القسم الثالث: خواطر سائح

(١) في الطريق

كانت السفينة تجري في بحر هادئ مطمئن، وكانت نفوس السفر هادئة مطمئنة أيضًا، وكان قد شمل السفينة ومن فيها شيء من الدعة والأمن لا يكاد يوصف، كأنما اشترك في تكوينه هدوء البحر وجماله، وصفو السماء وإشراقها، ونزوع المسافرين جميعًا إلى هذا الأمل الذي كانوا يترقبونه منذ حين، والذي هم مشرفون عليه الآن، وهو الراحة بعد تعب والهدوء بعد اضطراب، وكنت أشد الناس اطمئنانًا وأكثرهم دعة وأعظمهم اغتباطًا بالحياة، أفكر فيما تركت من ألم، وأتمثل ما أستقبل من لذة، وأعبث من حين إلى حين مع هذين الطفلين المبتسمين اللذين لا يعرفان من الحياة إلا صفوًا وابتهاجًا.

كنت أقص على ابنتي ألوانًا من أحاديث «هوميروس» في «الأودسا» فأجد منها ابتهاجًا للقصص واستعذابًا للحديث، فأمضي في القصص والحديث، وتغرق هي في اللذة والابتهاج، ثم تسألني أحقٌّ هذا الحديث أم أنت تمزح؟ فلا أجد لهذا السؤال جوابًا. لست أمزح وإنما أقص شيئًا قرأته وابتهجت له، وقرأتْه الأجيال من قبلي وابتهجت له، وسمعته أجيال قبل هذه الأجيال فابتهجت له وآمنت به واتخذته يقينًا، بل اتخذته دينًا. وهل كان يخطر لأحد من أولئك اليونان الذين كانوا يستمعون لأقاصيص الأودسا وأعاجيبها أن يسأل المنشد: أحقٌّ هذا الحديث أم أنت تمزح؟ كلا! لقد كان هؤلاء الناس يؤمنون بأعاجيب الأودسا وأساطيرها كما تؤمن أنت وأنا بالبخار والكهرباء، وكانوا يتخذون من أحاديث الأودسا وأعاجيبها مقاييس للخير والشر ونماذج ينظمون عليها حياتهم الخاصة والعامة كما نبحث نحن عن هذه المقاييس والنماذج في علم الأخلاق والاجتماع الآن.

ثم تتابعت الأجيال، واتصلت العصور، وتطور العقل الإنساني حتى أصبحت هذه الطفلة في السابعة من عمرها تسألني حين أقص عليها أحاديث الأودسا وأعاجيبها، وأخبار السندباد البحري: أحقٌّ هذا الحديث أم أنت تمزح؟ وكنت أترك ابنتي تلاعب أخاها وتلهو مع أترابها، وأنصرف إلى قرينتي فنأخذ في ألوان من الحديث منها الجد والهزل، وربما انتهزنا غفلة الطفلين فقرأنا فصلًا من كتاب أو مقالًا من صحيفة، حتى إذا أقبل الليل جلس السَّفْر بعضهم إلى بعض يتحدثون، وانصرفت طوائف منهم إلى «البيانو»، فمنهم من يعزف ومنهم من يرقص، وانصرفت طوائف أخرى إلى ألوان من اللعب بين نرد وشطرنج وورق حتى يتقدم الليل، وعلى هذا النحو قضينا أربعة أيام وبعض يوم لم تخلُ من بهجة لا تعدلها بهجة حين ظهرت السواحل الإيطالية، وحين مضت السفينة بنا في مضيق «مسينا» فالناس جميعًا ينظرون، منهم من يُعجب بالساحل وجماله، ومنهم من يذكر كوارث مسينا، ومنهم من يمضي في الذكرى إلى عهد بعيد فيتمثل الحياة اليونانية والرومانية والفينيقية على هذه السواحل وفي هذا البحر، ويذكر ما امتلأت به هذه الحياة القديمة من لذة وألم ومن جمال وكآبة، ويذكر ما تغنَّى به الشعراء القدماء من ألوان هذه الحياة. ثم تحدث الناس أننا سنصبح في مرسيليا، وانصرف الناس عن حديثهم ولهوهم إلى حقائبهم يحزمونها وإلى متاعهم يعدونه، ولكن السفينة التي كانت هادئة مطمئنة أخذت تضطرب قليلًا قليلًا، وما هي إلا ساعات حتى كان اضطراب البحر قد انتهى إلى أقصاه، وحتى كان الناس لا يكاد يسمع بعضهم بعضًا إذا تحدث بعضهم إلى بعض. فالموج مصطخب والريح تعصف عصفًا، والسفينة لا تتمايل، وإنما يتقاذفها الموج. وقضينا الليل في هذا الهول، وأصبحنا وقد أشرفنا على الساحل الفرنسي بل بلغناه، فهذه أبنية مرسيليا يراها الناس ويشيرون إليها، وليس من شك أننا سنترك السفينة بعد ساعة أو ساعتين. كلا! لن نترك السفينة بعد ساعة أو ساعتين ولا ساعات. لماذا؟ تستطيع أن تبحث، وأن تتكلف العناء في البحث دون أن تجد جوابًا على هذا السؤال، فيحسن أن أجيبك أنا.

كان بين أهل السفينة شرقيٌّ أخذه حر شديد، بينما كانت السفينة تجتاز القناة، فما هي إلا أن رأى بطيخ مصر فاندفع إليه اندفاعًا وأكل بطيخة بأسرها، ثم كأن البطيخة لم تنقع غلته فعمد إلى ماء مثلج فشرب منه ما أذن الله له أن يشرب، ولم تكد السفينة تتجاوز مصر حتى أخذ صاحبنا قيء ومشاء، ودُعي الطبيب فلم يؤمن للبطيخ ولا للماء المثلج، ولا سيما وقد حسنت حال صاحبنا بعد يوم وليلة فلم يبقَ من قيئه ومشائه إلا بطن منتفخ، ولم يشك الطبيب في أن الرجل مطعون … وكان هذا الرجل في الدرجة الرابعة، فلا أحدثك عن عناية الطبيب به وإشفاقه عليه. فانظر إليه تحوطه عناية الطبيب والخدم، وانظر إليه في سرير نظيف نقي، وانظر إليه تُقدَّم إليه ألوان الطعام مختارة منتقاة، وانظر إليه يُحمل من حين إلى حين إلى حيث يتنسم هواء البحر، وكأن الرجل قد استعذب هذه الحياة واستلذها فتمارض وأمعن في الشكوى، وشك الطبيب وأمعن في الشك، فأبرق إلى مرسيليا أن قد ظهر الطاعون في السفينة، وكتم الطبيب وربان السفينة الخبر عن المسافرين حتى لا يأخذهم وهمٌ ولا وجل. فلما أشرفت السفينة على مرسيليا أُنبِئْنا أن السفينة ملوثة، وأن لا بد من الحجر الصحي، وأننا سنمكث على بُعد من الساحل خمسة أيام نرى الأرض ولا نستطيع أن نطأها. تستطيع أنت أن تتمثل نفسية المسافرين — كما يقولون — عندما وقع عليهم هذا النبأ وقع الصاعقة، ولكن المسافرين ولا سيما الذين أبحروا من مصر ليسوا شيئًا إلى جانب البحارة والذين أبحروا من أقصى الشرق، فقد كان هؤلاء الناس قد قضوا في البحر شهرين أو أكثر من شهرين، وكانوا يتحرقون شوقًا إلى فراق البحر، وإذا هم يُقضى عليهم أن يُحجزوا في السفينة خمس أيام.

وقضينا ساعات في هذا الاضطراب، ثم أقبلت زوارق تحمل الأطباء، وذاع النبأ أن هؤلاء الأطباء قد أقبلوا ليمتحنوا المسافرين واحدًا واحدًا؛ فمن رأوه بريئًا أُذن له بترك السفينة، ومن رأوه مريضًا أو كالمريض حجروه، ولكن الأطباء لم يمتحنوا أحدًا، وإنما قضوا ساعات يدفعون إلى المسافرين جوازات صحية، ويكلفونهم أن يقدموا هذه الجوازات في أمد لا يتجاوز خمسة أيام إلى عمدة المدينة أو القرية التي يقصدون إليها؛ ليتحقق هذا العمدة من أمر المسافرين أمطعونون هم أم بارئون من الطاعون؟ وكانوا كلما دفعوا إلى مسافرًا جوازًا كتبوا كتابًا إلى عمدة المدينة أو القرية ينبئونه بأن فلانًا قادم إلى مدينته أو قريته، وأن حالته الصحية تدعو إلى الحذر والاحتياط، فلا بد من امتحانه والاحتياط لأمره، وانقضى أكثر النهار في هذا العبث الصيني كما يقول الفرنسيون، وأُذن للمسافرين جميعًا أن يطئوا الأرض إلا البحارة وعمال السفينة، فقد قُضي عليهم بالحجر خمسة أيام، وبلغنا القرية التي كنا نقصد إليها، وذهبنا في اليوم الخامس إلى العمدة، وكنت أتحدث بأن لا نذهب، ولكن الجواز الصحي الذي دُفع إلينا كان يشتمل على طائفة من مواد القانون الصحي تبين العقوبات أو الغرامات التي نتعرض لها إذا أهملنا. فذهبنا ولم نرَ العمدة، وإنما رأينا سكرتير العمدة، وسكرتير العمدة في معظم القرى الفرنسية هو معلم القرية، وهو يشبه فقيه الكتَّاب عندنا. رأينا هذا المعلم وقصصنا عليه قصتنا فلم يكد يسمع أول الحديث حتى أظهر عناية؛ لأنه تسلَّم كتاب الأطباء منذ أيام، وأخذ يبحث عن هؤلاء المسافرين الذين يوشكون أن يحملوا الطاعون إلى قريته دون أن يوفَّق إليهم، فلما رآنا خيِّل إليه أن قد ظفر بطلبته. وأؤكد لك أنَّا قد تكلمنا كثيرًا لنقنعه بأنه ليس في حاجة إلى إحالتنا على الطبيب. على هذا النحو انتهت رحلتنا، وما كنت لأقص عليك هذا القصص لولا أن فيه عبرة لا بأس بالتفكير فيها. أرأيت إلى مئات من المسافرين يضطربون ويحزنون يومًا كاملًا؟ أرأيت إلى مصلحة الصحة في مرسيليا تضطرب وتُعنى هذه العناية وتتكلف هذه النفقات؟ أرأيت إلى مئات من العمد في قرى فرنسا يضطربون ويشفقون من الطاعون أن يصيب قراهم؟ كل ذلك لأن رجلًا ظمئ فأكل بطيخة وشرب أقداحًا من الماء المثلج!

أشهد أن هذه الحياة لا تخلو من عبث، بل أشهد أن هذه الحياة كلها لون من ألوان العبث وفن من فنون المزاح، تضحك حينًا وتحزن حينًا آخر، وهي مضحكة حين تحزن ومحزنة حين تضحك، هي عبث كلها. نعم! إني لأفكر في أمر هذه البطيخة التي استتبعت ما استتبعت من الأحداث فلا أضحك ولا أمزح، وكثيرًا ما ضحكت ومزحت حين كنت أفكر في أمرها، ولا أضحك الآن ولا أمزح، وإنما أفكر في هذا الأمر مع حزن شديد؛ لأني أرى أن الحياة كلها تجري على نحو ما جرى أمر هذه البطيخة؛ ذلك أن أنباء مصر قد وصلت إليَّ فقرأت فيها ما قرأت، وابتسمت فيها لأشياء، وبكيت فيها لأشياء أخرى، ولم يبقَ لي من هذا البكاء وذلك الابتسام إلا أني تركت أصدقاء كنت أتمنى لقاءهم بعد عودتي، وأتحدث بما سأجد من لذة حين ألقاهم، وأستأنف معهم صلات الصفاء، وتركت كذلك خصومًا كنت أفكر في أني سأعود إلى خصومتهم، وسألقى منهم شرًّا وسيلقون مني شرًّا، فإذا أنا الآن مقتنع بهذه الحقيقة المؤلمة، وهي أني لن أجد هؤلاء الأصدقاء ولن أجد هؤلاء الخصوم. لن أصافي أولئك ولن أخاصم هؤلاء؛ لأن الله قد آثرهم بالحياة في تلك الدار التي لا تجري فيها الأمور على نحو ما تجري عليه في حياتنا من اللهو والعبث.

•••

انتهى بنا سفر طويل لم يخلُ من مشقة إلى هذا البلد الصغير الذي قضينا فيه أسابيع ما أظن أني قضيت مثلها في بلد قبله. ليس بالقرية ولا بالمدينة، ولكنه شيء بين بين، فيه حضارة المدن ولا سيما في الصيف حين يأوي إليه الناس من كل صوب يلتمسون الراحة، ويستمتعون بالطبيعة التي تريك فنونًا من الجمال قلما تظفر بها في غير هذه البيئة من فرنسا، فيه حضارة المدن وفيه سذاجة القرى، فأنت تجد فيه من العادات والخصال ما يذكرك بما كنت تقرأ من تاريخ هذا القسم من فرنسا قبل أن تبلغ أوروبا ما بلغت من هذا الرقي الحديث. تجد قومًا يحتفون بأزيائهم القديمة، ويتحدثون لهجتهم الخاصة التي لا يفهمها الفرنسيون من غير هذا الإقليم، فإذا تحدثوا الفرنسية فلهم فيها لهجة تميزهم من غيرهم من الناس، ولهم عاداتهم في عباداتهم وفي غير عباداتهم من مظاهر حياتهم العامة، ولكني لم أكتب لأحدثك عن هؤلاء الناس، ولا لأحدثك عن هذا البلد، فلست أكتب رحلة، وإنما هي خواطر خطرت لي أتحدث بها إليك من حين إلى حين.

