مقدمة

لأول مرة في التاريخ أحرزت الرأسمالية حقًّا قصب السبق في أيامنا هذه، على طول الخط. فقد حسمت المسألة التي ربما كانت أهم قضايا هذا العصر.

وقد حققت الرأسمالية انتصارها على ثلاث جبهات.

دارت المعركة الأولى في إنجلترا على يد مسز تاتشر، وفي الولايات المتحدة على يد الرئيس ريجان. وهي معركة داخلية ضد تدخل الدولة. الذي يسيء إلى الرأسمالية وهكذا تزعَّما سويًّا، ابنة البقال والممثل السابق، أول ثورة محافظة في مجال السياسة الاقتصادية، وهي ثورة الحد الأدنى من الدولة. وتتمثل أوضح مبادئ تلك الثورة في أقل قدر من الضرائب يُفرَض على الأغنياء. فلو دفع الأغنياء، وفي مقدمتهم الرأسماليون، أقل لأصبح نمو الاقتصاد أشد، ولاستفادة الجميع من ذلك. ففي عام ١٩٨٠م كانت الحكومة الاتحادية في الولايات المتحدة تستقطع ما يصل إلى ٧٥٪ من أعلى دخل يحققه المواطن، وفي عام ١٩٨٨م وصلت أعلى نسبة لفرض الضرائب ٣٣٪. وفي المملكة المتحدة بلغ الحد الأقصى للضريبة ٩٨٪ من دخل رأس المال في ظل الحكومات العمالية. وفي عهد مسز تاتشر انخفض ذلك الحد الأقصى فبلغ ٤٠٪ فقط. ولم يحدث أبدًا من قبل أن حظي أي إصلاح مالي بمثل تلك الشعبية في العالم. فقد غير اتجاه العلاقات التاريخية بين الدولة والمواطن في عشرات البلدان. فالضغط الضرائبي لم يكف عن التصاعد خلال قرنين من الزمن في البلدان المتقدمة. وقد انقلب ذلك التطور الآن وبتنا نشهد، على العكس، سباقًا دوليًّا من أجل تخفيض الضرائب. وتلك ثورة بالفعل.

أما الانتصار الثاني للرأسمالية فكان باهرًا حقًّا، خاصة وأنه جرى على الجبهة بشكل مباشر وشامل، وتم إحرازه دون خوض معركة . كانت الرأسمالية تواجه الشيوعية منذ قرن. ومنذ حوالي نصف قرن هيمنت تلك المواجهة الدائرة أساسًا بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، هيمنت على كافة العلاقات الدولية. فشباب ألمانيا الشرقية الذي تجاسر في التاسع من نوفمبر ۱۹۸۹م واجتاز سور برلين كان طليعة ثلاثمائة مليون من المحرومين في البلدان الشيوعية؛ إذ كانوا محرومين من الحرية ومن العديد من المنتجات الاستهلاكية، أي الرأسمالية.

أما الانتصار الثالث فقد تطلَّب خوض معركة استغرقت مائة ساعة على الجبهة الجنوبية للعراق، وتم إحرازه بنسبة ألف إلى واحد. وهو أول انتصار مشترك للقوة والحق، وانتصار للولايات المتحدة التي ساندها ثمانية وعشرون بلدًا، من بينها ثماني دول إسلامية، ووقفت في صفها الأمم المتحدة، بل وأيضًا الاتحاد السوفيتي والصين الشيوعية. وهو انتصار أيضًا للرأسمالية على أوهام شعوب حرمتها من التنمية الاقتصادية الدكتاتوريات التي تضطهدها. وبوسعنا أن نراهن بأن الجماهير التي خدعها صدام حسين ستسلك إن آجلًا أو عاجلًا نفس الطريق الذي سلكته الجماهير الشيوعية، أي طريق الرأسمالية.١

•••

وهذا الانتصار الذي حققته الرأسمالية يلقي ضوءًا جديدًا على التاريخ الاقتصادي للعالم، ويجري تغييرًا عميقًا في جغرافيته.

فبمجرد تبديد أضواء الواقع لعتمة «الليلة السيبيرية» المرتبطة بالشيوعية انقسم ماضينا بأسره إلى مرحلتين متناقضتين:
  • قبل الرأسمالية، وعلى مدى التاريخ، كان العالم بأسره، بما في ذلك أكثر الحضارات تألقًا، أشبه بالعالم الثالث كما نعرفه اليوم. ففي هذا العالم كان الناس يولدون «بشكل طبيعي» وبيولوجي، إلى حد ما مثل البهائم، ويموتون في المتوسط قبل السنوات الثلاثين من عمرهم، ضحايا المجاعات الدورية والأوبئة المرتبطة بسوء التغذية وبالاضطهاد الأزلي و«المقدس»، على يد السلطة.

    لقد عانت فرنسا، حتى فرنسا، رغم زراعتها «الغنية» من مجاعات حقيقية حتى عشية ثورة ١٨٤٨م!

    كان ذلك عالم الحاجة والعوز، عالم ما قبل تاريخ الاقتصاد.

  • وقد تمثلت مهمة الرأسمالية التاريخية، المهمة التي لم تعهد من قبل، في البدء في دفع الفقر والمجاعات والاضطهاد والتعذيب والحرمان، وذلك منذ قرابة ثلاثة قرون. وبدأت تلك الثورة في البلدان ذات التقاليد اليهودية-المسيحية، وانتشرت وتعاظمت وتسارعت منذ مائة سنة في الشرق الأقصى، وقامت في كل مكان على أساس نفس النظام المعتمد على قواعد ثلاث: الرأسمالية، أي حرية تحديد الأسعار في السوق؛ وحرية تملك وسائل الإنتاج (لن أقدم أي تعريفات أخرى؛ إذ إن هذين التحديدين يعبران في رأيي عن الجانب الأساسي في الموضوع)؛ وحقوق الإنسان، وفي مقدمتها حرية العقيدة؛ والتطور التدريجي نحو الفصل بين السلطات، والديموقراطية.

وبعد عهد الفاقة المتواصل في الماضي، بدأ بالكاد عهد النمو الاقتصادي الجديد. ويرتسم أمامنا بعد الانتصار التاريخي الثلاثي للرأسمالية، بل ويتجسد لنا البعدان الجديدان للجغرافيا الاقتصادية في العالم.

