الفصل الرابع

التأمينات الأنجلو-ساكسونية في مواجهة نظيرتها في منطقة جبال الألب

نحن نواجه في الواقع نموذجًا جديدًا حقًّا للرأسمالية الأمريكية اكتشفناه مؤخرًا. فقد تغير ذلك الاقتصاد إلى حد كبير في الحقبة الأخيرة. فمنذ أقل من ربع قرن كانت الولايات المتحدة لا تزال في «عهد المنظمين» الذي وصفه بورنهام منذ عام ١٩٤١م (الثورة الإدارية، الناشر جون داي وشركاه، ١٩٦٧م)، أي بعبارة أخرى عهد هيمنة حملة الأسهم. وهكذا كان جون كينيث جالبريث يصف آنذاك الحركة المضادة لتلك التي نشهدها اليوم (الدولة الصناعية الجديدة، الناشر هوجتون ميفين، ١٩٦٧م)، فهي ليست «عودة الرأسمالية» أو تصاعد نفوذ المساهم من جديد، بل على العكس تراجع سلطة الرأسماليين داخل المنشآت: «فالسلطة تنتقل في الواقع إلى ما يجب أن يسمى عامل إنتاج جديد، يتمثل في رجال ومجموعات ذات كفاءات تكنيكية متنوعة تتطلبها التطورات الحديثة التي يشهدها الابتكار التكنولوجي».

وهكذا غدا ما كان يبدو في ذلك العهد أحدث ما جاءت به أمريكا، نقيض النموذج الريجاني للرأسمالية، حيث انتقلت سلطة المهندسين إلى أيدي رجال المال، وحلت وسائل الإعلام محل النقابات.

ولكن ألم يصبح هذا التطور عالميًّا؟ وهل هناك حقًّا نموذج رأسمالي آخر منافس كما أعلنت من البداية؟ نعم لقد صادفت هذا النموذج في مهنتي، مهنة التأمين، حيث تنبع أساسًا كل المناقشات والمنازعات والاستراتيجيات في هذه المهنة من التناقض بين مفهومين: التأمين الألبي في مواجهة التأمين الأنجلو-ساكسوني.

منبعان للتأمين: الجبل والبحر

لقد اكتشفت منذ بضع سنوات الطابع المميز للرأسمالية الألبية، خلال زيارة قمت بها لأحد فروع شركة التأمينات العامة الفرنسية (AGF) في سويسرا.

كانت سويسرا في نظري، قبل ذلك، رمزًا للبلد الذي يجسد الليبرالية، وفقًا لنظرية دعه يعمل، دعه يمر. وشد ما كانت دهشتي عندما طلبت من مدير هذا الفرع أن يعطيني فكرة عن فئات أسعار التأمينات الخاصة بالسيارات، فأخبرني بأنه لا يوجد شيء من هذا القبيل؛ لأن فئات التأمين الإجبارية للسيارات واحدة لكل الشركات بمقتضى القانون. ومما زاد من دهشتي إزاء المسألة أنني ناضلت طوال سنوات من أجل تحرير كافة الأسعار المحددة عندما كنت أتولى منصب المستشار الاقتصادي لدى الحكومة الفرنسية. وعليه فإن فرنسا تكون بذلك بلدًا أشد ليبرالية من سويسرا.

وخلال تناول وجبة الغذاء التي أعقبت ذلك أعلن لي مصرفي سويسري أن البنوك الأمريكية لن تتوصل أبدًا إلى كسب جزء له وزنه من سوق تأمينات الأفراد في سويسرا. لماذا؟ الجواب: لأن البنوك الأمريكية تعمد باستمرار إلى تغيير مستخدميها «وأنت لا تتصور بالطبع أن المدخرين السويسريين سيعهدون بأموالهم إلى شخص لا يعرفونه»!

وهكذا اكتشفت أن الإيداع المصرفي في سويسرا ليس مجرد عملية تقنية، ولكنه أيضًا تعامل بين أفراد، وأن سوق التأمينات تعمل لا حسب المقارنة بين الأسعار — حتى في المجالات التي تسمح بحرية تحديد فئات الأسعار — بقدر ما تعمل حسب المقارنة بين الخدمات المقدمة للعميل. فها نحن إذن بصدد رأسمالية يعتبر فيها السعر والجانب المادى لشيء ما أقل أهمية من الخدمة المقدمة، أي جملة العناصر غير المادية والذاتية إلى حد ما، بل والعاطفية، المواكبة لها.

ويتعين أن نتساءل حول تلك المفارقة وتحليلها وفهمها؛ لأنها تشكِّل أحد أفضل الأمثلة التي تصور النزاع بين الرأسماليتين. ويستدعي الأمر أن نعود إلى الماضي، إلى أصل التأمين، أو بالأحرى الأصلين المختلفين تمامًا للتأمين: الأصل الجبلي والأصل البحري.

فأقدم أنواع التأمين يرجع أصلًا إلى الأودية العليا في جبال الألب، حيث نظَّم هناك سكان القرى أول جمعيات للمساعدة المتبادلة في منعطف القرن السادس عشر. وقد توالدت من ذلك التقليد «الألبي» سلسلة من التنظيمات الجماعية للتأمين والتعاون: الطوائف المهنية، والروابط والنقابات المهنية والحركات التعاونية. ويوزع هذا التقليد الألبي المخاطر على أفراده الذين يتحمل كل منهم تكلفة مستقلة نسبيًّا عن احتمالات ونوع الخسائر لديه، بحيث يكون هناك تضامن وإعادة توزيع في نهاية الأمر داخل الجماعة. وقد ظل ذلك التقليد محتفظًا بطابعه هذا في الموقع الجغرافي الذي شهد مولده، ألا وهو سويسرا، وألمانيا … وعلى مسافات شاسعة أيضًا في بلدان ذات حساسيات مماثلة في هذا المجال، كاليابان مثلًا.