لا أعرف مكانًا كهذا المكان يدعو إلى التفكير والتأمل، ويبعث فيك نشاطًا نفسيًّا غريبًا ينطقك بالشعر إن كنت شاعرًا، ويحبب إليك قراءة الشعراء إن لم يكن لك حظ من الخيال. لا أغلو ولا أبالغ؛ فأنت لا تكاد تخطو في هذا البلد أو حوله خطوة إلا سمعت هذه الأنغام الموسيقية اللذيذة التي تختلف لينًا وعنفًا، وتتباين نحافة وضخامة، والتي تتغنى بها هذه الغدران المتدفقة من أعلى الجبل. في كل مكان غدير ينحدر أو نهير يجري أو سيل يتدفق. هنا غدير هادئ يسعى في لين ورقة فيسمعك نغمًا رقيقًا عذبًا، وهنا نهير ليس بالهادئ ولا بالثائر، تسمع له فلا تستنيم ولا تضطرب، وإنما تقف وقد استعذبت الحياة ووددت لو تستزيد منها، وهنالك سيل ثائر ينحدر في عنف، ويدفع بين يديه صغار الأحجار وضخامها، ويُسمعك هديرًا كقصف الرعد يأخذ عليك سمعك، ثم يأخذ عليك نفسك، ثم يبهرك فإذا أنت لا تسمع من حولك، وإذا أنت كلك إعجاب بهذا الجلال الذي لا حد له، وكل هذه الغدران والنهيرات والسيول تسعى وتجري وتتدفق شاقة غابات تختلف كثافة ونحافة، وتأخذ جوانبها من كل مكان، وقد اختلفت فيها الأشجار، وانبثَّت في أرضها أنواع من العشب والزهر لا يبلغها الإحصاء ولا ينالها العد، وامتلأ الجو من عبير هذه الأزهار، وأنفاس هذه الأشجار، وريح هذه الأعشاب بشيء من العطر لا تستطيع أن تميزه ولا أن تحلله إلى أجزائه، ولكنك تستمتع به استمتاعًا غريبًا، وتكاد تلمس بيديك ما يبعث في جسمك من الحياة، وإلى هذا النغم المائي، وإلى عبير هذه الغابات تضيف الطير ألحانها المختلفة التي تصل إلى أذنيك في سهولة ويسر إذا كنت إلى غدير هادئ أو نهر غير ثائر، والتي لا يصل إلى سمعك منها إلا أطراف خفية دقيقة مختلفة إذا كنت إلى سيل ثائر مضطرب. ثم أنت لا تسعى في هذه الأرض على مكان سهل منبسط، وإنما أنت مصعد أبدًا أو منحدر أبدًا، ويظهر أن الذين يبصرون يجدون في هذا التصعيد والانحدار روعة لا تعد لها روعة، يشرفون فيروعهم منظر ثم ينحدرون فيروعهم منظر آخر، ويظهر أن هذه المناظر المختلفة الرائعة تتباين إلى غير حد باختلاف الجو صفوًا وكدرًا، وباختلاف ما ترسل الشمس من أشعتها على هذه القمم المحيطة بك، والتي يجللها الثلج أبدًا، والتي تقدم إليك من مختلف الألوان نماذج ساحرة.

وأجمل ما يكون هذا المكان وأشد ما تكون فيه تأثرًا وشعورًا بضآلة الإنسان وجلال الطبيعة حين يظلم الجو، وتكفهر السماء، وتتكاثف السحب بعضها فوق بعض؛ منها ما هو فوقك، ومنها ما هو تحت قدميك، ومنها ما يكاد يحاذيك. ثم يضطرب هذا كله ويصطدم فإذا رعد يقصف قصفًا رائعًا مهيبًا، وإذا برق يأخذ أنحاء الجو، وإذا الجبال المحيطة تردد أصداء هذا الرعد القاصف، وإذا هذه السحب قد انشقت فانهمر المطر انهمارًا، وإذا هي ساعة أو بعض ساعة وقد هدأ كل شيء، واستنار كل شيء، وظهرت الشمس ساطعة بهية، ومر بهذه الغابات والأزهار والأعشاب نسيم عليل بليل يحمل إليك عطرًا نديًّا.

في هذا البلد «أرجليس» «جازو» قضينا ثلاثة أسابيع، وفيه فكرت كثيرًا وتأملت كثيرًا ووددت كثيرًا لو استطعت أن أكتب، ولكن الله أراد ألا أكتب، وكنت قد أردت ذلك أيضًا.

نعم، كنت قد بلغت من التعب حظًّا عظيمًا قبل أن أترك مصر، وكنت قد انتهيت من ذلك إلى أن كرهت القراءة والكتابة وكل ما يُقرأ وكل ما يُكتب، فعزمت إذا أتاح الله لي السفر أن أقضي شهرًا كاملًا لا أقرأ فيه ولا حتى أسمع بقراءة ولا إملاء، وقد تم لي ذلك وأقسم لقد كنت به شقيًّا كل الشقاء، ذلك أنَّا نخطئ الخطأ كله في تقدير آلامنا وفي تقدير لذاتنا وفي تقدير حاجاتنا. يبلغ بنا الألم أقصاه أحيانًا فيخيل إلينا أنه قد بلغ بنا أقصاه حقًّا، وأنَّا لن نستطيع أن نحتمل ألمًا فوق ما احتملنا، ثم نتمنى الراحة ونطمح إلى اللذة، فنقيس الراحة التي نتمناها، واللذة التي نطمح إليها بمقياس التعب الذي لقيناه والألم الذي احتملناه، نتمنى راحة مطلقة ولذة لا حد لها، فإذا أتيح لنا أن نستريح فما أسرع ما نمل اللذة وما أسرع ما نتمنى الألم! كذلك كنت في «أرجليس» ضيق الذرع بهذه الراحة التي اضطررت نفسي إليها، شديد السأم لهذه اللذة التي طالما طمعت فيها، عظيم التمني لذلك الألم الذي طالما شكوت منه، وكانت زوجتي تضحك مني وتتخذني سخرية، وربما رقَّت لي فقرأت عليَّ فصلًا أو فصولًا من كتاب، ولكنها كانت قد آلت كما آليت أن أستريح فلا أحدثك عن هذه الراحة الثقيلة.

هناك خاطر يخطر لي في كثير من الأحيان، ولست أدري أيخطر لغيري من الناس أو هو مقصور علي؛ لأن حالي الطبيعية هي التي تضطرني إليه … ذلك أني أبغض نفسي أشد البغض، وأبغض معها الحياة، وأرى كل شيء سيئًا مرذولًا، فأسأم كل شيء، وأزهد في كل شيء، وإنما تعرض لي هذه العلة إذا اتصلت خلوتي إلى نفسي كما اتصلت في هذه الراحة التي أكرهت نفسي عليها. إذا اتصلت خلوتي إلى نفسي فلم أقرأ ولم أكتب ولم أشترك في الحياة العامة، وإنما انقطعتُ إلى نفسي أحيا هذه الحياة الخاصة الفاترة التي تكاد تنحصر في الحياة الجسمية، في هذا الطور من أطوار الحياة يخلو الإنسان إلى نفسه حقًّا، وإذا كان العقل الإنساني لا يعرف الراحة ولا يستطيعها، وإنما هو مفكر أبدًا مشتغل أبدًا، فإن العقل في أول هذه الخلوة يمضي في عمله وتفكيره معتمدًا على ما بقي له من المادة الفكرية أثناء العمل وقبل الراحة. فإذا فرغ من هذه المادة بحثًا وتفكيرًا احتاج إلى تجديدها، احتاج إلى الغذاء المعنوي كما يحتاج الجسم إلى الغذاء المادي، ولكنه قد أكره نفسه على الراحة، وأخذ نفسه بألا يقرأ ولا يعمل، وهو مع ذلك مضطر إلى التفكير بطبيعته، وهنا الشر كل الشر، فهو يبدأ في أن يفكر تفكيرًا خطرًا، يبدأ في أن يتخذ نفسه موضوعًا للتفكير كما تبدأ المعدة الخالية في هضم نفسها، يفكر الإنسان في نفسه فيحللها، ويبالغ في تحليلها، ويدرس الدقائق من عواطفه ومشاعره وأهوائه درسًا مفصلًا دقيقًا، فلا يرى من هذا كله إلا ما يشعره بأنه ضئيل ضعيف، بأنه ليس شيئًا يذكر، بأنه ليس شيئًا يستحق الحياة، وربما فكر في الحياة فرأى أنها ليست شيئًا يستحق العناية.

وإذن فالسأم يقوم شيئًا فشيئًا حتى ينتهي إلى السخط وإلى سوء الخلق وإلى التشاؤم، وما أظن إلا أن كثيرًا من هؤلاء الفلاسفة المتشائمين قد اتخذوا مذهب التشاؤم دينًا لهم؛ لأنهم فكروا في أنفسهم وحللوها، ودرسوها أكثر مما ينبغي. لا أميل إلى أن يفكر الإنسان في نفسه كثيرًا، فالإنسان لا يستحق هذا التفكير، وإنما أميل إلى أن يشغل الإنسان نفسه عن نفسه بالقراءة والحديث والعمل، والاستمتاع بلذات الحياة التي أباحاها الله والأخلاق. ولولا هذه اللذات التي قدمتُ لك وصفها في أول الكلمة، ولولا أني كنت أشغل بها نفسي عن نفسي كلما أحسست الحاجة إلى التفكير، لأصابني شيء من سوء الخلق غير قليل؛ لذلك تعبت في «أرجليس» ولم أسترح. فلم أقضِ يومًا هادئًا، ولعلي لم أقضِ ساعات متصلة في اطمئنان وهدوء، وإنما كنت طوال الوقت أضطرب في الأرض، وأهيم في أنحائها متنقلًا من غابة إلى غابة ومن شاطئ إلى شاطئ ومن قرية إلى قرية، أترك هذا المرج لأسعى إلى مرج آخر، وأدع هذه القرية لأزور قرية أخرى، وكذلك قضيت هذه الأسابيع لم يحس عقلي جوعًا، ولم يستمتع جسمي براحة، وكان من بين القرى أو المدن التي قضيت فيها يومًا وفكرت فيها كثيرًا مدينة «لورد».

البوليجين في ١٢ اغسطس سنة ١٩٢٤

(٢) مدينة لورد Lourdes

يجب أن نعدو مع الطير لندرك القطار الأول ولنبلغ «لورد» في مبتدأ النهار، وغدونا مع الطير فإذا جو بارد يلفح الوجه زمهريره، وينسيك أنك في أواخر شهر يوليو، وإذا الحاجة ماسة شديدة إلى المعطف، وإذن لا بد من إخفاء اليدين ومن ستر العنق والوجه، ولكنا أبينا أن نصطنع من ذلك شيئًا عنادًا لهذا الجو ولهذه الطبيعة التي تريد أن تغير الأشياء فتقر الشتاء مكان الصيف. أبينا إلا أن نحتفظ بلباس المصطافين، ومضينا في طريقنا لا نحفل بهذا الهواء البارد، ولا نحفل بهذا المطر الذي أخذ ينهمر بعد حين، والذي ما أسرع ما اخترق ثيابنا الصيفية، وبعث فينا اضطراب العصفور بلله القطر، ولكننا مضينا في عنادنا ولم نحفل بهذا الاضطراب، وأبينا إلا أن نعتبر أنفسنا في الصيف، ولم لا؟ ألم نتعود في مصر ضروبًا من الصبر والمقاومة وألوانًا من الجلد والاحتمال؟ ومضى القطار بنا حتى بلغنا «لورد» قبل الساعة التاسعة صباحًا. فإذا مدينة كأحسن ما نعرف من المدن الفرنسية موقعًا، يشرف عليها الجبل ويجري من تحتها النهر، يتردد فيها هواءٌ خفيفٌ ولكنه ممتلئ حياةً ونشاطًا لا يكاد يمسك حتى يجعلك حياةً ونشاطًا، فإذا أنت أقدر ما تكون على الحركة وأرغب ما تكون فيها، وإذا أنت أقدر ما تكون على التفكير وأشوق ما تكون إليه، ولم نكد نترك المحطة ونندفع في الشارع الذي ينتهي إلى المغارة حتى أحاطت بنا جموع من الرجال والنساء كلهم يعرض بضاعته، وكلهم يلح في عرضها، وكلهم يتملقك ويترضاك، وما هذه البضاعة إلا الفنادق وإلا الغرف في منازل بعض السيدات اللاتي نزلن في هذا الفصل عن بعض حجرهن وغرفهن واتخذنها تجارة ومصدرًا للكسب.