هناك أولًا مشكلة التزود بالبترول التي ظلت طوال حوالي عشرين سنة كالسيف المسلط على رقابنا. فهو الأكسجين اللازم لحياتنا الاقتصادية. وقد تم حل هذه المشكلة عمليًّا، ولم تعد القضية ما إذا كنا سنحصل على ما يكفينا منه، بل بأي ثمن سيكون ذلك، وما إذا كنا نطلق في الجو قدرًا من عادمه أكثر من اللازم. وستتمثل الجغرافيا الجديدة للطاقة لا في عمليات التنقيب عن البترول، ولكن في البحث عن طاقات بديلة ووسائل لمكافحة التلوث.

والأهم من ذلك «زوال» مضمون العالم الثالث نفسه، منذ انتهاء الحرب الباردة. لقد كان بوسعنا الحفاظ على التقسيم الثلاثي: بلدان رأسمالية، وبلدان شيوعية، وعالم ثالث، مع التظاهر بالاقتناع بذلك التقسيم طالما كانت الشيوعية تجرؤ على تحدي الرأسمالية في عقر دارها، ألا وهو الفعالية الاقتصادية.

ويجب ألَّا ننسى أن خروتشوف ما كان يثير دهشة أحد عندما أعلن من فوق منصة الأمم المتحدة في عام ١٩٦٠م أن عالم ۲۰۰۰م سيسجل لحاق الاقتصاد السوفيتي باقتصاد الولايات المتحدة! وحتى عهد قريب كانت المئات من الجامعات في أنحاء العالم تواصل تدريس هذا النوع من الحماقات.

أما الآن، وقد سقطت الأقنعة وتبيَّن لكل ذي عينين مدى تخلُّف الاقتصاد الشيوعي الذي يدعو إلى الرثاء، فإنه يتعيَّن بكل وضوح إدراجها في فئة البلدان المتخلفة نفسها؛ إذ إن التقسيم الثلاثي تخلى عن موقعه لتقسيم ثنائي بسيط. فهناك من جهة البلدان المتقدمة أو النامية بسرعة، وهي جميعًا من البلدان الرأسمالية؛ وفي جهة أخرى البلدان المتخلفة، أي الفقيرة. فاصطلاح «العالم الثالث» لم يعد له مغزًى بالمعنى الحرفي للكلمة.

وبالطبع لا يكفي أن تقام الرأسمالية في بلد لكي ينطلق في طريق النمو الاقتصادي. فهناك حد أدنى من الشروط: أن تكون الدولة فعالة وليست فاسدة. وبالطبع هناك فقراء بل وأحيانًا أناس يزدادون فقرًا في بعض البلدان الرأسمالية المتقدمة للغاية، وبالأخص الولايات المتحدة. ولكن يتعين أن نلاحظ في هذا الصدد أن السمنة في الولايات المتحدة باتت مشكلة صحية على الصعيد القومي، وإن كان الفقراء هم الذين يعانون من البدانة.

وإليكم إذن قائمة بالبلدان الرأسمالية المتقدمة أو السريعة النمو:

  • أمريكا الشمالية، بما في ذلك المكسيك، وشيلي، نظرًا لانطلاقة البلدين الأخيرين الجديدة المتميزة بعنفوانها؛

  • بلدان أوروبا الغربية عمومًا، سواء كانت منتمية إلى الوحدة الاقتصادية الأوروبية أو إلى الرابطة الأوروبية للتجارة الحرة؛

  • اليابان والبلدان الصناعية الجديدة في آسيا: تايلاند وكوريا و«النمور» الأخرى، تايوان وهونج كونج وسنغافورة.٢

ومما لا شك فيه أن هذه القائمة ستثير اعتراضات منها على سبيل المثال:

  • لماذا لا ندرج المملكة العربية السعودية والإمارات في قائمة البلدان الرأسمالية المتقدمة مع أنها ثرية جدًّا؟

    لأن ثراءها لا يتحقق عن طريق الأسواق، ولكن بضخه من باطن الأرض، مما أعفاها حتى الآن من الالتزام بقواعد الديموقراطية والفصل بين السلطات.

  • ولماذا نجعل المكسيك في تعارض مع بقية بلدان أمريكا اللاتينية؟

    لأن المكسيك هي التي انسلخت عن تلك البلدان منذ بضع سنوات بفتح أبواب اقتصادها للمبادلات الخارجية، حتى إنها عقدت اتفاقية للتبادل الحر مع الولايات المتحدة. وشيلي هي أيضًا راحت تنطلق بعد أن أخضعت اقتصادها لقوانين السوق. ولكن هناك ثروات كبيرة تتكون في بلدان أمريكا اللاتينية خارج نظم الاقتصاد الرأسمالي؛ لأنها لا تلتزم بقواعد المنافسة وقوانين اقتصاد السوق، مما يؤدي إلى بقاء تلك البلدان تحت نير التضخم والتخلف.

  • ولماذا لا تشمل هذه القائمة جنوب إفريقيا؟

    لأن الديموقراطية فيها تقوم حاليًّا على إحلال التمييز العنصري الاقتصادي محل التمييز العنصري الاجتماعي. غير أن الناس لا يعلمون إلا النذر اليسير عن إفريقيا، وأن هذه القارة البائسة تضم بلدًا قرر منذ عدة سنوات أن يمد جسرًا بين شمال إفريقيا وجنوب أوروبا، وأعنى بذلك المغرب.

فيا له من تبسيط مثير للدهشة لعالم يقال عنه إنه مقضي عليه بأن يزداد تعقيدًا! وفجأة تبدو لنا الجغرافيا الاقتصادية الدولية بسيطة للغاية وثنائية التركيب. ولكن أليست هذه التفرقة القاطعة مسألة لا تطاق، خاصة وأن الهيمنة بل والاحتكار الذي تتمتع به الرأسمالية اليوم كنظام يتعارض تمامًا مع طبيعتها، خصوصا وأنه قد سبق لنا أن قررنا أن السوق، أي المنافسة، هي الأساس الذي تقوم عليه الرأسمالية؟ ولكن ها هي قد أصبحت الآن قوية ومنتصرة، حتى إنه لم يعد هناك منافس لها.

