الفصل الأول

عودة أمريكا

كان مجد أمريكا قد بهر الأبصار بعد حرب الخليج، حتى إن أكاليل الشرائط المعقودة فوق مدخل البيت الأبيض احتفالًا بجورج بوش، كادت تنسينا أن شعار «أمريكا تعود» كان قد رفعه ونفذه من قبل رونالد ريجان.

ومع ذلك فإن أمريكا رونالد ريجان لا تكف حتى الآن عن التألق في كافة أنحاء العالم.

ففي نصف الكرة الأرضية الجنوبي، لا تزال رأسمالية ريجان الغازية تستهوي متخذي القرارات الغارقين في الديون والاقتصاد الموجه، وحتى المثقفين. فمن برازيليا حتى لاجوس، تجسد أفكار ريجان أكثر فأكثر النجاح والديناميكية والازدهار منذ الثمانينيات.

أما العالم الشيوعي فيبدو أنه زكَّى رونالد ريجان بالمعنى الصريح للكلمة في اندفاعة واحدة، بل وألَّهه (ومعه مارجريت تاتشر) خلال سنتي ١٩٨٩-١٩٩٠م اللتين شهدتا قمة الانهيار. ففي بودابست أصبح الحزبان المجريان المنتدى الديمقراطي وتحالف الديمقراطيين، لا يتصوران أي حل آخر سوى اقتصاد السوق في صيغته الخالصة والحازمة. وفي بولندا تم تشغيل ناديين ليبراليين في جدامسك وكراكوف اعتبرا رونالد ريجان ومارجريت تاتشر الصورة الرمزية لهما. أما خطة بالسيروفيتش (باسم وزير الاقتصاد والمالية الشاب) التي طُبِّقت بشجاعة وقدر من النجاح في بولندا، فقد استوحت بصراحة تامة النموذج الريجاني. وهذا بالطبع عدا نسبة الأصوات المذهلة التي حصل عليها في الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة في نوفمبر ١٩٩٠م المدعو ستانسلاف تيمينسكي، وهو شخص مجهول لا يعرف سوى المفردات الأساسية في لغة بلده وما كان ريجان لينكره، إذ كان يعلن: كوِّنوا ثرواتكم كما فعلت أنا شخصيًّا! وهذا الانتصار الشعبي للريجانية الذي بلغ قمة الكاركاتورية لا يدعو أبدًا للدهشة؛ إذ إن الجميع أضحوا مقتنعين تمامًا بأن الشيوعية تجسد الشر والفشل المطلق، وباتوا مهيأين للإيمان بأن الرأسمالية ستكون أقرب إلى الخير المطلق كلما كانت أنقى وأشد حزمًا.

وقد كتب تيموثي جارتون آشي، وهو من أحسن الخبراء البريطانيين في شئون بلاد شرق أوروبا الذين تابعوا «ثورة ١٩٨٩م» خطوة خطوة، كتب يقول في مؤلفه الصادر في عام ١٩٩٠م (الغلَّاية، الناشر جاليمار، ۱۹۹۰م): «يمكننا أن نقول إن السوق الحرة هي آخر الأحلام الطوبوية في وسط أوروبا.»

يوتوبيا، معجزة … بالقطع فإن تلك هي «المعجزة» التي تراود المواطنين الخمسمائة أو الستمائة الذين يضربون الأرض كل يوم «محلك سر» في ميدان بوشكين بموسكو، لكن يصلوا بعد الانتظار في طابور، طوال ثلاث ساعات، إلى مطعم ماكدونالد الذي افتُتح في عام ١٩٩٠م، وأُطلق عليه تسمية «الضريح الجديد». وحتى في بكين أصبح اسم ريجان معروفًا للمواطن الصيني العادي، وهو يحظى أيضًا باحترام مشوب بالخشوع.

ولكن ليس هناك ما يدعو إلى الابتسام إزاء تلك «السذاجات غير المألوفة». فعندنا في أوروبا الغربية لا يزال هذا التيار الفكري نفسه مهيمنًا، بينما لم يعد كذلك فيما وراء الأطلنطي. لقد أصبحت الصيغة الجديدة المقدسة التخلي عن القواعد المنظمة للأمور، وانحسار دور الدولة، وتخفيض الضرائب، والإشادة بالربح من أجل الربح. أما عن «المناخ العام» فلا مغالاة في القول بأنه أصبح «ليبراليًّا» بشكل فاضح. وبالطبع غدا البعض في الأوساط اليمينية في سنوات ١٩٨٦–۱۹۸۸م ريجانيين أكثر من ريجان نفسه، ولكن لا يملك المرء إلا أن يبدي دهشته عندما يكتشف عند اليسار أيضًا فضائل الربح ومزايا أرباب العمل تحت أنقاض «البرنامج المشترك»، لليسار الفرنسي (الحزبين الاشتراكي والشيوعي من عام ١٩٧٠ إلى عام ١٩٧٨م).

بل إن ريجان انتصر كذلك، ومعه مارجريت تاتشر، وسط الدول الاثنتي عشرة التي تتكون منها السوق الأوروبية المشتركة. وقد انهزمت حقًّا مسز تاتشر داخل حزبها بالأخص لتصديها للبناء الأوروبي، ولكن أفكارها هي التي ألهمت في الواقع «سوق المستقبل الكبيرة لعام ١٩٩٢م» التي عظمت من شأن الجانب التجاري وأصابت الناحيتين السياسية والاجتماعية بالضمور بالرغم من جهود جاك ديلور، رئيس المفوضية الأوروبية والبرلمان الأوروبي. فالأمر يتعلق إذن بصفة عامة بسوق، بل بسوبر ماركت. فلم يشهد التاريخ أبدًا من قبل هذا الحجم من الاندماج التجاري المصحوب بمثل هذا القدر الضئيل من السلطة السياسية المحصورة في إطاره. وفي هذا المجال تم تجاوز الولايات المتحدة ذاتها.

وبصفة عامة، وبطريقة ملتوية، يبدو أن «قيم» ريجان، سواء كانت صحيحة أو زائفة، باتت مستقرة. وكأن التشاؤم الأوروبي الغابر قد حلت محله صيغة ليبرالية أخرى مفتولة العضلات وإن كانت محدودة. فقد غدت أوروبا أيضًا، بطريقة ما وبالوكالة، انعكاسًا لانتصار راعي البقر السابق في البيت الأبيض ولحرب النجوم. فالثناء ينصب على «الكسيبة» بينما شاع التغاضي عن الجوانب الاجتماعية وعمت اللامبالاة بالمهمشين، وانتشرت عبادة التفوق الإنتاجي وتواصل التفاؤل.