يتقدم إليك هذا السائق ليأخذ متاعك إلى سيارته الفخمة التي ستنتهي بك إن شئت إلى فندق كذا، وهو ليس غاليًا ولا مسرفًا في الشطط، على أن فيه كل ما تحتاج إليه من أسباب الراحة ووسائل النعيم، ويتقدم إليك هذا السائق ليأخذ متاعك إلى عربته التي ستنتهي بك إلى فندق كذا، وهو فندق حسن الموقع تشرف منه على مناظر بديعة، وليس بينه وبين الغار إلا دقائق، أما الأجر فقليل، وتتقدم إليك هذه السيدة باشة مبتسمة تعرض عليك غرفة جميلة واسعة حسن الأثاث تشرف منها على الغار، أما الأجر فنستطيع أن نتفق عليه، وثق بأن ستكون مسرورًا، ولكننا نجتهد في أن نخلص من هؤلاء الناس جميعًا، فلم نأتِ «لورد» لنأوي إلى فندق أو خان، ولا لنمكث فيها أيامًا، وإنما أتيناها لنمكث فيها ساعات ثم نعود أدراجنا، فقد زرنا «لورد» وزرناها وأكثرنا من زيارتها، ولولا شيء سمعناه أمس لما فكرنا هذه السنة في أن نراها، ولكننا نتحدث فيما بيننا ونحن نشق صفوف هذه الجموع المزدحمة أمام المحطة بأن الفصل سيئ هذه السنة في «لورد»، وأن تجار هذه المدينة سيشْقَوْن بهذا الصيف. فقد كانت «لورد» دائمًا شديدة الغلاء، ولا سيما في شهري يوليو وأغسطس؛ حيث يزدحم عليها الحجيج من كل صوب، وحيث تضيق بالأجيال المختلفة التي تؤمها من أقطار الأرض المسيحية كلها.

نعم! الفصل سيئ في هذه السنة؛ فالحجيج قليل والفنادق بعيدة كل البعد عن أن تسترد شيئًا من نفقاتها الضخمة، وهذه الحوانيت الكثيرة التي لا تكاد تحصى، والتي تكتظ بألوان البضائع المختلفة، ولا سيما هذه البضائع التي تخصص للتقوى والعبادة. هذه الحوانيت محزونة كئيبة تحس الكساد وتألم له، فالناس لا يزدحمون عليها، وهم لا يستبقون إلى الصلبان والسبح والتمائم، وإنما يمرون بهذا كله معرِضين عنه زاهدين فيه، وما مصدر هذا الكساد؟ وما علَّة هذا الإحجام عن الحج في هذا العام؟ أما أنا فضحكت، وعللت ذلك بانتصار حزب الشمال في الانتخابات الفرنسية الأخيرة. فأنت تعلم أن حزب الشمال الفرنسي ملحد مسرف في الإلحاد إلى حد أنه يتخذ الإلحاد دينًا، وإذ قد انتصر هذا الحزب، وانتصر بالطرق الديمقراطية الصحيحة؛ أي برضا الفرنسيين وإرادتهم، فلا بد من أن يكون هناك اتصال بين انتصار الإلحاد وكساد التجارة في «لورد» وإحجام الناس عن الحج إليها، وأما زوجي فضحكت وسخرت مني ومن حزب الشمال ومن أحزاب اليمين أيضًا، وأخذت تلتمس العلة لهذا الكساد، وإحجام الناس عن الحج إلى «لورد» في ظروف الحياة الاقتصادية التي ارتفعت لها حاجات الناس ارتفاعًا شديدًا. ألم ترتفع أجور السكك الحديدية ارتفاعًا فاحشًا أحجم له الناس لا عن الحج إلى «لورد» وحدها، بل عن الحج إلى هذه المواقع الطبيعية البديعة في الجبل وعلى سواحل البحر. فالفصل ليس سيئًا في «لورد» وحدها، وإنما هو سيئ في هذا الإقليم كله، وما أحسب إلا أنه سيئ في جميع مواضع الراحة في فرنسا. ومن هم الذين يحجون إلى «لورد»؟ ألم تكن كثرتهم المطلقة من الفقراء، والذين يشبهون الفقراء، والذين يحتاجون إلى الحساب والتدقيق في الحساب ليعيشوا فضلًا عن أن يستمتعوا بشيء من اللهو والراحة، أو أن يبيحوا لأنفسهم سياحة من السياحات؟

الظروف الاقتصادية إذن هي التي صرفت الناس عن «لورد» لا الظروف الدينية ولا الظروف السياسية، ومهما يكن من شيء فقد زرنا «لورد» ومضينا في شوراعها، وانتهينا إلى الغار وإلى الينبوع، فإذا حولهما جماعات من الناس لا تُذكر بالقياس إلى تلك الجماعات التي كنا نراها من قبل، ولكنها مع ذلك كثيرة، ولكنها مع ذلك بائسة، ولكنها مع ذلك تملأ القلوب حزنًا وحسرةً، ولكنها مع ذلك تدعو العقل إلى التفكير، وتبعث الإنسان إذا كان جافيًا غليظ الطبع على أن يسخر من الإنسان، وتبعثه إن كان رقيقًا حساسًا على أن يعطف على الإنسان. انظر إلى هؤلاء الناس الذين انبثوا حول الغار والينبوع حاسرين يصلُّون ويضرعون ويتوسلون، ويتمسحون بالأحجار، ويغمسون أيديهم في الماء ويشربون منه، وفيهم المكفوف وفيهم المقعد وفيهم من أصابته ضروب الشلل وفيهم من ألح عليهم الجذام وفيهم من أنهكتهم العلل المتباينة، وفيهم الأصحاء أقبلوا يتضرعون لأبنائهم وبناتهم وآبائهم وأمهاتهم وإخوانهم وأخواتهم، كل هؤلاء منبثون حول الغار والينبوع لا يضحكون ولا يلهون، ولا يحفلون بجمال الطبيعة، ولا يستمتعون بروعة المنظر، ولا يكترثون لهذا الجو الذي قد يبرد حتى يبعث الرعدة وقد يسخن حتى يتصبب له العرق، وهم منصرفون عن هذا كله إلى صلاتهم يبتهلون إلى العذراء التي ظهرت في هذا المكان سنة ١٨٥٨ للفتاة «برنديت» وأوحت إليها أن تأمر الناس بإقامة كنيسة لها في هذا المكان، وأثبتت ظهورها بإخراج هذا الينبوع الذي تفجر عنه الصخر أمام هذه الفتاة الراعية فرآه الناس وآمنوا له، وصدقوا الفتاة، وتحولت له هذه القرية التي كانت خاملة إلى مدينة ضخمة فيها من أسباب الترف وألوان النعيم ما لم تبلغه مدن كثيرة قديمة العهد بالنمو في هذا الإقليم.

يبتهل هؤلاء الناس إلى هذه العذراء أن تشفي مرضاهم، وينتظرون الساعة المعينة التي يقوم فيها رجال الدين بحركاتهم اليومية فيغمسون المرضى في الماء المقدس، ماء الينبوع، ويصلُّون ويبتهلون وينتظرون المعجزة، فتواتيهم حينًا وتخلفهم حينًا، ومن سوء حظ «لورد» ورجال الدين في هذا العام أن العذراء لم تحدث معجزة منذ ابتدأ الفصل، وهم يبتهلون ويتضرعون ويلحون في الابتهال والتضرع، ويغمسون المرضى في الماء ويخرجونهم منه، ثم يردونهم إليه ويخرجونهم منه، والأساقفة يترددون على المدينة ويشرفون على هذه الحفلات والصلوات، ولكن العذراء عنهم معرِضة لا تسمع لهم ولا تلتفت إليهم، وكانت قد عوَّدتهم أن تُحدث لهم في كل عام معجزة أو معجزات، فما لها هذا العام قد تركت مدينتها وأعرضت عن عبادها؟ أما أنا فضحكت هذه المرة كما ضحكت في المرة الأولى، وقلت إن العذراء مغضبة؛ لأن حزب الشمال قد انتصر في الانتخاب، ولو قد انتصر حزب اليمين لما تصرَّم يوم من أيام هذا الفصل دون أن تُحدِث العذراء معجزة تضطرب لها أرجاء الأرض، ولو قد انتصر حزب الوسط الذي ليس هو بالمؤمن ولا بالملحد، ولكنه على كل حال قد استأنف العلاقات السياسية مع «البابا» لما رضيت العذراء أن يتصرم الفصل أو جزء عظيم منه دون أن تحدث معجزة أو معجزات، ولكن زوجي زجرتني زجرًا شديدًا وهي تقول: ما يصلح هذا الوضع لمثل هذا الهذيان، فأرجئه إلى حيث تخلو إلى نفسك فلا تؤذِ به أحدًا … فسكت، ولكني لم أحدثك إلى الآن عن السبب الذي من أجله فكرت في أن أزور «لورد» هذا العام، وهو سبب لا يحتاج إلى أن يكون موضوعًا للحديث، ولكنه مع ذلك كلفني هذه السياحة القصيرة، وأزعجني عن مضجعي ولما تشرق الشمس. ذلك أني سمعت القسيس يخطب الناس في «أرجليس» ويقرأ عليهم منشورًا أصدره «البابا» رفع به «برنديت» — هذه الفتاة الراعية التي ظهرت لها العذراء في «لورد» — إلى منزلة السعداء، التي ليس فوقها إلا منزلة واحدة فيما أظن هي منزلة القديسين.

قرأ القسيس هذا المنشور، ثم انتقل منه إلى حياة «برنديت» فذكرها مفصلة، حتى إذا بلغ ظهور العذراء لهذه الفتاة الراعية أخذ يلح في إثبات ذلك بالأدلة المختلفة، ثم أخذ يسرد المعجزات أو طائفة من المعجزات التي أحدثتها العذراء في «لورد»، فإن هذه المعجزات لا يمكن أن تحصى، وأخذ يذكر لنا معجزات قائمة بين أيدينا لا سبيل إلى جحودها، فهذه السيدة التي تتردد في الكنيسة لتُجلس الناس وتتقاضى منهم أجور الكراسي وتتقاضى منهم الصدقات، هذه السيدة التي ترونها جميعًا في حركاتها ونشاطها وخفتها، هذه السيدة انظروا إليها تسعى بينكم. ليس بينها وبين أشدكم قوة فرق. انظروا إليها، لقد كانت مقعدة فأطلقت العذراء ساقيها في «لورد»، وأنتم أهل هذه المدينة تعرفون فلانة وتعرفون علتها التي أعيت الأطباء أعوامًا، لقد شفتها العذراء في العام الماضي، وما أظن أن منكم من يجرؤ على إنكار هذه الواقعة …

وفي الحق أن أهل المدينة لا ينكرون هذه الواقعة ولا الواقعة التي سبقتها، ولكن في الحق أيضًا أني رأيت امرأتين؛ إحداهما بدالة تبيع ألوان البقل وضروبًا من المتاع وهي عرجاء أصابها ألم في القدم منذ سنين، وعجز الأطباء عن شفائه، ولم تغنِ فيه المياه المعدنية المختلفة شيئًا، وهذه المرأة تتردد كل عام إلى «لورد» فتشرب من ينبوعها، وتستحم في أحواضها كما كانت تتردد إلى المدن والقرى التي تمتاز بمياهها المعدنية الحارة والباردة، وتصلي إلى العذراء وتبتهل دون أن تُحدِث العذراء فيها معجزة، وهي غير يائسة ولا قانطة، بل هي تعتزم السفر إلى لورد بعد أيام. والأخرى امرأة عرجاء أيضًا، ولدت معوجَّة الساقين فهي لا تمشي وإنما تحجل، وتجد في ذلك مشقة شديدة. رأيتها في بعض الرياضات؛ لأنها مكلفة أن تحرس ممر القطار في طريق مسلوكة، وكنا قد أخطأنا الطريق إلى المدينة فما زالت معنا حتى اهتدينا، وقد قطعت بنا طرقًا مجهولة شاقة، فتحدثنا إليها أكثر من نصف ساعة، وعرفنا علتها، وعرفنا أنها ألحت على العذراء، وشربت كثيرًا من ينبوع «لورد»، وانغمست كثيرًا في أحواض «لورد»، ولكن العذراء لم تلتفت إليها، فيئست من العذراء، وجحدت «لورد» وسخرت منها، ورضيت علتها واطمانت إليها. رأيت هاتين المرأتين ولكنهما — فيما يظهر — لا تصلحان حجة على أنصار «لورد»؛ فالعذراء ليست مكلفة أن تشفي كل مريض، وإنما هي تشفي من تريد أن تشفي. ومن يدري؟ لعلها تشفي المرأتين في يوم من الأيام. سمعت ما سمعت ورأيت ما رأيت، فاشتقت إلى زيارة «لورد» وطمعت في أن تظهر معجزة يوم زيارتي، ولست أمزح ولا ألهو فإن المعجزات قد ظهرت في «لورد»، وما أظن إلا أنها ستظهر أيضًا، غير أن العلماء يعللون هذه المعجزات تعليلًا ويعللها القسيسون تعليلًا آخر، وأنت حر في أن تصدق العلماء أو في أن تصدق القسيسين. أما أنا فقد طمعت في أن أرى المعجزة، ولكني لم أرَ شيئًا. ثم طمعت في أن أسمع بالمعجزة أثناء إقامتي في «أرجليس»، على مسافة قصيرة من «لورد»، ولكني لم أسمع شيئًا. ثم سافرت من «أرجليس» وإني لفي القطار إلى حيث أقيم الآن، وإذا سيدتان تتحدثان … ماذا أسمع؟ أصغيت ثم استعادت السيدتين حديثهما.

