الفصل الثاني

أمريكا تتقهقر١

على مسافة لا تبعد كثيرًا عن أجمل المناظر الطبيعية في العالم وأروعها، وعلى مقربة من المراكز المرموقة لعالم الأعمال ورجاله، هناك ما يلفت أنظار زائر المدن الأمريكية الكبرى بشكل صارخ: القذارة، والصدأ، والقمامة، وكافة ضروب التدهور. فالمشاة يتعين عليهم أن يسيروا تحت السقالات المغطاة بالصاج المضلع لا لكي يحمي أعمال التجديد الجارية ولكن من أحجار الوجهات المتساقطة. وأين يواجه المرء ذلك؟ في نيويورك ذاتها!

وكلمة التدهور هي الأنسب فعلًا. فنحن بصدد أمريكا الحديثة التي تتدهور جسديًّا، وهذا ما يلفت النظر من الوهلة الأولى. ولكن عندما يتمعن المرء عن كثب يكتشف أيضًا أن التدهور اجتماعي أيضًا. فكيف أصبحت أمريكا من بين كافة البلدان المتقدمة، الدولة الأولى في عالم الإجرام والمخدرات، والأخيرة في مجال التطعيم ضد الأمراض ومعدلات الإدلاء بالأصوات في الانتخابات؟

كيف يمكن استيعاب ذلك وكيف يمكن تفسيره؟ وأنا أحس، كأي فرد بحاجة ماسة إلى إجابة على تلك الأسئلة المذهلة. ولكن يجب أن نتمعن أولًا وأن نقارن.

وفيما يتعلق بالمدن الأمريكية الكبرى، فإن العاصمتين أصبحتا مفلستين.

ففي نهاية عام ١٩٩٠م، كانت ميزانية واشنطن تعاني عجزًا قدره مائتا مليون دولار. وكان ماريون باري، عمدة المدينة السابق، قد صدر ضده حكم بالحبس ستة شهور لحيازته وتعاطيه مخدرات. واضطر عمدة نيويورك الجديد، السيد ديفيد وينكينز، إلى الاستغناء عن خدمات ثلاثين ألفًا من مستخدمي البلدية، ومن بينهم أربعة آلاف معلم، أي ما يعادل ١٠٪ من العاملين الدائمين ببلدية المدينة، وذلك مع بداية صيف ۱۹۹۱م، لكي يحد من العجز الهائل في ميزانية المدينة. وقد وجَّه إهانة للإمبراطور الروماني فسباسيوس صاحب فكرة إقامة المراحيض العمومية، فأغلق أبوابها جميعًا هي وكل مراكز علاج المدمنين (بينما يوجد أكثر من نصف مليون مدمن من بين سكان المدينة البالغ عددهم سبعة ملايين نسمة)، وكذلك أغلب مراكز الإيواء المخصصة لثمانين ألف مشرد. هذا عدا حديقة الحيوان في سنترال بارك وثلاثين حوض سباحة تتبع البلدية، وإضاءة المدينة التي ستخفض بنسبة ٣٠٪ بينما تتزايد باستمرار معدلات الإجرام، وبرنامج تحويل القمامة المنزلية الذي تقرر وقفه لمدة سنة. وتواجه كل المدن الأمريكية الكبرى تقريبًا أوضاعا مشابهة.

وهناك أيضًا المطارات التي تفتقد الصيانة اللازمة، والأحياء القذرة في حي البرونكس. وثاوث-دالاس وغيرهما، حيث يتبدى الفقر المدقع. وهؤلاء المحرومون الجدد من البيوت في سان فرانسسكو، رغم أنهم يزاولون أعمالًا منتظمة إلا أنهم عاجزون عن دفع إيجار مسكن، فيعيشون داخل سياراتهم بسبب المضاربة العقارية. وهذه المدن الكبرى (التي سماها الكاتب الإنجليزي هربرت جورج ويلز منذ أوائل القرن العشرين اللامدن) مثل هيوستون وواشنطن ولوس أنجلس يجتاحها الإجرام وتدور فيها رحى «حرب الكراك» (الكراك مشتق رخيص الثمن من الكوكايين)، وتنتشر فيها أحياء السود (الجيتو) التي تغلي من جديد، كما كان الحال في الستينيات («فالسود يسددون فاتورة سنوات ريجان»، كما أعلن المخرج الشهير سبايك لي).

والواقع أن الإجرام، بالأخص وسط السود، يرتفع في أمريكا بنسب مروعة. ففي نيويورك تسجل كل يوم خمس جرائم قتل، ولكنْ هناك مدن أخرى قتالية بدرجة أكبر … وفي واشنطن لاحظت عمدة المدينة الجديدة، السيدة شارون برات ديكسون، عندما تسلمت مهام منصبها أن جرائم القتل البالغ عددها ٤٨٣ جريمة، والتي ارتكبت في عام ۱۹۹۰م في المدينة تفوقت بذلك للسنة الثالثة على الأرقام القياسية التي سجلتها هي نفسها من قبل. وفي عام ١٩٨٩م وحده، تم حصر ٢١ ألف جريمة قتل في كافة أنحاء البلاد (وكانت التوقعات ٢٣ ألف جريمة في عام ١٩٩٠م). وهناك الآن في السجون أكثر من مليون مواطن أمريكي وأكثر من ثلاثة ملايين خاضعين للرقابة القضائية.

وقد زاد عدد المسجونين أكثر من الضعف خلال عشر سنوات وتجاوزوا حاليًّا الرقم القياسي في جنوب إفريقيا بنسبة ٣٠٪ (٤٫٢٦ في الألف مقابل ٣٫٣٣ في الألف). فما الذي جرى إذن لأمريكا؟

وهناك شيء آخر. فمع أن الشركات الأمريكية المتعددة الجنسيات تواصل الاستثمار في أرجاء العالم كله، إلا أنه حدث تغيير ضخم منذ عشرين سنة أي منذ «التحدى الأمريكي». فكم من رموز القوة الاقتصادية الأمريكية انتقلت إلى أيدي الأجانب. فقد أصبح كل من مركز روكفلر وMCA، CBS في أيدي اليابانيين، وغدت شركة يونيرويال تابعة لميشلان. وأكبر شركتين أمريكيتين لإنتاج أجهزة التلفزيون (وهما الوحيدتان تقريبًا) إحداهما فرنسية والأخرى هولندية.
أما الفتيان الذهبيون (GOLDEN BOYS) الأسخياء المنتمون إلى عهد ريجان وأصحاب المواهب الخارقة في عالم المال، الذين كانوا يرتدون بدلًا ثمن الواحدة منها ألفا دولار، والقادرون على جمع ثروة خلال ثلاثة شهور، فقد أفلسوا أو أودعوا السجون. وكانت أكبر عملية إفلاس في كافة الأزمنة من نصيب صناديق الادخار والإقراض التي ازدهرت أيام إفلات زمام البورصة بجموح، وقد تركت وراءها فجوة لا يعلم أحد ما إذا كانت ستصل إلى ٥٠٠ مليار دولار، أي بمعدل ١٠ آلاف فرنك لكل مواطن أمريكي، وعلى دافعي الضرائب أن يسددوها. فماذا يحدث لأمريكا؟ لا يتردد المؤرخ بول كيندي في أن يقول في كتابه سقوط الدول الكبرى (الناشر راندوم هاوس، ۱۹۸۸م، وبايو، ۱۹۸۹م) إن الولايات المتحدة دخلت مرحلة الانحدار التاريخي مثل إمبراطورية الهابسبورج في القرن السابع عشر وإنجلترا في نهاية القرن التاسع عشر.