غير أنه بالأخص انتصار لمفهوم خاطئ؛ إذ إن أوروبا التي أساءت التقدير في الماضي بالمغالاة في تقدير قوة الاتحاد السوفيتي الاقتصادية، اختلط عليها الأمر الآن بخصوص أمريكا. فهي تجد صعوبة في كشف جوانب ضعف أمريكا في المجالين الاقتصادي والاجتماعي، الكامنة خلف قوتها العسكرية. وهذا المفهوم الخاطئ لا يمكنه أن يتعلل بالأعذار التي كان يوفرها الغموض الشديد المحيط بالكريملين، والعتامة الإعلامية المفروضة على الاتحاد السوفيتي، والنجاحات المزعومة، والإحصائيات المزورة. فأمريكا — أول دولة ديموقراطية في العالم وأكثرها شفافية — تتخبط تحت الأضواء الساطعة التي تخطف الأبصار حقًّا.

الانفجار الأمريكي الكبير

لكن هذا الانفجار العظيم (البيج بانج) الذي نتج عنه «الضوء الأمريكي» الخاطف للأبصار، والذي لا يزال يشع حتى الآن — بدون حق في الغالب — في العالم بوجه عام، هل كان يتعين أن يكون مدويًا إلى هذا الحد، وأن تكون نشأة الريجانية في بداية الثمانينيات مبهرة لمن يراها من الخارج؟ ماذا حدث إذن آنذاك؟ ولماذا؟ من المستحسن أن نعرف من أين جاءت الأسطورة حتى نكشف النقاب عنها.

فالشعار «أمريكا تعود» الذي رفعه رونالد ريجان في عام ۱۹۸۰م، قبل فوزه برئاسة الولايات المتحدة، كان يرمي إلى إيقاظ همة الأمريكيين وتدارك أثر الهزيمة في فيتنام وإحياء أسطورة الرواد الأوائل الذين أنشئوا أمريكا. كانت تلك الصحوة ملحة للغاية بالنسبة للدولة الكبرى الأولى في العالم، المتخبطة في أزماتها الداخلية، والمهانة في الخارج، خاصة في جانب إيران الخومينية ومشكلة الرهائن، والتي كانت تهددها، كما كانت تتصور، الهيمنة العسكرية السوفيتية، وتعاني من المنافسة على يد البلدان الأوروبية واليابان.

كيف وصلت الأمور «بالإمبراطورية» الأمريكية إلى هذا الدرك؟ وما هي المسارات الغامضة للوعي الجماعي تحت تأثير الشك في النفس والبلبلة التي دفعته إلى أن يعهد بمصيره إلى ممثل له أفكار قوية وإن كانت مختصرة، ورجل من الغرب يتحلى بأخلاقيات تقليدية وأيديولوجية قديمة بشكل غير واضح؟ ولماذا اجتاحت تلك «الثورة المحافظة» المباغتة مجتمعًا منفتحًا وحديثًا إلى أقصى درجة، كان يحتفل قبل ذلك بسنوات قليلة بغلاة الإصلاحيين من فريق ماكجفرن وتجارب العهد الجديد في كاليفورنيا؟ ومن أين انبثقت إرادة القوة المفاجئة هذه والرغبة في الثأر؟

إنها أسئلة لم يتقادم عليها العهد بعد، بل إن تقديم الإجابة عليها ملح إذا كنا نريد أن نفهم الوضع الراهن في أمريكا، أمريكا جورج بوش، والاستدانة في ظل الأمجاد … غير أن فهم الرأسمالية الأمريكية يتطلب أن نضع في اعتبارنا المدى الطويل والتطورات العميقة المهملة للغاية في الكثير من الأحوال. وهناك في الواقع بعض المعطيات الأساسية يرجع إليها في آن واحد ضعف أمريكا وقوتها على حد سواء.

أسباب مهانة أكثر من اللازم وقدر من اليقين غير كافٍ

لقد اتفق وصول رونالد ريجان إلى البيت الأبيض مع حالة اضطراب خاصة مترسبة في الوعي الأمريكي يمكن تلخيصها في: أسباب إذلال أكثر من اللازم وقدر من اليقين لا يكفي.

ففيما يتعلق بأسباب الإحساس بالخزي، كانت السنوات العشر السابقة على انتخاب ريجان عامرة بسلسلة لا نهائية من الهزائم الدولية النكراء التي لحقت بالولايات المتحدة. وكان الاندحار في فيتينام وكمبوديا نذيرًا بتقهقر عام لا مفر منه. وفى نفس تلك الفترة كان الاتحاد السوفيتي وحلفاؤه الكوبيون يسجلون في إفريقيا نقاطًا بدت حاسمة في إثيوبيا وأنجولا وغينيا بيساو وموزمبيق. وفي الشرقين الأدنى والأوسط فقدت الولايات المتحدة من خلال شاه إيران، شرطي الخليج، خير حليف لها في المنطقة، وظلت عاجزة عن التحكم في الحرب الأهلية اللبنانية التي بدأت في عام ١٩٧٥م، بينما كان زمام المبادرة في يد سوريا على نطاق واسع، وراح كيسنجر يبذل الجهود لكي تقبل إسرائيل اتفاقيات فض الاشتباك في سيناء. وفي أمريكا الوسطى، وعلى أعتاب الولايات المتحدة نفسها، كان سقوط سوموزا في نيكاراجوا وتولي الساندينيون السلطة نذيرًا بزوال مبدأ مونرو الذي تقرر بمقتضاه أن تكون أمريكا اللاتينية الحديقة الخلفية للولايات المتحدة وحصنها المنيع.

ففي كل أنحاء العالم كان النفوذ الأمريكي بادي التراجع لصالح التوسع السوفيتي. وكان علم الولايات المتحدة يُحرق في شوارع النصف الجنوبي من الكرة الأرضية، وراحت التحديات تواجه أمريكا، والهتافات تنطلق ضدها، والاتهامات تُوجَّه إليها. تلك كانت صورة العالم التي كان يسجلها كل يوم المتفرج المتوسط على التلفزيون في هيوستون أو سبرينج فيلد أو ديترويت. وهذا الإذلال والسأم كانا مصحوبين بقدر من الحنق العاجز. وما كان الأمر يتطلب المزيد لكي ينشأ شيئًا فشيئًا وسط الرأي العام حنين غامض إلى العظمة الغابرة والقوة المفتقدة. ولو لم يكن ريجان قد تواجد بأفكاره الواضحة ومفردات لغته المستخدمة في جانب جون واين، لكان من الضروري قطعًا أن يتم اختراعه تحت شعار «أمريكا تعود».

