقد كانت الحالة المالية في مقدمة ما نُظر فيه بعد إخماد الثورة العرابية، وذلك من وجهتين؛ الأولى: حالة السكان وما يمكن عمله لتحسينها، والثانية: حل ميزانية الحكومة وكيف يتسنى وضعها على أساس متين بحيث يكفي الدخلُ المنصرفَ مع عدم الإضرار بتقدُّم البلاد.

فبالنظر في أحوال الأهلين اتضح أنهم في بؤس شديد، وأن المفروض على أرضهم من الضرائب يزيد كثيرًا عن الحد المعتدل بالنسبة لقيمة ما تُنبته الأرض من المحصول؛ إذ إن أثمان المحصولات كانت قد نزلت كثيرًا في السنوات الأخيرة؛ فصار ثمن إردب القمح مثلًا ٧٥ قرشًا بعد أن كان ١٠٩ قروش في (١٢٩٢ﻫ/١٨٧٥م)، وكذلك ثمن الطن من السكر نزل من ٢٣ جنيهًا إلى ١٥ جنيهًا. ذلك إلى ضَعف الأرض بسبب إجهادها بزراعة القطن؛ إذ دلت الإحصاءات أن محصول الفدان من القطن في الأربع السنوات (١٢٩٦–١٢٩٩ﻫ/١٨٧٩–١٨٨٢) نقص من ثلاثة قناطير ونصف إلى قنطارين وعُشر قنطار.

فرأت الحكومة أن أول واجب عليها تحسينُ حال الفلاح، حتى إذا ما انتعش وزادت ثروته أدَّى ذلك حتمًا إلى زيادة دخل الحكومة؛ فخففت ضريبة الأرض في المديريات الفقيرة، وأبطلت ضريبة الملح وغيرها، وألغت السخرة التي هي في الحقيقة نوع من الضريبة.٤

غير أن هذه الإصلاحات وحدها لم تكن تكفي لتحسين دخل الحكومة والقيام بعبء الدَّين والشروط الثقيلة التي تكفَّلت بها مصر بمقتضى قانون التصفية؛ فبذلت إنجلترا وسعها لدى الدول في تخفيف هذه الشروط مخافة الوقوع في إفلاس نهائي، فزادت نسبة ما يخص الحكومة المصرية من الدخل بتخفيض نسبة ما يُعطَى لصندوق الدَّين، وصار للحكومة الحق أيضًا في الاستيلاء على نصف ما يزيد من الدخل بعد دفع الأرباح، بدل أن كان جميعه يُعطَى لصندوق الدَّين لتسديد الأقساط.

ورأت الحكومة أيضًا أن كل ذلك ربما لا يكفي لإصلاح حال المالية المصرية وهي على وشك الإفلاس، فتوسطت إنجلترا لدى الدول في عقد قرض جديد، لتستعين به مصر على وضع ميزانيتها على أساس متين، وللقيام بمشروعات عامة في الري تزداد بها ثروة البلاد حتى تتحسَّن ماليتها على مدى الأيام، وبعد الجهاد الطويل أمكن عقد قرض جديد بضمانة إنجلترا قدره ٩٠٠٠٠٠٠ جنيه يُسمَّى «الدين المضمون» في سنة (١٣٠٢ﻫ/١٨٨٥م)، واشتُرط في عقده أن تنتظم حالة المالية المصرية قريبًا، وإلا شُكِّلت لجنة دولية أخرى للنظر في شئون مصر.

وقد خُصص هذا المبلغ للأوجه الآتية:
  • (١)

    تعويض ما خسره أصحاب الأملاك بالإسكندرية وقت نشوب الفتنة في تلك المدينة أيام الثورة العرابية.

  • (٢)

    سد العجز في ميزانية الحكومة لعامَي ١٨٨٢ و١٨٨٣م.

  • (٣)

    تحسين الري — وسيأتي الكلام على ذلك مفصلًا.