أما أصل التأمين الآخر فهو بحري، وهو بمثابة استعداد للمجازفة والمغامرة على شحنات سفن البندقية وجنوا، ثم بعد ذلك في لندن. وسيكتسب هذا التأمين شكله المتميز في مقهى خاص بالمدعو لويد، في لندن، وموضوعه التأمين على شحنات الشاي التي تحملها سفن إنجليزية. وهذا المنشأ مختلف عن التقليد الألبي. فهو لا يهتم بالأمان بقدر حرصه على المضاربة المجزية على المخاطر. ولا مجال هنا لإعادة توزيع الخسائر أو التضامن؛ إذ إنه مجرد تقدير لاحتمالات المجازفة لكل طرف.

وينعكس حاليًّا هذان الأصلان على الاختيار الحقيقي لنوع المجتمع. ففي النظام «الألبي» يشكِّل التأمين نوعًا من تنظيم التضامن بينما يميل على العكس في النموذج «البحري» إلى إذابة التضامن عن طريق الطابع المؤقت للعقود، وبالأخص عن طريق التنوع الشديد في فئات الأسعار كما سنرى فيما بعد … فالتأمين يمثل في الحالة الأولى تأكيدًا للرابطة الاجتماعية، بينما يمثل في الحالة الثانية تنكرًا لها.

ولذا ينعكس أصل التأمين اليوم بوضوح على نموذج الرأسمالية المعاصرة، فالرأسمالية الأنجلو-ساكسونية تقوم على أساس رجحان كفة حامل الأسهم والربح المالي في المدى القصير، وبصفة عامة النجاح المالي الفردي. أما الرأسمالية الراينية فتحرص على الأجل البعيد، وتولي الأولوية للمنشأة باعتبارها مشاركة جماعية تشمل رأس المال والعمل.

ووفقًا لأصل كل من النظامين، يتعارض اليوم بشدة منطقان مختلفان للتأمين. وعلى أساس ذلك التعارض تدور المناقشات حول مستقبل التأمين في أوروبا منذ أن تشكَّلت الوحدة الاقتصادية الأوروبية، وبالأخص منذ وثيقة الوحدة الصادرة في عام ١٩٨٥م التي مهدت لقيام السوق الموحدة في عام ١٩٩٣م.

ويتميز النموذج الألبي بالأخص بتواجد فئة أسعار وحيدة وإلزامية في مجال التأمين على المسئولية المدنية الخاصة بالسيارات، وهذه الفئة الإجبارية والوحيدة قائمة في النمسا وألمانيا وإيطاليا. والتأمين في جميع تلك البلدان مرتبط أساسًا بالتضامن والتعاون.

وعلى العكس فإن الأصل البحري للتأمين في البلدان الأنجلو-ساكسونية ينتمى أساسًا إلى عالم المال والأسواق، ففئات التأمين حرة تمامًا حتى بالنسبة للتأمين الإجباري ضد حوادث السيارات، ومن هنا ينبع انتفاء التعاون في مجال المخاطر عن طريق تقسيم الأسواق.

وهكذا يرمز هذان الطرازان من المؤسسات إلى التعارض بين النموذجين الألبي والبحري في قطاع التأمين.

وليس من باب المصادفة أن عمليات إعادة التأمين، التي تتطلب حدًّا أقصى من الأمان والتواصل، اختارت كعواصم لها مدينتين في الألب، ألا وهما ميونيخ وزيوريخ، حيث ترفرف أعلام شركة MUNCHENER RUCK والشركة السويسرية لإعادة التأمين، كما أن ميونيخ هي أيضًا مقر الأليانز ALLIANZ، أولى شركات التأمين الأوروبية … وزيوريخ مقر جارتها، شركة WINTERTHUR، وأخيرًا تريستا، على مشارف الألب وبها شركات جنرالي، واتحاد التأمينات الأدرياتيكية RIUNIONE ADRIATICA SECURITA، وجميعها من مفاخر التأمينات الأوروبية. وعواصم التأمينات الثلاث هذه تمثل نموذجًا يشير إليه كل من التاريخ والجغرافيا باعتباره النموذج الألبي. ومع أنه ظل راسخًا بأساسه المتين، إلا أنه يواجه أكثر فأكثر معارضة تيار الأفكار المؤيدة للنموذج البحري الذي يسانده التيار الأمريكي الجديد.
ويتمثل رمز التأمين البحري في اللويدز اللندنية التي تتمسك بالقاعدة التي تقضي بأن يلتزم كل عضو من أعضائها، وهم الخمسة وعشرون ألف اسم NAMES، بكامل ما يملك كضمان ضد المخاطر التي قد يتعين عليه أن يشارك في تغطيتها. ومع أن اللويدز لا تزال تتمتع بشهرة واسعة النطاق بين الجمهور الدولي، إلا أنها تواجه أزمة خطيرة من النوع الذي تتسم به المشاكل الجديدة التي يعاني منها العالم الأنجلو-ساكسوني. إنها أزمة ثقة من جانب الممولين، أي الأسماء، تجاه المكتتبين المستفيدين من التزام هؤلاء، ولا يقاومون إغراءات القبول بمجازفات غير متبصرة. وهكذا مارس المكتتبون تكتيك «المال والمجد»، وانتزعوا الأسواق بكل يسر وحصلوا على مكاسب عظيمة نظرًا للعمولات التي يتقاضونها. ولكن عهد المدى البعيد جاء ويتعين على اللويدز وعلى أمريكا دفع الثمن.

