الفصل الخامس

رأسمالية أخرى

في الاقتصاد، كما في غيره من المجالات، تظل الكاريكاتورات أرسخ في الأذهان. فالمغالاة تلفت النظر أكثر من تدرجات الألوان الخفيفة. وبعبارة أخرى فإن مشادات البورصة وألوانها البراقة المرتبطة باقتصاد المقامرة، أشهر في أنحاء العالم من التوازنات الدقيقة في اقتصاد السوق الاجتماعي الألماني (SOZIALE MARKTWIRTSCHAFT). فعندما يحلم أحد سكان تيرانا أو أولام باتور أو براتيسلافا بالرأسمالية الأسطورية التي ستفتح له عما قريب أبواب الرخاء، فهو يتخيل بالطبع عالم المسلسلات الأمريكية الذي كانت الدعاية الكاذبة للسلطات الشيوعية تحط من شأنه. وعلى أي حال فإن الألبانيين الذين أفلتوا من حصن الستالينية واستقبلتهم فرنسا في صيف ۱۹۹۰م كانوا يريدون أن ينطلقوا بأي ثمن إلى أمريكا. أمريكا دالاس وشيكاغو ووول ستريت. أما افتتاح أبواب البورصة في بودابست في بداية ١٩٩٠م فقد وجد فيه المجريون ما يشبه الدليل القاطع على أنهم وضعوا أقدامهم أخيرًا في جنة الرأسمالية.

ولذا سيدهش أغلب أهالي البلدان الشيوعية السابقة إذا ما احتججت بأن الرأسمالية ليست «واحدة وغير قابلة للقسمة»، وبأن هناك عدة «نماذج» لاقتصاد السوق متعايشة معًا وأن النظام الأمريكي بالتأكيد ليس أكثرها فعالية. وسيكون ليخ فالسا، رئيس بولندا، في غاية السعادة بالطبع لو أكدنا له أنه ليس مخطئًا تمامًا عندما يحلم — بصوت مرتفع — بنموذج يوفق بين الفعالية ورخاء الرأسمالية الأمريكية المفترض، والأمن الاجتماعي النسبي في ظل النظام الشيوعي السابق (انظر جي سورمان، الخروج من الاشتراكية، الناشر فايار، ۱۹۹۱م). إنه نظام، حسب المزاح الشائع في وارسو «يعيش الناس في ظله مثل اليابانيين، دون أن يعملوا أكثر من البولنديين».

ولكن هل يعلم الناس أن ألمانيا ليست بعيدة جدًّا عن ذلك التصور؟ على الأقل فيما يتعلق بساعات العمل. فألمانيا الاتحادية تحقق فعلًا تلك المفارقة المتمثلة في كونهم «يعملون أقل من الفرنسيين، وينتجون في الوقت نفسه بكفاءة لا تقل عن الياباني». فهم يعملون ١٦٣٣ ساعة في السنة. وفي الصناعات التعدينية الألمانية يطبق حاليًّا نظام العمل ست وثلاثون ساعة ونصف في الأسبوع، في انتظار تخفيضها لتصبح خمسًا وثلاثين ساعة، هذا رغم أنها قد لا تعمم في عام ١٩٩٥م، ولكنها ستكون كذلك في يوم ما (هناك نقاش بهذا الخصوص). فألمانيا الاتحادية هي البلد الصناعي الكبير الوحيد الذي يتمتع فيه العاملون بأقل ساعات عمل وأعلى الأجور دون أن يحول ذلك إطلاقًا دون تسجيلها فائض هائل في تجارتها الخارجية.

غير أن ألمانيا ليست سوى مثال وتجسيد معين لتلك «الرأسمالية الأخرى» المتمثلة في النموذج الرايني المجهول إلى حد كبير والممتد من شمال أوروبا حتى سويسرا، وله شبيه جزئيًّا في اليابان أيضًا. ولا جدال في أنه نظام رأسمالي يقوم على اقتصاد السوق، والملكية الفردية، وحرية النشاط الاقتصادي. غير أن النموذج الأمريكي الجديد بدأ يتميز أكثر فأكثر منذ ما يتراوح بين ١٠ و١٥ سنة، في عدة نقاط أبرزها ما لخصه عالم الاجتماع جان باديولو كما يلي: «المضارب يتغلب على صاحب المشروع الصناعي، والأرباح السهلة في المدى القصير تقوض ثروات الاستثمار الجماعي الطويل الأجل».

أما النموذج الرايني فيتفق مع نظرة مغايرة تمامًا للتنظيم الاقتصادي، ولبِنًى مالية أخرى ونمط مختلف للضوابط الاجتماعية. ولا يخلو هذا النموذج أيضًا من عيوب. غير أن مميزاته الخاصة تهيئ له الاستقرار والدينامية وقوة ملحوظة بشكل متزايد. وبوسعنا أن نقول عنه ما يقال عن الديموقراطية السياسية: فهو بالتأكيد أسوأ النظم الاقتصادية لو أننا أغفلنا وجود كافة النظم الأخرى. والغريب على أي حال هو أن ذلك النموذج الرايني الذي لا يحظى لدى الرأي العام العالمي بنفس الشهرة التي يتمتع بها النموذج الأمريكي، يقابل بموقف مختلف تمامًا عندما يكون الأمر من شأن متخذي القرارات الاقتصادية. ففي أغسطس ١٩٨٨م أجرت وكالة SOFRES الفرنسية استطلاعًا للرأي شمل ٣٠٠ من رؤساء المنشآت الأوروبية. ومع أن تكلفة اليد العاملة مرتفعة بكل وضوح في ألمانيا الاتحادية بالمقارنة مع أي بلد آخر، إلا أن رؤساء هذه المنشآت أعلنوا تلقائيًّا وعلى نطاق واسع أنهم يفضلون التعامل مع ألمانيا إذا كان يتعين عليهم أن يتعاقدوا من الباطن أو أن يشتروا قدرًا أكبر من لوازمهم من الخارج (تحتل فرنسا المركز الثاني، والبنلوكس — بلجيكا وهولندا ولكسمبورج — المركز الثالث).

ويختلف هذا النموذج الرايني عن النموذج الأمريكي الجديد بشكل جذري في عدد من الجوانب الأساسية بقدر أكبر مما قد نتصوَّر.

موقع السوق في النموذجين

وكما أنه لا يوجد مجتمع اشتراكي كل ما فيه مجاني، فإنه لا يمكن أن نتصور أي مجتمع رأسمالي بوسعه أن يضفي طابعًا سوقيًّا على كل المنتجات والخدمات. فهناك أشياء لا يمكن أن تباع أو تُشترى بحكم طبيعتها. فبعضها ذو طابع شخصي مثل الصداقة والحب والكرم والشرف، وأخرى ذات طابع جماعي: الديموقراطية، الحريات العامة، حقوق الإنسان … إلخ.

وهذه القيم التي لا تتداول في السوق، واحدة أساسًا في كل من النموذجين الرأسماليين. والاستثناء الوحيد الهام في هذا المجال يتعلق بالأديان، كما سنرى فيما بعد.

غير أن النموذجين يتمايزان بشدة فيما يتعلق بالقيم المتداولة في السوق، من جهة، والقيم المختلطة من جهة أخرى. وهذا ما يحاول أن يصوره بخطوط عريضة الشكلان الآتيان.

فهما يوضحان أولًا أن القيم المتداولة في السوق تحتل بكل جلاء مركزًا أكبر في النموذج الأمريكي الجديد بالمقارنة مع النموذج الرايني. وعلى العكس فإن القيم المختلطة التي تنتمي جزئيًّا إلى السوق وجزئيًّا إلى المبادرات العامة، أكبر في النموذج الرايني.

كما يقدم الشكلان ثمانية أمثلة للقيم التي تُعامل بشكل مختلف في السوق في كل من النموذجين.

