القسم الخامس: بين الجد والهزل

(١) الأدب والأدباء

لم أكن في مصر حين سأل «أحد الأزهريين» كاتبًا من كتَّاب السياسة اليومية عن الأدب والأدباء، وحين تفضَّل هذا الكاتب الأديب من «كتَّاب السياسة» فأحال سائله على «أساتذة الأدب في الجامعة والمدارس العالية». ولو كنت في مصر حين أُلقي هذا السؤال وكانت هذه الإحالة، لما أجبت ولا فكرت في الإجابة؛ لأني أعرف هذا الكاتب الأديب من كتَّاب «السياسة»، وأعرف مكره الظريف، وأعرف أنه يحب دائمًا أن يلهو ويلهي الناس بالخصومة بين الكتَّاب ولا سيما أنصار القديم والجديد منهم. وأذكر أنه تكلَّف هذه الحيلة في السنة الماضية فانخدعتْ له طائفة من الكتَّاب والأدباء، واختصموا في القديم والجديد، وضحك منهم ماكرنا الظريف، كما ضحك منهم ماكرون آخرون ليسوا أقل من صاحبنا مكرًا وظرفًا. ومع أني لا أكره لماكرنا الظريف هذا أن يلهو ويضحك، فقد أبيت في السنة الماضية أن ألهيه وأضحكه. ولو كنت في مصر حين سئل وأحال هذه السنة لتركتُ إلهاءه وإضحاكه للأستاذ الجليل الشيخ علام سلامة ومن إليه من هؤلاء الذين يرون الجد حيث لا يكون إلا الهزل والدعابة، فيجدون ويتكلفون ويضحك من يريد أن يضحك ويلهو من يريد أن يلهو، ويستريح كتَّاب «السياسة» من بعض الجهد لأنهم يجدون من يملأ لهم أنهارًا، ويضيقون أحيانًا لأنهم يضطرون إلى نشر ما يكرهون وإلى إرجاء ما يؤثرون نشره.

ولكنني عدت إلى مصر وكان أول ما استقبلته من الحياة الأدبية هذا الفصل الممتع الذي نشرته «السياسة الأسبوعية» الماضية للأستاذ الجليل الشيخ علام سلامة، المدرس بمدرسة دار العلوم. ولست أدري لمَ أحسست ميلًا شديدًا جدًّا إلى الكتابة بعد أن فرغتُ من قراءة هذا الفصل، ولست أدري لمَ رضيت أن ألهي ماكرنا الظريف وأضحكه هذه المرة، وقد كنت أكره ذلك وآباه من قبل …

فقد قرأتُ كلامًا كثيرًا ممتعًا يشبه هذا الكلام الممتع الذي نشره الأستاذ الشيخ علام، وأنا أنفق حياتي في قراءة كلام كثير يشبه هذا الكلام، فلا أحس ميلًا إلى الكتابة، ولا أجد من نفسي رغبة فيها، ولعل مصدر هذا الميل أن الأستاذ الشيخ علام قليل الكتابة في الصحف، أو أنه قليل الكتابة الممضاة في الصحف، فلا أقلَّ من أن نتلقى فصله الممتع بشيء من التحية، ونتمنى أن يطلق الله قلمه فيسطر لنا في كل أسبوع فصلًا يذهب فيه هذا النحو من مذاهب البحث اللذيذة الممتعة.

ولعل مصدر هذا الميل أيضًا أن الأستاذ الشيخ علام قد وعد في آخر فصله الممتع بأن يتورط فيما تورط الكتَّاب فيه من أمر القديم والجديد، وإن لم تكن هناك صلة بين فصله الممتع وبين القديم والجديد. مهما يكن من شيء فأنا أريد أن أكتب في هذا الموضوع، وأن أبدأ بتحية الأستاذ الشيخ علام وتهنئة الصحف بفصوله الأدبية القيمة التي بدأت بدءًا حسنًا، والتي ستتصل اتصالًا حسنًا إن شاء الله، ولو أن لي أن آخذ الأستاذ الجليل بشيءٍ في هذا الفصل لوقفت معه وقفات قصيرة عند مسائل يسيرة يحسن أن نلمَّ بها إلمامًا؛ لأن الأمانة العلمية تريد هذا الإلمام.

فصل الأستاذ الشيخ علام يذكِّرني بطائفة من الكتَّاب والعلماء، مات بعضهم منذ قرون، وتوفي بعضهم منذ سنين، ولا يزال بعضهم حيًّا يتنفس من هواء مصر ويشرب من ماء النيل. وكنت أحب للأستاذ الشيخ علام أن يسمي هؤلاء العلماء والكتَّاب، أو يومئ إليهم؛ ليعرف الناس ما لهم وما له، ففي ذلك وفاءٌ لهؤلاء العلماء والكتَّاب، وفي ذلك إنصافٌ للأستاذ الشيخ علام نفسه.

فمن يدري لعل الأستاذ قد أضاف من عنده إلى ما قال أولئك الكتاب والعلماء أشياء قيمة وعظيمة الخطر لا ينبغي أن تضاف إلى غيره، وإذا أذن لي الأستاذ أن أنصفه وأنصف أصحابه، فإني أسمِّي منهم ثلاثة أو أربعة من غير إطالة ولا إملال.

فأما أولهم فصاحب «لسان العرب»، فقد يظهر أن الأستاذ عندما أراد أن يبيِّن المعنى اللغوي لكلمة الأدب، نقل ما جاء في «اللسان» نقلًا في غير تحفُّظ ولا فقه ولا نقد ولا احتياط. نقل ما جاء في «اللسان» حتى الشواهد نظمًا ونثرًا، وحتى وصف البعير بأنه أديب. وربما كان هذا النقل مفيدًا، وهو على كل حال حق للأستاذ، ولكن من حق صاحب «اللسان» أو من حق أصحاب المعاجم أن يشار إليهم إذا نقل عنهم … ومن حق القراء أن يعرفوا أن ما يكتبه الأستاذ قد نقل نقلًا أو استنبط استنباطًا.

وأما الثاني فالمرحوم اليازجي صاحب «مجلة الضياء»، فأنا أذكر أني كنت أقرأ في هذه المجلة أيام الصبا، وكنت أحب هذه المباحث اللغوية التي كان يعرض لها صاحب هذه المجلة، والتي كان يبين لنا فيها كيف تختلف الكلمات في حرف واحد يقع أول الكلمة أو آخرها أو في وسطها، فلا يكون هذا الاختلاف دليلًا على بُعد ما بينها في المعنى وإنما يكون دليلًا على تقاربها في المعنى كما تقاربت في اللفظ: كوكز ولكز ونكز ووهز ولهز ونهز، وغمز ولمز وهمز، ولطم ولكم ولدم ولتم. ولست أدري لمَ نسيَ اللثم، فرب لثمة أشبهت لطمة! وأظن أن من حق اليازجي أن يُذكر كصاحب «اللسان»، ويخيَّل إليَّ أن للأستاذ الشيخ علام زميلًا في دار العلوم، هو الأستاذ الشيخ أحمد عمر الإسكندري، يذهب هذا المذهب فيما يسميه فقه اللغة، ويدرسه درسًا مفصلًا لتلاميذه، وأحسب أنه قد أمعن في هذا البحث إمعانًا قيمًا فكان من حقه أن يُذكر أيضًا.

ثم أذكر رجلًا آخر كان من الحق أن يُذكر ويُثنى عليه وهو مصطفى صادق الرافعي، فقد بحث مصطفى صادق الرافعي في كتابه عن كلمة الأدب وأطوارها ومعانيها. ومن الغريب أن الشبه شديد جدًّا بين بحث الأستاذ الشيخ علام وبحث الأستاذ الرافعي، وكل ما بينهما أن الرافعي قرأ اللسان وفهمه ولم يأخذ منه إلا ما احتاج إليه، وأن الشيخ علام نقل اللسان نقلًا في غير نقد ولا فقه كما قلت، وأن الرافعي رأى نصوصًا تضاف إلى القدماء شك في صحتها فنفى بعضها وأعرض عن بعضها الآخر، وأن الشيخ علام أخذ هذه النصوص على علاتها في غير نقد ولا فقه أيضًا. وأن الرافعي رأى نصًّا أضافه صاحب «العقد الفريد» إلى ابن عباس، وأضافه الجاحظ إلى حفيد ابن عباس، فدرس وآثر رواية الجاحظ عن نقدٍ وفقهٍ، وأن الشيخ علام لم ينقد ولم يحاول الفقه، وإن ردد الرواية بين الرجلين ترديدًا دون أن يشعر بالأثر العظيم الذي ينشأ عن صحة إحدى الروايتين، لا أقول في صحة كلمة الأدب، بل أقول في تاريخ العلم نفسه، فلو صحت رواية العقد الفريد لكان عبد الله بن عباس عالمًا بأصول النحو ملمًّا باصطلاحاته قبل أن تتم نشأة النحو.

فأنت ترى أن الأستاذ الشيخ علام ظلم نفسه وظلم طائفة من الذين سبقوه وعاهدوه حين أرسل فصله إرسالًا دون أن يسمي من أخذ عنهم أو سار سيرتهم في البحث. وقد علم الله ما أعطِفُ على الرافعي ولا أميل إلى فنه، ولكني أحب أن أنصف الرجل وأشهد أن فصله أمتن وأقوم وأدل على الفقه من فصل الأستاذ الشيخ علام.

•••

وأنا بعدُ أخالف الرجلين جميعًا في أصل هذه الكلمة؛ أخالفهما لأن مذهبهما لا يقنعني، فأنا لا أفهم هذه الصلة التي يتكلفانها ويتكلفها من قبلهما أصحاب المعاجم بين لفظ الأدب وبين هذا الفعل المعروف «أدب الناس إذا دعاهم إلى الطعام»، ولست أريد أن آخذ في مناقشة لغوية تثقل على قراء «السياسة»، وتمل هذا الماكر الذي اضطرني واضطر الشيخ علام إلى الكتابة في هذا الموضوع، وإنما أقول في إيجاز أني أذهب في أصل هذه الكلمة مذهب الأستاذ نالينو وأخذها من الدأب، بتقديم الدال على الهمزة المفتوحة، ومعناه العادة والشأن والحال. ولست أري شيئًا من الغرابة في أن تكون كلمة الدأب قد استحالت إلى كلمة الأدب، فقدمت العين فيها على الفاء نقلًا، ولا سيما إذا لوحظ أن هذا النقل مألوف في الجمع، فقد جمعت الكلمة على أدآب ثم وضعت عينها موضع الفاء فقيل آداب، كما قيل آرام وآبار، ثم خيل إلى الناس أن كلمة الآداب هذه جمع أدب لا جمع دأب، فنشأ هذا المفرد، واشتق منه التأديب، وأصله فيما يظهر تعليم الناس ما ورث من العادات والسنن؛ أي تعليمهم ما ورث من الآداب بتقديم الدال. وأكبر الظن أن كلمة الأدب وما اشتق منها محدثة، أريد أنها نشأت بعد الإسلام لا قبله. وقد لاحظ الرافعي أن هذه الكلمة على خفَّتها وظُرفها لم تستعمل قافية في الشعر القديم. وأراد الأستاذ الشيخ علام — فيما يظهر — أن يرد على الرافعي من طرف خفي، فروى البيت الذي يضاف إلى أم ثواب والذي رواه صاحب الحماسة:

أنشأ يخرق أثوابي ويضربني
أبعد شيبي يبغي عندي الأدبا!

وفي البيت رواية أخرى: «أنشا يمزق أثوابي يؤدبني»، وفيه رواية أخرى: «أبعد شيبي عندي يبتغي الأدبا». وحسبي أن تختلف الروايات في البيت إلى هذا الحد لأشك فيه ولا أتخذه أساسًا للغة.

ولست أدري أوفِّق الرافعي أم لم يوفَّق حين قال إن هذه الكلمة لم ترد قافية في الشعر القديم، ولكن هذا لا يعنيني، فرأيي في الشعر الذي سبق الإسلام معروف، فهو عندي لا يثبت شيئًا ولا يصلح دليلًا على شيء. فإذا ثبت استعمال الكلمة في الشعر الذي نظم بعد الإسلام فذلك لا ينقض ما أذهب إليه من أن هذه الكلمة حديثة عرفت بعد القرآن. ومما يرجح هذا أن الأستاذ الشيخ علام نفسه يقول في شيء من الحزن والرثاء، إن هذه الكلمة قد أدركتها حرفة الأدب فلم تُذكر في القرآن، والحق أنها لم تذكر في القرآن، وإنما ذكر في القرآن الدأب بسكون الهمزة، ومعناه العادة كالدأب بتحريكها. والأمر لا يقف عند هذا الحد، بل إن هذه الكلمة لا توجد في اللغات السامية المعروفة. وإذن فهي كلمة عربية خالصة للعرب دون غيرهم من الشعوب السامية. ونظن أنها من هذه الكلمات التي نشأت عندما تطورت قريش واتسعت هذا الاتساع العظيم بعد ظهور الإسلام.