ومن المؤكد أن الأمر المؤلم للغاية وسط هذا الفيض من الإهانات كان ذلك العجز الخطير في رصيد اليقين الذي كانت تشعر به أمريكا بشكل مبهم. وكانت السبعينيات هي أيضًا سنوات سوداء على هذا الصعيد. فقد حل الشك محل اليقين، واحتلت «العلة الأمريكية»، التي اتخذها ميشيل كروزييه عنوانًا لأحد مؤلفاته، محل «الحلم الأمريكي» ولكن أي علة؟ تناول كروزييه تلك الفترة التي قضاها في هارفارد، حيث كان هناك قبل ذلك بعشر سنوات. وقد وصف شعوره قائلًا: «كان كل شيء مماثلًا لما كان عليه من قبل، ولكنه كان مختلفًا مع ذلك. لقد تبدد الحلم ولم تتبقَّ منه سوى كلمات وبلاغة خاوية» (العلة الأمريكية، الناشر فايار، ۱۹۸۰م).

غير أن هذه العلة الأمريكية ليست من حالات الإحباط المبهمة التي تنتاب الأمم أحيانًا، بل كانت تنال من القوانين والمؤسسات التي تستند في هذا البلد على الكتاب المقدس والدستور، وتعتبر الوطن الحقيقي عند كل مواطن. وكانت أزمة ووترجيت والأكاذيب، ثم استقالة ريتشارد نيكسون قد زعزعت تلك الثقة بشكل خطير، حتى إن رئاسة جيمي كارتر تميَّزت بوهن السلطة التنفيذية، بينما لم يكن الكونجرس البديل المتمتع بالمصداقية.

كيف يمكن إذن أن تحكم الدولة الكبرى الأولى في العالم بينما تشل مبادئ راقب الأمور ووازنها المستوحاة من مونتيسكيو، تشل السلطة التنفيذية بالمعنى الحرفي للكلمة؟ ويحكي كيسنجر في مذكراته كيف تعيَّن عليه أن يراوغ باستمرار لكي يحمي بعض الأسرار الأساسية في تنفيذ سياسته الخارجية.

وفي ظل هذا المناخ كان الامتناع التقليدي عند الأمريكيين عن التصويت في الانتخابات السياسية (نادرًا ما كان يقل عن ٥٠٪) بلغ بكل بساطة حد النفور منها. وفي نهاية الستينيات كان الرأي العام لا يتوقع أي شيء هام من السياسة، ولكن كان ينتظر بغير وضوح مجيء المنقذ.

ولم يقتصر الأمر على ذلك. فهناك علل أخرى خبيثة راحت تنهش أمريكا، ومن بينها عبادة القانون الذي تحول إلى وثن؛ إذ استحوذ هوس الإجراءات القانونية على العقلية الأمريكية. ومن المهم بنفس القدر أن نعرف أن «مُودة» جديدة اجتاحت الولايات المتحدة، فحواها أن سيادة القانون القائم على اجتهاد المحاكم المستمر في تطوره، تشكِّل تفوقًا متزايدًا لها على أوروبا. غير أن الواقع يختلف عن ذلك تمامًا. فهذا الهوس المتعلق بالإجراءات القانونية يحقق الثروة للمحامين، ولكنه يجعل الأداة القضائية في دولة القانون غامضة وخانقة ومرعبة. فقد أصبح كل شيء قابلًا لإيجاد مبرر لرفع القضية، والمحامون يحاصرون الصيد الثمين، ويطاردون الصيد الضعيف بحاسة الشم المرهفة عند كلاب القنص.

وهناك مثال في هذا الصدد ظل متمتعًا بالشهرة. فقد اضطرت شركة أي. بي. إم إلى استئجار مبنًى بأكمله في واشنطن ليقيم فيه المحامون الذين أوكلت إليهم مقاضاة الحكومة في نزاع واحد.

وهكذا غدا القانون، الذي تأسست أمريكا على قواعده، والمنظم البارع «لمجتمع التعاقدات»، أدغالًا تتشابك فيها وتتعارض النظم الفيدرالية والمحلية العديدة مع الاجتهاد القضائي.

غير أن أساسًا آخر من أسس المجتمع الأمريكي أصابه الضعف بشكل خطير في تلك الحقبة يتعلق بنظام الجمعيات، تلك الخلايا المحلية العديدة في مجالات الرياضة وأعمال الخير والمجتمع الفئوي … إلخ التي حازت إعجاب المؤرخ توكفيل، وكانت تجعل الحياة تدب في المجتمع المدني. إنها آلاف الجمعيات الغريبة في الكثير من الأحوال، ولكنها حية وقوية، تنشر أفكارًا حول الخير العام والإخلاص للوطن. ولكن أمريكا المتحررة في الأوهام وجدت نفسها غير مسلحة بالقدر اللازم لمقاومة ذلك الإحساس الذي لا ينتمي أبدًا إلى تقاليدها، ألا وهو الاحتيال الوقح. أما «الأغلبية الصامتة» الشهيرة فكانت تتألم من ذلك التفكك الذي أصاب نسيجها الاجتماعي والنظام السياسي. وهكذا انتاب هذا المجتمع الذي فقد الاتجاه نتيجة للتغيرات السريعة وهوس الإباحة الوافد من كاليفورنيا، ذلك التطلع إلى العودة إلى القيم التقليدية والتعطش إلى التيقنات حتى الأولية منها بل والبالية.

وجاء خطاب رونالد ريجان بمضمونه المفتول العضلات والمبسط للأمور في اللحظة المناسبة لتلبية تلك التطلعات. وقد عرف كيف يستغل الظروف الاقتصادية المواتية والمغالاة البيروقراطية وتدخلات الحكومة الفيدرالية والمناخ العام، هذا عدا الوضع الدولي الذي ضاعف من تأثير رسالته «أمريكا تعود».

التحدي الأمريكي الجديد

فاز رونالد ريجان، مرشح الحزب الجمهوري في انتخابات الرئاسة، بنجاح ساحق؛ إذ تغلب على منافسه جيمي كارتر بأغلبية تسعة ملايين صوت. وقد أدلت أربع وأربعون ولاية بأصواتها لصالحه من بين واحد وخمسين ولاية، بل إنه نجح في نيويورك وولايات الشمال الصناعية، وهي مناطق النفوذ التقليدية للديمقراطيين. وفي عام ١٩٨٤م كانت إعادة انتخابه انتصارًا باهرًا، إذ حصل على الأغلبية بفارق سبعة عشر مليون صوت.