وربما كان في ذلك قدر من المغالاة، ولكن النقاش مستمر. وعلى أي حال يعارض إخصائي العلوم السياسية جوزيف ني جونيور وجهة نظر كيندي (حتمية القيادة، طبيعة القوة الأمريكية المتغيرة، بيزيك بوكس، ۱۹۹۱م) وهو يسوق الحجج التالية:

  • الولايات المتحدة هي البلد الوحيد الذي يحتفظ بوضع قوي في كافة المجالات (العسكري والاقتصادي والتكنولوجي والثروة الطبيعية …)

  • وهي تهيمن بالأخص على الفضاء والاتصالات والثقافة واللغة العلمية، فأين هم اليابانيون الحاصلون على جائزة نوبل؟

  • أليس هناك ما يدعو للحيرة أن نلاحظ أن أطروحة التدهور طُبِّقت على نطاق أوسع من جانب ألمع المفكرين المعادين أحيانًا للشيوعية، على الولايات المتحدة لا بالأحرى على الاتحاد السوفيتي؟

غير أن جوزيف ني يعزل هنا عنصرًا مشتركًا بين كافة حالات الانحدار، وهو قدرة الحكومة على السيطرة على عجز الدولة المالي، أي القبول بالضرائب. فكل شيء يتم هناك كما لو أن الامتيازات التي ورثتها الولايات المتحدة تعادل في أذهان مواطنيها الحق في الإعفاء الدائم من الضرائب.

وإذا كان هناك شيء يصعب دفع الأمريكيين إلى قبوله فهو زيادة الضرائب. وعلينا ألَّا ننسى الدرس الذي تلقاه والتر مونديل، المرشح الديموقراطي الذي لحقت به الهزيمة في ٤٩ من اﻟ ٥٠ ولاية، عندما رأى أنه ليس بوسعه ألَّا يشير بشكل متوارٍ إلى أن الأمر قد يتطلب زيادة الضرائب يومًا ما. وعلى أي حال فقد وعد بيل كلينتون الناخبين بعدم زيادة الضرائب، ونحن نعرف ماذا جرى لذلك الوعد الجميل بعد شهرين فقط من انتخابه. ولكن مما لا شك فيه أن السراب ضلل مرة أخرى طريق المواطنين-دافعي الضرائب.

وأنا أميل شخصيًّا إلى الاعتقاد بأن الحدود التي تفصل بين بلد يشق طريقه نحو التقدم وبلد ينحدر، تتضمن إلى حد كبير تفضيل بناء المستقبل عند جانب، والتمتع بالحاضر عند الجانب الآخر. ويقاس هذا التفضيل كما سنرى، بالضرائب والقروض ومعدلات الفائدة.

وعلى أي حال سواء تعلق الأمر بانحدار تاريخي أم لا، فهناك بالتأكيد قدر من البلبلة الأمريكية، حتى إن التأمل المكتئب أو اللامبالي أو المطمئن أصبح حسب قول الاقتصادي برنار كاز «صناعة مزدهرة». كما أن المطبوعات التي تعالج النبوءات المنذرة بكل صنوف النكبات والكوارث تسجل أعلى المبيعات بين الكتب، وتلقى أكبر رواج في الولايات المتحدة، وفي موسكو أيضًا! والمحامون المتخصصون في قضايا إشهار الإفلاس، لم يحدث من قبل أن ازدهر نشاطهم بهذا القدر.

أما الانتشار الراهن لوباء المخدرات الذي ساعد على رواجه انخفاض سعر «الكراك» فهو ساحق. وقد كشف تحقيق دقيق أُجري في ربيع ١٩٨٨م أن ٢٣ مليون أمريكي تعاطوا مخدرًا خلال الأيام الثلاثين السابقة على التحقيق، ومن بينهم ستة ملايين يشمون الكوكايين بشكل منتظم إلى حد ما، ونصف مليون يتعاطون الهروين. أما طلبة المدارس الثانوية والتلاميذ فإن واحدًا من بين كل اثنين منهم يدخن الماريجوانا، وواحدًا من كل سبعة يشم الكوكايين. وفي نفس السنة قدرت لجنة الاستخبارات القومية لمتعاطي المخدرات المبيعات بالقطاعي من الكوكايين وحده ﺑ ٢٢ مليار دولار في أمريكا الشمالية وجزئيًّا في أوروبا. وقدرت المنظمة الدولية لمكافحة المخدرات التابعة للأمم المتحدة، والتي يوجد مقرها في فيينا، قدرت في دراسة ضخمة أُعلن عنها في التاسع من يناير ١٩٩١م أن التكلفة الاجتماعية-الاقتصادية للإسراف في تعاطي المخدرات في الولايات المتحدة تبلغ ٦٠ مليار دولار (ستة أضعاف ما كانت عليه في عام ١٩٨٤م). ولكن التقرير يقدر أن استهلاك المخدرات بدأ يقل في الولايات المتحدة. وقد هنَّأ الرئيس جورج بوش نفسه على فعالية الإجراءات الصارمة التي اتُّخذت، ولكن الأرقام لا تزال مرتفعة. ومن جهة أخرى يشير التقدير إلى أن استهلاك المنشطات يزداد بشكل متواصل … وتدل كل هذه الدراسات على حالة البلبلة التي انتابت أمريكا.

ولا تقتصر تلك البلبلة على الأفراد كلٍّ على حدة، فهم محاصرون بكافة أشكال الرعب، وافتقاد الإحساس بالأمان والمخدارت، والبطالة، والاستدانة، والحقد العنصري. ويبدو أن البلبلة تمس أمريكا ذاتها في مجملها؛ إذ ترى أن الحلم الأمريكي الذي كان يدفعها إلى الأمام منذ عهد المهاجرين الأوائل، يتداعى. كما أن البوتقة التي كانت تحقق اندماج المهاجرين القادمين من كافة أنحاء العالم لم تعد إلا من الذكريات البعيدة. فأمريكا الثمانينيات من هذا القرن في طريقها إلى التحول إلى ما يسمى منذ سنوات ﺑ «القبلية الجديدة»؛ إذ إن مختلف الجماعات القومية لا تندمج معًا، بل تنغلق على نفسها وتعتصم تدريجيًّا وتتمسك بأوجه اختلافها وتقاليدها الخاصة وثقافاتها.

وعلى أي حال فإن الكل يعتصم من الآن فصاعدًا. ففي المدة الأولى التي جئت فيها إلى الولايات المتحدة في عام ١٩٦٠م، استرعى انتباهي أن الأبواب لم تكن تغلق أبدًا بالمفتاح، حتى عندما كان الناس يسافرون للإجازة لمدة خمسة عشر يومًا. فلا داعي لذلك إذ لم تكن هناك عمليًّا عمليات سطو حتى في المدن. وفي المرة الأخيرة تناولت العشاء في عمارة تطل على سنترال بارك مكونة من خمس وسبعين شقة يدفع مستأجروها أجر عشرين حارسًا متواجدين ليلًا ونهارًا في أربع ورديات من خمسة أفراد.

تلك هي الصور المثيرة للدهشة والقلق، بلا أي رتوش، والتي يعود بها الآن كل زائر من سفره. وما علينا إلا أن نحاول أن نفهم ما حدث حقًّا خلال عشر سنوات، وما يدور خلف أضواء عهد ريجان التي بهرت الأبصار.