لقد فقدت مرآتها وقدرتها على تأكيد قيمتها نتيجة لذلك الانتصار الشامل. فالديموقراطية والليبرالية والرأسمالية لم تختبر الاحتكار الصرف من قبل. فكيف يساس ما لا يلقى منافسًا؟

وبدلًا من المغامرة بعرض افتراضات، يجدر بنا أن نفحص الحلول الملموسة التي تقدمها مختلف البلدان الرأسمالية في مواجهة مشاكل محددة. وقد أكون متعسفًا في اختيار عشر من بين تلك المشاكل نظرًا لأهميتها الخاصة ولتعدد الحلول المتمايزة، وبالأخص لأننا سنلاحظ مع كل منها أن الرأسمالية ليست متجانسة، بل تتمايز من خلال نموذجين أساسيين يتجابهان: «رأسمالية ضد رأسمالية أخرى».

(١) الهجرة

قد تحتل الهجرة مركز الصدارة بين موضوعات الحوار السياسي خلال القرن الحادي والعشرين في أغلب البلدان المتقدمة. ويهم هذا الموضوع الرأسماليين بشكل خاص؛ لأن اليد العاملة المغتربة أقل تكلفة دائمًا من اليد العاملة الوطنية بالنسبة لنفس المردود. ولعل ذلك يفسر لنا لماذا أصبحت الولايات المتحدة الآن أكثر البلاد انفتاحًا للهجرة، خاصة الهجرة الأمريكية اللاتينية، بعد أن اتبعت لأمد طويل سياسة متشددة تعتمد على الحصص. فهناك قانون صدر في عام ١٩٨٦م يضفي الشرعية على ثلاثة ملايين من المهاجرين الذين دخلوا البلاد بطرق غير قانونية، كما صدر في عام ١٩٩٠م قانون آخر ٤٧٠ ألفًا إلى ٧٠٠ ألف في عام ١٩٩٥م. ويتم ذلك في الوقت الذي يحل فيه محل آليات الاندماج والانصهار في المجتمع الأمريكي، نوع من القبلية الجديدة بين المجموعات العرقية التي تحرص على تأكيد «هويتها الثقافية» أكثر من حرصها على أن يصبح أفرادها مواطنين أمريكيين حقًّا.

ولكن لماذا ظل اليابان الرأسمالي بلدًا منغلقًا على نفسه إلى هذا الحد؟ لا شك في أن الكثافة السكانية تشكِّل عاملًا أساسيًّا وإن لم تكن العامل الوحيد. فالمعاملة السيئة التي يلقاها الكوريون والفلبينيون المهاجرون في اليابان لا يمكن تصورها في الولايات المتحدة، تمامًا كما لا يمكن أن يتخيل أحد في اليابان استطلاع الرأي الذي أفاد بأن أمريكيًّا واحدًا من بين كل اثنين يود أن يصبح الجنرال الزنجي كولين باول، رئيس أركان حرب القوات العسكرية، نائبًا لرئيس الولايات المتحدة.

وعلى غرار الولايات المتحدة، تمنح إنجلترا على نطاق واسع وضعًا أشبه بوضع المواطن للهنود والباكستانيين المهاجرين. ولا يوجد شيء من هذا النوع في ألمانيا، حيث يقرر الأصل العرقي الانتماء إلى الأمة. وقد صدر قانون في عام ١٩٩٠م يعطي الأفضلية للتجانس الثقافي الألماني. فالألمان ملتزمون بواجب التضامن مع كل الشعوب المتحدثة باللغة الألمانية، ولكنهم لا يتصورون إدماج المهاجرين الأتراك.

فهناك نموذج أنجلو-ساكسوني في جهة، ونموذج ياباني-ألماني في جهة أخرى.

(٢) الفقر

هذه القضية مرتبطة إلى حد كبير بالهجرة، والموقف منها شديد التعارض بين مختلف البلدان الرأسمالية، سواء من حيث تصورها أو تنظيمها. فمن هو الفقير؟ في معظم المجتمعات البشرية وحقبات التاريخ، عومل الفقير في أغلب الأحوال كشخص بائس، لا يصلح لشيء، أو فاشل، أو كسول أو مريب بل وحتى مذنب. وأين هو البلد الذي لا يميل فيه مَن توفر لهم حظ الحصول على عمل إلى النظر إلى العاطل على أنه شخص ممعن في كسله، أو على الأقل شخص خانته الشجاعة في التكيف مع مقتضيات سوق العمل؟ وعلى أي حال فذلك هو الرأي السائد على أوسع نطاق في أكبر بلدين رأسماليين: الولايات المتحدة واليابان.

وعليه لم يلجأ أي من هذين البلدين — ولا ينوي أي منهما على أي حال — إلى إقرار نظام للرعاية الاجتماعية على غرار النظم التي أُقيمت في أوروبا منذ حوالي خمسين سنة، هذا بينما يقل متوسط دخل الفرد عندنا بنسبة الثلثين أو الثلاثة أرباع بالمقارنة مع متوسط دخل الأمريكي أو الياباني في الوقت الراهن.

ولكن من أين تأتي تلك الفروق الجذرية في تنظيم المجتمعات؟ ربما لأن هناك تقاليد أوروبية تعتبر الفقير ضحية لا مذنبًا، وذلك من خلال إدراك متعدد الأبعاد يشمل الجهل والفاقة واليأس الشخصي والعجز الاجتماعي.

وهل يمكننا مواصلة تحمل تكاليف الرعاية الاجتماعية عندنا؟ السؤال مطروح في كل مكان نظرًا لأن أكبر دولتين في النظام الرأسمالي العالمي لا تتجشمان تلك التكاليف. والقضية مثارة في فرنسا بحدة تفوق أي بلد آخر.

(٣) هل التأمين الاجتماعي في صالح التنمية الاقتصادية؟

هذه القضية تأتي في مقدمة سابقتها، كما أنها هي أيضًا مثار وجهات نظر متعارضة، والإجابة بالسلب طبعًا عند الرأسماليين المناصرين لريجان ومسز تاتشر: فلا يوجد ما هو أفضل من ذلك في رأيهم لنشر التواكل الذي يشجع على الكسل وعدم تحمل المسئولية. غير أنه من الملاحظ مع ذلك أن مسز تاتشر لم تتمكن عمليًّا من المساس بنظام الخدمة الطبية العامة، رغم الجهود التي بذلتها طوال عشرة أعوام. أما الرأسماليون اليابانيون فيعتبرون التأمين الاجتماعي مسألة تخص المنشأة لا الدولة … شريطة أن تكون المنشأة غنية بما فيه الكفاية لمنحه للعاملين لديها، وهو ما لا يمكن أن يتوفر أبدًا للمشاريع المتوسطة الحجم والصغيرة. والرأسمالي الياباني يقبل ذلك حتى ولو كانت المنشأة هي التي تتحمل تكاليف تلك التأمينات الاجتماعية الاختيارية.