النموذج الألبي قوي رغم الهجمات التي يتعرض لها

والمبدأ الأساسي للنموذج الألبي-الرايني للرأسمالية بصفة عامة، وللتأمين بوجه خاص، يسترشد بالمصلحة الجماعية لمختلف عناصر المنشأة في جهة، ومصلحة زبائنها من جهة أخرى.

ففي دراسة صدرت مؤخرًا، يلاحظ معهد المنشآت أن جانبًا كبيرًا من فاعلية المنشآت الألمانية يعود إلى التوافق الاجتماعي العريض، وكذلك إلى التضامن بين إدارة المنشأة والمساهمين في قيادتها والدفاع عن مصالحها.

والمبدأ الأساسي لمكتب مراقبة التأمينات الألمانية هو: أن ما يكون جيدًا بالنسبة للمنشأة يكون جيدًا كذلك بالنسبة لعميلنا. ونتيجة ذلك في المقام الأول أن قطاع التأمينات لا يخضع لقوانين المنافسة ولا لقضاء مكتب الكارتلات الاتحاديBUNDESKARTELLAMT. ففي عام ١٩٨٨م، أبدى رئيس هذا المكتب استياءه قائلًا: «إن مكتب مراقبة التأمينات يرى أن الدفاع عن مصالح العميل ينبع من ضمان قدرة المؤمن على الدفع. فشاغله الرئيسي هو بذل كل ما يمكن لكي لا يفقد المؤمِّن الألماني المال، وبالتالي إجباره على أن يكون مجزيًا. وعليه فإن مكتب مراقبة التأمينات لا يقوم بدوره في الدفاع عن مصالح العميل. وبما أنه ليس هناك أحد مكلفًا بذلك فمن الطبيعي أن أضطلع، أنا مكتب الكارتلات، بهذا الدور».

ولم تسفر الضجة التي أثارها ذلك التصريح عن أي تغيير أساسي. ففي عام ۱۹۹۱م، عشية قيام السوق الموحدة، لا تزال هناك في ألمانيا، على غرار سويسرا، فئة أسعار مفروضة بالنسبة للمسئولية المدنية الإجبارية في حوادث السيارات. وفي سويسرا تحدد هذه التعريفة لجنة مشتركة تضم ممثلين عن المؤمن عليهم. وفي ألمانيا تجري كل شركة حسبة للتسعيرة وتعرضها على مكتب مراقبة التأمينات للموافقة عليها.

وهناك حد أقصى للربح بنسبة ٣٪ متروك لتقدير شركة التأمين. ولننوه هنا بالطابع الاختياري لذلك الربح! إنه اختياري، أي إن الربح ليس غاية المنشأة بل علاوة اختيارية لقاء نشاطها.

ولندرك جيدًا معنى ذلك: فسواء كان الشخص سائقًا جيدًا أو سيئًا، شابًّا أو كهلًا رجلًا أو امرأة، فلا أهمية لذلك، فهو سيدفع نفس المبلغ لأي شركة تأمين، عن سيارته.

فالمنافسة لا تنطبق إذن إلا على نوعية الخدمة (سرعة صرف التعويضات وكرمها). والتضامن من خلال التعاون شبه تام، مما يؤدي إلى قيام السائقين الجيدين بالدفع لصالح السائقين السيئين. وقد أثار ذلك رد فعل إحدى الشركات الألمانية الكبرى، إذ لاحظت أن معدل التسبب في وقوع حوادث كان مرتفعًا للغاية بالنسبة للمهاجرين بالمقارنة مع أهالي البلاد الأصليين، مما دفعها إلى اقتراح تسعيرة بنسبة ١٠٠٪ للألمان، و١٢٥٪ لليونانيين، و١٥٠٪ للأتراك، و۲۰۰٪ للإيطاليين. ولم يحظَ هذا المعيار الانتقائي بالطبع بالقبول لتناقضه مع مبدأ عدم التمييز بين بلدان الوحدة الاقتصادية الأوروبية. وهكذا تُبقي بلدان الألب على التسعيرة الموحدة، مثل اليابان حيث يحدد القانون عدد شركات التأمين، وهي: ٢٤ شركة ضد الخسائر، و۳۱ شركة للتأمين على الحياة. وقانون الكيريتسو KEIRETSU، أي العائلة الكبيرة المعتمدة على التضامن بين أفرادها: أرباب العمل والعمال والعملاء والموردين، يؤمن الرخاء لشركات التأمين اليابانية الكبرى.

ومن أهم أسباب ارتياح شركات التأمين في بلاد الألب استقرار العملاء. ففي مجال التأمينات الشاملة بالنسبة للمسكن، كانت القاعدة العامة الألمانية حتى عام ١٩٨٨م، العقد الساري المفعول لمدة عشر سنوات. وتمكَّنت لجنة الوحدة الاقتصادية الأوروبية من تخفيض مدته إلى خمس سنوات، بينما هذا العقد سنوي في أغلب البلدان الأخرى. كما أن متوسط مدة عقد التأمين على الحياة ثلاثون عامًا في ألمانيا في مقابل ست سنوات في بريطانيا.