أمريكتان

في هذا المجتمع المتفسخ ظهر تصور جديد بأقلام الصحفيين وعلماء الاجتماع والمتخصصين في قضايا الإجرام، ألا وهو الازدواجية. وكان هذا التصور مقصورًا حتى الآن على المتابعين للأوضاع في العالم الثالث، وكان يستخدم بالأخص في وصف بعض المجتمعات مثل البرازيل وجنوب إفريقيا. فالازدواجية هي الانشقاق والفصل بحكم الواقع و«الأبارتايد الاقتصادي» السائد في المجتمع السائر نهائيًّا وبشكل مفجع «بسرعتين». إنه مجتمع تعيش فيه في الواقع مختلف فئات السكان في عالمين مختلفين يبتعد كلٌّ منهما عن الآخر سنة بعد أخرى. وقد شاعت تلك الازدواجية في الولايات المتحدة خاصة تحت تأثير سياسة ريجان المفرطة. إنها ازدواجية تفصل بين الأغنياء والفقراء بالطبع، ولكن أيضًا بين الجامعات ونظام التعليم المتدهور، وازدواجية بين المستشفيات والعيادات التي بلغت قمة الحداثة وكافة المرافق العلاجية الأخرى التي ارتفعت تكاليفها وتجاوزها الزمن، وازدواجية صناعية تعزل الصناعات القمة المرتبطة في أغلب الأحوال بميزانية الدفاع والتي تضع الولايات المتحدة في المقدمة، وتتناقض مع التخلف المتراكم في العديد القطاعات الأخرى.

ولعل أهم نتيجة تمخضت عن الريجانية كانت، كما هو معروف، اتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء. وكان ذلك حسب زعمهم «الثمن الذي يجب دفعه» لكي تستعيد أمريكا قوتها من جديد. وهو ثمن فادح في مقابل نتيجة اقتصادية دون المتوسط. ولكن رغم الانتعاش، وعلى عكس الآمال التي عقدها منظرو اقتصاديات العرض، لم ينخفض عدد الفقراء خلال السنوات العشر الأخيرة، بل زاد إلى حد ما، بينما بلغ عدد أصحاب الملايين ثلاثة أضعاف ما كانوا عليه. أما دخل أفقر أربعين مليون أمريكي فقد انخفض بنسبة ١٠٪ خلال السنوات العشر الأخيرة. ولو عرَّفنا الفقراء بأنهم كل من يحصل على دخل يقل عن نصف المتوسط القومي، لتبين لنا أن نسبة الفقراء في أمريكا تبلغ ٪۱۷ في مقابل ٥٪ في ألمانيا الاتحادية والبلدان الاسكاندينافية، و٨٪ في سويسرا، ٪۱۲ في إنجلترا. ويرى بعض الخبراء الذين يعارضون طريقة الحساب هذه أن الفقراء يمثلون في الواقع ٢٠٪ من سكان أمريكا. وهذا رقم قياسي بالنسبة للدول المتقدمة صناعيًّا، علمًا بأن تلك الإحصائيات لا تشمل المهاجرين سرًّا والذين تتزايد أعدادهم أكثر فأكثر خاصة في كاليفورنيا.

وقد توصلت دراسة مستفيضة نُشرت في عام ١٩٨٩م، وتضم الإحصائيات الرسمية لمكتب الميزانية بالكونجرس إلى الاستنتاجات التالية: «الهوة بين الأمريكيين الأغنياء والفقراء اتسعت إلى درجة ستجعل اﻟ ٢٫٥ مليون غني أمريكي خلال الثمانينيات، يحصلون عمليًّا في عام ١٩٩٠م على نفس مجموع دخل اﻟ ١٠٠ مليون الذين يحتلون أسفل مقياس الدخول.»

ولن يدهش أحد في تلك الأحوال إذا ما انتشرت هنا وهناك في أنحاء أمريكا ظواهر جديرة ببعض بلدان جنوب الكرة الأرضية، ومنها الأحياء العشوائية الصغيرة على مقربة من الفيلات الفخمة، وطوابير العاملين على مسافة خطوتين من بوتيكات تتميز ببذخها الاستفزازي، ومشردين يزرعون الأرصفة على مقربة من زوايا الأبواب وسط أكوام القمامة المتناثرة. والطبقة المتوسطة التي كانت مدعاة تفاخر أمريكا، وخير عامل لاستقرارها، يقل عدد أفرادها سنة بعد سنة. فالجغرافيا الاجتماعية الجديدة قوامها الآن فقراء يزدادون فقرًا في مقابل أغنياء يزدادون ثراءً. وبالطبع، تؤدي تلك الازدواجية إلى تفاقم التوترات الاجتماعية و«الصراع الطبقي» الفوضوي والتلقائي هنا وهناك، وهو ما لا يتصوره في موسكو الشاب الحاصل على مؤهل عالٍ، والذي تبنى حديثًا الليبرالية الريجانية. والواقع أن الأمريكيين الأغنياء يشكون من افتقاد الأمن في المدن الكبرى ومن «التدهور البيئي»، الناجم بالطبع عن تزايد عدد الفقراء. ومن المنطقي بالتالي أن تصبح شركات الحراسة والشرطة الخاصة والحراس الشخصيين من القطاعات النادرة التي يتسع نشاطها، بينما تحطم مبيعات الأسلحة كل الأرقام القياسية. فالمجتمع الأمريكي المتوتر والقلق يتزود بالسلاح. وفي تحقيق أجرته في عام ١٩٩٠م مجلة التايم الأمريكية في نيويورك اعترف ٦٠٪ من الذين وجهت لهم الأسئلة بأنهم مشغولون طوال الوقت أو في الكثير من الأحوال بالجرائم التي تحدث، في مقابل ٢٦٪ نادرًا ما يهمهم الأمر. وفي نفس هذا التحقيق أجاب ٦٨٪ منهم بأن نوعية الحياة أقل جودة مما كانت قبل خمس سنوات مضت. وقد بلغ افتقاد الأمن حدًّا أوجد تجارة جديدة، ألا وهي بيع حقائب مدرسية وملابس داخلية للأطفال واقية من الرصاص. ويتعين أن نعرف في هذا الصدد أن مقتل الشبان الأمريكيين يزيد من أربع إلى ست وسبعين مرة عمَّا هو في بنجلادش، أحد أفقر بلاد العالم. وقد كشفت أحداث لوس أنجلس عن مدى السخط والتوترات في المجتمع المنقسم إلى أغنياء وفقراء، وسود وبيض، وأمريكيين أوروبيين ولاتينيين وآسيويين.

ومن الواضح أن الأغنياء المتحصنين في فيلاتهم يجدون صعوبة في الاعتراف بأنهم لم يعودوا يعيشون في بلد مثل السويد أو سويسرا، بل في نوع من العالم الثالث المتطور، لكنه عالم لا يعرف المساواة.

إنه عالم عامر بالأغنياء، يعتبر مفهوم العدالة الاجتماعية فكرة هدامة، تكاد تنم الوقاحة وأن البديل الوحيد المقبول هو «مكافحة الفقر» عن طريق الأعمال الخيرية. أما التأمينات الاجتماعية فيفسر على أنه حملة تأديبية موجهة ضد الطبقات الحاكمة.

محرقة التباهي

في عام ١٩٨٧م نشرت في الولايات المتحدة رواية توم وولف «محرقة التباهي» (ترجمت إلى الفرنسية في عام ١٩٨٨م) التي تعكس على خير وجه مخاوف ومصير أمريكا الجديدة التي أصبحت نهبًا للازدواجية. ماذا تقول الرواية؟ إنها قصة سيقول لك كل أمريكي إنها تتفق تمامًا مع واقع الثمانينيات. وكاتبها توم وولف كان مبتكر الصحافة الأمريكية الجديدة (NEW JOURNALISM) وروايته هذه أشبه بالريبورتاج الصحفي. لقد ذهب شاب من رجال المال إلى مطار كيندي لاستقبال عشيقته ماريا ليعود بها إلى نيويورك. وكان الليل قد أرخى سدوله، فأخطأ في اختيار طابور السيارات عند أحد مفترقات الطرق الرئيسية. ولما كانت السيارات تكاد تلتصق ببعضها بسبب الزحام فإنه لم يتمكن من الخروج من الطابور وتعيَّن عليه أن يشق الطريق المؤدي إلى حي البرونكس الذي يسكنه السود، بسيارته المرسيدس التي يبلغ ثمنها ٤٨ ألف دولار. وقد تاه في طريقه وراح يدور إلى أن وجد تفرعًا منحدرًا يؤدي إلى الطريق السريع وهو متردد لأنه طريق لا يناسبه. وتقول له ماريا: «ما علينا، على الأقل ستكون وسط المتحضرين»! ولكن هناك كومة من الإطارات تجبره على التوقف فيخرج من السيارة ليمهد لنفسه سبيلًا وسطها عندما يتجه نحوه شابان من السود. وقد استولى الخوف على ماكوي فقذف بإطار نحو الشاب الأول الذي رده إليه، ثم قفز داخل السيارة حيث جلست ماريا المرتعبة أمام عجلة القيادة وقد راحت تتسلل وسط الإطارات والقمامة لتفلت من الشرك، فسمعت صوت ارتطام عند الحاجز الخلفي للسيارة ولم يعد الزنجي الثاني مرئيًّا وهما ينطلقان نحو الطريق السريع.