  • (١)
    الأديان: تعامل الأديان أساسًا في النموذج الرايني على أنها مؤسسات غير خاضعة لقوانين السوق (رجال الدين في ألمانيا يتقاضون مرتباتهم من الميزانية العامة للدولة مثل الموظفين)، أما في الولايات المتحدة حيث يتزايد عدد الأديان، فإنها تدار كمؤسسات مختلطة تلجأ إلى الإعلان عن طريق وسائل الإعلام، وإلى التسويق بأساليب لا يعوزها الابتكار والتفنن.
  • (٢)
    المنشأة: تعتبر المنشأة في النموذج الأمريكي الجديد قيمة تتبادل كغيرها من القيم في السوق، بينما طبيعتها، على العكس، مختلطة في النموذج الرايني.
  • (٣)
    الأجور: وهي تتوقف في النموذج الأمريكي الجديد أكثر فأكثر على ظروف اللحظة، ولكنها تتحدد على نطاق واسع في النموذج الرايني على عوامل لا ترتبط بالإنتاجية (الشهادات، الأقدمية، التدرج الوظيفي الذي تحدده اتفاقيات العمل الجماعية المعقودة على النطاق الوطني). فهي إذن قيم متداولة في السوق ولكنها مختلطة أيضًا.
  • (٤)
    المسكن: قيمة سوقية أيضًا في الولايات المتحدة، بلا استثناء تقريبًا. وعلى العكس فإن الإسكان الاجتماعي في البلدان الراينية من اختصاص المبادرات العامة في الكثير من الأحوال، كما أن الإيجارات تحصل بوجه عام على دعم.
  • (٥)
    النقل العام: وضعه مماثل تقريبًا للإسكان، وإن كان يخضع أيضًا في الولايات المتحدة لقيود. ومن أندر حالات خضوع النقل العام تمامًا للمنافسة الحرة، هي حسب علمي، مدينة سانتياجو دي شيلي حيث حصل اقتصاديو الجنرال بينوشيه المعروفون باسم الشيكاغو بويز (CHICAGO BOYS)، (نسبة إلى مدرسة فريدمان الاقتصادية) على حق كل شخص في أن يحدد خطًّا لسير أتوبيسات لنقل الأفراد، وتحديد الرسوم التي يقررها بنفسه. ولذا أصبحت كثافة الأتوبيسات تحتل أعلى معدل لها في العالم، وتفاقم بالتالي تلوث البيئة.

    غير أن تواتر عجز وسائل النقل وتزايده في بلدان النموذج الرايني يدفع السلطات إلى خصخصتها، وهو ما يشير إليه السهم في المستطيل الخاص بالقيم في الشكل الثاني.

  • (٦)
    وسائل الإعلام: وهي عامة تقليديًّا، خاصة فيما يتعلق بمحطات التلفزيون في البلدان الراينية، ولكنها تترك المجال بشكل متزايد للخصخصة، على عكس الولايات المتحدة حيث محطات الإرسال التلفزيوني تجارية أصلًا. وبدأت تظهر الآن محطات جديدة تموِّلها جماعات مشتركة بإسهامات حرة. وهذان التطوران المتضادان يظهران في الشكلين بسهمين كلٌّ منهما مصوب في الاتجاه العكسي للآخر.
  • (٧)
    التعليم: وهو موزع في النموذجين على الأنواع الثلاثة من القيم. غير أنه من الواضح أن نصيب التعليم الخاضع لقوانين السوق متغلب إلى حد كبير في النموذج الأمريكي الجديد، بل ويميل إلى التوسع كما يشير إلى ذلك السهم المتجه نحو مستطيل القيم المتداولة في السوق.
  • (٨)
    الصحة: وهذا القطاع، شأنه شأن قطاع الإسكان موزع على الفئات الثلاث. غير أن النموذج الرايني يتميز هنا من زاويتين: الأولى، دور المستشفيات العامة، والطب المدفوع الأجر مع ارتباطه بالتأمين الاجتماعي أكبر بشكل واضح تمامًا؛ وثانيًا، عدم تواجد اتجاه يرمي إلى تقليص دور السلطات العامة في مجال الصحة، على غرار التعليم، وذلك على عكس ما يلاحظ في البلدان الأنجلو-ساكسونية بل واللاتينية أيضًا من اتجاه لصالح قطاع السوق. وتلك مسألة مهمة للغاية، لأنه كلما عمدت الرأسمالية إلى خلق ثروات في المدى القصير، زادت مخاطر تحولها إلى محطم للقيم الاجتماعية في المدى البعيد، إذا لم تكن مقيدة إلى حد ما عن طريق السلطات العامة، ومتنافسة مع قيم اجتماعية أخرى خلاف قيمة المال. وقد عبر عن ذلك فرانسوا بيرو بأسلوب رائع إذ قال:

    «كل مجتمع رأسمالي يعمل بشكل منتظم بفضل قطاعات اجتماعية لا تحركها أو تدفعها عقلية الكسب والسعي إلى تحقيق أكبر ربح. وعندما تسيطر تلك العقلية على الموظف الكبير والجندي والقاضي والفنان والعالم، ينهار المجتمع وتصبح كل أشكال الاقتصاد مهددة. ويجب ألَّا تنتقل إلى السوق أثمن وأنبل القيم في حياة الإنسان: الشرف، والبهجة، والعواطف، واحترام الآخرين، وإلا تزعزعت أسس أي جماعة اجتماعية. فهناك مفاهيم سابقة على الرأسمالية وغريبة عنها تساند لفترات متفاوتة الأطر التي يعمل الاقتصاد الرأسمالي في حدودها. غير أن هذا الاقتصاد، بقدر ما يزدهر ويفرض التقدير لدوره واعتراف الجماهير به، وينمي التمتع بأسباب الراحة، بقدر ما يلحق الضرر بالمؤسسات التقليدية والمفاهيم التي لا يقوم بدونها أي نظام اجتماعي. فالرأسمالية تنهك القيم وتفسدها، وهي تستهلك كمًّا هائلًا من الحيوية التي لا تتحكم هي نفسها في تصاعدها (الرأسمالية، مجموعة: ماذا أعلم، ١٩٦٢م)».

وهذا التفكير كان حقًّا بمثابة نبوءة. وإليكم مثالًا ملموسًا يعنينا جميعًا، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، وهو تحوُّل المحامين في الولايات المتحدة إلى صف قيم السوق الرأسمالية.

ففي اليابان، يعتبر اللجوء إلى القضاء شيئًا مخجلًا إلى حد ما، ويتعين البحث عن كافة إمكانات التسوية لتحاشي تمادي الأمور إلى هذا الحد. وفي أوروبا تتمثل كل تقاليد المهن القانونية والمهن الحرة عمومًا في جعل أعضائها في منأى عن الحاجة لكي يكرسوا جهودهم بكل حرية ونزاهة «دون أن تحكمهم أو تدفعهم عقلية الكسب والسعي إلى تحقيق أكبر ربح»، وأجل خدمة المصلحة العامة: فهذا شأن القانون بالنسبة للمهن القضائية، وشأن الصحة بالنسبة للمهن الطبية. وذلك هو دستور مهنهم ومحك شرفهم. ومفهوم الشرف هذا يفسر لنا لماذا لا ندفع ثمنًا لما يؤدونه لنا من خدمات، بل نقدم لهم مجرد «أتعاب».

ويرجع هذا التقليد بالنسبة للأطباء إلى آلاف السنين منذ قسَم أبقراط. وهو المبدأ الأساسي بالنسبة لآداب المهن الحرة التي لا تدخل في نطاق السوق، ولكنه تعرض مؤخرًا في الولايات المتحدة لتغيير جذري؛ إذ تحولت المحاماة بالفعل إلى صناعة «صناعة القضايا».

وقد وصف والتر كولسون هذا الفتح الجديد في عالم الرأسمالية بالتفصيل في دراسة علمية وافية، تفجر النزاعات (ترومان تالي بوكس، نيويورك، ١٩٩١م). وعلق وارن برجر، رئيس المحكمة العليا السابق في الولايات المتحدة على هذه الدراسة في جريدة النيويورك تايمز بتاريخ ۱۲ مايو ۱۹۹۱م، فنوه بأن هذا التحول الذي لم تعهده الولايات المتحدة من قبل يعود إلى عام ۱۹٧١م، عندما سمحت المحكمة العليا للمحامين بنشر إعلاناتهم في التلفزيون. وجاءت العواقب فورًا، إذ شهدت تقنية النسبة المئوية من التعويض، والتي تتمثل في قيام المحامي بإقناع أي ضحية محتملة بأن تعهد إليه بالقضية وفقًا للمنطق التالي: «سأبذل كل ما في وسعى لكي تحصل على تعويض. فلو خسرت القضية فإنك لن تخسر شيئًا، وإذا كسبتها فستسلمني ٢٠٪ (أو ٣٠٪) من التعويض الذي حصلت عليه. وقد أصبحت تلك الممارسة دارجة في حوادث السيارات. ففي سيارة الإسعاف يجلس بجوار سائقها محامٍ يتعجل توقيع المصاب على عقد من النوع المذكور آنفًا.

وهكذا تضاعف عدد القضايا المرفوعة ضد المستشفيات والأطباء ثلاثمائة مرة منذ عام ۱۹۷۰م، وأصبح بعض الأطباء يؤمنون أنفسهم ضد المطالبات التي قد يتعرضون لها، فيدفعون ما يصل إلى ٣٠٠ ألف فرنك (٦٠ ألف دولار تقريبًا) كقسط سنوي لشركات التأمين!

وتمشيًا مع ذلك المنطق يتبع بعض الأطباء بدورهم الأعراف الرأسمالية، فلم يعد أحد يحصي عدد النساء الأمريكيات اللاتي بلغن سن اليأس فيقترح عليهن طبيب الأمراض النسائية: «رحمك لم يعد مفيدًا في شيء، وأعتقد أنه من المستحسن أن نستأصله …».