أنا إذن لا أوافق الرافعي ولا الشيخ علام في اشتقاق الأدب من الأدب بمعنى الدعاء، ولكني لا أرى بأسًا بما كتب الرافعي في كتابه عن معاني هذه الكلمة وأطوارها وإن كان قد أوجز هذا البحث إيجازًا شديدًا.

وسواءً أكانت كلمة الأدب مشتقة من الأدب أو من الدأب، فإن الخلاف بين الشيخ علام وبيني لا يقف عند اللفظ، وإنما يتجاوزه إلى المعنى أيضًا. ولست أريد أن أناقش الأستاذ في المعاني القديمة لهذه الكلمة، ولا أن أقف عند هذا الكلام الذي يضيفه إلى النبي وعمر وعلي ومعاوية في غير نقد ولا احتياط، وإنما أقف عند جملة واحدة أرى أنها تشخص الأستاذ الشيخ علام وأصحابه من أنصار القديم تشخيصًا مضحكًا، وهذه الجملة هي قول الأستاذ:

وكل علمٍ من العلوم له غاية ينتهي عندها فتكمل مباحثه، إلا هذا العلم وعلم والتاريخ، فإنهما يزيدان كل يوم ولن يزالا في نمو مطرد.

وما كنت أعرف قبل اليوم أن «لكل علمٍ غاية ينتهي عندها فتكمل مباحثه إلا علم الأدب والتاريخ» حتى جاء الأستاذ فأنبأني بهذا النبأ الغريب الذي هو فصل ما بين أنصار القديم وأنصار الجديد.

فنحن نعلم أن الحركة العلمية لن تنتهي من فرع من فروع العلوم إلا يوم يفنى العقل الإنساني ويحال بينه وبين البحث والتفكير، ولا أعرف علمًا من العلوم انتهى عند غايته، وكملت مباحثه، وقيلت فيه الكلمة الأخيرة، وإنما أعرف أن كل علم قابل لأن يتغير ويتجدد ويحذف جحودًا. وقد كان أهل القرون الوسطى يعتقدون أن علم الفلك قد انتهى عند غايته، وكملت مباحثه، وقيلت فيه الكلمة الأخيرة، ثم جاء من أنبأ بأن العلم لم يبدأ وإنما هي كرة منتقلة متحركة، وأن أفلاك السماء لم يستكشف منها إلا أقلها وأضألها. وكانوا يعتقدون أن فلسفة أرستطاليس هي خاتمة الفلسفة وخلاصتها، وكلمتها الأخيرة، فجاء ديكارت وأنبأهم أن فلسفة أرستطاليس هي بدء الفلسفة لا آخرها ولا وسطها. وكان الناس منذ سنين يرون أنهم قد وصلوا في الطبيعة والرياضة إلى نتائج علمية بعيد أن تنقض، فجاء هنري بوانكاريه، وأينشتين، وأظهرا أن نقض هذه النتائج ليس بالشيء العسير.

ولعل الأستاذ الشيخ علام يعتقد أن الأمر في العلم كالأمر في النحو عند صاحب الورقة الصفراء الذي كتبت له قواعد فحفظها، وخيل إليه أنه قد حفظ النحو كله. نعم هذه الجملة تشخص الغلاة من أنصار القديم تشخيصًا لذيذًا، فهم يرون أنه يكفي أن يحفظ أحدهم جملًا من العلم ليكون قد ألمَّ بالعلم كله. ولعلهم يمتازون بأنهم يؤمنون بأن كل شيء قد انتهى وأقفل بابه، فلا يمكن أن يضاف إليه ولا أن يزداد فيه. ولقد جاء الأستاذ الشيخ علام بمعجزة حين استطاع أن يعلن أن الأدب لا ينتهي عند غاية، ولا تكمل مباحثه كما تكمل مباحث العلوم الأخرى. وما رأي الأستاذ إذا قلت له إن النحو لم تكمل مباحثه بعد، رغم ما كتبه سيبويه وابن خروف وابن عصفور وابن هشام وابن مالك، ومن إليهم من أعلام الشرق والغرب الإسلاميين؟ بل ما رأي الأستاذ إذا قلت له إن كل علوم اللغة العربية لم تنتهِ عند غايتها ولم تكمل مباحثها، بل هي في حاجة إلى التجديد واستئناف الدرس، ولا سيما النحو والصرف وعلوم البلاغة؟ وما رأي الأستاذ إن قلت له إن الأدب العربي كله محتاج إلى التجديد واستئناف الدرس؟

هنا يظهر الفرق بين الأستاذ وبيني. ولإظهار هذا الفرق في الفهم والفقه والمنهج كتبت هذا الفصل الطويل. يرى الأستاذ وأصحابه أن لكل علم غاية يقف عندها، وتكمل مباحثه إلا الأدب، فهو لا ينتهي عند غاية، وإنما يزداد في كل يوم. ونرى نحن أن ليس لعلمٍ من العلوم غاية ينتهي عندها، وأن لا أمل في أن تكمل مباحث علم من العلوم، وإنما كل شيء في العلم قابل للتغيير، واستئناف البحث عنه، والأدب أشد أنواع العلم قبولًا للتغيير والتجديد.

وهنا نقف عند تعريف الأستاذ الشيخ علام للأدب وقفة قصيرة، فهو تعريف قديم يحتاج أيضًا إلى التجديد. وأنا أنقل لك هذا التعريف الذي يقول عنه الأستاذ إنه موجز وإنه منطقي، فسترى أنه ليس من الإيجاز ولا المنطق في شيء. قال الأستاذ:

هو علم مأثور الكلام، منثوره ومنظومه، قديمه وحديثه، وما يتصل بذلك من أخبار بارعة، ونوادر رائعة، ومُلَح مستعذبة، وطُرف مستغربة، مع الإلمام من كل علم بأمهات مباحثه.

ولست أحفل بهذه السجعات الرائعة البارعة، فأنا أراها أقرب إلى اللغو منها إلى أي شيءٍ آخر. ولكني أبحث عن الإيجاز في هذا التعريف فلا أظفر به. أما المنطق فلنبحث عنه معًا، أيهما أديب: من حفظ مأثور الكلام نظمًا ونثرًا ولقنه الطلاب، أم من أنشأ هذا الكلام المأثور؟ وأيهما الأدب: حفظ مأثور الكلام أم إنشاؤه؟ وإذن فما رأي الأستاذ الشيخ علام في نفسه، أأديب هو لأنه يحفظ مأثور الكلام نثرًا ونظمًا، ويلقنه للطلاب، ولكنه ليس شاعرًا ولا ناثرًا؟ وإذا لم يكن شاعرًا ولا ناثرًا وكان أديبًا، فما رأيه في شوقي أأديب هو أم غير أديب؟ وإذا لم يكن أديبًا وكان الأديب هو الشاعر الناثر ليس غير، فما رأيه في نفسه وأمثاله من الذين يدرسون الأدب ويفرغون له، وفي أي طبقة من طبقات العلماء يضعهم؟ وفي أي مكانة ينزلهم؟ ألا يرى الأستاذ أن تعريفه ليس منطقيًّا لأنه لا يمنع ولا يجمع؟ وما معنى قوله علم مأثور الكلام؟ وهنا أحب أن أكون أزهريًّا، أيريد العلم بمأثور الكلام فلا يكون هو أديبًا لأنه ليس من الذين ينشئون هذا المأثور؟ ونحن نستطيع أن ندور مع الأستاذ في هذه الدائرة إلى غير حد، ولكنا نقف ونلاحظ أن تعريف الأستاذ لم يغنِ شيئًا.

•••

وفي الحق أني أميل أن أقسم الأدب إلى قسمين: أدب المنشئين وأدب الناقدين الدارسين، أو قل أدب الكتَّاب والشعراء وأدب العلماء من المؤرخين والناقدين، فشوقي أديب، وهو الأديب حقًّا؛ لأنه ينتج الأدب إنتاجًا، وهو أديب منشئ، ولكنه ليس عالمًا بالأدب لا يستطيع درسه ولا تصويره ولا تعليمه ولا تأريخه. والشيخ علام أديب ولكنه ليس أديبًا منشئًا؛ لأنه ليس شاعرًا ولا ناثرًا ولا صاحب فن، وإنما هو حافظ لآثار الكتَّاب والشعراء يرويها ويلقنها وينقدها، يوفق في ذلك حينًا ويخطئه التوفيق حينًا. والأدباء المنشئون يختلفون: فمنهم النابغة الفذ، ومنهم المتوسط، ومنهم المسف. والأدباء والعلماء يختلفون: فمنهم المجود ذو الرأي، ومنهم الآلة الحاكية أو الببغاء.

وأولئك وهؤلاء تختلف مذاهبهم في إنشاء الأدب ودرسه: فمنهم المقلد، ومنهم المجتهد المبتكر، ومنهم من يذهب مذهب الحرية، ومنهم من يؤثر مذهب الرق، ومنهم من ينحو نحو الفلسفة، ومنهم من ينحو نحو النقل والرواية. وأين هذا كله من التعريف الذي جاء به الشيخ علام من إيجاز ومنطق كما يقول! ولكني قلت لك منذ حين إن الأستاذ الشيخ علام يمثل أنصار القديم حقًّا، فتعريفه قديم، ألم يعتمد فيه على ابن خلدون؟ وأسلوبه في هذا التعريف قديم، ألم يسجع كأهل القرن الرابع؟ ألم يصطنع فيه ألفاظ هؤلاء الناس؟

الأستاذ وأمثاله — كما قلت في الشعر الجاهلي — كتب قديمة متحركة أو قطع من كتب وصل بعضها ببعض.

ولنفرغ من مناقشة الأستاذ، ولنُجِب ماكرنا الظريف وسائله الذي اضطرنا إلى هذا العناء كله، فالأدب عندنا أدبان: أدب إنشاء، هو هذا الذي ينتجه الكتَّاب والشعراء من أصحاب الفن. وأدب علم ودرس، وهو هذا الذي ينتجه النقاد ومؤرخو الآداب. والأدب الأول فن كله، والأدب الثاني مزاج من الفن والعلم. وقوام الأدبين شخصية الأديب التي يجب أن تظهر في كل ما يصدر عنه ظهورًا واضحًا.

وقوام الأدبين أيضًا اتصال الأديب بعصره اتصالًا يمكِّن من تمثيل ذوقه الفني إن كان منشئًا، وحياته العقلية إن كان ناقدًا أو مؤرخًا. ليس أديبًا منشئًا هذا الذي ينظم الشعر فلا يتجاوز ما قال القدماء في اللفظ والمعنى والأسلوب. وليس أديبًا ناقدًا هذا الذي يدرس الأدب فلا يتجاوز ما قال المبرِّد والجاحظ وأبو الفرج وصاحب العقد الفريد، وإنما الأديب المنشئ من يقرأ معاصروه أدبه فيرون فيه أنفسهم، وإنما الأديب الناقد من يقرأ معاصروه نقده فلا يشعرون بأن بينهم وبينه بُعد ما بينهم وبين القدماء.

وهنا تسألني: ماذا تصنع بالقدماء؟ والجواب يسير: أصنع بالقدماء ما صنعوا هم بأنفسهم، فأنا ألتمس عصورهم في هذه المرآة، ولا ألتمس منهم العصر الذي أعيش فيه. ولقد كنت أضرب منذ أيام مثلًا للأدباء من أهل مصر: ما رأي أنصار القديم لو طلبنا إليهم أن يهمل ما وصل إليه العلم الحديث في الطبيعة والطب، وأن يُعتمَد في كليتي العلوم والطب على إشارات ابن سينا وقانونه، أيرضون أم يصيحون ويستغيثون؟ لا أشك في أن الأستاذ الشيخ علام يستغيث بالله والناس يوم يعرف أن طب «باستور» و«كلود برنار» قد أهمل، وأن طبيبه سيعالجه منذ اليوم كما كان يعالج ابن سينا أو الحارث بن كلدة أو داود الأنطاكي.

ومع ذلك فالأمر في الأدب كالأمر في الطبيعة والطب، لا ينبغي أن يُهمَل طب ابن سينا وطبيعته؛ لأنهما يمثلان عصرًا من عصور الحياة العلمية، فهما يُدرسان على أنهما فصل من تاريخ الطب والطبيعة. ولا يُهمَل أدب المبرِّد والجاحظ؛ لأنهما يمثلان مظهرًا من مظاهر الحياة الأدبية، فهما يُدرسان على أنهما فصل من تاريخ الأدب. ولكننا نجدد الأدب درسًا وإنشاءً كما يجدد الطبيعيون والأطباء طبيعتهم وطبهم عملًا ونظرًا.