ومما لا شك فيه أن جمود هذا النظام ينطوي بالطبع على احتمالات التحجر التي تتعارض مع مصالح المستهلك، غير أنه يتعيَّن ألا نتسرع في إصدار حكمنا. فنموذج التأمين الألبي مرتبط بجملة من القيم الاجتماعية تتضمن الثقة المتبادلة واستقرار العلاقات التعاقدية البحتة، مما يوفر إلى حد كبير الأساس لاستقرار التعامل مع العملاء.

وفي هذا النموذج تكون أفضلية المنشأة على العميل مصحوبة بأفضلية الإدارة على امتلاك الأسهم. ومما يعزز مركز الإدارة كونها جماعية وساهرة على مصالح أصحاب الأسهم والعاملين لديها الممثلين في تلك الإدارة. كما أن تمثيل العاملين يضطلع به في الكثير من الأحوال الموظفون النقابيون الذين لا توجد لهم علاقة مباشرة مع المنشأة. ويساعد الاستقرار الناجم عن ذلك على تفضيل المدى البعيد في إدارة المنشآت.

والكل يعلم أن عروض الشراء لا وجود لها تقريبًا، سواء في اليابان أو سويسرا أو ألمانيا. فثلث الأسهم تقريبًا اسمية في ألمانيا، وكثيرًا ما تنص لائحة المنشأة على الآتي: «لا يُسمح بتحويل ملكية سهم إلى طرف آخر إلا بموافقة الشركة»، وإذا رفض المجلس الإداري، الممثل الشرعي للشركة، هذا النقل للملكية، فبوسعه أيضًا أن يمنح نفسه أحيانًا، وحتى الآن امتيازًا مدهشًا، ألا وهو حقه في عدم تقديم تبرير لهذا الرفض، وذلك لمدة ليست قليلة.

فبوسع المرء أن يشتري أسهمًا من شركة معينة في البورصة، ولكن طالما لم يتم تسجيل هذا الشراء لا يكون له حق التصويت أو المشاركة في زيادة رأس المال. وهذا النظام متبع أيضًا في سويسرا، وأشهر مثال في هذا الصدد يتعلق بشركة التأمين لاجينفواز التي حصلت إليانز على ١٤٪ من أسهمها، ولكن رفض إدارة الشركة الأولى تسجيل تلك الأسهم حال دون أن تتمتع إليانز بحق التصويت. ومنذ ذلك الوقت اشترت شركة زيوريخ للتأمين أغلبية لاجينفواز بشكل رمزي.

ومن المفهوم أن ترتفع الأصوات بأعداد متزايدة خاصة في بروكسل، مقر المفوضية الأوروبية، لتعلن رفضها لبعض جوانب النموذج الألبي في مجال التأمين: فهل هناك حقًّا مصلحة مشتركة مؤكدة بين المؤمِّن والمؤمن عليه، أو أن ذلك مجرد افتراض؟ وهل تؤدي التسعيرة الموحدة إلى القضاء على أي تنافس حقيقي؟ وبما أن شركات التأمين الألمانية لا تجد حافزًا على زيادة إنتاجيتها الإدارية والحد من التكلفة التجارية، ألن يتعارض ذلك بالضرورة مع مصلحة العميل؟ واستنادًا إلى ذلك التحليل الانتقادي، ترمي مفوضية بروكسل، وهي تعد التوجهات المسماة «توجيهات المستوى الثالث»، إلى خلق منافسة حقيقية في الأسواق «الألبية» المتمتعة الآن بحماية شديدة. ويعني ذلك ضمنيًّا أن يمتد النموذج الآخر «البحري» الخاص بالبلدان الأنجلو-ساكسونية ليشمل مجمل أوروبا.

والتأمين في النموذج الألبي هو في المقام الأول مؤسسة يتطلب حسن إدارتها أن يكون قانون السوق محددًا بدقة تامة. أما النموذج الأنجلو-ساكسوني فيعتبر التأمين في المقام الأول سوقًا تخضع للقوانين العامة للتنافس، حيث يقتصر الأمر على تقيد الشركات بتطبيق القواعد الخاصة بالتأمين.

ويتميز النموذج الألبي بقوة شركاته المالية؛ إذ إنها الوحيدة تقريبًا التي تستطيع أن تنتهج سياسات تنمية خارجية طموحة اعتمادًا على أرصدتها هي. وعلى العكس فإن النموذج البحري يعزز نفوذه الأيديولوجي ويُضعف ماليًّا حتى أكبر شركاته في مجال التأمين في الوقت نفسه.

وهذا واضح بشكل خاص في مجال التأمين على المسئولية المدنية في حوادث السيارات. وتلك مسألة تهم الغالبية؛ لأن هذا التأمين إجباري في البلدان المتقدمة، حيث يقود كل شخص سيارة. وسيمكننا ذلك بالأخص من اكتشاف التنوع الغريب في عالم التأمينات وانعكاساته السياسية-الاجتماعية. وستكون كل المناقشات السياسية والاجتماعية في الديموقراطيات المتقدمة مرتبطة في المستقبل بأمثلة التأمينات. وهذا ما تنبئ به المناقشات حول «الاقتراح رقم ۱۰۳» الساري في كاليفورنيا (انظر في نهاية هذا الفصل الفقرة المعنونة «التجربة الكاليفورنية»).

التجربة الإنجليزية وتكاليف اليد الخفية

فئات التأمين على السيارات حرة تمامًا في مجموع البلدان الأنجلو-ساكسونية. ولنبدأ بفحص التجربة البريطانية، فهي تقوم على ترشيد فئات الأسعار.