على العكس من ذلك فإن بلدان منطقة جبال الألب (سويسرا، والنمسا، وألمانيا) والبنلوكس (بلجيكا، هولندا، لوكسمبورج) واسكاندينافيا (النرويج، والسويد، والدانمارك) تعتبر التأمين الاجتماعي، بشكل تقليدي، نتاجًا عادلًا للتقدم الاجتماعي، بل إن الكثيرين يرون أنه مؤسسة في صالح التنمية الاقتصادية؛ لأن المستبعد منها يستحيل انتشاله لو كان وضعه أدنى من حد معين من مستوى الفقر. ولذا توفر البلدان الأوروبية الأكثر تقدمًا (ألمانيا الاتحادية، فرنسا، إنجلترا، هولندا، الدانمارك) حدًّا أدنى من الدخل لمواطنيها.

كما أنه يتعين الاعتماد على ذلك التقليد للفوز في الانتخابات. ولكن النقاش لا يزال دائرًا بهذا الخصوص في إطار الوحدة الاقتصادية الأوروبية بالذات، حيث يعتبر التأمين الاجتماعي أكثر فأكثر عنصرًا يزيد من الإنفاق العام الذي يتحمله الاقتصاد الوطني، ويؤثر بالتالي على القدرة على المنافسة. بل إن «النموذج السويدي» الشهير يتعرض لهذا السبب للطعن في صلاحيته، حتى من جانب الحكومة الاشتراكية الديموقراطية ذاتها في هذا البلد.

وعلى النقيض من ذلك، يرى قسم من الرأي العام الأمريكي (وإن كان لا يزال يمثل الأقلية) أن غياب التأمين الاجتماعي بات أكثر فأكثر مسألة لا تطاق.

(٤) تدرجات الأجور

تدرجات الأجور هي في الأصل وسيلة فعَّالة لا غنى عنها في المفهوم الرأسمالي. فإذا كنَّا نريد من العمال أن ينتجوا فيجب أن يحصلوا على أجر يتناسب مع ما يقدمونه من إنتاج. وهذا كل ما في الأمر. وهو ينطبق أيضًا على الإلحاق بالعمل والفصل منه. وقد اكتسب أحد أصحاب شركات التأمين الأمريكية شهرة واسعة عن طريق لوحة عيد الميلاد التي تتضمن أسماء العاملين لديه مع تقييم لتكلفة كل منهم والعائد الذي حققه له، ليستخلص من ذلك استنتاجاته. ولنضف بهذا الصدد لذوي القلوب الرقيقة أن هذا النظام لا يجرح مشاعر أحد هناك. وكانت الفروق في الدخول تتضاءل على المدى الطويل في مجمل البلدان المتقدمة في عهد تدخل الدولة والرعاية الاجتماعية باعتبارها من علامات التقدم. ولكن منذ الثورة المحافظة الأنجلو-ساكسونية في بداية الثمانينيات راحت الفروق بين الدخول تتسع في الولايات المتحدة وإنجلترا والعديد من البلدان الأخرى التي حذت حذو المثال الأنجلو-ساكسوني، وينطبق ذلك على فرنسا بالأخص، حيث ترى الأغلبية أن دعم المنافسة الاقتصادية يستدعي التوسع في فئات الدخول.

وعلى العكس تبذل المنشآت في بلدان رأسمالية أخرى الجهود لتحجيم فروقات الأجور لتكون في حدود ضيقة في الكثير من الأحوال. وهذا هو الحال في اليابان مثلًا، حيث تتخذ القرارات بشكل جماعي، بما في ذلك تحديد المكافأة على العمل، وحيث يشكِّل الانتماء «الوطني، للمنشأة حافزًا أقوى من الأجر. وينطبق ذلك على البلدان التي سأسميها بلدان منطقة الألب (سويسرا، النمسا، ألمانيا) غير أن هذا التقليد يتعرَّض الآن لإعادة النظر فيه. فهناك نزاعات حقيقية وسط المهن والمنشآت بين المواهب الشابة المتلهفة على إبراز قيمتها وبين الرؤساء القدامى الذين يرفضون التنازل عن امتيازاتهم.

(٥) هل تشجع الضرائب على الادخار أم على الاستدانة؟

يقف الرأي العام في فرنسا في صف الادخار حتى وإن كنا ندخر أقل فأقل.

وفي ألمانيا واليابان يعتبر الادخار من الخصال القومية الحميدة، ويلقى التشجيع من جانب النظام الضرائبي على نطاق واسع . أما الولايات المتحدة فهي على العكس بلد التوسع في الإنفاق. فرموز نجاح الفرد تجسِّده علامات الثراء الخارجية خاصة بعد «الثورة المحافظة الجديدة». ولذا تشجع الضرائب على الاستدانة. فكلما زادت استدانة المرء قل ما يدفعه من ضرائب، فما الداعي إذن لأن يحرم نفسه من تلك الميزة؟

وكانت النتائج مثيرة حقًّا خلال الثمانينيات. فقد انخفض معدل ادخار العائلات بالمقارنة مع النسبة المئوية للدخل المتاح من أكثر من ١٣٪ إلى ٥٪ في الولايات المتحدة ومن ٧٪ في إنجلترا إلى ٢٫٩٪.

وفي هذا المجال الأساسي بالنسبة لمستقبل كل بلد، يتعارض تمامًا النموذج الأنجلو-ساكسوني مع النموذج الألماني-الياباني. فمنذ عدة سنوات تقدِّم كل من اليابان وألمانيا قروضًا للولايات المتحدة والمملكة المتحدة. لماذا؟ لأن معدل ادخار العائلات في البلدين الأولين يبلغ تقريبًا ضعف ما هو عليه في بريطانيا والولايات المتحدة.

ومن الجلي أن هذا الفارق لا يمكن أن يستمر على المدى البعيد. فمن بين التحديات المحفوفة بالمخاطر بالنسبة للرأسمالية الأنجلو-ساكسونية العمل على إقناع الناخبين بضرورة تعلم الادخار من جديد، كما كان الحال في عهود التقشف وسيادة العقلية التطهرية، خاصة وأن هذا الفارق تتركز فيه وحده الأسباب والنتائج العميقة للخلاف بين النوعين من الرأسمالية كما سيتبين لنا فيما بعد.