فما رأي الأستاذ الشيخ علام وأصحابه في هذا الكلام؟ أما أنا فواثق أنهم ينكرونه الإنكار كله ولا يطمئنون إليه. وهم مكرهون على هذا الإنكار؛ فلو قد قبلوا ما ندعو إليه لما استطاعوا أن يعيشوا؛ ذلك أنهم غير قادرين على التجديد، هم يؤثرون القديم، ومن القديم يعيشون. أما نحن فلا نؤثر القديم، ولا نؤثر الجديد؛ لأننا لسنا في حاجة إلى أحدهما لنعيش، وإنما نؤثرهما معًا وندرسهما معًا؛ لأننا لا نبغي إلا العلم، وإلا العلم خالصًا من كل شيء.

(٢) خطرات نفس للدكتور منصور فهمي

كنت أتحدث منذ أشهر إلى عالم كبير من علماء الفرنسيين في مصر، وكان يشكو إليَّ أن أعماله الإدارية تستغرق أكثر وقته وتصرفه عن الدرس، بل عن متابعة الصحف والمجلات العلمية التي تعنيه؛ لأنها تتصل بالمادة التي يدرسها. قال: فإذا كان الشتاء، شغل العلماء في مصر عن علمهم بهذه الحياة الاجتماعية العتيقة المفعمة بالزيارة والاستقبال، والتي تلتهم آخر النهار وشطرًا من الليل في أكثر أيام الأسبوع. فالعالِم في مصر مضيع للوقت والجهد، يصرف وجه النهار في حياة يومية عادية هي قوام عيشه، وينفق آخر النهار في حياة اجتماعية خاملة هي قوام مركزه في الدائرة الاجتماعية التي يدور فيها، وهو إن فرَّط في تلك الحياة الإدارية مقصر يتعرض للُّوم واحتمال التبعات الثقيلة، وإن قصَّر في هذه الحياة الاجتماعية أنكرته بيئته، وأعرض عنه نظراؤه، واتُّهم بالكبرياء والفتور والجفوة والإهمال. وكل هذه خصال لا يحب أن يتصف بها الرجل الذي يريد أن يعيش في مصر هادئًا مطمئنًّا. فإذا فرغ العالِم من حياته الإدارية والاجتماعية فقد انقضى النهار وتقدم الليل، وينظر فإذا هو أمام حقوق لأهله لم يؤدِّ منها شيئًا، وأما حقوق لنفسه لم يفكر فيها، ثم يقهره ضعف الجسم فيأوي إلى مضجعه يقضي فيه بقية الليل بين أرقٍ مضنٍ ونومٍ ثقيلٍ، ثم يستقبل غده بمثل ما أنفق فيه أمسه. وعلى هذا النحو تمر الأيام والأسابيع والشهور، والعالم منصرف عن علمه منهمك فيما لا يجد فيه لذة ولا غناء.

قال صاحبي: وأستطيع أن أؤكد لك أني إذا خلوت إلى نفسي — وقلما أخلو إليها — وفكرت في ذاك، ضاقت بي الحياة، وضقت بها، واستيقنت أن حياة العلماء في مصر تضحية مؤلمة مستمرة. فالناس في بلادنا لا يثقلون العلماء بأعباء الزيارة والاستقبال، ولا يشقُّون عليهم بالدعوة إلى الشاي والعشاء، والسيدات لا يتخذن زينة يظهرنها في غرفات الاستقبال كلما خطر لهن أن يستقبلن أو في الحفلات الساهرة كلما خطر لهن أن يحتفلن.

ولو أن رجال السربون والكوليج دي فرانس اختلفوا إلى غرفات الاستقبال وشهدوا ما يقام في باريس من حفلات في الليل وأخرى في النهار، لما كانت السربون والكوليج دي فرانس عقل فرنسا المفكر وقلبها النابض الحساس.

قلت: ومع ذلك فقلما تخلو غرف الاستقبال الباريسية من عالم أو أديب يلتف حوله السيدات، فيلقين عليه أسئلة حلوة مريحة، ويسمعن منه أجوبة عذبة مرضية، فيها فكاهة لا تخلو من مرارة، وفيها جد لا يخلو من سخرية. وأحسب أن الفرق بين فرنسا ومصر إنما هو كثرة العلماء والأدباء في الأولى وقلتهم في الثانية؛ فعندكم من العلماء والأدباء من يفرغون للجامعة، ويعكفون في المعامل ودور الكتب، وعندكم من العلماء والأدباء من يشهدون المحافل، ويزينون المجالس، ويُرضون حاجة السيدات إلى المفاخرة بمن يحضر يوم استقبالهم من رجال العلم والأدب والحرب والسياسة والقضاء. أما نحن فالمستنيرون عندنا قليل، فضلًا عن العلماء والأدباء المتميزين. فليس عجيبًا أن تشق الحياة على الظاهرين من علمائنا وأدبائنا، وأن تتخطفهم المجالس وتتنافس غرف الاستقبال أيها يزدان بأكبر عدد ممكن منهم.

قال صاحبي: ليكن مصدر ذلك ما تحب أن يكون، ولكن الشيء الذي لا شك فيه هو أن نتيجة ذلك ثقيلة مؤلمة. فلو قد رأيت ما يجتمع في مكتبي من الصحف والمجلات والرسائل والكتب التي تنتظر أن أقرأها لراعك الأمر. وجاءت سيدة ففرَّقت بين صاحبي وبيني بابتسامة عذبة ومزاح ظريف.

كنت أفكر في هذا الحديث منذ أيام حين كنت أستعد للسفر، وحين كان صاحبي يسألني عما أريد أن أصطحب من كتب، فتأخذني حيرة لا أكاد أصفها ولا أصورها.

فقد انقضى العام ولم أقرأ شيئًا. هذه كتب قديمة طُبعت واستخرجت من دور الكتب في الشرق والغرب، ومن الحق عليَّ لنفسي أن أقرأها أو أنظر فيها، وقد كنت أتحرَّق شوقًا إليها قبل أن تقدمها إلى المطبعة وتجعلها يسيرة قريبة المنال. وهذه مقالات نشرها العلماء المستشرقون في مجلاتهم المختلفة، ومن الحق عليَّ أن أقرأها أو ألمَّ بها، لأعرف ما يقول الزملاء فيما أفرغ لدرسه من العلم. وهذه مقالات نشرها الأدباء المعاصرون في مصر، وحفظها صاحبي لأقرأها متى أتيح لي الوقت، فمن الحق عليَّ أن أعرف ما يقول المعاصرون من المصريين والشرقيين لأعيش على بصيرة وفهم للعصر الذي أحيا فيه. وهذه كتب ألفها فلان وفلان من الأصدقاء أو من الأدباء المتميزين، ومن الحق عليَّ لنفسي ولهؤلاء الأدباء أن أقرأ ما يكتبون لأحيا على أقل تقدير حياة الرجل المثقف الذي يلم بما يظهر حوله من فكرة أو رأي أو مذهب. كل هذا مجتمع في مكتبي وصاحبي يسألني عما أحب أن أحمل منه إلى أوروبا. ومهما تكن رغبتي في القراءة شديدة أثناء هذه الرحلة فأنا أحب أن أقرأ ما سأجده في أوروبا من كتب وصحف. وأنا لا أذهب لأوروبا للقراءة وحدها، وإنما أريد أن أستريح وأن أرفِّه على النفس، أطوف في الأرض وأشهد الملاعب وأسمع للموسيقى والغناء، فالطاقة محدودة، والوقت محدود، وهذه زوجتي تلفتني إلى أن الحقائب محدودة أيضًا، وإلى أنها لم تصنع لتفعم بالكتب، وإنما صُنعت لتوضع فيها الثياب، وما يحتاج إليه المسافر من أدوات ليس إلى الاستغناء عنها من سبيل. وهي تحدد ما أستطيع حمله من كتب على أن يوضع بعضه في هذه وبعضه في تلك، ويحمل صاحبي بعضه الآخر فيضعه في حقيبته. وأنا أضيق بهذا كله فأكره الإقامة والسفر وأمقت الجد والكسل، ثم أخرج عن طوري فأفرض كتبًا لا بد من حملها مهما يكن من شيء، وأترك لزوجي وصاحبي أن يتخيرا بعد ذلك ما يشاءان وما تتسع له حقائبهما من هذه الكتب المكدسة.

وقد وصلت الآن إلى فينَّا، واستقر بي المقام فيها أنتظر مؤتمر المستشرقين، وأنا أسأل صاحبي: ماذا حملت من كتب المعاصرين؟ فيجيب مبتسمًا: لقد حملت ما تحب أن تقرأ؛ حملت كتاب التراجم لهيكل، وحملت كتاب البهاء زهير لمصطفى عبد الرازق، وحملت كتاب خطرات نفس لمنصور فهمي. لقد وفِّقت إلى حسن الاختيار، ولكن ألم تحمل مصرع كليوباترة لشوقي؟ قال صاحبي دهشًا: ولمَ أحمله وقد قرأته في الصيف الماضي؟ وأنكرت من صاحبي إهمال هذا الكتاب، فقد كنت أحب أن أعيد النظر فيه، فأنكرت جوابه، فقد كنت أحب أن أتحدث عن هذا الكتاب إلى الناس، ولكن لا بد مما ليس منه بد. فلأقرأ ما بين يدي، ولأبدأ بآخر هذه الكتب ظهورًا وهو خطرات نفس. ولست حديث عهد بهذا الكتاب، فقد تبعته منذ نشأته الأولى وسايرته نحو خمس عشرة سنة حين كانت فصوله المختلفة تنشر في الصحف شيئًا فشيئًا، فأرى بعضها قبل أن يظهر، وأرى بعضها مع غيري من القراء. وكنت من الذين طلبوا إلى منصور أن يجمع هذه الفصول في سِفر مستقل كما نفعل جميعًا حين نؤلف من فصولنا التي تنشرها الصحف أسفارًا نجمع متفرقها، ونسهل على الناس قراءتها والرجوع إليها. وإذا كان صديقنا منصور حريصًا على أن يجمع خطرات نفسه لأنها تمثل صباه وشبابه، وهو يحب أن يرجع إلى ماضي حياته ليحب ما فيه من ذكرى، فإن أصدقاءه يحرصون على مثل ما يحرص عليه؛ لأنهم يحبون أن تجتمع لديهم حياة صديقهم في صباه وشبابه وكهولته، فيقفوا عند هذه الحياة وقفات فيها حب ومودة ووفاء. وربما كان فيها عتب وخصومة واختلاف في الرأي، فمهما يكن الكاتب مستقلًّا، قوي النفس، عظيم الشخصية، فهو متصل ببيئته، متصل بمعاصريه، يلائمهم أحيانًا فيرضون وينافرهم أحيانًا أخرى فينكرون. وكذلك حياة الأديب في كل بيئة وفي كل جيل: هو مخدوع، يحسب أنه يكتب لنفسه لأنه يحس من العواطف والأهواء ما لا يجد بدًّا من إعلانه، فهو يرفِّه على نفسه حين يكتب أو ينظم الشعر، ولكنه في حقيقة الأمر يكتب للناس، ذلك بأنه كائن اجتماعي محتاج إلى أن يعطي الناس، ويأخذ منهم، فهو لا يستطيع أن يكتفي بما يحس في نفسه، بل لا بد له من أن يشرك الناس فيما يحس.

وقد يوفق إلى ما يريد فيشاركه الناس فيما يحس ويرى، وقد لا يوفق فلا يشاركه منهم أحد أو لا يشاركه منهم إلا القليل.

ويخدع الأديب نفسه من ناحية أخرى حين يألف الإذاعة والنشر، ويحس من الناس ميلًا إليه، ورغبة في آثاره، فيمضي في الإذاعة والنشر معتقِدًا أنه يكتب للناس، وهو في حقيقة الأمر يكتب لنفسه لأنه أحبَّ رضا الناس عنه، وميلهم إليه وكَلَفهم به، فهو يستزيد حين يكتب من هذا الرضا والميل والكلف. فإذا زعم الأديب أنه يكتب لنفسه وحدها فهو مخطئ، وإنما الحق أنه حين يكتب يؤدي عملًا اجتماعيًّا فيه له وللناس لذة ومتعة. ومهما يكن إلحاح الملحِّين عن أخذنا في جمع ما تفرق من آثارنا، ومهما يكن ترددنا في الاستجاية لهذا الإلحاح، فإن الأسباب التي دعتنا إلى نشر فصولنا في الصحف هي بنفسها التي تدعونا إلى أن نؤلف من هذه الفصول أسفارًا تذاع مرة أخرى في المكتبات بعد أن أذيعت في الصحف اليومية أو الأسبوعية أو الشهرية.

وبينما كنت أقرأ هذه المقدمة الطريفة التي قدمها منصور بين يدي هذه الخطرات في طورها الجديد، لفتتني حاشية قرأتها مرة ومرة فأنكرتها بعض الشيء؛ ذلك أن صديقنا يزعم فيها أنه لم يغير من فصوله شيئًا إلا ما كان من إعراب لفظ أو تصحيح آخر، وأنه قد عهد في ذلك إلى الأستاذ صادق عنبر فتولاه عنه، وهو يشكر للأستاذ هذا الفضل شكرًا جميلًا.