بما أن العميل هو الملك (وكذلك حامل الأسهم) فإن السمسار الذي يمثِّل مصالحه يقدم له أفضل الأسعار التي يعرضها عليه بطريقة رشيدة تمامًا. فالبيانات الخاصة بشخص العميل وعنوانه ونوع النشاط الذي يمارسه، ومواصفات سيارته تحدد في مجموعها وضعه في إطار نموذج نوعية معينة تقرر نوع فئة الرسوم. وفي الحال تظهر على شاشة السمسار الأسعار التي تعرضها بالنسبة لتلك الفئة حوالي عشرين شركة تأمين، وذلك حسب ترتيبها التصاعدي. وهذا السعر يشمل عمولة السمسار ضمنيًّا، وهي تتقرر أيضًا بكل حرية.

وبينما يعتمد استقرار التأمين في النموذج الألبي على الفروع التي تعمل لحساب الشركة فقط، فإن السمسار يشارك بالطبع في النموذج البحري. وتقوم السمسرة بدور أساسي لا بحكم نصيبها من السوق فقط، ولكن لأن السمسار يقوم بدور المستشار ويشارك في معالجة الكوارث، بل وأيضًا في تصميم المنتج المعروض على المؤمن عليه، ففي النموذج الألبي لا تقوم شركة التأمين إلا بدور الأم الحاضنة في الأم الحاضنة في أقصى الأحوال، أما في النموذج البحري فإن وظيفتها الرئيسية تتمثل في بيع منتجات متماثلة بأقل الأسعار، مع تقيدها بالقواعد المنظمة للتأمين. والتوزيع عن طريق السمسرة له فئاته، ولكن القضية التي يطرحها سير العمل حاليًّا في الأسواق الأنجلو-ساكسونية هي معرفة ما إذا لم يكن من الأفضل رغم ذلك، أن يكون هناك نوع من التوازن بين مختلف شبكات التوزيع لصالح المستهلكين في المدى البعيد، كما هو الحال في فرنسا.

فبما أن تداول المعلومات يتم في وقت واحد والمنتجات متماثلة أصلًا، وبما أن الرسوم تعلن على شاشة السمسار حسب تصاعد الأسعار، فلا تكون هناك إطلاقًا أي ميزة خاصة بالابتكار تستدعي إجراء مقارنة، بل إنه يتعين أن تكون المنتجات قابلة حقًّا للمقارنة بينها، لكي يصل ذلك إلى منطقه بالكامل وتكون بالتالي قابلة للاستهلاك في كل مجال على حدة. وبعبارة أخرى يجب تجنب الابتكار في هذا الحال. وتؤكد الممارسة هنا النظرية القائلة بأنه في حالة تواجد شبكة يتم من خلالها نشر المعلومات في وقت واحد، فإن الابتكار يميل إلى فقدان مزاياه في مجال المقارنة.

«في نموذج السوق المنافسة الصرفة والكاملة، يشكل الاقتصاد نظامًا للأسواق، حيث يتم في كل منها تبادل سلعة متجانسة. وعلاوة على ذلك فإن عدد المشترين والبائعين الكبير في كل سوق لا يتيح لأي من الطرفين فرصة التأثير على السعر الذي يتم به التبادل. وهذا السعر، أو آلية الأسعار، يتدخل كإشارة توفر كل المعلومات الضرورية حول توزيع المنتجات وعوامل الإنتاج المقابلة في ظل وضع أمثل» (الموسوعة الاقتصادية، ماكجروهيل، الطبعة الفرنسية: ايكونوميكا، تحت كلمة «الرأسمالية»).

وعلى عكس ما جاء آنفًا حول ما هو في صالح المنشأة والعميل في وقت واحد في مجال تأمينات الأفراد، فإن البلاد الأنجلو-ساكسونية تعتبر أن العميل شخص رشيد يعرف ما هو جيد بالنسبة له، لكي يختار بين مختلف الشركات. فهناك إذن، من جهة، المنطق الصرف للتأمين باعتباره شبه خدمة عامة تتم بواسطة مؤسسات تحكمها قواعد صارمة ومنافسة معتدلة، ومن جهة أخرى التأمين المعتبر مجرد سوق ككافة الأسواق الأخرى مع التزام جانب الحذر … وفي هذه السوق لا يوجد أمام الشركة سوى شيئين: تقديم منتجات بأسعار أقل وتوفير حد أدنى من الأمان.

ويتعلق الأمر فعلًا بذلك الحد الأدنى. ففي عام ١٩٧٠م أفلست شركة «المساواة والأمان»، المتخصصة في تأمينات السيارات، وهي إحدى شركات التأمين البريطانية الرئيسية، وعجزت عن الوفاء بالتزاماتها إزاء أكثر من مليون عميل. وكانت الرقابة على التأمينات البريطانية تتكوَّن من خمسة أفراد فقط. وعلى أثر تلك الواقعة وافقت بريطانيا في عام ١٩٧٤م على توجهات السوق المشتركة المتعلقة بتشديد الرقابة.