وعندما وجد ماكوي أن ماريا أصبحت أهدأ نوعًا راح يحدثها عن صوت الارتطام ويقترح إبلاغ الشرطة. ولما وصلا إلى المسكن الذي اعتادا الالتقاء معًا فيه، حدثها مرة أخرى في الأمر، قائلًا إنهما ربما أصابا الرجل بمكروه ويجب الإبلاغ عن ذلك، ولكن ماريا تنفجر قائلة: «سأقول لك ما حدث. أنا أصلًا من كارولينا الجنوبية، وسأقول لك ذلك بالإنجليزية. لقد حاول زنجيان أن يقذفانا في تلك الأدغال، وقد أفلتنا منهما ولا نزال نتنفس. هذا كل ما في الأمر.» وقد عدل ماكوي عن إبلاغ الشرطة بسبب ضعفه؛ ولأنه يريد أن يخفي تلك العلاقة عن زوجته. وقد تقرر بذلك مصيره. فهو بريء ولكنه غني ومن البيض. وعليه أن يكفر عن الحقد المتراكم ضد أفراد طبقته.

والواقع أن هنري لامب الشاب الذي ارتطمت به السيارة سيموت بعد سنة من وقوع الحادث دون أن يسترد وعيه أبدًا. وتعثر الشرطة على صاحب السيارة. وتكذب ماريا فلا تعترف بأنها كانت تقود السيارة. وسيشهد الزنجي الآخر زورًا ويلقي الاتهام على ماكوي. وهكذا أصبح الأخير طرفًا في معركة لا هوادة فيها يتزعمها ثلاثة رجال عقدوا العزم على تحطيمه: قس أسود، ووكيل النيابة بالحي، وصحفي إنجليزي. ولكلٍّ من الأَوَّلين أسبابه التي تدعوه إلى أن يصدر الحكم ضد ثري أبيض. أما الصحفي الإنجليزي الحزم فيتطلع إلى استغلال قضية مثيرة حقًّا: ملك السندات في وول سترت (حي المال) يقتل شابًّا أسود ويلوذ بالفرار.

وتعتمد خلفية كل تلك الرواية على التعارض الصارخ بين البذخ والسلطة من ناحية، والفقر المدقع والعوز في حي البرونكس. لقد تخرج ماكوي من جامعة بيل وهو يربح مئات الآلاف الدولارات سنويًّا، ويمتلك مسكنًا فخمًا ثمنه ثلاثة ملايين دولار. وعندما يخرج كل صباح تحت المظلة المقامة عند المدخل يرى أمامه بساطًا من زهور التوليب الصفراء يتكفَّل بثمنه سكان بارك أفينيو. ونفس هذه الفخامة متواجدة في الطابق الخامس من المبنى الزجاجي الذي يعمل به. وهو يشعر شأنه شأن كل الفتيان الذهبيين أنه سيد الكون. وفي الجانب المقابل هناك حي البرونكس بآلاف الشباب السود المخدرين أو المروجين للمخدرات الذين يحتلون أدراج العمارات، حيث يجري كل شيء: المخدرات والجنس والعنف … وعندما يقرر المرء هناك أن ينتقل إلى مسكن آخر يتعيَّن عليه أن يعمل حسابًا للجيران الذين يسرقون جزءًا من أثاثه. غير أن هنري لامب الذي دهمته مرسيدس ماكوي كان استثناءً، فهو طالب مجد، توصل إلى تعلم القراءة بيسر في الثامنة عشرة من عمره، وهو ما يكفي ليلتحق بكلية نيويورك سيتي. والتناقض بين بارك أفينيو وحي البرونكس صارخ، مثل التناقض بين سويتو وضواحي جوهانسبورج بأحواض السباحة الخاصة والحدائق. والمعلمون ورجال الشرطة والقضاة هم الوحيدون الذين يقيمون الصلة بين هذين العالمين. ولا يتجاسر هؤلاء القضاة على الابتعاد أكثر من مائتي متر عن المحكمة، ويعيشون في مستوى دون المتوسط.

لقد وقع ماكوي الثري والجذاب بين مطرقة الصحافة وسندان السياسة، فأصبح رمزًا وكبش فداء، وبات من المحتم أن يتردى في المغامرة كما تردت من قبل العديد من ضروب التباهي الأمريكية.

وبالطبع فإن اللامساواة ليست جديدة على أمريكا. وكان البؤس يخيم على حي البرونكس قبل رئاسة ريجان. ولكن هذه الازدواجية الهائلة التي أصبحت تفصل بين الأغنياء والفقراء بدت وكأن طبيعتها تغيرت فتفاقمت في الثمانينيات. ويرى كيفن فيليبس في آخر مؤلفاته سياسات الثري والفقير الذي حقق أعلى المبيعات، أن الزمن الذي كان للأغنياء أن يثروا دون أن ينالوا جزاءهم أو أن يثيروا أي ردود فعل قد انقضى. ويبدو له أن حركات التمرد التلقائية التي قد تزعزع أمريكا يومًا ما ليست أمرًا لا يمكن تصوره. وقد ساقت مجلة ذي إكونومست البريطانية نفس الافتراض في مقال يعتمد على الوثائق نُشر في الرابع من مايو ١٩٩٠م.

المرض يصيب المدرسة والصحة والديموقراطية

وتتسم الآن قطاعات كاملة من المجتمع الأمريكي بنفس تلك الازدواجية ذات العواقب المنذرة بالمخاطر، بما في ذلك بعض تلك القطاعات التي كانت بالأمس مصدر قوتها وحيويتها.

وهناك واقعان قد يكونان متعلقين على الأرجح بأهم شيء: أمراض الديموقراطية الأمريكية.

الواقع الأول هو مشاركة المواطنين الأمريكيين في الانتخابات بنسبة أقل مما هي في كافة الديموقراطيات الغربية. فمعدل الامتناع عن التصويت، أيًّا كان نوع الانتخابات يمثل ثلثي الناخبين، مع الاستبعاد شبه التام للفئات الاجتماعية الأقل حظًّا، فكأنها قد كبتت أو انسلخت إلى درجة عدم إدراكها أن كل انتخاب يقرر مصيرها إلى حد ما. وتلك ظاهرة جديدة بحكم اتساع نطاقها تمس أغلب البلدان الغربية، ويبدو أن العديد من سماتها مرتبط بالنموذج الأمريكي الجديد. ففي الماضي كان الفقراء يثورون، أما الآن فقد سلب إرادتهم أفيون فقرهم الدارج الذي لا يسترعي اهتمام وسائل الإعلام، فلم يعودوا يدلون بأصواتهم.

الواقع الثاني أنه منذ العهود التاريخية القديمة كان تحضر بلد ما يستدل عليه بقدرته على تعداد سكانه (لنذكر إحصاء هيرود للسكان كما جاء في روايات الأناجيل). وعليه يبدو أن عدم حصر ما يتراوح بين ١٠ و١٥٪ من سكان أمريكا رغم تمتعهم بوضع قانوني، يمكن أن ينسب إلى بعض التراخي في الإحساس بالدافع الوطني.