ظهرت المعجزة في لورد منذ يومين اثنين، ذلك أن أسرة إسبانية أقبلت إلى لورد ومعها فتاة مقعدة فلم يكد رجال الدين يغمسون هذه الفتاة في الحوض، ويفرغون من صلاتهم ودعائهم حتى نهضت الفتاة معتدلة القوام. لا أقول تسعى بل تجري. ظهرت المعجزة في لورد، وذاع أمرها، وتحقق الناس صحتها، واعترف بذلك مكتب الإثبات الطبي الذي أقيم في لورد؛ ليثبت صحة المعجزات أو ينكرها، وإذن فسيحسن الفصل في لورد هذا العام، ولكني آسف الأسف كله؛ لأني لم أسمع بهذه المعجزة إلا في القطار على بعد عشر ساعات من لورد.

بوليجان «فرنسا» في ١٩ أغسطس سنة ١٩٢٤

(٣) الخيل! الخيل!

دوَّى هذا النداء في أرجاء الغابة، وما أسرع ما استجاب له الفرسان يهرعون من كل صوب حتى بلغوا جيادهم فامتطوها، وما هي إلا أن أخذت تعدو بهم عدوًا سريعًا، ولكنه منسجم تنظمه ألحان الموسيقى التي لا تخلو من عذوبة ساذجة، ولا تبعث على حرب، ولا تدعو إلى قتال؛ ذلك أن هؤلاء الفرسان لم يكونوا رجالًا، وإنما كانوا أطفالًا، وأن هذه الخيل لم تكن جيادًا مطهمة كريمة النسب، وإنما كانت جيادًا من الخشب.

دعا الداعي: الخيل! الخيل! فأسرع الأطفال إلى الخيل فامتطوها، وأسرعت الخيل فدارت بهؤلاء الأطفال، وأسرعت الموسيقى فعزفت لهم ألحانها، ووقف الكبار من رجال ونساء ينظرون ويبسمون فرحين مبتهجين بما يستمتع به أبناؤهم من هذا اللهو البريء، ثم انتهت دورة الخيل وآن دفع الأجر، وتقدم الناس يؤدون هذا الأجر عن أبنائهم، فإذا هذا الأجر مضاعف هذا المساء، وإذا الذي يتقاضاه من الناس قسيس يزدان بلباسه التيلي، وإذا الناس يبذلون ما يطلب إليهم عن طيب نفس وقرة عين، وإذا القسيس يستأنف دعاءه بصوته الضخم: الخيل! الخيل! وإذا الأطفال يسرعون إلى هذه الخيل فيمتطونها وإذا الموسيقى تستأنف لحنها. وقضى القسيس مساءه على هذه الحال يدعو إلى الخيل ويشرف على دورة الخيل ويتقاضى أجور الخيل.

وعلى مسافة قصيرة من هذا القسيس الذي وقف مساءه على تلهية الأطفال وجمع المال طائفةٌ من السيدات، من خيرة السيدات من ذوات المكانة في المدينة، قد اتخذن لباس الخدم وطفن على الناس يقدمن إليهم ألوان الحلوى وصنوف الفاكهة وأكؤس الشاي، ويقدمن مع هذه الأطعمة والأشربة بسمات عذبة وضحكات حلوة ولحظات فتانة، ويتقاضين أجر هذا كله أضعافًا مضاعفة. وعلى مسافة من هؤلاء السيدات طائفة أخرى من الفتيات الناشئات يطفن على الناس بأوراق النصيب، والناس يتهافتون على هذا كله يطعمون ويشربون ويشترون الورق ويمزحون ويفتنون في اللهو النزيه افتنان الأطفال في اللهو البريء. ذلك أن المدينة قد أقامت في هذا اليوم حفلًا لعملٍ من أعمال البر، فأدَّى كل واحد من أهل المدينة ما للبر عليه من حق، دفع هذا ماله ووقف هذا وقفه، وآثر هذا بلهوه هذا العمل الخيري. وليس في هذا الأمر بدع، فحفلات البر مألوفة في أوروبا ومصر، وأسواق البر معروفة هنا وهناك. والخلقيون يختلفون اختلافًا شديدًا في الحكم على هذه الحفلات والأسواق، قوم يحمدونها لأنها تؤدي إلى الخير، وقوم يمقتونها لأنها لا تخلو من لهو وتكلف، ولأن الخير خليق أن يصدر عن الإنسان كما تصدر الأشياء الفطرية في غير حيلة ولا تصنُّع. ليس في هذه الحفلات بدع إذن، وما كنت لأحدثك عنها لولا أن رأيت هذا القسيس قد اختار لنفسه هذا النوع من العمل، فقضى ساعات من نهاره لا يقدس الله، ولا يقرأ الإنجيل، ولا يتغنى بهذه الأغاني التي يقصر عليها القسيسون ظهر يوم الأحد عادةً في كنائسهم، وإنما يشرف على لهو الأطفال، ودورة الخيل، ويصيح بأعلى صوته من حين إلى حين: الخيل! الخيل! ويتوسم وجوه الناس فيأخذ منهم أجر الخيل متناسبًا مع ما توسم في وجوههم من ثراءٍ أو عسر. لولا أني رأيت هذا القسيس وسمعته لما فكرت في أن أتحدث إليك بشيء عن هذا الحفل، بل لقد كنت أود لو لم أكتب بهذا الحديث إلى «السياسة» ولا إلى صحيفة سيارة. كنت أود لو جعلت هذا الحديث موضوع رسالة خاصة أبعث بها إلى صديق من أصدقائي علماء الدين الإسلامي في مصر، أبعث بها إلى الأستاذ الزنكلوني مثلًا! ولكني أحببت أن تكون هذه الرسالة ذائعة يقرؤها الأزهريون جميعًا، ويفكرون فيها قليلًا أو كثيرًا.

لست أخفي على الأزهريين وعلى علماء الدين خاصةً، أني أعجبت بهذا القسيس، وتمنيت لو أرى علماء الدين عندنا يشرفون على مثل هذه الخيل، ويدعون إليها مثل هؤلاء الأطفال، ويتقاضون على ذلك مثل هذا الأجر، يضاعفونه ما شاءت لهم حاجة الأعمال الخيرية التي يدعو إليها الدين أو التي تمس إليها حاجة الفقراء والبائسين في مصر.

أعتقد أن علماء الدين في حاجة شديدة إلى الوقار والمهابة، وأن حاجتهم إلى الوقار والمهابة تحظر عليهم حركات ومواقف تباح لغيرهم من الناس، ولكني أعتقد أن هذا القسيس الذي كان يدعو الأطفال إلى الخيل لم ينزل من وقاره عن قليل ولا كثير، وإنما أضاف إلى هيبته هيبةً، وإلى وقاره وقارًا، وأدى عمله الديني كما ينبغي أن يؤديه حين سلك إلى الخير هذه السبيل الخصبة التي تجمع له من المال ما يحتاج إليه دون أن يتكلف استجداء أو يتحمل العناء في دعوة الناس إلى الصدقة والإحسان. فما الذي يمنع رجال الدين في مصر أن يسلكوا مثل هذه السبل؟ ما الذي يمنع رجال الدين؟ يمنعهم أنهم يعيشون في عصرهم هذا دون أن يكونوا من أهله، ودون أن يشعروا شعورًا صحيحًا بحاجاته وضروراته ووسائل العيش فيه، ثم يمنعهم أن الدولة تدرُّ عليهم أرزاقًا قد لا تكون كثيرة ولا غزيرة ولكنها الآن أكثر وأغزر منها منذ عشر سنين، هي بحيث تمكنهم من الحياة الهادئة المطمئنة، وما أحسبهم يطمعون — مع الأسف الشديد — في أكثر من الحياة المطمئنة. ثم يمنعهم شيء آخر هو أجلُّ من هذا كله خطرًا، وأنا قائله ومعتذر إلى علماء الدين من هذه الصراحة في القول؛ يمنعهم أن الواجب الذي يشعرون به ويعتقدون أنهم مكلفون أداءه في هذه الحياة ضيقٌ جدًّا، أضيق من الواجب الحقيقي الذي يفرضه عليهم الدين وحاجة الاجتماع. هم يعتقدون أنهم علماء؛ أي إن الله قد أودعهم علوم الدين؛ فهم يبذلون هذه العلوم للناس في الأزهر وملحقاته، وهم يصلُّون ويشرفون على إقامة الشعائر الدينية الرسمية. وإذا ألقوا دروسهم، وأدوا صلواتهم، وألقى بعضهم من حين إلى حين خطب الوعظ، فقد أدوا ما يجب عليهم لله والناس. وإذ كان الناس لا يطمعون في علوم الدين اليوم كما كانوا يطمعون فيها في القرن الماضي، وإذ كان الناس لا يختلفون إلى المساجد في هذه الأيام كما كانوا يختلفون إليها في الأيام الماضية، فقد أصبح نفع العلماء للهيئة الاجتماعية — كما يقولون — محدودًا، قليلًا، وسيشتد قلة مع مضي الزمن؛ لأن اختلاف الناس إلى الأزهر سيقل غدًا كما قل اليوم، ومن هنا يزيد العلماء على حاجة الاجتماع، وتصبح طائفتهم بعد زمان طويل أو قصير طائفة لا تشتد الحاجة إليها. إذن فالعلماء بين اثنين، إما أن يقاربوا بين أنفسهم وبين العصر الذي يعيشون فيه، وأن يصبحوا كغيرهم من الناس يشعرون بما يشعر به معاصروهم، وإما أن يستعدوا لهذا اليوم الذي ليس منه بد، والذي يصبحون فيه عالة على الجماعة المصرية لا يُرجى منهم خير، ولا يُعتمد عليهم في نفع.

نعم! يتصور العلماء واجبهم تصورًا ضيقًا جدًّا، فهم مكلفون شيئًا آخر غير إلقاء الدروس وإقامة الصلوات، هم مكلفون أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، ولم يقل أحد إن إلقاء الدروس وإقامة الصلاة هما كل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. هم مكلفون أن يشتركوا في جميع أعمال الخير، هم مكلفون أن يحتملوا ألوان العناء في كشف الضر عن البائسين. هم مكلفون ألا تخلو منهم جماعة خيرية. هم مكلفون ألا تخلو محلة في مصر من آثارهم الخيرية. هم مكلفون أن يتصوروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تصورًا صحيحًا واسعًا يجعلهم عضوًا نافعًا في الجماعة.

لو يعلم رجال الدين عندنا ماذا يصنع رجال الدين في أوروبا من هذه الناحية لدهشوا دهشًا عظيمًا، ولعلموا أنهم بعيدون كل البعد عن أداء واجبهم الديني. كتبت من أوروبا في السنة الماضية فصولًا عن رجال الدين الغربيين، وعن هذا الجهد العظيم الذي يبذلونه ليكون حظهم من العلم والفن كحظ غيرهم من رجال العلم والفن، وذكرت هذا الأسقف الذي اشترك في مؤتمر التاريخ في بروكسل، وذكرت هؤلاء القسيسين الذين قدَّموا إلى هذا المؤتمر مذكرات قيمة تمس فروع التاريخ على اختلافها، وتمنيت لو استطاع عالم من علماء الدين عندنا أن يشترك في المؤتمر الجغرافي الذي سيقام في مصر في العام المقبل. أما في هذا الفصل، فلست أذكر علم رجال الدين الغربيين، ولا اجتهادهم في تحصيل العلم، وإنما أذكر تصورهم لواجبهم الديني، وهو مع الأسف الشديد أصح وأرقى من تصور علمائنا لواجبهم.

اذهب إلى أصغر قرية وأحقرها من قرى أوروبا وتبيَّن عمل القسيس في هذه القرية، تجده عظيمًا، شديد التشعب، فهو يؤدي قبل كل شيء واجبه الديني المعقد في الكنيسة، يقيم هذه الصلوات الكثيرة المتنوعة، ويتقبل اعترافات المؤمنين إلى غير ذلك من أعمال الكنيسة. وهو يعنى بكنيسته عناية مادية، فيشرف لا على أن تكون نظيفة حسنة النظام، بل على أن تزدان بما استطاع أن يزينها به من آثار الفن، ثم هو بعد هذا أستاذ ديني لأطفال القرية جميعًا يختلفون إليه في كل يوم يأخذون عنه مبادئ الدين وأصوله، ثم هو موسيقي بحكم عمله الديني، وهو أستاذ للموسيقى في قريته، ثم هو متغلغل في حياة القرية لا يفلت من يده مولود ولا ميت، يتلقى المولود ليعمِّده ويزور المحتضَر ليصلي عليه ويلهمه كلمة الدين، وهو يجود بنفسه، ويودعه إلى قبره. ثم هو بعد هذا كله مكلف بحكم الدين أن يبحث عن الضعفاء وذوي الحاجة فيواسيهم ويعزيهم، ويلقى ألوان العناء في حمل الناس على الصدقات، يأخذ من أغنيائهم ما يرده على فقرائهم، ثم هو بعد هذا وذاك رجل طُلعة يريد أن يتعلم، فهو يختص بدرس نوع من أنواع العلم أو لون من ألوان الفن.

