القسم الثاني: أسبوع في بلجيكا

١

مؤتمر العلوم التاريخية

كنا ألفًا أو نزيد على الألف، كلنا يُعنى بالتاريخ أو بعلم أو فن من هذه العلوم والفنون التي يحتاج إليها التاريخ، وقد اجتمعنا من أطراف الأرض على اختلاف أوطاننا، وأدياننا، ولغاتنا، ومناهجنا في الحياة، لا يجمع بيننا إلا شيء واحد، هو أننا نشتغل بالتاريخ أو بفن يتصل بالتاريخ.

كنا ألفًا أو نزيد على الألف، وكنا مختلفين مؤتلفين، مفترقين متفقين، ولقد أريد أن أحدثك عن هذا المؤتمر، ولقد أريد أن أحدثك عن هذا الأسبوع الذي قضيته في بلجيكا، ولكني لا أدري كيف أحدثك؛ لأني لا أدري كيف أبدأ الحديث.

في نفسي أشياء كثيرة، كثيرة جدًّا، أريد أن أتحدث بها إليك، ولكني أشعر بشيء من الاضطراب في تنظيم هذه الأشياء الكثيرة وترتيبها، وتقديم بعضها على بعض، كل هذه الأشياء خليقة أن تقال، وكل هذه الأشياء جليلة الخطر، فلأتحدث إليك كما تلهمني المصادفة على غير نظام، وفي غير ترتيب.

أشعر بأن كثيرًا من المصريين سيسخرون من التاريخ والمؤرخين ومن المؤتمر والمؤتمرين؛ لأن التاريخ ليس من هذه العلوم التي تظهر فائدتها في الحياة العملية اليومية، وليس من العلوم التي تعين صاحبها على أن يفلسف كما يقتضي العصر الذي نعيش فيه، وإنما هو علم متواضع يزيد في تواضعه أنه قد نزل في هذا العصر الحديث عن ميزة قديمة كانت ترفع شأنه وتعلي مكانته، ذلك أن الناس كانوا يتخذون الماضي وسيلة إلى فهم المستقبل، أو بعبارة أوضح: وسيلة إلى الاستعداد للمستقبل، وكانوا يتخذونه وسيلة إلى فهم الإنسانية وتفسير ما في حياتها من غموض، فكان التاريخ يختلط بالفلسفة أو كان التاريخ فنًّا من فنون الفلسفة، وكان الناس يعتقدون أن له فائدة عملية؛ لأنه يعين على حسن الاستعداد للحياة، فكانوا يكلفون بالتاريخ ويتهالكون عليه، وكانت للتاريخ مكانة عليا بين العلوم، وكانت للمؤرخين مكانة عليا بين العلماء.

ولكن التاريخ تواضع ونزل عن هاتين الميزتين، وأصبح لا يزعم لنفسه الفضل فيحسن الاستعداد للمستقبل، ولا يزعم لنفسه القدرة على حل ألغاز الحياة، بل أصبح التاريخ يحذِّر الناس من تلك الأساليب القديمة التي كانت تقيس غدًا إلى أمس وتفسر اليوم بما وقع منذ قرون. أصبح التاريخ يحذر الناس من هذه الأساليب القديمة، ويسخر من أولئك الذين يبحثون عن الثورة الفرنسية وما أحدثت من نظم في السياسة والاجتماع في تاريخ اليونان والرومان، ثم يرثي لأولئك الفرنسيين الذين خدعتهم هذه الأساليب في أواخر القرن الثامن عشر فظنوا أنهم يُحيون بثورتهم الديمقراطية اليونانية أو نظم السياسة الرومانية، واتخذوا لهذه النظم أسماء اقتبسوها من تاريخ أتينا وتاريخ روما. أصبح التاريخ ينكر هذه الأساليب، ويحذر الناس منها، ويسخر من المستمسكين بها، بل أصبح التاريخ ينكر فلسفة التاريخ ويقنع بشيء واحد متواضع، ولكنه جليل الخطر، وهو الوصول إلى استكشاف الحقائق التي وقعت في الماضي استكشافًا علميًّا صحيحًا معتمدًا على البحث لا على الفلسفة.

فهو كالكيمياء لا يزعم لنفسه القدرة على تحويل المعادن وإيجاد الذهب، وإنما يزعم لنفسه البحث عن الحقائق من حيث هي حقائق لا أكثر ولا أقل.

إلى هذه المنزلة وصل التاريخ، فما أسرع ما زهد فيه الناس ورغبوا عنه، ولا سيما في مصر! ولقد أذكر حديثًا طويلًا جرى بيني وبين أحد المصريين الأذكياء، كان ينكر فيه قيمة التاريخ؛ وكانت حجته في هذا الإنكار أن التاريخ لا يفيد فائدة عملية، ولا يمكِّن الناس من أن يكسبوا حياتهم أو يرفِّهوا هذه الحياة.

أذكر هذا الحديث وأحاديث أخرى فأشعر بأن ناسًا كثيرين في مصر سيسخرون من التاريخ، ومن مؤتمر التاريخ، ولكني أؤكد لك أيها القارئ أني لا أسخر من هذا ولا ذاك، وإنما أكْلَف بالتاريخ، وأعجب بمؤتمر التاريخ، وأرجو أن يكلف كثيرون بالتاريخ، ولكننا قد نصل إلى هذه المنزلة يوم نشعر بأن العلم يجب أن يُطلَب لأنه علم، لا لأنه يمكنك من أن تعيش أو من أن تعيش عيشة مترفة.

لا أسخر من التاريخ، وفي الأرض ناس كثيرون لا يسخرون من التاريخ. فقد حدثتُك في أول هذا المقال بأننا كنا ألفًا أو نزيد على الألف، وكنا من جميع أقطار الأرض، ولم يكن منا من يسخر من التاريخ، ولقد كان الذين نظموا المؤتمر ودعوا إليه في دهش وحيرة لا حد لهما، كانوا لا يطمعون في أن يبلغ عدد المؤتمرين خمسمائة، فإذا عدد المؤتمرين قد تجاوز الألف. كانوا يطمعون في أن يستجيب لهم الناس من أطراف الأرض، وإنما كانوا ينتظرون أن يستجيب لهم أهل أوروبا الغربية، وأهل أمريكا الشمالية، فإذا القارات الخمس يستجبن لهذه الدعوة، وإذا البرازيل والهند وأستراليا ومصر وأفريقيا الجنوبية وأوروبا الشمالية والصين واليابان والروسيا ترسل من يمثلها في هذا المؤتمر. وأحب أن تلاحظ أن ألمانيا لم تستطع أن تشترك في المؤتمر لأنها لم تُدعَ إليه، وأن الروسيا لم تستطع أن تشترك في المؤتمر كما ينبغي لأنها لم تُدعَ، وإنما اشتركت في المؤتمر الجماعات الروسية المتفرقة في أنحاء أوروبا، وأن النمسا اعتذرت عن الاشتراك في المؤتمر؛ لأنها لم تجد من المال ما يمكنها من إيفاد من يمثِّلها، ومع هذا كله فقد بلغ هذا المؤتمر الخامس من الفوز ما لم يبلغه مؤتمر تاريخي من قبل.

زاد عدد أعضائه على الألف، وزاد عدد الخطب التي ألقيت فيه والمذكرات التي قدمت إليه على ثلاثمائة، ولم يستطع المؤتمر أن يجتمع للاشتراك في البحث والمناقشة، إنما اضطر أن يوزع العمل ويقسم نفسه أقسامًا بلغت ثلاثة عشر قسمًا. اضطرت أقسام كثيرة إلى أن تقسم نفسها وتوزع العمل فيما بينها، فانقسم بعضها أربعة أقسام، ولم يكن من الممكن لعضو من أعضاء المؤتمر أن يتتبع العمل في المؤتمر، وإنما كان كل عضو مضطرًّا إلى أن يتتبع العمل في القسم الذي هو فيه، وربما أباح أحدنا لنفسه أن يترك قسمه ليسمع خطبة أو مذكرة تلذه أو تعنيه في قسم آخر، فيفعل ذلك كارهًا؛ لأنه يترك في قسمه خطبًا ومذكرات كان يود لو يستمع لها. ولقد كان أعضاء المؤتمر يلتقون فيسأل أحدهم صاحبه: هل قدمت إلى المؤتمر شيئًا؟ نعم في موضوع كذا. فيجيبه: هذا شيء لا يحتمل! لقد كنت أريد أن أسمع لك ولكني شُغلت في قسمي بموضوع لم يكن بدٌّ من الاستماع له. أما أنا فضيِّق الصدر، فقد فاتتني خطبة فلان ومذكرة فلان. وماذا تريد أن نصنع وقد أبت الطبيعة أن تستطيع تعديد أشخاصنا والاستماع في وقت لكل ما نحب أن نستمع له؟

وكان المؤتمر يفكر في طبع ما سيُلقى فيه من الخطب أو يقدَّم إليه من المذكرات، فألفى نفسه أمام مشكلة مالية لا قدرة له على حلها، وحسبك أنه كان يلقى في الساعة الواحدة وفي أكثر من عشرين غرفة أكثر من عشرين خطبة! وكنا في هذا المؤتمر كالتلاميذ في المدرسة، نجتمع في الساعة التاسعة صباحًا فما نزال مجتمعين إلى الظهر، ثم ننصرف للغداء ونعود في الساعة الثانية فما نزال مجتمعين إلى الساعة الخامسة. فإذا كانت الساعة الخامسة انصرفنا إلى زيارات واستقبالات قد نُظمت في القصر مرة، وفي البلدية مرة أخرى، وعند وزير المعارف مرة ثالثة، وفي المتاحف والمجامع العلمية مرة رابعة، بحيث كان من المستحيل أن يفكر العضو في شيء غير المؤتمر وأعمال المؤتمر إذا كان عضوًا مخلصًا في عمله معنيًّا بفنه حقًّا، وهنا يجب أن ألاحظ أن الأعضاء لم يكونوا جميعًا على حظ واحد من الإخلاص للفن والعناية به، وذلك شيء حسن في نفسه؛ فحسبك ثلاثمائة خطبة أو مذكرة وما استتبعت من البحث والمناقشة، ولو أن الأعضاء جميعًا خطبوا أو قدموا المذكرات أو اشتركوا في البحث والمناقشة لما انتهت أعمال المؤتمر في أسبوع أو أسابيع.

كثيرٌ من الأعضاء أقبل يسمع ويرى، ويتعرف إلى المؤرخين على اختلاف مذاهبهم ومناهجهم، وكثيرٌ منهم أقبل للرياضة والسياحة، واتخذ المؤتمر تعلَّة لما كان يريد.

كثيرة جدًّا الفوائد المختلفة التي تنتجها مثل هذه المؤتمرات، فلست أذكر الفائدة الأساسية التي يستفيدها علم التاريخ، وإنما أذكر فوائد أخرى غير هذه ليس بينها وبين التاريخ صلة. فيكفي أن تكون فطنًا دقيق الملاحظة لتجد لذَّات متنوعة في ملاحظة هؤلاء الناس المختلفين في الوطن والجنس والطبيعة والمزاج، وما لكل واحد منهم من عادة أو خلق أو مزية أو نقيصة. والحق أني قد استفدت كثيرًا من الوجهة العلمية التاريخية، ولكني مع هذا ضحكت كثيرًا وسخطت كثيرًا، فقد كان حولي من الناس من يضحك كما كان حولي منهم من يبعث السخط، ولكني سأحدثك عن هذا كله في مقال آخر بعد أن أقص عليك طرفًا من أعمال المؤتمر.

باريس في ١٦ أبريل سنة ١٩٢٣

٢

لا أذكر ما كان يضطرب في نفسي من خواطر الأسى والإعجاب، ومن عواطف الأسف والأمل أثناء الطريق بين باريس وبروكسل، حين كنا نعبر هذه البلاد التي دمرتها الحرب تدميرًا فلم تذر فيها شيئًا إلا أتت عليه، والتي كان أهلها مشردين في أقطار فرنسا، يتكلفون ألوان المشقة، ويستجدون ضروب الإحسان، ليستقروا بعد تشريد وليشبعوا بعد جوع، فأصبحت هذه البلاد، ولما تمضِ على الحرب أعوام، عامرة ومزدهرة مستكملة أو آخذة في استكمال وسائل الحياة العاملة المنتجة الناعمة المترفة. كنت آسف وكنت آمل، كنت آسى لقسوة الإنسان على الإنسان، وكنت أعجب بقدرة الإنسان على إصلاح ما أفسدت يد الإنسان، ولكني لا أريد أن أذكر ذلك أو أطيل فيه، وإنما أحدثك بما وجدتُ حين وصلت إلى مدينة بروكسل ظهر الأحد ٨ أبريل.

كان البرد شديدًا، وكانت تعصف في المدينة ريح قوية مثلجة، ولكن المدينة كانت هائجة مائجة، أو بعبارة أصح: كانت فرحة مرحة، كان الناس يتغنون ويضحكون ويفتنُّون في اللذات البريئة. فكنت لا تسمع إلا أصواتًا صافية مجلوة، تنبعث بألفاظ الهناء والسرور، وكنت لا ترى إلا أعلامًا منشورة تعبث بها الريح، كنت لا تسمع ولا ترى إلا شيئًا يسرُّ ويُرضي ويبعث البهجة في النفوس. كان أهل بلجيكا ذلك اليوم في عيد، كانوا يحتفلون بميلاد الملك ألبير. لم يكن احتفالهم رسميًّا فحسب، لم يكن مقصورًا على قصر الملك ودواوين الحكومة. لم يكن احتفالًا تراد به المجاملة، وإنما كان احتفالًا حقًّا. كانت القلوب تحتفل بالملك ألبير، وكانت الألسنة تنطلق بما يملأ القلوب من فرح، وكان الوجوه تصف ما يغمر النفوس من ابتهاج، وكانت هذه الجماعات المختلفة التي تنطلق في الشوارع منها ما ينشد النشيد البلجيكي، ومنها ما يتغنى «بالمرسيلييز»، ومنها ما يتغنى بأحدث الأغاني الباريسية التي تتردد في «مونمارتر». أقول: كانت كل هذه الجماعات آية ساطعة على أن البلجيكيين يحبون ملكهم ويعجبون به، ويحتفلون ببلجيكا الناهضة حين يحتفلون بعيد ألبير؛ لأن ألبير يمثل في نفوسهم هذا الوطن الذي تألَّم وأُهين، ولقي ضروب الذلة ثم انتصر وثأر لنفسه، وهو الآن ينهض ويستأنف الحياة قويًّا نشيطًا كأقوى وأنشط ما كان قبل الحرب.

نعم: كانت هذه الجماعات آية بينة على أن البلجيكيين يحبون ملكهم، ويرونه رمز آلامهم وآمالهم حقًّا، ومهما أنسَ فلن أنسى جماعة من الرجال والنساء صادفناها في أحد الشوارع، وقد تبادلت القلانس، فلبس الرجال قلانس النساء ولبس النساء قلانس الرجال، وامتلأ الشارع بهم حتى وقف الترام، وانقطعت الحركة وهم يتغنون:

اصعد فوق! اصعد فوق! فسترى مونمارتر.
وكن واثقًا جدًّا بأنك سترى شيئًا جديدًا.
من فوق إذا كان الجو صحوًا فسترى من باريس إلى شارتر.
إذا كنت لم ترَ هذا فاصعد فوق، اصعد فوق فسترى مونمارتر.

بذلك كانوا يتغنَّون، وكانت تقطع هذا الغناء من وقت إلى وقت قهقهة عالية تصعد في السماء، وتحملها الريح وتفرقها في أنحاء المدينة، وإنهم ليمضون كذلك وإننا لنتبعهم وإذا الغناء قد انقطع، وإذا الأصوات قد خفتت، وإذا الرءوس حاسرة، وإذا جلال مهيب قد انبسط على هذه الجماعات الفرحة، وإذا صمت رهيب يُشعرك بأن هناك شيئًا جديدًا. بأن هناك شيئًا مقدسًا.