وقد جعلت الحكومة نصب عينها أن لا يحدث أي فشل في تنظيم المالية، كي لا يفضيَ الأمر إلى تدخُّل الدول الأوروبية حسبما اشترطته في عقد الدين الأخير، فتوخت الاقتصاد التام في جميع أوجه الصرف، اللهمَّ إلا في تحسين الري الذي كان من شأنه زيادة الثروة فيما بعد، والمساعدة الكبيرة في تثبيت الحالة المالية التي هي موضوع الخوف والقلق.

وقبل الانتقال إلى وصف الأشغال العمومية التي تمَّت بمصر في ذلك العهد، نقول كلمة عن المصاعب التي لاقتها إنجلترا من الدول في سبيل السير في عملها في مصر: كانت فرنسا أول من وضع العراقيل في سبيل إنجلترا في مصر؛ لحنقها من إلغاء المراقبة الثنائية واستئثار إنجلترا بأمر مصر، ثم عضدتها الروسيا في ذلك، وشاركهما الباب العالي طبعًا في الاستياء، احتجاجًا على استمرار الاحتلال البريطاني لمصر.

ثم كرَّر الباب العالي احتجاجه، وبعد المفاوضة مع إنجلترا تمَّ الاتفاق في (المحرم سنة ١٣٠٣ﻫ/أكتوبر ١٨٨٥م) على أن ترسل كلٌّ من الدولتين العثمانية والإنجليزية سفيرًا إلى مصر لفحص شئونها والاتفاق على أجَل ينتهي فيه الاحتلال البريطاني.

فأرسلت إنجلترا «السير دِرَمُنْدوُلْف»، وأرسل الباب العالي «مختار باشا الغازي»، غير أنه لم يتم الاتفاق على تحديد أجَل الجلاء لمعارضة فرنسا والروسيا في شروط الاتفاق، وكل ما نتج عن بحوث السفيرين أن جرت بعض مفاوضات مع الدراويش لم يكن لها أثر يُذكر، وقد أشرنا إلى ذلك عند الكلام على السودان. وقد بقي مختار باشا بمصر إلى وقت قريب احتجاجًا حيًّا على الاحتلال البريطاني.

على أنه قد حُلت في عام ١٨٨٥م مسألة من المسائل الدولية الكبرى، وهي بيان مركز قناة السويس من الوجهة الدولية، فحصل الاتفاق على أن تكون هذه الترعة مفتوحة لجميع السفن وقت السلم، وفي أوقات الحرب يُسمح لسفن المتحاربين بالمرور من القناة بشرط ألا تقع بينها أعمال حربية إلى مسافة ثلاثة أميال من طرفَي القناة، وأن لا يُسمح للسفن الحربية التابعة للدول المتحاربة بالبقاء في الموانئ المصرية أكثر من ٢٤ ساعة، وحُفظ للحكومة المصرية الحق في عمل أي شيء تراه ضروريًّا للمحافظة على القناة.

وبقيت فرنسا تنظر شزرًا إلى بقاء إنجلترا في مصر، وتضع العراقيل في سبيلها مهما يكن عملها في صالح مصر، حتى عام (١٣٢٢ﻫ/١٩٠٤م). فعقدت الدولتان بينهما «الاتفاق الودي» المشهور، وبه قبلت فرنسا أن تُطلَق يد إنجلترا في مصر، في نظير أن تسمح إنجلترا بإطلاق يد فرنسا في مراكش؛ وبذلك حُلت مشكلة من أكبر المشاكل الدولية الخاصة بمصر. وبمقتضى هذا الاتفاق أيضًا صار جميع دخْل الحكومة يرد إلى الخزانة المصرية، بعد أن كان جزء منه يورَّد إلى صندوق الدَّين توًّا، وكان لدى صندوق الدين مبلغ ١٠٠٠٠٠٠٠ جنيه متوافر من السنين الماضية، فسلَّمه إلى الحكومة لتستعين به على إنجاز بعض المشروعات العامة.