هذه خلاصة حياة القسيس في قرى أوروبا ومدنها، فأين منها حياة رجال الدين في الشرق الإسلامي؟ ومن هنا انتهت أوروبا إلى ما انتهت إليه من الإلحاد والكفر ورفض الدين، ولكنها لم تستطع — ولن تستطيع — أن تخلص من القسيسين؛ ذلك لأن القسيسين يتطورون مع أوروبا، ويحتالون في ألا تفوتهم الجماعات أو تفلت من أيديهم، ويسلكون السبل المختلفة ليصلوا إلى قلوب الناس من طريق الدين إن كانوا مؤمنين، ومن طريق العلم إن كانوا علماء، ومن طريق الفن إن كانوا فنيين، ومن طريق الخير إن كان شيء من هذا لا يعنيهم. ومن هنا كان القسيس في أوروبا جزءًا غير منفصل من الجماعات، لا يستغني عن الجماعة، ولا تستغني الجماعة عنه. ومن هنا انفصلت الكنيسة عن الدولة في فرنسا — مثلًا — وانقطعت معونة الدولة للكنيسة، فما انهارت الكنيسة، ولا افتقر رجالها، وإنما أدى الناس إلى الكنيسة ورجالها أضعاف ما كانت تؤديه إليهم الدولة. وهذه مدارس الكنيسة في فرنسا تزاحم مدارس الدولة فتزحمها، فأين رجال الدين في الشرق الإسلامي من رجال الدين في الغرب المسيحي؟ وماذا يرى الأستاذ الزنكلوني والأستاذ أبو العيون وأصحابهما في هذا كله؟ وأيهما أجدى وأليق بالكرامة؟ أن يعمل رجال الدين حتى يُكرهوا الدولة والأمة على أن يشعروا بالحاجة إليهم، أم لا يعملوا وإنما يلحون في الطلب، ويبالغون في الإلحاح، ويحرصون على أن يتدخلوا في كل شيء دون أن يشعر الناس بنفعهم حين يتدخلون في كل شيء؟ أما إني أتمنى على الأساتذة علماء الدين أن يفكروا في هذا ويطيلوا التفكير فيه، فقد يجدون فيه عظة وعبرة. ثم لا أخفي عليهم أني معجب بهذا القسيس الذي سمعته يدعو الأطفال إلى الخيل، وأتمنى أن أجد بين شيوخنا من يستطيع في يوم من الأيام أن يدعو الأطفال إلى الخيل دون أن يجد من جبَّته وعمامته ما يصرفه عن ذلك أو يزهده فيه.

البوليجين في ٢١ أغسطس سنة ١٩٢٤

(٤) باريس

أريد أن أكتب عن باريس، ولكني لا أدري ماذا أقول عن باريس، لا لأن الكلام يعوزني، ولا لأن الخواطر تنقصني، بل لأن لدي خواطر لا أستطيع أن أحصيها، ولا أن أنظمها، ولأن لدي كلامًا لا أستطيع أن يؤثر بعضه على بعض، فما أكثر ما أريد أن أقول، وما أشد عجزي عن تسطير ما أريد أن أقول! وماذا تريد أن أفعل ولست من الفن ورقة القلب بحيث كان الكاتب الفرنسي «رينان» الذي زار عاصمة العالم القديم فقدَّم إلى آلهتها هذه الآية الفنية الخالدة التي هي صلاته إلى آلهة الحكمة في أتينا؟ ماذا تريد أن أفعل وليس لي حظ «رينان» من الفن، ولا من رقة القلب، وقد حرمني الله كل خيال أو قدرة على التصرف في الخيال، ومع ذلك ففي باريس آلهة يستحقون أن يتقدم إليهم الإنسان بالصلاة كما تقدم «رينان» إلى آلهة الحكمة في مدينة أتينا؟

في باريس علم لا يقاس إليه علم الأتينيين، وفي باريس فلسفة لا تقاس إليها فلسفة الأتينيين، وفي باريس حرية لا تذكر معها حرية الأتينيين، وفي باريس حضارة تهينها إن قرنت إليها حضارة الأتينيين، وفي باريس حياة يعجز الفرد مهما تكن قوته عن فهمها والإحاطة بها، والتعمق في تحليلها، ثم يعجز الفرد مهما تكن قوته عن أن يعطيك منها صورة صحيحة أو مقاربة. ليس بين أتينا وباريس إلا شبه واحد، وهو أن أتينا كانت عاصمة العالم القديم، وأن باريس عاصمة العالم الحديث. فإذا قررنا هذا الشبه فيجب أن نقرر ما بين المدينتين من فرق، وهو عظيم أعظم من أن نتصوره، هو الفرق بين العالم القديم والعالم الحديث.

أنا مفتون بأتينا وفلسفتها وفلاسفتها وحريتها وزعمائها، ولكني على هذه الفتنة لا أستطيع أن أقيس أتينا إلى باريس.

علم الأتينيين وفلسفتهم، ماذا كانا بالقياس إلى ما في باريس من علم وفلسفة؟ كانا محاولة ساذجة غليظة فيها ضعف الأطفال وغرورهم لفهم الحياة وتفسيرها. حرية الأتينيين، ماذا كانت بالقياس إلى الحرية في باريس؟ كانت نوعًا من الامتياز لطائفة من الناس وضربًا من التسلط والاحتكار انتهى بمصادرة حرية الرأي وبالحكم على سقراط بالموت. أما باريس فيكفي أن تصل إليها، وأن تعيش فيها يومًا أو بعض يوم لتشعر بما لها من عظمة وجلال وحق في الخلود. لست في حاجة إلى أن تفهم، ولست في حاجة إلى أن تحلل، ولست في حاجة إلى أن تكون عالمًا أو أديبًا لتُكبِر باريس أو تقدِّر مكانتها في الحياة الحديثة، وإنما يكفي أن تكون قادرًا على أن ترى، وقادرًا على أن تسمع، وقادرًا على أن تتنسم الهواء، وأنا زعيمٌ لك بأنك ستقدِّر باريس وتُكبِرها وتحبها.

ليس لي حظ «رينان» في الفن لأقدم إلى باريس الخالدة مثل ما قدَّم هو إلى أتينا الخالدة، وليس لي حظ هذا الصديق المسافر الذي يرسل مذكراته إلى «السياسة» من حين إلى حين والذي أحسبه عاد الآن إلى مصر، أقول ليس لي حظ من حلاوة الفكاهة ودقة الملاحظة وخفة الروح وسلامة الذوق لأحدثك عن باريس بشيء يشبه ما حدثك به عنها، وإنما أنا بعيد كل البعد عن هذه الخصال التي امتاز بها هذا الصديق، فجعلت فصوله ومقالاته حلوة عذبة، أو جعلتها الحلاوة والعذوبة نفسهما. ولكن لي وجهًا خاصًّا في حب باريس والإعجاب بها والحياة فيها. وأحسب أن لكل إنسان يحب باريس وجهًا خاصًّا في حبه لهذه المدينة، فأنت لا تستطيع أن تحبها من كل وجه؛ لأنها أوسع من حياتك وأعظم من قدرتك على الحب، وأرفع وأجل من أن يحيط بها فرد أو أفراد. أما حين كنت مقيمًا في الجبل أخرج من حين إلى حين للرياضة فأزور القرى وأتبين ما فيها من جمال طبيعي أو إنساني، فقد كنت لا أصل إلى قرية أو محلة إلا حاولت أن أشرب من مائها، وكان يخيل إليَّ أني متى ذقت هذا الماء الذي ينحدر إلى هذه القرية أو المحلة، ويعيش منه أهلها فقد اتصلت نفسي بهذه القرية أو المحلة، وشاركت أهلها في شيءٍ من الأشياء. كذلك كنت وأحسبني سأكون أبدًا لا أبلغ مكانًا إلا حاولتُ أن تكون بيني وبينه صلة قوية أو ضعيفة. أما إذا بلغت باريس فلست أطمع في أن أشرب من مائها لأوجد الصلة بيني وبين أهلها، وإنما أطمع في أشياء أخرى بها توجد هذه الصلة. ولا أعتقد أني في باريس حقًّا إلا إذا أرضيت نفسي من هذه الأشياء، يجب أن أشتري كتابًا في العلم أو في الأدب، وأن أقرأ منه فصلًا أو فصولًا، ويجب أن أذهب إلى ملعب من ملاعب التمثيل الهازل أو الجاد، وأن أصفق مع المصفقين، وأضحك مع الضاحكين، أو أبكي مع الباكين. ثم يجب أن أذهب إلى مكان من هذه الأمكنة التي يختلف فيها الباريسيون إلى آيات الموسيقى فأستمع لهذا اللحن البديع، وأنسى أمامه نفسي ساعة أو ساعتين. فإذا اشتريت كتابًا وقرأت، وإذا ذهبت إلى ملعب التمثيل وتأثرت، وإذا سمعت الموسيقى وذهلت لها، فأنا في باريس حقًّا، أشعر بما يشعر به الباريسيون، وقد وجدت بيني وبينهم هذه الصلة التي أحب أن توجد بيني وبين كل مدينة أو قرية أزورها.

ولغيري وجوه أخرى في حب باريس. هناك من يحب باريس لما يجد فيها من هذه الحركة العنيفة، حركة الحياة العملية، وهناك من يحب باريس لأن فيها «مونمارتر»، وهناك من يحب باريس لأن فيها للفرد حرية لا تعدلها حرية، وضروبًا من اللذات منها المباح ومنها المنكر، منها ما يستطيع الإنسان أن يعلنه إلى الناس جميعًا، ومنها ما يحب الإنسان أن يخفيه حتى على نفسه. وهناك وجوه أخرى لا يكاد يبلغها الإحصاء، ولكنها كلها تنتهي إلى نتيجة واحدة وهي أن شعوب الأرض جميعًا قد تحب فرنسا وقد تكرهها، وقد تكون سلمًا لها أو حربًا عليها، ولكنها كلها مجمعة على حب باريس وإيثار الإقامة فيها حينًا من الدهر أو شطرًا من العمر.

ولقد قرأت منذ أسابيع فصلًا نقلته جريدة «الطان» عن إحدى الصحف الأمريكية الكبرى، حاول فيه كاتبه أن يتقصى الأسباب التي تحمل الناس جميعًا على أن يحبوا فرنسا ويؤثروا الإقامة فيها وفي باريس خاصةً، فأعجبني هذا الفصل؛ لأنه لا يخلو من صواب ولا من طرافة، ولكنه بعيد كل البعد عن أن يحيط بأطراف المسألة حقًّا. يظهر أن الأميركيين يحبون فرنسا عامةً وباريس خاصةً؛ لأن فيها سهولة العيش ولين الحياة، وضروبًا من اللذة لا يجدونها في بلادهم، أهمها لذة الطعام والشراب. فيظهر أن الله لم يرزق بلدًا من البلاد من المهارة في إجادة الطعام ما رزق فرنسا، ويظهر أنه لم يرزق بلدًا من البلاد من جودة الأشربة ما رزق فرنسا، فكثيرٌ من الأجانب الذين يهرعون إلى فرنسا في جميع أجزاء السنة إنما يهرعون إليها لأنهم يأكلون فيها فيجدون الأكل، ويشربون فيها فيجدون الشراب. وكثيرٌ منهم يهرعون إلى فرنسا وإلى باريس خاصةً لأنهم يجدون في الشعب الفرنسي والباريسي لينًا في الخلق، وصفاءً في الطبع، ورفقًا في المعاملة، وحلاوةً في الصلات لا يجدونها في بلدٍ آخر. وكثيرٌ منهم يهرعون إلى فرنسا وإلى باريس لأنهم يجدون في فرنسا وفي باريس شيئًا من الفرح والابتهاج والابتسام للحياة مهما تكن صروفها، ومهما تكن خطوبها، لا يجدونه في غير فرنسا وفي غير باريس. وهناك أسباب أخرى ذكرها هذا الكاتب وأسباب لم يذكرها. وماذا يعنينا أن نوفق إلى إحصاء الأسباب التي تحجب فرنسا إلى الناس وتحملهم على أن يهرعوا إلى باريس كلما وجدوا إلى ذلك سبيلًا؟ ماذا يعنينا من هذا كله ونحن لا نكتب تاريخًا ولا فلسفة، وإنما نلاحظ حقيقة لا تحتمل شكًّا ولا إنكارًا: وهي أن الناس جميعًا مهما تختلف أهواؤهم بالقياس إلى فرنسا فهم يحبونها ويحبون منها باريس بنوعٍ خاص.