(٦) هل من الأفضل أن يكون هناك المزيد من النظم والموظفين اللازمين لتطبيقها، أم من الأفضل أن تكون النظم أقل مع توفر المزيد من المحامين لرفع القضايا؟

في كل مكان يثور دائمًا الرأسماليون الناجحون — الذين يجنون الأرباح — على القواعد. ولم يستمع أحد إليهم طوال نصف قرن تقريبًا، بينما كان تدخل الدولة يتزايد في كل المجالات تقريبًا، خاصة في ظل حكم حزب العمال البريطاني، حيث أثار ذلك رد الفعل التاتشري. وعلى أثر ذلك أصبح إلغاء القواعد مسألة جوهرية حقًّا تحتل مركز الصدارة في عقائد التيار المحافظ الجديد.

وتثير هذه القضية حاليًّا نوعين من المناقشات المتعارضة:

فقد لوحظ بالأخص في إنجلترا بالذات وفي الولايات المتحدة أنه نتيجة لسوء تنظيم النقل الجوي وإفلاس صناديق الادخار، فإن الرابحين الأساسيين من التخلي عن النظم هم في الكثير من الأحوال المحامون الذين لا يزاولون مهنة حرة وفقًا للتقاليد المعهودة في أوروبا، بل مهنة تجارية، وأقاموا صناعة حقيقية في مجال الإجراءات القانونية. وقد انتشرت تلك المهنة في الولايات المتحدة حتى فاق عدد أربابها عدد المزارعين.

أما فيما يتعلق باليابانيين، فإن رفع قضية يعتبر عملًا مخزيًا شأنه في ذلك شأن استشارة طبيب أمراض نفسية … والألمان المعروفون هم أيضًا بالتمسك بالانضباط يفضلون توفر النظم المحددة بكل دقة. غير أن القانون الموحد في إطار الوحدة الاقتصادية الأوروبية مستوحى أساسًا من أيديولوجية التخلص من القواعد. ويتجه أعضاء البرلمان نحو الاحتجاج على التعدي على اختصاصاتهم. ولا يزال النقاش في بدايته في هذا المجال.

(٧) البنك أم البورصة؟

تؤكد النظرية الليبرالية أن حرية تنقل رءوس الأموال المنفتحة تمامًا على التنافس هي وحدها التي يمكن أن توفر أقصى قدر من الموارد الضرورية لتطوير المنشآت، ويستخلص الكثيرون من ذلك أن انحسار دور البنوك في توزيع القروض عامل يحقق الفعالية. ففي عام ۱۹۷۰م كان «معدل الوساطة»، أي نصيب البنوك بوجه عام في تمويل الاقتصاد الأمريكي كان بنسبة ٨٠٪، ولكنه هبط في عام ١٩٩٠م فأصبح بنسبة ٢٠٪. وكان المقابل لذلك التدهور الملفت للأنظار التوسع المدهش في أسواق الإقراض والقيم المنقولة، أي باختصار إحلال البورصة محل البنك. وتعتمد الرأسمالية الأنجلو-ساكسونية الجديدة بأسرها، على تلك الأفضلية، كما أن لجنة بروكسل التابعة للوحدة الاقتصادية الأوروبية تجد من يدافع عن تلك الرأسمالية في شخص السيد ليون بريتان، نائب رئيسها.

وتقوم رأسمالية بلدان منطقة جبال الألب كلها على عكس تلك الفكرة. وتتخذ فرنسا موقفًا مترددًا. ويشكِّل قطيع الذئاب الفتية وحملة الأسهم القدامى معًا الحزب الأنجلو-ساكسوني. أما رؤساء المنشآت المجتمعون في معهد المنشأة، وهو جهاز مستقل أشبه باللجنة الوطنية لأرباب العمل الفرنسيين، فقد اتخذ موقفًا مشايعًا تمامًا لبلدان منطقة جبال الألب (استراتيجية المنشآت ومشاركة العاملين في ملكية الأسهم، يناير ۱۹۹۲م).

والمسألة حيوية بالنسبة للرأسماليين الحقيقيين. ففي الواقع لا توجد إلا وسيلتان يمكن البوح بهما لجني الثروة: القدرة على المنافسة في الإنتاج، أو المضاربة والاقتصاديات التي تعطي الأفضلية للبنوك على البورصة تتيح إمكانيات أقل لجني الثروة بسرعة. ولا يمكن أن يتجنب اتخاذ موقف مؤيد لتلك الطريقة في تحقيق الثروة إلا من لا يهمه الأمر.

وسيدور الحوار القادم على نطاق واسع حول البنك أو البورصة في الولايات المتحدة. وقد أجرت حكومة بوش إصلاحًا مستوحًى من النموذج الأوروبي والألبي (نسبة إلى منطقة الألب) بالذات خوفًا من إفلاس النظام المصرفي القديم المنغلق والمشرف على الإعسار.

(٨) كيف يجب أن يتم توزيع السلطة داخل المنشأة بين حملة الأسهم من جهة والمديرين والعاملين من جهة أخرى؟

هذه القضية المرتبطة بسابقتها. حولت العديد من قاعات مجالس الإدارات إلى ساحات معارك. فهناك مجالس لا يقبل فيها أصحاب الأسهم أن يكون لها أكثر من سكرتير واحد بجانب الرئيس، ومجالس أخرى يتعادل فيها عدد المديرين وأصحاب الأسهم، وثالثة يختار فيها المديرون أصحاب الأسهم أو العكس!