كان هناك شيء جديد مقدس. كانت الجماعة قد وصلت إلى عمود المؤتمر، وهو الذي أقيم سنة ١٨٣٠ حين استقلَّت بلجيكا وصدر دستورها، وهو الذي يظل قبر الجندي المجهول الذي اتخذ رمزًا لما قدَّمت بلجيكا من ضحايا في الحرب الماضية، وصلت الجماعة إلى هذا العمود فتبدَّل فرحها ومرحها إجلالًا وتقديسًا لرمز الاستقلال ورمز الجهاد الوطني!

وما أشك أن هؤلاء الناس الذين كانوا يجلُّون استقلالهم، ويقدسون رمز ضحاياهم، كانوا يذكرون في هذه اللحظة نفسها مع الإجلال والإكبار الملك ألبير، الذي جاهد وتألم واحتمل كل ما يمكن أن يحتمله الملك المخلص للدفاع عن وطنه أولًا وعن عرشه ثانيًا! في هذا اليوم عرفت قيمة ما يمكن أن يوجد بين الشعوب والملوك من صلات الحب والمودة والعطف.

الحب وحده مصدر هذا الابتهاج والإجلال، فليس الملك ألبير مستبدًّا ولا راغبًا في الاستبداد، وليس الشعب البلجيكي خانعًا ولا مستعدًّا للخنوع، ولعل الذين قرءوا تاريخ بلجيكا يعلمون أن الصلة بين البلجيكيين وملوكهم قائمة على أن الملوك يتلقَّون سلطانهم من الشعب، فهم نوابه وممثلوه، لا سادته وزعماؤه.

وما لي أذهب بعيدًا وقد افتتح المؤتمر التاريخي يوم الاثنين ٩ أبريل بمحضر من الملك والملكة وولي العهد والبرنس شارل وأخته البرنسيس ماري جوري. فلما قدَّم رئيس المؤتمر إلى الملك والملكة والأمراء تحية المؤتمر، ذكر الديمقراطية ورُقيها في بلجيكا، واقتناع الملك بأن لا رُقي للشعوب ولا استقرار للعروش إلا إذا كانت الديمقراطية الصحيحة الواسعة أساس الصلة بين الشعوب والعروش، فصفق الناس جميعًا وابتسم الملك والملكة.

باريس في ١٧ أبريل سنة ١٩٢٣

٣

قلت في أول هذه الفصول: إن كثرة أعضاء المؤتمر من جهة، وكثرة مواد العمل من جهة أخرى، قد اضطرتا المؤتمر إلى أن يقسِّم نفسه إلى لجان، ولست أرى بأسًا من ذكر هذه اللجان ليرى المشتغلون بالتاريخ في مصر كيف يتصور علماء أوروبا التاريخ، وكيف يقسمونه إلى أقسامه المختلفة.

انقسم المؤتمر إلى ثلاث عشرة لجنة وهي:
  • (١)

    تاريخ الشرق.

  • (٢)

    تاريخ اليونان والرومان.

  • (٣)

    تاريخ العصر البيزنطي.

  • (٤)

    تاريخ القرون الوسطى.

  • (٥)
    التاريخ الحديث والتاريخ العصري، وهذه اللجنة تنقسم إلى أربع لجان جزئية:
    • الأولى: لجنة التاريخ الحديث التي ينتهي عملها إلى الثورة الفرنسية.
    • الثانية: لجنة التاريخ العصري التي يبتدئ عملها من الثورة.
    • الثالثة: لجنة تاريخ القارة الأمريكية.
    • الرابعة: لجنة تاريخ الاستعمار والاستكشاف.

    وأحب أن تلاحظ أن هذين القسمين الأخيرين — تاريخ القارة الأمريكية وتاريخ الاستعمار — لم يستقلا بالبحث وتخصص العلماء إلا في هذه السنين الأخيرة، وهما يوشكان أن يصبح كل واحد منهما قسمًا مستقلًّا استقلالًا تامًّا عن غيره من بقية أقسام التاريخ.

  • (٦)
    التاريخ الديني، وهذه اللجنة تنقسم إلى لجنتين جزئيتين:
    • الأولى: لجنة تاريخ الديانات من حيث هي؛ أي من وجهتها الفكرية والعملية.
    • الثانية: لجنة تاريخ الكنيسة، وهي تنقسم إلى لجنتين، تبحث الأولى عن تاريخ الكنيسة منذ نشأتها إلى آخر القرن الثاني عشر.

      وتبحث الثانية عن تاريخ الكنيسة منذ أول القرن الثالث عشر.

  • (٧)
    تاريخ الحقوق، وهذه اللجنة تنقسم إلى لجنتين:
    • الأولى: لجنة تاريخ الحقوق في العصر القديم.
    • الثانية: لجنة تاريخ الحقوق في القرون الوسطى وفي العصر الحديث.
  • (٨)

    التاريخ الاقتصادي.

  • (٩)
    تاريخ الحضارة، وقد انقسمت هذه اللجنة إلى ثلاث لجان:
    • الأولى: لجنة تاريخ الحضارة في العصر القديم.
    • الثانية: لجنة تاريخ الحضارة في القرون الوسطى وفي العصر الحديث.
    • الثالثة: لجنة تاريخ الطب.
  • (١٠)
    تاريخ الفن والآثار، وتنقسم إلى لجنتين:
    • الأولى: لجنة تاريخ الفن.
    • الثانية: لجنة الآثار.
  • (١١)
    المناهج التاريخية والعلوم المتصلة بالتاريخ، وقد انقسمت هذه اللجنة إلى لجنتين:
    • الأولى: لجنة مناهج البحث التاريخي.
    • الثانية: لجنة العلوم المتصلة بالتاريخ كعلم النقوش والخطوط، وما إلى ذلك.
  • (١٢)

    لجنة البحث عن مصادر تاريخ العالم أثناء الحرب العظمى.

  • (١٣)

    لجنة المحفوظات ونشر النصوص التاريخية.

وكان المنظمون للمؤتمر قد خصصوا له قصر المجامع العلمية، فظهر أن هذا القصر على سعته وكثرة غرفه أضيق من أن يسع هذه اللجان، واضطر المنظمون إلى أن يقرروا لجانًا كثيرة في مواضع مختلفة قريبة أو بعيدة من قصر المؤتمر.

وكانوا قد أجمعوا أن يُفتتح المؤتمر بعد ظهر الاثنين ٩ أبريل، وأن يشرع في أعماله بعد ذلك، ولكن كثرة الأعمال وكثرة ما كان يجب أن يُلقى من الخطب ويقدَّم من المذكرات؛ اضطر المؤتمر إلى أن يبدأ في عمله قبل أن يفتتح رسميًّا. فاجتمعت اللجان، وبدأت بسماع الخطب والمذكرات صباح الاثنين؛ أي قبل أن يفتتح المؤتمر رسميًّا.

وكنا قد ذهبنا يوم الأحد إلى سكرتارية المؤتمر فوجد كلٌّ منَّا طائفة من الأوراق تنتظره، وقد كُتب عليها اسمه، وهذه الأوراق عبارة عن برنامج أعمال المؤتمر ومختصر ما كان قد قُدِّم من المذكرات وبطاقات الدعوة إلى القصر، وعند وزير المعارف، وفي الجامعة، وفي البلدية، ثم بطاقة شخصية تثبت أن صاحبها عضو في المؤتمر، ثم علامة من المعدن يعلقها العضو في صدره ليتميزه الناس، وليستغني بها عن إظهار بطاقته كلما أراد أن يدخل دارًا من دور المؤتمر.

وعلمنا حينئذ أننا سنبدأ أعمالنا صباح الاثنين قبل الافتتاح الرسمي، فلما كان يوم الاثنين ذهبنا جميعًا إلى الأماكن التي خُصِّصَت للجان التي يجب أن يشترك فيها كلٌّ منَّا. ذهبت إلى لجنة المحفوظات ونشر النصوص التاريخية، وفي هذه اللجنة قدمت مذكرتي صباح الاثنين، وكان موضوعها «نص معاهدة دفاعية هجومية» عُقدت سنة ٦٩٢ للهجرة (١٢٩٢ للمسيح) بين الملك الأشرف خليل بن قلاوون وابن جايم الثاني ملك أراجون وأخويه وصهريه، وكلهم ملوك لإسبانيا المسيحية. وجدت نص هذه المعاهدة العربي في الجزء الرابع عشر من كتاب صبح الأعشى، وفي هذا النص اضطراب كثير، وضروب من التحريف غريبة، فكنت أمام صعوبتين؛ الأولى: تصحيح هذه النص، وتقويم ما فيه من الاضطراب والتحريف. الثانية: إثبات أن هذا النص صحيح من الوجهة التاريخية، وأن هناك معاهدة عُقدت حقًّا بين مصر وإسبانيا المسيحية في ذلك العصر.

وقد وُفقت إلى تذليل هاتين الصعوبتين بواسطة استكشاف النص أو الترجمة الإسبانية اللاتينية لهذه المعاهدة التي لم يكن نصها العربي معروفًا للمؤرخين قبل اليوم، ولم يكن هذا البحث يسيرًا ولا سهلًا. فحسبك أن القلقشندي الذي روى نص هذه المعاهدة عن كتاب لابن المكرم سماه «تذكرة اللبيب ونزهة الأديب» قد روى هذا النص دون أن يفهم قيمته التاريخية، بل دون أن يفهمه بوجه ما، فحرَّف وبدَّل ولم يصف المعاهدة إلا بأنها حسنة الإنشاء. وحسبك أن أسماء الملوك والبلاد كانت من التحريف بحيث كان يكفي أن تقرأها لتشكَّ في صحة المعاهدة.

فملك أراجون جايم الثاني يُسمَّى في المعاهدة «دون حاكم»، ولفظ حاكم لفظ عربي خالص لا يمكن أن يكون اسمًا لملك مسيحي من ملوك إسبانيا، وتحريفه ظاهر سهل، ولكن بشرط أن تصل إلى أصله المسيحي، ولست أدري على من تُلقى تبعة هذا التحريف، أعلى المؤلف أم على الناسخ أم على المصحح؟ ولكني أعلم أن هذا الكتاب الجليل الذي سأخصه بفصل أو فصلين لو أنه صُحِّح تصحيحًا علميًّا متينًا، وأشرف على طبعه ناس يتقنون هذا الفن، ويلمون بأصوله وباللغات الأجنبية، ويستطيعون أن يتصرفوا في هذه اللغات كتابةً وترجمةً، لخرج من المطبعة الأميرية نافعًا حقًّا ميسِّرًا للباحثين، من المصريين وغير المصريين، سُبُل البحث عن التاريخ، ولكن الذين أشرفوا على طبع هذا الكتاب، على حسن نيتهم وإتقانهم للغة العربية وما إليها، وتصحيح الحروف، يجهلون التصحيح العلمي وما يحتاج إليه من بحث وتنظيم جهلًا تامًّا، وهم إلى ذلك لا يعرفون لغة أجنبية، وأحسب أنهم لم يدرسوا التاريخ، ولا يستطيعون التصرف فيه، ولا تأول نصوصه وتفسيرها، ولهذا كان نفع الكتاب قليلًا وعسيرًا جدًّا بنوعٍ خاص. وحسبك أنك لا تجد فيه ثبتًا بأسماء الأشخاص والأمكنة، فأنت مضطر إلى أن تقرأ الكتاب كله — أو تتصفحه على أقل تقدير — لتعرف: أألمَّ الكتاب بالموضوع الذي تبحث عنه أم لم يلمَّ؟ ومع هذا فأنا أعتقد أن هذا الكتاب أنفع كتاب تاريخي طُبع باللغة العربية لمن أراد أن يدرس النُّظم السياسية في البلاد الإسلامية عامة وفي مصر خاصة، ولمن أراد أن يدرس العلاقات الدولية بين المسلمين من جهة وبينهم وبين غيرهم من جهة أخرى، ولكن صبح الأعشى أنساني ما كنت فيه من قصص المؤتمر.

سمعت في هذه اللجنة يوم الاثنين مذكرة قدَّمها أحد المندوبين «لتشيكوسلوفاكيا» عما كان من تبادل المحفوظات الرسمية بين النمسا و«تشيكوسلوفاكيا» بمقتضى معاهدة سان جرمان بعد الحرب العظمى، ودارت حول هذه المذكرة مناقشة قيمة اتخذت اللجنة بعدها قرارًا لو عُمل به لاستفادت منه مصر، وخلاصة هذا القرار أن المحفوظات في كل بلد تتبع هذا البلد فهي حق من حقوقه لا يصح أن يعتدي عليه معتدٍ بحكم الفتح أو بأي سبب آخر، وإنما يجب أن تبقى هذه المحفوظات ملكًا للبلد الذي هي فيه، وليس يتناول هذا القرار المحفوظات التي تمس الإدارة أو الشئون السياسية وحدها، وإنما يتناول المحفوظات جميعًا إدارية كانت أو سياسية أو فنية أو علمية، ومهما يكن تاريخها.

أقول: لو عنيت الدول بهذا القرار الذي اتخذه العلماء لاستفادت مصر فائدة عظيمة جدًّا، فنحن نعلم أن من حقنا أن نطالب تركيا وإنجلترا بمحفوظات كثيرة نقلت إلى قسطنطينية وإلى لندرة في عصور وظروف مختلفة، ولعلك تعلم أن من يريد أن يدرس التاريخ السياسي الدولي لمصر في القرن التاسع عشر مضطرٌّ إلى أن يذهب إلى لندرة، ويراجع محفوظات كثيرة في وزارة الخارجية الإنجليزية، وهناك أشياء نجهلها وقد نعلمها في يوم من الأيام حين نُعنى بمحفوظاتنا السياسية والإدارية عناية علمية، ولعلك تعلم أن من يريد أن يدرس التاريخ السياسي والعلمي والأدبي لمصر أيام المماليك مضطرٌّ إلى أن يختلف إلى مكاتب القسطنطينية، وأن دار الكتب المصرية أوفدت منذ حين سماحة السيد محمد الببلاوي؛ ليستنسخ في مكاتب القسطنطينية كتبًا عربية كثيرة. ولعلك لم تنسَ أن الترك حين فتحوا مصر حملوا إلى قسطنطينية كنوزها العلمية والأدبية والفنية. فمن هذه الكنوز ما تبدَّد، ومنها ما لا يزال محفوظًا في القسطنطينية، ومن الحق أن يعود هذا كله إلى مصر، ولكن أتظن أن قرارًا يتخذه العلماء يستطيع أن يؤثر في رجال السياسة سواء أكانوا من الإنجليز أم من الترك؟

ثم كانت الساعة الثالثة بعد الظهر، فافتتح المؤتمر رسميًّا. اكتظت غرفة الاحتفالات في قصر المجامع العلمية بأعضاء المؤتمر، وأقبل الملك والملكة والأمراء فافتتح المؤتمر، وقدم رئيسه التحية إلى الملك والملكة كما ذكرت في الفصل الماضي، وهنا لا أستطيع أن أخفي ابتهاجي حين سمعت لفظ مصر يُذكَر في كلمة التحية.

فقد كنت ثاني اثنين مصريين حضرا المؤتمر، وكان الآخر جورج أفندي قطاوي، العضو بالبعثة السياسية المصرية في باريس. كان يمثل الجمعية الجغرافية الملكية، وكنت المصري الوحيد الذي يلبس الطربوش، ولم أكن أعلم بحضور مواطني في هذه الجلسة، فكنت أشعر بالغربة حقًّا. فلما سمعت لفظ مصر يُذكر في تحية الملكة، بمناسبة زيارتها الأخيرة، أحسست شيئًا من الابتهاج والحنان، ولعلي لا أغلو إذا قلتُ إني أحسست شيئًا من الكبرياء أيضًا.