ومن النتائج الاجتماعية لذلك الشطط الرأسمالي أن عدد القضاة الاتحاديين الذين صدرت ضدهم أحكام لحصولهم على رشاوى أو التهرب من الضرائب تجاوز في الثمانينيات عددهم طوال اﻟ ١٩٠ سنة الأولى من تاريخ الولايات المتحدة … كما أن أخلاقيات المستشارين تقاوم بصعوبة متزايدة «عقلية الكسب». ولكن بمجرد أن يبدأ محاميك في العمل بطريقة رشيدة، ككائن اقتصادي صرف يريد أن يحصل على أقصى قدر من الربح، فإنه يعاملك بالتالي كمنبع محتمل لقضايا يمكنه أن يستغله بطريقة فريدة، وكذلك بمجرد أن يعاملك طبيبك كمصدر للربح، فمن ذا الذي ستثق فيه؟ وما قيمة المجتمع الذي يهدم الثقة؟

رأسمالية مصرفية

لا يعرف النموذج الرايني الفتيان الذهبيين ونشاطهم المحموم، ولا المضاربة اللاهثة. فالرأسمالية في أيدي البنوك أساسًا ومصيرها لا يتوقف على مقصورة السماسرة. والبنوك تقوم إلى حد كبير في الواقع في ظل هذا النموذج بالدور الذي تضطلع به البورصة وأسواق الأوراق المالية في النموذج الأنجلو-ساكسوني. فأهمية بورصتي فرانكفورت وزيوريخ متواضعة نسبيًّا بالمقارنة مع نظيرتها البريطانية، بل وحتى الفرنسية. وحجم الرسملة في بورصة فرانكفورت تقل بنسبة الثلث عن بورصة لندن، كما أن حجمها أقل من تُسع بورصتي نيويورك أو طوكيو. وحتى وقت قريب لم تكن هناك عروض شراء اختيارية أو عقود آجلة في بورصات ما وراء نهر الراين. وبصفة عامة تتميز الأسواق المالية الألمانية بحجمها المحدود وقلة نشاطها. فالمنشآت في ألمانيا الاتحادية لا تلجأ عادة إلى البورصة أو الجمهور، بل إلى البنك الذي تتعامل معه أصلًا للحصول على التمويل اللازم. كما أن بعض هذه المنشآت الكبيرة مثل برتلزمان، وهي المجموعة الألمانية الأولى في النشر والصحافة، ليست لديها أسهم مسجلة في البورصة.

وهكذا يتعارض الوضع من هذه الزاوية مع الوضع الذي نلاحظه في بريطانيا أو الولايات المتحدة. ويثير هذا التضاد القلق، إذا ما وضعنا في اعتبارنا قوة ألمانيا المالية وديناميكية اقتصادها.

ما السبب في هذا الاختلاف؟ أولًا لأهمية القطاع المصرفي في ألمانيا. فالكل يسمع عن البنك الألماني (دويتش بانك) المركزي الذي يشرف على جانب كبير من الاقتصاد الألماني أو بنك درسدن (درسدنربانك) أو البنك التجاري (كومرزبانك). غير أن القليلين يدركون المدى الصحيح لنفوذ تلك البنوك. ويرجع ذلك إلى عدم تواجد قواعد تحد من نشاطها، على عكس ما يجري في الولايات المتحدة. فرسالة البنوك الألمانية شاملة أي إن نشاطها متشعب. فهي تمنح القروض الكلاسيكية، وتقبل الإيداعات، وتتدخل في سوق الأسهم والسندات، وتدير أموال المنشآت. ولكنها تقوم أيضًا بدور بنوك الأعمال والاستشارة، وتجري عمليات الدمج والشراء. كما أن لديها أيضًا شبكات للمعلومات الاقتصادية والمالية والصناعية والتجارية تضعها تحت تصرف المنشآت. وهي تقيم بالتالي علاقات مستديمة ومتميزة مع عملائها قوامها روح التعاون المتبادل.

وهذه البنوك التي تحل محل الأسواق تتولى في المقام الأول مهمة تمويل المنشآت التي تتعامل كلٌّ منها مع «بيتها المصرفي» المهتم بالجوانب المالية. وتجري الأمور وكأن المصرفيين يقولون لرؤساء المنشآت: قدموا إنتاجًا أفضل، وبيعوا بكميات أوفر، واتركوا لنا مهمة معالجة المسائل المالية! وقد رأينا من قبل أن التكامل أقوى من ذلك في اليابان؛ إذ كثيرًا ما تمتلك المجموعات بنوكها الخاصة، بحيث يكون بوسعنا أن نقول إن البنوك (وشركات التأمين) تمتلك مجموعاتها الخاصة.

شبكات مصالح متلاقية

وفي ألمانيا توجد أيضًا وحدة عمل بين البنوك والشركات تتجاوز العلاقات المالية الصرفة. فكثيرًا ما تكون البنوك مساهمة في المنشآت بطريقتين مختلفتين: إما بملكية مباشرة لحصة من رأس المال، وإما من خلال ممارسة حق التصويت باسم المساهمين الذين توجد لديها حساباتهم. وهكذا تكون البنوك قادرة على ممارسة نفوذ كبير داخل مجالس إدارة الشركات عن طريق تجميع أصوات أصحاب الأسهم. ولنذكر هنا بعض الأمثلة. فالبنك الألماني يملك ربع شركة ديملر-بنز العملاقة التي لا تصنع السيارات فقط بل وأيضًا الطائرات ومحركاتها (وهذه الحصة تسمح بتجميد أي قرار)، وشركة فيليب هولزمان، أكبر مجموعة للبناء والأشغال العامة، وكارلستادت التي تتزعم التوزيع بالجملة. كما أن بنك درسدن والبنك التجاري يمتلكان ربع رأسمال حوالي عشر شركات كبيرة.

بيد أن المجموعات الصناعية الكبيرة تشارك في أحوال كثيرة في مجالس الإشراف على البنوك لكونها من المساهمين الرئيسيين فيها، حتى وإن كانت مشاركتها هذه لا تتجاوز اﻟ ٥٪ إلا فيما ندر. وهذا هو الحال بالنسبة لديملر-بنز في البنك المركزي الألماني. وتخلق تلك المشاركة المتبادلة نسيجًا حقيقيًّا في شكل وحدة صناعية مالية متينة ومغلقة على نفسها نسبيًّا. وتترتب على ذلك الوضع نتائج ثلاث على الأقل، جميعها مواتية على الصعيد الاقتصادي، ويوجد مثيل لها إلى حد كبير في اليابان.

أولًا، سيكون رجال البنوك حريصين على أن تتطور في المدى البعيد المنشآت المرتبطة بهم منذ أمد طويل ولآجال بعيدة. وعلى عكس المضاربين في البورصة الذين يفرضون نشر النتائج كل ثلاثة شهور، تعتمد البنوك الألمانية على طول المدة، فهي تلجأ أحيانًا إلى مجازفات كبيرة على آجال طويلة لمساندة مشاريع صناعية لها خطورتها. ولنذكر في هذا الصدد شركة ميتال جيسلشافت التي ضاعفت من مشاركتها في قطاع المناجم في الوقت الذي كانت فيه أزمة المواد الأولية في أوجها. وكذلك البنوك السويسرية التي استثمرت مبالغ ضخمة في صناعة الساعات الوطنية في وقت كان يبدو فيه أنها على وشك التصفية في مواجهة منافسة صناعة الساعات اليابانية الحديثة.

أما النتيجة الثانية فهي استقرار المساهمين، فهو يشكل عنصر أمان وراحة بال بالنسبة للمديرين الذين لا يجدون سيف عروض الشراء مسلطًا على رءوسهم، فيكرسون أنفسهم بالكامل لإدارة المنشأة بدلًا من استنفاد طاقاتهم وتبديد وقتهم في ترتيبات قانونية لا نهاية لها، بافتراض أنها ستحميهم من عمليات السيطرة «غير الودية». وهذا بكل تأكيد أحد عوامل قدرة الاقتصاد الألماني على المنافسة، وكذلك اليابان حيث سنرى رأسمالية هذا البلد لا تزال محتفظة بسمات «إقطاعية» تنفرد بها. وقادة المنشآت هناك أيضًا لا يعيشون تحت تهديد عملية تعديل للبنية مفروضة قسرًا من الخارج. وكذلك في سويسرا حيث تؤدي البنوك الثلاثة الكبرى دورًا مختلفًا بشكل ملحوظ عن البنوك الألمانية. ولكن رأسمال المنشآت يحميه هناك جيدًا القانون التجاري السويسري الذي يتيح تقييد عملية منح حق التصويت. كما أن هولندا لديها كذلك ترسانة من القوانين المناهضة لعروض الشراء مما يوفر لقادة المنشآت قدرًا مماثلًا من الأمان.

