القسم الرابع: بين العلم والدين

١

الناس معنيون في هذه الأيام عندنا بالخصومة بين العلم والدين. وقد بدأت عنايتهم بهذه الخصومة تشتد منذ السنة الماضية، حين ظهر كتاب «الإسلام وأصول والحكم»، فنهض له رجال الدين ينكرونه ويكفِّرون صاحبه، ويستعْدُون عليه السلطان السياسي. وزادت هذه العناية شدة حين ظهر في هذه السنة كتاب «في الشعر الجاهلي»، فنهض له رجال الدين أيضًا ينكرونه، ويكفِّرون صاحبه، ويستعْدُون عليه السلطان السياسي.

والحق أن هذه الخصومة بين العلم والدين — كما قلت في غير هذا الموضع — قديمة يرجع عهدها إلى أول الحياة العقلية الفلسفية. والحق أيضًا أن هذه الخصومة بين العلم والدين ستظل قوية متصلة ما قام العلم وما قام الدين؛ لأن الخلاف بينهما — كما سترى — أساسي جوهري، لا سبيل إلى إزالته ولا إلى تخفيفه إلا إذا استطاع كل واحد منهما أن ينسى صاحبه نسيانًا تامًّا، ويعرض عنه إعراضًا مطلقًا. وقد نعرض بعد قليل لهذا الموضوع في شيءٍ من التفصيل والإسهاب. ولكن الذي نحب أن نلاحظه منذ الآن هو أن التفكير في هذه الخصومة بين العلم والدين قد حمل بعض المفكرين على أن يلتمسوا لها أسبابًا قريبة أو بعيدة، وعلى أن يسألوا أنفسهم أليس إلى إزالتها من سبيل؟ وقد نشأ عن هذا التفكير نوع من الفلسفة قيِّم، كثرت فيه الكتب والمباحث. ولسنا نريد أن نعرض له إلا من ناحية واحدة وهي الناحية التي تتصل بالسياسة وتحملها على أن تنتصر للعلم مرة وللدين مرة أخرى، وعلى أن تعتز حينًا بهذا وحينًا بذاك. وإذا عرضنا لهذا الموضوع فلسنا نريد إلا شيئًا واحدًا هو تحقيق التوازن بين هذه المؤثرات الثلاثة في حياة الأفراد والجماعات، وهي العلم والسياسة والدين.

الحق أن الخصومة لم تكد تنشأ بين العلم والدين، أو بين العقل والدين، حتى دخلت فيها السياسة فأفسدتها وانصرفت بها عن وجهها المعقول إلى وجه آخر، لم يخلُ من الإثم بل من الإجرام.

أول خصومة ظاهرة بين العقل والدين هي هذه التي نشأت في آخر القرن الخامس قبل المسيح، حين أخذ سقراط يطوف في شوارع أتينا ومعه حواره وفلسفته، يقف بهما حينًا عند هذا الحذاء، وحينًا آخر عند الحمام، ومرة في أحد الميادين العامة، ومرة أخرى في نادي الألعاب الرياضية، ويدعو إليه الشبان والكهول والشيوخ أحيانًا فيحاورهم في الحق والعدل والواجب والقصد، وما إلى ذلك من هذه المسائل التي كانت تشغل الشعب الأتيني في ذلك الوقت.

لم يكن سقراط يتخذ عداوة الدين مذهبًا، ولا الخروج عليه غاية لفلسفته أو حواره، بل نستطيع أن نقول إنه كان من أشد معاصريه محافظةً واعتدالًا، فهو إنما كان يخاصم السوفسطائية، ويريد أن يهدم مذاهبهم في الشك، وأن يرد إلى العقل سلطانه، ويبين أن حقائق الأشياء ثابتة، ولكنه كان يحاور على طريقة السوفسطائية، وكان يتخذ الشك سبيلًا إلى اليقين، ولم يكن يكره أن يضع كل شيء موضع البحث، وأن يعرض كل شيء للشك حينًا وللإنكار حينًا آخر، فلم يَسْلم الدين ولا غيره مما كانت تحتفظ به الجماعة الأتينية من خطر هذا الشك والإنكار. ولم يسلم الدين من خطر هذا الشك، ولم يسلم منه النظام السياسي الأتيني أيضًا، فقد كان سقراط يحاور في كل شيء، ويعرض — كما قلنا — كل شيء للشك والإنكار. وكان الشعب الأتيني في آخر القرن الخامس قبل المسيح حريصًا مسرفًا في الحرص على نظامه الديمقراطي الذي ائتمر به الأرستقراطيون غير مرة، فعرضوه للخطر وأزالوه حينًا ما. فلم يكن من الغريب أن يكره الشعب الأتيني كل فلسفة تمس هذا النظام الديمقراطي، أو تعرضه للشك، أو لتصرف عنه الشباب قليلًا أو كثيرًا. ولم تكن الديمقراطية الأتينية قد وصلت إلى ما وصلت إليه بعض الديمقراطيات الحديثة من الفصل بين الدولة والدين، وإنما كانت تقيم السياسة على الدين وترى الدين أصلًا من أصول وجودها، أساسًا من أسس حياتها، وفصلًا من فصول نظامها السياسي. فكانت فلسفة سقراط أمام الديمقراطية الأتينية آثمة من وجهين: آثمة لأنها تعرِّض النظام نفسه للخطر، وآثمة لأنها تعرِّض الدين للخطر. ومن هنا لم يكد خصوم سقراط يقفونه موقف القضاء من الشعب حتى تظهر تدخل السياسة في الخصومة بين العقل والدين، وكان موقف سقراط من قضاته أثناء الدفاع وبعد الحكم محنقًا، يثير السخط ويدعو إلى القسوة. فقسا القضاة وأثمت السياسة حين قضت بالموت على أبي الفلسفة.

ومن ذلك الوقت أصبحت الخصومة بين العقل والدين، أو قل بين العلم والدين، أمرًا لا مندوحة عنه: يخاف الدين كل فلسفة وكل علم، ويرتاب العلم بكل دين. ومن ذلك الوقت تحدد موقف السياسة بين هذين الخصمين، وظهر أنه لن يكون موقف إصلاح بينهما، وإنما هو موقف إفساد وإحراج وإثارة للحفيظة والحقد.

لم يقف سخط السياسة الأتينية على الفلسفة عند القضاء على سقراط وإنفاذها هذا القضاء فيه، وإنما تجاوزه إلى اضطهاد تلاميذه والشك فيهم، فتفرقوا في الأرض، واستخفت الفلسفة من أتينا حينًا. فلما عادت إليها وسعتها، ولكن مع شيءٍ كثيرٍ جدًّا من التحفظ والارتياب، فما اطمأنت الديمقراطية الأتينية يومًا إلى أفلاطون، ولا رضيت على أرسطاليس، والناس جميعًا يعلمون أن المعلم الأول كاد يقف من القضاء موقف سقراط لولا أن هرب من أتينا.

٢

ليست الخصومة بين العلم والدين إذن مقصورة على ما نعرف من الخصومة بين الديانات السماوية والعلم والفلسفة أثناء القرون الوسطى وفي هذا العصر الحديث، وإنما هي — كما رأيت — قديمة، قد ظهرت بين الديانة الوثنية اليونانية وبين فلسفة سقراط وتلاميذه. ومع ذلك فقد كانت الديانة الوثنية اليونانية من أيسر الديانات وأقربها إلى السذاجة وأقلها حظًّا من التعصب. وحسبك أن هذه الديانة اليونانية كانت تخلو خلوًّا تامًّا من مؤثرين عنيفين: أحدهما الكلام، والآخر الإكليروس. لم يكن للديانات اليونانية كلام أو لاهوت، بل لم تكن للديانات اليونانية عقائد محددة، وإنما كانت هذه الديانات عبادات وطقوسًا — كما يقولون — لا أكثر ولا أقل. لم تكن للآلهة صفات معروفة معينة يكفر من ينكرها أو يشك فيها، ولم يكن لليونان عِلم يشبه هذا العلم الذي يتقنه اليهود والنصارى والمسلمون وهو علم اللاهوت. وكذلك لم يكن لليونان قسيسون يحتكرون هذا العلم ويقومون على حماية الدين وصيانته من عبث العابثين، أو إلحاد الملحدين، وإنما كان كل يوناني قادرًا على أن يؤدي للآلهة ما يجب لهم من عبادة. وكان زعيم الأسرة قسيسها، وكان زعماء المدينة كهنتها. وإذا لم يكن للدين لاهوت يفرضه على الناس فرضًا، وإذا لم يكن للدين هيئة قسيسين أو كهنة يحتكرون حمايته والقيام عليه، فخليق بهذا الدين أن يكون قليل الحظ من التعصب والجمود، وخليق بهذا الدين أن يكون قليل الحظ من مصادرة العقل ومخاصمة حرية الرأي والوقوف في سبيل التطور والرقي.