والواقع أن أي معلق ما كان يتوقع مثل هذا الانتصار الذي حققه ريجان الممثل للجناح المحافظ في الحزب الجمهوري، وكان برنامجه الذي يتلخص في عدد من المبادئ الكبرى، مشبعًا بأساطير مؤسسي أمريكا وروادها الأوائل، والتي راح يدافع عنها بإخراج بارع وقدرة خاصة على مخاطبة الجماهير.

فهو يؤكد أولًا أنه يريد أن يعيد أمريكا إلى مركزها الأول على المسرح الدولي. ولا بد من التخلص نهائيًّا من الإهانات والهزائم التي لحقت بها. ولن تكون هناك من الآن فصاعدًا تلك الصور الفظيعة للهليكوبترات الأخيرة التابعة للجيش الأمريكي وهي تسارع بتأمين الجلاء عن سايجون، أو صور جثث جنود البحرية الأمريكية المحترقة في صحراء طاباس الإيرانية بعد فشل محاولات تحرير رهائن السفارة الأمريكية في طهران في أبريل ۱۹۸۰م. ولن يكون هناك أبدًا تخلف عن مساندة الحلفاء، ولا استسلامات يُرثى لها أمام «قوى الشر». فأمريكا أول قوة عسكرية في العالم، وهي عازمة من الآن فصاعدًا على أن تثبت ذلك، خاصة أمام الهيمنة السوفيتية في أواخر عهد برجنيف. فريجان هو الذي واجه السوفيت بذلك التحدي الخرافي «حرب النجوم» أو «مبادرة الدفاع الاستراتيجي».

ماذا كان هناك؟ لقد شرح رونالد ريجان ذلك في ٢٣ مارس ١٩٨٣م أمام كل أمريكا في خطاب أُذيع عبر التلفزيون ودرس وقعه بكل عناية وكان مقتنعا به تمامًا. وقد أوضح بكل بساطة أن الأمر يتعلق بإلغاء أي احتمال لقيام حرب نووية بإقامة درع في الفضاء قادر على اعتراض سبيل كل الصواريخ السوفيتية. فمبادرة الدفاع الاستراتيجي ستستغل بعض التقنيات المختبرة (الكشف الإلكتروني والأقمار المدمرة) وغيرها المتوقعة (الليزر ومدافع الحزم الإلكترونية … إلخ)؛ بغية توفير الحماية الحاسمة للأراضي الأمريكية.

وقد أثار هذا المشروع الخيالي إلى حد بعيد مناقشات لا حصر لها بين الخبراء. فبعض مكوناته تحتاج في الواقع إلى «قفزة تكنولوجية» كبرى دون أن يكون أحد واثقًا تمامًا من صلاحيتها. أما من الناحية المالية فهو محفوف بالمخاطر حتى بالنسبة لأغنى دولة في العالم. وقد خصص مبلغ مائتين وخمسين مليار دولار لتنفيذه، منها ١٠٪ للأبحاث وحدها. وتلك تكاليف فادحة، علاوة على التجاوزات المتوقعة التي لا يستطيع أحد أن يحدد حجمها.

وعلى النقيض من ذلك حققت «حرب النجوم» نجاحًا إعلاميًّا وسياسيًّا لا نزاع فيه، فتصميمها المستقبلي وهدفها (لا حروب بعد الآن) خلب لب الرأي العام العالمي وأثَّر حتى على اللامبالين. وهل هناك ما يمكن أن يستهوي العالم أكثر من هذا المفهوم الدفاعي الصرف لذلك الدرع الذي يحول دون تسليط سيف النار النووية على رقاب البشر؟ وقد استغل ريجان صورة بلاغية مفحمة وهو يحلم بصوت مرتفع بالانتصار المقبل للدرع على السيف. أوليس «الدرع» سلاح «الأبرار» بينما السيف سلاح «الأشرار»؟ (وعلاوة على ذلك كان «درع الصحراء» الشفرة التي أُطلقت في أغسطس ۱۹۹۰ على عملية الرد على ضم صدام حسين للكويت، والتي تحولت فيما بعد إلى «عاصفة الصحراء»). ومهما كانت إدانة أعداء مبادرة الدفاع الاستراتيجي خاصة في أوروبا «لطموحات ريجان الخفية» ألا وهي وضع حد للتعادل النووي بتوفير الحماية مقدمًا للمواقع الاستراتيجية، إلا أن تأثير «حرب النجوم» كان هائلًا. أما الرسالة فكانت واضحة تمامًا: لقد استعادت أمريكا زمام المبادرة، ولكن «حرب النجوم» لا تستخدم سوى الأسلحة الدفاعية. وهذا حسب مزاعم ريجان انطلاقة عسكرية وسلامية في الوقت نفسه. ولنلاحظ أن بعض الانتصارات العسكرية الأمريكية في حرب الخليج في يناير ١٩٩١م أمكن تحقيقها بواسطة التكنولوجيا المأخوذة عن مبادرة الدفاع الاستراتيجية.

أما التحدي التكنولوجي والمالي الهائل الذي وُوجِه به الاتحاد السوفيتي فقد أثبت أنه أكثر فعالية مما كان متوقعًا. ففي نهاية الثمانينيات، وبعد عدة سنوات من البريسترويكا، اعترف بعض المسئولين السوفيت بالدور الذي لعبته «حرب النجوم» في استسلام النظام السوفيتي أيديولوجيًّا. ففي هذه المرة لم يتمكن الاتحاد السوفيتي من مواصلة عملية المقامرة العالمية الهائلة المتمثلة في سباق التسلح. وفي المقابل، كانت تلك الدفعة التكنولوجية المتمثلة في مبادرة الدفاع الاستراتيجي رابحة على طول الخط بالنسبة لأمريكا، لأن التحكم في القرن الحادي والعشرين سيتم عن طريق الفضاء والمعلوماتية والليزر.

وفي نفس تلك الفترة ضاعف ريجان من تحركاته السياسية والدبلوماسية لمساندة حلفاء أمريكا، فنصبت صواريخ برشينج في أوروبا للتصدي لصواريخ إس إس-٢٠ التابعة للجيش الأحمر، وحصلت الحركات المعادية للشيوعية في أنجولا وأفغانستان ونيكاراجوا على مساعدات مالية مع الإعلان في كل مكان عن العزم على دفع النفوذ السوفيتي إلى التقهقر. فأمريكا تعود!

