في ظلال الصمت

ها أنا عُدْتُ إلى حيثُ التقيْنا
في مكانٍ رفرَفَتْ فيه السعادهْ
وبه قد رفرفَ الصمتُ علينا
إنَّ في صَمْتِ الحبيبين عباده
رب لحنٍ قصَّ في خاطِرنا
قصَّةَ الساري الذي غنَّى سهادهْ
وكأنّ الصمتَ منهُ واحةٌ
هَيّأَتْ من عُشبِها الرَّطبِ وساده

•••

صَمَتَ السَّهلُ ولكنْ أقبلتْ
من ثنايا السهل أصداءٌ بعيدهْ
كلُّ لحنٍ في هدوءٍ شاملٍ
تشتهي النفسُ به أن تستعيدَهْ
يتهادى في عُبابٍ ساحرٍ
باعِثٍ للشّطِّ أمواجًا مديده
فإذا ما ذهب الليلُ بها
تزخرُ النفسُ بأصداءٍ جديدهْ

•••

هدأ الليلُ هنا لكننِّي
كنتُ في حُسنِكِ بالصَّمتِ أُغنّي
كلُّ لحنٍ لَجِبٍ يغشَى دمي
لَعِبَ العازف بالعُود المُرِنِّ
ناقلًا للنّهر والسهل معًا
قصةً يشرحُها عنكِ وعنِّي
قصةَ الشاعر والحسنِ إذا اسـ
ـتَبَقَا للخلْدِ في حَوْمة فنِّ

•••

ما الذي في خُصْلَةٍ راقدةٍ؟
ما الذي في خطِّه أو كتبِهْ؟
ما الذي في أثرٍ خَلَّفَهُ
من أفانينِ الهوى أو عَجَبِه؟

•••

ما الذي في مجلسٍ يَألَفُه
عقدَ الحبُّ عليه موعِدَه؟
ربما يبكي أسًى كرسيُّه
إن نأى عنه وتبكي المائده
ولقد نحسبُها هشَّتْ إذا
عائدٌ هَشَّ لها أو عائده
ولقد نحسبُها تسألُنا
حين نَمضي أفِراقٌ لعِدَه؟

•••

كم أعَدَّتْ نفسَها وانتظرتْ
واستوتْ موحشةً تحت السماء
وهي لو تملِك كفًّا صافحتْ
كفَّكِ الغضّة في كل مساء

•••

رُبّ كَرْمٍ مَدّه الليلُ لنا
فتواثبنا له نَبْغِي اقتطافَه
وعلى خيمَته حارسُه
عربيُّ الجود شرقيُّ الضيافهْ
وجَد العُرسَ على بهجته
وسناه دونَ وَرْدٍ فأضافهْ
ثم وراتْهُ غَياباتُ الدّجى
كخيالٍ من أساطيرِ الخُرافه

•••

أرجٌ يعبقُ في جُنحِ الدُّجى
حملَته نحو عَرْشَيْنا الرياحْ
كلُّ عطرٍ في ثناياه سَرَى
كان سِرًّا مُضْمرًا فيه فباح
يا لَها من حِقبَةٍ كانت على
قِصَرٍ فيها كآمادٍ فِساحْ
نتمنى كلما امتدَّت بنا
أن يَظَلَّ الليلُ مجهولَ الصَّباحْ

•••

أنا إن ضاقتْ بيَ الدنيا أَفِئْ
لثَوانٍ رحبةٍ قد وَسِعَتْنا
إنما الدنيا عُبابٌ ضَمَّنا
وشطوطٌ من حُظُوظٍ فرَّقتنا
ولقد أطْفُو عليه قَلِقًا
غارقًا في لحْظةٍ قد جمعتنا
ومعاني الحسن تترى وأنا
ناظرٌ فيها لمعنًى خَلْفَ معنى

•••

هذه الدنيا هجيرٌ كلُّها
أين في الرمضاء ظلٌّ من ظلالكْ؟
ربما تزخرُ بالحسن وما
في الدُّمى مهما غَلَتْ سحرُ جمالكْ
ولقد تزخر بالنّورِ وكم
من ضياء وهْو من غيرِك حالكْ
لو جَرَتْ في خاطري أقْصى المُنى
لتمنَّيتُ خيالًا من خيالِك!

•••

قلتُ للّيلِ الذي جلّلنا
والذي كان على السرّ أمينا
أينَ يا قلبيَ مَنْ قلبي اجتَبَى
لهواهُ واصطفاهُ لي خدينا؟
لم أكن أطمع أن ترحمني
بعد أن قَضَّيْتُ في الوجدِ السنينا
لم أكُنْ أطمعُ أن تُضْمِرَ لي
آسيًا يُبْرئُ لي الجُرح الدفينا
لم أكن أعلمُ يا ليلَ الأسى
أن في جُنْحِكَ لي فجرًا جنينا

•••

أيها اللائذُ بالصّمتِ كَفَى
وأدِرْ وجْهَكَ لي وانظرْ طويلا
لا تمِل واسخرْ من الدنيا إذا
شاءت الأيام يومًا أن تميلا

•••

ما الذي مكَّن في القلب الودادْ؟
ما الذي صبَّك صبًّا في الفؤادْ؟
ما الذي ملَّك عينيك القيادْ؟
ما الذي يعصف عصفًا بالرشادْ؟
ما الذي إِنْ أُقْصِهِ عنِّيَ عاد
طاغيًا؟ سِيَّانِ قُرْبٌ أو بعاد!
ما الذي يَخْلُقُنا من عدم؟
ما الذي يُجري حياةً في الجمادْ؟

•••

كم حبيب بَعُدت صهباؤه
وتبقت نفحة من حبَبهْ
في نسيج خالدٍ رغمَ البلى
عَبَثَ الدّهرُ وما يعبثُ به!

•••

أين سلطاني ومجدي والذي
حبُّه مجدٌ وسلطانٌ وعزَّه؟
أين إلهامي ونوري والذي
أيقظَ القلبَ إلى البَعْثِ وهَزَّه؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