واشتد إنكاري لهذه الحاشية حين أظهرني صاحبي على فصل لصديقنا هيكل لم يكد يتجاوز فيه هذه الأسطر من كتاب منصور. فقد وقف عندها وقفة طويلة يسجِّل على نفسه وعلى منصور وعلى الكتَّاب المعاصرين ضعفًا ظاهرًا في اللغة العربية وقصورًا عن إحسان الانتفاع بها واعترافًا بهذه القصور. وأنا أعترف بأني لم أفهم هذه الحاشية، فلو قد كان صديقنا منصور معترفًا بضعفه في العربية مكبرًا لها، لعرض فصوله على الأستاذ صادق عنبر أو على غيره ليعرب ألفاظه ويصححها قبل أن يدفعها إلى الصحف، ولكنه لم يفعل، فهل أحس هذا الضعف واعترف به حين أراد أن يجمع هذه الفصول في كتاب؟ وأغرب من هذا أن نقرأ الفصول مجموعة فلا نجد فرقًا لغويًّا بينها في هذه السِّفر، وبينها في الأهرام والسفور: ففيها ما فيها من صواب لغوي كبير وخطأ لغوي قليل يُغفر لمنصور؛ لأنه لم يزعم لنفسه في يوم من الأيام تفوقًا في اللغة أو عصمة من الخطأ فيها، وإنما عرفته دائمًا يأسف لأنه لم يظفر من اللغة بما كان يريد.

في هذه الفصول مجموعة أغلاط لغوية كانت فيها متفرقة، ولم يصححها الأستاذ صادق عنبر ولم يعربها؛ لأنه لم يكلَّف تصحيح اللغة ولا إعرابها، وإنما كُلِّف تصحيح التجارب المطبعية طبقا للأصل الذي دفعه إليه المؤلف، فأحسن الأستاذ صادق عنبر هذا التصحيح، وإلا فكيف ترك الأستاذ صادق عنبر الذراع مذكرة تذكيرًا لا يحتمل الشك في صفحة ٣٢؟ وكيف ترك الأستاذ صادق عنبر في صفحة ٨٣ هذا الاستعمال العددي الذي لا يخلو من غرابة، وهو «من نيف وعشر سنين»، وأنا لا أذكر هذين المثلين إلا لأثبت أن الأستاذ صادق عنبر لم يعرب ألفاظًا ولم يصحِّح أخرى، ولم يطلب إليه منصور ذلك، وإنما صحح تجارب المطبعة، فأراد منصور أن يشكر له هذا الجهد، فأسرف في التعبير كما أسرف صديقنا هيكل في استنباط ما استنبط من هذه الحاشية.

وبعد، فمن الحق أن نقف عند ما يمكن أن يوجد في كتاب منصور من انحراف قليل عن طريق العرب في التعبير، فليس منصور صاحب ألفاظ ولا هو يزعم لنفسه ذلك، وإنما هو صاحب معانٍ غزيرة غنية، وخطرات قيمة خصبة. وأنا أريد في هذا الفصل أن أقف عند هذه الخطرات وقفة قصيرة، لأحقق إلى حد ما هذه الشخصية الأدبية التي تمثلها، وهي شخصية صديقنا منصور.

ليست هذه الشخصية قوية إلى حد الطغيان، وليست ضعيفة إلى حد الفتور، وليست هادئة إلى حد الاطمئنان، ولكنها شخصية ثائرة جامحة، دون أن يكون في ثورتها أو جموحها هذا العنف الذي لا يذر شيئًا أتى عليه إلا دمره تدميرًا، فصديقنا منصور ثائر ولكنه لا يحطم شيئًا، جامح ولكنه لا يلبث أن يعود ويطمئن إلى ما يطمئن إليه الناس. هو ثائر ماهر يستطيع أن يخترق الزجاج وينفذ منه إلى ما وراءه دون أن يحطم أو يحدث فيه صدعًا؛ ذلك لأنه ينفذ منه ببصره لا بجسمه. وإذا شئت التعبير الدقيق فقل إنه يرى التجديد ويحبه دون أن يُقدِم عليه؛ لأنه يؤثر العافية ويفضِّل الانتظار. وليس في ذلك شيءٌ من الغرابة، فصديقنا منصور شديد التأثر بفريقين من الفلاسفة؛ أحدهما فلاسفة القرن الثامن عشر في فرنسا، والآخر فلاسفة الاجتماع في آخر القرن الماضي وأول هذا القرن الذي نحن فيه. فأما الفريق الأول فأنت تعلم أنهم أعدوا الثورة الفرنسية ولم يشهدوها، ولو شهدوها لنفروا منها نفورًا شديدًا. وأنت تعلم مقدار ما كان من الفرق بين الحياة العقلية والشعورية والحياة العملية لروسو وفولتير. وأما الفريق الثاني فأصحاب علم وملاحظة، لا يعنون إلا بأن يلاحظوا ويستنبطوا ويتركوا للحوادث طريقها إلى إنشاء التاريخ.

والغريب من أمر صديقنا منصور أنه تأثر بفيلسوفين مختلفين اختلافًا شديدًا؛ أحدهما روسو، وهو صاحب الشعور الدقيق والعواطف الحادة والمزاج المضطرب والخيال الخصب، والآخر دوركيم، وهو صاحب العقل المستقيم والمنهج العلمي الدقيق، وأبعد الناس عن التأثر بالعاطفة والخضوع للشعور، فهو يدرس الجماعة كما يدرس صاحب الحيوان والنبات في معمله.

وأثرُ روسو في الخطرات أشد وأظهر من أثر دوركيم؛ فالخطرات حديث العواطف، وهو حديث وجِّه إلى الكثرة من الناس، فلا ينبغي أن يكون حديثًا علميًّا يخاطب العقل الخالص؛ لأن هذا العقل الخالص لا يوجد في الشوارع، وإنما يوجد في المكاتب المغلقة، ولم يتحدث منصور إلى أهل المكاتب المغلقة، وإنما يتحدث إلى الناس الذين يغدون ويروحون ويمشون في الأسواق، ويختلفون إلى الأندية والملاهي.

ولو أني أردت أن أحدد تأثير روسو في خطرات منصور لأشرت إلى هذا الطموح الظاهر إلى مثل أعلى من الخير يلتمسه منصور، كما كان يلتمسه روسو في الطبيعة الحرة الساذجة التي لم تفسدها الحضارة، ولم يمسخها التكلف، والتي يجدها في الريف، وفي بعض الطبقات من الناس، ثم لأشرت إلى العاطفة الدينية في خطرات منصور، فهي قوية جدًّا تبلغ التصوف أحيانًا، ولكنها غريبة جدًّا لا تكاد توفق إلى تحديدها: فيها من الإسلام وفيها من الروح اليوناني، وفيها من الروح المصري القديم، وفيها من مذهب وحدة الوجود.

وأنت تستطيع أن تجد هذا كله في الفصول التي كتبها منصور حين رحل إلى بلاد اليونان سنة ١٩٢٣ ووقف على الأكروبوليس متأثرًا بوقفة رينان.١
على أن هناك فرقًا عظيمًا جدًّا بين رينان ومنصور حين وقف في الأكروبوليس، فقد كان رينان أديبًا وفيلسوفًا ومؤرخًا. أما منصور فكان أديبًا وفيلسوفًا ليس غير. وكم كنت أحب أن يقرأ شيئًا من تاريخ اليونان قبل أن يذهب إلى أتينا، فهناك فصل أَسِفت له أشد الأسف، ولو استشارني منصور لأشرت عليه بحذفه؛ لا لضعف في معناه أو لفظه فهو قوي المعنى جيد اللفظ،٢ ولكن لبعده عن الحق، ولأنه أراد أن ينصف آلهة المصريين القدماء فظلم آلهة اليونان ظلمًا شديدًا. عنوان هذا الفصل هو «وقفة بالحصن المقدس: العرق دساس». أراد منصور أن يتقرب إلى آلهة الحسن في أتينا، وما أشك في أنه أراد الإلهة أتينا نفسها، وإن كانت عنايتها بالحسن أقل مما ظن منصور بكثير. إنما أفروديت هي التي تُعنى بالحسن، ومع ذلك فالصورة التي تخيلها منصور من الحسن ليرضي الإلهة اليونانية بعيدة كل البعد عما يرضي آلهة اليونان، قريبة كل القرب إلى ما يرضي الغانيات في القاهرة أو باريس. فقد أراد منصور أن يتجمل بأحسن ثيابه، ويرجِّل شعره ويصلح من شاربيه، ويتعطر بأحسن الطيب، ويضع في صدره زهرة غضة ويرسل عليه سلسلة ذهبية، ويضع في أصبعه خاتمًا يتألق، ثم ذهب يشتري عصا، وبينما التاجر يعرض عليه أظرف ما عنده من العصي رأى عصا تمتاز بالمتانة والصلابة والشدة فآثرها؛ لأنه ذكر المصريين وآلهتهم وأنهم كانوا يمتازون بالقوة والمتانة، فانصرف إليهم وانحرف عن الآلهة اليونانية معتذرًا إليها، لأنه من قوم كانوا يؤثرون القوة، ولم ينسَ منصور إلا شيئًا واحدًا ولكنه عظيم الخطر جدًّا، وهو أن الإلهة أتينا كانت إلهة الحكمة من ناحية وإلهة الحرب من ناحية أخرى، وأنها خرجت من رأس أبيها كأقوى ما تكون سلاحًا واستعدادًا للحرب، وأظن أن إلهة الحكمة والحرب لا تنقصها المتانة والقوة، ذلك إلى أن إلهة الحسن نفسها وهي أفروديت كانت عند اليونان قوية شديدة البأس، دافعت عن طروادة فأحسنت الدفاع وكادت تنتصر. فأنت ترى أن جمال هذه الفصل قد ذهب لأن كاتبه لم يكن مؤرخًا حين كتبه.

ولأعد إلى ما كنت فيه من وصف العاطفة الدينية في خطرات منصور، فقد قلت إنها قوية حادة، وأن فيها من الديانات المختلفة والمذاهب الفلسفية ما يذكر برينان، ويكفي أن تنظر إلى هذا الفصل الذي يشبه فيه الجمال بالله وبالقوة الخفية؛ لأنه يعرف بآثاره دون أن تدرك حقيقته، لتحس من قوة هذه العاطفة وسعتها ما يثبت صحة ما أقول.

ولروسو تأثير آخر في خطرات منصور كاد يجعله كاتبًا بارعًا من الوجهة اللفظية لولا أنه لم يدرس اللغة العربية درسًا عميقًا، ذلك أن روسو قد بثَّ في نفس منصور قوة غريبة تُكرهه على أن يُظهر ما يشعر به قويًّا كما يشعر به؛ أي في قوة وعنف، فيحمله ذلك على أن يخترع صورًا من التعبير ليست مألوفة، وكانت خليقة أن تبقى وتؤرخ عصرًا من عصور اللغة لو استقامت لصاحبها طرق التعبير، ولو أنه تأنَّى وتمهَّل ولم يخرجها عجلان مسرعًا.

وأنت تجد صورة قوية من هذا في الفصل الذي كتبه يودع به العام، فيأخذ يفكر ويستعرض الحوادث وينتظر آخر لحظة في السنة، حتى إذا أخذت الساعة تدق خيِّل إليه أن كل دقة من دقاتها تحصي أثرًا من آثار العام، فأعلن بهذه الصورة الغريبة الطريفة التي كادت تكون بديعة لولا أنه تعجَّل ولم تستقم له اللغة، فأصبحت صورة مضحكة، أو داعية إلى الابتسام. وأنا أنقلها لك لترى صحة ما أقول:
تن … سخرت من الغافلين حتى صحوا من الشدة والمحن …
تن … أغريت الإنسان بالذهب الوهاج فتهافت على ناره كما يتهافت على النور الفَراش …
تن … جعلت في الناس والأمم من يعملون لقتل الضعيف ولو كان بريئًا …
تن … آويت اللص وسترت الخديعة، وكثيرًا ما أعليت الباطل على الحق …
تن … نفرت بين قلوب، وأشعلت ضغائن، وأثرت فتننا …
تن … صرفت الناس عن وجهك يا الله ليعمدوا إلى الأثرة والشهوات …
تن … تمخضت بآراء وقدمت عظات وعبرًا، ولكن الناس لا يفقهون …
تن … أحرقت أفئدة وأجريت دموعًا وشربت دماءً …
تن … كم من صحيحٍ أضعفت … وكم من عزيزٍ أذللت … وكم من عليلٍ داويت …
تن … جردت أشجارًا من ورقها الأصفر الجاف … وأبدلتها منه ورقًا جديدًا … وجعلت عليها زهرًا نضيرًا …
تن … صرفت العاشقين وهم في سكرات القُبل عن مرارة العيش. ثم أخذتهم أخذ الجبار فبدلت هناءهم تعسًا. وبدلت سعادتهم شقوةً وجحيمًا …
تن … لبيك اللهم لبيك …

هذه الآثار القوية المختلفة التي تركها روسو في نفس منصور جعلت منه كاتبًا، ليس كغيره من الكتاب المعاصرين، نزعته الفلسفية في جوهرها غريبة بعض الشيء لأنها لا تلائم العصر الذي نحن فيه، ولكنها في شكلها وظاهرها مألوفة يحبها الناس؛ لأنها سهلة تدعو في يسر ولين وقوة إلى الخير، وإلى الفضائل التي أحبها الناس وألفوا حبها، تدعو إلى الرحمة والإشفاق والبر والحنان والوفاء، وما إلى ذلك من الفضائل الاجتماعية والفردية. ولا بد هنا من الإشارة إلى ناحية أخرى لا تتم بدونها شخصية منصور، وهي شرقيته، فمنصور مؤمن بالرابطة الشرقية إيمانًا قويًّا قديمًا، لعله يعتمد على الوراثة والمزاج الفطري أكثر مما يعتمد على الروية والتفكير العقلي. والذين يعرفون صديقنا منصورًا يشكُّون في أن أشد الأوتار التي تتألف منها نفسه حسًّا واضطرابًا وترديدًا لأصداء الحياة إنما هو حبه للشرق وفناؤه فيه.