والحرب تدور رحاها ويشتد أوارها باستمرار حول حدود السلطة داخل المنشأة. والأمر يتعلق بطبيعة المنشأة ذاتها ومصيرها. فهل هي مجرد سلعة يتصرف فيها صاحبها حامل الأسهم، بحرية (النموذج الأنجلو-ساكسوني)؟ أم أنها على العكس نوع من المشاركة المعقدة التركيب، حيث تتوازن سلطات صاحب الأسهم مع سلطات الإدارة التي يتم اختيارها بالاتفاق مع البنوك، أو من جانب العاملين بشكل صريح إلى حد أو آخر (النموذج الألماني-الياباني)؟

(٩) ما هو الدور الذي يجب أن تضطلع به المنشأة في مجال التدريب والتأهيل المهني؟

الرد الأنجلو-ساكسوني هو: أقل قدر ممكن، وذلك لسببين: أنه أولًا إنفاق مباشر من أجل مردود بعيد المدى، بينما لم يعد يتوفر الوقت للعمل على المدى الطويل، ويتعيَّن تحقيق أقصى قدر من الربح فورًا؛ وثانيًا أنه استثمار نتيجته غير مضمونة إلى حد كبير نظرًا لعدم استقرار اليد العاملة. وهذا الافتقاد للاستقرار يعبر عنه من تلقاء نفسه مستوى الرواج الذي تشهده «سوق العمالة».

والإجابة عكس ذلك على طول الخط من الجانب الألماني-الياباني، حيث تُبذَل الجهود لرفع الكفاءة المهنية لدى العاملين في إطار سياسة إدارية تعد العدة للمستقبل، وترمي بقدر الإمكان إلى تحقيق الانسجام الاجتماعي والفعالية الاقتصادية. غير أن المناقشات الخاصة تدور هنا أيضًا من جهة بين من يتقاضون أقصى ما يمكن لقاء الخبرة التي اكتسبوها في منشآت أخرى، وبين المتمسكين من جهة أخرى بالتقاليد الاجتماعية؟

ومن الممكن استقراء عدة اتجاهات انطلاقًا من تلك المشكلة الملموسة: فالتقاليد الأنجلو-ساكسونية تحدد للمنشأة مهمة محددة ومتميزة تتمثل في تحقيق الربح؛ وتقاليد القارة الأوروبية واليابان تسند إليها مهمة ذات أبعاد أرحب، بدءًا من خلق فرص العمل حتى القدرة على المنافسة.

(١٠) قطاع التأمين: قطاع نموذجي للمناقشات الدائرة

بما أنني من العاملين في مجال التأمين، فربما كان ذلك تعبيرًا من جانبي عن ميل مهني، وإن كنت لا أعتقد ذلك. فكل مجتمع رأسمالي يحتاج إلى أن يكون تقدُّمه مصحوبًا بل ومسبوقًا بتنمية التأمينات بكافة أنواعها؛ لكي يدعم قدراته على الابتكار والمنافسة. وفضلًا عن ذلك فإن ما يميز بعمق بين نوعي الرأسمالية، يتمثل في الأهمية التي يوليها كل منهما للحاضر والمستقبل. والواقع أن المؤمن مدفوع إلى الاهتمام بالمستقبل لأن مهنته تقوم على نقل موارد الحاضر إلى المستقبل مع استثمارها.

بيد أنه يوجد مفهومان حول التأمين يشتد التعارض بينهما. فالمفهوم الأول الأنجلو-ساكسوني يعتبر التأمين مجرد نشاط سوقي، ولهذا المفهوم تمثيل قوي في المفوضية الأوروبية ببروكسل. والمفهوم الثاني يؤكد على أهمية التأمين كمؤسسة توفر الضمانات اللازمة للمنشآت والأفراد. وإذا كنتم ترون أن هذا النقاش لا يخصكم فذلك لأنكم مقتنعون بأنكم لن تتعرضوا لحادث سيارة، ولن تحتاجوا إلى أي مساعدة عندما يتقدم بكم العمر. فهل هذا مؤكد حقًّا؟

وهكذا يتعارض النموذجان المؤسسان لنظام التأمين: فالأول ينتمي إلى عالم المقامرة بالمال والمخاطرة الفردية والمغامرة التجارية؛ والثاني ينبع من الحرص على توفير الأمن الجماعي أو التضامن بالاعتماد على شبكة تأمين بغية استكشاف المستقبل بشكل أفضل.

وتلك حقًّا صورة كاريكاتورية لنموذجين من الرأسمالية سأتعرض لهما، مدركًا أن العهد الذي تفرض فيه عليك مقتضيات التلفزيون أن تعالج أي قضية مهما كان مدى تعقدها، في أقل من ثلاث دقائق، يدعوك إلى التجانس واللجوء إلى الرسم الكاركاتوري الذي يبسط الأمور بأكبر قدر ممكن دون مغالاة.

•••

يبدو أن هذه العجالة حول عشرة أمثلة ملموسة لها أهمية مزدوجة. ولو نظر المرء إلى الرأسمالية التي اتخذت حاليًّا وضع الاحتكار على الرغم من طبيعتها، لتصور أنها جسم واحد وكتلة حتمية جديدة توارثت الحتمية الماركسية. بيد أنه تبين لنا، على العكس، بمجرد التوغل والواقع الملموس لكل حالة، أن الرأسمالية على حقيقتها، كما هي متواجدة في مختلف البلدان، لا تقدم إجابة واحدة أو السبيل الأفضل بالنسبة لقضايا المجتمع الكبرى. فالرأسمالية، على النقيض من ذلك، متعددة ومعقدة، شأنها شأن الحياة نفسها. وهي ليست أيديولوجية بل ممارسة عملية.

غير أن هذا التنوع يتجه نحو التحول إلى قطبين يمثلان نوعين أساسيين من الرأسمالية، حجمهما متقارب، ولم يحسم المستقبل بعد الأمر بينهما. وكان لا بد من الانطلاق من ملاحظة الوقائع قبل عرض مثل هذه الفكرة، ذلك أن النظرية الليبرالية الأنجلو-ساكسونية التي أصبحت هيمنتها شبه تامة، سواء في مجال التعليم أو البحوث الاقتصادية، تعتبر بكل بساطة أن ما عرضته آنفًا شيئًا لا يتصوره العقل. والواقع أن هذه الفكرة تفترض أنه لا يمكن أن يتواجد سوى منطق واحد خالص ومؤثر لاقتصاد السوق. أما كل ما عدا ذلك، وكل ما يرتبط بترشيد الأسعار لاعتبارات ذات طابع سياسي أو اجتماعي أو مؤسساتي، فليس سوى انحدار وخلط غير مقبول.

وفقًا لتلك الفكرة الأكاديمية، فإن الولايات المتحدة تشكل من حيث المبدأ النموذج الوحيد الفعال، الذي يجب أن يكون المرجع للآخرين، بل و«قدس الأقداس».