وصاحبت تلك العودة الدولية عملية تجديد إرادية للرأسمالية الأمريكية في صيغتها الغازية، بلا أي عقد نقص. ففريق ريجان يشيد بأصحاب المنشآت ويشجب إسراف الحكومة وتبديدها للأموال، ويدين الضرائب بشكل خاص باعتبارها الآفة التي تثبط همم المبادرين وتكبح قوى أمريكا الحية. فأمريكا قارة الأحلام والمجازفات، حيث يستطيع أي فرد أن يصبح روكفلر شريطة أن تتحرر قوانين المنشأة الحرة «المقدسة»، وأن يتذكر كل شخص أن «يدًا» خفية، هي يد آدم سميث والآباء المؤسسين لليبرالية، ستجعل إثراء الفرد في خدمة الجميع. عليكم أن تغتنوا، وليصبح الأثرياء أكثر ثراءً! وليعمل الفقراء بدلًا من انتظار معونة الدولة، وكل تلك «البرامج الاجتماعية» ليست إلا تبريرًا للكسل والتقاعس! أما الحاجات الضرورية للمعدمين والهامشيين فستكفلها الأعمال الخيرية، فتلك مسألة لا شأن للدولة بها. والرسالة بسيطة وهي تلقى آذانًا صاغية.

بل إن هذه الرسالة تستمد قوتها الجديدة من ضروب الفشل السابقة والأزمة التي لحقت بأفكار كينز من خلال الانكماش الاقتصادي في السبعينيات. والواقع أن ذلك الانكماش كان نذيرًا بالقضاء على تلك النظرية القائمة على تشجيع الطلب وعجز الميزانية، والتي ساهمت من قبل في نجاح «السنوات الثلاثين المجيدة» (١٩٤٥–١٩٧٥م) في أوروبا بالأخص.

ولنتوقف هنا لحظة. فسنرى أن ريجان لجأ إلى الإصلاح بإلغاء النظم وتحجيم دور الدولة. وهناك مجال واحد عمد فيه، على العكس، إلى دعم القوة الاتحادية بأن هيَّأ لأمريكا مشروعًا طويل المدى، له الأولوية، ألا وهو الدفاع. ففي هذا المجال تخطى النجاح الآمال المعقودة عليه، كما أكدت ذلك حرب الخليج.

ولنلاحظ هنا مفهوم المدى الطويل هذا لأن أمريكا ريجان نسيته في كافة المجالات الأخرى، مع أنه أساس قوة الصناعات الألمانية واليابانية.

ولم تكن أمريكا البلد الوحيد الذي دفن أفكار كينز في عام ١٩٨٠م … فقد فشلت في أوروبا سياسات إنعاش الاستهلاك التي اتبعها جاك شيراك في عام ١٩٧٥م وهلموت شميدت في ۱۹۷۸م. والدرس الذي تم استخلاصه من حالات الفشل هذه يتناقض مع الأفكار التي ترسخت من قبل. فقد ظهر في الواقع أن البطالة والتضخم يمكن أن يتعايشا معًا، على عكس ما كان يتم تدريسه في كافة الجامعات. أما منحنى فيلبس الشهير، الذي كان يسلم بعكس ذلك، فلم يعد يصلح إزاء ذلك المرض الاقتصادي الجديد الذي يتفشى في كل مكان ويحمل تسميته الوحشية: الركود التضخمي.

وتلك في الواقع فكرة اقتصادية اعتبروا أنها قد تقادم عليها الزمن. وقد انبثقت مكانها وضدها تيارات جديدة راديكالية سيجعل ريجان نفسه بطلًا لها. فأصحاب نظرية العرض (اقتصاديات العرض) والنقديون يقترحون بزعامة ميلتون فريدمان، سياسة أخرى تسير في عكس اتجاه أبسط المبادئ الكينزية. فشعاراتهم الرئيسية هي: تخفيض الأعباء الضريبية، والسيطرة الكاملة على النقد، وإلغاء النظم، والتوسع في الخصخصة. ففي أمريكا التي اهتدت، يستعيد العصامي مكانه وتفقد الدولة مركزها.

وقد أجريت بالفعل عدة إصلاحات جذرية كان رأس حربتها قانون الإصلاح الاقتصادي الذي يتضمن ثلاثة بنود أساسية: البند الأول إلغاء القيود في قطاعات النفط والاتصالات عن بُعد والنقل الجوي والبنوك والمنافسة. والواقع أن إلغاء القيود كان قد بدأ في عام ١٩٧٨م، في عهد جيمي كارتر، إلا أنه أصبح يطبق الآن فصاعدًا بكل قوة، ويتعلق البند الثاني بالنظام الضرائبي. وقد تم إصلاح واسع النطاق في هذا المجال يرمي إلى تبسيط الضريبة على الدخل، ويلغي الاستنزالات ويحد من معدلات فرض الضريبة، خاصة المرتفعة منها. والبند الثالث: مكافحة التضخم عن طريق إحكام الرقابة على الكتلة النقدية. وقد ركز بول فولكنر، رئيس الاحتياطي الفيدرالي (الذي عينه كارتر في هذا المنصب) ركز جهوده من أجل هذا الهدف بروح نضالية حازمة. وكانت النتيجة المباشرة ارتفاع سعر النقد وانتهى بذلك الحفل. فقد بلغت معدلات الفائدة مستويات مدهشة، بل وتجاوزت اﻟ ٢٠٪ في عامي ١٩٨٠-١٩٨١م. وعلى الفور ارتفع سعر الدولار حتى تعدى عشرة فرنكات فرنسية في بداية ١٩٨٥م. وتمكن مستشارو ريجان من تصوير ذلك على أن مركز الدولار أصبح قويًّا لأن الاقتصاد الأمريكي نفسه قوي.

وبغية استكمال ما ورد في قانون الإصلاح الاقتصادي لجأت إدارة ريجان إلى خفض النفقات الاجتماعية بلا تردد وزيادة الميزانية العسكرية بالأخص. وربما كان هذا الاختيار موضع نزاع، إلا أنه يتميز بوضوحه واتساقه. فخفض النفقات الاجتماعية يدل على استعادة الثقة في الفرد وفي قوانين السوق. والمزيد من الاعتمادات العسكرية سيوفر القوة لأمريكا وإمكانات تحقيق طموحات مخططي الاستراتيجية في فريق ريجان.

إنها سياسة الصدمات وصدمة سياسية: «فالثورة المحافظة»، كما سماها عنوان كتاب لجي سورمان (الناشر فايار، ۱۹۸۳م)، تشق طريقها، وإذا كانت لن تجتاح العالم بأسره، إلا أنها ستخلب لبه.