كان شرقيًّا حين كان طالبًا للعلم في باريس، كان يألف الشرقيين أكثر مما يألف الغربيين، كان يألف الشرقيين على اختلافهم، كان يألف أبناء الشرق القريب من العرب والترك، وكان يألف أبناء الشرق الأوسط من الفرس، وكان يحس من نفسه ميلًا لا يخلو من حنان إلى أبناء الشرق الأوروبي من الروسيين والبولونيين. ثم عاد إلى مصر، فلما ضاقت به واضطر إلى الرحيل عنها نفى نفسه إلى الشرق، فهاجر إلى قسطنطينية وأقام فيها حتى ردته الحرب إلى وطنه، فعاد شرقيًّا كما تركه شرقيًّا. ولم يكد يشترك في الحياة الاجتماعية الظاهرة حتى كان نشاطه قويًّا عنيفًا يكاد يبلغ التعصب في إنشاء الرابطة الشرقية وتأييدها، وهو الآن من أقطابها الظاهرين. وهو في هذا كله يصدر عن العاطفة والوراثة أكثر مما يصدر عن الروية والتفكير. وقد أثَّرت شرقيته هذه في خطرات نفسه كما أثرت في حياته العملية وصِلاته الاجتماعية، فهو في الخطرات شرقي، لولا الحياء وخشية أن يوصف بالرجعية لآثر القديم الشرقي على الجديد الغربي في غير تحفظ ولا احتياط، وأحسب أنه سينتهي على مر الزمن إلى هذا الموقف فيصبح محافظًا مسرفًا في المحافظة.

وهو في صِلاته الاجتماعية قريب من بيئة المحافظين المعتدلين الذين لا يكرهون التجديد، ولكنهم لا يقدمون عليه إلا في استحياء. وهو يعد بين الأزهريين أصدقاء يحبهم ويحبونه، ويميل إليهم ويكلفون به. وقد لاحظ الأستاذ حبيب هذه الخصلة في صديقنا منصور ومصطفى عبد الرازق، فأشار في بحثه الأخير عن المعاصرين من أدباء مصر إلى أنهما يستمتعان برضى البيئات المحافظة.

أما أثر علماء الاجتماع المعاصرين في منصور فلا يكاد يظهر في الخطرات إلا حين يتحدث منصور عن الجماعة، فنراه يفهمها ويصفها على نحو ما كان يفهمها ويصفها دوركيم. ولكني قلت آنفًا إن صديقنا لم يتحدث في الخطرات إلى العلماء، وإنما تحدث إلى الكثرة من الناس، فلم يكن من اليسير أن تصور الخطرات حياته العلمية، وهو بخيل إلى الآن بإظهار هذه الحياة العلمية في كتاب ينشره على الناس، وهو يزعم في تواضع فلسفي أنه لا يحب أن يظهر هذا الكتاب حتى يتم نضجه العقلي، كأنه يريد أن يخيل إلى الناس أن عقله لم ينضج بعد، ولكن أصدقاءه وطلابه في الجامعة لا يطمئنون إلى هذا التواضع، ولا يسحرهم هذا الخيال، فهم يتمنون على الأستاذ أن يفرغ لهم قليلًا، وأن يبيح لهم شيئًا من آثار عقله الذي تم نضجه منذ دهر طويل.

أثارت الخطرات في نفسي هذه المعاني، ولما أقرأ منها إلا نصفها أو ما دون النصف، ولست أدري متى أقف لو انتظرت بكتابة هذا الفصل أن أقرأ الكتاب كله. وإنك ترى معي أني قد أطلت وأسرفت في الإطالة، فلأتم وحدي قراءة هذا الكتاب القيم.

فينا، يونيو سنة ١٩٣٠

(٣) ديكارت

شيخان من أنصار القديم قرآ كتاب «الشعر الجاهلي» الذي أذعته منذ أسابيع، وكانا قد سمعا به قبل أن يظهر، وكانا قد أزمعا الرد عليه بعد ظهوره. فلما ظهر الكتاب قرآه كله أو بعضه، فاعترضهما فيه اسم ديكارت ومنهجه الفلسفي. والله يصرف الكون كما يريد، ويجري الأقدار فيه كما يحب، وقد أراد الله أن يظهر اسم ديكارت وفلسفته منذ ثلاثة قرون، وأن يطبع العصر الحديث كله بطابع ديكارت، وأن يتغلغل تأثير ديكارت كاسم أرستطاليس عنوانًا لطور من أطوار الحياة الإنسانية العامة التي تلزم الأجيال مهما تختلف بها الأزمنة والأمكنة. أراد الله هذا كله، وأراد معه شيئًا آخر هو أن يظل ديكارت مجهولًا عند طائفة من شيوخ الأدب في مصر، لا يعرفون اسمه ولا مذهبه، ولا يدركون كيف يؤكل، وإن دروا كيف تؤكل الكتف، ولا يعرفون كيف يشرب، وإن عرفوا كيف تشرب القهوة والشاي، وكيف يشرب الخروب والعرقسوس. وإذا أراد الله أمرًا فلا مرد له، وليس لنا أن نذعن للقضاء ونصبر لجهل شيوخ الأدب العربي اسم ديكارت وفلسفة ديكارت في العصر الذي يحرص الإنسان فيه على أن يعلم كلما استطاع أن يعلم.

ومن غريب الأمر أن شيوخ الأدب القديم يرون ويكتبون كما كان يرى الأدباء القدماء، ويكتبون: أن الأديب «هو من يأخذ من كل شيءٍ بطرف.» كذلك قال شيخ الأدب في دار العلوم، وإنما أريد الأستاذ الشيخ علام، قال ذلك في «السياسة» منذ أسبوعين، ولم يكن في ذلك مجدِّدًا، وإنما كان يحكي القدماء ويرددهم. وقد كان المبرِّد حريصًا كل الحرص على أن يأخذ الأديب من كل شيء بطرف، وظهر ذلك في كتاب الكامل ظهورًا واضحًا، حتى إنك لترى فيه بابًا قال المبرد في عنوانه: «بابٌ نذكر فيه من كل شيءٍ شيئًا.» وكُتب الأدب العربي القديمة كلها قائمة على هذا النحو من تصور الأدب والأديب. والأستاذ الشيخ علام وأصحابه يرون رأي القدماء، ويكتبون أن الأديب يجب أن يلم من كل شيء بطرف، ولكنهم لا يلمون من كل شيء بطرف، بل يجهلون ديكارت وفلسفته، وأثره البعيد في حياة العقل والشعور كما قلنا.

وهم يجهلون ناسًا آخرين غير ديكارت، وأشياء أخرى غير فلسفة ديكارت، ولكنهم مع ذلك يرون أنهم أدباء، وأنهم قد ألموا من كل شيء بطرف، ومعذرتهم في هذا قائمة: فديكارت ليس شيئًا وفلسفته ليست شيئًا، والحق عليهم أن يلموا من كل «شيء» بطرف. فأما ما ليس «شيئًا» فلا ينبغي أن يلموا منه بقليل ولا كثير، فإذا أردت أن تعرف لمَ لا يكون ديكارت شيئًا من الأشياء، ففي جواب ذلك قولان؛ أحدهما أن الشيء الذي ينبغي أن يلم الأدباء بطرف منه هو الشيء الرسمي الذي اشتمل عليه برنامج التعليم الرسمي في وزارة المعارف، فعلى الأديب أن يلم بعلوم العربية، وأن يلم بالرياضيات والطبيعيات. وليس في البرنامج الرسمي لوزارة المعارف ذكر ديكارت ولا فلسفة ديكارت، وإذن فهما ليسا في الورقة الصفراء … وإذن فليس الأديب مكلفًا أن يلم منهما بطرف لأنهما ليسا شيئًا.

هذا أحد القولين، وهناك قول آخر، وهو أن الشيء الذي ينبغي أن يلم الأديب منه بطرف هو الشرقي القديم … أستغفر الله العظيم وأتوب إليه، بل هو العربي القديم. مصر الفراعنة ليست شيئًا، ومصر اليونان والرومان ليست شيئًا، وليس الأديب مكلفًا أن يلم منها بطرف، وأقسم ما يعرف الأستاذ الشيخ علام وأصحابه لها طعمًا … أستغفر الله العظيم وأتوب إليه، بل الشيء هو العربي القديم الذي لا يتجاوز بلاد العرب والشام والعراق في العصور العربية الأولى والأندلس في بعض عصورها الإسلامية، فأما مصر الفاطميين والمماليك، فأما أفريقيا الشمالية، فليست شيئًا وللأدباء أن يجهلوها، وهم يجهلونها بإذن الله. وإذن فأوروبا ليست شيئًا، وإذن فديكارت ليس شيئًا وفلسفته ليست شيئًا. وجهل أوروبا وديكارت وفلسفته ليس من الأمور التي تعاب على الأديب. ورحم الله شيخًا من شيوخنا في الأزهر أراد أن يرفع في يومٍ من الأيام ظُلامة إلى المحافظة، فلم يستطع أن يكتب ما كان يريد، فاستعان بأحد «أبناء المدارس» معتذرًا أو مفاخرًا بأنه لا يحسن مثل هذا السخف الجديد. فلشيوخ الأدب أن يعتذروا أو أن يفاخروا بأنهم يجهلون ديكارت وفلسفته لأنهما ليسا شيئًا، ولأن من السخف أن يضيع الأديب وقته في درسهما، وخير من ذلك وأجدى أن ينكبَّ الأديب على فقرة من فقرات الحريري، أو مقامة من مقامات البديع، أو بيت من شعر امرئ القيس.

ولكن حظ الأديب سيئ أبدًا، وأنت لم تنسَ بعدُ حرفة الأدب التي قتلت ابن المعتز، ونتفت لحية الحريري، وحالت بين لفظ الأدب وبين الورود في القرآن، فالأدب لذيذ ولكنه شؤم على أهله. ومن شؤم الأدب على الأدباء أن كتابًا ظهر في هذه الأيام يقال له «الشعر الجاهلي» ويجب على الأدباء أن ينقدوه وينقضوه ويهدموه ويهدموا كاتبه، ويتقربوا بهذا النقد والنقض والهدم إلى الله أو … إلى الشيطان. وقد أقسموا ليفعلُنَّ، وقد بدءوا يفعلون، فما هي إلا أن اعترضهم هذا الشيء، وهو اسم ديكارت وفلسفة ديكارت.

والحق نقول إن موقفهم بإزاء هذا الاسم والفسلفة كان بديعًا لا يخلو من فكاهة وظرف؛ فأما أحد هذين الشيخين اللذين ذكرتهما في أول هذا الفصل، واللذين أهدي إليهما هذا البحث، فقد كتب في تواضع يشبه الكبرياء أنه لا يعرف ديكارت ولا مذهبه، وأنه يظن أو يرجِّح أن مذهب ديكارت قريب من المذاهب الإسلامية، وأن صاحب «الشعر الجاهلي» قد حرَّف هذا المذهب لحاجة في نفسه أو كما قال الشيخ. وأما الآخر فعزيز عليه أن يتكبَّر أو يتواضع على هذا النحو، وهو قد تعوَّد أن يستغل الرافعي واليازجي والسكندري وابن مكرم دون أن يذكرهم أو يشير إليهم، فلمَ لا يستغل في أمر ديكارت حيًّا أو ميتًا يشبه هؤلاء؟ وقد بحث بين الأموات فلم يجد، وبحث بين الأحياء فلم يجد من كتب عن ديكارت أو أشار إليه، وهو لا يعرف لغة ديكارت ولا لغة أجنبية أخرى.

وإذن فليلجأ إلى أحد الذين يعرفون لغة من هذه اللغات ليقصَّ عليه أمر ديكارت ويلخِّص له فلسفته، حتى إذا استقام له ذلك في صفحات أو أسطر تكلَّم عن ديكارت وفلسفته كلام العالم المحقق، وأثبت لصاحب «الشعر الجاهلي» أنه لا يفهم ديكارت، ولا يحسن تخريج مذهبه الفلسفي. وكان قد تفوق على زميله الذي يكتب في «الأهرام» فعرف من أمر ديكارت وفلسفته ما لم يعرف هذا الشيخ المسكين.