وفي مجال التعليم يبدو الوضع غير معقول إلى حد كبير. ولو أخذنا بعين الاعتبار المرحلة الثالثة فقط من التعليم (الدراسة الجامعية) لظل النظام الأمريكي أحسن النظم في العالم. ففي الولايات المتحدة يتم في كل عام نشر ما يربو على ثُلث المقالات العلمية. ومن عام ١٩٧٦م إلى عام ١٩٨٦م تضاعف عدد الباحثين في أمريكا. ومما لا شك فيه أن الجامعات الأمريكية التي تختار طلبتها بعناية شديدة لا تزال محتفظة بمستوى صيتها. وتتوفر لديها على أي حال إمكانات مالية وبشرية قد تحسدها عليها بلدان العالم بأسره.

غير أن هذا التعليم المعروف برقي مستواه وارتفاع تكلفته بالنسبة للعائلات، يتعايش مع نظام تعليم دون المستوى في المرحلتين الابتدائية والثانوية. وقد تبين من تحقيقات حديثة العهد لتحديد مستوى المعلومات العلمية عند التلاميذ من سن ۱۰ و۱۳ و۱۷ سنة أن أمريكا تحتل المركز الأخير بين الدول الصناعية. وبعد سن السادسة عشرة لا تتلقى أغلبية التلاميذ الأمريكيين أي تعليم علمي. وفي الجغرافيا، يحتل الطلبة من ١٨ سنة فصاعدًا المركز الأخير في عينة تشمل ثمانية بلدان. ولا يجب أن تعترينا الدهشة في مثل هذه الأحوال عندما نجد أن ٤٥٪ من الأمريكيين البالغين لا يستطيعون تحديد موقع أمريكا الوسطى على الخريطة وأن أغلبهم لا يعرف أين توجد بريطانيا أو فرنسا أو اليابان. وفي مجال آخر أكثر حيوية نفاجأ بأن نعلم أن ٤٠٪ من الشباب الأمريكي الذي يلتحق بالجامعات في سن الثامنة عشرة يعترفون بأنهم لا يمكنهم أن يقرءُوا بشكل سليم.

فأين توجد نسبة مئوية أعلى من الأميين: في البرتغال أو المملكة المتحدة؟ الجواب: في المملكة المتحدة، وفي بولندا أو الولايات المتحدة؟ الجواب: في الولايات المتحدة.

كيف يمكن أن يتأتى ذلك؟ إن الأفكار الجديدة الملقنة التي تؤكد أنه عندما تعمل السوق بشكل جيد، فإن كل شيء يجرى هو أيضًا على نحو جيد، لم تعد تفسر أي شيء.

فالسؤال هو: هل تشكل النوعية العامة للتعليم في كل البلدان قيمة في حد ذاتها؟ إذا كان الرد بالإيجاب، فلنا أن نتساءل لماذا تدهور بهذه الدرجة في الولايات المتحدة خلال السنوات الأخيرة، إن لم يكن ذلك التدهور يرجع إلى النموذج الاقتصادي الأمريكي الجديد؟ غير أنه من الملاحظ أيضًا أن التعليم الشعبي، أي التعليم الرسمي في أوروبا بدأ يسوء بالأخص بين البلدان التي تعتبر أكثر تقدمًا: المملكة المتحدة وفرنسا وإيطاليا. والبلدان الأوروبية التي لا تنتمي بالذات إلى النموذج الرايني، هي أكثرها انفتاحًا على النموذج الأمريكي الجديد.

وهذه الازدواجية بين التعليم العالي المستوى المخصص لأقلية ضئيلة من جهة، والتعليمين الابتدائي والثانوي المتداعيين من جهة أخرى، يميز جذريًّا أمريكا عن بلدان مثل اليابان وألمانيا، حيث يحقق أغلب الطلبة مستوى متوسطًا بينما النتائج السيئة للغاية شبه منعدمة عمليًّا. والحق أن الاختيار فيما وراء الأطلنطي لا يمارس إلا في ٢٠٠ كلية وجامعة من بين ٣٦٠٠ منها. أما المذاكرة «في المنزل» فقد تبين من عمليات التقصي أنه نادرًا ما يتجاوز الساعة في الولايات المتحدة، في مقابل مشاهدة برامج التلفزيون لمدة ثلاث ساعات! وهكذا نجد أننا غدونا بعيدين للغاية عن أمريكا التي كانت المثال الأصلي للمجتمع الحديث المتعطش إلى التعليم.

ونتيجة للإحساس بخطورة تدهور نظام التعليم الأمريكي، قرر رونالد ريجان في عام ۱۹۸۳م تشكيل لجنة وطنية اختارت للتقرير الذي قدمته عنوانًا لا يحتمل أي تأويلات: أمة في خطر، جاء فيه أن مستوى التعليم الأمريكي أصبح أدنى مما كان في عام ١٩٥٧م، عندما أرسل السوفيت في الفضاء أول سبوتنيك، مما حدا بأمريكا أن تتساءل عن مدى قدراتها الخاصة.

وفي عام ١٩٩٠م، أصدر حوالي عشرة إخصائيين مجتمعين في جامعة كولومبيا بدعوة من المجلس الأمريكي الذي أسسه أيزنهاور، أصدروا تقريرهم (الاقتصاد الشامل، دور أمريكا في العقد، الناشر نورتون، ۱۹۹۰م). ومن بين استنتاجات هذا التقرير هناك ثلاثة منها تستحق الذكر: «نظام التعليم الأمريكي على حافة السقوط؛ ومعدل الادخار منخفض بشكل مشين؛ إشارة إدارة ريجان مرارًا إلى أن العجز التجاري دليل على عنفوان دور الاقتصاد».

ولكن هل تظل أمريكا مع ذلك المجتمع المتمتع بصحة جيدة للغاية كما يجسد ذلك الفتيان ذو الوجنات الحمراء والأكتاف العريضة الذين نراهم في الإعلانات التلفزيونية؟ الوضع ليس كذلك. فنفس الازدواجية التي فاقمتها الريجانية تؤثر الآن، وبشكل خطير، على النظام الصحي الأمريكي العام. وبالطبع فإن الولايات المتحدة هي البلد الذي ينفق عمومًا على الصحة أكثر من كل بلدان منظمة التجارة والتنمية الاقتصادية (أكثر من ١٠٪ من إجمالي الناتج القومي). وهناك العديد من العيادات والمستشفيات الأمريكية التي تعتبر من أحسن ما في العالم من حيث تخصصاتها. وكذلك في مجال البحوث الطبية والأدوية وأنواع العلاج الجديدة، تظل أمريكا في المقدمة في أغلب الأحوال.

على أن حالات التفوق هذه ألا تنسينا الحالة العامة للنظام الصحي الذي أصبح مفجعًا بقدر يفوق ما قد نتخيل. وهناك في هذا الصدد بعض الإحصائيات الحديثة التي يمكن أن تجعل المرء ينتفض. ففيما يتعلق بالوفيات بين الأطفال تحتل الولايات المتحدة بمعدل ٪۱۰ (ضعف النسبة في اليابان) المركز الثاني والعشرين على نطاق العالم. وارتفاع نسبة وفيات الأطفال بين بعض الأقليات العرقية لا يكفي وحده لتفسير ذلك التخلف. فهناك فارق ملحوظ في وفيات الرضع من البيض بالمقارنة مع عدد كبير من البلدان المتقدمة. والمعدلات الأمريكية للتطعيم ضد الأمراض تقل في المتوسط بنسبة ٤٠٪ بالمقارنة مع البلدان الصناعية الأخرى، بل إنها تقل حتى عن معدلات بعض البلدان النامية. أما معدل الحمل بين الفتيات اليافعات (ما بين ١٥ و١٩ سنة) فهو بنسبة ١٠٪، ويبلغ عشرة أضعاف تلك الحالات في اليابان.