الأشغال العامة

قد كانت الأشغال العامة التي تمَّت بمصر منذ عام ١٨٨٢م لتحسين الري وتوسيع نطاقه من أعظم الأمور التي سهَّلت تنظيم المالية المصرية، وسارت بالبلاد في طريق التقدُّم العظيم الذي نشاهده الآن؛ شرعت الحكومة منذ عام (١٣٠٠ﻫ/١٨٨٣م) في الاهتمام بشئون الري؛ فبدأت في ذلك العام بإصلاح «القناطر الخيرية». أُنشئت هذه القناطر في عهد محمد علي باشا — كما ذكرنا في غير هذا المكان — ولكنها أُهملت مدة طويلة وقرر الخبيرون أن قد لحقها من الخلل ما يجعلها غير صالحة للاستعمال؛ إذ حدثت صدوع في عقود المنافذ، وجرى الماء تحت الأساس نفسه. وكان الغرض من إنشاء هذه القناطر في أول الأمر أن تحجز المياه وراءها حتى يرتفع سطحها عن المستوى الأصلي — بعد القناطر — بقدر ٤٫٥ من الأمتار؛ وبذلك تستقي منها ثلاث ترع كبيرة سطحها أعلى من سطح النيل، وهي: الريَّاح البحيري، والريَّاح المنوفي، والريَّاح التوفيقي. على أن الريَّاح الأول يجري في الصحراء بعد تفرُّعه من القناطر بمسافة صغيرة، فلما أُهمل تراكمت عليه رمال الصحراء وطَمَرته. أما الريَّاح الثاني فكان مستعملًا عام (١٣٠٠ﻫ/١٨٨٣م)، ولكن الثالث لا يزال مشروعًا لم ينفَّذ بعد.

فرأت مصلحة الري أن من أول واجباتها إصلاح هذه القناطر العظيمة والترع التي تستقي منها؛ فوجهت إلى ذلك معظم عنايتها بين عامَي (١٣٠١ﻫ و١٣٠٦ﻫ/١٨٨٤ و١٨٨٩م). وقد قامت بعبء هذا العمل الشاق عامًا بعد عام في أيام انخفاض النيل، بالرغم من عِظَم الصدوع التي بالبناء وما اعترض العملَ من المصاعب، إلى أن أُصلح الأساس وضُمت الصدوع — بالأسمنت — وانتهى الأمر ببناء منطقة من الحجر حول الأساس لوقايتها. ومما زاد العمل صعوبة أن القناطر كانت تُستخدم في أيام الفيضان فيما أُعدت له، وقد قال أحد المهندسين في ذلك: «إن هذا العمل كان أشبه شيء بإصلاح ساعة بدون إيقاف أتراسها.»

وتمَّ في أثناء ذلك كَرْيُ ريَّاح البحيرة، ومُنعت عنه الرمال بزرع ضفافه بالأعشاب، وزِيد أيضًا في عمق ريَّاح المنوفية، ووُضع باب — هاويس — عند تفرُّعه. أما الريَّاح التوفيقي، وهو الذي يروي المديريات التي شرقي فرع دمياط، فحُفر بين عامَي ١٨٨٧ و١٨٨٩.

ولم تكد تتم هذه الأعمال العظيمة حتى ظهرت فائدتها؛ فقد زاد محصول القطن بالوجه البحري في (١٣٠٩-١٣١٠ﻫ/١٨٩١-١٨٩٢م) على متوسط محصول الإحدى عشرة سنة السابقة بنحو ١٦٠٠٠٠٠ قنطار. هذا إلى ما حدث من الزيادة في المحصولات الأخرى. وقد بلغت قيمة ما زاده محصول القطن وحده في مجموع المدة التي أُصلحت فيها القناطر (١٣٠١–١٣٠٦ﻫ/١٨٨٤–١٨٨٩م) ما يربو على ٥٠٠٠٠٠٠ جنيه.

أما نفقات هذا العمل فقد دُفع معظمها من قرض عام ١٨٨٥م، ولكنَّ جزءًا منها سُدد مما حدث في الميزانية من زيادة الدخل على المصروفات.