ومع هذا كله فقد اختصم هذا الدين الساذج اليسير مع الفلسفة وانتهت الخصومة بموت سقراط؛ ذلك لأن الخلاف بين العلم والدين لا يستمد قوته وعنفه من الفرق بين جوهري العلم والدين فحسب، وإنما يستمد قوته وعنفه من مصدر آخر، هو أن الدين حظ الكثرة، والعلم حظ القلة، فسواد الناس مؤمن ديَّان، مهما يختلف العصر والطور والمكان، والعلماء أو المفلسفون قلة دائمًا. فليس غريبًا أن تظهر الخصومة قوية عنيفة بين هذه القلة الشاذة التي نسميها العلماء أو الفلاسفة، والتي تفكر على نحو خاص لم يألفه الناس، وليس من اليسير عليهم أن يألفوه، والتي لا تكتفي بالتفكير لنفسها، وإنما تريد أن تفكر لنفسها وللناس أيضًا، والتي إذا فكرت وانتهى تفكيرها إلى رأي لم تكتفِ بإذاعته وترويجه، وإنما تذود عنه وتجادل، وتسرف في الذود والجدال. والتي لا تكتفي بهذا كله، وإنما تحرص على التأثر بتفكيرها وما ينتهي إليه من رأي، وتحرص على أن تلائم بين حياتها العملية وحياتها العقلية، فتمتاز من الناس من ناحيتين مختلفتين: تمتاز منهم في حياتهم اليومية، وتمتاز منهم في القول والتفكير. وأنت تعلم أن السواد أشد ما يكون كرهًا للتفوق، وأعظم ما يكون بغضًا للامتياز؛ فهو يريد دائمًا أن يكون الناس سواسية في كل شيء، سواسية في القول والعمل، سواسية في الأكل والشرب والنوم والمشي، وغيرها من مظاهر الحياة. وأنت مهما تبحث عن أسباب التطور التي اضطربت لها المدن القديمة ودالت لها الدول الحديثة، فستجد في مقدمة هذه الأسباب سببًا محققًا هو بُغض السواد للتفوق والامتياز، وطموحه إلى المساواة بين الناس. فإذا كان هذا التفوق يمس أصلًا من أصول الحياة العامة، بل يمس أيسر هذه الأصول وأقربها تناولًا وأشدها اتصالًا بالضمائر والنفوس وتأثيرًا في الحياة اليومية، نقول إذا كان التفوق يمس هذا الأصل الذي هو الدين، فخليق بالسواد أن يبغضه ويثور به، وينكِّل بالمتفوقين تنكيلًا متى استطاع إلى ذلك سبيلًا.

وكذلك كان ميل السواد في أتينا، وكذلك كان موقفه من سقراط وتلاميذه.

٣

على أن تقرير هذا الأصل، وهو بُغض السواد للجديد، لا ينتهي بنا إلى هذه النتيجة وحدها، وإنما يعيننا على فهم حقائق أخرى وقعت في العصور القديمة والوسطى، ولم يحاول الباحثون أن يردوها إلى أصولها الصحيحة، فالسواد لا يكره تفوق العلماء وحدهم، وإنما يكره التفوق من حيث هو. قل إن شئت إنه يكره كل جديد، وهو مضطر بحكم هذا الكره إلى أن يقاوم هذا الجديد ما استطاع، فإما أن ينتصر فلا جديد، وإما أن ينخذل فيتسلط الجديد شيئًا فشيئًا حتى يصبح قديمًا، ويستعير من خصمه الأول كل الأسلحة التي حاربه بها، ليدافع بها عن نفسه، ويناهض بها كل جديد. ومن هنا نستطيع أن نفهم أن السواد القديم اليوناني والروماني لم يحارب الفلسفة وحدها، وإنما حارب الدين أيضًا. فأما اليونان فقد وقفوا موقف الخصومة من ديانات شرقية حاولت أن تنبثَّ في بلادهم، ووفِّقوا بعض التوفيق في هذا الموقف، فلم تستطع الديانات الشرقية أن تنتشر في البلاد اليونانية جهرة، وإنما ارتدت عنها ارتدادًا أو انتشرت فيها خلسةً فكوَّنت لنفسها جماعات سرية تؤدي واجباتها من وراء ستار.

وأما الرومان فكرهوا في أول الأمر فلسفة اليونان أشد الكره؛ لقوها بالازدراء، ثم قاوموها مقاومة سياسية، فحظروا درسها، وبلغ بهم ذلك أن زعيمًا من زعمائهم هو «كاتو القديم» توسل إلى مجلس الشيوخ في أن يتعجل في قضاء حاجة لبعض السفراء اليونانيين ليترك هؤلاء السفراء المدينة ويستريح منهم سواد الشعب. وكان بين هؤلاء السفراء فلاسفة انتهزوا سفارتهم فرصة لإلقاء محاضرات فلسفية في روما. ولكن الرومان لم يكرهوا الفلسفة اليونانية وحدها، وإنما كرهوا معها كل جديدٍ أيضًا، وليس أدل على ذلك من اللفظ الذي اصطلح الرومان عليه للتعبير عن الثورة وقلب النظام فهو «الشيء الجديد». فهم لا يقولون إن فلانًا يريد أن يثور، أو إن فلانًا ثار، وإنما يقولون: إن فلانًا يريد أن يُحدِث شيئًا جديدًا. ذلك أن الرومان كانوا من أشد الشعوب القديمة في الغرب محافظةً وحرصًا على القديم. ومع أن دينهم لم يكن أشد من الدين اليوناني تعقيدًا، ومع أنه لم يكن كالديانات السماوية يعتمد على كلام أو لاهوت، فقد كان يمتاز من الدين اليوناني امتيازًا قويًّا من وجهين؛ الأول: أنه كان أشد من الدين اليوناني تسلطًا على حياة الفرد والجماعة، فقد كان الفرد الروماني من أشد الناس طيرةً واشفاقًا، يخاف من كل شيء، ويرى تأثير الآلهة في كل شيء، ويحرص على أن يتملقهم ويترضاهم. وكان وجود الأسرة نفسها قائمًا على أصول من الدين. وكانت الجماعة الرومانية كالفرد الروماني حَذِرة متطيِّرة، وكان وجودها السياسي كوجود الأسرة قائمًا على أصول ثابتة من الدين. ونحن لا نعرف عند اليونان زجرًا ولا عيافةً ولا قيافةً، ولكننا نرى هذا كله عند الرومان، ونراه مؤثِّرًا أشد التأثير في الحياة الخاصة والعامة جميعًا. الثاني: أن هذا الفرق بين الفرد اليوناني والروماني من حيث التأثر بالدين قد استتبع نتيجته الطبيعية، وهي أن تكون عناية السياسة بالدين ملائمة لشدة ما لهذا الدين من التأثير في نفوس الأفراد والجماعات، فنظمت حماية السياسة بالدين في روما تنظيمًا قويًّا، وقام في روما شيء يشبه «الإكليروس» له سلطته الدينية وله امتيازاته أيضًا.

وإذ كان رئيس الدولة سواء أكان ملكًا أو قنصلًا، إنما يستمد سلطته من الشعب بعد استشارة الآلهة، أو قل من الآلهة بعد استشارة الشعب، فقد كان الواجب الأول على الملك أو القنصلين حماية الدين. وكذلك قامت بحماية الدين في روما جماعة «الإكليروس» وهيئة الحكومة ومجلس الشيوخ الذي كان واجبه الأول حماية ما ترك الآباء. فلا تعجب إذا رأيت الرومانيين يقاومون الجديد مهما يكن، ويشتدون في مقاومته إذا مُسَّ الدين. ولا تعجب إذا رأيت الرومان في عصورهم الأولى يبغضون أشد البغض ويناهضون أشد المناهضة هذه الديانات الأجنبية التي حاولت أن تنبث في روما بعد أن انبسط سلطان روما على الأرض.

٤

كل هذا يرجع إلى أصل واحد، وهو أن الدين أقوى ما يمثل نفس السواد، فالسواد به كَلِف، وله محب، وعليه حريص، وعنه ذائد، يبذل في ذلك ما يستطيع من قوة وجهد. وقد قلت منذ حين إن حرص السواد على دينه لا يكلفه محاربة العلم والفلسفة وحدهما، وإنما يكلفه محاربة كل جديد من شأنه أن يمس الدين. ومن غريب الأمر أنك إذا فكرت قليلًا فيما تسميه خصومة بين العلم والدين، رأيت أن بعض الديانات أو أن الديانات السماوية نفسها قد كان يُنظر إليها كما يُنظر إلى العلم؛ أي إن الديانات القديمة كانت تكره دين اليهود والنصارى وتحاربهما كما كانت تكره فلسفة سقراط وتحاربها، لا لشيء إلا أن دينَي اليهود والنصارى كانا جديدين مخالفين لطبيعة هذه الديانات الوثنية القديمة. ولسنا في حاجة إلى أن نقف بك عند هذه الحرب المنكرة التي أثارتها وثنية الرومان على دين اليهود أولًا وعلى دين النصارى ثانيًا، فأنت تعرف من تفصيل هذه الحرب وعن اضطهاد الوثنية للهودية والنصرانية ما يغنينا عن مثل هذا الاستطراد، ولكننا نلاحظ أن الأسباب التي حملت الوثنية الرومانية على أن تنكر توحيد اليهود والنصارى وتنصب له الحرب وتمزق أهله تمزيقًا، هي بعينها الأسباب التي حملت وثنية اليونان في آخر القرن الخامس قبل المسيح على أن تقضي على سقراط وتذيقه الموت. هي بعينها الأسباب التي تتصل بعواطف السواد وميوله الدينية من ناحية، وبالسياسة واستخدامها لهذه العواطف والميول من ناحية أخرى. ولعلك تقتنع بهذا اقتناعًا لا يقبل الشك إذا فكرت في طبيعة الإمبراطورية الرومانية التي حاربت اليهودية والنصرانية قرونًا متصلة.