أمريكا، أمريكا

لقد عادت أمريكا. ومع الشهور الأولى تحولت هنا وهناك شكوك الذين كانوا لا يتصورون أن يستقر راعي بقر من هوليود في البيت الأبيض، تحوَّلت إلى حذر ثم إلى فضول، وأخيرًا إلى دهشة مشوبة بالإعجاب. وجرى ذلك حتى عند بعض المثقفين الأوروبيين الذين كانوا يتندرون بذلك بالأمس. والحق أن قوة الرئيس الجديد تعود جزئيًّا إلى موهبته المهنية الشديدة في استخدام التأثير الهائل لوسائل الإعلام لنشر رسالته. وقد استعان رونالد ريجان في ذلك بفريق من خبراء الاتصال، واستفاد من المواهب التي يحسده عليها العديد من رؤساء الدول. فهو يحدد جرعات تأثيره، ويحرص على تلميع صورته «كسيد بيت» هادئ الأعصاب، ومواطن أمريكي يحب مزرعته وغرب بلاده، ويستأثر بوسائل الإعلام دون أن يعطي أبدًا الانطباع بأنه يستنفد جهوده في دراسة الملفات مثل كارتر. إنه رئيس لديه الوقت وهو شجاع حقًّا. ألم ينهض وهو يمزح فور محاولة اغتياله في ٣٠ مارس ۱۹۸۱م؟ ألم يخضع بلا مشاكل لعملية جراحية ركزت وسائل الإعلام الأضواء عليها؟ وسيطلق عليه لقب «المنفتح الكبير» الذي سرعان ما توصلت أمريكا إلى تصدير صورته بلا مصاعب.

غير أن ريجان رجل سريع البديهة أيضًا، قادر على ركوب موجة الليبرالية التي تميَّزت بها الثمانينيات. وهو يستغل تشاؤم الاشتراكية الديموقراطية الأوروبية. وبرنامجه يتفق مع «موضة» الحقبة. وهو يدرك ذلك ويعرف كيف يستفيد منها، ولو بالخداع لأنه قادر أكثر أي شخص آخر على إخفاء جوانب الضعف والشك، ومنها على سبيل المثال ذلك العجز الفاحش في الميزانية الذي تضخم سنة بعد أخرى حتى أصبح أعمق عجز في كل التاريخ الأمريكي. وهناك أيضًا مساندته للحركات المشايعة للغرب في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية التي حدَّ منها الكونجرس المناهض له.

ومع ذلك ورغم نواحي الضعف فإن أمريكا التي أحياها رونالد من جديد بلغت بسرعة أوج نفوذها، بل إنها بدت وكأنها أصبحت مرة أخرى كعبة الرأسمالية القادرة على غمر العالم بأضوائها. وعلى أي حال فقد انتشرت دعوة ريجان كالنار في الهشيم. وتصدر الأوروبيون مقدمة المسيرة، وسرعان ما لحقت بهم بلدان العالم الثالث، وراح البنك الدولي لإعادة البناء والتعمير وصندوق النقد الدولي يشجعان العالم الثالث أكثر من أي وقت مضى على اللجوء إلى السوق، والمنافسة، والقطاع الخاص. وانتشرت عمليات الخصخصة على نطاق واسع في الجنوب على غرار أوروبا. أما السياسة النقدية فهي من وحي صندوق الاحتياطي الفيدرالي مباشرة. فالمطلوب القضاء على التضخم الذي ينهش في الذمم المالية وتتأكل بفعله الدخول ويزيد من نواحي عدم المساواة.

وباختصار، راحت أمريكا تسطع من جديد في منتصف الثمانينيات مثل النجوم التي تزين علمها، وأصبحت تحظى مرة أخرى بالاحترام (أو التهيب منها)، واستعادت حقًّا زعامتها، والآخرون يحسدونها ويقلدونها.

أسس النفوذ الأمريكي

غير أن الشكوك بدأت تساور البعض في تلك الحقبة. فهل تقوم حقًّا هذه النهضة الملفتة للأنظار على أساس أم أنها تعود إلى مواهب المشعوذ ريجان؟ وهل تعود نجاحاتها، كما يعلن في كل مكان، إلى الفضائل «الأيديولوجية» والفلسفية للريجانية أم أن هناك بعض الأوراق الرابحة أو المزايا التي تتمتع بها أمريكا؟ وطرح هذا السؤال يعني أصلًا تقديم الإجابة. «فالتجديد» الريجاني الذي بهر عيون العديد من متخذي القرارات في أنحاء العالم ليس في الواقع معجزة اقتصادية على غرار ما كان بوسع بلدان مثل اليابان وألمانيا الاتحادية وكوريا الجنوبية، أن تتفاخر بها. فالعملية مختلقة إلى حد ما مع الولايات المتحدة لأن هناك امتيازات تتمتع بها.

فلديها أولًا رصيد لا مثيل له، وتركة اقتصادية ومالية وتكنولوجية هائلة تدر أرباحًا وجدها ريجان عند وصوله إلى البيت الأبيض، وهي:

الرأسمال المخزون الذي تراكم لدى الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب ولا يوجد مثيل له. فهي تملك داخل حدودها شبكات ممتدة من المرافق العامة الحديثة في أغلب الأحوال: مطارات، وطرقًا سريعة، وجامعات، ومصانع، وعقارات … إلخ. وفي الخارج تتحكم شركاتها المتعددة الجنسيات في أرصدة لا تقدر قيمتها على حقيقتها لأن حساباتها تعتمد على ثمن شرائها دون الأخذ في الاعتبار قيمتها الراهنة. ففي عام ۱۹۸۰م كان رصيد الاستثمارات الأمريكية في الخارج يبلغ ٢١٥ مليار دولار، وأصبح ۳۰۹ مليار دولار في عام ۱۹۸٧م (بول منتريه، أمريكا ونحن، الناشر دونو، ۱۹۸۹م) وهذا الرصيد لا يوفر فقط دخولًا لها وزنها، بل ويسمح لها بالاستفادة من السبق بدرجة كبيرة. ففي عام ١٩٨٨م كانت الاستثمارات المباشرة للشركات الأمريكية في الخارج لا تزال تمثل ثلاثة أضعاف ما لدى اليابان من استثمارات في الخارج.

الموارد الطبيعية في أمريكا هي أيضًا من أكبر ما يتوفر في العالم. ومصادرها من الطاقة هائلة خاصة الغاز الطبيعي والفحم. ولديها كافة المعادن فيما عدا بعض الخامات الاستراتيجية. وأخيرًا فإن حجم سكان أمريكا، الرابع من حيث العدد، هو الأول بين البلدان المتقدمة، ويشكل ثروة لا مثيل لها في العالم. وباختصار فإن أمريكا تجلس فوق كومة من الذهب، وهذا وضع مريح بالمقارنة مع اليابان مثلًا التي لا تملك مواد أولية أو مصادر طاقة، ولديها نسبة مرتفعة من المتقدمين في السن، وستعاني أكثر فأكثر من النقص في اليد العاملة على مساحة أراضيها المحدودة.