لمَ أخفي عليك الحق؟ كنت قبل هذه السياحة في بلجيكا مقتصدًا كل الاقتصاد في الافتخار بمصريتي إذا تحدثتُ إلى الأجانب أو جمعتني وإياهم المجامع؛ ذلك لأني أشعر دائمًا بما نحن فيه من ضعف ونقص قبل أن أشعر بما كان لنا من مجد وبما يدخر لنا الزمان من رُقي. أستحضر دائمًا ضعفنا ونقصنا الاجتماعيين، كما أستحضر دائمًا ضعفي ونقصي الشخصيين. فأتواضع في الحديث وأقتصد في الفخر، ولست أدري أمزية هذه أم نقيصة، ولكني أعلم أن هذا خُلُق من أخلاقي.

أما الآن وقد زرت بلجيكا، وتحدثت إلى هؤلاء الناس المختلفين، وسمعت ما ذُكرت وما تُذكَر به مصر، وعرفت رأي كثير من هؤلاء الناس في مصر. فقد أشعر بأن من حقي أو من الحق عليَّ ألا أسرف في التواضع وألا أغلو في الاقتصاد إذا ذُكرت مصر وذُكر المصريون؛ ذلك أن رأي الأجانب في مصر حسنٌ جدًّا، ولا سيما إذا كان هؤلاء الأجانب بعيدين عن السياسة وأوزارها … نعم، رأي الأجانب في مصر حسنٌ؛ لأنهم يفهمون مصر خيرًا مما نفهمها، يقدِّرون مجدها القديم؛ لأنهم يفهمونه حقًّا، ويقدِّرون مركزها الحديث؛ لأنهم لا يتعصبون لمذهب سياسي، ولا يميلون مع الهوى إلى حزبٍ من الأحزاب.

يجب أن أعترف بالحق لأهله، يجب أن أثني على ثروت باشا، وعلى تصريح ٢٨ فبراير، وعلى إعلان الاستقلال في ١٥ مارس؛ فالناس في مصر يزدرون هذا كله، ويسخرون منه، ويرون أنَّا غير مستقلين. وقد يكون من الحق أنَّا غير مستقلين بالفعل، وأنَّا لن نستقل بالفعل إلا يوم يجلو الإنجليز، ولكن من الحق أيضًا أن الأجانب الذين لا يشتغلون بالسياسة والذين يشتغلون بها ينظرون إلى مصر كما ينظرون إلى إنجلترا؛ أي إنهم يعترفون بأن مصر مستقلة كما أن إنجلترا مستقلة وكما أن بولونيا مستقلة، وهم يعجبون بمصر قديمها وحديثها. يعجبون بقديمها؛ لأنه خليق بالإعجاب، ويعجبون بحديثها؛ لأنه يدهشهم ويملك عليهم أهواءهم، ولقد سمعت أكثر من عشرين أجنبيًّا منهم البلجيكي والفرنسي والبولوني والأمريكي يذكرون مصر الحديثة فيعجبون بها؛ لأنها تتطور في سرعة مدهشة، ولأن نهضتها الحديثة فذة في التاريخ.

سمعتُ اسم مصر إذن فابتهجتُ، وامتلأ قلبي حنانًا، وشعرت بشيءٍ من الكبرياء؛ لأني كنت أو لأن طربوشي كان رمزًا لمصر بين هذه الرءوس الحاسرة التي كانت تزيد على الألف.

ولكني بعدتُ عن المؤتمر وغلوت في الاستطراد، وبماذا تريد أن أحدثك عن هذه الجلسة الرسمية، التي هي كغيرها من الجلسات الرسمية: ثناء على الملك والملكة، وتحية من الحكومة البلجيكية للمؤتمر. ثم خطبة مطولة من رئيس المؤتمر ألمَّ فيها ببحث تاريخي قد أذكره في غير هذا الفصل، ثم تلاوة قرارات اتُخذت لحسن نظام الأعمال، ثم ينصرف الأعضاء. اتصلت هذه الجلسة ساعتين، وسمع الملك والملكة والأمراء كل ما قيل، وانصرفوا مع الناس دون أن يظهر عليهم ملل أو ضجر. أكانوا حقًّا مغتبطين بهذا الحدث الطويل الكثير الثقيل على آذان الملوك؟ أم كانوا مجاملين؟

باريس في ١٨ أبريل سنة ١٩٢٣

٤

كان لذيذًا جدًّا ذلك اليوم الثاني من أيام المؤتمر؛ كان لذيذًا وكان مفيدًا. لم نكد نبدأ أعمالنا في ذلك اليوم حتى سمعتُ في لجنة المحفوظات مذكرة نافعة قدمها مدير المحفوظات في بلجيكا عن نظام إدارة المحفوظات، وما يجب أن يُتخذ من ضروب الحيطة، حتى لا تضيع هذه المحفوظات ولا تتعرض للخطر، وسأحدثك عن هذه المذكرة في مقال آخر أصف فيه دار المحفوظات في بروكسل، وألمُّ فيه بالموضوع إلمامًا مفيدًا.

سمعت هذه المذكرة ثم تركت لجنتي وذهبت إلى لجنة أخرى مجاورة هي لجنة تاريخ الحضارة في العصر القديم، أو بعبارة أصح: لجنة التاريخ العقلي في العصر القديم. في هذه اللجنة كان ينتظرني دهش عظيم ولذة أعظم؛ لأني سمعت محاورة ما كنت أظن أني سأسمعها في يوم من الأيام، وكانت هذه المحاورة بين عالِمين خطيرين: أحدهما فرنسي والآخر بلجيكي. كان موضوع هذه المحاورة غريبًا، وكانت المناقشة فيه حادة طويلة، حتى صرفت اللجنة عن أعمالها صباح الثلاثاء. ذلك أن أحد الفلاسفة البلجيكيين الأستاذ «دوبريل» ألَّف منذ حين كتابًا في تاريخ الفلسفة اليونانية، وزعم في هذا الكتاب أن البحث التاريخي الصحيح ينتهي بالباحث إلى أن سقراط شخص خرافي لم يوجد ولم يعرفه التاريخ، وأن خلاصة حكم التاريخ فيه كخلاصة حكم التاريخ في هوميروس؛ كلاهما شخص آمَن به القدماء وأظهر التاريخ أنه لم يوجد قط، وكلاهما شخص اتُّخذ رمزًا لنوعٍ من الآداب؛ فاتُّخذ هوميروس رمزًا لكل الشعر القصصي الذي عرفه اليونان وتناقلوه قبل القرن السابع، واتُّخذ سقراط رمزًا لهذه الفلسفة التي عرفها اليونان وافتنُّوا فيها منذ أواخر القرن الخامس، وطول القرن الرابع قبل المسيح.

أعترف بأني دُهشت الدهش كله حين قرأت عنوان هذه المحاورة قبل الذهاب إلى المؤتمر. فما كنتُ أظن أن وجود سقراط يصل في يوم من الأيام إلى أن يكون موضوع بحث، فضلًا عن أن يكون موضوع شك، بل فضلًا عن أن يكون موضوع إنكار؛ ذلك لأن سقراط لم يعِشْ في عصر جهل وبداوة، ولا في أيام خرافة وأساطير، وإنما عاش في عصر علم وحضارة، وفي أيام تحقيق وتاريخ، والناس مجمعون منذ أوائل القرن الرابع قبل المسيح على أن هناك آتينيًّا كان اسمه سقراط، وكان معروفًا طول حياته بالميل إلى الفلسفة والكلف بها، وكان ممتازًا بأطوار حياته الغريبة، ومناهج بحثه الجديدة. كان يمشي حافيًا في الشوارع ويتلكأ في الميادين، متحدثًا إلى الشيوخ والشبان، متلطفًا مع هؤلاء، محاورًا مناقشًا سائلًا مجيبًا، حتى استحدث في الأدب اليوناني فنًّا جديدًا، هو فن الحوار الفلسفي، وحتى رسم للعقل الإنساني طريقًا جديدةً لم يقطعها العقل الإنساني بعد. الناس مجمعون على ذلك، ومجمعون على أن سقراط هذا كان له خصوم وأنصار، وعلى أن خصومه حاربوه فسخروا منه، ثم اتهموه أمام المحكمة، وعلى أنه أساء الدفاع عن نفسه عمدًا، ثم سخر من القضاة فقضوا عليه بالموت، ثم انتظر الموت شهرًا، ثم شرب السم، وظل يحاور تلاميذه في خلود النفس حتى مات، ثم تفرق تلاميذه فأنشئوا المدارس والمذاهب الفلسفية المختلفة في بلاد اليونان على اختلافها وتباعد أطرافها، وعاش من هذه المذاهب مذهبٌ واحد هو مذهب أفلاطون الذي أخذ يتطور ويستحيل حتى أنتج فلسفة أرسطاطاليس، وكثيرًا من المذاهب الفلسفية الأخرى التي لا تزال متاعًا عامًا للنوع الإنساني إلى الآن.

الناس مجمعون على هذا كله، ولديهم أدلة ظاهرة تبيح لهم هذا الإجماع. فليس من شك في وجود أرستوفان الممثل اليوناني المضحك، وليس من شك في أن أرستوفان قدَّم إلى الملعب الآتيني نحو سنة ٤٢٤ قبل المسيح قصة السحاب التي يتداولها الناس، والتي تدور حول سقراط، وتتخذه وسيلة إلى تسلية الجمهور الآتيني وإضحاكه، وليس من شك في أن كتب التاريخ اليونانية والرومانية ذكرت موجزة أو مطنبة قضية سقراط وموته والمذاهب الفلسفية التي نشأت عن حواره ومناقشته، ليس من شك في هذا كله، ولكن الأستاذ «دوبريل» وجد طريقًا إلى الشك، وفي الحق أنه لم يخترع هذه الطريق، فهي موجودة من قبل، وفيها ما يبعث على الدهش والحيرة. فمن الواضح أن أحدًا لم يشكَّ في وجود سقراط قبل الأستاذ «دوبريل»، ولكن من الواضح أيضًا أن المحدَثين من مؤرخي الفلسفة عاجزون إلى الآن كل العجز عن تحقيق فلسفة سقراط، وبيان ما كان له من مذهب في الأخلاق أو في غير الأخلاق. فهم يؤمنون بوجود سقراط وبأنه أبو الفلسفة، ولكنهم لا يستطيعون أن يبينوا فلسفته. بل هناك ما هو أغرب من هذا: لا يستطيعون أن يصفوا سقراط ولا أن يتميزوا شخصيته المعنوية. فلسقراط شخصيات كثيرة تختلف باختلاف تلاميذه. فأفلاطون يعطي من سقراط شخصية تخالف تلك التي يعطيها «كسنوفون Xenophon»، وهذه الشخصية تخالف ما يمكن أن يُستخلَص من «فيدون phedon»، وكل هذه الشخصيات تخالف ما نجد في قصة السحاب، وإذا كان الأمر كذلك، فما الذي يمنع من الشك في وجود سقراط؟ وكيف نستطيع أن نتصور شخصًا وُجِد من غير شك وكان أبا الفلسفة وملهم الفلاسفة، وأحدث في العالم اليوناني خاصة والإنساني عامة ضجة هائلة أعدت العالم للضجة التي أحدثها المسيح، دون أن نتميز شخصيته أو أن نتبين أصلًا واضحًا جليًّا من أصول فلسفته؟

نعم، قد يجاب على هذا بأن سقراط لم يكتب شيئًا، وإنما تحدَّث فاختلطت أحاديثه وعبث بها تلاميذه، ومن هنا اختلطت شخصيته الفلسفية، وأصبح تميزها شيئًا عسيرًا، ولكن فلاسفة كثيرين وُجِدوا قبل سقراط ولم يكتبوا، ومع هذا فقد تميزت شخصياتهم، مع أن فلسفتهم فشلت ولم تظفر من الفوز ببعض ما ظفرت به الفلسفة التي تضاف إلى سقراط. هذا مصدر الشك في وجود سقراط، وقد افتنَّ فيه الأستاذ «دوبريل» ولم يكتفِ بتسجيله، بل ذهب إلى ما هو أبعد من هذا فأثبت أو حاول أن يثبت شيئين؛ الأول: أن شخص سقراط شخص خرافي كشخص «جحا»، كان موضوع العبث والسخرية في قصص الممثلين، وأن الفلاسفة الذين جاءوا في أواخر القرن الخامس وفي القرن الرابع قد اتخذوا هذا الشخص الخرافي — الذي هو موضوع السخرية والعبث — مثالًا للجد، ولكن للجد الحلو الذي هو أقرب إلى الفكاهة منه إلى الجد الخالص؛ ليحببوا فلسفتهم إلى الناس. ثم أخذ هذا الشخص الهزلي قديمًا الجدِّي حديثًا، يتطور في جدِّه ويمعن في فلسفته، حتى أصبح مثالًا للجد الخالص، وأبًا للفلاسفة، ورمزًا للفلسفة، وحتى نُسجت حوله هذه الأسطورة الغريبة التي جعلته بطلًا من أبطال الإنسانية. الثاني: أن فلسفة سقراط ليست جديدة، ولم تنشأ كما يعتقد المؤرخون لمحاربة السوفسطائية، وإنما هي طور من أطوار الفلسفة اليونانية القديمة، لم يستحدثها فيلسوف بعينه في عصر بعينه، ويثبت الأستاذ «دوبريل» نظريته هذه بالرجوع إلى نظريات الفلاسفة اليونانيين قبل سقراط، وما يوجد فيها من أصول الفلسفة السقراطية. هذه نظرية الأستاذ «دوبريل» أوجزتُها إيجازًا شديدًا أخشى أن يكون قد أفسدها وانتقص من أطرافها.

نهض لنقض هذه النظرية أستاذ فرنسي هو الأستاذ «لفيفر» من علماء مدينة «ليل»، وأعترف بأني كنت معجبًا بهذا الأستاذ حين كان يتكلم، ولم أكن منفردًا بهذا الإعجاب، وإنما كان أعضاء اللجنة جميعًا — ومنهم الأستاذ «دوبريل» نفسه — يشاركونني فيه، ولم يكن مصدر هذا الإعجاب فيما أظن اقتناعًا بردود الأستاذ، وإنما كان مصدره قبل كل شيء حبنا لسقراط، وحرصنا على أن يكون شخصًا حقيقيًّا تاريخيًّا، وشعورنا بأن الأستاذ «لفيفر» يحاول أن يثبت لنا وجود هذا الشخص الذي نحبه ونكلف له. الحق أن الوقت لم يسمح للأستاذ «لفيفر» بمناقشة خصمه كما ينبغي؛ فهناك نصوص يونانية ولاتينية لم يكن بدٌّ من تحليلها ومناقشتها، وذلك يحتاج إلى كتاب لا إلى محاضرة، وإلى أشهر لا إلى ساعة، ولكن هناك شيئًا يظهر أنه لا يقبل الشك، وهو أن الأستاذ «دوبريل» غلا في نظريته، وسلك فيها مسلك الفيلسوف لا مسلك المؤرخ. فيجب أن نلاحظ أن سبيل المؤرخ تخالف سبيل الفيلسوف، وقد تضادها مضادة كاملة فتذهب إحداهما إلى الشمال وتذهب الأخرى إلى الجنوب؛ ذلك لأن الفيلسوف يخضع في فلسفته لقواعد معينة مرسومة في ذهنه، فمن المعقول جدًّا أن ينتقل من مقدمة إلى مقدمة حتى يصل إلى النتيجة التي يسعى إليها، سواء أكان بحثه صحيحًا أم غير صحيح في نفسه. فإذا رأى الأستاذ «دوبريل» أن فلسفة سقراط تكاد تكون موجودة برمتها عند الفلاسفة الذين تقدموه، وأن شخصية سقراط غامضة متناقضة عند تلاميذه وفيما تركوا من الأسفار، وأن شخص سقراط كان موضوع العبث والسخرية عند الشعراء الممثلين، كان من اليسير عليه أن يصطنع المنطق فينظِّم مقدماته ويرتبها حتى يصل إلى هذه النتيجة، وهي أن سقراط شخص خرافي. هذه النتيجة مُطمِعة خلابة؛ لأنها تخرق الإجماع أولًا، ولأنها تخيِّل إلى صاحبها أنه قد رد الأمر إلى نصابه فأثبت اتصال الفلسفة ونفى انقطاعها، ولأنها بعد هذا وذاك إن أفلحت كانت خليقة أن تخلِّد اسم صاحبها في تاريخ الفلسفة كما خلد اسم «ولف» في تاريخ الأدب اليوناني.