كانت هذه الإمبراطورية الرومانية تقوم على الدين كما كانت الديمقراطية الأتينية والأرستقراطية الرومانية تقومان على الدين أيضًا. وكان الإمبراطور قد جمع إليه السلطان الديني والسياسي، وأخذ الناس بعبادته في أقطار الأرض على أنه ممثل روما التي كانت تُعبد إبان العصر الجمهوري، وعلى أنه خليفة الله في أرضه. وكانت الشعوب الوثنية الخاضعة للسلطان الروماني لا ترى بأسًا بعبادة قيصر، كما أنها لم تكن ترى بأسًا بعبادة روما. وكانت عبادة قيصر يسيرة على الشعوب الشرقية، وعلى المصريين منهم بنوعٍ خاص، وقد أَلِفت هذه الشعوب منذ أول الزمان عبادة السادة الملوك. وكانت هذه العبادة عسيرة أول الأمر على اليونانيين الذين لم يألفوا من قبل عبادة الأفراد، والذين ضحكوا من الإسكندر حين تقدم إليهم أن يعبدوه. ولكن اليونان خالطوا الأمم الشرقية واتصلوا بها، وكان لهم فيها ملوك عُبدوا كما عُبد الفراعنة وعظماء الفرس، فهان عليهم الأمر ومضوا فيه جادين حينًا ولاعبين حينًا آخر كدأبهم في كل شيء. إنما هذا الشعب السامي الذي بعُد عهده بالوثنية منذ حين طويل، والذي أَلِف التوحيد وأمعن فيه، وهو شعب إسرائيل، لم يستطيع أن يفهم عبادة روما ولا عبادة قيصر، كما أنه لم يستطع أن يفهم عبادة فرعون ولا أن يدين لآلهة بابل وآشور. ومن هنا كانت ديانة هذا الشعب السامي منكَرة ثقيلة على الرومان لأنها تخالف ديانتهم الوثنية وتخالف سياستهم القائمة على هذه الديانة. وجاءت النصرانية فكانت أشد مخالفة لطبيعة الوثنية ولطبيعة السياسة القائمة عليها من اليهودية، فلم يتردد قياصرة الرومان في محاربة هذه النصرانية إلا ريثما فهموا خطرها على السياسة والدين. ولدينا أقدم نص تاريخي يتصل باضطهاد النصارى، وهو استفتاء من أحد حكام الأقاليم للإمبراطور «تراجانوس»، آخر القرن الأول للمسيح، في أمر هذه المتنصرة وما ينبغي أن يُتخذ نحوها من سياسة، وقد اعتاد المؤرخون أن يثنوا على هذا الإمبراطور؛ لأن رده على مستفتيه كان رفيقًا لينًا، ومع ذلك فإن الإمبراطور لم يطلب إلى مستفتيه أن يقر حرية الدين، ولا أن يدع المتنصرة، وإنما طلب إليه ألا يحفل بما يرفع إليه الجواسيس، فأما معاقبة النصراني الذي تثبت نصرانيته فلم يكن منهما بد؛ لأن النصرانية كانت خروجًا على السياسة وعلى دين الدولة معًا.

وعلى هذا النحو من تعاون السواد وحكومة السواد، أو قل على هذا النحو من استغلال السياسة لعواطف السواد سُفكت دماء النصارى في الشرق والغرب.

وامضِ بعد ذلك في تاريخ النصرانية، فسترى أنها صبرت وصابرت وجاهدت حتى كان لها النصر، وأصبحت في القرن الرابع ديانة الدولة الرومانية، فلم تظفر بهذه المكانة السياسية حتى استغلتها فأسرفت في استغلالها، وسفكت دماء الأتينيين، وهدمت معابدهم وصادرت أموالهم كما سفك الوثنيون دماء النصارى وهدموا بيعهم وصادروا أموالهم. ومنذ ذلك الوقت كانت محالفة بين الوثنية والفلسفة، لا لشيء إلا لأن هذه الفلسفة قديمة كالوثنية، مخالفة لطبيعة المسيحية كما أن الوثنية مخالفة لهذه الطبيعة. فأنت ترى أن الفلسفة كانت عدو الوثنية ولقيت منها ألوان الاضطهاد. وأنت ترى أن الفلسفة هي التي أعانت على إعداد الشعوب القديمة للمسيحية وترقية العقل القديم والمباعدة بينه وبين الوثنية، ولكنك ترى أن المسيحية لم تكد تظفر بالسلطان حتى أنكرت العدو والصديق، ونصبت الحرب للوثنية والفلسفة معًا. وأنت تعلم أن الأمر انتهى بالفلسفة إلى أن التمست لها دارًا لا يتسلط فيها المسيح، فهاجرت إلى الفُرس واستظلت بلواء الساسانين. وعندنا أن المسيحية لو لم تظفر بسلطانها السياسي لما خاصمت الفلسفة ولما تورطت فيما تورطت فيه من الجحود وإنكار الجميل. فهي مدينة بكثير للأفلاطونية القديمة، وهي مدينة بكثير للأفلاطونية الجديدة. ويخيَّل إلينا أن طبيعة المسيحية الخالصة، وطبيعة الأفلاطونية الخالصة، لم يكن بينهما من الخلاف ما ينتهي بهما إلى الخصومة والحرب، لولا أن السياسة قد دخلت بينهما فأفسدت الأمر عليهما جميعًا.

٥

بل في الأمر ما هو أشد غرابة من هذا كله، فقد وقعت نفس هذه الخصومة بين الديانات السماوية السامية نفسها وعلى النحو الذي وقعت به بين هذه الديانات وبين الديانات الوثنية القديمة. نريد أن الديانات اليهودية اعتبرت المسيح مجددًا مبتدعًا فأنكرته، ونصبت له الحرب على نفس النحو الذي أنكر الأتينيون به سقراط ونصبوا له الحرب. ونريد أن نقول إن المسيحية بعد انتصارها قد اعتبرت النبي مجددًا فأنكرته ونصبت له ولدينه الحرب. وكل ما بين الإسلام والمسيحية من الفرق من هذه الناحية، هو أن المسيحية لبثت حينًا طويلًا لا تعتز بالسلطان السياسي، فطال اضطهادها ولقيت ما لقيت من بلاء، وأن الإسلام لم يلبث بعيدًا عن السلطان السياسي إلا أعوامًا ريثما تمت الهجرة، فما كاد يظفر بهذا السلطان حتى دافع عن نفسه فناهض الوثنية واليهودية والنصرانية، وكان النصر له آخر الأمر.

فالخصومة في حقيقة الأمر ليست بين العلم والدين، ولا بين الوثنية واليهودية والنصرانية والإسلام، ولا هي بين دين ودين، وإنما هي أعم من ذلك وأيسر، هي بين القديم والجديد، هي بين السكون والحركة، هي بين الجمود والتطور. وإلا فكيف تستطيع أن تفهم أن يلقى سقراط والمسيح ومحمد — عليهما السلام — اضطهادًا من نوعٍ واحد؟ وكيف تستطيع أن تفهم أن يتشابه موقف الوثنية والمسيحية واليهودية على اختلاف الأمكنة والأزمنة وأجيال الناس وطبائع جنسياتهم؟ كيف تستطيع أن تفهم تشابه هذه المواقف جميعًا، إذا لم تردَّها إلى أصل واحد، وهو الخصومة بين القديم والجديد، أو استغلال السياسة للخصومة بين القديم والجديد؟ وما الذي كان بعد أن تم النصر للإسلام في ناحية من أنحاء الأرض، وانقسم العالم القديم بينه وبين النصرانية، فاستأثر الإسلام بالشرق واستأثرت المسيحية بالغرب.

نحب أن تفكر في الأمر تفكيرًا علميًّا مجردًا من الهوى مبرأً من الغرض، لا يتأثر بالعصبية الجنسية ولا الدينية، فسترى أن الأمر قد سار في الشرق والغرب على أسلوب واحد، فلم يكد الإسلام ينتصر ويستقر في الأرض، ويظفر بالسلطان السياسي ويفرغ من الحرب والفتوح، حتى كره ملوكُهُ الجديدَ، وأكثروا الحرص على القديم، واستغلوا ميل العامة إلى القديم وحرصهم عليه، واتخذوا هذا الاستغلال وسيلة إلى الحكم والتسلط، فأنكروا كل جديد وحاربوه. وعلى هذه النحو سارت المسيحية في أوروبا. وكان لأصحاب الدينَيْن صرعى في الشرق والغرب، وكان العلم موضع الاضطهاد في هذين القطرين من الأرض. ولكن هنا وقفة يجب أن نقفها لنكون منصفين، فالحق أن ليس في طبيعة الإسلام ولا في طبيعة المسيحية ما يدعو إلى الاضطهاد ولا إلى محاربة الجديد ولا إلى مناهضة حرية الرأي. ولك أن تقرأ القرآن والأناجيل وتمعن في القراءة، ولك أن تبحث وتمعن في البحث، فلن تجد نصًّا أو شبه نص ينكر التجديد ويدعو إلى مناهضته، أو يأخذ العقول بالجمود أو يحظر عليها حرية الرأي قليلًا أو كثيرًا، ليس في الإسلام ولا في المسيحية إذن ما يدعو إلى مناهضة حرية الرأي، لم يكن في الوثنية اليونانية أو الرومانية ما يدعو إلى مناهضة حرية الرأي أيضًا. ومع ذلك فقد أثم الوثنيون وأثم اليهود والنصارى والمسلمون، واعتدوا جميعًا على حرية الرأي اعتداءً يختلف قوةً وضعفًا.