وفي المجال التكنولوجي تتمتع أمريكا بمزية كبيرة بالمقارنة مع غيرها. فأكبر الباحثين وأفضل المهندسين وألمع الطلبة يتوجهون إلى الولايات المتحدة ليعملوا هناك سواء كان ريجان الرئيس أو لم يكن. وهم يحضرون معهم هذا الرأسمال المعروف الذي يتفق الجميع على أنه أثمن رأسمال، وهو يتمثل في المادة السنجابية الموجودة داخل أدمغتهم. وهناك دليل واحد يكفي لإثبات ذلك، وهو عدد جوائز نوبل التي يحصل عليها بانتظام العلماء الأمريكيون، وسنة بعد أخرى تزود هجرة العقول أمريكا بالذكاء لأنها تتيح لأصحاب هذه العقول إمكانية الازدهار. وهذ ليس ريعًا بل مزية مكتسبة، وكثيرًا ما يقلل الناس من مدى أهمية ذلك. فالكل يعلم أن صواريخ باتريوت الشهيرة تتضمن مكونات يابانية، ولكن عدم تمكن سوني من إنتاج كاميرات فيديو بدون المكونات الدقيقة التي تنتجها شركة موتورلا الأمريكية لا يُعامَل على أنه حدث له أهميته.

الامتياز النقدي الذي أثبت أنه حاسم. فمنذ اتفاقيات بريتون وودز في عام ١٩٤٥م أصبح الدولار المرجع في التعاملات الدولية. وهو أيضًا العملة الاحتياطية الدولية الرئيسية التي تحتفظ بها البنوك المركزية في أغلب بلدان العالم. وهذا الامتياز الإمبراطوري الفريد يتيح للولايات المتحدة إمكانية دفع نفقاتها وتمويلها والاقتراض بعملتها هي. ويمتد هذا الامتياز إلى أبعد مما نتصور عادة. وقد شرح ذلك الاقتصادي الأمريكي جون نويلر بلا لف أو دوران (جريدة الموند، ١٠ يوليو ١٩٩٠م) إذ يقول:

«تصور للحظة أن كل شخص تلتقي به يقبل أن تدفع له ما عليك له بشيكات تصدرها بنفسك. وأضف إلى ذلك أن كل من يستحق شيكاتك الموزعة في أنحاء العالم يمتنع عن صرفها ويستخدمها كعملة لتسديد نفقاته. وستترتب على ذلك نتيجتان هامتان بالنسبة لماليتك أنت. الأولى هي أن قبول كل الناس شيكاتك سيجعلك غير محتاج إلى استخدام العملات الورقية؛ إذ سيكون دفتر شيكاتك كافيًا. والنتيجة الثانية هي أنك عند إطلاعك على كشف حسابك ستفاجأ بأن رصيدك يزيد على المبالغ التي أنفقتها. لماذا؟ للسبب المذكور أعلاه، وهو أن الشيكات التي أصدرتها يجري تداولها دون تحصيلها؛ إذ إنها تنتقل باستمرار من أيدٍ إلى أيدٍ أخرى. أما النتائج العملية لذلك فهي أنك تجد تحت تصرفك قدرًا أكبر من الموارد للاستهلاك والاستثمار. وكلما لجأ الآخرون إلى شيكاتك كعملة يتعاملون بها، زادت الموارد الإضافية الموجودة تحت تصرفك …»

وبناءً على ذلك يقدر نويلر أن الولايات المتحدة تمكَّنت من أن تضع تحت تصرفها حوالي خمسمائة مليار دولار تزيد على ما حصلت عليه من الضرائب التي يدفعها الأمريكيون، والقروض التي يقدمها المدخرون الأمريكيون والأجانب. وهذا المبلغ — الخمسمائة مليار — يعادل واحدًا وثلاثين سنة من المعونات الأمريكية للعالم الثالث (التي تبلغ في الواقع ١٦ مليار دولار في السنة).

ويظل هذا الامتياز النقدي مهمًّا للغاية، وهو مصحوب بعدد من الامتيازات المالية التي لا تقل أهمية عن ذلك. فالمبالغ التي يتم تداولها يوميًّا من خلال الشيكات المالية الأمريكية تقدر بألف ومائتي مليار دولار، وهو ما يعادل إجمالي الناتج القومي السنوي في فرنسا. وهكذا تسيطر أمريكا على أموالها وأموال الآخرين. ويشكل الدولار في حد ذاته الدليل على تلك القوة، كما أنه أداة تلك القوة.

الهيمنة الثقافية تظل هي أيضًا قائمة رغم كل تقلبات التاريخ الأمريكي، بل وتتدعم. فكأن أمركة العالم عملية تطور لا يمكن مقاومتها، تستمد قوتها من حركتها الذاتية، وتتغلب على الانتقادات وعمليات المقاومة المحلية دون أن يؤدي ذلك إلى إضعافها. والتوصل إلى الحداثة يعني بالنسبة لآلاف الملايين من الناس في العالم — بما في ذلك في الصين الشيوعية — وربما أكثر من أي مكان آخر في العالم، يعني محاكاة أسلوب الحياة والتفكير الأمريكي. وتعتمد تلك الهيمنة الثقافية على ثلاثة عوامل على الأقل؛ وهي: اللغة، والجامعات، ووسائل الإعلام.

والأمر واضح بالنسبة للغة. فالإنجليزية أصبحت الاسبرانتو شبه المطلق في العالم. والسائحون يستخدمونها بالطبع، ولكن بالأخص العلماء ورجال الأعمال. وليس هناك منتج مطلوب أكثر من اللغة الإنجليزية، لغة الأمريكان والإمبراطورية … ومن الأمور التي لا يطيقها مثلًا أهالي كيبك المتكلمة باللغة الفرنسية أن المهاجرين الجدد القادمين من أمريكا اللاتينية أو آسيا لا يريدون أن يتعلموا سوى اللغة الأمريكية ليس إلا. وهناك الآن في مجال الأعمال والتكنولوجيا بالذات لغة دولية لا تستخدم الإنجليزية فقط، بل وتستعير مضمونها من المفاهيم الرائجة في الجامعات الأمريكية. إنها في الواقع مجموعة من القيم والعادات وطرق التفكير التي تنتشر باستمرار في كافة أرجاء العالم.