والواقع أن المسائل ليست بتلك البساطة لحسن الحظ. بل إن الهدف الأول لهذا الكتاب هو إثبات أن هناك إلى جانب النموذج الاقتصادي الأمريكي الجديد نماذج أخرى يمكن أن تكون أكثر فعالية اقتصاديًّا وعدالة اجتماعية في آنٍ واحد.

فكيف نسمي تلك النماذج؟

  • (١)

    في عملية التقريب الأولي حاولنا إبراز التعارض بين النموذجين «الأنجلو-ساكسوني» و«الألماني-الياباني».

    والاصطلاح الأول فضفاض إلى حد كبير: فإدراج أستراليا ونيوزيلاندا في نفس الفئة مع إنجلترا التاتشرية يعني التغاضي عن كون النفوذ العمالي لا يزال أقوى إلى حد كبير في البلدين الأولين. وفيما يتعلق بكندا هي أيضًا، فقد حقق «إقليمها الجميل» الكيبك نموًا استثنائيًّا خلال حوالي خمس عشرة سنة بالاعتماد على مؤسسات مثل صندوق الودائع ومجموعة ديجاردان، وهما يمثلان بالذات عكس ما يمثله النموذج «الأنجلو-ساكسوني»، في مجموعه منذ عشر سنوات.

    غير أن إدراج الولايات المتحدة والمملكة المتحدة تحت بند واحد معناه استبعاد ظاهرة أساسية. فقد رأينا من قبل أنه لا يوجد نظام عام للتأمين الاجتماعي في الولايات المتحدة، بينما لم تتوصل مسز تاتشر إلى تجريد الكيان الاجتماعي البريطاني من نظام التأمين الاجتماعي الشامل الذي تعود أصوله إلى عهد بسمارك، لا بيفيردج فقط.

    أما الاصطلاح الثاني «الألماني-الياباني»، فهو يذكرنا بالصفة التي التصقت باليابانيين منذ قرن مضى؛ إذ أُطلق عليهم اسم «ألمان آسيا»، وبأن أكبر الشركات اليابانية والألمانية تشتركان معًا الآن في ارتباطات لا مثيل لها في أي مكان آخر: فميتسوبيشي مع ديملر بنز، وتويوتا مع فولكس فاجن، وماتسوشيتا مع سيمينز.

    ومن جهة أخرى، هناك إلى جانب تشابه نظم التمويل والدور الاجتماعي للمنشأة عنصر تقارب آخر أساسي بين الاقتصادين الياباني والألماني، يتمثل في الدور الرئيسي الذي يقوم به التصدير. بيد أننا لا نجد في ألمانيا تلك الثنائية الشائعة وسط المنشآت اليابانية الكبرى في تعاملها مع المنشآت الصغيرة التي تعمل لحسابها من الباطن، ولا الدور الفريد الذي تضطلع به بيوت التجارة اليابانية. وأخيرًا فإن مركز الدراسات المستقبلية والمعلومات الدولية (CEPII)، الذي يدرس منذ عشرين عامًا تطور التخصصات في المجال الصناعي، ينوه بأن الحالتين الأشد تعارضًا تمثلهما بالذات ألمانيا باستقرار جوانب القوة لديها (الصناعات الميكانيكية ومعدات النقل والكيمياء)، واليابان المتميزة بتخصصاتها السريعة التغير، مع تراجع النسيج والتحول عن الترسانات البحرية والانطلاق المدوي في إنتاج السيارات والمنتجات الإلكترونية الاستهلاكية المستخدمة على نطاق واسع.

    وفي نهاية المطاف فإن اصطلاح «النموذج الأنجلو-ساكسوني»، ونقيضه «النموذج الألماني-الياباني»، لا يصلحان إلا إذا نظرنا للأمور من بعيد.

  • (٢)

    النموذج الأمريكي، أو بالأحرى النموذج الأمريكي الجديد.

    لما كانت إنجلترا لا تستطيع أن تتخلَّف عن التقارب مع أوروبا والابتعاد عن أمريكا رغم الثورة المحافظة التي جاءت بها مسز تاتشر، فإنه يتعين أن نعتبر أن الولايات المتحدة تشكِّل نموذجًا اقتصاديًّا على حدة.

    وقد تم ذلك بالأخص منذ انتخاب رونالد ريجان في عام ١٩٨٠م. والواقع أنه منذ أزمة الثلاثينيات كان تعاظم دور الدولة في المجالين الاقتصادي والاجتماعي، سواء في الولايات المتحدة أو أوروبا، قد أحدث تقاربًا بين شكلي الرأسمالية على جانبي المحيط الأطلنطي، وذلك في إطار جهد مشترك للوقوف في وجه التحدي الشيوعي.

    وعلى العكس، لم يحدث في أي مكان في القارة الأوروبية ما يشبه الثورة الريجانية في الولايات المتحدة. وهكذا نشأ هذا النموذج الاقتصادي الجديد الذي أطلقت عليه تسمية ريجانوميكس (REAGANOMICS). على أن المصاعب التي يصادفها هذا النموذج داخل أمريكا لا تعوق أبدًا ازدهاره الدولي المثير للدهشة. وهذه الظاهرة المعقدة التي تتغلب فيها العوامل السيكولوجية على معطيات الاقتصاد الحقيقي هي ما أسميه النموذج الأمريكي الجديد.
  • (٣)

    والمسألة التي تفرض نفسها عند هذه النقطة التفكير هي معرفة ما إذا كان هناك نموذج أوروبي صرف. والواقع أن كل الأمور تدفع مقدمًا إلى افتراض وجوده: فقد بدأت عملية إقامة السوق الأوروبية المشتركة منذ أكثر من ثلاثين سنة، والوحدة الأوروبية ليست وحدة سياسية أو دبلوماسية أو عسكرية، وهي ليست وحدة اجتماعية، وإنما وحدة اقتصادية أساسًا. ولا يكف الحديث عنها باعتبارها شيئًا تحقق أو على وشك الإنجاز، ومع ذلك يوجد نموذج اقتصادي متجانس في أوروبا. فالنموذج البريطاني أقرب إلى الولايات المتحدة منه إلى ألمانيا. والنموذج الإيطالي الذي تهيمن عليه الرأسمالية العائلية وجوانب ضعف الدولة والعجز الهائل في الميزانية، والحيوية المدهشة التي تتميز بها المنشآت المتوسطة الحجم والصغيرة، لا يمكن أن يقارن بأي نموذج آخر، اللهم إلا بعض التشابه بينه وبين نموذج الصينيين في المهجر.