ولكي يتمكن بيع المؤمن البريطاني من بيع منتجه الخاص بالتأمين على السيارات يتعين عليه، كما سبق أن رأينا، أن يفي بشرطين: أن يكون أرخص من منافسيه بخصوص منتج قياسي بقدر الإمكان. ولكي يكون أرخص في ظل تكاليف إنتاج وإدارة معينة، يتوجب عليه أن يعمد إلى تقسيم السوق بأقصى قدر. ولذا فإن كل الإمكانات الخلاقة لدى الشركات مكرسة لتحديد أفضل فئات الأسعار وتحسينها باستمرار. وليس من النادر أن تعرض شركة خمسين ألفًا من الرسوم المتنوعة. فهناك قوالب جاهزة ذات معايير متعددة، تتضمن مميزات دقيقة للغاية إلى ما يقرب المالانهاية. والمؤمن الناجح لا يوجد أمامه سوى نوع واحد من الإلهام، ألا وهو الإفراط في التقسيم الذي يمكنه من التوصل إلى تحديد تعريفة ذات قيمة مضافة عالية من خلال توليفة مبتكرة من العناصر المتغيرة، والتي لم تتبادر إلى ذهن أحد من قبل.

وهكذا يتمثل منطق هذا النظام في تحسين الانخفاضات الإحصائية وتحديد أدق سعر لكل مخاطرة. وعليه يتم تمزيق أوصال مفهوم الترابط الجماعي والتضامن بين المؤمن عليهم إلى ما لا نهاية. أما عقد التأمين الخاضع لهذا المنطق، فيلتقي من جديد مع طابعه الأصلي، أي رهان المؤمن في مقابل ما يقدمه له المؤمن عليه من ادخار. فهذا الأخير يدفع أقساطًا سنوية تتناسب مع قيمة الخطر المحتمل بالنسبة له. وهو لا يتحمل تكلفة تبادل التعاون ما دام لا يستفيد منه.

ولنعد الآن إلى الحالة الملموسة، أي الحادث. ففي فرنسا، عندما تتصادم سيارتا سائقين فإنهما يتبادلان إثباتاتهم للحالة. ويرسل كل منهما تقريره هذا إلى وكيله العام أو سمساره الذي يدفع له التعويض فورًا بفضل نظام التفويض المتعدد الجوانب المتفق عليه بين شركات التأمين. ولا يوجد في بريطانيا أو الولايات المتحدة شيء من هذا القبيل. فالمؤمن عليه يلجأ إلى السمسار الذي يحاول أن يطلب من الشركة المهنية أن تتفق مع شركة سائق السيارة الأخرى، وذلك في كل حادث على حدة. وفي هذه الحالة تكون النتائج غير مؤكدة على أقل تقدير.

غير أن ذلك يشكِّل جزءًا من عقلانية العلاقات بين المؤمن عليهم والشركات. فالخدمة المتدنية المستوى يقابلها عدم إخلاص العميل الذي لا يجد سببًا للارتباط بعلاقات متميزة مع شركة ما، لأن الخطر المحتمل والمعايير التي تحدده هي الوحيدة التي تهمه. وهكذا يدفعه المنطق إلى نقل تأمينه من شركة إلى أخرى حسب اختلاف فئات الأسعار. وفي أغلب شركات التأمين الفرنسية يتراوح معدل تنقل العملاء من شركة إلى أخرى بين ١٠ و١٥٪ في مقابل ما يتجاوز ٣٠٪ في إنجلترا. وهنا أيضًا يتمثل المرجع بالفعل في نظام التأمين البحري عند اللويدز التي تعيد التفاوض حول عقود تأمين السفن في المناطق المحفوفة بالمخاطر، ساعة بساعة.

ويؤدي تنقل المؤمن عليهم من شركة إلى أخرى إلى تعجيل التغيرات في رسوم التأمين. فالشركات تعرض تعريفات دورية أسبوعية مما يزيد من حالات تنقل العملاء مع ما يترتب على ذلك من عواقب تعرفها الشركات، وهي التكلفة الباهظة لإدارة عمليات التنقل هذه. كما أن تكاليف كسب العملاء التي ترتفع أكثر فأكثر تزيد بدروها من متوسط مستوى الأقساط التي تتعرض لتغيرات دورية متزايدة، مما يؤدي إلى تصفية أعمال الشركات العاجزة عن تحمل الصدمات.

وبعبارة أخرى هناك تكلفة شاملة لعدم تمسك العميل بالشركة التي أمَّن لديها. وهناك تكلفة أخرى تظهر شيئًا فشيئًا، ألا وهي اليد الخفية في سوق التأمينات.

التجربة الكاليفورنية أو التقاء النقيضين

كاليفورنيا هي الولاية التي أطلقت رونالد ريجان ليدور في فلك الرئاسة. فقد تم انتخابه بفضل النجاح الباهر الذي أحرزه في هذه الولاية المحافظة حتى النخاع، حيث التليفونات والكهرباء والنقل المشترك ملك للقطاع الخاص، وأصبح التأمين فيها خاضعًا حاليًّا لتوجيهات صارمة حتى باتت أغرب تراجع في هذا القطاع عن اقتصاد السوق خلال السنوات الأخيرة. فما الذي حدث؟

لقد أدركت ذلك من واقع تجربتي. كانت التأمينات العامة الفرنسية قد شاركت منذ عدة سنوات بحصة في شركة تأمينات أمريكية «بروجريسيف كوربوريشن» المتخصصة في التأمين «ضد حوادث السيارات الجسيمة» التي تقع من جانب سائقين رفضت الشركات الأخرى التأمين عليهم. وقد عرفنا من قبل أن هذا النوع من المخاطر يعامل في بلاد الألب مثل غيرها من الحوادث. وعلى العكس فإن أقساط التأمين تحدد بشكل حر في البلدان الأنجلو-ساكسونية بالنسبة لهذا النوع من التأمينات. وهكذا فإن متوسط حجم قسط التأمين السنوي في شركة بروجريسيف كوربوريشن يكاد يعادل قيمة السيارة المؤمن عليها! ولكي نتصور معنى ذلك، علينا أن نلاحظ أن هذا القسط يبلغ في المتوسط ألفي فرنك في فرنسا ومتوسط قيمة السيارة خمسين ألف فرنك. ولو كانت هذه الشركة الأمريكية تعمل في فرنسا لكان متوسط القسط السنوي لديها يعادل خمسين ألف فرنك، أي ما يوازي الحد الأدنى للأجر طوال سنة! وهذه الشركة ليست إلا أقصى مثال لما لم يعد المستهلكون يقبلونه. وقد خاضت الحركة المدافعة عن مصالح المستهلك في كاليفورنيا وغيرها من الولايات المعركة ضد المستويات المغالي فيها لبعض رسوم التأمين.