أليس مصدر هذا في حقيقة الأمر إنما هو استغلال السياسة لعواطف السواد؟ بلى، ولولا أن السياسة تريد أن تتخذ ما تستطيع من الطرق والوسائل لتتسلط على نفوس الناس وتتملق عواطف السواد، لما قتل الأتينيون سقراط، ولما حاول اليهود صلب المسيح، وما سفك الرومان دماء اليهود والنصارى، ولما أخرجت قريش محمدًا وأصحابه من ديارهم، ولما عُذِّب ابن رشد و«جليلي»، ولما حُرِّق من حرق وشُرِّد من شرد من العلماء والمفكرين.

وشيء آخر لا بد من إثباته لنكون منصفين، وهو أن تبعات المسيحيين أثقل من تبعات المسلمين في مناهضة العلم ومحاربة حرية الرأي، فأنت تستطيع أن تعد العلماء والمفكرين الذين أوذوا في البلاد الإسلامية، وأنت تستطيع أن تلاحظ أنهم قليلون جدًّا، وأن تلاحظ أيضًا أنهم لم يلقوا من الأذى إلا قليلًا. ولكن تستطيع أن تعد العلماء والمفكرين الذين أوذوا في ظل المسيحية، فستراهم كثيرين جدًّا، وسترى أنهم لقوا من الأذى ألوانًا منكرة أخفها السجن، وأقساها الموت والعذاب بين هذين اللونين. ومصدر هذا أن الإسلام حر طلق ليس له ما للمسيحية من «الإكليروس» والكنيسة المنظمة، وأن الإسلام حر طلق أيضًا لا يأخذ العقل الإنساني بما لا يُطيق، ولا يُكرهه على الإيمان بما لا يفهم، ولا يضع أمامه الأسرار التي يجب أن يقبلها دون رؤية أو تفكير. ومصدر ذلك أيضًا أن الإسلام حر طلق لم يجعل للحكومة على الناس سبيلًا فيما يفكرون ويرون، وإنما اتخذ هذه القاعدة السمحة أساسًا لسياسته بإزاء حرية الرأي: لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ وهو إذن لم يمنح السلطة السياسية على الناس حق الموت والحياة، وإنما بيَّن حدود الله تبيينًا وعرَّف الأفراد حقوقهم وواجباتهم، ورسم للحكومة في هذا الوجه طريقًا لا تعدوه حتى تأثم. فليس للحكومة المسلمة أن تعذب مسلمًا أو تؤذيه وهو يعلن إيمانه بالله ورسوله، وإنما موقف الحكومة المسلمة موقف الإسلام نفسه لا تتحرك إلا حين يتعرض الإسلام للخطر. هو موقف دفاع لا موقف هجوم؛ ومصدر ذلك أيضًا أن الإسلام من أشد الديانات نصرًا للتجديد ونعيًا على الذين يسرفون في نصر القديم، وكثيرة جدًّا في القرآن هذه الآيات التي تسخر من المشركين الذين عاصروا النبي أو لم يعاصروه؛ لأنهم أبوا الإجابة إلى دين الله حرصًا على القديم وكراهةً أن يعبدوا ما لم يكن يعبد آباؤهم.

كل هذا جعل الحكومة الإسلامية وعلماء الدين من المسلمين أقل ميلًا إلى الاضطهاد وأشد احترامًا لحرية الرأي من الحكومات المسيحية ورجال الدين من المسيحيين. وقد يكون من الخير أن نلاحظ أن المسلمين لم يعرفوا اضطهادًا لحرية الرأي في عصورهم الأولى، حين كانت الحكومة عربية خالصة منصرفة إلى الشئون السياسية وحدها، غير متدخلة في حياة الأفراد ولا فيما يرون. فلسنا نعرف أيام الخلفاء الراشدين اضطهادًا لحرية الرأي، ولسنا نعرف شيئًا من ذلك أيام بني أمية، مع أن البدع ظهرت وكثرت في هذه الأيام؛ ذلك لأن الحكومة في تلك العصور كانت عربية خالصة، والعربي حرٌّ بطبعه، ولأن الحكومة في تلك العصور كانت قريبة إلى الأصول الإسلامية الخالصة، وأصول الإسلام حرة بطبعها، فلما كان عصر بني العباس، وتسلطت على المسلمين حكومة عربية في ظاهر الأمر، أعجمية في حقيقته، ظهرت الخصومة بين العلم والدين، وظهر اضطهاد الحكومة لحرية الرأي، فكان ما كان من تتبع الزنادقة أول أيام بني العباس، على أن الزنادقة كانوا يتحدَّوْن الإسلام حقًّا ويحاولون الإفساد في الأرض أحيانًا. ثم كان ما كان من تتبع الذين يخالفون رأي الخليفة في الدين، وفتنة الناس في آرائهم أيام المأمون، ثم كان ما كان من تسلط الترك وتسلط الجمود معهم على الحياة الدينية والعقلية. فأنت ترى معي أن الإسلام والمسيحية بريئان من اضطهاد الرأي ومناهضة العلم، وأن إثم ذلك واقع حقًّا على السياسة التي تدخلت بين الدين والعلم أو بين السواد والعلماء. ولما كان حظ رجال الدين المسيحي من سلطان السياسة أعظم من حظ رجال الدين الإسلامي، كان اعتداء «الإكليروس» المسيحي على الحرية أشد خطرًا وأبعد أثرًا.

٦

ولك الآن أن تعكس الأمر، فإن الدين لم يعتدِ وحده على العلم، بل اعتدى العلم على الدين أيضًا حين آل إليه السلطان. وقد رأيت أن المسيحية اعتدت على الوثنية وحاربتها بنفس الأسلحة التي حاربتها الوثنية بها. وقد رأيت أنَّا لا نرى الخصومة بين العلم والدين من حيث هما علم ودين، وإنما نراها واقعة بين القديم والجديد من حيث هما قديم وجديد. ولو أن سواد الناس عني بالمسائل اللغوية والأدبية عنايته بمسائل الدين، لكان من المجددين في اللغة والأدب صرعى وشهداء كما كان من المجددين في العلم والدين والفلسفة. ونحن نرى في أول هذا العصر الحديث حركة تدعو إلى حرية الرأي وإلى التجديد في كل شيء في العلم والأدب والفلسفة والدين. فأما المظهر الديني لهذه الحركة فالبروتستانتية، وأما المظر العلمي فحياة «جليلي» و«كوبرنيك» ومن إليهما من العلماء. وأما المظهر الفلسفي فحياة «ديكارت» و«باكون» و«ولبنينز» و«سبينوزا» ومن إليهم. وأما المظهر الأدبي والفني فكل هذه الحركة القوية الخاصة التي نلحظها في إيطاليا ثم في فرنسا ثم في إنجلترا، والتي أخرجت من أخرجت من الشعراء والكتَّاب والمصورين والمثَّالين. نرى هذا كله ولكننا لا نرى الحرب بين القديم والجديد عنيفة تنتهي إلى سفك الدماء، لا في المظهر الديني الخالص، أو في ما يكون من الخصومة بين المظهر الديني والمظهر العلمي الفلسفي.

فأنت تعلم ما سُفك من الدماء بين الكاثوليك والبروتستانت، وأنت تعلم ما لقي العلماء والفلاسفة من أذى رجال الدين، وأنت تعلم أن ديكارت إنما آثر حياته في هولندا — كما يقول رينان — لأن الناس كانوا عنه في شغل بتجارتهم. وإذن فلا بد من أمرين لتكون الخصومة بين العلم والدين، أو بين الحرية والدين، عنيفة منكرة؛ أحدهما أن يُعنى السواد بهذه الخصومة، والثاني أن تستغل السياسة عناية هذا السواد. ولولا أن السواد عني بالخصومة بين الكاثوليكية والبروتستانتية وبالخصومة بين العلم والدين، ولولا أن السياسة اعتزت بهذا السواد لما سُفك دم ولا حرِّق عالم ولا أوذي فيلسوف. على أن البروتستانتية قاومت حتى كان لها النصر، واستأثرت بجزء عظيم من أوروبا، وعلى أن العلم والفلسفة قاوما حتى كان لهما النصر، واستأثرا بالعقول في أوروبا أثناء القرن الثامن عشر. وليس هنا موضع البحث عن الأسباب التي أتاحت للعلم والفلسفة الاستئثار بعقول كثير من سواد الناس أثناء هذا القرن الثامن عشر. ولكن هناك حقيقة واقعة لا تقبل الشك، وهي أن العقل الأوروبي تطور في هذا العصر تطورًا شديدًا غريبًا، فنصب الحرب لهذين الحليفين اللذين أذلاه حينًا، وهما السياسة الملكية والكنيسة الكاثوليكية، نصب الحرب لهذين الحليفين، واعتز في حربه هذه بالعلم والفلسفة، وظل يجاهد حتى كانت الثورة الفرنسية. وهنا انعكست الآية، وأثم العلم والفلسفة، أو قل أثم أصحاب العلم والفلسفة كما أثم أصحاب الدين من قبل، فاضطُهد الدين اضطهادًا شديدًا، ولقي رجال الدين ضروبًا من المحن والفتن، وكان الذين يفتِنون رجال الدين ويمتحنونهم هم أولئك الذين كانوا متأثرين بفسلفة «فولتير» و«مونتسكيو» و«جان جاك روسو» و«ديدرو» وغيرهم.

