رحلة

نقلتُ حياتي والحياة بنا تجري
من الحُلُمِ المعسولِ للواقعِ المرِّ
فيا منتهى فنِّي إلى منتهى الهوى
على ذِروةٍ بيضاءَ في النور والطهرِ
عرفتك عرفان السماء ولم تكنْ
سوى همسات النجم ما جال في صدرِي
وغامت خطوطُ السفحِ حتى نسيتها
وحتى توارى السفح من عالم الذكرِ
وفي القممِ الشّمّاءِ حلَّقتُ حائمًا
وأنبتُّ في أعلى شواهقها وكرِي
ولم يبقَ إلا أنت والجنَّةُ التي
زرعنا وكلَّلْنا بيانعة الزهرِ
ولم يبقَ إلا أنت والنسمةُ التي
تهبُّ من الفردوسِ مسكيَّةَ النشرِ
ولم يبقَ إلا أنت والزورقُ الذي
ترنَّحَ منسابًا على صفحة النهرِ
فيا منتهى مجدي إلى منتهى الغنى
غنَى الروحِ بعد الضَّنْكِ والذلِّ والفقرِ
أعيذك أن أغدو على صخرة لَقى
وكنتِ مِجَنِّي في مقارعةِ الصخرِ
أعيذك بعد التاجِ والعرشِ والذي
تألَّقَ من ماسٍ وشعشع من تبرِ
أعيذك من ردِّي إلى سَفهِ الثرى
وحِطَّتِه بين الأكاذيبِ والغدرِ
أعيذكِ أن تنسي ومن بات ناسيًا
هواه فأحرى بالنُّهَى عقم الفكرِ
إذا ما ذكرتِ العمر يومًا تذكري
هوًى وزمانًا لا يتاحان في العمر
فيا لك من حلمٍ عجيبٍ ورحلةٍ
تعدَّتْ نطاق الحُلْمِ للأنجمِ الزُّهرِ!
ويا لك من يومٍ غريبٍ وليلةٍ
عَفَتْ وغفتْ عن ظلمِ روحين في أسرِ!
ويا لك من ركن خَفِيٍّ وعالمٍ
خَفِيٍّ غنيٍّ بالمفاتنِ والسحرِ!
ويا لك من أفْقٍ مديد ومولد
جديدٍ لقلبينا! ويا لك من فجرِ!
عرفتك عرفان الحياة أحسها
وأبصَرَها من كان يخطو إلى القبرِ
عرفتك عرفان النهار لمقلةٍ
مخضّبةِ الأحلام حالكةِ الذعرِ
رأت بك روحُ الفجرِ حين تبيَّنتْ
بياض الأماني في أشعَّتِهِ الحُمرِ
بيَ الجرحُ جرحُ الكونِ من قبل آدمٍ
تغلغلَ في الأرواحِ يَدْمى ويستشرِي
تولَّتهُ بالإحسانِ كفٌّ كريمةٌ
مقدّسةُ الحسنى مباركةُ السرِّ
فإن عدتُ وحدي بعد رحلتِنا معًا
شريدًا على الدنيا ذليلًا على الدهرِ
رجعت بجرحي فاغرَ الفمِ داميًا
أداريه في صمتٍ وما أحدٌ يدري
هو العيشُ فيه الصبرُ كاليأس تارةً
إذا انهارت الآمالُ واليأسُ كالصبرِ
عرفتكِ كالمحرابِ قدْسًا وروعةً
وكنتِ صلاةَ القلبِ في السرِّ والجهرِ
وقد كان قيدي قيدَ حبِّكِ وحدَةُ
أنا المرءُ لم أخضعْ لنهيٍ ولا أمرِ
وأعجبُ شيء في الهوى قيدُكِ الذي
رضيتُ به صِنْوًا لإيمانيَ الحرِّ
بَرِمْتُ بأوضاعِ الورى كل أمرهمْ
وسيلةُ محتاجٍ ومسعاةُ مضطرِّ
برمتُ بأوضاعِ الورى ليس بينهمْ
وشائج لم توصَلْ لغايٍ ولا أمرِ
إذا كان ما استنُّوا وما شرعوا القِلَى
فذلك شرعُ الطينِ والحمَأِ المُزري
تمردتُ لا أُلوِي على ما تعوَّدوا
ونفسي بهذا الشرعِ عارمةُ الكفرِ
وَهَبْ ملَكي الغالي الكريمَ وحارسي
تخلى فما عذرُ الوفاءِ؟ وما عذري؟
عشقتُكِ لا أدري لحبيَ مبدأً
ولا منتهى حسْبي بحبِّكِ أن أدري
إذا شئتِ هجرانًا فما أتعس المدى
من النورِ للّيل المخيِّمِ للحشرِ!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