وتفصح جميع تلك الأرقام عن التفكك العائلي وانتشار الفقر في المجتمع. وهكذا نجد أن أمريكا تحتل الآن المركز الأول بنسبتها المئوية من القُصَّر من أبناء المطلقين. ومن جهة أخرى فإن خُمس الأطفال الأمريكيين يعيشون في مستوى أدنى من حد الفقر، وفي عام ١٩٨٧م كان هناك ١٢ مليون طفل لا يشملهم أي نوع من التأمين ضد المرض، أي إن عددهم زاد بنسبة ١٤٪ منذ عام ١٩٨١م. والحق أن الولايات المتحدة التي لا يوجد بها نظام عام للتأمين ضد المرض، يحتل نصيب الصحة العامة فيها من إنفاق الدولة أدنى مستوى بين بلدان منظمة التجارة والتنمية الاقتصادية.

فما هي السياسة التي اتبعتها الريجانية في هذا المجال؟ لقد اعترضت بكل قوة على كل نظام عام للتأمين باسم إصلاح البنى العائلية. وهكذا فإن نصف العاملين في المنشآت المتوسطة الحجم والصغيرة لا يتمتعون بأي رعاية اجتماعية، كما أن متوسط مدة الإخطار بالفصل وتنفيذه يومان فقط!

أما تخفيض ميزانية الخدمات العامة وبرامجها بكل قسوة فقد زاد عمومًا من سوء الأوضاع التي لا تدعو أصلًا للحسد. وأسوأ ضروب العجز التي تعاني منها الولايات المتحدة ليست العجز المالي بالرغم من الديون المتراكمة عليها، ولكنه العجز الاجتماعي الذي لا تستطيع أعمال الخير أو الشفقة الفردية أن تصححه. فقد أفرطت بقيادة طاقم ريجان في سعيها إلى «تقوية عضلات أمريكا الكسيبة»، وألقت بالفعل بأمريكا «الخاسرين» في حفرة التاريخ، أي ببساطة «الأمريكان المتوسطين»، ولكن هل أفلحت الريجانية حقًّا في إصلاح الاقتصاد، على الأقل، عوضًا عن تخليها عن المجال الاجتماعي؟ للأسف لا.

الصناعة تتقهقر

الصناعة الأمريكية في تقهقر، والاستثناء الوحيد هنا يخص حجم إنتاج الشركات الأمريكية متعددة الجنسيات في الخارج (٪۲۰ مقابل ٥٪ لليابان)، ولكن كم من التغيرات طرأت في هذا المجال منذ ربع قرن! ففي عام ١٩٦٧م بدأ جان-جاك سرفان شريبير الفصل الأول من كتابه الشهير (التحدي الأمريكي، الناشر دينويل) الذي سجل أرقامًا قياسية في المبيعات بالجملة التالية: «قد تكون القوة الصناعية الكبرى الثالثة في العالم بعد الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، الصناعة الأمريكية في أوروبا، لا أوروبا نفسها». ولكن تدفق الاستثمارات الخارجية عبر الأطلنطي غيَّر اتجاهه بقدر متزايد سنة بعد أخرى.

ففي ۲۱ سبتمبر ۱۹۹۰م، نشرت مجلة فورتون مقالات تحت عنوان مذهل: هل أصبحت عبارة «صنع في أمريكا» في طريقها إلى الزوال؟

ففي سنوات حكم ريجان لم تكن أغلب فرص العمل الجديدة البالغ عددها ١٨ مليونًا في مجال الصناعة بل في القطاع الثالث، قطاع الخدمات بأعماله البسيطة وغير الثابتة، وغالبيتها في المطاعم والتجارة وبالأخص الحراسة … وفقدت الصناعة ذاتها في نفس الوقت مليون فرصة عمل وتعرضت لعجز تجاري قياسي. فقد لحق بها اليابانيون في العديد من القطاعات بل وسحقوها. ففى صناعة السيارات مثلًا أعلنت شركة جنرال موتوز العملاقة عن خسائر قدرها ٢ مليار دولار في الربع الثالث من عام ١٩٩٠م. وسجلت شركة فورد «أسوأ نتائج منذ عام ۱۹۸۲م». أما كريزلر التي ساءت حالتها، فقد لحقت بها خسائر إضافية قدرها ٢١٤ مليونًا خلال شهور ثلاثة. وبلغ إجمالي الخسائر التجارية في صناعة السيارات الأمريكية ٦٠ مليار دولار.

وبالطبع، يعرف الكل مدى قدرة أمريكا الاستثنائية في الاستفادة من المحن والنهوض من كبوات الفشل. ولكن هناك مهلات لا يمكن ضغطها. ولا تثور مشكلة الوقت حقًّا إلا مع الانطلاق في الاتجاه الصحيح. وهذا ما لم يحدث. ففي الوقت الذي كانت فيه حرب الخليج قد انتهت منذ فترة وجيزة، توصل المجلس الأمريكي للمنافسة، المشكل من فريق من المسئولين في الأوساط الصناعية والجماعية إلى استنتاج مفاده أنه من بين ٩٥ تكنولوجيا رئيسية لن تكون الولايات المتحدة متواجدة على المسرح الدولي في ١٥ منها بحلول عام ١٩٩٥م. كما أن الولايات المتحدة لن تكون منافسًا حقيقيًّا إلا في ٢٥ من تلك التكنولوجيات. وليس من باب المصادفة أن صاروخ باتريوت الشهير ما كان يمكن أن يؤدي مهمته دون استخدام بعض المكونات اليابانية … وهنا نجد أيضًا الفكرة الأساسية الخاصة بالمستقبل البعيد المدى. والأعمال المقدامة التي أنجزها الجيش الأمريكي في حرب الخليج في عام ١٩٩١م ترجع إلى قرارات اتخذت في الستينيات والسبعينيات.

ومنذ ذلك العهد ازدادت التضحية بالمستقبل لحساب الحاضر، وبالمدى الطويل لصالح المدى العاجل. ومن الطريف حقًّا أن رجلًا مثل كارل إنكاهن، وهو رائد في صفوف المغيرين (RAIDERS) اشترى شركة TWA، يدين مناخ كازينوهات المقامرة في الاقتصاد الأمريكي الذي يعيش في مستوى يفوق إمكاناته. وقد قال في هذا الصدد: «البنية التحتية تتساقط، ولم تعد هناك عمليات بناء أو صيانة» ثم شبه الولايات المتحدة بمزرعة تولى الجيل الأول فيها الزراعة وحصد محصولها الجيل الثاني ووقف الجيل الثالث ينتظر وصول المحضر الذي سيوقع الحجز عليها.

كما أن نوعية الإنتاج والخبرة تتراجع نسبيًّا. ففي بداية نوفمبر ١٩٩٠م استمع مائتان من الكوادر التابعين لشركات أمريكية تورد قطع غيار لتويوتا إلى أحد قادة تلك الشركة، وهو يفيدهم ببعض المعلومات المؤلمة، من بينها مثلًا أن معدل القطع المعيبة الواردة من المصانع الأمريكية يبلغ مائة ضعف ما هو عليه في اليابان. ونجد شركات صناعة السيارات الأمريكية نفسها مضطرة أكثر فأكثر إلى عقد اتفاقيات مع اليابانيين والأوروبيين لاستيراد مهاراتهم.