وكان قوام هذه الفلسفة من الوجهة العملية والنظرية إنما هو الدعوة إلى حرية الرأي وإلى التسامح؛ فما بال هذه الفلسفة التي كانت تدعو إلى الحرية والتسامح قد استحالت عدوًّا للحرية والتسامح. أما الفلسفة نفسها فلم تتغير، ولم تنكر الحرية ولم تنصب لها الحرب. وإنما ذنبها وإثمها أنها ظفرت بعد الثورة الفرنسية بالمكانة السياسية الرسمية، فطغت أو طغى أصحابها وأسرفوا في الطغيان. أمرها من ذلك كأمر المسيحية، كانت تُعذَّب وتُضطَهد وتدعو أثناء ذلك إلى الحرية والتسامح، حتى إذا أصبحت دين الدولة طغى أصحابها وأسرفوا في الطغيان. فالإثم في حقيقة الأمر ليس إثم الدين ولا إثم العلم ولا إثم الفلسفة، وإنما هو إثم هذه الدخيلة التي تتوسط بين هذين العدوين فتسلِّح أحدهما على الآخر وتستغل هذا لمنفعتها الخاصة.

وفي الحق أني أحاول أن أفهم كيف يستطيع الدين أو العلم أن يعتدي على الحرية العلمية أو الدينية إذا لم تمدَّه السياسة بالذخائر والسلاح، فلا أجد إلى هذا الفهم سبيلًا. تصوَّر بلدًا وقفت السياسة فيه موقف الحيدة المطلقة بين العلم والدين، فكفَّت أيدي الناس عن الناس، وأقرَّت الأمن في نصابه، وتركت للعلم حريته، وللدين حريته، فما الذي يمكن أن يقع من العنف بين العلماء ورجال الدين؟ لا شيء إلا الخصومة الكلامية، لا شيء إلا المناقشة والجدل، ومن الذي يستطيع أن يرى شرًّا في المناقشة أو الجدل؟

٧

سنظن بعد أن نقرأ هذا كله أنَّا لا نرى الخصومة قوية بين العلم والدين نفسهما، وإنما نرى أن السياسة تستغلهما لمنفعتها، ولو تركتهما لتصافيا وائتلفا … كلا! نحن لا نرى هذا الرأي، وإنما نرى ما قلناه في أول هذا البحث من أن الخصومة بين العلم والدين أساسية جوهرية لا سبيل إلى اتقائها ولا إلى التخلص منها. هي أساسية جوهرية لأن العلم والدين لا يتصلان بملكة واحدة من ملكات الإنسان، وإنما يتصل أحدهما بالشعور ويتصل الآخر بالعقل، يتأثر أحدهما بالخيال ويستأثر بالعواطف، ولا يتأثر الآخر بالخيال إلا بمقدار ولا يُعنى بالعاطفة إلا من حيث هي موضوع لدرسه وتحليله. والخصومة بين العلم والدين أساسية جوهرية؛ لأن الدين أسنُّ من العلم، ولأنه كان في العصور القديمة كل شيء: كان دينًا وكان علمًا، ولأن العلم جاء بعد ذلك فغيَّر هذا القسم العلمي من الدين، وأبى الدين أن يذعن لهذا التغيير، وأبى العلم أن ينزل عما ظفر به من الثمرات. فلن يتفقا إلا إذا جحد أحدهما شخصيته كما قلت في غير هذا المكان.

والخصومة بين العلم والدين أساسية جوهرية؛ لأن الدين يرى لنفسه الثبات والاستقرار، ولأن العلم يرى نفسه التغير والتجدد، فلا يمكن أن يتفقا إلا أن ينزل أحدهما عن شخصيته.

والخصومة بين العلم والدين أساسية جوهرية؛ لأن أحدهما عظيم جليل، واسع المدى بعيد الأمد، لا حد له ولا انتهاء لموضوعه، ولأن الآخر متواضع ضئيل محدود المطامع بطيء الخطى يقدم ثم لا يكره أن يحجم، ويمضي ثم لا يكره أن يرتد، ويبني ثم لا يتحرج من الهدم، فلا يمكن أن يتفقا إلا أن ينزل أحدهما عن شخصيته.

فالخصومة بينهما أمر لا بد منه. ولكن المسألة في حقيقة الأمر ليست في أن الخصومة واقعة أو غير واقعة، وإنما هي في أن الخصومة ضارة أو نافعة، أو بعبارة أدق: المسألة هي أن نعرف هل كُتب على الإنسانية أن تشقى بالعلم والدين، أم هل كتب على الإنسانية أن تسعد بالعلم والدين؟ أما نحن فنعتقد أن الإنسانية تستطيع أن تسعد بالعلم والدين جميعًا، وأنها ملزمة إذا لم تستطع أن تسعد بهما أن تجتهد في ألا تشقى بهما. وسبيل ذلك عندنا واضحة، وهي أن يُنزع السلاح — كما يقولون — من يد العلم والدين، أو قل سبيل ذلك أن ترغم السياسة على أن تقف موقف الحيدة من هذين الخصمين. فالعلم في نفسه لا يريد ولا يستطيع الأذى، والدين في نفسه لا يريد ولا يستطيع الأذى، ولكن السياسة تريد وتستطيع الأذى غالبًا. وهي كما قلت تتخذ العلم حينًا وسيلة إلى هذا الأذى وتتخذ الدين حينًا آخر وسيلة إليه. وهَبْ السياسة لم تُطِع رجال الدين ولم تشترِ نفوسهم وضمائرهم، ولم تهيئ لهم من أسباب الرغد والنعيم ما يصرفهم عن الله، ويجعل الدين في أيديهم سلعًا تباع وتشترى، أو هَبْ السياسة لم تفسد نفوس العلماء وضمائرهم وأخلاقهم، ولم تشترِهم بالمناصب وأسباب السلطان، ولم تمنحهم من أسباب الرغد والنعيم ما يحوِّلهم عن البحث العلمي الهادئ، إلى هذه الخصومة العنيفة العقيمة. هَبْ السياسة لم تشغل أولئك ولا هؤلاء، ولم تمكن السواد من أن ينتصر لأولئك أو هؤلاء، فماذا تكون النتيجة؟ تكون أن يمضي رجال الدين في حياتهم الدينية، ورجال العلم في حياتهم العلمية، وأن ينصرف السواد إلى حياته العملية المنتجة منتفعًا بالدين فيما بينه وبين الله، منتفعًا بالعلم في تدبير شئونه اليومية، وأن تزول هذه الخصومات المنكرة التي تقسم الناس شيعًا وأحزابًا، وتغري بعضهم ببعض وتجعل بعضهم لبعضٍ عدوًّا، وتبث فيهم ألوان الرذيلة وحب الكيد والوقيعة، وما إليها من الرذائل الفاحشة. وهل تظن أن وقف السياسة هذا الموقف شيء عسير حقًّا؟ كلا! قد كان عسيرًا قبل هذا العصر الحديث حين لم يكن بدٌّ للحكومة من أن تستغل الدين أو من أن تستغل العلم. فأما هذا العصر الذي نحن فيه فقد استطاعت السياسة أن تستقل وأن تمشي على قدميها دون أن تعتمد على عصا دينية أو علمية؛ ذلك لأن فكرة الوطنية وما يتصل بها من المنافع الاقتصادية والسياسية الخالصة قامت الآن في تكوين الدول وتدبير سياستها مقام فكرة الدين، أو مقام هذه النظريات الفلسفية الميتافيزيقية التي كانت تقوم عليها الحكومة من قبل. وأين هي الحكومة التي تستطيع الآن أن تزعم أنها تقوم على الدين أو أنها تقوم لحماية الدين، أو أنها تقوم على أساسٍ ما من هذه الأسس الفلسفية المختلفة: حماية الواجب أو حماية الحق أو حماية العدل؟ أين هي الحكومة التي تستطيع أن تجهر بشيء من ذلك دون أن يضحك منها الناس جميعًا، وأن يكون رعاياها أول الضاحكين؟ أتستطيع الحكومة المصرية مثلًا أن تزعم أنها إنما تقوم على الإسلام وبالإسلام وللإسلام؟ كلا. كما أن الحكومة الفرنسية لا تستطيع أن تزعم أنها إنما تقوم على المسيحية وبالمسيحية وللمسيحية. ومع ذلك فقد كانت مصر موئل الإسلام في جميع عصورها الإسلامية! ومع ذلك فقد كان ملوك فرنسا يُلقِّبون أنفسهم أصحاب الجلالة المسيحية! ومع ذلك فقد كان ملوك مصر وسلاطينها يعاهدون ملوك أوروبا باسم المسلمين ويزعمون لأنفسهم حماية بيت المقدس والحرمين الشريفين! ومع ذلك كان ملوك فرنسا يعاهدون دول الشرق الإسلامي باسم المسيحية، ويزعمون لأنفسهم حماية المسيحية في بلاد الإسلام!