هذه سبيل الفيلسوف، أما سبيل المؤرخ فمخالِفة كل المخالَفة لهذه السبيل، فهي لا تتبع قوانين منطقية معينة، وإنما تتبع الحياة الإنسانية العملية. والحياة الإنسانية العملية لا تزال تظهر لنا إلى الآن مختلفة مضطربة متناقضة؛ لأننا لم نوفق بعدُ إلى استكشاف قوانينها الخفية. فمن المعقول جدًّا أن يظهر للفيلسوف شيء يراه منتظمًا منتجًا ولا يقره التاريخ، ومن المعقول أن يرجِّح المؤرخ شيئًا لا يقره الفيلسوف، وليس في هذا شيء من الغرابة. فالفيلسوف بطبيعته منكر لحياة الناس العاديين، يزدريها ويستخفها، والناس العاديون منكرون لحياة الفلاسفة، يزدريها بعضهم ويُكبِرها أكثرهم، ولكنهم جميعًا يرون أنها تخالف أطوارهم وعاداتهم، ومن هنا وُجد التناقض بين حياة الناس وفلسفة الفلاسفة.

وسبيل التاريخ أن يبحث عن حياة الناس كما يحيونها لا كما يتصورها الفيلسوف. فليس غريبًا أن يؤمن المؤرخ بوجود سقراط، ويعجز في الوقت نفسه عن شخصيته وإزالة ما حولها من الغموض. أضف إلى هذا أن هناك أشياء يخرج الشك فيها عن طور المعقول؛ فالعصر القديم والقرون الوسطى والعصر الحديث لا تعرف قبل المسيو «دوبريل» نصًّا يشير إلى الشك في وجود سقراط. بل هناك شيء آخر ذكره الأستاذ «لفيفر» وعجز الأستاذ «دوبريل» عن دحضه، وهو أن قصة سقراط تَصِم الآتينيين بجناية منكرة، هي قتل هذا البطل العظيم ظلمًا وفي غير إنصاف، والتاريخ يثبت أن الآتينيين كانوا يغارون على شهرتهم وحظهم من حسن الذكر. فكيف نتصور أن هؤلاء الناس وصموا أنفسهم بهذه الوصمة؟ أو سكتوا عن الذين وصموهم بهذه الوصمة: عن أفلاطون وكسنوفون وغيرهما من تلاميذ سقراط؟ ألم يكن معقولًا أن يغضب الآتينيون لهذه التهمة المنتحلة التي كان يستغلها أعداؤهم الكثيرون؟ هناك شيء آخر، وهو أننا إذا استبحنا لأنفسنا الشك من غير حساب، لم ندرِ إلى أي حد ينتهي بنا الشك في التاريخ. فما الذي يمنع الأستاذ «دوبريل» من أن يشك غدًا في وجود أفلاطون، وبعد غدٍ في وجود أرسطاطاليس؟ ومن يدري! لعل شخص نابليون بعد زمنٍ قليلٍ أو كثيرٍ يصبح عند بعض الباحثين شخصًا خرافيًّا كشخص هوميروس أو كشخص سقراط عند الأستاذ «دوبريل»!

قلت لك إن سبيل المؤرخ تخالف سبيل الفيلسوف، وإن الأول يستطيع، بل يجب عليه أحيانًا، أن يقرَّ ما ينكر الفيلسوف، وأن ينكر ما يقرُّ الفيلسوف، ولقد انتقلت من هذه اللجنة إلى لجنة أخرى هي لجنة تاريخ الديانات، وكنت غير مقتنع برأي الأستاذ «دوبريل»، فسمعت في هذه اللجنة الثانية أحد أساتذتي وهو الأستاذ «جينيبير» يتكلم، ورأيت الناس من حوله في هرج ومرج، ووددت حين سمعت ما كان يقول لو حضر الأستاذ «دوبريل»؛ ذلك لأن الأستاذ «جينيبير» كان يعلن مبتسمًا ساخرًا أن أعداء التاريخ ثلاثة: عالم الدين، ورجل القانون، والفيلسوف. ضحك ناس وسخط ناس واحتج آخرون، أما أنا فضحكت ولم أسخط ولم أحتج، وإنما هنأت الأستاذ، وهنا أعتذر إلى علماء الدين وإلى رجال القانون، وأسأل صديقي منصور عن رأيه في هذا: أحق أن الفيلسوف عدوٌّ للتاريخ؟

باريس في ٢٠ أبريل سنة ١٩٢٣

٥

فكرت في مصر، وفي نص الدستور على السودان، وفي وزارة الشعب، وفي الوزارة القائمة يوم الثلاثاء ١٠ أبريل، حين كنت أسمع بعد الظهر في جلسة عامة للمؤتمر خطبة قيمة دقيقة ممتعة كان يلقيها الأستاذ الفرنسي «بريمون». كانت الخطبة قيمة ممتعة؛ لأنها كانت تفسر لنا لغزًا من ألغاز التاريخ — الفرنسي الإنجليزي — وتوضح لنا ألقابًا وعنوانات نجدها في نصوص السياسة الخارجية الفرنسية والإنجليزية قبل الثورة الفرنسية، وكانت دقيقة لذيذة؛ لأنها كانت تُلقى بمحضر من قوم مختلفين يمثلون أممًا مختلفة، وبمحضر كثير جدًّا من الإنجليز وكثير جدًّا من الفرنسيين، وكان الذي يلقيها فرنسيًّا، وكان رئيس المؤتمر حينئذٍ إنجليزيًّا، والناس يذكرون ما بين فرنسا وإنجلترا من خلاف ومشادة ومنافسة في الشرق والغرب؛ فلم يكن بدٌّ للأستاذ الفرنسي من أن يصطنع الدقة والتلطف وحسن المدخل حتى لا يؤذي أولئك ولا يهيج هؤلاء. ولا تقل كان المؤتمر علميًّا والعلماء فوق السياسة، فسأحدثك في غير هذا المقال بما يثبت لك أن العلماء ليسوا فوق السياسة، وأنهم كغيرهم من الناس يخضعون للعاطفة الوطينة ويندفعون معها، والفرق بينهم وبين العامة أنهم يجتهدون في أن يزنوا هذا الاندفاع، وألا يضحُّوا بالعلم في سبيل السياسة، وقلما يوفَّقون، ولكني أثنيت على الخطبة، وأطلت الثناء، ولم أحدثك بموضوعها.

كان موضوع هذه الخطبة لقبًا من ألقاب ملك إنجلترا؛ فقد كان ملوك إنجلترا يلقِّبون أنفسهم بهذا اللقب؛ وهو «ملك فرنسا»، وكانوا يصطنعون هذا اللقب، ويحرصون عليه الحرص كله في علاقاتهم السياسية بملوك فرنسا. ولم يكن ملوك فرنسا يستطيعون أن يصطنعوا هذا اللقب. فكانوا يلقبون أنفسهم بأصحاب الجلالة المسيحية جدًّا. وحاول لويس الرابع عشر أن يحمل ملوك إنجلترا على أن ينزلوا عن هذا اللقب فلم يُفلح، ولم يُفلح بعده لويس الخامس عشر، وغريبة جدًّا الحيل التي كان يتخذها المندوبون السياسيون للويس الرابع عشر وللويس الخامس عشر، ليمحوا هذا اللقب من ألقاب الإنجليز، أو ليخفوه، دون أن يوفَّقوا، حتى لقد حاول بعضهم أن يمحو هذا اللقب من النص الفرنسي لمعاهدة بين البلدين على أن يبقى في النص اللاتيني؛ لأن الجمهور يقرأ النصوص الفرنسية ولا يقرأ النصوص اللاتينية، فلم يُفلح، وحتى لقد كان أحد ملوك إنجلترا منفيًّا مخلوعًا، وكان يأوي إلى فرنسا، وكان ضيفًا على لويس الرابع عشر، وكان لويس الرابع عشر يحميه ويدفع عنه، وكان مع ذلك يلقِّب نفسه ملك فرنسا، ولم يوفق الفرنسيون إلى محو هذا اللقب من ألقاب ملوك الإنجليز إلا أيام الثورة، أو بعبارة أصح: أيام القنصلية. فقد اشتد الخلاف بين مفوضي الجمهورية الفرنسية ومفوضي المملكة الإنجليزية حول هذا اللقب، وكانت حجة الفرنسيين أن الثورة قد ألغت الملكية من فرنسا، فهي لا تعترف بلقب يخيِّل أن لفرنسا ملكًا، كائنًا من كان، سواء أكان هذه الملك فرنسيًّا أم غير فرنسي، وسواء أكان ملكًا حقًّا أم لفظًا، وأن الإنجليز الذين يريدون أن يعترفوا بالجمهورية يجب عليهم — ليكونوا منطقيين مع أنفسهم — أن يمحوا هذا اللقب من ثبت الألقاب الملكية. وأبى الإنجليز ذلك، فانقطعت المفاوضات، واستؤنف الجهاد بين البلدين. فلما كانت القنصلية، وظهر الميل إلى الصلح بين الإنجليز والفرنسيين، وأخذ الساسة في البلدين يوطئون لمعاهدة «أميان» amiens، أحس الإنجليز أنهم إذا لم ينزلوا عن هذا اللقب فستنقطع المفاوضات، وأحسوا في الوقت نفسه أنهم إن نزلوا عن هذا اللقب بمقتضى مفاوضات بينهم وبين فرنسا، كان هذا النزول انتصارًا لفرنسا وخزيًا وطنيًّا للإنجليز. فانتهزوا فرصة ضم إرلندا إلى المملكة الإنجليزية، وصدر آخر ديسمبر سنة ١٨٠٠ مرسومٌ ملكي يعلن أن ملك إنجلترا سيُلقَّب من أول يناير سنة ١٨٠١ ملك «بريطانيا العظمى وإرلندا»، ولم يذكر اللقب الذي كان عليه الخلاف؛ وهو ملك فرنسا. وبهذا مُحيَ هذا اللقب ولم يحتَجِ الفرنسيون إلى أن يفاوضوا في محوه، ولم يحتَجِ الإنجليز إلى أن ينخذلوا في المفاوضة. ولكن هذا لم يمنع المؤرخين الإنجليز من أن يعترفوا في أواسط القرن الماضي بأن هذا النزول كان خزيًا وطنيًّا وامتهانًا لكرامة التاج.

ذكرتُ مصر، وذكرتُ نصوص الدستور على السودان، وذكرتُ تلقيب ملك مصر بأنه ملك السودان، وذكرت هذه السهولة التي أظهرتها وزارة مصرية في النزول عن هذا اللقب، ولو إلى أجل. ذكرت ذلك فاستخزيت لوزارتنا، ومَن ذا الذي يذكر هذا ولا يستخزي؟! جاهدت إنجلترا قرونًا لتحتفظ بلقبٍ لا خير فيه، فلم يكن ملك إنجلترا ملكًا لفرنسا أيام لويس الرابع عشر، بل كان ملك إنجلترا يخشى ملك فرنسا، ومع هذا كان يلقِّب نفسه ملك فرنسا. لم يكن هذا اللقب مفيدًا، بل كان مضحكًا، ومع ذلك لم تنزل عنه إنجلترا إلا حين اضطرت اضطرارًا شديدًا إلى النزول عنه. أما نحن — أستغفر الله! — أما وزارتنا فقد نزلت عن هذا اللقب: «ملك السودان»، وهي تعلم أنه ليس لقبًا لفظيًّا، وهي تعلم أنه لقب يمثل الحق والعدل والقانون، وأن الاحتفاظ به احتفاظ بحق مصر، والتفريط فيه تفريط في حق مصر. نزلت عنه ولمَّا تُضَحِّ في الاحتفاظ به بالقليل ولا بالكثير. نزلت عنه لأن ممثل إنجلترا قطَّب جبينه ولوى وجهه. ذكرتُ هذا كله وذكرت جهاد الإنجليز في الاحتفاظ بلقب سخيف، ثم إصرارهم على ألا تحتفظ مصر بلقب هو كما قلت مثال الحق والعدل والقانون. استخزيت لوزارتنا وسألت الله أن يمنح مصر ساسة يستطيعون أن يقاوموا ساسة الإنجليز! ثم سمعنا خطبتين؛ إحداهما عن نقوش يونانية استُكشفت في آسيا الصغرى ألقاها عالم إنجليزي، والأخرى عن أثر الخرافات والنبوات في سياسة الجمهورية الرومانية ألقاها عالم بولوني.

ثم انصرفنا إلى القصر، وكانت الساعة الخامسة من هذا اليوم قد ضُربت موعدًا لمثول أعضاء المؤتمر بين يدي الملك والملكة، فرأيت في هذا القصر أشياء كثيرة تركت في نفسي آثارًا قوية. رأيت قبل كل شيء مظهرًا من مظاهر حب العلم والتهالك عليه والافتنان في نصره، ومظهرًا من مظاهر الوطنية الصادقة القوية، ومظهرًا من مظاهر إجلال أوروبا لعلمائها وإكبارها لمكانتهم ومفاخرتها بهم، وكان الذي يمثل هذه المظاهر رجلًا شيخًا فانيًا قد تجاوز السابعة والثمانين، وانحنى على العصا فما يستقيم له ظل، وانحلَّت قواه فما يمشي إلا متثاقلًا، وما يكاد يستقل بنفسه، فهو محتاج أبدًا إلى من يعتمد عليه، وكان مبتسمًا، وكان فرحًا، وكان يتلطف في الحديث إلى كل من ذهب يحييه، وقد ذهبنا كلنا نحييه، وكان وحيدًا؛ أي لم يكن يمثِّل بلده سواه، وكان جالسًا على كرسي في ناحية من نواحي البهو الذي كنا ننتظر فيه وقوفًا أن يؤذن لنا بتحية الملك. هذا الشيخ الذي كانت تحوطه بلجيكا، والذي كان يرعاه المؤتمر كله، هو الأستاذ «شميت» Schmidt، أقبل من كوبنهاجن يمثل الدنمارك في المؤتمر، وألقى في لجنة الشرق خطبة عن مقدار علم المصريين القدماء بتاريخ مصر القديم، فكان لخطبته فوز، وتحدثت بها صحف بلجيكا. ذهبتُ إلى هذا الرجل فحييته وشكرت له عنايته بتاريخ مصر. فما أشد ما أثَّرت فيه تحيتي وشكري! وما أحسن ما أظهر ميله إلى مصر، وإعجابه بمصر، وأمله في مستقبل مصر!

أُذِن لنا في الدخول، ورُتبنا حسب أحرف الهجاء. فدخل أعضاء المؤتمر البلجيكيون، ثم ممثل البرازيل، ثم الشيخ الفاني ممثل الدنمارك، وكنا اثنين يمثلان مصر، وكانت زوجتي تصحبني، وكنا وراء هذا الشيخ، فسمعنا تحية الملك له، وسمعناه يتحدث بكلام كثير إلى الملك لم نفهم منه شيئًا، ولم يفهم الملك منه شيئًا؛ لأن الرجل متقدم في السن فهو لا يكاد يُبين إذا تكلم الفرنسية. ثم أراد الرجل أن ينصرف فزلَّت قدمه وكاد يسقط، ثم صافح الملكة وأراد أن ينصرف وكاد يسقط، ولولا أن كبير الأمناء كان يسنده لهوى إلى الأرض.