لست كهذا العالم المصري الذي كان يحب باريس، وكان إذا وصل إليها تمرغ على أرضها كما كان يتمرغ قيس بن ذريح على آثار لبنى! لست كهذا العالم. فما حدثتني نفسي في يومٍ من الأيام أن أهوي إلى أرض باريس لثمًا وتقبيلًا، بل إن في باريس لأماكن كثيرة يعرفها المصريون الذين اختلفوا إلى هذه المدينة ولا أعرفها ولم تحدثني نفسي بأن أعرفها. وإن في باريس لأماكن كثيرة أكرهها وأمقت الاختلاف إليها، ولكني أعشق في باريس مكانًا أعتقد أنه أقدس مكان في العالم الحديث، وأنه الرأس المفكر لهذا العالم، لا أستثني منه بلدًا ولا مكانًا، وهو الحي اللاتيني. أنا أعشق هذا الحي وأهيم به هيامًا، وأعلن في ضعفٍ وتواضعٍ أني لا أكاد أحس نفسي فيه ولا أكاد أشعر بأني أمشي في شوارعه حتى أشعر أن قد تجدَّد شبابي واستأنفتُ كل ما فقدتُ من نشاط، فأنا أتنفس في حرية، وأفكر في حرية، وأتحرك في حرية، وأنا أحب الحياة وأحرص عليها، وأتمنى منها المزيد. وأقول إن هذا الحي اللاتيني هو أقدس مكان في العالم الحديث وهو الرأس المفكر لهذا العالم، ولست أقول هذا عبثًا، ولا يدفعني إليه الحب والإعجاب، وإنما هو الحق الذي لا يقبل شكًّا ولا جدالًا. وإني لأشعر بشيءٍ من المهابة والإجلال لا أستطيع وصفه كلما ذهبت إلى هذه الرقعة من الأرض التي يقوم فيها «البنطيون»، وترتفع فيها كنيسة «سانت جنفييف». أشعر بهذه المهابة وهذا الإجلال لأن هذه الرقعة الصغيرة من الأرض كانت مصدر النور الذي انبعث في أوروبا المظلمة أثناء القرون الوسطى قبل أن تظهر النهضة في إيطاليا؛ لأن هذه الرقعة كانت مهد الفلسفة ومأواها حين لم تكن فرنسا كلها ولا أوروبا كلها إلا ميدانًا تصطرع فيه المطامع والمنافع أقبح صراع وأشنعه. كانت هذه الرقعة من باريس مصدر الحياة العقلية لأوروبا كلها في القرون الوسطى. ولقد تغيَّر الزمان ودارت الأيام دوراتها المختلفة وعبثت الخطوب والأهوال بالعالم الحديث، وظل هذا المكان من باريس مصدر الحياة العقلية للعالم كله، أليست تقوم فيه جامعة «السربون»؟ أليست تقوم فيه «الكوليج دي فرانس»؟ ولقد أحب أن أجد مهدًا علميًّا في أوروبا أو أمريكا أقرنه إلى «السربون»، وإلى «الكوليج دي فرانس»، وأحصي له من الآثار في إحياء العقل الإنساني وترقيته ما يقرب من آثار «السربون» و«الكوليج دي فرانس»، فيعييني البحث ويخطئني ما أريد.

إن فرنسا تستطيع أن تتعرض للأزمات المختلفة، وأن تتجشم من الأهوال ضروبًا وصروفًا، وأن تنزل بها المحنة بعد المحنة والبلاء بعد البلاء، وإن فرنسا لتستطيع أن تبلغ من المجد ما تريد وما لا تريد، وأن تحرز من ألوان الظفر ما تحب وما لا تحب، وإن فرنسا لتستطيع أن تنزل من قلوب الناس منزلة البغض أو منزلة الحب. تستطيع فرنسا أن تفعل هذا كله وأن تتعرض لهذا كله، ولكنها واثقة بالخلود، واثقة بإكبار الناس إياها، وتقديسهم لها ما بقي فيها الحي اللاتيني، وما قامت في هذا الحي «السربون» و«الكوليج دي فرانس».

باريس في ٩ سبتمبر سنة ١٩٢٤

(٥) في ملاهي باريس

نعم! فقد لهوت، وكانت رغبتي في اللهو من البواعث القوية التي حبَّبت إليَّ الذهاب إلى باريس. ولمَ أخفي ذلك وأكتمه وأنا أعلم والناس جميعًا يعلمون أن المسافر إلى باريس أو غيرها من مدن أوروبا إنما يتخذ اللهو غرضًا من الأغراض الأساسية في برنامج رحلته؟ وهل كان السفر نفسه إلا ضربًا من اللهو، وفنًّا من فنون العبث، يعمد إليه المتعبون ليستريحوا، ويرغب فيه المستريحون ليتعبوا؟

وكنت متعبًا، وكنت أريد أن أستريح. وكنت أرى الراحة في أن ألهو عن هذه الأشياء التي قضيت فيها العام كله فأجهدتني، وبغَّضت إليَّ الحياة.

وكنت وما زلت أعتقد أن من الحق للناس عليَّ، وأن من الحق لي على نفسي، أن أعود إلى هذه الأشياء التي سئمتْها نفسي وسئمتني، وأن أستأنف هذا العمل الذي أجهدني طوال العام الماضي حتى بغَّض إليَّ الحياة. وكنت أعلم أني لن أستطيع العودة إلى هذه الأشياء واستئناف هذا العمل إلا إذا استرحت ولهوت، وأخذت من الراحة واللهو بحظٍّ عظيم. وقد فعلت، وقد عدت إلى مصر، وقد استأنفت هذا العمل الشاق، فإذا هو هيِّن ليِّن لا عسر فيه ولا مشقة، ولكني أعلم أنه سيعسر، وأنه سيشق، وأني سأسأمه وأنه سيسأمني، وأني سأنصرف عنه وأنه سيزهد فيَّ، وأني سأحتاج إلى الراحة واللهو وأني سأستريح وألهو ثم أستأنف الجد والعمل.

وكذلك حياتنا نتعب لنستريح ونستريح لنتعب حتى يأتي هذا اليوم الذي لا تعب بعده ولا راحة.

إذن فقد لهوت في باريس، لا أكتم ذلك ولا أخفيه، ولمَ أكتمه أو أخفيه وليس فيه والحمد لله مأثم ولا مدعاة إلى لوم، وإنما هو ضحك بريء، وعبث تطمئن إليه النفس الهادئة التي لا تعبث بها الأهواء، ولا تعصف بها الشهوات؟

لهوت في باريس واختلفت فيها إلى أندية اللهو التي هي زينة تلك المدينة وبهجتها، ولها في رفع شأن باريس وتقديمها على غيرها من مدن الأرض أثر قد لا يكون أقل من أثر «السربون» و«الكوليج دي فرانس» والمجامع العلمية المختلفة. ولم لا؟ أليست جامعة باريس ومعاهدها العلمية ملجأ للعقل الإنساني تأوي إليه ثمراته ونتائج بحثه في العلوم والفنون المختلفة؟ وهل أندية اللهو الباريسي البريء إلا ملاجئ للعقل الإنساني والشعور الإنساني؟ فيها تظهر ثمراتها الحلوة والمرة، وفيها يتعلم الإنسان من الإنسان، ويظهر الإنسان على الإنسان، وفيها يتعلم الإنسان كيف يكون حيوانًا اجتماعيًّا كما يقول أرسطاطاليس، أو مدنيًّا بالطبع كما يقول فلاسفة العرب.

لست أدري أيشعر المصريون المتعبون الذين يذهبون إلى باريس بمثل ما كنت أشعر به هذا الصيف، فقد كنت شديد الميل إلى أندية الهزل والضحك، شديد الانصراف عن أندية الجد والعبوس. لم أكن أميل في هذا الصيف إلى بيت موليير ولا إلى ما يمثَّل فيه من جد، بل لم أكن أميل بوجه ما إلى التراجيديا، إنما كان ميلي كله إلى الكوميديا من جهة وإلى الموسيقى من جهة أخرى.

ولقد حاولت أن أتبين في نفسي أسباب هذا الميل إلى ما يضحك ويلهي والانصراف عما يحزن ويعظم، فلم أوفق إلا إلى سبب واحد لا أدري أخطأ هو أم صواب! ذلك أننا «مفطومون» في مصر — كما يقول الفرنسيون — من اللهو الصريح البريء، ومن الضحك الذي يريح النفس حقًّا ويجلو عن القلب أصداء الحياة العاملة. وهذه الحياة العاملة نفسها كئيبة في مصر منذ سنين، وقد أثقلتها الهموم وأفعمتها الأحزان، فنحن مشفقون على منافعنا العامة نخشى أن يعبث بها الخصوم في الخارج أو أن يضيعها المواطنون في الداخل. ونحن مشفقون على منافعنا الخاصة نخشى أن تعبث بها الخصومات الحزبية وتأتي عليها العواصف السياسية. نحن قلقون لا نطمئن إلى شيء ولا نثق بشيء ولا نبسم لشيء. فليس عجيبًا إذا خلصنا من هذا الجو القلق المضطرب أن نتهالك على هذه الأشياء التي حرمناها في مصر وحال بيننا وبينها طبعنا من جهة واضطرابنا السياسي والاجتماعي من جهة أخرى.

نعم! فطبعنا لا يخلو من ظلمة، ومزاجنا أقرب إلى المراراة والحزن منه إلى الدعابة والابتسام.

نحن لا نلهو لأننا لا نعرف اللهو، ولأن في طباعنا نفورًا من اللهو. ولست أدري أمخطئ أنا أم مصيب في هذه الملاحظة، وهي أننا كنا بعد الثورة الوطنية الأخيرة قد أخذنا نتعلم اللهو بل نسرف فيه، فكانت الأغاني الفكاهية ذائعة عامة، وكان التمثيل الفكاهي رائجًا منشرًا، وكنت لا تكاد تمضي في الشوارع العامة إلا سمعت الأطفال والشبان من العمال ومن آليهم يتغنون أغاني «كشكش»، وكنت لا تكاد تمر بين الدور في الأحياء الراقية إذا أقبل المساء أو جن الليل، إلا سمعت البيانو يوقع ألحان كشكش، وربما وقفت لاستماع صوت رخيم عذب يتغنى مع هذا الإيقاع. وكان أصحاب الأخلاق وأهل الحرص على الآداب العامة ينكرون هذا الفساد ويشفقون منه، وكنا نقول إن هذا الانحلال الخلقي عَرَض من أعراض الثورة. وكنَّا نستبشر به لأن الثورة الفرنسية قد استتبعت مثله، فكان الفرنسيون يجاهدون أعداءهم الداخليين والخارجيين، وكانوا يحتملون آلام الجوع والفاقة، ولكنهم كانوا يلهون ويسرفون في اللهو، وربما كانوا يستعينون باللهو على ما كانوا يأتون من جلائل الأعمال ويحتملون من أثقال الحياة.

كنا كذلك، وأظن أن السلطة العامة احتاجت في بعض الأحيان إلى أن تدخل في الأمر وتكفكف من غلواء المسرفين، فأقفلت — أو حاولت تقفل — بعض المراقص. أما الآن فأحسب أن هذا قد تغير وأننا قد انصرفنا عن اللهو انصرافًا واضحًا.

انصرفنا عن اللهو دون أن يعظم حظنا من الجد، فليست حياتنا العامة والخاصة أكثر إنتاجًا وأشد خصبًا الآن منها حين كنا نلهو ونعبث. ولعلي لا أغلو في الخطأ إذا لاحظت أن حياتنا الدستورية هي التي صرفتنا عما كنا فيه من لهو، وأزالت عن شفاهنا هذا الابتسام للحياة؛ ذلك لأننا اعتقدنا يوم نفذ الدستور وأشرف البرلمان على الحكم أن الأمر قد رُدَّ إلى أهله، وأننا مقبلون على ساعات الجد والعمل فانتظرنا وما زلنا ننتظر.

ولمَ لا نقول كلمة الحق؟ كانت الوزارات التي أشرفت على الحكم قبل الدستور قليلة الحظ من ثقة الجماهير، فلم يكن الناس يحفلون بها، ولا ينتظرون منها خيرًا، بل كانوا يسيئون بها الظن ويتخذونها موضعًا للعبث والنقد، وكانت أعمالها وقراراتها تلهم الممثلين الهازلين والمغنيين العابثين. وكان الناس يرتاحون إلى الضحك منها واتخاذها سخريةً وهزءًا. أما الآن فقد أشرف على الحكم رجال كانت تحبهم الجماهير وتفتنُّ بهم، فلم يكن من الميسور أن تتخذهم الجماهير موضوعًا للهو والعبث. وإذا لم تعبث الجماهير بحكامها ولم تسخر من وزرائها ونوابها فهي مضطرة إلى الحزن والكآبة.

سلني عما يميز الديمقراطية حقًّا، أجبك بأن النظام الديمقراطي الصحيح هو الذي يتيح للجماهير أن تلهو على حساب حكوماتها بل على حساب أبطالها. فإذا أردت دليلًا ناطقًا بصدق هذا التعريف فاذهب إلى باريس واختلف إلى أندية اللهو فيها واسمع إلى ما يقال عن «هريو» و«دومرج» وعن «بوانكاريه» و«ملران»، وانظر إلى هذه الجماهير الفرنسية المختلفة تتهالك ضحكًا من وزرائها ورؤساء جمهوريتها، أستغفر الله، بل من علمائها وكتَّابها. ومهما أنسَ فلن أنسى أغنيتين سمعتهما في باريس ورأيت ابتهاج الجماهير لهما. في إحداهما مقارنة بين أمعاء المسيو هريو رئيس الوزارة الفرنسية القائمة وأمعاء المسيو بوانكاريه رئيس الوزارة الفرنسية المستقيلة، وفي الأخرى عبث بالمسيو هريو حين يعمد إلى التليفون.