وهذه الظاهرة ملحوظة أيضًا في صناعة الطائرات، حيث أتاح تراجع الشركات الأمريكية الفرصة للأوروبيين للاستئثار ﺑ ٣٠٪ من السوق الدولية بطائرات إيرباص، وذلك بالرغم من المساعدات المباشرة أو غير المباشرة التي تحصل عليها الشركات الأمريكية عن طريق البنتاجون. كما ينطبق ذلك على القطاعات ذات الأهمية الاستراتيجية الكبرى مثل المعلوماتية والإلكترونيات. فقد ابتكر الأمريكيون الترانزاستورات والقطع الإلكترونية الدقيقة، ولكنهم لا يحوزون حاليًّا إلا على ١٠٪ من السوق الدولية في هذا المجال، في مقابل ٦٠٪ في نهاية الستينيات. ومن بين مائة من المكابس التي تحتاجها شركة جنرال موتورز، فإنها تشتري ما لا يقل عن ثمانين منها من الخارج، حيث الثمن أقل والطراز أحدث والأداء أحسن.

ويتعين أن هذا الصدد بالشجاعة الاستثنائية التي تحلَّى بها ريجان لكي يقبل الكونجرس والرأي العام ألَّا تلجأ الولايات المتحدة إلى اتخاذ إجراءات حماية للتصدي للتغلغل التجاري بالرغم من تقهقرها الصناعي المثير للدهشة.

وهناك على الأقل خمسة أسباب تفسر لنا ذلك التقهقر الصناعي، وهي تتفق مع زوال المزايا الخمس التي تعتمد عليها سنوات الرخاء التي أعقبت الحرب العالمية الأخيرة. وقد وردت تلك الأسباب في تقرير وضعه عدد من الخبراء لحساب معهد ماساشوستس للتكنولوجيا التابع لجامعة هافارد (صنع في أمريكا، لمايكل درتوزوس، وريشارد لستر وروبرت سولو، مطبعة معهد ماساشوستس للتكنولوجيا، ۱۹۸۹م):

  • (١)

    حجم السوق الداخلية انخفض نسبيًّا وصناعات ما وراء الأطلنطي [المقصود صناعات أمريكا] لم تعد مسلحة بما فيه الكفاية لكسب أسواق أجنبية في مواجهة اليابانيين أو الأوروبيين.

  • (٢)

    هيمنة الولايات المتحدة تكنولوجيا لم تعد أبدًا بديهية، والابتكارات تتم في الخارج في الكثير من الأحوال، ومعدات استخدام الابتكارات في النظم الإنتاجية أو في تصميم منتجات جديدة أصبحت أسرع بكل وضوح في اليابان أو أوروبا، منها في الولايات المتحدة (أربع سنوات في مقابل سبعٍ في صناعة السيارات).

  • (٣)

    انخفض إلى حد كبير مستوى تأهيل العمال الأمريكيين، بينما كان بالأمس أعلى من مستواه في البلدان المنافسة.

  • (٤)

    كانت الثروة المتراكمة في الولايات المتحدة قد بلغت في الماضي حدًّا مكَّنها من التصدي للتحديات التي ما كان يمكن تصورها، مثل الهبوط فوق القمر. ولم يعد ذلك ممكنًا اليوم.

  • (٥)

    وأخيرًا فإن أساليب الإدارة الأمريكية المعترف بها من قبل، والتي كانت تحسد عليها، غدت أبعد من أن تكون أحسنها. فاليابانيون والأوروبيون يتفوقون عليها أكثر فأكثر، بل إن الأمريكيين وصل بهم الأمر أحيانًا إلى تقليد أساليب صُممت في بلدان أخرى، ومنها التدفق المتواتر وحلقات الجودة … إلخ.

وبصفة عامة فإن تعلقهم بالبورصة وباقتصاد المضاربة والأرباح السريعة التي تميزت بها الثمانينيات، كان لها تأثيرها السلبي على الصناعات. والحق أنه لم يكن هناك ما يدعو خريجي الجامعات الجدد المهيَّئِين لدخول سوق العمل إلى اختيار العمل الشاق والمرهق والمتقشف في الإنتاج الصناعي، في عهد الفتيان الذهبيين من أصحاب الملايين العديدة واقتصاد المقامرة. وهكذا انقلبت رأسمالية البورصة الكاركاتورية على الرأسمالية ذاتها، فراحت الصناعة تتداعى بينما انشغل الجميع بالجانب المالي.

ففي أبريل ۱۹۹۰م، انعقدت الجمعية العمومية للجنة الثلاثين في طوكيو (وهي تضم قادة المنشآت والنقابات وكذلك الساسة ورجال الاقتصاد في أمريكا الشمالية وأوروبا واليابان). وقد استخلص اليابانيون استنتاجاتهم الخاصة من الملاحظات الواردة آنفًا بلا لف أو دوران، وقالوا إنهم ساهموا كثيرًا في إعادة تصنيع إنجلترا منذ حوالي عشر سنوات، وأن مهمتهم القادمة هي إعادة تصنيع الولايات المتحدة.

كابوس ضروب العجز

غير أن ما يهدد بقدر أكبر ما بعد ريجان ليس مع ذلك الانحطاط الصناعي أو الازدواجية الاجتماعية بل جوانب عجز لم يكن لها مثيل من قبل. وليس ذلك أقل التناقضات التي يجب أن تُسجَّل في بند الخصوم بحسابات الرئيس الذي كان يعد بالحد من تدخل الدولة مع توفير أسباب الاستقلال لبلاده، من جديد. ففي الوقت الراهن لا تزال الأرقام هي التي تصيب العديد من المسئولين بالأرق كل ليلة، خاصة وأن تلك الأرقام لا تظل على حالها بالأمس. ولعلنا نذكر أن نشرات الأخبار في كافة الإذاعات كانت تقدم كل صباح في الستينيات والسبعينيات، في عهود كيندي وجونسون ونيكسون، حصرًا رهيبًا على بساطته، لعدد الجنود (اﻟ BOYS) الذين قُتلوا في فيتنام. وهناك الآن أرقام أخرى تتغير باستمرار تحتل اللافتة المضاءة في الشارع الثاني والأربعين بنيويورك. إنها حجم دين الحكومة الأمريكية الفيدرالي. وقد بلغ في نهاية عام ١٩٩٢م حجمًا لا يتصوره العقل، وقدره ٣٨٧٩ مليار دولار، أي حوالي ثلاثة أضعاف إجمالي موارد الميزانية، أو إجمالي عجز الميزانية على مدى ٣٥ سنة كما سنرى لاحقًا.

أما الأرقام الأخرى فهي تنطق بنفسها بحقيقتها، ومن الممكن رصد أكثرها إفصاحًا عن حجم الكارثة. ولنكتفِ هنا ببعضها المتميز بخطورته. فميزانية المدفوعات الجارية التي كانت في حالة شبه توازن في نهاية السبعينيات، واجهت في عام ۱۹۸۷م عجزًا قدره ۱۸۰ مليار دولار، أي ما يعادل ٣٫٥٪ من إجمالي الناتج القومي. وقد خُفض إلى ٨٥ مليار دولار (١٫٥٪ من إجمالي الناتج القومي) في عام ١٩٨٩م، وهو رقم ظل ساريًا حتى عام ١٩٩٢م. ويأتي هذا العجز من الصناعة، على عكس الإنتاج الزراعي الذي ظل يحقق فائضًا. غير أن النتيجة لا تدعو إلى الارتياح. فقد أصبح تركيب مبادلات أمريكا، التي تصدر المنتجات الصناعية، أقرب إلى تركيب مبادلات البلدان النامية!

وفيما يتعلق بالميزانية، لم يعد الوضع مطمئنًا. فالحساب المدين الذي تركه ريجان يتفق مع ضرب من الدجل الانتخابي. فهل يمكن حقًّا تخفيض الضرائب وزيادة ميزانية الدفاع دون المساس تقريبًا ببنود الإنفاق الأخرى، ودون أن تترتب على ذلك أي عواقب؟ لقد اقترح الاقتصادي لستر ثورو أن يُسجَّل ما يلي على قبر ريجان: «هنا يرقد الرجل الذي نقل دولة كبرى من وضع الدائن إلى وضع المدين بسرعة لم تُعهَد من قبل».