كان هذا كله، ولكن هذا كله قد تغيَّر، فمصر لا تستطيع أن تزعم أنها حامية بيت المقدس أو الحرمين الشريفين، أو أنها الناطقة بلسان المسلمين الذائدة عن حوض الإسلام. بل لست أدري أتستطيع مصر الآن أن تزعم أنها تحمي الإسلام في أقطارها الخاصة ولا تتجاوز حدوده عمدًا أو كرهًا؟ ولا تستطيع فرنسا أن تزعم لنفسها حماية المسيحية في الأقطار الإسلامية، بل لا تستطيع أن تزعم لنفسها حماية المسيحية في أقطارها الخاصة. لا تقوم الحكومة المصرية الحديثة ولا الحكومة الفرنسية الحديثة على أساس من دين ولا من علم ولا من فلسفة، وإنما تقوم الحكومة الحديثة في أقطار الأرض المتحضرة الآن على أساس سياسي خالص من المنفعة الاقتصادية والمدنية لا أكثر ولا أقل. وقد فرغ الناس من هذا وأصبحوا لا يفكرون في أن الحكومة تقوم على الدين أو لا تقوم عليه، فإن فكروا في صلة بين الدين والحكومة — وهذا قليل نادر — فإنما يفكرون في طبيعة الموقف الذي يجب أن تقفه الحكومة الحرة الصالحة من دين الكثرة والقلة. أتعترف بهذه الديانات أم تنكرها أم تجهلها في غير اعتراف ولا إنكار؟

٨

نعم إن دستورنا المصري قد نص في صراحة أن الإسلام دين الدولة، وكان هذا النص مصدر فرقة، لا نقول بين المسلمين وغير المسلمين من أهل مصر، فقد رضيت القلة المسيحية وغير المسيحية هذا النص ولم تحاور فيه، ولم ترَ فيه على نفسها مضاضةً أو خطرًا، وإنما نقول إنه كان مصدر فرقة بين المسلمين أنفسهم، فهم لم يفهموه على وجه واحد ولم يتفقوا في تحقيق النتائج التي يجب أن تترتب عليه. فأما عامة الناس فلم تلتفت إلى هذا النص ولم تحفل به، وأكبر ظننا أنها ما كانت لتشعر بشيء لو لم يوجد هذا النص في الدستور؛ فعامة الناس في مصر منصرفون بطبعهم إلى حياتهم العملية، مستعدون أحسن الاستعداد وأقواه للاتصال بأزمنتهم وأمكنتهم وللملاءمة بين حياتهم وبين ضرورات التطور، وهم يعلمون أن الإسلام بخير، وأن الصلوات ستقام، وأن رمضان سيصام، وأن الحج سيؤدى، وهم يذهبون في القيام بواجباتهم الدينية مذهب غيرهم من الناس المعتدلين، لا هم بالمسرفين في التدين، ولا هم بالمسرفين في العصيان والفسوق. فسواء عليهم أنصَّ الدستور أم لم ينص أن الإسلام دين الدولة، وسواء عليهم أسيطرت الحكومة أم لم تسيطر على شعائر الدين، ما دامت هذه الشعائر قائمة محترمة.

إنما وقعت الفرقة حول هذا النص بين فريقين من المسلمين المصريين: أحدهما المستنيرون المدنيون، والآخر شيوخ الأزهر ورجال الدين. فأما المستنيرون فقد فهموا أن الدستور حين ينص أن الإسلام دين الدولة، لا يريد أن يعلن احترامه لدين الكثرة وما توارثت من تقاليد، ويكلف الحكومة مقدارًا قليلًا من الواجبات التي تتصل بهذه التقاليد، فلما أرادوا تحليل هذا كله فهموا أن هذا النص لا يزيد على تقرير الواقع من أن رئيس الدولة في مصر يجب أن يكون مسلمًا، ومن أن شعائر الإسلام يجب أن تقام بعد صدور الدستور، كما كانت تقام قبل صدوره، فلا تُغلق المساجد، ولا يعطَّل الحج، ولا تعمل الحكومة في أيام الأعياد الإسلامية، ولا ينقطع إطلاق المدافع في رمضان، ولا يُلغى الحفل بالمحمل، ولا الحفل بالمولد النبوي، ولا تُنفَق أموال الأوقاف الإسلامية في غير ما رصدها له الواقفون، ولم يخطر لهؤلاء المستنيرين في يوم من الأيام أن هذا النص سيكلف الحكومة واجبات جديدة دينية، أو أنه سيُحدث في الدولة نظمًا لم يكن لها بها عهد من قبل؛ ذلك لأنهم كانوا وما يزالون يقدِّرون أن مصر تمضي إلى الأمام وتسرع في الاتصال بالمدنية الغربية، وتريد أن تحقق ما قال إسماعيل من أنها جزء من أوروبا. ولأنهم كانوا وما يزالون يقدِّرون أن في الإسلام من اللين والمرونة ما يمكِّنه من التطور مع الزمن وملاءمة الظروف المختلفة، ويعصمه من الجمود والسكون، ويحول بينه وبين أن يكون عقبة في سبيل الرقي الاجتماعي والاقتصادي، ولأنهم كانوا وما يزالون يقدِّرون أن حكومة مصر قد اضطرت بحكم هذه الحياة الحديثة إلى أن تأتي من الأمر ما لم يكن يبيحه الإسلام من قبل، فهي تعامل المصارف، وتنظِّم الربا، وتبيح ألوانًا من المعصية، بل تستغلها أحيانًا. فإذا كان نص الدستور أن الإسلام دين الدولة يدل على معناه حقًّا، فلا أقل من تغيير كل هذه المحادثات، ولا أقل من أن يغير نصوصًا تكفل حرية الرأي وتبيح للناس أن يلحدوا، وتسوي بين المسلم وغير المسلم في الحقوق والواجبات، وما كان الإسلام ليبيح الإلحاد ولا ليسمح للملحد أن يعلن إلحاده وخروجه على الدين، وأحكام المرتد معروفة في الإسلام، وما كان الإسلام ليسوي بين المسلم وغير المسلم في بلد يكون هو فيها الدين الرسمي.

فهم المستنيرون هذا كله، ولم يعارضوا في هذا النص حين أعلنت لجنة الدستور أنها ستضعه في الدستور، بل همَّ فريق منهم أن يعارض لأنه خشي أن يُفهم هذا النص على غير وجهه، فما زالوا به حتى كفوه عن المعارضة، واضطروه إلى السكوت، وقالوا: نصٌّ فيه إرضاء لعاطفة السواد وطمأنة للشيوخ فهو لا يضر، وأكبر الظن أن قد يفيد.

ولكن الشيوخ فهموا هذا النص فهمًا آخر، أو قل إنهم فهموه كما فهمه غيرهم، ولكنهم تكلفوا أن يُظهروا أنهم يفهمونه فهمًا آخر، واتخذوه تكأة وتعلَّة يعتمدون عليها في تحقيق ضروب من المطامع والأغراض السياسية وغير السياسية. فهموا أن الإسلام دين الدولة؛ أي إن الدولة يجب أن تكون دولة إسلامية بالمعنى القديم حقًّا؛ أي إن الدولة يجب أن تتكلف واجبات ما كانت تتكلفها من قبل. وعلى ذلك أخذوا يطالبون بأمور ما كانوا يطالبون بها قبل الدستور، وذهب فريق منهم على رأسه نفر من هيئة كبار العلماء إلى أبعد حد ممكن، فكتبوا يطلبون ألا يصدر الدستور لأن المسلمين ليسوا في حاجة إلى دستور وضعي ومعهم كتاب الله وسنة رسول الله، وذهب بعضهم إلى أن طلب إلى لجنة الدستور أن تنص أن المسلم لا يكلَّف القيام بالواجبات الوطنية إذا كانت هذه الواجبات معارضة للإسلام، وفسروا ذلك بأن المسلم يجب أن يكون في حِلٍّ من رفض الخدمة العسكرية حين يكلَّف الوقوف في وجه أمة مسلمة كالأمة التركية مثلًا. ولكن هذه المطالب كلها أُهملت إهمالًا ومضت لجنة الدستور في عملها حتى أتمته والشيوخ فيها ممثلون. وليس هنا موضع التعريض أو التصريح بما كان للشيوخ من سعي أثناء إعداد الدستور وقبل صدوره، ولكنا نكتفي بأن نلاحظ أنهم أو بأن كثرتهم لم تكن تبتسم للدستور حقًّا. وصدر الدستور وابتهج به الناس جميعًا، واطمأن إليه الناس جميعًا، إلا الشيوخ، فإنهم لم يكتفوا بقبول الدستور والرضا بما فيه من المساواة والحريات المكفولة، بل استغلوه استغلالًا منكرًا في حوادث مختلفة، أهمها حادثة «الإسلام وأصول الحكم»، وحادثة كتاب «في الشعر الجاهلي»، وإليك نظرية الشيوخ في استغلال هذا النص الذي ما كان يفكر واحد من أعضاء لجنة الدستور في أنه سيستغل وسيخلق في مصر حزبًا خطرًا على الحرية، بل خطرًا على الحياة السياسية المصرية كلها. يقول الشيوخ إن الدستور قد نص أن الإسلام دين الدولة، ومعنى ذلك أن الدولة مكلفة بحكم الدستور حماية الإسلام من كل ما يمسه أو يعرضه للخطر، ومعنى ذلك أن الدولة مكلفة أن تضرب على أيدي الملحدين وتحول بينهم وبين الإلحاد أو تحول بينهم وبين إعلان الإلحاد على أقل تقدير. ومعنى ذلك أن الدولة مكلفة أن تمحو حرية الرأي محوًا في كل ما من شأنه أن يمس الإسلام من قريب أو بعيد، سواء أصدر ذلك عن مسلم أو عن غير مسلم.