مررنا أمام الملك والملكة فصافحَنَا الملك، وأعلن إلينا أنه سعيد برؤية مصري، وأن الملكة كانت سعيدةً جدًّا بما أظهر المصريون لها من الكرم وحسن الضيافة، وصافحتنا الملكة فأعلنت إلينا اغتباطها بهذه السياحة البديعة التي ساحتها في هذا البلد الذي ليس له مثيل. ثم مرت بعدنا إنجلترا فذَكَرَت أنا مستقلون، وأنا لا نتبع تركيا، وأنا لا نتبع إنجلترا، وأن تصريح ٢٨ فبراير ليس لغوًا ولا حديثًا من الأحاديث، وإنما هو حقيقة واقعة ليست عبثًا بالعقول كما يظن كثيرٌ منا في مصر.

خرجنا من غرفة الاستقبال، وكنت أظن أن لم يبقَ لنا إلا أن ننصرف، ولكني دهشت حين وجدت نفسي في غرفة قد مُدت فيها الموائد، ووقف خدم القصر يقدمون إلى أعضاء المؤتمر الشاي وأنواع الحلوى والأشربة (التي يبيحيها الإسلام)، وإنا لفي شاي وحلوى وبرتقال يتبع بعضنا بعضًا، كلما فرغت طائفة من تحية الملك تقدَّم إليها الخدم فسألوها عما تشتهي، حتى انتهت المقابلة.

أقول إنَّا لفي هذا كله وإذا بالملك والملكة والأمراء قد خرجوا من غرفة الاستقبال واختلطوا بالناس، وانبثُّوا في أنحاء الغرفة يتحدثون إلى المؤتمرين مع شيء من السذاجة وارتفاع الكلفة غريب، وكان الرئيس البلجيكي للمؤتمر الأستاذ «بيرين» pirenne يتتبع كبار العلماء وذوي المكانة منهم فيقدمهم إلى الملك مرة، وإلى الملكة مرة أخرى، وكان المؤتمرون البلجيكيون يتتبعون بقية الأعضاء فيقدمونهم حينًا إلى ولي العهد وحينًا آخر إلى أخيه وحينًا آخر إلى أخته، وقد قُدِّمتُ أنا وزوجي إلى هذه الأميرة الصغيرة، وهي فتاة في الثامنة عشرة من عمرها، مشرقة يتحدث وجهها بما يملؤها من قوة الشباب، وبما لا يزال يملكها من سذاجة الطفولة ونعومتها، في زي ساذج عادي، كالذي تصطنعه الفتيات في أسر الطبقات الوسطى في أوروبا وفي مصر. قُدِّمنا إليها على أننا نمثل مصر، وقال مقدمنا إننا نمثل بلدًا غريبًا لا لما تتكشف عنه المباحث العلمية من عجائب تاريخه القديم، بل لما يبهر عقول الأوروبيين من حركته المدهشة ونهضته السريعة التي بدأت منذ سنين فقطعت في زمن قصير ما أفنت أوروبا في قطعه طوال الأعوام. فسألتِ الأميرة زوجي عن المرأة المصرية ومقدار رقيها، وإن زوجي لتصف لها سرعة رقي المرأة المصرية إذ أقبلت سيدة بولونية عالمة مؤرخة من أعضاء المؤتمر، فاندفعت إلى الأميرة دون أن تُقدَّم إليها، ودون أن تستأذن، ثم أسرعت إلى يد الأميرة فهزتها هزًّا عنيفًا، وسألت الأميرة بصوت غليظ: أتحبين التاريخ؟ أجابت الأميرة في استحياء: نعم يا سيدتي. وأي فرعٍ من فروع التاريخ تحبين؟ بهتت الفتاة لحظة، ثم قالت: إني لم أحسن درس التاريخ ولا أعلم منه إلا قليلًا، فلا أستطيع أن أوثر فرعًا من فروعه دون الآخر. ضحكت السيدة ضحكًا عاليًا، ثم هزت يد الأميرة هزًّا عنيفًا، وقالت في صوتها الغليظ: ادرسي تاريخ الفن فهو سهل والناس جميعًا يستطيعون أن يفهموه. ثم مضت لشأنها. وقُدِّم إلى الأميرة ناس آخرون، ولبثنا كذلك ساعة، ثم انصرف الملك والملكة والأمراء، فانصرف كلٌّ منا إلى مأواه.

عرفتُ في هذه المرة أيضًا لمَ يحب البلجيكيون ملكهم وملكتهم وأمراءهم، وكيف لا أفهم ذلك وقد أقبل من قدَّمنا إلى الأميرة فصاح بي: مسيو حسين، تعال أقدمك إلى أميرتنا الصغيرة. وكيف لا أفهم ذلك وقد سمعت الأستاذ «بيرين» يصيح بأعلى صوته: «برنس ليو بولد! أين البرنس ليو بولد؟ أين ذهب؟ إني أريد أقدِّم إليه …» فيجيبه أحد البلجيكيين: «ها هو ذا يتحدث إلى فلان»، فيذهب الأستاذ «بيرين» ويمهل الأمير حتى إذا فرغ من حديثه أخذ بذارعه ومضى حتى يقدمه إلى أحد العلماء، والملكة تتنقل بين صفوف المؤتمرين فتتحدث إلى هذا، وتسأل ذاك، وتبسم لهذا، وتصافح ذاك.

كيف لا أفهم حب البلجيكيين لملكهم وملكتهم وأمرائهم وهم على هذا الحظ من الديمقراطية؟

ألا إننا في عصر تنتصر فيه الديمقراطية انتصارًا مدهشًا، لا تستقر في مجالس النواب ولا في مجالس الشيوخ، وإنما تتجاوز هذه المجالس إلى قصور الملك، فينزلها هؤلاء الملوك من قصورهم أحسن منزل؛ لأنهم يفهمون أن عروشهم لا تستطيع أن تقوم إلا عليها، لأنهم يفهمون أن نظام الملك قد أصبح لا يلائم هذا العصر؛ لأنه أثر قديم لا معنى له الآن إلا إذا لم يكن بين الملوك ورؤساء الجمهوريات فرقٌ ما. إلا إذا اعتمدت عروش الملوك على قلوب الشعب لا على قوة الجيش ولا على قوة السُّنَّة القديمة.

فهم بعض ملوك أوروبا هذا فاستقرت عروشهم، ويظهر أنها تريد أن تستقر أبدًا، ولم يفهمه بعضهم الآخر، فهم الآن يذوقون مرارة النفي على شواطئ بحيرة «ليمان» leman في سويسرا.
باريس ٢٥ أبريل سنة ١٩٢٣

٦

أصبحنا يوم الأربعاء ١١ أبريل فتفرَّقنا لا في أنحاء بروكسل بل في أنحاء بلجيكا؛ ذلك أن الذين أشرفوا على تنظيم المؤتمر لم يفكروا في جمع المؤرخين من أقطار الأرض وإيجاد الصلة بينهم وتمكينهم من أن يعلم كل منهم ما عند صاحبه من التاريخ، وإنما فكروا مع ذلك في شيئين آخرين، وإن شئت فقل في أشياء أخرى: فكروا في أن البحث العلمي الجاف ثقيل حتى على أنفس العلماء، ولا بد من أن يتخلل بحثهم العلمي شيء يسرُّ ويرضي ويفيد، دون أن تكون الصلة منقطعة بين هذا الشيء وبين البحث العلمي الذي يشتغل به العلماء، وأي شيء ألذ وأنفع وأشد صلة بالتاريخ من زيارة الآثار التاريخية المختلفة التي تنبث في جميع أنحاء بلجيكا بكثرة مدهشة؟ ولا سيما إذا لم تكن هذه الآثار تاريخية فحسب، بل كانت مع ذلك آيات بينات من آيات الفن الجميل على اختلافه.

فكَّر البلجيكيون في ذلك، وفكروا في شيءٍ آخر، وهو أن بلدهم يخرج من حربٍ ضروس قد أخضعته لضروب من المحن والحرمان لم يعرفها قبل هذه الأعوام الأخيرة، وهو الآن يجتهد في إصلاح ما أفسدت الحرب، وهو محتاج في هذا الإصلاح إلى عطف الأمم على اختلافها، ومن هنا كان محتاجًا إلى نشر الدعوة وبعث عواطف الإعجاب والإجلال والإشفاق. والفرصة سانحة، فالمؤتمر يمثل أكبر أمم الأرض، وأعضاء المؤتمر من خيرة الذين يمثلون الأمم؛ لأنهم علماء وكلهم أستاذ أو مؤلف، وإذن فكلهم قادر على نشر الدعوة، ماهر فيه، وإذن فلا بد من التأثير في هؤلاء العلماء، وإحياء هذه العواطف المختلفة في نفوسهم، وأي سبيل أهدى إلى ذلك من زيارة الآيات الفنية البينة؟! أضف إلى هذا أن تفرُّق المؤتمرين في أنحاء بلجيكا لا يخلو من فائدة اقتصادية في بلد ساء القطع فيه واشتد فيه غلاء الحياة. فكثيرٌ جدًّا من المؤتمرين قد وفدوا من بلادٍ غنيةٍ مثريةٍ، فهم يستطيعون أن ينفقوا عن سعة، دون أن يخسروا كثيرًا، وبلجيكا في حاجة إلى أن ينفقوا، وليس ينبغي أن يقتصر إنفاقهم على مدينة بروكسل، فهناك مدن بلجيكية أخرى تحتاج إلى هذا الإنفاق. وإذن فيحسن أن يتفرق المؤتمرون في أنحاء بلجيكا لينتفعوا هم، ولتستفيد بلجيكا من الوجهة المادية والمعنوية. لهذا كله خصص الذين نظموا المؤتمر يوم الأربعاء ١١ أبريل لسياحات تاريخية أو أثرية أو فنية، وعينوا مدنًا مختلفة يختارها من شاء من المؤتمرين، وندبوا في كل مدينة أستاذًا أو أساتذةً يقودون المؤتمرين ويرشدونهم ويفسرون لهم ما يرون، فذهب بعض المؤتمرين إلى مدينة «بروج» Bruges وبعضهم إلى «جان» Gand وبعضهم إلى «لييج» Liege وآخرون إلى «أنفرس» Anvers، وكثير إلى المدينة الشهيدة المعذبة مدينة «لوفان» Louvin.

وكنا بين الذين ذهبوا إلى «بروج»، فوصلنا إلى هذه المدينة في الساعة الثامنة من صباح يومٍ صحو قد صفت فيه السماء، وانتشرت فيه الشمس الفاترة على هذه المدينة المشرفة على الموت، والتي أزهرت في القرون الوسطى إزهارًا لم تعرفه مدينة بلجيكية أخرى، والتي لا تكاد تقع فيها العين على شيءٍ حديث، وإنما كل شيء فيها قديم. كل شيء فيها يرجع عهده إلى القرن العاشر والحادي عشر، وأحدث ما فيها يرجع عهده إلى القرن السادس عشر. مدينة هادئة مطمئنة لا تكاد تحس حركة ولا اضطرابًا إلا ما يُحدثه الترام على هذه الأرض التي لم يُصطنع فيها «الأسفلت ولا المكدام»، وإنما حجرت على طريقة القرون الوسطى. فالمشي فيها شاقٌّ متعب مهلك للأحذية، وللترام والعربات فيها ضجيج شديد. مدينة هادئة مطمئنة فقيرة جدًّا ولكنها غنية جدًّا؛ فقيرة لأن الحياة الاقتصادية الحديثة صرفت عنها الحركة التجارية والصناعية، وغنية بما فيها من آثار الفن، وبما فيها من مصادر التاريخ. فقيرة غنية، فأهلها يعيشون من الأجانب كما حدثنا الأستاذ الذي كان يرشدنا إلى الآثار في هذه المدينة. مدينة هادئة مطمئنة لا تكاد تشعر بأنها تعيش في القرن العشرين؛ لأنك لا تنظر فيها إلا إلى شيءٍ قديم. فهي مدينة خليقة حقًّا بأن يعيش فيها من يكْلَف بالتاريخ، ومن يكلف بالفن على اختلاف ضروبه بنوعٍ خاص. كل شيء في هذه المدينة يحببها إلى المؤرخ، ويحببها إلى الفني، ويحببها إلى الشاعر؛ لأنها كلها آثار، ولأنها كلها فن، ولأنها كلها شعر، وهي إلى هذا كله من الهدوء والطمأنينة والدعة بحيث يستطيع المؤرخ والفني والشاعر أن يستمتع فيها بتاريخه أو فنه أو شعره دون أن تصرفه عما يحب جلبة الحياة أو ضوضاء الأحياء.

تلقانا في هذه المدينة مدير المحفوظات وعالم آخر من علماء الآثار، وكنا نحو الخمسين، فقضينا اليوم كله على أقدامنا واقفين أمام مشهد من المشاهد، أو منطلقين من هذا المشهد إلى مشهد آخر. نخرج من كنيسة إلى كنيسة، ومن دار إلى دار، ومن متحف إلى متحف، ونحن عجلون؛ لأننا لن نجد من الوقت ما يمكننا من أن نشهد كل شيء، أو أن نحقق النظر في شيء، وإنما نمر سراعًا أمام الأشياء كأننا في دار الصور المتحركة، إلا أننا نحن الذين يتحركون بينما الصور هادئة مستقرة في أماكنها. قضينا اليوم كله على الأقدام إلا ثلاث ساعات قضينا إحداها في الفندق للغداء، وأؤكد لك أن أصحاب هذا الفندق عرفوا أننا أجانب وعرفوا كيف يستفيدون من هؤلاء الأجانب، وأؤكد لك أنهم حمدوا للذين نظموا المؤتمر هذه الفكرة التي حملتهم على أن يرسلوا بعض المؤتمرين إلى مدينتهم.

يظهر أنه لم يكن هناك ماء للشرب، فكنتَ مضطرًّا إلى أن تشرب النبيذ أو الجعة أو الماء المعدني، وكل هذا يُباع ويُشرى، وأؤكد لك أن ثمنه ليس بالبخس ولا بالقليل؛ فزجاجة الماء المعدني لم تكلفنا أقل من ثلاثة فرنكات، ولم نخرج من الفندق حتى أنفقنا أنا وزوجي خمسة وأربعين فرنكًا، ولم يكن الطعام رديئًا ولكنه لم يكن من الجودة بحيث يستأهل هذا الثمن الباهظ. قضينا ساعة في الفندق، وقضينا ساعتين أخريين أحسبهما من أسعد ساعات الحياة، قضيناهما في زوارق صغيرة طافت بنا حول المدينة. ذلك أني أُنسيت أن أنبئك بأن «بروج» تسمى «فينيس» الشمال؛ لأن الماء يتخللها في جميع أنحائها، ولأنك تصطنع فيها الزوارق كما تصطنع العربات في مدينة أخرى، ولست أدري ماذا تنتج المقارنة بين مدينة «فينيس» ومدينة «بروج»، فكلتا المدينتين غنية بآثارها، وكلتا المدينتين غنية بجمال منظرها وحسن موقعها الطبيعي، ولكني أحسب أن الذي يبحث عن الهدوء والدعة، ويريد أن يستمتع بالجمال والفن في غير اضطراب، إنما يجد ذلك في هذه المدينة الشمالية الميتة أو التي توشك أن تموت. في هذه المدينة التي لا تمنحها الشمس حظها من الضوء إلا بمقدار، والتي يكاد الضباب يجللها دائمًا فيمنحها شيئًا من الروعة والجلال ما أحسب أنك تجدهما في «فينيس»، وإن وجدت مكانهما هذا الجمال المبتهج المشرق الذي تمتاز به مدن الجنوب.