ففي سنوات ١٩۸٧–١٩٨٩م كان العجز الفيدرالي حوالي ١٥٠ مليار دولار سنويًّا (٣٪ من إجمالي الناتج القومي)، وارتفع إلى ۲۲۰ مليار دولار في عام ۱۹۹۰م (٤٪ من الدخل القومي) و۲۹۰ مليار دولار في عام ١٩٩٢م (٥٪). ولكن كيف يمكن تخفيض هذا العجز؟ لا يبدو أن أي سلطة أمريكية تنتوي التراجع عن وعودها الانتخابية. فلا مجال لأي رئيس للقبول بزيادة الضرائب أو خفض الإنفاق العسكري، ولا مجال لأن يمس الكونجرس النفقات الاجتماعية. ولذا فإن استعادة التوازن لن تتحقق قريبًا.

بيد أن تلك الاستعادة للتوازن خلال خمس سنوات مفروضة نظريًّا بمقتضى قانون جراهام رودمان هولينجز الذي يقرر إمكانية إجراء اقتطاعات أوتوماتيكية في الاعتمادات، إذا لزم الأمر. ولكن الرئيس والكونجرس يواجهان صعوبة كبيرة في التوصل إلى اتفاق حول تنفيذ ذلك القانون. وفي أكتوبر ۱۹۹۰م، جرى في واشنطن مشهد مهين لأكبر دولة في العالم، حيث هدد الرئيس العاجز عن التوصل إلى اتفاق بأن يكف عن دفع مرتبات الموظفين الفيدراليين.

ويشل هذا العجز بالطبع السلطة السياسية ويحول دون أن تواصل تنفيذ بعض البرامج رغم ضرورتها الحيوية، خاصة في مجال التعليم والبحوث والمرافق العامة. هذا عدا الدهشة التي اعترت العالم عندما رأى أمريكا القوية مضطرة إلى أن تمد يدها لتطلب من حلفائها مساعدتها في تمويل حملتها العسكرية عندما نشبت أزمة الخليج في صيف ۱۹۹۰م.

وفي هذا الصدد أرى أنه لا يليق بالبعض أن يسخروا. فالعجيب في الأمر ليس في كون المساهمات طُلبت أساسًا من بلدان الخليج العربية، ولكن في عدم مطالبتنا بها من قبل، نحن الأوروبيين الغربيين؛ إذ إننا كنا سنلقى مصير التشيك والمجريين منذ عهد ستالين، لو أن جنود البحرية الأمريكية لم يأتوا لتأمين الدفاع عنا مجانًا أو شبه مجان.

أكبر مدين في العالم

من المفترض بالطبع في عالم سويٍّ أن يقرض الأغنياءُ الفقراءَ، وتقدم الدول الغنية قروضًا للدول الفقيرة حتى تتمكن من تعجيل تنميتها. فمنذ قرن مضى كانت إنجلترا وفرنسا أكبر بلدين يقرضان العالم، وكذلك الولايات المتحدة حتى السبعينيات. ولكن منذ عام ١٩٨٠م حدثت تلك الظاهرة العكسية التي لم يسبق لها مثيل؛ إذ أصبحت أكبر قوة اقتصادية في العالم أكبر مقترض فيه.

ويرجع ذلك إلى سبب واحد جدير بالتمعن فيه من منظور الأخلاقيات الليبرالية التي طالما أشاد بها الريجانيون. فالأمريكيون لم يعودوا يدخرون تقريبًا. وبدلًا من الاستعداد للمستقبل وفقًا للمبادئ الفاضلة التي تمليها التطهرية، فإنهم يسرفون في الاستدانة من أجل الاستهلاك والاستمتاع الفوري. وهذه الأخلاقيات المالية الجديدة للأهالي والدولة تستخف بفقر البعض وبمستقبل الجميع. ولنفحص ذلك عن كثب.

فالدين الخارجي الخالص بلغ ۱۱۰۰ مليار دولار في عام ١٩٩٢م، أي ثلثي ديون العالم الثالث. وهكذا أصبحت الولايات المتحدة أكبر مدين في العالم بينما كانت أكبر مقرض منذ أقل من ١٥ سنة. والنتيجة الأولى: تبعية أمريكا المتزايدة إزاء مقرضيها.

ولما كان لا يتوفر لديها ما يكفي من الادخار لتمويل استثماراتها فإنها تضطر إلى اقتراض حوالي ١٥٠ مليار دولار كل عام (٣٪ من إجمالي الناتج القومي) خاصة من اليابانيين والألمان الذين يضارع فائضهم الحالي مقدار استدانتها. إنه حقًّا انتقام التاريخ القاسي للدولتين المهزومتين في الحرب العالمية الأخيرة، وتبعية مهينة أيضًا، ففي كل مرة تطرح فيها الخزينة العامة الأمريكية سندات جديدة في السوق، يتعين عليها أن تنتظر تفضل المكتتبين اليابانيين بشرائها. كما أن مسعاها لجذب الاستثمارات الخارجية أجبرها على الإبقاء على معدلات فائدة مرتفعة في الداخل تعوق الاستثمارات وتحجم الانتعاش.

ولكن الدين الذي يقيد أمريكا بمقرضيها يضعف أيضًا منشآتها. ومع أنها كانت مشهورة من قبل بتمسكها بالقيم في الشئون المالية لقلة مديونيتها، فقد راحت تقترض على نطاق واسع. وتضاعفت القروض التي حصلت عليها المنشآت الأمريكية ثلاث مرات منذ عام ١٩٨٠م. كما تضاعفت في نفس الفترة علاقة ديونها برءوس أموالها. وفي ذلك الدليل الجلي على مدى الضعف الذي أصابها. وعلى أي حال فإن معهد بروكينجز يرى أن ١٠٪ من أكبر الشركات الأمريكية ستشهر إفلاسها إذا حدث انكماش اقتصادي خطير.

ولنعلم في نهاية المطاف أن الضعف الذي أصاب اقتصاد أمريكا وماليتها، بما لم يسبق له مثيل، يشكل من الآن عامل زعزعة خطيرًا بالنسبة لبقية العالم، فالتبعية المتبادلة هي في الواقع القاعدة في هذا المجال. ففي عام ١٩٨٢م، تم بالكاد تحاشي أزمة اقتصادية مروعة أصابت النظام الحالي العالمي بعد أن أعلنت المكسيك أنها عاجزة عن الوفاء بالتزاماتها. وها هي أمريكا تواجه المصاعب بدورها. فالبنوك الأمريكية تعاني بالفعل من هبوط السوق العقارية ومن مسلسل إعسار بعض المدينين لها، خاصة أولئك الذين أصدروا الأسهم: «الرِّمَّة» (JUNK BONDS) وأفلسوا تمامًا.
ولكن كل بنك يتجاوز حجمًا معينًا يكون أكبر من أن يفلس لأنه يستطيع أن يضمن مساندة السلطات له؛ إذ إن إفلاس تلك المصارف سرعان ما سينتشر في أنحاء العالم. وهذا ما يطلقون عليه ظاهرة «جناح الفراشة». فمجرد خفقة جناح الفراشة في طوكيو أو شيكاغو قد تثير زوبعة في باريس … ولذا فإن مستقبل كل النظام الحالي الأمريكي يتوقف بعد عشر سنوات من الليبرالية٢ المفرطة على مساعدة الحكومة الفيدرالية.

إنها حقًّا لسخرية التاريخ اللاذعة التي عبر عنها بول منتريه بعبارته البليغة، عندما كتب يقول إن: «طيش القوي الذي لا يطاق» هو الذي يهدد العالم اليوم.

١  العديد من المعلومات الإحصائية الواردة في هذا الفصل مأخوذة عن دراسة لكريستيان موريسون، الأستاذ بجامعة باريس، بانتيون-سوربون.
٢  ليبرالية من المنظور الفرنسي والألماني والسويدي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