ولا تعني تلك الطمأنينة النسبية التي يتمتع بها قادة المنشآت في النموذج الرايني أنه بوسعهم أن يغفوا أو يرتكبوا أخطاءً في الإدارة بلا قصاص. «فالنواة الصلبة» التي تتكوَّن من المساهمين تقوم بدور الرقيب والسلطة المضادة، سواء كانت ممثلة أو غير ممثلة ببنوك. فبوسع تلك النواة التخلص من المديرين غير الأكْفاء وحماية صغار أصحاب الأسهم بطريقة غير مباشرة.

والنتيجة الثالثة هي دور البنوك الغالب؛ إذ توجد في ألمانيا الاتحادية شبكة كثيفة من المصالح المتلاقية التي يصعب اختراقها. ولكن الاقتصاد هنا ليس موجهًا. فهذه الكلمة يمقتها الألمان كما سنرى، بل يحركه بالتراضي عدد محدود من الأفراد الذين يعرفون بعضهم ويلتقون بانتظام. وكثيرًا ما تكون العلاقات الشخصية حاسمة؛ إذ تسهم في توفير الحماية الاقتصادية على نطاق واسع ضد الاستثمارات الخارجية المباشرة، مهما كان مدى انفتاحها على المبادلات التجارية على النطاق العالمي، شأنها في ذلك شأن البلدان الراينية الأخرى. فعندما تواجه أحد المؤسسات مصاعب، تتحرك البنوك تلقائيًّا من أجل التوصل إلى حل ألماني للمشكلة. وهذا ما حدث عندما وجدت مجموعة كلوكنر-فركه نفسها في وضع متأزم؛ إذ سارع البنك المركزي الألماني بإنقاذها. كما اشترت شركة سيمنز العملاقة في مجال الإلكترونيات بإيعاز من البنوك شركة نيكسدروف للمعلوماتية التي كانت تعاني إعسارًا شديدًا. وبوسعنا أن نتصور في هذا الصدد مدى المصاعب التي سيصادفها أي أجنبي يريد أن يتقدم بعرض شراء في ظل ذلك الإشراف الذي تتولاه البنوك.

ولا توجد بالطبع قاعدة بدون استثناءات؛ إذ لم تعد تلك الحصانة التي اشتهرت بها المنشآت الألمانية ضد المشترين الأجانب بنفس مناعتها السابقة. ففي عام ١٩٨٩م انتقلت ملكية ثلاثة آلاف منشأة في ألمانيا الاتحادية واشترى ٤٥٩ منها أجانب بمبلغ يُقدَّر بعشرين مليار فرنك فرنسي (أي ثلاثة أضعاف عام ١٩٨٦م). غير أن تلك البيانات يجب ألا تخدعنا. فأغلب عمليات الشراء هذه تتعلق بمنشآت متواضعة أو متوسطة. وفي عام ١٩٨٩م كان شراء شركة التأمين الفرنسية فيكتوار لشركة كولونيا يمثل وحده أكثر من نصف الاستثمارات الفرنسية في ألمانيا الاتحادية. ويظل عدد تلك المنشآت الفرنسية الموجودة في ألمانيا أقل مرتين من الشركات الألمانية في فرنسا. وهناك احتمالات كبيرة بأن يتفاقم ذلك التفاوت لصالح ألمانيا.

ويظل النموذج الرايني بالأساس مغلقًا على نفسه ماليًّا. ولكنه متين. ويتوفر بذلك للاقتصاد الألماني الاستقرار اللازم لنموه في المدى البعيد ولقدرته على المنافسة. ولكن أيًّا كانت أهمية تلك الميزة، فهي ليست الوحيدة.

إدارة جيدة للتفاهم

في تقرير مقدم لرئيس الوحدة الاقتصادية الأوروبية في نوفمبر ١٩٨٦م حول «ألمانيا الاتحادية، مثلها العليا، ومصالحها، ومعوقاتها» (ي. هاجر، وم. نويلكه، اتحاد البحوث الأوروبية) لاحظ أساسًا مقدماه أن هناك في المجتمع الألماني «ميلًا إلى تحاشي المشاكل التي يمكن أن تسبب الانقسام أو تعيد النظر في التراضي». وهناك ميل مماثل ملحوظ في المجتمع الياباني، لا يقل في قوته. والحق أن هذين البطلين في الاقتصاد العالمي اللذين هزما في الحرب العالمية الأخيرة، يحدوهما نفس الإدراك الحاد بإمكانية تعرضهما للمخاطر. والديموقراطية السياسية والرفاهية الاقتصادية لديهما حديثة للغاية ولا تزال بنيتها ضعيفة. ومن هنا تنبع السهولة في فرض الانضباط الاجتماعي الذي يشكل أحد سمات النموذج الرايني.

ولبنية السلطة وتنظيم الإدارة في هذا النموذج خصائصها المتميزة. وتوزيع المسئوليات تتم فيه على نطاق أوسع بالمقارنة مع الحالات الأخرى. وهي ليست بالطبع «الديموقراطورية» التي يدعو إليها كلود بيبيار، بل إدارة مشتركة، ذات أشكال متنوعة، تشارك في اتخاذ القرارات كل الأطراف المعنية: أصحاب الأسهم، وأرباب العمل، والكوادر، والنقابات. وينظم تلك الإدارة المشتركة في ألمانيا قانون صدر في عام ١٩٧٦م ينطبق على كل منشأة عدد العاملين فيها يزيد عن ألفين. والكلمة الألمانية المستخدمة في هذا الصدد (MITBESTIMMUNG) تعني بالأحرى «المسئولية المشتركة» لا الإدارة المشتركة، وهي متواجدة فعلًا في كافة مستويات المنشأة.

وعلى رأس المنشأة توجد هيئتان رئيسيتان: مجلس المديرين، المسئول عن الإدارة ذاتها، ومجلس الرقابة الذي تنتخبه جمعية أصحاب الأسهم المكلفين بالإشراف على نشاط مجلس المديرين. وهذان الجهازان ملزمان بالتعاون باستمرار لضمان قيادة المنشأة بشكل متناسق. فهناك إذن نظام راقب الأمور ووازنها بين المساهمين والقادة يتيح لكل من الطرفين إبداء رأيه دون أن يسيطر أحدهما.

وإلى جانب ذلك التقسيم للسلطات في القمة، هناك تلك المسئولية المشتركة الشهيرة مع العاملين. ويرجع هذا التقليد في ألمانيا إلى عام ١٩٤٨م. وهو يمارس عن طريق مجلس المؤسسة، المقابل للجان المنشآت الفرنسية وإن كان يتمتع بكل وضوح بسلطات أكبر. وتتم استشارة هذا الجهاز حول كافة القضايا الاجتماعية (التدريب، والتسريح، ومواعيد العمل، ونظام دفع الأجور). ويتعين أن يتم الاتفاق إجباريًّا حول تلك المسائل بين أرباب العمل ومجالس المؤسسات. غير أن العاملين بالأجر الألمان تتوفر لديهم إمكانية أخرى للتعبير والتحرك، ألا وهي مجلس الرقابة الذي يشارك فيه مندوبوهم المنتخبون. فمنذ صدور قانون عام ١٩٧٦م الخاص بالمنشآت التي يشتغل فيها أكثر من ألفي عامل يكون عددهم في المجلس مساويًا لعدد ممثلي المساهمين. غير أن رئيس مجلس الرقابة يُنتخب بالضرورة من بين المساهمين. وفي حالة تساوي الأصوات، يكون صوته المرجح. ولا يحول ذلك دون أن يكون لتمثيل العمال ووزنهم في أحد الأجهزة الحاسمة في المنشأة تأثير. ففي مثل هذه الظروف ينظر إلى الحوار الاجتماعي باعتباره أمرًا لا يمكن أن يسير دولاب العمل بدونه.