وأنا أحد الذين يعرفون لغة أجنبية، وأحد الذين يحسنون لغة ديكارت، وأحد الذين قرءوا كتب ديكارت، وأحد الذين قرءوا ما كُتب عن ديكارت. وأنا أريد أن أهدي إلى الشيخين بحثًا عن حياة ديكارت وفلسفته، ليتمَّا به أدبهما ويستعينا به على هدم كتاب الشعر الجاهلي، والتهام صاحب هذا الكتاب التهامًا. وأنا مخلص فيما أكتب، فأنا أحب أن يلتهمني الشيخان؛ لأني أعرف أن حلقيهما إن استطاعا ازدرادي فستعجز معدتاهما عن هضمي.

أنا أهدي إلى الشيخين بحثي عن حياة ديكارت، ولكني أهديه إليهما على أن يقرآه ويفقهاه فقهًا «حسنًا» لا يشبه فقههما «للشعر الجاهلي» ولا للسان العرب، ولا لما كتب الرافعي أو أملى السكندري. وأنا أهدي هذا البحث إلى الذين يعرفون ديكارت من المتفرنجة والمتعلمين على اختلافهم، ذلك أني أعلم من أمر ديكارت ما لا يعلم الناس في مصر، فقد كنت أريد أن أضع فيه كتابًا، واضطرني ذلك إلى كثير من البحث والتحقيق، وإلى ألوان من الاستقصاء والاستقراء. ولكني لا آسفُ على ما لقيت من عناء، فقد وصلت إلى نتائج غريبة قيمة، لو أعلنتُها في فرنسا لاندكَّت لها السربون، ولاضطربت لها الكوليج دي فرانس، ولأعلن لها المجمع العلمي الفرنسي إفلاسه … لا تضحك ولا تعجب فلستُ أحدثك إلا بالحق الذي لا شك فيه ولا غبار عليه. ويكفي أن تعلم أني استكشفت طائفة من الكتب المخطوطة التي كُتبت في النصف الثاني للقرن السابع عشر بعد أن مات ديكارت بسنين قليلة، والتي كانت محفوظة في مكتبة الملك الخاصة، حتى إذا كانت الثورة الفرنسية، وتبدد ما في القصر ضاعت هذه الكتب، ولم يستطع أن يظفر بها الذين أنشئوا المكتبة الأهلية في باريس بعد الثورة، وأخذت أسرةٌ من الأسر الشريفة تتوارث هذه الكتب، حتى انتهت إلى صديق لي فرنسي، كان يدرس معي، وهو يقيم في ريف بورجونيا، فدعاني في بعض فصول الصيف أن أقضي عنده أيامًا ففعلت، وأظهرني على مكتبة آبائه، فإذا فيها هذه الكتب المخطوطة، فدرسناها معًا، ولم نستوفِ درسنا بعد، وسنقدمه إلى السربون يوم نستوفيه، وسننشر هذه الكتب على الناس، وسنودع أصولها المخطوطة المكتبة الأهلية بباريس، وسيعلم الناس يومئذٍ أنهم لم يؤتوا من العلم عن ديكارت إلا قليلًا، وستعلم الحكومة الفرنسية يومئذٍ أن هذه الطبعة الرسمية التي نشرتْها في اثني عشر مجلدًا ضخمًا لا تشتمل إلا على ما كان يكتبه ديكارت ليلهو ويعبث ويلهي الناس عن فلسفته الصحيحة.

فديكارت كأرستطاليس يذهب في الفلسفة مذهبين مختلفين أحدهما يعلنه إلى الناس، فإنهم يستطيعون أن يفهموه وأن يسيغوه، والآخر يحتفظ به لنفسه وللأصفياء من تلاميذه، ولا يذيعه في الجماهير لأنه أعسر وأدسم من أن تحتمله عقولهم.

وقد ظفرتِ الحكومة الفرنسية بالقسم الأول من آثار ديكارت، فعهدت إلى عالِمين من أكبر علماء فرنسا بتحقيقه ونشره ففعلا، ووقع هذا القسم في اثني عشر مجلدًا ضخمًا كما قلت لك، ولكن من يقرأ هذه الطبعة الرسمية أو هذه المطبوعة الرسمية — على رأي وحيد — ويقارن بينها وبين ما سننشره قريبًا، سيرى أن ديكارت كان غريبًا حقًّا؛ فقد كان يأتلف من شخصين يختلفان فيما بينهما كل الاختلاف؛ أحدهما فيلسوف معتدل معقول يكتب بالفرنسية حينًا، وباللاتينية حينًا آخر، ويتناول فيما يكتب كل ما تناوله الفلاسفة من قبله، ويذهب فيما يكتب مذهب التجديد، فيخيل إليك أنه سيؤسس فلسفة جديدة تهدم ما أقامه أرستطاليس وتلاميذه؛ ذلك لأنه يتخذ لفلسفته هذه قاعدة لم يألفها الناس، هي نسيان القديم والبراءة منه كله، وافتراض أنه لم يكن، حتى إذا قرأت هذه الفلسفة وتعمقت فيها لم تجد جديدًا. ولا شيئًا يشبه الجديد، وإنما هو كلام ككلام الفلاسفة فيه كثير من الحدود والقضايا والأقيسة. ومع ذلك فقد فُتن الناس بهذا الشخص، واعتبروه أبا الفلسفة الحديثة، ومؤسس العلم الجديد. ولكن الشخص الثاني هو الذي لفتنا وبهرنا، لما فيه من غرابة كنا ننتظر كل شيء إلا إياها؛ ذلك أن ديكارت لم يكن مسيحيًّا ولا فيلسوفًا، ولا من أصحاب التجديد، ولا من أنصار هذه الحقائق الثابتة التي أَلِفها الناس، وإنما كان مسلمًا ديَّانًا متصوفًا مغرقًا في التصوف، شطَّاحًا مسرفًا في الشطح. انتهى به هذا كله إلى شيء لا أستطيع أن أسميه إلا «إظهار الكرامات». ولعل أحسن طريق لشرح هذه الناحية الخفية من حياة ديكارت أن ألخص لك في شيء من الإيجاز بعض ما كتبه ديكارت عن نفسه، وما وجدناه في هذه الكتب «المخطوطة» التي حدثتك عنها آنفًا.

وُلد ديكارت في القرن السادس عشر للمسيح، وكانت أسرته فقيرة، شديدة المحافظة على العادات القديمة والسنن الموروثة، فلما شبَّ أرسلته أسرته إلى مدرسة اليسوعيين، فتعلَّم فيها على نحو ما كان اليسوعيون يُعلَّمون. أتقن اللاهوت وفلسفة العصور الوسطى واللغتين اللاتينية واليونانية، ولكنه كان ذكيًّا حاد الذهن، مستعدًّا للنقد والشك، فاضطربت نفسه اضطرابًا شديدًا حين أحس تناقضًا بين قواعد اللاهوت وفلسفة أرستطاليس، ولكنه لم يُظهر من هذا الشك شيئًا؛ لأنه كان محافظًا كأبويه وأساتذته اليسوعيين. على أنه لم يكد يدع المدرسة حتى سئم الحياة التي وجَّهه إليها أبواه، وهي حياة الحرب، فانصرف إلى السياحة، ولقي في هولاندا رجلًا شيخًا من اليهود، يقال له دروكلكسيس بن كراباك. قال ديكارت: كان لهذا الشيخ تأثير غريب في نفسي، لا أدري أكان مصدره ذكاءه وفطنته أم غرابة شكله واختلاف أطواره العجيبة. كان قصيرًا ضخمًا، عريض ما بين الكتفين، صغير العينين غائرهما، ولكن عينيه كانتا شديدتي التوقد كأنهما شعلتان تضطربان، عرش الأذنين، دقيق الأنف، غليظ الشفتين، مُرسل اللحية، فأما صوته فلا أعرف أني سمعت صوتًا يشبهه. أما في حديثه العادي فكان غليظًا متهدجًا أشبه شيء بالرعد، فإذا ناقش أو ناظر في العلم كان نحيف الصوت حاده خلاب الحديث.

ولا أعرف أني رأيت عالمًا يحيط بمثل ما كان يحيط به هذا الرجل مما كتب الأولون والآخرون، كان يهودي الجنس والمولد، ولكنه لم يكن يهودي الدين، وأحسب أنه قد ورث شيئًا من آبائه الذين خالطوا المسلمين مخالطة شديدة في إسبانيا. كان غنيًّا ولكنه شديد الزهد فيما كان يملك من ثروة، إلا أنه كان يحب الاستمتاع بالطيب من لذات الحياة، وكان يعجبني في بيته شيئان: مائدته ومكتبته. تحدثت إليه في الفلسفة وفي اللاهوت، فسمع مني وتحدث إليَّ، وما هي إلا أن فُتنت به وشغف بي، وأصبحتُ لا أستطيع عن لقائه صبرًا. وقد كان في حديثه إليَّ ماهرًا لبقًا، يلقي إليَّ أغرب الآراء، وكأنه يحدثني عن الجو والمطر، حتى إذا آنس مني اطمئنانًا إليه، وثقة بكل ما يقول، كشف لي عن دخيلة نفسه، فإذا هو لا يؤمن بالمسيحية ولا اليهودية، ولا يحب الإلحاد ولا الملحدين، وإنما اتخذ لنفسه دينًا كنت أسمع به، ولا أعرف من حقيقته شيئًا، فلما رغبتُ إليه في أن يُظهرني على دقائق هذا الدين أطال الصمت، ثم قال في هدوء: ما أحب أن أُظهر لك هذا الدين، وإنما أحب أن يظهر لك الدين نفسه فاتبعني، ثم مضى بي إلى مكتبته واستخرج سِفرًا ضخمًا دفعه إليَّ، وقال اقرأ هذا، فإذا فرغت منه فلنتحدث. ثم تركني ومضى ونظرت في الكتاب فإذا هو باللاتينية، وإذا هو ترجمة لكتاب كتبه أحد المسلمين في القرن العاشر للمسيح، يقال له الطواسين، ويقال لصاحبه الحلاج،٣ ولم أكد أمضي في هذا الكتاب حتى أحسست كأن بيني وبين الحقائق سترًا صفيقًا، وكأن هذا الستر أخذ يرتفع شيئًا فشيئًا، ويظهر لي من ورائه عالَم بديع غريب خلاب، وأخذتْ نفسي تمتلئ شوقًا إلى هذا العالَم وهيامًا به. أنفقت في قراءة هذا الكتاب أيامًا ثلاثة، فلما فرغت منها أنكرت نفسي وأنكرت ما حولي من الأشياء ومن حولي من الناس. ولقيني دروكلكسيس فلم يظهر عجبًا ولا إنكارًا.

وإذا كنت لا أزال حيًّا إلى الآن، وإذا كنت قد استطعت أن أنشر في الناس كتبًا أعجبتهم، وأكتب لنفسي كتبًا قرءوها، وإذا كان صوتي قد وصل إلى أقصى أطراف الأرض، وتنافس الملوك في عشرتي والاستئثار بي، أنا مدين بهذا كله لدروكلكسيس بن كراباك؛ ذلك أني خرجت من قراءة ذلك الكتاب مفتونًا، أريد أن أعلن إلى الناس إيماني بهذا الدين الجديد، وأناضل عنه بما أملك من قوة. ولكنه حال بيني وبين ذلك، وكان يقول لي في هدوء: احذر أن يصيبك ما أصاب الحلاج فلا تنتفع بحياتك، ولا تنفع بها الناس، والحياة أغلى وأنفس من أن تُبذل في غير نفع، فاكتم ما أنت فيه وأنفق حياتك في التسبيح والتقديس، وانفع الناس ما استطعت إلى نفعهم سبيلًا.

من ذلك الوقت آثرتُ العزلة، وعشت هذه المعيشة التي كان الناس يعجبون من أمرها.