ومما لا شك فيه أن أداة الهيمنة الثقافية الثانية هي أقواها، وهي ترجع إلى النفوذ شبه المطلق لنظام التعليم العالي الأمريكي، فالجامعات الأمريكية الفنية والمرموقة (هارفارد، ستانفورد، وارتون، بركلي، ييل، وجامعة كاليفورنيا بلوس أنجلس …) تجتذب في الواقع العناصر القادمة من كافة أرجاء العالم. فنوعية التعليم الذي تقدمه، ومواردها، وإشعاعها يدفع النخبة إلى اللجوء إليها. وهذا لا يرضي فقط اعتزاز الأمريكيين بأنفسهم، بل تمتد فعاليته بشكل عجيب إلى مدى أبعد. فأمريكا تنشر في الواقع ثقافتها وقيمها وأساليبها على أعلى المستويات؛ إذ يتحول الطلبة الأجانب القدامى الذين درسوا في جامعاتها إلى خير دعاة لها فور عودتهم إلى بلادهم. وقد درس أغلب القادة الجدد في بلدان أمريكا اللاتينية في تلك الجامعات، وبدأ نفوذهم في التأثير بشكل إيجابي لصالح التنمية الاقتصادية في عدة بلدان. والمكسيك وشيلي خير مثالين في هذا المضمار.

أما الكوادر الأوروبية الشابة فيحلمون بتلك العصا السحرية التي ستفتح لهم أبواب أحسن الشركات. وفي مجال التعليم الاقتصادي، تتمتع أمريكا حتى الآن بما يشبه الاحتكار. وقد بلغت فعالية هذا التعليم حدًّا يدفع الثقافة الاقتصادية العالمية إلى أن تتجاهل بكل بساطة كل ما هو غير أمريكي. فعلى سبيل المثال، فإن اقتصاد السوق الاجتماعي، على الطريقة الألمانية غير معروف تقريبًا بالنسبة للمسئولين الاقتصاديين، ومن باب أولى بالنسبة للرأي العام في العالم.

وهذا الامتياز الثقافي مفيد بدرجة أكبر وأشد فعالية مما يتصور المرء. وهو يحقق لأمريكا مزايا تضارع مزايا الثروة المعدنية الإنجليزية في القرن الثامن عشر.

ووسائل الإعلام أداة تكميلية للهيمنة الثقافية، ولكنها أكثر لفتًا للأنظار ومعروفة على أوسع نطاق، ولذا فهي أشد وسائل نشر الثقافة تعرضًا للانتقاد ولا مجال للخوض هنا في النقاش اللانهائي الذي يثيره بشكل دوري — لا في فرنسا وحدها — المدافعون عن «الثقافة الوطنية» التي تهددها «الثقافة الأمريكية المتدنية». ولنذكر حقيقة واقعة، وهي أن الصناعة السينمائية والتلفزيونية الأمريكية ونماذجها فرضت نفسها بكل بساطة على العالم بأسره. وهذا لحسن الحظ أحيانًا، ولكن لسوء الحظ في أغلب الأحوال، ولكن لصالح أمريكا دائمًا.

وفي هذا المجال يتيح الإتقان المهني والإنتاج بالجملة للولايات المتحدة فرص وجودها في كل الأسواق تقريبًا. وبالطبع فإن تعزيز قوانين السوق في مجال الصناعة الثقافية وبالأخص خصخصة قنوات التلفزيون يتم لصالح الأمريكيين. ففى العديد من البلدان تكشف الشركات الخاصة في مجال الاتصالات عن ميلها إلى الاستجابة لمقتضيات الربحية المباشرة بقدر أكبر من الاحتكارات الحكومية السابقة. فالمسلسلات الأمريكية التي تباع بأسعار تقل سبع أو ثماني مرات عن تكاليف الإنتاج لنفس مدة الإرسال ينتظرها مستقبل مضمون. هذا عدا عشرات البرامج الترفيهية والألعاب والمسابقات التلفزيونية العديدة التي تنتجها التلفزيونات الوطنية، ولا تشتريها، وإن كان تصميمها مستوحًى مباشرة من النموذج الأمريكي الجديد. فأمريكا تعود!

•••

ولكن هل هي انطلقت حقًّا؟ هنا يكمن اللبس كله. وهو لبس يكشف عن التفسيرات الخاطئة والأوهام فيما يتعلق بالريجانية. والواقع أن أمريكا كانت تشهد في عام ١٩٨٠م تدهورًا وتراجعًا نسبيين. ولكن أسس قوتها والمزايا المكتسبة بفضل استعدادات الشعب الأمريكي أولًا والامتيازات التي حباها بها التاريخ، كانت لا تزال متوفرة. وهكذا سرعان ما قيدت لحساب ريجان والريجانية بعض النجاحات الاقتصادية التي تعود أحيانًا إلى وضع أمريكا ذاتها، لا إلى حسن بلاء قادتها أو صواب سياستهم. إنه لخداع بصري عجيب! فالولايات المتحدة التي تعيش على مكتسباتها، وفي أغلب الأحوال على الاقتراض، وتستغل الامتيازات الموروثة، وتتمتع بتفوق ثقافي قديم، تمكنت من تمرير «سنوات ريجان» بلا مصاعب في نفس الوقت الذي أعطت فيه الانطباع بأنها استعادت عضلاتها بجهود شاقة.

أما بقية العالم التي أصابها الذهول وساورتها الشكوك، فقد حيت الخدعة متصوِّرة أن الأمر يتعلق بوصفة تحقق المعجزات. فهل كانت الريجانية معجزة؟ الواقع أن القضية كانت تنصب على معرفة ما إذا كان الأمريكيون قد استفادوا على خير وجه من تراثهم في عهد ريجان، وما إذا كانوا يواصلون استثماره. ولو نظرنا إلى السنوات العشر الأخيرة، بعد انقضائها، لوجدنا أن تجربتها ليست قاطعة. فبوسع المرء أن يزعم أن الأمريكيين بددوا جزئيًّا ذلك التراث وأن «الريجانية الجديدة» أقرب بالأخص إلى تلك الأضواء الأخيرة التي تصدر عن الإمبراطوريات وهي في طريقها إلى الانحدار. أما المتفرجون في الخارج فيستقبلون تلك الأضواء بالتصفيق وقد خدعتهم أوهام القوة وقوة الأوهام.

فبعد عشر سنوات من استعادة المجد، تنطفئ أضواء كثيرة في أمريكا. فعالم التفاؤل الذي يجسِّده ميكي ماوس، ومكوك الفضاء، وحرب النجوم، وعمليات شراء الشركات الأجنبية الناجحة، لم يعد تلك الجنة التي يتصوَّرها البعض حتى الآن. فخلف الديكورت والأضواء الخاطفة تتستر حقيقة مختلفة إلى حد كبير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