ومن وجهة النظر الفرنسية، قد يبدو هذا التنظيم بطيئًا ومعطلًا للعمل، وأن عمليات اتخاذ القرارات تستغرق وقتًا طويلًا. غير أنه يتعين أن نقر بأنه لا يعرقل أبدًا ديناميكية المنشآت الألمانية، بل يعزز على العكس الإحساس بالانتماء الذي يحول المنشأة إلى وحدة مصالح مشتركة حقًّا. ويسمى الآن علماء الاجتماع الأمريكيون هذه المشاركة الجماعية للأطراف المعنية نموذج أصحاب الأنصبة الكبرى (STAKE HOLDER MODEL) المضاد لنموذج أصحاب (STOCK HOLDER MODEL) الذي لا يعرف سوى حملة الأسهم. فالنموذج الأول يعامل كل طرف كشريك حقيقي يتحمل مسئوليات تلزمه.
وهناك في اليابان مفاهيم أكثر تمايزًا والتباسًا في نظرنا، تساهم في تحقيق نفس النتيجة، ألا وهي ذلك الإحساس العائلي أو الإقطاعي بالانتماء إلى جماعة واحدة. وهناك مصطلح صرف — أماي (AMAE) — يصعب ترجمته، ويعبر عن التطلع إلى التضامن والحماية والسعي شبه الوجداني الذي يجب أن توفره المنشأة، كما أن قيادة رئيس المنشأة — اييموتو (IEMOTO) — توحي، حسب رأي المتخصصين بقدر من العائلية. ويقول عالم الاجتماع مارسيل بول دي بال: «يتكامل اﻟ «أماي» واﻟ «إيموتو» ويتوازنان بالتبادل، فهما يربطان بين مبدأ مؤنث ألا وهو الحب والمشاعر والعاطفة والتجمع؛ ومبدأ مذكر، ألا وهو السلطة والتدرج في المراتب والإنتاج والفرد، ويجمع بين المبدأين في وحدة وثيقة العرى البناء اليومي للتنظيم الدائم» (المجلة الفرنسية للإدارة، فبراير ۱۹۸۸م).

والمبادئ الأساسية التي تحكم حياة المنشآت اليابانية، والتي كثيرًا ما يرد ذكرها ليست إلا ترجمة للخصائص الثقافية اليابانية على أرض الواقع: العمالة طيلة الحياة، والمكافأة حسب الأقدمية، ونقابية المنشأة، والحافز الجماعي في العمل … إلخ.

غير أن النتيجة واحدة، وهي الإحساس الجماعي بالانتماء إلى المنشأة، وهو إحساس قوي سواء في النموذج الرايني أو الياباني، ومتضائل في النموذج الأنجلو-ساكسوني.

ويعطي تصاعد عدم التيقن من أبعاد المستقبل دورًا متناميًا للإحساس بالثقة والانتماء؛ إذ يصبح من المهم بالنسبة للمنشأة أن يطبق الجميع نفس قواعد السلوك ويشاركوا معًا في أفكار وهويات تلك التعبئة الطبيعية التي توحد حكمها على الأشياء. فعدم الاستقرار الخارجي يضفي أهمية أكبر على الاستقرار الداخلي الذي لا يقف عقبة في وجه التأقلم والتغيير، بل يمكن أن يصبح عامل منافسة. وفي هذا الصدد فإن كون أمريكا لا تقتصر على نيويورك، كما لا تقتصر نيويورك على وول ستريت، فإنه من أن نلاحظ أن أكثر الشركات الأمريكية المتعددة الجنسيات أفلتت في إدارتها الاجتماعية، أكثر من إدارتها المالية، من المستلزمات الجديدة للأمد القصير التي يعود إليها التطور الأمريكي الجديد للنموذج الأنجلو-ساكسوني. فهناك شركات مثل أي. بي. أم، وأي. تي. تي، وجنرال إليكتريك وماكدونالد، تحرص على عدم التردي في اقتصاديات الكازينو الذي يقامر فيه مدمنو لعبة الروليت. فقد يتعين على هذه الشركات أن تراهن كل منها على الاستقرار والحوافز بل و«المسئولية المشتركة» لكي تؤسس وتخدم أركان حربها المتعددة الجنسيات.

الإخلاص والتدريب

و«المسئولية المشتركة» حسب التعبير الألماني ليست فقط ورقة رابحة في أيدي المنشآت، فقد أثبتت أنها مواتية بالأخص للعاملين بالأجر. أولًا من وجهة النظر الحسابية البحتة: فأجورهم من أعلاها في العالم: ٣٣ مارك في الساعة مقابل ٢٥ في الولايات المتحدة واليابان، و٢٢ في فرنسا (بأسعار الصرف في عام ١٩٨٨م). كما أن الأجور متجانسة بدرجة أكبر، فالفروق بينها أقل مما هي في أي بلد آخر (انظر سوساي، الدوار الألماني، الناشر أوريان، ١٩٨٥م). وهكذا يكون المجتمع الألماني أميل إلى المساواة بالمقارنة مع المجتمع الأمريكي أو الفرنسي.

والأغرب من ذلك، وهو أمر معروف بدرجة أقل، أن نصيب الأجور من إجمالي الناتج القومي الألماني لا يزال أقل مما هو في البلدان الأخرى الأعضاء في الوحدة الاقتصادية الأوروبية (فهو بنسبة ٦٧٪ في عام ١٩٨٨م، في مقابل ٪۷۱ في فرنسا و۷۲٪ في إيطاليا، و۷۳٪ في بريطانيا). وحتى لو وضعنا في اعتبارنا وحتى لو وضعنا في اعتبارنا أن الفائض التجاري الألماني يساهم في تفسير هذه الظاهرة، إلا أن الشركات الألمانية تتمكن من استخلاص حد من التمويل الذاتي أكبر من الشركات الأخرى، وذلك رغم الأجور الأعلى التي تدفعها في أوروبا، هذا مع تحاشي النزاعات الاجتماعية.

والعمال الألمان الذين يحصلون على أجور أفضل يعملون مع ذلك فترة أقصر، كما سبق أن قلنا بالمقارنة مع زملائهم الأمريكيين أو الفرنسيين. وفيما يتعلق بمراتب الوظائف ونظام الترقية في النموذج الرايني فهي تعطي الأولوية بانتظام للكفاءة والأقدمية. وهكذا يتطلب التقدم في الفئة الوظيفية الحرص على الإخلاص للمنشأة ورفع مستوى التدريب، مما يعود بالفائدة على كل الأطراف. وليس من النادر أن يجد المرء في المراتب القيادية للشركات الألمانية أو اليابانية كوادر قضت كل سنوات عملها في نفس الشركة ومرت بكافة درجات الترقية. ويتعارض هذا المفهوم جذريًّا مع عقلية التنقل الملحوظة في الولايات المتحدة، حيث يعتبر تغيير الوظيفة مقياسًا للديناميكية الفردية والامتياز (وكان تنقل الفرد شائعًا في فرنسا في السنوات الأخيرة باعتباره مرادفًا للتفوق. وقد قل حاليًّا وإن كان يدرس حتى في بعض المعاهد العليا … مع التخلف في استخدامه).

ومن وجهة نظر الاقتصاد عمومًا، أثبتت الإدارة المشتركة أو المسئولية المشتركة أنها في صالح قدرة المنشأة على المنافسة. ففي أزمة سنتي ۱۹۸۲-۱۹۸۱م، توصل أرباب العمل والنقابات إلى اتفاقيات تحد من زيادة الأجور حتى لا تتفاقم مشاكل المنشآت، بل وصل الأمر إلى حد موافقة العاملين بالأجر على تخفيض قدراتهم الشرائية بثلاثة أو أربعة أبناط. وكانت النتيجة مدهشة حقًّا. فابتداءً من عام ١٩٨٤م تمكَّن الاقتصاد الألماني من مواصلة نموه، وأنشأ فرص عمل جديدة، وكسب أنصبة لها وزنها في الأسواق. كما أن التأخر الذي نجم عن الإضراب الكبير في عام ١٩٨٤م أمكن التغلب عليه بفضل التعبئة العامة التي ارتضاها كل العمال. ولكن المنشآت اليابانية حصلت على تضحيات أكبر من ذلك في عام ١٩٧٥م، غداة الصدمة البترولية الأولى.

والإدارة المشتركة سلاح اقتصادي ماضٍ شريطة حسن استخدامه. وهناك مثال آخر على أي حال، إذا كنا لا نزال في حاجة إلى التدليل على مدى أهميتها الحاسمة في المنافسة الدولية. فأهمية هذه المشاركة في مجال التدريب معروفة. والواقع أن الثروة الحقيقية لدى أي منشأة ليس رأسمالها ولا عقاراتها بل كفاءة عمالها وتمرسهم في عملهم. وفي هذا المجال أيضًا يتمتع النموذج الرايني بخبرة كبيرة وطويلة المدى. ويقوم نظام التدريب هو أيضًا على التعاون الوثيق بين المنشآت والعاملين لديها. ويعتبر التدريب من الأولويات القومية منذ عدة سنوات، وهو يعتمد على ثلاثة مبادئ أساسية:

  • (١)

    فهو يتم توفيره لأكبر عدد. ففي ألمانيا أعلن ٢٠٪ من العاملين أنهم لم يحصلوا على أي مؤهل في مقابل ٤١٫٧٪ في فرنسا. وتولي ألمانيا أهمية خاصة للتدريب بالمقارنة مع فرنسا. ويحصل على هذا التمرين المهني ٥٠٪ من الشباب الألمان البالغ السادسة عشرة من عمره، والذي أنهى دراسته الإلزامية، في مقابل ١٤٪ في فرنسا وبريطانيا. ونتيجة ذلك أن أقل من ٧٪ من الذين بلغوا السادسة عشرة عاطلون عن العمل أو يشتغلون دون حصولهم على أي تدريب تكميلي، بينما تصل تلك النسبة إلى ٪۱۹ في فرنسا و٤٤٪ في بريطانيا. وأخيرًا فإن الفروع المهنية المقابلة لشهادتي الدراسة المهنية، والتأهيل المهني في فرنسا تحظى بمركز أفضل. وهي تنطبق على ٣٣٪ من العاملين في ألمانيا في مقابل ٢٥٪ في فرنسا.