وفي الحق أن حياة ديكارت كانت غريبة، فقد كان ينفقها في موقد له لا يخرج منه إلا مضطرًّا، وكان يقسم وقته أربعة أقسام؛ أحدها لما يحتاج إليه جسمه من العناية المادية، وكان يقتصد في هذه العناية اقتصادًا شديدًا، لا يأخذ من الأكل والشرب والنوم إلا بما يمسك عليه الحياة، والثاني ينفقه في الكتابة والتأليف فيما ينفع الناس في هذه الحياة العاجلة، والثالث في التفكير الفلسفي والإشراقي، والرابع في التسبيح والتقديس وتلاوة صيغة معينة أخذها عن شيخه دروكلكسيس بن كراباك. وكان لترديده إياها تأثير عظيم في حياته العملية والعقلية، قال ديكارت:

بينا أنا في موقدي ذات يوم أردد ما تعوَّدت ترديده من صيغ التسبيح والتقديس، إذ أخذتني غفوة، فرأيت فيما يرى النائم كأن سقف البيت قد انشقَّ، وكأن طائرًا قد هوى إلى الموقد، له شكل الهدهد، ولكنه أكبر منه حجمًا وأعرض منه جناحًا، وكأن هذا الطائر قد وقف قبالة الموقد محدِّقًا في، منصتًا لما أقول، وكأنه قد أنكر صمتي ونومي، فقال في لغة لاتينية تبينتها في وضوحٍ وجلاءٍ: عجبًا لهذا الصامت النائم والفلك يدور، وشيخه في خطر. فاستيقظت لهذا الصوت في شيءٍ من الانزعاج، ونظرت فلم أرَ شيئًا، ولكني أشفقت على دروكلكسيس وأردت أن أراه، فسعيتُ إليه من فوري ولم أكد أسأل عنه حتى حُدِّثت أنه مريض، وأن الطبيب يخشى عليه. فأُدخلت عليه، فإذا هو في سريره شاحب ضعيف يتردد نفسه قويًّا في صدر فارغ، فجثوت عند سريره، وأخذت أدعوه في رفق، وكأنه كان نائمًا فانتبه وقال: هأنذا قد أقبلت، لقد أرسلتُ أدعوك وكنت أخشى أن أفارق هذه الحياة قبل أن أراك، فهل جاءك رسولي؟ قلت: من رسولك؟ قال: بريبيش، قلت: هذا اسم لم أسمعه من قبل! قال: ولكنك رأيت مسماه منذ حين، هو طائر يشبه الهدهد ويتكلم لاتينية سيسرون، فاحفظ اسمه فسينفعك، وادعُهُ كلما احتجت إلى شيءٍ شاق، ومرْهُ بما شئت فستجد منه طاعةً وإخلاصًا ونصحًا، واعلم أنه موكل بزعماء المتصوفة منذ كانوا، يقدمهم ويقضي حاجاتهم، لا يجد في ذلك مشقةً ولا عسرًا، وهو فوق العلة، وفوق الموت حتى تنقرض طائفة المتصوفة ويموت بعد آخرهم بقليل. خدم متصوفة الهند قبل المسيح بآلاف السنين، وأشرف على بناء الأهرام، وأملى ما كُتب فيها من طلاسم، وأعان فيثاغورس، ورافق أفلاطون في سياحته، ولزم الحلاج وابن الفارض ومحيي الدين بن العربي، وسيلزمك منذ غد، وسيعينك على سياحات لا بد من أن تسيحها في الأرض، فأنت مضطر إلى زيارة البيئات الصوفية في بغداد والقاهرة وتلمسان وفارس، على أني مؤدٍّ إليك أمانة يتناقلها زعماء الصوفية ويتوارثونها وهي لهم نافعة، فخذها فأنت زعيم الصوفية بعدي.

ثم أخرج من تحت وسادته علبة صغيرة من الذهب، أشبه شيء بعلب النشوق التي يصطنعها الشيوخ في مصر، وقال: احتفظ بها ولا تفتحها إلا حين يطلب ذلك إليك صديقنا بريبيش، واحفظ عني هاتين الصيغتين تستقبل بأولاهما النهار وبآخرهما المساء ما حييت، ثم همس بالصيغتين في أذني على أنهما سر لا يباح إلا لزعيم. وما هي بعد ذلك إلا أن اضطرب جسمه اضطرابًا شديدًا ثم هدأ وقد فارقته الحياة، وإذا بريبيش قد ظهر في الغرفة، وقال في هدوء: انصرف فقد مضى صاحبك، ودع هذا الجسم لأهله فليس لك به شأن، فخرجت.

وهنا يصف ديكارت حزنه على صاحبه في عبارات مؤثرة حقًّا، ولكن صحف «السياسة» محدودة، فلأدَعْ حزن ديكارت، ولأتمَّ ما أنا فيه من ذكر حياته الغريبة.

أصبح ديكارت بعد انصرافه من عند صاحبه، فاستقبل النهار بالصيغة التي أداها إليه دروكلكسيس. وما كاد يستقر في موقده حتى جاءه بريبيش، فقال: ما أنت وهذا الموقد، وما أنت والكتابة والتفكير؟ هلمَّ إلى سياحتك. قال ديكارت لبريبيش: ولكني لم أعدد لهذه السياحة شيئًا، فدعني أدبر أمري. قال بريبيش: ومتى دبَّر الصوفية لأنفسهم أمرًا! قم فانطلق معي. ومضى في الجو قريبًا من الأرض يسايره فيلسوفنا حتى خرجا من المدينة، وإذا جرَّة ضخمة من الفخار قد نقشت عليها نقوش وتصاوير لم يرَ مثلها ديكارت. قال بريبيش: امتطِ هذه الجرَّة وردد صيغة المساء مرات، ففعل، وإذا الجرة تصعد به في الجو حتى أشفق على نفسه، ولكن الجرَّة ماضية، ماضية في الجو لا تلوي على شيء، والطائر موازٍ لها يمضي في رفق ويتلو في إعجاب خطبة من خطب سيسرون التي ألقاها في مجلس الشيوخ الروماني يعنِّف بها كاتيلينا، وهو يحلل هذه الخطبة ويظهر للفيلسوف ما فيها من آيات البلاغة. ومضيا على هذا النحو ساعات، وإذا بريبيش يقول لصاحبه: انظر إلى الأرض، فينظر فلا يرى إلا أمواجًا تلتطم وتصطخب، فيسأل صاحبه: أين نحن؟ فيجيبه: نحن نعبر البحر إلى الإسكندرية.

وانتصف النهار، أحس فيلسوفنا الجوع والظمأ، فيسأل الطائر: من لنا بطعام وشراب؟ قال بريبيش: والعلبة التي أهداها إليك أمس دروكلكسيس أين هي؟ هي معي. إذن فأخرجها وافتحها، فيخرج العلبة ويفتحها فلا يروعه إلا فتاة ظريفة قد خرجت منها مبتسمة محيِّية مصفِّقة، وإذا فتيان وفتيات قد أقبلوا إليها من الجو مسرعين، وإذا هي تأمرهم بلغة لا يفهمها ديكارت فيسائل صاحبه ما هذه اللغة؟ فيجيبه: هي اللغة السريانية التي لا بد لك من أن تتعلمها بعد حين. وما هي إلا لحظات حتى وقفت الجرَّة في الجو لا تتقدم ولا تتأخر، ونصبت أمامها في الجو مائدة فخمة صُفَّت عليها الصحاف والأكواب من الذهب والفضة، وقُدِّمت عليها ألوان من الطعام لا عهد لديكارت بلذتها وحسن مذاقها في الفم وموقعها في المعدة، فأكل الفيلسوف وشرب، ومن حوله الطير تصدح بأنغام لذيذة حلوة، حتى إذا تم له من ذلك ما اشتهى رُفعت المائدة، واستخفى كل شيء، وأقبلت الفتاة السريانية مبتسمة قائلة في ظرف وخفة: والآن فأدخلني علبتي، فيفتح لها الفيلسوف العلبة فتستخفي فيها، وتستأنف الجرة سيرها في الجو. ويأخذ بريبيش في قراءة لخطبة التاج التي ألقاها ديموستين على الأتينيين محللًا مستنبطًا أسرار البلاغة اليونانية، فإذا سأله ديكارت عن حبه اللاتينية واليونانية، قال: أنا موكل بالأدب أحبه وأنفق فيه حياتي، ولست أؤثر أدبًا على أدب، وإنما أحيط بالآداب كلها. وأنت تعلم أن الأديب يجب أن يلمَّ من كل شيءٍ بطرف، قال ذلك أدباء العرب وسيقوله في آخر الزمان منهم رجل يقال له الشيخ علام، وإذا كنت قد تلوت عليك خطبة سيسرون وخطبة ديموستين، فذاك لأنك تعرف اللغة اللاتينية واليونانية، وسأتلو عليك غدًا قصيدة عربية وضعها رجل يقال له خلف الأحمر، ونسبها إلى شاعر يقال له النابغة الذبياني، وهي قصيدة جيدة لا يشك سامعها في أنها قديمة، وقد استشهد النحاة بشيء كثير منها على قواعد النحو العربي.

قال ديكارت: وأي فائدة في تلاوة هذه القصيدة أو غيرها من الشعر العربي، وأنا أجهل لغة الحلاج، ولا أستطيع أن أقرأ هذا الكتاب القيم كتاب الطواسين إلا في هذه الترجمة اللاتينية التي نُشرت في القرن الثالث عشر، والتي أرجِّح أنها لا تخلو من خطأ.

قال بريبيش: ستعرف اللغة العربية وتتقنها إذا أمسيت، فليس يباح لك أن تدخل بلدًا دون أن تعرف لغة أهله، وإذا كنت ستزور أطراف الأرض كلها فستعرف لغات الناس جميعًا، قال ديكارت: ومن لي بذلك؟ قال بريبيش: أنا لك به، انظر إلى هذه العلبة الصغيرة، إنها تحتوي اللغات جميعًا، فيها أقراص تشبه أقراص النعناع، كل واحد منها يمثل لغة من اللغات، فإذا أشرفنا على البلاد العربية فسأدفع إليك قرص اللغة العربية تزدرده، فإذا أنت أقدر الناس على أن تنشد وتفهم وتنقد ما ينسب إلى امرئ القيس من شعر، وما يضاف إلى تأبط شرًّا من سخف، وما يُحكى عن قس بن ساعدة من وعظ وإرشاد، وإذا أنت من أقدر الناس على مناقشة سيبويه والخليل والمبرِّد فيما تركوا من قواعد النحو والعروض والقافية والصرف، فانتظر. وانتظر ديكارت حتى إذا مالت الشمس إلى الغروب نظر فإذا من تحته مدينة يموج الناس فيها موجًا. قال لصاحبه: ما هذه المدينة؟ قال: هي مدينة طنطا يحتفل الناس فيها بمولد السيد أحمد البدوي، فازدرد هذا القرص، ففعل، وقال بريبيش كلمات هَوَت لها الجرَّة إلى الأرض، ونظر ديكارت فإذا هو واقف على قدميه قال له بريبيش: ضع هذه القلنسوة على رأسك لتستخفي عن أعين الناس، ففعل، ومضى مع صاحبه يزور المولد ويجلس في كل خيمة لحظة ثم دخلا المسجد واختلطا بالشيوخ والطلاب والزائرين والذاكرين.

وعلى هذا النحو الذي يفصِّله ديكارت تفصيلًا ممتعًا قضى صاحبنا سنتين كاملتين مطوفًا في أقطار الشرق الإسلامي كله، متقنًا لغاتها وعاداتها، ذاكرًا مع الذاكرين، متيمًا مع المتيمين، دائرًا مع الدائرين، يلتهم النار حينًا ويبتلع الزجاج آخر، وينتطق بالحيات والأفاعي، ويمشي على الماء ويطير في السماء، ويزور الجن في الأرض السابعة، والملائكة في السماء الرابعة، حتى إذا قضى من هذا كله وطرًا وعلم من أسرار الكون ما يضمره الشرق وحده، عاد إلى هولاندا فمكث في موقده أشهرًا يكتب ويقدِّس ويأتيه بريبيش كل مساء فيقضي عنده ساعة ثم ينصرف، حتى جاءه ذات يوم فقال: أحسب أنك قد أحببت الراحة وكرهت مشقة السفر، ومع ذلك فلا بد لك من رحلة أخرى ليست أقل مشقة ولا نفعًا من رحلتك الأولى، فقم على اسم الله. قال ديكارت: ألا ننتظر إشراق النهار؟ قال: كلا، وما أنت والنهار والليل؟ الجرَّة تنتظر وعلبتك كفيلة بحاجات السفر وعلبتي كفيلة بتعلم اللغات، وسأتلو عليك في هذه الرحلة آيات ألمانية وروسية لم تظهر بعد؛ لأن أصحابها لم يُخلقوا، ولكنهم سيُخلقون وسيحدثون هذه الآيات فيعجب بها الناس، سأتلو عليك ما سيحدثه جوت وهنري هين وتلستوي وغيرهم من أعلام الشعر والنثر والفلسفة في القرن الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين، ثم سأتلو عليك كتابًا يكتبه بعد سنين يهودي يتأثر بمذهبك اسمه سبينوزا، سيكتب في الأخلاق والفلسفة، متأثرًا بهذا الكلام الفارغ الذي تكتبه للناس في أوقات الفراغ، وسيظن أنه وصل إلى الحق وسيلقى من الناس إكبارًا واحتقارًا. وقد استصحبت كتابًا شرقيًّا عربيًّا سيظهر في الربع الأول من القرن العشرين في مدينة القاهرة، وهو كلام فارغ ككلامك هذا الذي تنشره على الناس، واسمه يدل على أنه فارغ وهو كتاب «في أوقات الفراغ»، الذي سينشره على الناس كاتب ظريف مفكر يجد حينًا ويعبث أحيانًا، أديب ولكنه يحب السياسة ويرشح نفسه للانتخاب في مجلس النواب، واسمه محمد حسين هيكل. فأنت ترى أن رحلتنا ستكون قيمة سهلة، ولا سيما حين أتلو عليك كتابًا باللغة العربية سيضعه مصري في القرن التاسع عشر يقال له الشيخ محمد عبده، ويترجمه في القرن العشرين عالمان يقال لأحدهما مصطفى عبد الرازق وللآخر برنار ميشيل، وسترى أن هذا الشيخ المصري المسلم متأثر تأثرًا تامًّا بفلسفتك هذه الفارغة التي تفسد بها عقول الناس، وتنشئ لهم بها علمًا جديدًا، سيمكِّنهم من استعباد البخار والكهرباء والماء والهواء والصعود إلى السماء. قم بنا.