ولا يخفى أن الغرض من القناطر ليس خزْن المياه وقت الفيضان للانتفاع بها وقت انخفاض النيل، إنما كان الغرض منها حجز المياه حتى يرتفع سطحها فتصب في الريَّاحات الثلاثة العظيمة، فتروي هذه الوجه البحري بمياهها، ولو كان النيل منخفضًا.

وقد أُجري إصلاح آخر في القناطر عام (١٣١٤ﻫ/١٨٩٧م)، وذلك بإنشاء سد أصم أمام القناطر — نحو المصب — كي لا تندفق المياه دفعة واحدة بعد حجزها؛ فأصبحت تتسرب على دفعتين؛ وبذلك نقص الفرق بين مستوى المياه خلف القناطر وأمامها — فرق التوازن — وذلك يخفف من الضغط الشديد على القناطر أثناء الفيضان.

ومما زاد في انتظام توزيع المياه في الوجه البحري إنشاء «قناطر زفتى»؛ فإنها أيضًا تحجز المياه وراءها حتى يعلوَ سطحها فتملأ الترع التي تتفرَّع من النيل عند هذه النقطة. وقد بلغت نفقات هذه القناطر ٣٢٠٠٠٠ جنيه، وتم إنشاؤها في سنة (١٣٢٠ﻫ/١٩٠٢م).

وأُجري منذ ذلك العام تعديل كثير في ترع الوجه البحري. وابتدأت الحكومة في إنشاء مصارف عظيمة في مديريتَي البحيرة والغربية؛ وبذلك سيتسع نطاق أراضي مصر الزراعية وعلى مدى الأيام سيتم تجفيف بحيرة مريوط، وتصبح أرضًا صالحة للزراعة.

على أن ما تمَّ من الأعمال في الوجه البحري لم يصرف الحكومة عن الاهتمام بالوجه القبلي، إلا أن قلة المال والرجال حتمت عليها في أوائل هذا العهد الاقتصار في مصر العليا على المشروعات الصغيرة. وكان معظم الوجه القبلي في ذلك الحين يُروَى بالحياض؛ أي إنه وقت الفيضان تغمر مياه النيل المساحات الفسيحة من الأرض، فلا يتسنى مباشرة شيء من الأعمال الزراعية فيها إلى انخفاض النيل. ففي عام (١٣٠٨ﻫ/١٨٩١م) أنشأت الحكومة بجهة «قشيشة» ببني سويف سدًّا لتصريف المياه؛ فكان ذلك أكبر عون على تنظيم المياه التي تركد على تلك الأراضي الواسعة.

ولا يخفى أن هذه الطريقة — وهي الري بالحياض — معيبة، بالإضافة إلى مزايا الري الدوري؛ إذ به تجري المياه إلى الأراضي في الترع فيتسنى تنظيم توزيعها من حيث الزمن والمقدار معًا؛ لذلك أقدمت الحكومة على مشروع عظيم وهو تحويل الري بالحياض إلى ري دوري في مديريات أسيوط والمنية وبني سويف والجيزة، فحفرت لذلك الترع، واهتمت اهتمامًا خاصًّا بترعة الإبراهيمية فوسَّعتها وأصلحتها.

وفي سنة (١٣١٥ﻫ/١٨٩٨م) شرعت في إنشاء «قناطر بأسيوط» لحجز المياه حتى ترتفع وتملأ ترعة الإبراهيمية، فتروي المديريات التي تمر فيها. وقد تم إنشاء هذه القناطر عام (١٣٢٠ﻫ/١٩٠٢م) قُبيل الفيضان، وكان النيل منحطًّا جدًّا في هذه السنة، فبادرت وزارة الأشغال بإغلاق أبواب القناطر، فارتفع سطح المياه في ترعة الإبراهيمية مترًا ونصف متر، وقد قُدِّر ما اكتسبه المزارعون من هذا العمل تلك السنة بما يربو على ٦٠٠٠٠٠ جنيه.