فكيف يستطيع الشاب الأسود الذي وقع له حادثان ويحصل على الحد الأدنى للأجور أن يخصص أجره السنوي بالكامل ليدفع قسط التأمين على السيارة؟ وقد أدرك الجميع أن الأمر لا يمكن قبوله، فانتشرت وسط الأهالي حركة سخط. وفضلًا عن ذلك فإن العجز عن دفع تلك الأقساط أدى إلى تزايد أعداد السائقين الذين يستخدمون سياراتهم غير المؤمن عليها (١٥٪ في بعض الأحياء بالولايات المتحدة) تاركين بذلك ضحاياهم المحتملين بلا إمكانية للحصول على تعويض.

وهكذا قامت حركة شعبية واسعة النطاق في كاليفورنيا ابتداءً من عام ۱۹۸۳م أسفرت عن استفتاء شعبي حول «الاقتراح رقم ١٠٣» الشهير. وقد أصبحت كاليفورنيا بتطبيق هذا النص في طليعة الانتكاسة نحو أشكال التوجيه الأشد عبثًا في مجال التأمين. فقد أُجبرت كل الشركات على تخفيض رسومها بنسبة ٢٠٪ باستثناء تلك التي ظهر أنها ليست غنية بما فيه الكفاية لكي تتمكن من تحمل تلك الصدمة! وهكذا أصبحت معدلات مردودية الشركات هي التي يتم تحديدها. أما المحاكم التي تنوء تحت وطأة هجمات المحامين الذين جعلوا من القول اللاتيني المأثور «الإفراط في العدالة إفراط في الغبن» شعارهم. فقد استخلصوا من ذلك أن الإنصاف يجب أن تكون له الأولوية على الحق، وأن مهمة القاضي عندما يتعلق الأمر بطرفين: ضحية فقيرة وشركة تأمين غنية، تكون مهمة القاضي أن يغترف من جيب المؤمن أيًّا كان توزيع المسئولية بين الطرفين، وقد أصبح ذلك بمثابة قميص عثمان بالنسبة لحركة الدفاع عن مصلحة المستهلك في الولايات المتحدة التي تجهل النموذج الألبي للتأمينات. وأدى الحل الذي تم التوصل إليه إلى علاج أسوأ من الشر الأصلي. فقد امتد التوجيه في مجال التعريفات، فقررت مثلًا مفوضية التأمينات في نيويورك أن إجراء أي تعديلات في التعريفات تزيد عن ١٥٪ يستلزم الحصول على تصريح بذلك. بل إنها فرضت غرامات على الشركات التي أجرت تخفيضات مفرطة على الرسوم! وقد انتشر ذلك النوع من الانتكاس التوجيهي حتى إنه دفع شركات التأمين الأمريكية إلى المطالبة بوضع قواعد للتأمين على النطاق الاتحادي.

ومما يزيد من دواعي الدهشة حقًّا في القضية، أن الفكرة الوحيدة التي لا تزال رائجة في بروكسل، في عام ١٩٩٣م — بل وحتى في باريس إلى حد ما — هي إلغاء القيود على غرار ما روجت له مسز تاتشر في عام ١٩٨٠م. وهكذا نجد أمامنا مرة أخرى تطبيقًا خاصًّا لاتجاه عام يروج، في ظل تواجد النموذجين الرأسماليين: الرأسمالية الراينية والرأسمالية الأمريكية الجديدة، النموذج الأقل فعالية في الواقع، ويحظى بقبول على نطاق أوسع (انظر الفصل التاسع).

وهناك تطبيق آخر لذلك الاتجاه في الممارسات الجديدة في إدارة أصول بعض شركات التأمين الأنجلو-ساكسونية، خاصة في الولايات المتحدة. ويتعين أن نتناول هنا «المخاطر المحيطة بالأصول» عندما تستثمر الشركات البريطانية للتأمين على الحياة في المتوسط نصف أصولها في سوق الأوراق المالية، ومن باب أولى شركات التأمين الأمريكية التي لم تتردد في الاكتتاب في الأسهم «الرِّمة» وفي منح قروض مقابل رهونات مشكوك في نوعيتها، بما يصل إلى مئات المليارات من الدولارات.

وفي النموذج الألبي، تظل الأسواق المالية محدودة الحجم ومعتمدة أساسًا على السندات في السياسة المالية لشركات التأمين التي تلتزم بقواعد الأمان والتواصل مما يجعلها في مأمن من سيف التقرير ربع السنوي، أي الإعلان عن نتائج المدى القريب التي قد تكون براقة أحيانًا بحيث تموه على مجازفات أخطر في المدى البعيد.