فقاما وامتطى فيلسوفنا جرَّته ومضيا نحو الشمال. واستمرا في رحلتهما أيامًا وليالي متنقلين من أدب إلى أدب، ومن فن إلى فن، حتى استقبلهما في صباح يوم مشرق جبل شاهق لا يصل الطرف إلى قمته، قال ديكارت: أين نحن؟ قال بريبيش: نحن في أقصى الأرض من ناحيتها الشمالية، وهذا الجبل الذي تراه هو سورها الذي يأخذها من جميع أطرافها. قال ديكارت مصفقًا: هذا جبل قاف؟ قال بريبيش: نعم هو جبل قاف. قال: ديكارت: ليس وراءه إلا الماء الذي لا حد له طولًا ولا عرضًا ولا عمقًا، والذي لا يحيا فيه شيء. قال بريبيش: أخطأت فسترى أن في هذا الماء حياة وأحياء.

قال ديكارت: ماذا تقول؟ سنقتحم هذا الجبل؟ قال بريبيش: وما جئت بك إلا لنقتحمه. إن من ورائه قومًا ينتظرونك لتنشر فيهم الدعوة إلى الحق، وتخرجهم من الظلمات إلى النور، دع هذه الجرَّة فهي لا تغني عنك شيئًا. قال ديكارت: وكيف تصعد في هذا الجبل؟ قال بريبيش: أترى إلى هذا السحاب المتراكم، ستهبط منه سحابة تحملنا إلى حيث نريد. وهبطت سحابة فإذا شيء أشبه بعربة من الذهب والخالص، فيه وسائد من الحرير والإستبرق، وأكواب مُلئ بعضها من الشاي وبعضها من القهوة، وبعضها من اللبن، وعلبة نشوق وسجائر مختلفة منها الطويل والقصير، والضخم والنحيف، ولكنها كلها عطرة أرجة يتضوع منها نشر يشبه العنبر، وفيها شيشة وجوزة، وفيها نرد وشطرنج ودومينو، وما إلى ذلك من أدوات اللعب. جلس الفيلسوف ومعه بريبيش وأخذ في تدخين الشيشة لأنه كان قد جرَّب ذلك في دمشق فأحبه، أما بريبيش فأخذ يدخن الجوزة لأنه كان كثير الاختلاف إلى حي من أحياء القاهرة في باب الشعرية، وهناك تعلَّم هذا النحو من التدخين.

وصعدت بهما السحابة في السماء حتى انتهت بهما إلى قمة الجبل، فهمَّ ديكارت بالخروج فأمسكه بريبيش قائلًا: لا تخرج حتى تشرب قدحًا من اللبن وكأسًا من اللبن وكأسًا من القهوة وحتى تنشق؛ فكل هذه الأشياء من ثمرات الأرض التي تتركها، ولا بد من أن نذوقها الآن لنضمن لأنفسنا العودة إلى هذه الأرض أحياءً أو أمواتًا، فإن نحن لم نفعل فسيقوم جبل قاف حائلًا بيننا وبين الأرض آخر الدهر. شربا ودخَّنا وخرجا. فإذا طائر عظيم لا يستطيع الطرف أن يحيط به قد حلَّق كأنه ينتظر أمرًا، قال ديكارت: ماذا أرى؟ قال: هذا الطائر الذي تراه هو بلاجوست، وهو السفينة التي يتخذها الأحياء فيما وراء جبل قاف لمواصلاتهم، فامتطِ هذا الطائر فسأكون معك، وسترى أنه يقطع في لحظات ما تقطعه سفنكم في أيام. واستقر على جناح الطائر وما هي إلا لحظات قصار حتى هوى بهما إلى جزيرة عظيمة فيها غابات كثيفة ومروج خضر، ولكن أهلها لا يتجاوز ارتفاع أحدهم شبرًا، عراض يتجاوز عرض أحدهم مترًا، وهم يضحكون أبدًا، ولهم فيما بينهم حديث كقصف الرعد، وهم يدخنون ولكن بآذانهم، يدخل الدخان في إحدى الأذنين فيخرج من الأخرى، وليس لكل واحد منهم إلا عين واحدة قد استقرت في وسط جبهته، ولكنها ضخمة متوقدة يتطاير منها شرر مخيف. قال ديكارت: ولكني لا أفهم شيئًا مما يقولون. قال بريبيش: هذا قرصهم فازدرده تفهم لغتهم.

وأخذ ديكارت يسمع لغتهم ويفهمها، فقال لصاحبه: ألست ترى معي أن هذه اللغة تشبه اللغة البلغارية شبهًا شديدًا، قال بريبيش: هي أصل اللغة البلغارية، وهؤلاء الناس هم آباء البلغار، كانت فيهم ثورة منذ آلاف السنين انتصرت فيها الديمقراطية على الأشراف فأجْلَتْهم عن بلادهم، فعبروا جبل قاف، وهناك في أرضكم أثَّر فيهم الجو، فأخذ من عرضهم، وزاد في طولهم، فاستقامت لهم هيئات وقامات كهيئات الناس وقاماتهم، ومضوا في طريقهم حتى انتهوا إلى الأرض التي تسمى الآن بلغاريا، فاحتلوها واستعمروها. وهم الذين تحدثوا إلى فقهاء المسلمين عن أرض تشرق فيها الشمس ستة أشهر فليس فيها ليل، وتغيب عنها ستة أشهر فليس فيها نهار، وقد وضع فقهاء المسلمين أحكامًا فقهية لأهل هذه البلاد تمس أوقات الصلاة بنوعٍ خاص. وقد جئتَ لتنشر الإسلام في هذه الأرض، فعلِّم الناس كيف يؤقتون الصلاة حين تشرق الشمس، وحين تغرب، وامضِ بنا فإن «قاطرينا» تنتظرك في قصرها. قال ديكارت: من قاطرينا؟ قال بريبيش: هي ملكة هذه الجزيرة، حدثتها عنك وأنبأتها بنبئك، فهي تنتظرك، وقد زارها من قبلك دروكلكسيس، وزارها الحلاج، وزارها فيثاغورس. قال ديكارت: هي إذن خالدة لا تموت! قال بريبيش: إن الخلود لم يُكتب لأحد، كل شيء هالك إلا وجه الله، ولكن ملوك هذه البلاد كُتب لهم طول الأعمار. فأعمارهم لا تُعد بالسنين ولا بالقرون وإنما تُعد بالآلاف. وقد وُلدت قاطرينا سنة ٣٥٠٥ قبل المسيح، وملوك هذه البلاد إذا بلغوا من العمر ثلاثة آلاف سنة جاءهم النبأ بالعام الذي سيموتون فيه. وقاطرينا تعلم أنها ستموت سنة ١٩١٧ حين يقرب الألمان من مدينة باريس في الحرب العالمية الكبرى التي ستكون في ذلك الزمان. وهي مشوقة إلى أن تراك لتأخذ عنك العلم والحق والدين، وتنفق ما بقي لها من الدهر في عبادة وتقرب إلى الله، تاركة أمر الملك لولي العهد الذي يبلغ من العمر الآن ألفي سنة، واسمه ساباتيه بن أرابيشا.

ومضيا حتى انتهيا إلى القصر، فإذا فخامة وضخامة وترف لا عهد لفيلسوفنا بها، وإذا الملكة القصيرة العريضة تنتظره مبتسمة، وإذا هو لم يكد يجلس إليها حتى أخذت تتحدث إليه وتسأله. واتصل مجلسهما ساعات فُتنت فيها الملكة بفلسفة ديكارت فتنة لا حد لها، ولم تأذن له بالانصراف ليستريح إلا كارهة، وأخذ فيلسوفنا يتردد على الملكة يعلِّمها ويفقهها في الدين والتصوف، وهي به مشغوفة، ولكن جو هذه الجزيرة لا يلائم طبيعة أهل هذه الأرض، فقد أخذ ديكارت يلاحظ أن قامته تقصر وتعرض، وشكا ذلك إلى بريبيش فقال له: ألم أنبئك أن أهل هذه البلاد حين هاجروا إلى أرضكم ضاقوا وطالوا حتى أصبحوا مثلكم؟ فأهل أرضكم إذا جاءوا إلى هذه البلاد قصروا وعرضوا حتى أصبحوا كغيرهم من سكانها. ولكن السن كانت تقدمت بديكارت فلم يستطيع أن يقاوم امتداد جسمه من ناحية وانكماشه من ناحية أخرى، فتوفي عام ١٦٥٠.

وقد وصف بريبيش في كتاب أرسله إلى الحكومة الفرنسية مع جثة ديكارت مقدار ما أصاب الملكة من جزع وحزن لفقد هذا الفيلسوف قبل أن تنتشر مذاهبه القيمة في رعيتها. قال بريبيش في آخر كتابه: والرأي عندي ألا يسافر الزعماء الذين سيخلفون ديكارت إلى ما وراء جبل قاف إلا في منتصف الألف الثالث بعد المسيح؛ ففي ذلك الوقت قد يتشابه ويتقارب ما دون الجبل وما وراءه بحيث يصبح طول الناس جميعًا أربعة أشبار وعرضهم أربعة أمتار، وفي ذلك اليوم قد يكون فن الطيران قد تقدم ويستطيع الناس أن يقتحموا جبل قاف، ويعبروا بحر كاف، ويصلوا إلى جزيرة نون في سهولة ويسر. قال بريبيش: على أني الموكل بهؤلاء الزعماء فلا أسمح لأحد منهم بزيارة قاطرينا أو ابنها ساباتيه بن أرابيشا إلا حين يئين الأوان لهذه الزيارات.

•••

هذا ما أحببت أن أهديه إلى الشيخين الجليلين من حياة ديكارت، وأنا أعتمد على ذكائهما في فهم فلسفته من هذا الفصل، فللرجل نوعان من الفلسفة؛ أحدهما سخيف ضعيف، هو الذي اعتمدتُ عليه في كتاب الشعر الجاهلي؛ لأني لست من أهل التصوف، ولا القادرين على الشطح والنطح، والآخر قيِّم ممتع، خصب لذيذ، يُلتمس في كتب الحلاج ومحيي الدين بن العربي، وفي كتاب الدياربي وشمس المعارف الكبرى، وفي رسالة صغيرة توجد في مكتبة الأستاذ الجليل أحمد زكي باشا بقسم المخطوطات يقال لها «دومة في نومة».

•••

أما بعد؛ فإني أقسم لصاحب المعالي وزير المعارف، ولوكيلها وسكرتيرها العام، وأعضاء مكتبها الفني، ولناظر دار العلوم وأساتذتها وطلابها، لو سئل تلميذ أوروبي عن ديكارت في امتحان الشهادة الثانوية وجهله كما يجهله أساتذة هذه المدرسة العالية، لحيل بينه وبين الشهادة التي يطلبها. وإذن فأنا أقترح عليهم أحد أمرين: إما أن يكلفوا أحد العلماء بإلقاء محاضرات في تاريخ الفلسفة للأساتذة وللشيوخ منهم بنوعٍ خاص؛ ليستطيعوا أن يكونوا أدباء وأن يلموا «من كل شيءٍ بطرف»، وإما أن يأخذوا هذا الفصل الذي أكتبه ملخصًا فينشروه، ويأخذوا الأساتذة والطلاب بقراءته وفهمه، فليس ينبغي أن يكون في مدارسنا العالية أستاذ أو طالب يجهل اسم ديكارت أو فلسفته، أو أثره في هذا العصر الحديث.

١  قِبلته وصلاته إلى الإلهة اليونانية أتينا. والواقع أن العاطفة الدينية في هذه الفصول متأثرة بهذا التدين الغريب الذي كان يظهره رينان، والذي لم يكن رينان نفسه يستطيع تحديده.
٢  وقد اختاره الأستاذان كمفير وطه الخميري نموذجًا لكتابة منصور في سِفر يعدانه باللغة الإنجليزية عن الكتاب المعاصرين.
٣  أَلْفَتَ الأستاذ لويس ماسينيون إلى هذه الترجمة اللاتينية لكتاب الطواسين. فأنا أعلم أنه يعني بهذا الكتاب وصاحبه، وأنه قدَّم إلى السربون فيهما رسالة كان لها خطر عظيم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