ولكني قد بعدت أشد البعد عما كنت أريد أن أتحدث إليك فيه، وهو ملاهي باريس، وقد يحسن أن أعود إلى هذا الحديث.

لم أكن حسن الحظ هذا الصيف، وما أظن أن غيري كان أحسن حظًّا مني، فقد وصلنا إلى باريس أيام الراحة حين يتفرق عنها الممثلون النابهون ليجوبوا أقطار الأرض الفرنسية والأجنبية وليعرضوا فنهم على المصطافين في سواحل البحر ومدن المياه، وحين يستريح الكتَّاب استعدادًا لفصل الشتاء؛ إذ يعرضون آثارهم الجديدة على الجمهور الباريسي، وقد عاد من مصايفه إلى باريس، وحين تجتهد الملاعب التمثيلية في أن تستغل ما لديها من قصص الفصل الماضي لتلهي بها السائحين الذين يمرون بباريس. ومع ذلك فقد لهوت حقًّا وضحكت كثيرًا.

ولقد يكون من العسير أن أذكر دون أن أضحك قصة شهدتها في ملعب «الباليه رويال» عنوانها «قبِّلني»، كان الممثلون يمثلونها للمرات الأخيرة ويستعدون لتمثيل قصة أخرى ظهرت أول هذا الشهر، ومع ذلك فقد كان الملعب مكتظًّا بالنظارة. والغريب من أمر باريس أنك تستطيع أن تزورها في أي فصل من فصول السنة، وأن تختلف إلى ملاعبها وأنديتها وبيوتها التجارية، فستجدها دائمًا مكتظة بالناس، وستضطر دائمًا إلى أن تتخذ الحيطة لتبلغ منها ما تريد.

تريد أن تشهد قصة تمثيلية فيجب أن تؤجِّر كرسيك في الملعب قبل يوم التمثيل. تريد أن تشتري شيئًا في أحد البيوت التجارية الكبرى فيجب أن تذهب في الصباح أو أن تكون صبورًا محتملًا إن ذهبت في المساء.

ذهبت إلى الملعب بعد ظهر يوم من أيام الآحاد الباريسية، ولم أكن قد احتطت وكان المطر عنيفًا ثقيلًا، فلم أجد إلا كراسي فاحشة الغلاء، فاتخذتُ منها كرسيين، وأعترف بأني لم آسف على ما أنفقت؛ لأني ضحكت بأكثر من ستين فرنكًا!

أسرة شريفة كانت غنية ثم أصابها الفقر، تقيم في قصرها المرهون محتملة ألوانًا من الضيق، ثم تصبح ذات يوم وإذا القصر قد بيع من أجنبي، وإذا هي مضطرة إلى أن تترك هذا القصر الذي تتوارثه منذ خمسة قرون. ولكن لهذه الأسرة شابًّا مسرفًا في اللعب والعبث قد أدى واجبه الوطني أثناء الحرب، وعرف في الخندق صديقًا من الطبقات المنحطة أمه تبيع الفاكهة، وقد انقضت الحرب واغتنى ابن بائعة الفاكهة حتى أصبح ضخم الثروة، فكتب إليه صديقه الشريف يقترض منه مالًا لأنه خسر في اللعب، وأقبل هذا الصديق يحمل إلى صديقه ما أراد. فانظر إلى هذه الأسرة النبيلة تأبى أن تقبله في القصر، وأن تضيِّفه أيامًا، حتى إذا قبلت ذلك بعد مشقة أخذت تتبرم بالفتى وتزدريه؛ لأنه لا يعرف طرائق الحياة الأرستقراطية. وكانت عمة الشاب النبيل أشد الأسرة بغضًا له وتبرمًا به، لا تكاد تلحظه ولا تكاد تحسب لوجوده حسابًا. ولكن الفتى علم ببؤس هذه الأسرة واضطرارها إلى أن تترك القصر، فأسرع فاشتراه سرًّا، ثم أخذت الأسرة تظهر شيئًا فشيئًا على هذا السر حتى علمت به، وإذا هي ألعوبة في يد هذا الشاب الذي تزدريه ولا تضيفه إلا كارهة. ولكن هذا الشاب كريم خيِّر؛ فهو يعرض القصر على الأسرة ولا يبتغي له إلا ثمنًا ضئيلًا، هو أن «يُقَبِّل» هذه المرأة التي تزدريه وتغلو في بغضه، فإذا عرض عليهم هذه الصفقة اضطربوا لها اضطرابًا شديدًا، فأما الأسرة كلها فتقبل، وأما هذه المرأة فتأبى وتنفر، ثم تذكر أنها قد تُطرد من القصر، وأن الأسرة قد تصبح مشردة، فتضطر إلى القبول مقتنعة بأنها تقدم نفسها ضحية في سبيل الاحتفاظ بالكرامة والتراث القديم. وقد استعدت لهذه التضحية كما استعدت «إيفيجيني» لتضحي على مذبح أرتميس. ثم خلت إلى الفتى فوقفت موقف الجلال، وقالت له في ازدراء وسخرية وإذعان للقضاء المحتوم: «قبِّلني.» ولكن الفتى كريم، فهو لا يريد أن يقبل هذه المرأة، وإنما يكفيه أنها قد أذعنت لما يريد، وهو مستعد لأن ينزل للأسرة عن هذا القصر. ولكن المرأة قد دهشت لهذا الانصراف عن تقبيلها، وكأنها تعجب بكرم هذا الفتى، وكأنها في الوقت نفسه تسخط على هذا الكرم، وكأنها كانت تحرص على هذه القبلة دون أن تعلم بهذا الحرص، وكأنها ترى عدول الفتى عن تقبيلها إهانة لها وإصغارًا لجمالها. تشعر بهذا كله شعورًا واضحًا غامضًا في وقت واحد.

وكنت ترى الفتى يكره هذه المرأة ويريد أن يذلها. ولكنك تراه الآن لا يكرهها بل يُكبِرها، ولا يريد أن يذلَّها بل يريد أن يجلَّها، وإذا هو يعلن إليها حبه في هذه اللغة الشعبية الغليظة الصريحة، وإذا هي تضطرب لهذا الحب اضطرابًا عنيفًا، وإذا الحب قد أزال ما كان بينهما من مسافة مادية ومعنوية، وإذا هو يتجاوز القبلة، فإذا كان الصبح فهي آسفة نادمة تنقطع لوعةً وندمًا لأنها اقترفت هذا الإثم مع رجل ليس من طبقتها، وهي تعلم أن نساءً من أسرتها قد اقترفن هذه الخطيئة، ولكن إحداهن اقترفتها مع رجل من رجال القصر الملكي والأخرى مع كردينال، أما هي فقد اقترفتها مع رجل أمه كانت تبيع الفاكهة. وهي تريد أن تأخذ نفسها بأشد أنواع العقوبة، تريد أن تزهد في الحياة وأن تذهب إلى الدير، والفتى بين يديها يعتذر ويستغفر، ويعلن إليها في ضراعة ومَذلَّة أنه سيبرح القصر حتى لا ترى وجهه البغيض، فإذا سمعت هذه الجملة غضبت غضبًا لا حد له وعنَّفت الفتى تعنيفًا ثقيلًا قائلة: أهكذا تريد أن تسليني عن هذه النكبة المنكرة؟! ثم فهمنا أنها تريد نوعًا آخر من أنواع التسلية، وفنًّا آخر من فنون النسيان والعزاء …!

ولست أتم لك تلخيص القصة، وإنما يكفي أن تعلم أنها تنتهي بالزواج بين هذين المحبين؛ لأن شريفًا إنجليزيًّا تبنَّى الفتى ومنحه ألقاب شرفه، فأصبح كفئًا لعشيقته.

ولمَ تبنى الشريف الإنجليزي هذا الفتي؟ لا تسَلْ عن ذلك؛ فقد يكون في الجواب على هذا السؤال ما يفضح أم هذا الفتى وقد ماتت؛ ولا ينبغي أن يُذكر الموتى إلا بخير.

على أني قد زرت ملاعب أخرى وشهدت فيها قصصًا أخرى، وسأتحدث عنها في فصلٍ آخر.

(٦) زوج ألين

كنت أريد أن أضحك حين ذهبتُ إلى ملعب ميشيل لأشهد تمثيل هذه القصة «زوج ألين»، وكنت واثقًا بأنني سأضحك وسأضحك كثيرًا؛ لأن العنوان في نفسه مضحك، ولأن القصة كانت تمثَّل لأول مرة، فلم يكن النقاد قد كتبوا عنها بعد، ولأن أسماء الممثلين الذين اشتركوا في تمثيلها كانت تدل على طائفة من الذين مهروا في الفن المضحك. فأسرعت إلى الملعب مبتهجًا، وكأني كنت أضحك مقدمًا، وكذلك شأن الناس في باريس يذوقون مقدمًا ما يبتغون من لذة؛ لأنهم يعلمون أن هذه اللذة ستكون قوية حادة، وأنهم سيظفرون منها بأكثر مما يبتغون.

ذهبنا إلى الملعب ضاحكين، ولم يكد يُرفع الستار حتى أغرقنا في الضحك، ولكن ما هي إلا دقائق حتى استحال هذا الضحك إلى حزن وعبوس، وحتى أحسسنا في أنفسنا شعورًا غريبًا ليس من اليسير تفسيره؛ لأنه شيء ليس بالسرور الخالص ولا بالحزن الخالص، أو قل إنه شيء أبلغ أثرًا في النفس من الحزن الخالص، ولكنه يُكرهك مع ذلك على الابتسام، وربما أكرهك على الضحك والإغراق فيه. تبسم وأنت عابس، وتضحك وأنت محزون.

ذلك لأن الممثل يعرض عليك من خصال الإنسان ما يضحكك مظهره أردت أم لم تُرِد، وما يحزنك مخبره رضيت أم لم ترضَ.

لا يكاد يُرفع الستار حتى ترى امرأة متقدمة في السن، أقرب إلى الشيخوخة منها إلى التوسط في العمر، لباسها ملائم لسنها وملائم لمصدرها ولطبقتها الاجتماعية، فلا تكاد تسمع حديثها حتى تحس أنها ليست من باريس، وإنما وفدت من الأقاليم، وحتى تفهم أنها من هذه الطبقة الغامضة التي لا تبلغ أوساط الناس، ولا تريد أن تنحط إلى سفلتهم. قد مات عنها زوجها وترك لها ابنة هي «ألين»، وهي بارعة الجمال، رشيقة القد، عذبة الصوت، وقد ضاقت الحياة بها وبابنتها، فلجأتا إلى باريس، وآواهما رجل موسيقي بارع في فنه، ولكنه سيئ الحظ بهذا الفن، لا يكسب حياته إلا بمشقة، أَحبَّ الفتاة فآواها وآوى أمها، وأصبح أستاذها وعشيقها والقيِّم على حياتها. وقد مهرت الفتاة في الغناء كما مهرت في الرقص، وتقدمت إلى أحد الملاعب الباريسية، فقُبِلت فيه مغنية راقصة، وهي تبدأ عملها هذه الليلة وأمها تنتظرها متأثرة، مضطربة فرحة، مشفقة تقدر الفوز وتريد أن تحتفل به، فهي تعد مائدة عليها من الطعام والشراب هذه الألوان التي لا يرضاها الموسرون، ولا يظفر بها المعسرون إلا بعد الجهد والعناء، وهي تتحدث بكل ما في نفسها إلى خادم لها حديثة السن، خفيفة الحركة، مسرفة في القول، فلا تكاد تسمع حوارهما حتى يأخذك الضحك فتغرق فيه حين ترى هذه المرأة التي تكاد تكون شيخة تتحدث في لهجة الجد إلى هذه الفتاة التي تكاد تكون طفلة! وهما في هذا الحديث الذي تريانه جدًّا ونضحك نحن منه، إذ يدخل الموسيقيُّ فرحًا، قد ملأه الفرح اضطرابًا، فهو يبكي ولكن بكاءه نفسه مضحك، وهو يعلن إلى الأم فوز ابنتها ويحاول أن يمثل لها هذا الفوز، فيجتهد في تقليد الفتاة حين غنت بعض المقطوعات التي أُعجب بها الجمهور، والأم سعيدة مغتبطة، ولكنها مع ذلك ليست راضية؛ لأنها تكره الملاهي، وكانت تود لو استطاعت أن تجد عنها منصرفًا لابنتها. أما الموسيقيُّ فسعيد بهذا الفوز ولكنه مشفق منه؛ مشفق لأنه يخشى أن تنصرف الفتاة عنه إلى هؤلاء النظارة الأغنياء الذي سيرونها في الملهى وسيتملقونها.