لقد أريد أن أحدثك عما في هذه المدينة من الآثار ومن آيات الفن، ولكني عاجز كل العجز عن هذا، وأحسبك لا تجهل مصدر هذا العجز، وبمَ أحدثك؟ لقد زرنا آثارًا كبيرة، وسمعنا دروسًا قيمة، ولو أني ذهبت أحدثك بما سمعت أو بما وُصف إليَّ في أثر من الآثار أو صورة من الصور، لاحتاج ذلك إلى مقال طويل، وأنا بعدُ أريد أن أجتزئ وأن أفرغ من نبأ المؤتمر.

في هذه المدينة أجمل ما في بلجيكا من نماذج العمارة في القرون الوسطى، وفيها أجمل ما في بلجيكا من نماذج التصوير في القرن الخامس عشر والسادس عشر والسابع عشر، وفيها إلى هذا آثار مختلفة تمكن المؤرخ من أن يتصور كيف كان يعيش أهل بلجيكا في القرون الوسطى. زرنا قصرًا قديمًا يسمى قصر «جريتوس»، فإذا القصر نفسه أثر من أبدع آثار القرون الوسطى، ولكن ما في القصر أبدع وأجمل، فقد اجتهدت المدينة في أن تحوِّل قسمًا منه إلى متحف نظمت فيه الأدوات المنزلية كما كانت منظمة في القرون الوسطى. فإذا زرتَ هذا المتحف عرفتَ كيف كان أهل البيت يجتمعون إلى طعامهم، وكيف كانوا يعدون هذا الطعام، وكيف كانوا يجتمعون إلى سمرهم، وماذا كانوا يتخذون في حياتهم من أداة ومتاع. وأجمل ما في هذا القصر من المعروضات «الدنتلا»، فقد عرضت منها ضروب غيري أقدر على أن يصفها، ولكني أعلم أنها بهرت المؤتمرين جميعًا، ولم يكن إعجاب السيدات بها أشد من إعجاب الرجال.

ذكرتُ الزوارق والطواف حول المدينة، ولكني لم أذكر — ويظهر أني لن أستطيع أن أذكر — أثر هذا الطواف في نفسي وفي نفس غيري من المؤتمرين. يكفي أن تتخيل هذه الأقنية الضيقة تخترق المدينة في جميع أرجائها، وقد قامت على جنباتها هذه الأبنية الجميلة الجليلة، واصطفت على شواطئها الخضراء أشجار طوال تكاد أغصانها تُقبِّل الماء من مكان إلى مكان، وانبعث على هذه الشواطئ وخلال هذه الأشجار أطفال كثيرون يلعبون ويمرحون ويبسمون للحياة، وقد عُقِدَت على هذه الأقنية من مكان إلى مكان جسور بديعة قديمة لم يُغيَّر منها شيء، وما أنسَ لا أنسَ صوت الملاح يصف لنا ما كنا نمر به من الأبنية والعمارات، ثم يقطع وصفه من حين إلى حين بهذه الكلمة: «رءوسكم أيها السادة»؛ ذلك لأنا كنا نقارب جسرًا من الجسور، فكان يجب أن نحني رءوسنا حتى لا تصطدم بالعقد.

أشد شيء أثر في نفسي هو إعجاب أهل «بروج» بمدينتهم ومفاخرتهم بما فيها من جمال، وحرصهم على أن يظهروا دقائق هذا الجمال للأجنبي حتى لا يفوته منه شيء، وابتهاجهم حين يرون إعجاب الأجنبي، وحين يسمعون ثناءه وتقريظه، وهم في ذلك كله سواء. ليس هناك فرق بين الأستاذين اللذين كانا يصحباننا وبين الملَّاحين الذين كانوا يطوفون بنا حول المدينة. بل ماذا أقول؟ لقد كنا في أحد المتاحف، وكان الأستاذ يصف لنا بعض الآثار، ولست أخفي عليك دهشي وإعجابي حين رأيت الأستاذ يخطئ في تاريخ من التواريخ أو في شيء من الأشياء فينبهه إلى خطئه حارس من حرس المتحف، ويقبل الأستاذ منه ذلك راضيًا شاكرًا. ولقد كنت أذكر أثناء هذا متحفنا المصري وجهل المصريين بما في ذلك المتحف، ولقد كنت أقارن مع شيء من الاستحياء كثيرٍ بين حرس المتاحف البلجيكية وزملائي من الأساتذة المصريين، فلم تكن المقارنة مرضية، ويظهر أنها لن تكون مرضية قبل زمن طويل، قبل أن يمن الله على مصر برجال في وزارة المعارف يفهمون العلم والتعليم، ويقدرونهما ويقدرون الحاجة إليهما، ويشعرون بأن مناصبهم ليست مقصورة على تدبير الأموال وتدبير الألعاب الرياضية.

شيء آخر دهشت له وأعجبت به، هو وطنية هؤلاء الناس، كنت لا أكاد أشك في أن أحد الأستاذين اللذين كانا يصحباننا مجنون أو قريب من الجنون؛ ذلك لأنه كان لا يتحدث إلينا إلا متأثرًا ثائرًا شديدًا فرحًا مرة حتى يبلغ الضحك، ومحزونًا مرة أخرى حتى يبلغ البكاء. ولست أغلو، فقد كان الأستاذ يضحك ويبكي، وكنا في عجب من أمره، ثم علمنا أنه عاش في مدينته أثناء الحرب، وأنه كان بطلًا من أبطال هذه المدينة، وأنه جاهد جهادًا عنيفًا ليحتفظ بآثار هذه المدينة وآياتها من غارات الألمانيين الذين كانوا يريدون أن يستأثروا بكل شيء. ولقد أثَّر في نفسي صوت هذا الرجل حين كان يقول لنا: «تعالوا أيها السادة إلى الميدان الكبير، فستسمعون فيه صوت جرسنا العتيق الذي لا يجهله مؤرخ، واذكروا أيها السادة حين تسمعون صوت هذا الجرس أني أنقذته في آخر لحظة حين كان الألمان يريدون أن يرسلوه إلى المسبك.» ذهبنا إلى الميدان الكبير وسمعنا صوت الجرس: صوتًا يملأ المدينة، وليس في ذلك غرابة، فهو قد أنشئ لذلك. سمعنا صوت الجرس يوقع ألحانًا موسيقية مختلفة، وإننا لكذلك وإذا الرءوس حاسرة؛ لأن الجرس كان يوقِّع النشيد البلجيكي، وإذا الأستاذ ينتحب ويقول في صوت متهدج: «معذرة أيها السادة، فإني بلجيكي.» ولم يكن الأستاذ يبكي وحده وإنما بكى معه بعض المؤتمرين.

باريس في ٥ مايو ١٩٢٣

٧

عدنا إلى العمل صباح الخميس ١٢ أبريل، فسمعت محاضرات كثيرة مختلفة لا أعرض لها؛ لأن الصحف السيارة لا تتسع لمثلها، ولكني أذكر محاضرة واحدة سمعتها في لجنة تاريخ الديانات؛ لأن الذي ألقاها صديق لكثير من المصريين وهو الأستاذ «لويس ماسينيون» Louis Massinion، ولأن هذه المحاضرة أثارت مناقشة طويلة حادة، ولأن موضوع هذه المحاضرة يمس الإسلام وهو «أثر التصوف في تكوين العقائد الدينية عند المسلمين»، والحق أني لم أفهم الغرض الذي رمى إليه المحاضر، وإن كنت قد اشتركت في المناقشة، لم أفهم هذا الغرض لأنه لم يكن بيِّنًا، ولأن أساس البحث الذي ذهب إليه المحاضر خطأ فيما أعتقد، فكثير من المستشرقين أمثال الأستاذ «لويس ماسينيون» على مهارتهم وحسن بلائهم في فهم اللغة العربية وخدمتها، يخطئون في فهم هذه اللغة أحيانًا، ويقيمون على أغلاطهم نظريات طويلة عريضة عميقة، ولكنها ليست بذات غناء. لم أفهم الغرض الذي رمى إليه الأستاذ وأحسب أن كثيرًا من الأعضاء لم يفهم هذا الغرض، ومع هذا فقد تناقشنا كثيرًا، ولكن موضوع المناقشة لم يكن ما أراد الأستاذ أن يثبت من تأثير تصوف في تكوين العقائد الدينية عند المسلمين.

فلم يحفل أحد من الأعضاء بهذه النظرية، وإنما كان موضوع المناقشة هو أن التصوف العربي أثر خالص من آثار العرب، أو شيء للعرب فيه حظ، ولكن معظمه موروث عن الأمم الأخرى. أما الأستاذ ماسينيون فكان يعتقد أن هذا التصوف عربي خالص، أو يوشك أن يكون عربيًّا خالصًا، وأن ما يمكن أن نجد فيه من موافقة لما عند الأمم الأخرى لم يؤخذ عن هذه الأمم، وإنما هي المصادفة وتوارد الخواطر ووحدة النظام العقلي في التفكير مهما تختلف الأمم ومهما تختلف البيئات. فليس حتمًا إذا فكر العربي كما فكر اليوناني أن يكون اليوناني والعربي قد فكرا بطريقة واحدة فاهتديا إلى نتيجة واحدة، وإذن فيجب ألا نغلو في القول بأن العرب قد أخذوا عن غيرهم هذه النظرية أو تلك.

هنا اشتدت المناقشة، فمن الظاهر أن توارد الخواطر ممكن، بل إنه واقع، بل إن هناك نظريات تشترك فيها أمم مختلفة دون أن تكون إحداها قد أخذتها عن الأخرى، ولكن إمكان الشيء غير وجوده بالفعل، وليس يستطيع التاريخ أن يكتفي بالإمكان والفرض، فذلك شيء قد يكتفي به الفلاسفة والمفكرون. فأما المؤرخون فيريدون الحقائق الواقعة، ولا يلجئون إلى الافتراض إلا لتفسير هذه الحقائق تفسيرًا مؤقتًا حتى يتاح لهم استكشاف الحقائق الواقعة التي تفسر ما لديهم. فإذا رأينا عند العرب فكرة صوفية أو غير صوفية توافق ما رأينا عند اليونان أو عند الفرس، كان لنا أن نفترض توارد الخواطر، وكان لنا أن نفترض الأمرين جميعًا، وأن نبحث عما يرجح هذا الفرض أو ذاك، وهنا تظهر قيمة المؤرخ وتظهر قيمة التاريخ، وليس يجب أن نجد النص التاريخي الذي لا يحتمل الشك على أن العرب قد أخذوا عن اليونان أو عن الفرس لننفي توارد الخواطر، فكثيرًا ما تضيع النصوص دون أن يكون ضياعها مصدرًا لضياع الحقيقة، وليست النصوص كل شيء في التاريخ، فهناك الصلات التي تختلف قوةً وضعفًا وتتفاوت متانةً ووهنًا بين الأمم، وهذه الصلات إذا أُثبتت ثبوتًا تاريخيًّا كافيًا أباحت للمؤرخ أن يرجح تأثير الأمم بعضها في بعض، وليس يجب أن يكون هذا التأثير ظاهرًا يعلمه الناس جميعًا، يعلمه من أثر ومن تأثر، فأشد أنواع التأثير عملًا في الحياة الاجتماعية، بل في الحياة الدولية — إن صح هذا التعبير — هو ما كان خفيًّا يجهله مصدره كما يجهله قابله.

فإذا ثبت أن اليونان مثلًا كانوا يرون هذا الرأي بعينه، وكان فلاسفتهم يشرحونه ويفسرونه ويدرسونه في المدارس المختلفة، وأن اليونان قد وصلوا إلى الشرق، ونقلوا إليه علمهم وفلسفتهم، وتركوا فيه عادات وضروبًا من التفكير ليس إلى إنكارها من سبيل، وإذا ثبت أن هذه الآراء أو هذا الرأي لا يلائم ما نعرف عن بداوة العرب ولا عن صدر الإسلام، كان من الحق أن يرجح المؤرخ أن ظهور هذا الرأي أو هذه الآراء في الفلسفة العربية أو في التصوف العربي — بعد أن اختلط العرب بالأمم التي خضعت لتأثير اليونان، وبعد أن تعرَّبت هذه الأمم فكتبت علمها وفلسفتها بالعربية بعد أن كانت تكتبها باليونانية — أثر من آثار الفلسفة اليونانية والعلم اليوناني لا نتيجة من نتائج الابتكار العربي. وقل مثل هذا في الفقه، فنحن نعلم أن العرب لم يترجموا فقه الرومان ولم يدرسوه درسًا منظمًا، ولكنا لا نشك في أن الفقه الإسلامي قد تأثر بالفقه الروماني قليلًا أو كثيرًا، سواء أعلم بذلك الفقهاء أم لم يعلموا؛ ذلك لأن البلاد الإسلامية قد خضعت لحكم الرومان وقوانينهم دهرًا، ولأن هذه القوانين قد درست درسًا مزهرًا في الشام والجزيرة العربية ومصر. فيجب أن يترك حكم الرومان وقوانينهم ودرس هذه القوانين آثارًا قوية في حياة الشعوب التي خضعت لها، وأن تتكون من هذه الآثار الحياة الاجتماعية لهذه الشعوب، والعرب لم يهدموا كل شيء، وإنما صبغوا أكثر الأشياء التي وجدوها بالصبغة الإسلامية، فليس غريبًا، بل ليس من شك في أن كثيرًا من أحكام الفقه الروماني قد اصطبغت بالصبغة الإسلامية دون أن يشعر الفقهاء بذلك. فنحن نحسب هذه الأحكام إسلامية خالصة حين هي إسلامية رومانية. لا يغضب العلماء، فأنا أذكر الفروع لا الأصول، ولعلهم لا ينكرون أن الفقهاء يعتبرون العُرف في كثير من مسائل الفقه، وأن هذا العرف إنما يكون من النظام اليوناني والروماني والفارسي، هذه النظم التي تعاقبت على الشام ومصر والجزيرة، وإذن فهناك تأثير خفي قد يكون أشد وأقوى من التأثير الواضح الذي تحدثه الأمم بعضها في بعض. ومن الإسراف أن نقطع بأن هذا الرأي أو هذه النظرية أثر عربي خالص أو أثر يوناني خالص، وإنما سبيل القصد في ذلك — إذا لم توجد النصوص — هو ترجيح تأثير الأمم بعضها في بعض حتى يظهر ما يبين خطأ هذا الترجيح.

حول هذه النقطة دارت المناقشة، ولم يستطع الأستاذ «ماسينيون» أن ينكر صحة هذا الاستدلال، ولكن الذي أعجبني في هذا كله أن خمسة أو ستة اشتركوا في هذه المناقشة غير الأستاذ «ماسينيون» وغيري، وكان منهم الفرنسي والإنجليزي، وكانوا جميعًا يلمون بتاريخ الدين الإسلامي إلمامًا حسنًا يمكنهم من المناقشة والاستدلال ببعض النصوص؛ بل إن أحدهم كان يستدل بنصوص لا نستطيع نحن في مصر أن نستدل بها مع أنها نصوص إسلامية؛ لأنها نصوص فارسية، ولأن علماء الدين الإسلامي في مصر يكتفون بدرس شيء من الكتب العربية، وليس منهم من يتخصص بدرس تاريخ الدين الإسلامي عند الفرس أو عند الهنود، وبقراءة ما كتب الفرس أو ما كتب الهنود في الدين. وحسبك أن المئات من علماء الإسلام في مصر لا يعرفون إلا اللغة العربية، ولست أطالب العلماء بدرس اللغة الفرنسية والإنجليزية فقد يكون ذلك واجبًا محتومًا، وإنما أطالبهم بشيءٍ آخر أشد من هذا وجوبًا، وهو أن يدرسوا الدين الإسلامي كما ينبغي. والدين الإسلامي عربي ولكن أممًا غير العربية قد اعتنقته ودرسته وكتبت فيه، وأؤكد للعلماء أن الدين الإسلامي قد أثر في هذه الأمم كثيرًا وتأثر بها كثيرًا، وإذن؟ وإذن فمن الحق على علماء الإسلام أن يدرسوا تاريخ الإسلام، لا في مصر والشام وحدهما، بل فيهما وفي بلاد الإسلام الأخرى، ولو أني من علماء الإسلام، ولو أن لي كلمة مسموعة بين علماء الإسلام، لاقترحت وألححت في الاقتراح أن تدرس اللغات الأجنبية الإسلامية في الأزهر الشريف، وأن تكون هناك فصول تتخصص في درس الفارسية، وأخرى في درس التركية، وأخرى في درس اللغات الإسلامية التي ليست تركية ولا فارسية. فمن المؤلم ومن المخزي أن تدرس كتب الدين التي كُتبت بالفارسية أو بالتركية أو بلغة أخرى من لغات الهند مثلًا في فرنسا وإنجلترا وألمانيا وأمريكا وأن يجهلها علماء الإسلام في الأزهر الشريف!