  • (٢)

    وبصفة عامة فإن نظام التدريب الألماني أقرب إلى المساواة بدرجة ملحوظة بالمقارنة مع الولايات المتحدة (انظر الفصل الثاني) بل ومع فرنسا أيضًا. وإذا كانت النخبة الأمريكية (والفرنسية) مؤهلة أحيانًا بدرجة أكبر من النخبة الألمانية، إلا أن المستويات الوسطى أقل منها بكثير. والنقابات الألمانية أول من يعترف بذلك. ويلاحظ اتحاد النقابات الألمانية أن من بين ١٠٠ شخص يكون اﻟ ١٥ الأُوَل من حيث الكفاءة من فرنسا لا ألمانيا، ولكن جميع الباقين أفضل بدرجة كبيرة في ألمانيا. وعليه فمن الواضح أن ألمانيا تبني قاعدة ديناميكيتها الصناعية وقدرتها على المنافسة على تلك المستويات الوسطى (انظر تقرير وزارة الصناعة الفرنسية عن عام ١٩٩٠م الذي وضعه آلان بوكاي وكوستا دي بورجار). وفي البلدان الأنجلو-ساكسونية، كما في فرنسا، لا يعمل التدريب المهني على نحو جيد إلا باعتباره رياضة تمارسها النخبة، أما في البلاد الراينية فهو رياضة جماهيرية.

  • (٣)

    تتولى أساسًا المنشآت والمساعدات المالية الفيدرالية تمويل التدريب المهني. أما مضمونه فيركز على اكتساب سلوكيات الدقة والانتظام في العمل والفعالية. والتدريب في ألمانيا هو السبيل الحقيقي للترقية والطريق الطبيعي للنجاح المهني. فمن بين كل عشرة صبية تحت التمرين، يحصل تسعة منهم على شهادة بهذا الخصوص، ويواصل ١٥٪ منهم تدربهم على مستوى أعلى. ومما لا شك فيه أن الاحتراف يعترف به بدرجة أكبر منه في فرنسا. وقد جاء في دراسة جرت مؤخرًا حول ألمانيا الاتحادية أن: «الفرد يصبح من الكوادر القيادية إلا بعد الأربعين من عمره، وفقًا لما أثبته من كفاءة، لا حسب الشهادات التي حصل عليها. وهناك روابط وثيقة للغاية بين المنشآت والجامعات. كما أن كل القادة الكبار يقدمون دروسًا» (ميشيل جوديه، مجلة المستقبليات، ۱۹۸۹م).

وبات التدريب المهني في علاقته مع الإخلاص للمنشأة أحد ساحات المعركة بين نموذجين للرأسمالية. وهنا تكون جميع المنشآت ملتزمة به وكافة العاملين حريصين عليه. وتتلخص المسألة فيما يلي:

وفقًا للنموذج الأنجلو-ساكسوني، فإن توصل المنشأة إلى الحد الأقصى من القدرة على المنافسة يتم عن طريق رفع قدرة من يعملون لديها على المنافسة إلى أقصى حد. ولذا يتعيَّن دائمًا كسب خير من يثبتون كفاءتهم برفع مرتباتهم باستمرار حسب قيمتهم في السوق حتى لا يتركوا المنشأة. وعليه يكون المرتب فرديًّا أساسًا وغير مستقر شأنه شأن الوظيفة نفسها.

وحسب المفهوم الرايني-الياباني، لا يعتبر ذلك القضية الأساسية. فصاحب العمل له أن يعامل مستخدميه كأحد عوامل الإنتاج ليس إلا، يتم شراؤه وبيعه في السوق كما لو كان من المواد الأولية الداخلة في الإنتاج. فعليه أن يحرص، بالعكس، على الحفاظ على الاستقرار والإخلاص، وتوفير التدريب المهني المرتفع التكاليف، وعليه فبدلًا من دفع الأجور لكل فرد على حدة، حسب قيمته المؤقتة في السوق، يتعين على المنشأة أن تؤهل الكوادر، وأن تتجنب الحزازات المدمرة.

الليبرالية المنظمة١

مما لا شك فيه أن الإيمان بالليبرالية وعدم الثقة في الحكومة متأصلان للغاية في ألمانيا الاتحادية، إن لم يكن بدرجة أكبر مما هو الحال في الولايات المتحدة. فالتوجيه الاقتصادي يُنظَر إليه رسميًّا على أنه من الخصائص التاريخية للنظم التسلطية، وبالأخص النازية. وهكذا تبرأت ألمانيا الاتحادية بوضوح من النظام الاقتصادي الموجه منذ الإصلاح النقدي للودفيج ارهارد في عام ١٩٤٨م، وتبنت صيغة متميزة للاقتصاد الرأسمالي الليبرالي (اقتصاد السوق الاجتماعي). وكان ذلك أساسًا لتلك النظرة للعالم التي دافعت عنها مدرسة فريبورج. فوفقًا لتلك المدرسة، يتميز اقتصاد السوق الاجتماعي بمبدأين أساسيين:

  • يجب أن تقوم دينامية الاقتصاد على السوق التي يتعين أن يتوفر لها أكبر قدر من الحرية في التصرف خاصة في مجالي الأسعار والأجور.

  • سير عمل السوق لا يمكن أن يحكم وحده الحياة الاجتماعية بوجه عام. ويجب أن يكون متوازنًا ومتراجحًا مع ما تطرحه مقدمًا المقتضيات الاجتماعية وأن تضمنه الدولة. وعليه يكون تعريف الدولة الألمانية بالدولة الاجتماعية.
ويشكل اقتصاد السوق الاجتماعي كلًّا متكاملًا:
  • فتيار دولة الرفاهية (مشروع بفيريدج) يجعل الدولة الاجتماعية حامية الرعاية الاجتماعية والتفاوض الحر بين الشركاء الاجتماعيين.

  • والتيار الاشتراكي الديموقراطي (المنحدر من جمهورية فيمار) يقوم على مشاركة العاملين بالأجر في حياة المنشأة والمؤسسة. وعلى هذا الأساس تواصل تطور التشريع المتعلق بالإدارة المشتركة طوال السنوات العشر الأولى من إعادة تعمير ألمانيا، ولا تزال تدور حوله حتى الآن مناقشات حامية.

  • القانون الأساسي الصادر في عام ١٩٤٩م، وهو بالتأكيد العنصر الأكثر أصالة؛ إذ جعل إدارة النقد العماد المستقل ذاتيًّا (أي السياسة المضادة للأزمة). ويقدم البنك المركزي الألماني بوضعه الراهن أقوى صورة لذلك، رغم أنه ليس دستوريًّا بشكل مباشر.

  • واستقلالية البنك المركزي مرتبطة بمجمل نظام البنوك التجارية، مما يحث تلك البنوك على القيام بدور كبير في تمويل المنشآت. فما كان يمكن أن تكون سياسة الاستقرار النقدي بهذا المستوى من الفعالية لو أن البنوك التجارية لم تكن ملزمة بتمويل الصناعة بقروض طويلة الأجل.

  • تدخل الدولة وإصدارها التوجيهات مرفوضان؛ إذ ما أديا إلى تشويه المنافسة. وتتمثل الفكرة الأساسية هنا في وحدة الظروف التي يتم التنافس في ظلها.

ومنذ أكثر من ثلاثين سنة، وأنا أدرس الاقتصاد الألماني وأتعامل مع الألمان، لا أزال مندهشًا إزاء الصعوبة التي يصادفونها في إفهام الأجانب بأن نظامهم الاقتصادي ليبرالي أصيل. ولا ينازع أحد بالطبع في أن الاقتصاد الألماني بأسره يقوم منذ نصف قرن على حرية التبادل التجاري. والانتقاد الوحيد القائم على أساس يتعلق بصرامة المعايير. فقد وضعت الصناعة الألمانية منذ أكثر من مائة سنة معايير مهنية، يزيد من حرصها عليها كونها متشددة بصفة عامة من حيث الجودة، وإقبال المستوردين، أي العملاء في أنحاء العالم على تلك المنتجات الألمانية.