ومعنى ذلك أن الدولة مكلفة بحكم الدستور أن تسمع ما يقوله الشيوخ في هذا الباب، فإذا أعلن أحد رأيًا أو ألَّف كتابًا، أو نشر فصلًا، أو اتخذ زيًّا، ورأى الشيوخ في هذا كله مخالفة للدين ونبهوا الحكومة إلى ذلك، فعلى الحكومة بحكم الدستور أن تسمع لهم وتعاقب من يخالف الدين أو يمسه: بالطرد أولًا إن كان موظفًا، ثم بتقديمه إلى القضاء بعد ذلك، ثم «بإعدام جسم الجريمة» كما يقول رجال القانون على كل حال. ومما زاد الأمر تعقيدًا والموقف حرجًا بين المستنيرين ورجال الدين بإزاء هذا الوجه من وجوه الحرية الدستورية أمران: أحدهما أن النظام السياسي القديم كان قد أنشأ في مصر شيئًا يسمى هيئة كبار العلماء، وجعل لهذا الشيء حقوقًا وألوانًا من السلطان على طائفة من الناس، وجعل لهذا الشيء ضربًا من السيطرة المعنوية على أمور الدين في مصر.

وكان المعقول أن صدور الدستور يجب أن يمحو من هذا النظام القديم كل ما لا يتفق مع نصوص الدستور نفسه، ولكن هيئة كبار العلماء ظلت قائمة مستمتعة بحقوقها محتفظة بسلطانها وسيطرتها، لا تعتز بهما ولا تستغلهما لأنها لم تكن تلتفت من هذا كله إلا إلى ما يمنحها من المرتبات ومنازل الشرف، حتى صدر كتاب «الإسلام وأصول الحكم»، فأحست هيئة كبار العلماء، أو أُريدَ منها أن تحس، أن لها حقوقًا وسلطانًا، واستغلت هيئة كبار العلماء، أو أريد منها أن تستغل، تلك الحقوق وهذا السلطان. الثاني أن الدستور لم يكد يصدر حتى عُطِّل، أو كاد يعطَّل، فقد صدر الدستور في أوائل سنة ١٩٢٣ ولكن البرلمان لم يأتلف إلا في أوائل ١٩٢٤، وكانت الحكومة القائمة بين صدور الدستور وانعقاد البرلمان لأول مرة حكومة ضعف وتفريط في كل شيء، كانت حكومة لا تعتمد على نفسها، ولا تستطيع أن تثبت على قدميها إلا أن يسندها مسند من اليمين إن مالت إلى اليمين، أو مسند من الشمال إن مالت إلى الشمال، ولم يكن يسندها مسند اليمين أو مسند الشمال عفوًا ولا ابتغاء مرضاة الله، وإنما كان يسندها هذا المسند أو ذاك لمنافع ومطامع. فقوي في ظل هذه الحكومة الضعيفة أمر الرجعية، وكثر الريش في أجنحة الشيوخ، وطلب الأزهر أمورًا فما أسرع ما أجيب إليها، وكان أظهر هذه الأمور إلغاء مدرسة القضاء — أو مسخها — وإنشاء أقسام التخصص في الأزهر.

ثم انعقد البرلمان فانصرف بطبيعة الحال إلى ما كان ينبغي أن ينصرف إليه من المسألة السياسية الخارجية. وبينما هو منصرف إلى هذه المسألة السياسية الخارجية تحرك الشيوخ، أو قل تحرك الأزهر كله، أو قل حُرِّك الأزهر تحريكًا فظهرت له مطالب غريبة ضخمة فيها إعنات وإحراج وتعمُّل، ورُفعت هذه المطالب إلى الحكومة البرلمانية الشعبية يومئذٍ مع شيءٍ من الإلحاح ومع شيءٍ من الضجيج والعجيج والمظاهرات الغريبة داخل الأزهر وفي شوارع المدينة وميادينها وعند القصر، وهمَّت الحكومة البرلمانية أن تأخذ بالحزم أمام هذه الحركة الغريبة التي لم يكن يُعرف أيهما أعظم فيها أثرًا؛ أحظ الدين أم حظ السياسة والمنفعة! ولكن الحوادث المنكرة التي حدثت آخر تلك السنة ذهبت بالبرلمان وبالحكومة البرلمانية، وقامت في مصر يومئذٍ حكومة أخرى أشبه شيء بتلك الحكومة التي كانت قائمة بين صدور الدستور وائتلاف البرلمان، حكومة ضعف وتردد واضطراب، حكومة تميل إلى اليمين حينًا فتكاد تهوي لولا أن يسندها مسند ويتقاضى على هذا ثمنًا، وتميل إلى الشمال حينًا فتكاد تهوي لولا أن يسندها مسند ويتقاضى على هذا ثمنًا أيضًا.

وكان من الأثمان التي دفعتها هذه الحكومة الاستماع للأزهريين والنزول عندما كانوا يريدون، واستغلال هذا في الخصومة السياسية الحزبية، فما أسرع ما أُلِّفت لجنة وزارية درست مطالب الأزهريين وقبلتها وأخذت في تنفيذها. وبهذا تقدم الأزهر خطوة أخرى في سبيل السيطرة والسلطان، وأحس الأزهريون أنهم يستطيعون أن يخيفوا الحكومات ويكرهوها على أن تذعن لهم وتنزل عند ما يريدون. وكانت نتيجة هذا كله أن ألغيت أو مسخت «دار العلوم»، كما ألغيت أو مسخت مدرسة القضاء من قبل، وأن احتكر الشيوخ أو كادوا يحتكرون التعليم الأوَّلي، وأن زادت مخصصات الأزهر المالية، وأن قوي في وزارة المعارف الميل إلى نشر التعليم الديني في مدارس الحكومة كلها من طريق الأزهريين، وكانت الفكرة الأساسية الخفية أن يكلَّف الأزهر نشر هذا التعليم الديني وأن ينبث شيوخ الأزهر في مدارس الحكومة كلها. وكانت النتيجة السياسية الخطرة لهذا كله أن تكوَّن في مصر — أو أخذ يتكون فيها — حزب رجعي يناهض الحرية والرقي، ويتخذ الدين ورجال الدين تكأة يعتمد عليها في الوصول إلى هذه الغاية. وفي أثناء ذلك ظهر كتاب «الإسلام وأصول الحكم» فاستُغل في سبيله كل ما تقدم وظهر أن في مصر حزبًا سياسيًّا يتخذ الدين وسيلة لمناهضة حرية الرأي بنفس الوسائل التي كانت تُناهَض بها أثناء القرون الوسطى في أوروبا. أُنكِر الكتاب وحوكم صاحبه وأُخرج من صف العلماء وفُصِل من منصبه، وانتهى هذا كله بأزمة سياسية حادة ظهر في أول الأمر أن هذا الحزب السياسي الديني هو الذي انتفع بها واستفاد منها، فقد أُخرج وزير من الوزارة واستقال معه طائفة من أصحابه، فقُبلت استقالاتهم في سرور وابتهاج، واعتزَّ رئيس الوزراء بالنيابة يومئذٍ بأنه نصير الدين وحاميه والذائد عن حوضه. وكان كل هذا يشدُّ أزر الشيوخ ويقوِّم إيمانهم بأن النص الذي يشتمل عليه الدستور يكلف الحكومة واجبات ما كانت تتكلفها من قبل. فلم يعرف تاريخ مصر الحديث شيئًا من اضطهاد حرية الرأي باسم السياسة والدين قبل صدور الدستور وحين كانت مصر خاضعة لسلطان الخلافة التركية يشبه ما كان من ذلك بعد صدور الدستور وبعد انقطاع الأسباب بين مصر وسلطان الخلافة، بل بعد انهيار الخلافة نفسها.