ولما رأت الحكومة ثمرة عملها في المديريات التي تقدَّم ذكرها، عوَّلت على إجراء مثله في المديريات التي في أقاصي الصعيد؛ فأنشأت «قناطر إِسنا» التي تم إنشاؤها عام (١٣٢٧ﻫ/١٩٠٩م)، فأفادت مديريتَي قنا وجرجا فائدة قناطر أسيوط في المديريات الشمالية.

ويُلاحَظ أن جميع هذه القناطر لا تخزن المياه لادِّخارها إلى وقت الحاجة، وإنما هي ترفع سطح الماء في النيل حتى يتسنى ملء الترع فتوزع المياه بها في أنحاء البلاد.

وكانت الحكومة قد فكرت منذ عام (١٣٠٧ﻫ/١٨٩٠م) في مشروع لخزْن مياه النيل وقت الفيضان للانتفاع بها وقت انخفاض النيل في ري جميع أنحاء مصر، فلا يُحرم جزء منها من الزراعة. فتأخر إنفاذ المشروع إلى سنة (١٣١٥ﻫ/١٨٩٨م)؛ إذ ابتُدئ في إنشاء خزان عظيم عند «أسوان» في نفس الوقت الذي ابتدأ فيه إنشاء قناطر أسيوط. وهذا البناء من أعظم ما شيَّده الإنسان، انتهى تشييده سنة (١٣٢٠ﻫ/١٩٠٢م) فكان طوله يبلغ ٢١٥٦ مترًا، وارتفاعه عن قاع النهر نحو ٢٨ مترًا، والفرق بين مسطح الماء قبله وبعده — فرق التوازن — ٢٠ مترًا، وبه ١٨٠ بابًا، ويخزن المياه إلى ارتفاع يزيد على سطح البحر بنحو ١٠٦ أمتار. وقد بلغت نفقات إنشائه هو وقناطر أسيوط ٤٧٠٠٠٠٠ جنيه، ولكنه أفاد من أول سنة من إنشائه فائدة تكاد توازي كل هذه النفقات؛ إذ لولاه في تلك السنة هو وقناطر أسيوط لكانت الطامة الكبرى على البلاد؛ فقد كان النيل فيها منخفضًا جدًّا، ولم يكد يشعر بنقصه أحد، وجاء منخفضًا مرةً أخرى في عام (١٣٢٣ﻫ/١٩٠٥م)؛ فكان الخزان أيضًا أكبر عون للبلاد.

ويتضح من الجدول الآتي الفائدة التي عادت على مصر من هذه المشروعات العامة في سِنِي انخفاض النيل:
سنة م عدد الأفدنة التي لم تُزرع (الشراقي)
١٨٧٧ ١٠٠٠٠٠٠
١٨٨٨ ٢٦٩١١٠
١٨٨٩ ١٨٨١٣٧
١٩٠٢ ١٢٨٦٦٣
١٩٠٤ ٤٦٨٧١
١٩٠٥ ٤٥٠٠٠

وعندما أُنشئ الخزان كان الغرض منه إيجاد المياه اللازمة لجميع أراضي مصر المزروعة في أي وقت من السنة. ثم فكرت الحكومة في زيادة سعته بتعليته بحيث يمكن به ري ١٠٠٠٠٠٠ فدان في شمالي «الدال» لم تكن تصل إليها المياه من قبل. فتم هذا العمل عام (١٣٣٠ﻫ/١٩١٢م) وزاد مقدار ما يُخزن وراء الخزان من المياه من ٩٤٠٠٠٠٠٠٠ متر مكعب إلى ٢٤٢٠٠٠٠٠٠٠ متر مكعب، وهي زيادة هائلة جدًّا، وسببها أن الزيادة في ارتفاع الخزان زادت في امتداد المياه المحجوزة خلفه جنوبًا إلى بُعد ٣٢٥ كيلومترًا.

وقد تم بفضل إنشاء الخزان تحويل ري الحياض بمصر الوسطى إلى ري دوري، وعندما تجف بحيرة مريوط وغيرها سيرويها الخزان بمياهه طول أوقات السنة.

figure
خزان أسوان.