وإذا تركنا جانبًا هذه النقطة، فإن اقتصاد السوق الاجتماعي يرى أنه لا يحق للدولة أن تتدخل في الحياة الاقتصادية أو الاجتماعية إلا لسببين فقط، يفرضان عليها واجب التدخل: السبب الأول هو المساواة في ظروف التنافس. ومن هنا تنبع أهمية مكتب الكارتلات الاتحادي الذي يسهر بكل عناية على منع الاتفاقات الاحتكارية وسوء استخدام الوضع المسيطر. ومن جهة أخرى فإن ضمانات المساواة في التنافس تقتضي مساعدة المنشآت الصغيرة الحجم والمتوسطة ضد شطط نفوذ المنشآت الكبيرة. ومن هنا تأتى الشروط المجزية في مجالي الإقراض والضرائب (يوجد نفس هذا المفهوم تقريبًا في الولايات المتحدة من خلال إدارة الأعمال الصغيرة SMALL BUSINESS ADMINISTRATION)، كما أن المساواة في المنافسة بين الأحزاب السياسية في البلاد تقتضي أيضًا اتباع سياسة في تنمية البلاد تهتم بالأخص بتطوير المرافق العامة في المناطق الأقل حظًّا. والتجربة الألمانية في هذا المجال تقدم مثالًا نموذجيًّا حقًّا. وأخيرًا، فبما أن بلدانًا أخرى تمول نفقات البحوث من الأموال العامة تحت ستار الميزانية العسكرية، فمن الطبيعي أن تقدم ألمانيا الاتحادية على نفس الشيء.

والمبرر الثاني لتدخل الدولة طابعه اجتماعي. ومن هنا يأتي الدعم الذي يقدم للترسانات البحرية والمناجم بغية جعل إيقاع التكيف مع العمل في ظل تلك الظروف «إنسانيًّا». وتلك هي السياسة التي كانت لها الغلبة بنجاح كبير في المجمع الأوروبي للفحم والصلب الذي تمثلت مهمته في تحسين أوضاع الجانب الأكبر الأوروبي في مجال المناجم والحديد. ومن جهة أخرى فإن المفاهيم الألمانية تقضي بأن يقوم العمال بدور إيجابي أولًا في الإدارة الاجتماعية بالمنشآت، وأن يشاركوا أيضًا في الإدارة الاقتصادية والمالية كما رأينا من قبل.

ويشكل تزايد انتماء ألمانيا بقوة إلى السياسة الزراعية المشتركة الخاصة بالسوق الأوروبية المشتركة، يشكل بطريقة أو بأخرى مجمل تلك المبررات المختلفة التي تدعو للتدخل: المساواة في المنافسة، والاهتمام بالتطورات الاجتماعية، وتحسين المرافق العامة. وفضلًا عن ذلك تقوم الزراعة الألمانية منذ فترة وجيزة بدور إيجابي متزايد بفضل ما تحصل عليه من مساعدات بهذا الخصوص، من أجل تحسين البيئة، وحماية الطبيعة.

وأخيرًا فمن الواضح أن ألمانيا تظل بلدًا يميل بقوة إلى الحماية فيما يتعلق بأسهم المنشآت.

وهذا باختصار ما يسمى أحيانًا «الليبرالية المنظمة» (ORDO-LIBERALISM). ومن المفهوم أن هذه الليبرالية لا تحول أبدًا دون أداء الدولة وظيفتها المنوطة بها. ولذا فإن نصيب النفقات العامة من إجمالي الدخل القومي الألماني (٤٧ إلى ٤٨٪) يكاد يكون مرتفعًا بنفس الدرجة في فرنسا (٥١٪) رغم ما في ذلك من مفارقة، وهو يزيد عما هو عليه في اليابان (٣٣٪). وفي كل من ألمانيا وفرنسا يمثل التمويل العام للمنشآت حوالي ٢٪ من إجمالي الدخل القومي. والواقع أن السلطات العامة في ألمانيا الاتحادية، لا مركزية إلى حد كبير، مما يفرض السعي إلى الحوار والتوصل إلى اتفاق، حتى إنه قيل «إن الليبرالية الاتحادية ستار لتدخل المقاطعات». وهذا ليس صحيحًا تمامًا.

أما الحقيقة فتتمثل على العكس في كون السلطة المركزية في ألمانيا تنطلق من المقاطعات (اللاندرز) ومن حصول المدن، وفقًا لتقليد قديم، على استقلالها وما يرتبط بذلك من سلطات تخصها، وذلك على غرار تعامل سويسرا مع كانتوناتها وهكذا فإن اختصاصات كل طرف محددة بدقة، كما يشهد على ذلك بالأخص توزيع إمكانات الميزانية. فميزانية الدولة تبلغ ۲۸۰ مليار مارك في مقابل ۲۷۰ مليارًا للمقاطعات، و۱۸۰ مليار لبلديات المدن. والدولة تتكفل بنفقات الأجهزة الإدارية العامة والمساعدات المقدمة للميزانيات الاجتماعية والدفاعية. والمقاطعات مسئولة عن التعليم والأمن العام. أما المراكز التابعة للمقاطعات فتقوم بتمويل المساعدات الاجتماعية والمرافق الرياضية والثقافية … إلخ.

ويفرض هذا التقسيم التشاور باستمرار وإعادة توزيع الإمكانات المالية. كما أن موارد المقاطعات تخضع للتساوي حتى لا يتوفر لأيٍّ منها دخل عن كل فرد يقل بنسبة ٥٪ عن متوسط المجموع! هذا بينما الفارق المقابل يتراوح بين ۲۰ و۳۰٪ في المناطق الفرنسية. أما الفارق بين الولايات الأغنى والولايات الأشد فقرًا في الولايات المتحدة فيبلغ ٥٠٪. وهناك درس آخر من التجربة الألمانية وجدت صعوبة شديدة لإفهامه للبعض في فرنسا. فأغلبية الفرنسيين موقنة بأن فرنسا، الدولة المركزية التي لا يزال دور المجتمعات المحلية فيها ضئيلًا بالمقارنة مع دور الدولة، رغم قانون ديفير حول اللامركزية، هي بالطبع البلد الذي يتوفر فيه أكبر قدر من المساواة في توزيع الثروات على الصعيدين الجغرافي والاجتماعي! غير أن الواقع يثبت عكس ذلك، فألمانيا بالذات هي التي تقدم المثال الجلي في التضامن الاجتماعي وفي السياسة النشطة لتحسين المرافق في أنحاء البلاد.

وأخيرًا يتم تنفيذ التخطيط المتفق عليه لتنسيق عمل مختلف الجماعات العامة. وهو يمارس في إطار العقود المبرمة من أجل تحقيق مشروع مشترك. والهدف من ذكر كل تلك الأمثلة هو إلقاء الضوء على مدى تمرس الإدارات والساسة فيما وراء نهر الراين في التعامل بواسطة آليات التفاهم.

فهم يطبقون تلك الأساليب في كافة المجالات تقريبًا. ولا تتدخل الدولة فيما يتعلق بالأجور ولكنها تحث الشركاء الاجتماعيين على احترام بعض المعايير، وعدم إثارة اضطرابات في التوازنات الاقتصادية والنقدية الكبرى. ففي مجال الصحة مثلًا، كان المستشار هلموت شميدت هو الذي حث أرباب العمل والنقابات وصناديق التأمين ضد المرض على الاتفاق على خفض النفقات الطبية. وهناك فارق شاسع بين ذلك الوضع والمقابل له في فرنسا، حيث قام القطاع العام لمدة طويلة بدور رئيسي في تطور الأجور.

نقابات قوية ومسئولة

غير أن هذا التشاور الدائم والتفاهم النموذجي ما كان يمكن تصوره لولا تواجد النقابات القوية والمسئولة، الممثلة حقًّا للعمال. وهذه الصفات متوفرة بلا جدال في النقابات الألمانية. فبينما نجد تحولًا ملحوظًا إزاء المنظمات النقابية في مختلف أنحاء أوروبا، فإن النقابات الألمانية تشهد من جديد تزايدًا في عدد أعضائها بعد تراجع محدود في بداية الثمانينيات. لقد استعاد معدل انتماء القادرين على العمل للنقابات، وهو من أعلى المعدلات في العالم، استعاد مستواه في الستينيات، أي بنسبة ٤٢٪ في مقابل ٪۱۰ بالكاد في فرنسا. وهكذا تضم النقابات فيما وراء نهر الراين تسعة ملايين عامل بالأجر، من بينهم ۷٫۷ مليونٍ أعضاء في اتحاد النقابات الألمانية وحده.٢ وتتناسب القدرات المالية لتلك النقابات مع حجم تمثيلها، خاصة وأن الاشتراكات مرتفعة نسبيًّا (٢٪ من الأجر، يقتطع منه مباشرة). وهكذا تجد النقابات تحت تصرفها إمكانات للتحرك يحسدها عليها أغلب نقابات العالم؛ إذ لديها ثلاثة آلاف مستخدم في أجهزتها الاتحادية، وذمة مالية لا تزال ضخمة رغم المصاعب التي تواجهها، وشركة تأمين تابعة لها (VOLKSFÜRSORGE) وبنكها BFG، وبالأخص شركتها العقارية. ولكن لدى تلك النقابات صناديق الإضراب التي تمكنها عند الضرورة من أن تدفع للعمال المضربين أو الذين أُغلقت في وجوههم المصانع التي يعملون بها، ما يعادل ٦٠٪ من أجرهم. وتلك أداة ردع فعالة للغاية في تعاملها مع أرباب العمل.