النظام الفرنسي على بساط البحث

وقد يتساءل المرء لماذا يتجاهل حتى الآن من ظلوا يعبرون عن عقدة النقص لديهم، التركيبة التجريبية التي توصل إليها التأمين الفرنسي، فهي تجمع إلى حد كبير بين مزايا التقاليد الألبية والمرونة الأنجلو-ساكسونية.

فمنذ خمس أو ست سنوات، غداة التصويت على إعلان الوحدة الأوروبية، كانت شركات التأمين الفرنسية مقتنعة بأنها لن تتمكن من الصمود أمام المنافسة الدولية، وبالأخص المنافسة الأنجلو-ساكسونية. ويجدر بنا أن نلاحظ أن التأمين الفرنسي لم يتقهقر بل أحرز تقدمًا على كافة الجبهات بالرغم من أن الضرائب المرتفعة على التأمين هي أكثر مما في أي بلد آخر متقدم، باستثناء التأمين على الحياة.

فعلى الصعيد الداخلي، باءت بالفشل كل محاولات شركات التأمين الأجنبية للتوسع رغم الانفتاح الكامل للسوق الفرنسية، وذلك حتى في مجال التأمين ضد الأخطار الصناعية الكبرى، حيث أصبح نصيب تلك الشركات أقل مما كانت عليه منذ عشر سنوات مضت.

وفي مجال التأمين ضد الخسائر، تواصل أساسًا الشركات الفرنسية، لا الشركات الأجنبية، زيادة حصتها في السوق. وفي مجال التأمين على الحياة، أدت الأشكال الجديدة للمنافسة الداخلية من جانب البنوك بالأخص إلى تقهقر الشركات الفرنسية. غير أن ذلك التراجع الداخلي الذي تعوضه الاستثمارات الخارجية، كان المفاجأة الكبيرة في السنوات الأخيرة. فبينما عمدت الشركات الأنجلو-ساكسونية إلى الانطواء أكثر فأكثر في حدود سوقها الداخلية نتيجة للمعوقات التي تسببها ضغوط حملة الأسهم المتزايدة، فإن البلدين الرئيسيين اللذين تميَّزا بنمو نشاطهما الخارجي في مجال التأمينات هما سويسرا وفرنسا.

وفيما يتعلق بالتأمين على السيارات، يطبق الإنجليز رسومًا مماثلة للرسوم الفرنسية رغم أن هناك اعتقادًا بأن رسومها أقل مما هي في أي بلد أوروبي آخر. ونظرًا لارتفاع الضرائب في فرنسا، ونوعية الخدمة المتفوقة بكل وضوح في فرنسا، فإن ذلك يعني أن الخدمات التأمينية التي تقدمها الشركات البريطانية أغلى في الواقع من الخدمات المماثلة من جانب المنشآت الفرنسية. أما النتائج التي يتم تحقيقها فتعود، على ما يبدو، إلى التوازن بين نظامي الإنتاج والتوزيع الذي تشجعه الابتكارات. ففي مجال التعريفات تحقق فرنسا مزيجًا إيجابيًّا يجمع بين النموذجين الألبي والبحري. فرسوم التأمين على السيارات حرة ولكن الزيادة المفروضة على السائق المبتدئ محددة بنسبة ١٤٪ وبنسبة ٢٥٪ عند وقوع المسئولية في الحادث على المؤمن عليه. وفيما يتعلق بالتوزيع، فإن وضع شركة التأمينات العامة الفرنسية له قيمة المثال: فالوكلاء العموميون، وشبكات العاملين بالأجر، والسماسرة، يشارك كل طرف منهم بنسة الثلث في رقم عمليات هذه الشركة.

والواقع أن نقطة الضعف الرئيسية بالنسبة للتأمينات الفرنسية ناجمة عن كون دافعي الضرائب الفرنسيين بدءُوا بالكاد في إجراء حساباتهم. وسوف يكتشفون عما قريب أنه إذا كانت فرنسا بطلة الاستقطاعات الإلزامية بالمقارنة مع البلدان الأخرى المنتمية إلى نفس الفئة، فإن ذلك يرجع أساسًا إلى معدلات الأعباء الاجتماعية المرتفعة بشكل استثنائي التي تدفعها المنشآت. ويجدر بنا أن ننوه هنا بأنه مما لا غنى عنه أبدًا بالنسبة لقدرة الاقتصاد الوطني على التنافس، ومكافحة البطالة، والتقدم الحقيقي في مجال التضامن القومي، هو تنمية المعاشات الإضافية برسملتها، وذلك، شريطة أن تسترشد إدارة أموال المعاشات بدرجة أكبر، بالحذر الخلَّاق الذي يتميز به النموذج الأنجلو-ساكسوني (استثمارات في مؤسسات غدت تقوم بدور المضارب في المدى القصير).

وإذا كان التأمين الألبي يتعرض بالذات، لقوته وحذره، لخطر التحجر، وإذا كان التأمين الأنجلو-ساكسوني يحصر نفسه في حلقة مفرغة لا يمكن إلا أن تغذي الاستهجان الشعبي، وأن تؤدي في نهاية الأمر إلى عكس الأهداف التي ينشدها اقتصاد السوق الصرف (الفعالية التي يسيء إليها عدم الاستقرار وشفافية الأرقام التي تتستر على نوعية الخدمات المقدمة)، فإن ما يدعو للدهشة أن يكون الاتجاه الجديد وسط الفرنسيين هو أيضًا الرغبة في محاكاة النموذج الأنجلو-ساكسوني في مجال التأمين، هذا رغم أن النموذج الرايني يثبت بصفة عامة أنه أكثر فعالية وعدالة كما سنرى الآن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