والأزهر الشريف بعدُ هو الجامعة الإسلامية الكبرى!

هلموا أيها السادة العلماء، طالبوا بأن تدرس اللغات الإسلامية في جامعتكم الإسلامية درسًا مفصلًا نافعًا، فإنكم إن لم تفعلوا أضعتم على الأزهر حقه في أن يكون الجامعة الإسلامية الكبرى.

وليس ينبغي أن تكون مدرسة اللغات الشرقية في باريس أنفع من الأزهر الشريف.

أليست المطالبة بهذا والإلحاح فيه أوفق بعلماء الدين وأجدى عليهم وعلى الدين من مطالبة من كان يطالب بأن تكون المعاهد الدينية فوق الدستور؟

أما مساء الخميس فقد كان لذيذًا؛ لأنا قضينا شطرًا منه نستمتع بلذة الموسيقى، وقضينا الشطر الآخر في بيت وزير المعارف.

اجتمعنا الساعة الثانية في كنيسة أثرية كبرى في بروكسل هي كنيسة «سانت جودول»، وكنا قد دعينا إلى هذا الاجتماع لا للصلاة ولا للتقديس، ولكن للدرس والتاريخ في لذة ومنفعة. هنا خطبنا قسيس، فلم يتحدث إلينا في دين المسيح، ولم يفسر لنا إصحاحًا من الإنجيل أو آية من التوراة، وإنما تحدث إلينا في الفن، وتحدث إلينا في الآثار، ذلك أن هذه الكنيسة قديمة بعيدة العهد بالتاريخ، بدئ في إنشائها في القرن الثاني عشر، واختلفت عليها أطوار الفن والعمارة من آخر القرن السابع عشر. فخطبنا هذا القسيس ساعة وبعض ساعة مبينًا لنا هذه الأطوار المختلفة التي مرت بها الكنيسة، مقارنًا بين هذه الكنيسة وبين ما يشبهها من كنائس فرنسا وألمانيا من الوجهة الفنية الخالصة، مناقشًا آراء بعض الفنيين والأثريين من الألمان والفرنسيين؛ لأن هذه الكنيسة لا تزال تشغل الباحثين إلى اليوم وإلى الغد. أعترف بأني لم أكن أفهم شيئًا كثيرًا من خطبة القسيس؛ لأني لست أثريًّا ولا فنيًّا، ولا أكاد أتصور فن العمارة، ولكني مع هذا كنت أعجب بهذا القسيس إعجابًا شديدًا لا يعدله إلا إعجابي بقسيس آخر خطبنا في المؤتمر خطبة ليس بينها وبين الدين صلة؛ لأنها كانت تتناول نسخة قديمة يختلف العلماء في تحديد العصر الذي نسخت فيه، فيرى بعضهم أنها نسخت في القرن العاشر وبعضهم قبل ذلك وبعضهم بعد ذلك، ويحكم القسيس بين هؤلاء العلماء المختلفين. كنت إذن أعجب بهذين القسيسين، ولعل مصدر إعجابي بهما لا يخفى على السادة العلماء.

وأنا أعتذر إلى السادة العلماء، فلست أريد أن أغضبهم، وما أبغي بهذا الحديث إلا الخير لهم ولنا؛ ذلك لأن علماءنا لا يستبدون بملك أنفسهم فلنا عليهم بعض الحقوق؛ لأننا نريد أن يكون علماء الدين فينا أئمةً وفخرًا في وقتٍ واحد، ويؤلمني جدًّا أن أقارن بينهم وبين رجال الدين في أوروبا؛ لأن هذه المقارنة لا تسرهم ولا ترضيهم كما أنها لا تسرنا ولا ترضينا، وكما أنها تدل على أن الفرق عظيم جدًّا بين علماء الدين اليوم وبينهم منذ قرون.

هذا قسيس قد درس دينه فأتقنه وهو يؤدي واجبه الديني، وأؤكد لك أن الواجب الديني الذي يؤديه القسيس أشق وأعسر وأشد استغراقًا للوقت من الواجب الديني الذي يؤديه العالم المسلم؛ لأن الإسلام دين هيِّن ليِّن سهل لا كلفة فيه ولا تعقيد، وحسبك أن صلاة المسلم تستغرق دقائق، وأن صلاة القسيس المسيحي لا تقاس بالدقائق، وحسبك أن العالم الديني عندنا إذا صلى وأدى واجباته الدينية الشخصية، وألقى درسه أو درسيه فهو حر، وأن القسيس ليس له من الحرية مثل هذا المقدار العظيم، ومع ذلك فالقسيسون في أوروبا لا يكتفون بدرس الدين وأداء واجباتهم الدينية، وإنما كثير منهم رجال دين ورجال علم، وكثير منهم رجال دين ورجال فن، وكثير منهم يستطيع أن يناهض العلماء والفنيين الذين اختصوا بالعلم والفن فينهضهم ويتفوق عليهم.

وهذان القسيسان اللذان ذكرتهما قد اختص أحدهما بفن العمارة واختص الآخر بعلم من علوم التاريخ، وأؤكد لك أن لجنة من لجان المؤتمر لم تكن تخلو من قسيس، وأن اللجنة التي كنت فيها كان يرأسها قسيس، وأنه أظهرَ عناية شديدة بصبح الأعشى، وما يشتمل عليه صبح الأعشى، وأؤكد لك شيئًا آخر، وهو أن الفلاسفة إذا ائتمروا فيشترك معهم القسيسون، وأن علماء الكيمياء إذا ائتمروا فسيشترك معهم القسيسون، وقل مثل ذلك في الأطباء وقل مثل ذلك في علماء الحياة، وقل مثل ذلك في علماء الرياضة، وما لي أذهب بعيدًا وفي مصر مدارس اليسوعيين ومدارس الفرير، وفي فرنسا جامعات تقوم على رجال الدين، ويدرس فيها أبناء الأرستقراطية المحافظة، فإذا تقدموا إلى الامتحانات العامة في الجامعات الحكومية لم يكونوا أقل نجاحًا من غيرهم، وربما كانوا أكثر منهم فوزًا.

فأحب الآن أن تحدثني عن علمائنا في مصر، مع من يستطيعون أن يأتمروا؟ أمع المؤرخين وهم يجهلون جهلًا تامًّا تاريخ أوروبا وأمريكا، بل تاريخ الشرق، بل تاريخ اليونان والرومان، وأستحيي أن أذكر تاريخ الإسلام؟ أمع الجغرافيين أم مع الرياضيين أم مع علماء الحياة؟ سينعقد في مصر مؤتمر جغرافي بعد سنتين، فهل يشترك فيه علماء الدين؟ ذلك لأني لقيت في بروكسل أسقفًا فرنسيًّا سألني عن جمعيتنا الجغرافية الملكية، وعلمت منه أن سيشترك في مؤتمرنا الجغرافي، وثق بأنه لن يكون الوحيد من رجال الدين المسيحي في هذا المؤتمر.

أليس يحسن … أليس يجب على علماء الإسلام في مصر أن يبذلوا ما يملكون من جهد وقوة ليكونوا كغيرهم من رجال الدين، ليكون منهم المؤرخ والجغرافي وعالم الكيمياء وعالم الطبيعة والفلكي (وإنما أريد الفلكي الحديث كما أريد إذا ذكرت المشتغل بالطبيعة من لا يكتفي بدرسها في إشارات ابن سينا)؟

أيشعر علماء الدين عندنا بهذا البون الذي يباعد بينهم وبين علماء الدين في أوروبا؟ أيشعرون بأنهم يحسنون إلى أنفسهم إن أزالوا هذا البعد؟ ويحسنون إلى أمتهم أيضًا؛ لأنها تستطيع يومئذٍ أن تعتز بهم حقًّا، وأن تأتمَّ بهم حقًّا في دينها ودنياها؟

سمعنا خطبة القسيس، ثم سمعنا بعدها ضروبًا من الموسيقى الدينية القديمة التي أحدثها يرجع إلى القرن الخامس عشر، وأشهد أني أعجبت بهذه الموسيقى، وأشهد أني طربت لهذا الغناء اللاتيني الجميل، ولكني لا أطالب بأن أسمع موسيقى أو غناءً في مساجدنا، فأنا أعلم أن مساجدنا إنما أنشئت لذكر الله، ولذكر الله في سذاجة وسهولة. لا أطالب بذلك ولا أفكر فيه، وحسبي أن التذكر في المسجد بترتيل القرآن الكريم، وإنما أطالب بشيء وألح فيه الإلحاح كله، أطالب بأن يكون من بين علمائنا من يستطيع أن يحدثنا عن تاريخ الأزهر الشريف، وجامع قلاوون وجامع برقوق، من الوجهة الفنية، كما استطاع قسيس بروكسل أن يحدثنا عن كنيسة «سانت جودول».

سمعنا الموسيقى وطربنا لها، ثم أردنا أن ننصرف فإذا إكليل من الزهر ضخم بديع قد وضع ناحية في الكنيسة، وإذا قوم من جماعة المؤرخين قد تقدموا فحملوه ومضوا فتبعهم المؤتمرون في وقار وإجلال، وما هي إلا دقائق حتى وصلنا إلى قبر الجندي المجهول، فإذا هذا الإكليل يمثل تحية مؤتمر العلوم التاريخية لأبناء بلجيكا الذين قضوا في الدفاع عن وطنهم.

أما ليلتنا عند وزير المعارف فلا أحدثك عنها إلا بشيء واحد، وهو أن جميع المؤتمرين كانوا في قصر الوزير، وكان معهم سفراؤهم أو وزراؤهم المفوضون إلا مصر، فلم يكن لها سفير ولم يكن لها وزير مفوض، ولم يكن لحكموتها مندوب، وإنما كان هناك طربوش حائر بين هذه الجماعات، ولولا أن وزير المعارف كان قد أُنبئ بمكان هذا الطربوش لما شعر به أحد، ولكن الوزير أقبل ومعه رئيس مكتبه فحياني تحية حسنة ودعاني مندوب مصر فلم أصلح خطأه. ثم لقيت أثناء السهرة مؤرخًا شابًّا بولونيًّا تعرَّف إليَّ؛ لأن زوجه تعرفت إلى زوجي، ودعاها إلى هذا التعرف الطربوش، وكان هذا العالم البولوني الشاب مندوب عصبة الأمم في مؤتمر العلوم التاريخية؛ لأن عصبة الأمم قد مثلت نفسها في مؤتمر العلوم التاريخية، وكيف لا تفعل وقد أنشأت لجنة علمية سمتها لجنة التعاون العلمي؟

صافحني هذا الشاب وقال: هناك مسألة تحيرني، ولعلك تجيبني عليها، ما بال مصر لم تمثَّل في عصبة الأمم ومتى تطلب هذا التمثيل؟ هنا أعترف أيها القارئ بأني كذبت ولم يكن مصدر الكذب إلا الحياء؛ ذلك لأني أجبت سائلي على الفور: «ستطلب مصر الانضمام إلى عصبة الأمم في هذه السنة.» قال صاحبي: إذن فسيرد طلبها قبل انعقاد الجمعية العمومية؟ قلت: أعتقد ذلك.

فهل لرئيس الوزراء أن يعفيني من خزي هذه الكذبة التي لم يضطرني إليها إلا تقصير حكومتنا وتفريطها في الاستمتاع بما لنا من حق؟

باريس في ٧ مايو سنة ١٩٢٣

٨

كان يوم الجمعة ١٢ أبريل يوم الشرق في المؤتمر، وبعبارة أخرى يوم مصر، ولم يكن يوم الشرق أو يوم مصر في المؤتمر وحده، بل كان في بروكسل كلها … فقد اشترك كثير جدًّا من أهل هذه المدينة رجالًا ونساءً في جلسة المؤتمر العامة التي عقدت بعد الظهر لسماع خطيبين، تكلم أحدهما على استكشافات فرنسية على شاطئ الفرات، وتكلم الآخر عن مقبرة توت عنخ آمون، وكان كلا الخطيبين يصطنع الفانوس السحري لعرض صور مما استكشف على شاطئ الفرات أو في مصر، وكانت الصحف قد أعلنت هاتين الخطبتين وتحدثت بهما، فأسرع المؤتمرون وغير المؤتمرين إلى استماعهما، وما أشك أننا كنا آلافًا من الساعة الثانية إلى الساعة الخامسة بعد الظهر. على أن صباح هذا اليوم قد أُنفق في أعمال هادئة، فاجتمعت اللجان، وسمعت ما ألقي فيها من الخطب، وما قدِّم إليها من المذكرات، وسمعت أنا في صباح هذا اليوم مذكرات ثلاثًا ممتعات؛ إحداها في نقد بعض الطبعات لمحفوظات رسمية فرنسية تتصل بما قبل الثورة، والأخرى في إظهار تزوير كتب رسمية نشرها أحد السفراء الرسميين للويس الرابع عشر عن أعمال قام بها في إنجلترا وهولندا باسم لويس الرابع عشر، والثالثة فيما كان من تبادل المحفوظات الرسمية بين النمسا وبولونيا بعد الحرب الكبرى، ولكني لا أطيل في ذكر هذه المحاضرات وقيمتها، فقد لا تصلح الصحف السيارة لمثل هذه المباحث العلمية الجافة التي ليس بينها وبين مصر صلة ما.

عدنا إلى الاجتماع إذن بعد الظهر، وكأن رئيس المؤتمر كان يشعر بشوق الناس إلى استماع هاتين الخطبتين، وكان يجد لذة شيطانية في ممانعة هذا الشوق، فقدَّم إلى الخطابة عالمًا روسيًّا تحدث عن التاريخ الروماني، وعما كان من الأزمة الاجتماعية في الإمبراطورية الرومانية أثناء القرن الثالث بعد المسيح، وكانت خطبته لذيذة مفيدة، وكان الناس يستمعون لها في شيء من الضجر والسأم؛ لأنهم لم يحضروا لاستماعها وإنما حضروا لشيءٍ آخر، ومع أنه أطال فلم يكتفِ رئيس المؤتمر بخطبته بل قدَّم أمريكيًّا تكلم عن أخلاق «كاترين دي ميديسيس»، وكان يتكلم بالإنجليزية فلم يفهمه إلا قليلون، ثم قدَّم الرئيس خطيبًا إيطاليًّا تكلم عن نقوش مسيحية استكشفت في إيطاليا، وعن جمعية إيطالية أسست للبحث عن النقوش المسيحية التي نقشت بعد انتهاء عصر التاريخ القديم، وقدَّم إلى المؤتمر مجلدات نشرتها هذه الجمعية مشتملة على بعض هذه النقوش. ثم قدم الأستاذ «كيمون» فتحدث عن الاستكشافات الفرنسية على شاطئ الفرات، هنا ابتهج الناس وأظهروا سرورًا ما أظن إلا أنه ساء الخطباء الأولين، وكانت خطبة الأستاذ «كيمون» ألذ ما سمعت في المؤتمر، بل أعترف بأنها لذَّتني أكثر من الخطبة التي تلتها عن مقبرة فرعون.