تحس منه ذلك، وتحس أيضًا أنه يحاول كتمان هذا الخوف، وقد أقبلت الفتاة فرحة، مبتهجة، متأثرة، فهي تُقبِّل أمها وتضم عاشقها وتشكره، ولكن لن يتاح لهؤلاء الناس أن يحتفلوا بهذا الفوز فيما بينهم، فقد أقبل مدير الملهى وأعوانه ورجل غني من زعماء الصناعة، يهنئون الفتاة بهذا الفوز، ويدعونها إلى أن تنفق معهم شطرًا من الليل في حانة من هذه الحانات التي يفد إليها الباريسيون إذا خرجوا من الملاعب، فيأكلون ويشربون ويعبثون، ونحن نحس أنهم عرضوا ذلك على الفتاة فَقَبِلته قبل أن تعود إلى أهلها. ولكنها تُظهر التردد الآن؛ لأنها لا تريد أن تترك صاحبها. ما أسرع ما يدعو القوم صاحبها إلى الذهاب معهم، فيعتذر ويلحُّون، وتظهر هي الرغبة فيقبل كارهًا، وينصرفون على أن يرسلوا إليهما السيارة بعد حين. فإذا خلا العاشقان رأينا هذه الأشياء التي تطير القلوب سرورًا وتقطبها حزنًا. رأينا هذا الموسيقيَّ يريد أن يلبس زي السمر، فإذا ثيابه وأدواته من الرداءة والبلى بحيث يخجله ذلك ويؤذيه، ولكنه مبتسم يجتهد في أن يكون حسن الزينة، وإذا هو يفتقد أزراره، فإذا وجد منها واحدًا أخطأه الآخر، وصاحبته تتزين، وقد أعارها الملعب ثوب الرقص فهي فيه خلابة بارعة. ولكن كثيرًا من أدوات الزينة ينقصها، وهي تشكو ذلك مغتاظة، فإذا أحسَّت من صاحبها الألم ابتسمت وتكلَّفت تهوين الأمر عليه، وصاحبها يعدها بمضاعفة العمل ليكسب لها ما تحتاج إليه. وقد أقبلت السيارة فانظر إلى الأم مبتهجة، مفتونة بجمال ابنتها، وانظر إليها تتبع ابنتها وقد أخذت بفضل ثوبها حتى لا يصيبه غبار السلم، وانظر إلى الخادم الطفلة تسبقهم جميعًا وفي يدها الشمعة تضيء السلم، وانظر إلى العاشق محزونًا يتكلف الابتهاج، وبائسًا يتكلف النعيم.

فإذا كان الفصل الثاني فقد تغيَّر هذا كله، وسترى قومًا تنكرهم لأن النعمة ألمت بهم فأزالت كل ما رأيت في الفصل الماضي من مظاهر البؤس؛ ذلك لأن «ألين» قد اشتهر أمرها وظهر نبوغها، فابتسمت لها الثروة وأصبحت لا تشكو عسرًا ولا ضيقًا، وظهرت آثار ذلك حولها، فأما أمها فليست شيخة ولا كالشيخة، وإنما هي امرأة وسط فيها قوة وشباب، تلبس على آخر طراز، وتزدان على آخر طراز، وقد تغيَّرت لهجتها فهي باريسية، وتغيَّر صوتها فهو رخيم، وتغيرت حركاتها فهي رشيقة ممتازة. وأما الموسيقيُّ فقد أصبح شابًّا قويًّا بادي الظرف، حسن الزينة، رائع المنظر، وقد اقترن بصاحبته. وكذلك الخادم تغيرت وامتازت. والغريب أنها ليست وحدها في البيت، بل يشاركها غلام عليه العناية بغرف الاستقبال وما إليها. ولسنا في باريس ولا في ذلك البيت الذي يضاء بالشمع ويُخشى غباره على فضل الثياب، وإنما نحن في بيت أنيق فخم في مصطاف على ساحل البحر، يجمع أرقى الطبقات وأغناها إذا أقبل الصيف من كل عام. ونحن نرى مدير الملعب وصاحبته وأعوانه وذلك الرجل الغني يترددون على «ألين» فيلعبون ويصفقون، ونحن نرى زوج «ألين» سعيدًا مغتبطًا ينبئ صديقه بأن الله قد أذن له أن يكون غنيًّا، وأنه يضع قصة موسيقية ستنال الجائزة من غيرك شك، وأنه سيكون ناقدًا موسيقيًّا لصحيفة كبرى، وأن كل شيء في الحياة يبسم له. ولكن انظر إلى القوم قد أقبلوا، وانظر إلى الموسيقيِّ قد خرج مع صديقه في بعض شأنه، وانظر إلى «ألين» قد خلت إلى الرجل الغني بينما يجلس الآخرون أمام غرفة الاستقبال يرقبون عودة الزوج وكأنهم يلعبون. واسمع إلى هذا الحديث يقع بين «ألين» وبين صاحبها الغني، فإذا هما عاشقان وإذا هي تخون زوجها، وإذا هذه الخيانة مصدر ما ترى من نعيم، ولكن هذا الرجل ضيق الصدر بهذا الزوج الغبي.

ضيق الصدر لأنه يريد أن يستأثر بصاحبته، وهذا الزوج الغبي يحول بينه وبين ذلك. وفي الحق أَغَبي هذا الزوج حقًّا أم هو متغاب؟ أليس يتكلف الغفلة ليستمتع بنعيم الحياة؟

ذلك شيء يفترضه الغني وتأباه «ألين»، وهما في الحديث والعبث إذ يسمعان صياح أصحابهما الذين يلعبون: «لقد أقبل فلان! لقد أقبل فلان!»

تنبَّها، فانفصلا، ودخل الموسيقي وانصرف القوم، وأخذ الزوجان يتحدثان، فإذا الرجل محزون بائس، وإذا امرأته اللعوب تسأله عن مصدر هذا الحزن، فيتردد ثم يجيبها بأنه سمع الناس يذكرونه فيقولون «زوج ألين» ولا يسمونه باسمه، وبأنه رآهم يشيرون إليه ويبتسمون، فهو إذن يشك، وهي تدافعه عن هذا الشك بما أوتيت من حيلة ودل ودعابة. وانظر إليه قد أخذ حقيبة امرأته ونظر فيها فإذا مقدار ضخم من المال فلا يزداد إلا شكًّا. وانظر إليه يذكر أن امرأته لعبت الميسر أمس وخسرت كثيرًا ولم تنبئه بشيء، وإنما سمع بذلك عفوًا، فهو لا يزداد إلا شكًّا. وانظر إليه قد استكشف عند امرأته عقدًا من الجوهر لا علم له به، فلا يزداد إلا شكًّا. ولكنها ماهرة وهو عاشق، فتستطيع أن تخدعه عن أمرها وأن تستميله إليها، وأن تخلبه بما تبذل من لذة، وهو أغبى من غلامه الذي يفهم كل شيء، ويتحدث إلى زميلته الخادم بكل شيء.

فإذا كان الفصل الثالث تحدَّث الموسيقي إلى صديقه وقد استيقن كل شيء، وأصبح لا يشك في خيانة امرأته.

ذلك أن القوم اعتزموا الخروج للنزهة وتخلَّف عنهم متكلفًا العمل، ثم تبعهم وهم لا يعلمون فلم يرَ فيهم زوجه، ولم يرَ فيهم ذلك الرجل الغني، وإذن فقد كذبت عليه امرأته حين زعمت أنها خارجة للنزهة وأنفقت يومها مع صاحبها. ونحن نعلم ذلك لأننا سمعناه في الفصل الثاني. وانظر إلى هذا الموسيقي متألمًا محزونًا ولكنه متجلد صبور، يعلن إلى صديقه أنه سيترك هذه الحياة كلها وسيعود إلى حياته الأولى: حياة البؤس والشرف والكرامة، ولكنه يريد أن يلهو قبل هذه العودة، وإنه للهو أليم.

أقبل القوم جميعًا من نزهتهم وفيهم «ألين» وفيهم الرجل الغني، وكلهم يقص ما رآه ويصف جمال النزهة، والموسيقيُّ مبتهج يتحدث إليهم جميعًا حديث من لا يشك في شيء، وأنت ترى من القوم جميعًا أنهم يسخرون منه، ويرون فيه الغفلة، وقد هموا بالانصراف ليلتقوا بعد حين إلى مائدة العشاء في الحانة. وإذا الموسيقيُّ يمسك الرجل الغني ليبقى معه حينًا. فإذا انصرف القوم وخلا الزوجان إلى هذا الرجل الغني بدأت طائفة من المواقف المؤثرة التي تملؤك عطفًا على الزوج، وسخطًا على امرأته، وإعجابًا بالكاتب والممثلين. انظر إلى هذا الزوج الموتور يريد أن ينتقم لنفسه ولكرامته، ولكنه لا يريد أن يكون سخيفًا، ولا ضُحَكةً، ولا مجرمًا، فهو لا يريد العنف ولا سفك الدم، وإنما يريد أن يكون مترفقًا في انتقامه. انظر إليه يعذب الخائنَيْن عذابًا أليمًا لأن موضعه الضمير، يستثير غيرة الرجل الغني بما يبدي من التلطف لامرأته، وبما يتكلف من مداعبتها وقد ضمها إليه، ثم أجلسها على حجره، وأخذ يداعبها هذه المداعبة المشروعة بين الزوجين، والتي لا تكون إلا في الخلوة، والرجل ينظر ويتألم دون أن يستطيع اعتراضًا أو احتجاجًا، والمرأة خجلة ذليلة بين هذين الرجلين اللذين يتقاسمانها، وهي تتكلف الحياء لتخلص من هذا الموقف الأليم، ولكن الزوج لا يحفل بحيائها ولا بألمها. وهو الآن ينتقل من المداعبة إلى الحديث، فيقص على صاحبه أسرار الزوجية، وما تمنحه امرأته من لذة إذا خلت إليه. حتى إذا قضى وطره من تعذيب الخائنين وإذلالهما أطلق امرأته فذهبت لتصلح من شأنها قبل العشاء، وخلا هو إلى الخائن.

وهنا موقف ليس أقل من الموقف الذي سبقه جمالًا وتأثيرًا. هذا الزوج يتحدث إلى عاشق امرأته، فما هي إلا أن يعلن إليه أنه يعلم كل شيء، فإذا وجم الرجل وسأله عما يريد وانتظر الكارثة، أعلن الزوج إليه أنه لا يريد شيئًا وأنه راضٍ بهذه الحال، وإذا الرجل الخائن شديد الازدراء لهذا الزوج الذي لا يجري الدم في عروقه، والذي يرضى أن تكون امرأته شركًا بينه وبين غيره. يريد أن ينصرف فيمسكه الزوج؛ إذ ليس بد من الاتفاق على أشياء وتدبير مصالح لا بد من تدبيرها، هما شريكان في المرأة وقد يمكن أن يكونا غدًا شريكين في طفل تلده هذه المرأة. وما زال هذا الزوج يرقى في تمثيل الضعة والمهانة والخيانة والإثم حتى يكشف عن أخس ما في النفس الإنسانية من عاطفة. إنه يلهو، وهو يلهو بازدراء الإنسان، فإذا بلغ من ذلك ما يريد أطلق الرجل وقد اتفق معه على أن يأتي بعد حين ليحمل هذه المرأة في سيارته إلى حيث يريد. ثم تقبل المرأة فيلقاها زوجها مبتسمًا، وتأخذ في عتابه على ما أباح من أسرار الزوجية، فما يزال بها حتى يعلن إليها أنه عالم بكل شيء، وراضٍ عن كل شيء، وقابل لهذه الشركة التي تضمن لهما الثروة والنعيم.

وإذا المرأة تزدري زوجها حقًّا وتحتقره احتقارًا لا حد له، وإذا هي تتألم حقًّا لأنها كانت تريد أن يحبها زوجها، وأن يكون شديد الغيرة عليها، فإذا هي ترى نفسها متاعًا يتقسمه رجلان. ولكن الزوج قد أطال الصبر والتكلف وغلا في كظم عواطفه، فهو لا يستطيع الآن صبرًا، وانظر إليه وقد انفجر كما ينفجر البركان، فهو ثائر فائر لا يكاد يملك نفسه، ولا يكاد يمسكها عن اغتيال هذه المرأة، وقد ظهر حبه قويًّا عنيفًا، وظهرت غيرته، وكلها روع وهول وهو يصيح بامرأته: «أترين فيَّ ما يدلك على أنني قوَّاد؟» والمرأة وجلة مضطربة ولكنها سعيدة مغتبطة لأنها تشهد الحب والغيرة، ولأن زوجها لا ينظر إليها نظره إلى المتاع، وهي تريد أن تستغفر وتريد أن تتوب، ولكن الزوج يحاول طردها، ثم يبدو له فيطرد نفسه، وقد أنبأها أن صاحبها سيأتي بعد حين ليحملها في سيارته، وقد انصرف وتركها تعسة، بائسة تنتحب وتصيح. ولكن السيارة قد أقبلت، وهي تدعو بالباب، فانظر إلى هذه المرأة قد نهضت متثاقلة إلى المرآة، فأصلحت من شعرها ووجهها، وخرجت في هدوء تجيب داعي اللهو والثروة والنعيم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