على أن الحكومة لا تزال لديها مشروعات أخرى لتحسين الري؛ ففي نيَّتها أن تصلح ري المديريات الجنوبية، بإنشاء قناطر عند تفرُّع ترعة السوهاجية لتسهيل امتلاء تلك الترعة. وشرعت كذلك في إنشاء خزان آخر عظيم على النيل الأبيض، ليحفظ البلاد إذا اشتد الفيضان، ويكون بمثابة حوض عظيم لخزْن مقادير وافرة من المياه. وقد ذكرنا أن نفقة إنشاء خزان أسوان وقناطر أسيوط بلغت ٤٧٠٠٠٠٠ جنيه، ولكنا لا نكون مبالِغين إذا قلنا إن مجموع ما اكتسبته مصر إلى الآن من وراء إنشائهما لا يقل عن خمسة أمثال هذا المبلغ. وكذلك بلغت نفقات تحويل ري الحياض إلى ري دوري بمصر الوسطى نحو ٦٥٠٠٠٠٠ جنيه، ولكنه عاد على البلاد بفائدة تُقدَّر بنحو ٢٦٧٥٠٠٠٠ جنيه.

وبالجدول الآتي بيان دخْل الحكومة ومصروفها في عدة سنوات، ولكن يجب عند الرجوع إليه أن نلاحظ أن ضريبة الأرض في تلك المدة نقصت عما كانت عليه:
السنة الوارد المصروف
١٨٨٦ ٩٢٤١٥٨٦ ٩٢٣٢٧٤٦
١٨٩٠ ١٠٢٣٧٠٠٠ ٩٥٩٠٠٠٠
١٨٩٤ ١٠١٦١٠٠٠ ٩٤٧٠٠٠٠
١٨٩٥ ١٠٤٣١٠٠٠ ٩٤٢١٠٠٠
١٨٩٧ ١١٠٩٣٠٠٠ ٩٧٠٩٠٠٠
١٩٠١ ١١٩٤٤٠٠٠ ٩٩٢٤٠٠٠
١٩٠٣ ١٢٤٦٤٠٠٠ ١١٧٢٠٠٠٠
١٩٠٥ ١٤٨١٣٠٠٠ ١٢١٢٥٠٠٠
١٩٠٧ ١٦٣٦٨٠٠٠ ١٤٢٨٠٠٠٠
١٩٠٨ ١٥٥٢٢٠٠٠ ١٤٤٠٨٠٠٠
١٩٠٩ ١٥٨٨٧٣١٣ ١٤٩٠٠٠١٥
١٩١٠ ١٥٩٦٥٦٩٣ ١٤٤١٤٤٩٩
١٩١٢ ١٧٥١٥٧٤٣ ١٥٤٧٠٥٨٤
١٩١٣ ١٧٣٦٨٦١٦ ١٥٧٢٨٧٨٥
وقد تم في هذا العصر أيضًا إصلاحات أخرى كثيرة تناولت كل مصالح الحكومة. من أهم ذلك إصلاح المحاكم الأهلية؛ فإنها كانت قبل الثورة العرابية غير منتظمة، لا تُحكَم بمقتضى قانون خاص، وكانت الحكومة المصرية قد أحسَّت بهذا النقص، وأعدت قانونًا أهليًّا شبيهًا بالقانون الفرنسي لتجعله ساريًا في جميع المحاكم الأهلية. فلما احتل الإنجليز مصر وابتدأت نهضة الإصلاح عقب قدوم اللورد دفرين، عرضت الوزارة المصرية هذا القانون فتمَّت الموافقة عليه، وعُمل به.
وكانت المحاكم الأهلية قبلُ لا تنظر في قضايا الجرائم الكبيرة، بل كانت تُنظر أمام لجان خاصة يرأسها المدير تسمَّى «لجان الأشقياء»، لم تكن أحكامها دائمًا مطابقة للعدالة؛ فتقرر إلغاؤها. على أن حالة المحاكم الأهلية كانت سيئة جدًّا، ولم يكن من السهل إصلاحها في وقت قريب؛ فبقي الإصلاح سائرًا فيها ببطء إلى أن اقترح اللورد كرومر عام (١٣٠٨ﻫ/١٨٩١م) تعيين مستشار قضائي بوزارة الحقانية ليشرف على هذه المحاكم ويُصلح ما اعتل فيها. فعارض في ذلك رياض باشا رئيس الوزارة واعتزل منصبه، فخلفه مصطفى فهمي باشا، ووافق على تعيينه.٥