ذلك لأن هذه الخطبة التي تناولت استكشاف الفرات كانت تتناول موضوعًا أفهمه، وأستطيع أن أستفيد منه فائدة ما، ولم يكن هذا الموضوع ضئيلًا ولا قليل الخطر، وإنما كان عظيم الخطر جدًّا، وحسبك أن هذه المدينة التي استكشفت وهي مدينة «دورا» كانت من أعمال «تدمر»، وكانت ملتقى لحضارات ثلاث، كلها تعنينا، وكلها نستطيع أن نفهمها ونستطيع أن نبحث عنها، ونخرج من البحث بشيء من الفائدة. كانت ملتقى الحضارة السامية والحضارة اليونانية والحضارة الرومانية، وقد استكشفت هذه المدينة أثناء الحرب، ولكن استكشافها والبحث عنها لم يتما إلا في ديسمبر الماضي. فإذا الآثار اليونانية والسامية والرومانية متجاورة يفسر بعضها بعضًا، ويضيف بعضها إلى بعض، وإذا نقوش سامية ويونانية ولاتينية توجد في المعابد وعلى الجدران، وإذا الفن اليوناني والسامي يمتزجان ويؤثر كلاهما في صاحبه، وإذا الساميون يتعلمون اليونانية، ويصطنعون الفن اليوناني، ويتسمَّوْن بالأسماء اليونانية، ويؤدون العبادة لآلهتهم السامية في ضروب ليست بالسامية الخالصة، ولا باليونانية الخالصة، وإنما هي مزيج مما ألف الجنسان، وإذا الساميون ينحتون التماثيل لآلهتهم فيدخلون في فنهم شيئًا من رقة الفن اليوناني، وإذا اليونانيون ينحتون التماثيل لآلهتهم فيدخلون في فنهم شيئًا من غلظة الفن السامي. وكان أجمل ما عرض فأعجب الناس، صورة فوتوغرافية لتمثال الزهرة إلهة الحب؛ فإذا هي صورة سامية، وإذا الإلهة تمثل امرأة شرقية تمتاز بما كان يمتاز به مثال الجمال الشرقي في هذه القرون الأولى للتاريخ المسيحي من الضخامة والفخامة وكثرة الحلي والميل إلى شيء من النعومة والإسراف في الترف، يخالف ما ألف الناس في الفن اليوناني من صور «أفروديت» إلهة الحب والجمال التي كانت — على أنها مصدر الفتنة — لا تخلو من قوة وشهامة توشك أن تكون حربية، وإذا هذه المدينة الصغيرة التي لم يتم درسها بعدُ تمثل ما كان من الجهاد بين الإمبراطورية الرومانية وبين الإمبراطورية التدمرية، فقد نرى أن الساميين واليونانيين قد وُجِد بينهم اختلاط شديد، بل امتزاج شديد فكان بينهم الأصهار والتزاوج، وأثر هذا الامتزاج في فنيهم فأخذ من جديد يوجد فن ليس هو بالسامي القديم، ولا باليوناني القديم، ولكن الآثار الرومانية منفصلة، أو تكاد تكون منفصلة، انفصالًا تامًّا عن الآثار اليونانية السامية.

أعجبت بهذه المحاضرة؛ لأني ألم بشيء من التاريخ اليوناني، وبشيء من التاريخ الروماني، وبشيء من الجهاد بين «تدمر» وروما، ولأن اسم تدمر يذكرني الزباء، وما روي عنها في أمثال العرب من هذه الأساطير اللذيذة التي تفيض حكمة، وتملؤها الأمثال السائرة، ولكني لما سمعت خطبة الأستاذ «كابار» الذي رافق ملكة بلجيكا في مصر، لم أجد ما كنت أنتظر أن أجد من اللذة. وبينما كان الناس يعجبون ويصفقون كنت أنا هادئًا مطمئنًّا، ولعلى أعرف سبب هذا الهدوء والاطمئنان؛ فأنا أولًا أجهل التاريخ المصري القديم، ولا أعرف منه أو لا أكاد أعرف منه شيئًا. فإذا سمعت أخبار توت عنخ آمون أو غيره من فراعنة مصر، لم تحدث هذه الأخبار في نفسي هذه الحركة العلمية التي تحدثها أخبار اليونان والرومان والعرب، فتمكنني من أن أصل شيئًا بشيء، وأنتقل من شيء إلى شيء، أو تمكنني من أن أستفيد فائدة علمية ما، ومثل هذا يستطيع أن يقوله الذين يعلمون تاريخ مصر القديم ويجهلون تاريخ الرومان واليونان والعرب، وإن كان هؤلاء الناس لا يكادون يوجدون. فإذا وجد مصري يجهل تاريخ مصر، فقد لا يوجد أجنبي يجهل تاريخ اليونان والرومان. فإذا أضاف إليهما تاريخ مصر استطاع أن يعجب بمحضارة الأستاذ «كيمون» وبمحاضرة الأستاذ «كابار». فإذا سألت عن مصدر هذا النقص الذي يجده المصري في نفسه حين يشعر بحهل تاريخ مصر، وحين يسمع محاضرة في تاريخ مصر فلا يلذُّ لها كما يلذُّ لها الإنجليزي والفرنسي، فالجواب يسير، وهو تقصير الحكومة المصرية أو وزارة المعارف المصرية في نشر التاريخ المصري. فلو أن التاريخ المصري القديم يُدرس في مصر كما ينبغي، لكان لكل مصري متعلم حظ من الإعجاب بما استكشف اللورد كارنارفون، ولكن ماذا نقول وفي مصر أساتذة في الأدب والحقوق والفلسفة والطب يجهلون تاريخ مصر، ولا يعرفون من أمر توت عنخ آمون إلا ما يقرءون في الصحف، وكثير منهم لا يقرءون ما تنشره الصحف. يجب أن نحمد الله على صدور الدستور، فلن يغفر البرلمان في المستقبل لوزارة المعارف المصرية مثل هذه الجرائم.

وهناك سبب آخر حال بيني وبين الإعجاب بخطبة الأستاذ «كابار»، وهو أن الأستاذ لم يقل شيئًا جديدًا أكثر مما نشرته «التيمس» و«السياسة»، فكان من المعقول وقد قرأت هذا وذاك ألا يشتد إعجابي به حين يعاد، وهل أستطيع أن أضيف سببًا ثالثًا أعترف بأنه لا يليق بعضو في مؤتمر علمي، وهو أن الأستاذ «كابار» كان شديد الميل في محاضرته إلى الإنجليز، وكان يسرف في الثناء عليهم وعلى ما بذلوا من جهود، وما أدوا إلى مصر وإلى العلم من خدمة، وكنت أحب أن تُذكَر مصر بشيء من الخير، وإن لم تكن أهلًا له في هذا الموضوع؛ لأنها لم تعمل شيئًا في استكشاف مقبرة توت عنخ آمون، ومهما يكن من شيء فقد خرجت عن طور العلماء، وضاق صدري بهذا الثناء الكثير يُهدى إلى الإنجليز. كنت متأثرًا بالسياسة أكثر مما كنت متأثرًا بالعلم.

كان إعجاب الناس شديدًا جدًّا بهذه الصور الفوتوغرافية التي عرضها الأستاذ «كابار» ولا سيما السيدات، فقد كانت هذه الصور، وصور الجواهر بنوع خاص، تفتنهنَّ فتنة شديدة فيصفقن ويتهامسن ويجتهدن في أن يملأن أعينهن بهذه الصور التي لن تلبث أن تلهم الصاغة وأصحاب الفن، فتعرض جواهر على مثالها في الأسواق والمحال التجارية، ولعل كثيرًا من هؤلاء السيدات كن يتحدثن إلى أنفسهن باليوم الذي يستطعن فيه أن يتخذن من الحلي والآنية ما يشبه الحلي والآنية التي وجدت في مقبرة توت عنخ آمون.

كانت هذه الجلسة جلسة مصر، أعجب فيها الناس إعجابًا شديدًا بمصر القديمة، وذكروا فيها مصر الحديثة، وكانت هذه الجلسة آخر الجلسات العلمية للمؤتمر. فنستطيع أن نقول إن هذا المؤتمر ابتدئ بذكر مصر في تحية الملكة، وختم بذكر مصر في خطبة الأستاذ «كابار».

ذهبنا بعد ذلك إلى قصر البلدية فتناولنا هناك الشاي، وكنت أحب أن أصف لك ما في هذا القصر من آيات الفن، ولكني مع الأسف قاصر عن هذا كل القصور. ثم كان يوم السبت فانقسم قسمين: أما الصباح، فخصص لزيارة دار المحفوظات «الدفترخانة»، وأما المساء، فخصص للتفرق في أنحاء بلجيكا القريبة من بروكسل، والتي تمثل فائدة تاريخية ما. أريد أن أذكر دار المحفوظات هذه، وأريد أن أقارن بينها وبين دار المحفوظات في مصر، ولكن أصول المقارنة تنقصني؛ لأني أجهل نظام الدفترخانة المصرية، ولا أعلم من أمرها إلا أن زيارتها مستحيلة على العلماء والباحثين إلا بعد عناء ومشقة وإذن من وزير المالية قلما يظفر به من يطمع فيه، فالدفترخانة المصرية ديوان من دواوين الحكومة تنتفع به الحكومة وحدها في أعمالها الرسمية، ولا ينتفع به العلماء والمؤرخون. بل لست أدري علامَ تشتمل الدفترخانة المصرية؟ وهل فيها حقًّا ما يفيد المؤرخ إذا أراد أن يبحث عما قبل العصر الحديث الذي نعيش فيه؟ وإلى أي عصر من عصور مصر التاريخية يرجع أقدم ما في الدفترخانة المصرية من المحفوظات؟ لا أعلم من هذا شيئًا، كما أني لا أعلم شيئًا من النظام الذي يصطنع في الدفترخانة المصرية، ولا مما يتخذ فيها من وسائل الاحتياط لوقاية الأوراق والمحفوظات القديمة، ولا شيئًا من النظام الذي يتخذ لتسجيل هذه المحفوظات، واتخاذ فهارس وأثبات تسهل البحث على من يريد أن ينتفع بها. أجهل إذن مقدار المحفوظات المصرية وقيمتها ونظم حمايتها والانتفاع بها.

ولكني أعلم أن قسمًا واحدًا من أقسام الدفترخانة البلجيكية يشتمل على أكثر من ٥٠٠٠٠ دفتر من دفاتر الحساب والقرارات التي كانت تتخذها الحكومات المختلفة منذ القرن الثالث عشر إلى الآن.

وأعلم أن هذه الدفترخانة البلجيكية كغيرها من دور المحفوظات في أوروبا مباحة للعلماء والباحثين، قد اتخذت فيها كل الوسائل التي تمكن العلماء من البحث، وتسهل عليهم أسبابه، فاتخذت فيها الأثبات المتقنة والفهارس البديعة، واختص بكل قسم من أقسامها نفر لا أقول من الموظفين، وإنما أقول من العلماء النابغين يقومون على حفظه وتنظيمه والاستفادة منه، وتسهيل الاستفادة على من أرادها سواء أكان بلجيكيًّا أم أجنبيًّا، ولكن في دار المحفوظات البلجيكية شيئًا أعجبت به حقًّا، وأتمنى على الحكومة المصرية أن توجِد لنا مثله في مصر؛ لأنه يفيد فائدة لا تقدر سواء في ذلك الدفترخانة ودور الكتب المختلفة، وجدت في دار المحفوظات البلجيكية معملًا واسعًا فيه كثير من العمال يشتغلون في أشياء مختلفة غريبة، يشتغلون مثلًا في تنظيف الأوراق القديمة التي بعد بها العهد وأفسدها الزمان فطمست الأحرف التي فيها، ويشتغلون بتقوية الأوراق التي بعُد بها العهد وأفسدها الزمان فوَهَتْ ورَثَتْ حتى أصبحت لا تحتمل لمس الأيدي، ويشتغلون بما يشبه هذا مما يمكن الاستفادة بكل ورقة قديمة مخطوطة مهما تكن أعراض البلى التي أصابتها، ولقد رأينا العمال يشتغلون في ذلك، رأيناهم قد أخذوا أوراقًا قذرة لا تكاد تُقرأ، بل لا تُقرأ، فما زالوا بها في غسل وتنظيف حتى زال عنها الدنس، وبدت أحرفها جلية واضحة للقارئ، ورأيناهم يتخذون أوراقًا بالية لا تكاد تُمس فما يزالون بها يسلطون عليها بعض مواد الكيمياء حتى تقوى وتثبت، وتستطيع أن تتناولها وتقلبها كما تقلب ورقة صنعت أمس.

أليس مثل هذا المعمل مفيدًا في مصر؟ أليس الأستاذ لطفي بك السيد محتاجًا إلى مثله في دار الكتب المصرية؟

شيء آخر أعجبني؛ هو استفادة دار المحفوظات البلجيكية استفادة تجارية بما يوجد فيها من المحفوظات. ففيها نماذج لا تكاد تحصى لأختام الملوك والأمراء والقواد والإمبراطرة والرؤساء على اختلافهم منذ القرون الوسطى. فهي تنتفع بهذه النماذج فتتخذها على المعدن أو على الجبس أو على غير ذلك وتعرضها للبيع، وأؤكد لك أن تهافت الناس عليها شديد، ولا سيما العلماء وأصحاب الفن والآثار الذين يريدون أن يدرسوا هذه النماذج كل من وجهته الخاصة. فهم لا يطلبون الدفاتر والأوراق، وهم إن استطاعوا أن ينظروا إلى هذه الدفاتر والأوراق لا يستطيعون أن ينقلوها، ولا أن يستعيروها، ولا أن يخرجوها من دارها فضلًا عن بلجيكا، بينما هذه النماذج المصنوعة مباحة لهم يصنعون بها ما يشاءون، وهذه النماذج ليست سهلة ولا يسيرة، فلا بد من أن تتخذ بطريقة علمية.

ولا بد من أن تنظم وترتب وتتخذ لها الفهارس والأثبات، ولست أنسى محاضرة ألقتها علينا في دار المحفوظات فتاة بلجيكية هي القائمة بالقسم العلمي من إدارة هذه النماذج، ولست أنسى مناقشة كانت بينها وبين عالم فرنسي في نظام «الفيش» الذي يجب أن يتخذ لهذه النماذج. لا أنسى هذه الفتاة، ولا أنسى محاضرتها ولا مناقشتها، وأتمنى على الله أن أجد بين فتياتنا، بل بين كهولنا، من يستطيع أن يقوم في دار المحفوظات المصرية أو في دار الكتب المصرية مقام هذه الفتاة البلجيكية.

تفرقنا بعد الظهر فاخترت الذهاب إلى «واترلو»، ولكن لا أستطيع أن أذكر لك من أمرها شيئًا. فقد تغيرت فيها المعالم، ومُحيت فيها آثار هذا اليوم العظيم الذي اندك فيه عرش نابليون، وكل ما هو قائم فيها الآن صناعي متكلف إلا القليل.

ولكني لاحظت شيئًا له قيمته في هذه الأيام، وهو أن الذين ذهبوا إلى واترلو كانوا جميعًا من الإنجليز، ولم يكن منهم فرنسي واحد إلا زوجي. أما الفرنسيون فتفرقوا إلى الجهات الأخرى حول بروكسل.

ثم اجتمعنا يوم الأحد في الجلسة الأخيرة للمؤتمر فاتخذت قرارات مختلفة، أهمها هذا القرار الذي أتمنى ألا تهمله مصر، وهو تأليف جمعية تاريخية دولية دائمة تشترك فيها الأمم على اختلافها إلا ألمانيا طبعًا. اتخذ هذا القرار وظل مجلس إدارة المؤتمر باقيًا بعد انحلال المؤتمر لوضع نظام هذه الجمعية. فهل تتصل بها مصر؟ وهل تقوم بما عليها، وبما لها من الحق في خدمة التاريخ ونشر التاريخ؟

الكلمة في ذلك إلى وزارة المعارف.

باريس في ١٠ مايو سنة ١٩٢٣

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