    أما أوجه التشابه بين فرنسا وإسبانيا فلم يدُر الحديث عنها بما فيه الكفاية. فهما تتقاسمان تركة مشتركة قوامها إجراءات الحماية والاقتصاد الموجه والطوائف الحرفية. وقد تحررت كل منهما بعد معاناة من تلك التركة القديمة عن طريق التحديث المتسارع. ولا يزال البَلدان يتأرجحان بين ثلاثة اتجاهات: التقاليد المرتبطة بالمؤسسات والتي يمكن أن تحدث التقارب بين بلدان منطقة الألب من خلال إحيائها من جديد؛ ولمحة أمريكية، تضاعف من إقامة المنشآت والمضاربات والتوترات الاجتماعية المميزة للمجتمعات الثنائية التركيب؛ وأخيرًا «عودة رأس المال» على الطريقة الإيطالية مع انطلاق الثروة الشخصية وأمجاد العائلات الكبيرة.

    ولذا لا يمكننا أن نتحدث عن «نموذج أوروبي».

  • (٤)

    غير أنه يوجد مع ذلك نوع من «النواة الصلبة» لأوروبا الاقتصادية تتمثل في جانبين:

    • الجانب الألبي: وهو منطقة «المارك الألماني» التي تشمل سويسرا والنمسا (هذا عدا هولندا). وفي هذه البلدان نجد أقوى عناصر نموذج أوروبي مضاد للنموذج الأمريكي، كما أنه لا توجد أي عملة أخرى تدار شئونها منذ أكثر من جيل بطريقة مختلفة تمامًا عن الدولار، سوى المارك الألماني.

    • أما إذا نظرنا للأمور من الزاوية الاجتماعية أساسًا فإن اصطلاح «الرايني» — نسبة إلى نهر الراين — سيكون الأنسب. فعلى غرار «التكساس» التي تقدم صورة نموذجية لأمريكا، فإن الراين يؤكد على السمات المميزة لألمانيا الجديدة التي لم تستوحَ من العقلية البروسية، بل من عقلية الراين. وقد تمت صياغتها بالفعل في بون، المطلة على نهر الراين، لا برلين.

فقد قررت الاشتراكية الديموقراطية الألمانية في مؤتمرها التاريخي الذي انعقد في عام ١٩٥٩م في محطة باد جودسبرج للمياه الحارة، على مقربة من بون، قررت الانضمام إلى الرأسمالية، وهو الأمر الذي كان مثيرًا حقًّا للدهشة في تلك الحقبة. ومع ذلك لم يكن هناك أي لبس؛ إذ نوه المؤتمر «بضرورة حماية الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج وتشجيعها» ونادى «بحرية المنافسة وحرية المنشأة». وقد أدانت آنذاك الأحزاب الاشتراكية في مجموعها هذا البرنامج باعتباره خيانة، ولكنه أصبح مقبولًا شيئًا فشيئًا، إن لم يكن من حيث المبدأ، فعلى الأقل من حيث موقف تلك الأحزاب من واقع الخبرة.

وهكذا قدمت لنا ألمانيا هلموت كول، وريثة ألمانيا أديناور وايرهارد من قبل، وأيضًا برانت وشميدت، صورة لما يمكن أن نسميه من الآن فصاعدًا النموذج الرايني للرأسمالية، الذي نجد مثيلًا له ليس فقط على امتداد هذا النهر الأوروبي، من سويسرا إلى هولندا، ولكن أيضًا في اسكاندينافيا إلى حد ما، وبالأخص في اليابان، رغم التمايزات الثقافية التي لا مفر منها.

•••

وها هي الآن الأطراف المختلفة وقد احتلت مواقعها على خشبة المسرح تمهيدًا لبداية العرض.

لقد أدى انهيار الشيوعية إلى بروز التعارض بين نموذجين للرأسمالية، أحدهما أمريكي جديد، يعتمد على النجاح الفردي والربح المالي القصير الأجل، والآخر، «رايني» مركزه في ألمانيا ويتضمن العديد من أوجه التشابه مع النموذج الياباني. فهو يشجع النجاح الجماعي والإجماع والاهتمام بالمدى البعيد. ويثبت تاريخ العقد الأخير «النموذج الرايني» الذي لم يكن قد حصل بعد على بطاقة الهوية الخاصة به، هو مع ذلك النموذج الأكثر عدالة وفعالية في الوقت نفسه.

فقد شهدت نهاية عام ١٩٩٠م انتصار هلموت كول في ألمانيا واستقالة مارجريت تاتشر في بريطانيا، وهما حدثان لا تفسرهما الدوافع السياسية الداخلية وحدها. ولو نظرنا إلى الأمر إلى حد ما عن بُعد ومن أعلى لوجدنا أننا بصدد الجولة الأولى من معركة أيديولوجية جديدة لن تواجه فيها الرأسمالية الشيوعية، بل ستواجه فيها الرأسمالية الأمريكية الجديدة الرأسمالية الراينية.

وستدور تلك الحرب الخفية تحت الأرض وبعنف وبلا هوادة، ولكنها ستظل متسترة ومغلفة بالنفاق، كما هو الحال مع المعارك بين مختلف الطوائف داخل الكنيسة الواحدة. إنها حرب بين إخوة أعداء مسلحين بنموذجين مستنبطين من نظام واحد، ولكن يحركهما منطقان متناقضان للرأسمالية، في إطار ليبرالي واحد.

بل قد يكونان كما سنرى، نظامين للقيم متعارضين فيما يتعلق بموقع الإنسان في المنشأة، وموقع السوق في المجتمع، ودور النظام الشرعي في الاقتصاد الدولي.

كانت الشكوى تدور حول غياب المناقشات منذ نهاية الأيديولوجيات، ولكن أملنا لن يخيب في هذا الصدد.

١  لا نوافق على هذه الفقرة التي اشتملت معلوماتٍ وأفكارًا منها ما هو ظاهر التناقض، ولا تخفى على أحد العلاقة القوية بين صدام حسين والغرب والعرب طيلة حربه ضد إيران، ولا يزعم أحد أن الكويت — وغيرها من دول التحالف — ذات أنظمة ديموقراطية.
٢  لم يذكر المؤلف ماليزيا، ولها تجربتها الثرية الفريدة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