بذلك دخلت المحاكم في طور إصلاح جدي؛ فنُظِّمت أعمالها وسُهلت حركتها وفُصل منها القضاة الذين لم تتوافر فيهم شروط الكفاءة، وأُصلحت مدرسة الحقوق لتخريج قضاة أكْفَاء. ثم زِيد في عدد المحاكم تسهيلًا للتقاضي بين أهل القطر. وفي الجملة يُعتبر جوهر نظام المحاكم الحالي مستحدثًا في هذا العصر.

كذلك عمَّ الإصلاح باقيَ مصالح الحكومة؛ فنُظِّمت أعمال المالية وضُبط حسابها، ومُسحت الأراضي وحُدَّت الضرائب، وعُيِّنت لجبايتها مواعيد تناسب حال الفلاح، وأُلغيت السخرة، وبطل استعمال السوط — الكرباج — إلا في بعض أنواع العقاب. وزِيدَ من الطرق الزراعية في أنحاء البلاد حتى صار مجموعها لا يقل عن ٢٥٠٠ كيلومتر، وسُمح للشركات الأوروبية بمباشرة أعمال مالية شتى؛ فانتشرت بذلك سكك الحديد الضيقة في الوجهين القبلي والبحري، وفيها تسهيل كبير لنقل حاصلات البلاد. وأنشأت الشركات أيضًا خطوط «الترام» في القاهرة والإسكندرية؛ فسهل الانتقال فيهما، كما أُنشئ فيهما كثير من المباني العظيمة التي أكسبت هاتين المدينتين فخامة وجمالًا تضارعان فيهما كثيرًا من المدن الأوروبية العظيمة. ومن أعظم ما أنشأته الحكومة من هذه المباني قصر المحكمة المختلطة الكبرى بالإسكندرية، ودار العاديات المصرية بالقاهرة، ولا سيما البناء الأخير الذي أصبح بجماله وفخامته لائقًا لأنْ يضم بين جدرانه تلك الكنوز النفيسة من المخلَّفات المصرية القديمة.

وكثرت العناية بالأمور الصحية، وانتشرت المستشفيات في أنحاء البلاد. ذلك إلى ما أُنشئ من المكاتب والمدارس في جميع أطراف القطر، وإعادة عهد البعوث العلمية إلى أوروبا حيث يغترف الشبان المصريون من أبحُر المعارف والعلوم الأوروبية.

وجملة القول أن في البلاد المصرية نهضة مباركة عظيمة، يجب على كل مصري معاضدتها، والسير بها إلى ما فيه خير مصر وفلاحها.

١  هو الذي قاد الجيوش البريطانية في واقعة التل الكبير.
٢  كان الطليان قد استولَوْا على كسلة من المهدي في سنة ١٨٩٤م، ولكنهم تخلَّوْا عنها عام ١٨٩٧م لكثرة النفقات التي يتطلبها حكمها، فعادت الجيوش المصرية إلى احتلالها (٢٥ ديسمبر سنة ١٨٩٧).
٣  ولما فتح كتشنر باشا أم درمان رأى ألا يُبقيَ لذكرى المهدي تعلقًا بقلوب قبائل السودان؛ فأمر بهدم قُبته ونبش قبره، وبُعثرت عظامه في النيل، وبعث بجمجمته إلى دار التحف البريطانية. وقد أُعجبت إنجلترا بفوزه فمنحته لقب «لورد الخرطوم» وصار من ذلك الحين يُسمَّى «لورد كتشنر».
٤  وبقي مسموحًا بها لحماية شواطئ النيل وقت الفيضان فقط.
٥  هو السير جون سكوت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