ومهما يكن من شيء فقد استيقن رجال الدين أنهم مؤيدون، وأن لهم عضدًا يسندهم، فطمعوا وأسرفوا في الطمع. ومما يُظهر هذا الطمع حادثتان؛ إحداهما حادثة الأزياء في دار العلوم، هذه الحادثة التي وقفت فيها الحكومة موقف الخادم المطيع لصاحب الفضيلة مولانا الأكبر شيخ الجامع الأزهر، والتي انتهت كما يعلم الناس جميعًا بشيءٍ من الإذعان فيه إفساد للأخلاق، وإكراه للشبان على النفاق. فقد أخذ طلاب دار العلوم يذهبون إلى مدرستهم في زي الشيوخ، وقد اتخذوا من تحت هذا الزي زيًّا آخر يُظهرونه متى خرجوا من المدرسة. والحادثة الثانية أن بعض الممثلين همَّ بالسفر إلى أوروبا ليلعب قصة تمثيلية فيها شخص النبي ، فغضب الشيوخ لذلك وطلبوا إلى وزارة الداخلية أن تمنع هذا الممثل مما كان يريد، وأن تتخذ لذلك ما ترى من الوسائل حتى الوسيلة السياسية، فتخاطب الحكومة الفرنسية في أن تمنع تمثيل هذه القصة في بلادها، وكان هذا الممثل طيعًا هينًا فأذعن لأمر الداخلية ومضى الشيوخ.

واتخذت مشيخة الأزهر لنفسها منذ ذلك الوقت اسم الرياسة الدينية العليا، وهو اسم مبتدع لا يعرفه الإسلام، ولا يؤمن له مسلم يعرف واجباته الدينية حقًّا، وكثرت فتاوى «الرياسة الدينية العليا»، ولم ينسَ أحد بعدُ فتواها في تحريم القلانس على المسلمين. وفي أثناء هذا كله ظهر كتاب «في الشعر الجاهلي»، وهنا اصطدمت السلطة الدينية بالحرية العلمية اصطدامًا عنيفًا، فلم يكن صاحب هذا الكتاب من علماء الأزهر، ولا خاضعًا لهيئة كبار العلماء، ولم يكن فردًا مطلقًا من الناس، وإنما كان أستاذًا في معهد علمي يرى لنفسه الحرية المطلقة كلها في الرأي، ويرى لنفسه السيادة فيما يدرس وما ينشر، لا يحده في ذلك إلا القانون. وهنا ظهر الفرق بين الأزهريين وغيرهم من المستنيرين في فهم هذا النص الذي يُثبت أن الإسلام دين الدولة. فأما الشيوخ فقد زعموا أن الحكومة مكلفة لا حماية الإسلام وحده بل حماية الدستور؛ لأن هذا الأستاذ قد خالف الإسلام وهو موظف يعلِّم أبناء المسلمين، ويتقاضى أجره من أموال المسلمين، وما كان لحكومة ينص دستورها أن الإسلام دينها الرسمي أن تسمح لأحد موظفيها بمخالفة الإسلام. وعلى ذلك طلبت الرياسة الدينية العليا إلى الحكومة أن تفصل هذا الموظف من منصبه وتقفه أمام القضاء وتصادر كتبه. والناس جميعًا يعلمون ماذا كان من أمر الخلاف بين الجامعة والأزهر في هذا الموضوع.

وخلاصة هذا القصص الطويل أن هذا النص الذي أُثبت في الدستور قد فرَّق بين المسلمين المصريين، وأنشأ في مصر قوة سياسية دينية منظمة أو كالمنظمة تؤيد الرجعية وتجر مصر جرًّا عنيفًا إلى الوراء، وأنشأ في مصر خاصة وفي الشرق الإسلامي عامة هذه المسألة التي لم تكن معروفة في الشرق الإسلامي من قبل، أثناء العصر الحديث، وهي مسألة الخصومة الدينية السياسية بين العلم والدين. ولسنا في حاجة إلى أن نسأل أخير هذا أم شر؟ ولسنا في حاجة أيضًا إلى أن نسأل عن طبيعة هذه الخصومة وما ستنتهي إليه غدًا أو بعد غد، إنما يكفي أن نلاحظ أن هذه الخصومة حقيقة واقعة، وأن في مصر فريقًا من الناس يمضون مع الزمن ويسايرون التطور ويريدون أن يستمتعوا وأن يستمتع غيرهم بما كفل الدستور من حرية الرأي، وأن في مصر فريقًا آخر من الناس ينكر هذه الحرية أو لا يبيحها إلا بمقدار، وإذن فلا بد من اتخاذ موقف منتج حاسم بإزاء هذه الخصومة بين أولئك وهؤلاء، فما هذا الموقف؟ وما عسى أن تكون نتائجه؟ أما إن كان المصريون يريدون أن ينتفعوا بتجارب الأمم من قبلهم، وأن يختصروا الطريق إلى الرقي، وأن يصلوا إلى حياتهم السياسية والاجتماعية الصالحة في غير عنف ولا مشقة ولا اضطراب، فسبيلهم إلى ذلك يسيرة واضحة يمكن أن تُختصر في كلمة واحدة، وهي أن تقف السياسة من رجال العلم ورجال الدين موقف الحيدة التامة. وأما إن كان المصريون يريدون أن يجربوا كما جربت الأمم من قبلهم، وأن يسلكوا إلى حياتهم السياسية والاجتماعية الصالحة تلك الطريق الطويلة المعوجة الملتوية التي تنبت فيها العقاب وتأخذها الأخطار من جوانبها، فسبيلهم إلى ذلك واضحة يسيرة يمكن أن تُختصر في كلمة واحدة، وهي أن تستغل السياسة هذه الخصومة بين العلم والدين فتعتز برجال العلم حينًا، وحينئذٍ تضطهد رجال الدين، وتعتز برجال الدين حينًا آخر، ويومئذٍ تضطهد رجال العلم، وتحتمل في سبيل ذلك من التبعات مثل ما احتملته السياسة المسيحية حين كانت تحرق العلماء وتذيقهم ألوان العذاب لترضي رجال الدين، وحين كانت تشرِّد القسيسين وتهدر دماءهم لترضي رجال العلم.

٩

ولكن كل شيء في مصر يدل على أننا لا نريد الطرق الطوال المعوجة، ولا نحب إضاعة الوقت، وإنما نكتفي بما جربت الأمم من قبل، ونجني ما ظفرت به من ثمرات الرقي. دستورنا المصري أوضح دليل على ذلك، فهو دستور حديث كأحدث النظم الدستورية المعروفة، وهو دستور بريء من الرجعية ومن هذا اللون من الاعتدال البطيء، وحسبك أنَّا كنا نرى في نظامنا السياسي الانتخاب ذا الدرجتين، فما كادت الأمة تتمتع بسلطانها حتى أسرعت إلى الانتخاب ذي الدرجة الواحدة، وحسبك أن وزارتنا مسئولة أمام برلماننا بنفس الطريقة التي تسأل بها الوزارات أما البرلمان في فرنسا وإنجلترا وغيرهما من بلاد أوروبا. كل هذا يدل على أننا معتزمون حقًّا أن نختصر الطرق. وإذا كانت هذه خطتنا بإزاء الحياة السياسية والاجتماعية، فيجب أن تكون — وما أشك في أنها ستكون — خطتنا بإزاء حياتنا العلمية والدينية. على أننا مضطرون إلى ذلك اضطرارًا، فنحن لا نحيا لأنفسنا وحدنا، وإنما نحيا لأنفسنا ولغيرنا من الأمم، ونحن متصلون رضينا أم كرهنا بأمم الغرب المتحضرة، ونحن حريصون على أن نظفر، لا أقول بعطف هذه الأمم، بل أقول بإكبارها لنا واحترامها لمنزلتنا السياسية والاجتماعية. وإذن فنحن مضطرون أن نساير هذه الأمم ونعيش كما تعيش، ونحن لا نستطيع أن نعيش في القرن العشرين كما كانت تعيش فرنسا في القرن الرابع أو الخامس عشر بحجة أننا حديثو عهد بهذه النظم الحديثة. نحن نريد أن نظفر من الاستقلال بما يقفنا من إنجلترا وفرنسا موقف الند من الند، فيجب أن نعيش كما تعيش إنجلترا وفرنسا لتطمئن إنجلترا وفرنسا إلى ما نطلب من الاستقلال. ونحن مضطرون إلى أن نحاول التخلص من الامتيازات الأجنبية، فيجب أن نعيش في بلادنا كما يعيش الأجانب في بلادهم، وأن نستمتع من الحرية بمثل ما يستمتعون به، ليطمئن الأجانب إلى إلغاء الامتيازات. ثم نحن مضطرون إلى أن نعيش، ولن نستطيع أن نعيش إلا إذا اتخذنا أسباب الحياة الحديثة، فنحن محتاجون أن ننتفع بالبخار والكهرباء، ونستغل الطبيعة كلها لحياتنا ومنافعنا، والعلم وحده سبيلنا إلى ذلك، وهو سبيلنا إلى ذلك على أن ندرسه كما يدرسه الأوروبيون لا كما يدرسه آباؤنا منذ قرون، وويلٌ لنا يوم نعدل عن طب باستور وكلودبرنار إلى طب ابن سينا وداود الأنطاكي. وهذا العلم الحديث الذي لا نستطيع أن نستغني عنه لا يمكنه أن يعيش ولا أن يثمر إلا في جو كله حرية وتسامح، فنحن بين اثنتين: إما أن نؤثر الحياة وإذن فلا مندوحة عن الحرية، وإما أن نؤثر الموت، وإذن فلنا أن نختار الجمود.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