وقد تمكَّنت النقابات الألمانية أيضًا من تنظيم عمليات اختيار وتدريب أعضائها المنتخبين في الأجهزة التمثيلية. ولديها مراكز للبحث الاقتصادي والاجتماعي تمكنها من متابعة تطور الأحداث … ولذا فإن مستوى تدريب مستخدميها النقابيين مرتفع بشكل ملحوظ. وبوسع هؤلاء أن يقدموا خلال المفاوضات مع أرباب العمل سيناريوهات للأجل المتوسط متماسكة ومدعمة بالحجج والأسانيد، هذا عدا توفر وسيلة إضافية لهم للتدخل والضغط من خلال تواجدهم في البرلمان الاتحادي عن طريق نوابهم المنتخبين. فالعديد من النواب المهمين يأتون من العالم النقابي. ﻓ ٤٠٪ من نواب الحزب الديموقراطي المسيحي والحزب الاجتماعي المسيحي أعضاء في نقابات. ومما لا شك فيه أن ذلك التداخل بين العالمين النقابي والسياسي ييسر الاتفاق والتسويات المرنة.

غير أن تلك القوة الهائلة توضع في الغالب في خدمة المجتمع (انظر برولد كوستا دي بورجار وآلان بوكاي المذكورين آنفًا). وبعبارة أخرى فإن النقابات الألمانية أكثر إحساسًا «بمسئوليتها» الاقتصادية بالمقارنة مع مثيلاتها في الخارج. فهي تدير جزءًا كبيرًا من نظام التأهيل مع أرباب العمل، وتناقش التدريب المتواصل ومضمون ذلك التعليم. كما أنها تتولى مسئولية مراكز تأهيل العاطلين عن العمل وتساهم في إعادة ١٥٠ ألفًا للعمل في كل سنة.

وكما هو معروف فإن مواقف تلك النقابات تظل محسوبة ومتعقلة؛ إذ تضع في اعتبارها المقتضيات الاقتصادية. والموقف المتوافق مع الاتفاق يكون مجزيًا نظرًا لأن الأجور مرتفعة في ألمانيا، كما سبق أن قلنا. وهناك سمتان مميزتان للحوار الاجتماعي فيما وراء نهر الراين يلقى عليهما الضوء الحرص على عدم تعريض التوازنات الكبرى للخطر، وعدم تشجيع التضخم الذي تخشاه ألمانيا بالذات:

  • (١)

    عمليات التفاوض المنتظمة، وهي تشمل ما بين ثلاث أو أربع سنوات، وتعود آخر موجة كبيرة من التفاوض حول الأجور إلى عامي ١٩٨٦م، ۱۹۸۷م.

  • (٢)

    طوال مدة سريان الاتفاق، تتعهد النقابات بعدم إثارة منازعات حول أحكامه. وهكذا فإن عدد أيام العمل التي تضيع بسبب الإضرابات في ألمانيا أقلها في كل العالم الغربي (٢٨ ألفًا في مقابل ٥٦٨٠٠٠ في فرنسا، و۱۹۲٠٠٠٠ في بريطانيا و٥٦٤٤٠٠٠ في إيطاليا، و۱۲٢١٥٠٠٠ في الولايات المتحدة).

ويتعيَّن أن نذكر إلى جانب قوة النقابات وتعاملها عن طريق الاتفاق ومن خلال الإدارة المشتركة، تلك الحيوية الاستثنائية التي تتميز بها الجمعيات الألمانية. فروابط الباحثين، على سبيل المثال، تضم ٨٠ ألف باحث من المهتمين بالشئون العلمية في كافة أرجاء ألمانيا. وهي تنشر المعلومات العلمية وتهتم بمستقبل أعضائها وظروف عملهم وتشكِّل بذلك إدارة حقيقية غير رسمية، مرنة ونشطة في مجال البحث العلمي. أما روابط الدفاع عن البيئة، على سبيل المثال أيضًا، فقد أثبتت مرارًا وتكرارًا قوتها وحريتها في إعداد الملفات.

والحاصل أن الجمعيات التي تضم قوى المجتمع المدني الحية وتعبِّئُها، تقوم بدور هام للغاية في تسيير النموذج الرايني في ألمانيا، فهي بمثابة مؤسسات وسيطة وموقع يعبر المواطنون من خلاله عن آرائهم.

على أن كافة تلك المؤسسات سواء كانت سياسية أو نقابية أو جمعيات ما كان يمكن أن تجدي نفعًا لو لم يكن تحرُّكها قائمًا على أخلاقيات جماعية خاصة.

قيم مشتركة

والبلاد التي أدرجناها هنا في النموذج الرايني تشترك معًا في نهاية المطاف، في عدد من القيم، نذكر الأساسية منها:

  • (١)

    فهي أولًا، وكما سبق أن رأينا، مجتمعات مساواة نسبيًّا. فالتدرج في الدخول وجداول الأجور أقل مما هي في البلدان الأنجلو-ساكسونية. وفضلًا عن ذلك فإن النظام الضريبي موزع على نطاق أوسع. والأمر لا يقتصر على تغلب الضريبة المباشرة على الضريبة غير المباشرة. ولكن الشرائح الضريبية العليا فيها أعلى مما هي في بريطانيا (٤٠٪) والولايات المتحدة (٣٣٪)، وإضافة إلى ذلك هناك ضريبة مفروضة على رأس المال ومقبولة من الرأي العام.

  • (٢)

    المصلحة الجماعية تتغلب عادة على المصالح الفردية بالمعنى الضيق للكلمة. ففي هذا النموذج تكتسب الجماعة التي ينتمي إليها الفرد أهمية خاصة، سواء كانت المنشأة أو المدينة أو الجمعية أو النقابة، فجميعها مؤسسات تحقق الحماية والاستقرار. والأولوية التي تحظى بها المصلحة العامة تتجلى من خلال أمثلة لا تحصى ولا تعد، قد يثير بعضها دهشتنا. فقد وافقت نقابة أي. جي. ميتال، الخاصة بالعاملين في مجال التعدين، على التخلي من تلقاء نفسها، عن مطلبها المتعلق بالعمل ٣٥ ساعة في الأسبوع عندما أُعيد توحيد ألمانيا، هذا رغم أنها كانت تنتظر منذ ثلاث سنوات انتهاء اتفاقها مع أرباب العمل للتفاوض حول ذلك. وقد أعلن رئيس النقابة أن أعضاءها يرون أنه يتعين أولًا مواجهة تحدي إعادة توحيد البلاد.

ولا تعني تلك الأفضلية الممنوحة للمصلحة الجماعية أن بلدان النموذج الرايني تناصر الجماعية أو حتى الاقتصاد المركزي. بل إن مبدأ الليبرالية واقتصاد السوق واردان على العكس في الميثاق الأساسي لألمانيا الاتحادية. وقد عرفنا من قبل أن مكتب الكارتلات المنافسة الحرة بكل صراحة. فقد حال مثلًا دون أن تشتري منشأة ألمانية منافسًا أجنبيًّا، نظرًا لأن تلك الخطوة قد لا تؤمن المنافسة الحرة. ويصعب تصور مثل هذا المنع في فرنسا حيث يستقبل شراء أي منشأة أجنبية بصيحات حماسية. كما أنه لا يوجد تخطيط إرشادي على الطريقة الفرنسية، سواء في ألمانيا أو سويسرا أو اليابان أو هولندا. فالدولة لا تحل أبدًا محل السوق وهي تدفعها في أحسن الأحوال إلى اتخاذ اتجاه أو توجيه معين، ليس إلا.

ومع ذلك فإن اقتصاد السوق الألماني هذا، هو في الوقت نفسه اقتصاد اجتماعي كما يدل على ذلك اسمه. فالمؤسسة الاجتماعية قوية تقليديًّا في هذا البلد منذ أمد طويل. والتأمين الصحي لا يتطلب هناك سوى مشاركة متواضعة تبلغ حوالي ٪۱۰ في مقابل ٪۲۰ في فرنسا و٣٥٪ في الولايات المتحدة. كما أن المعاشات أيضًا سخية لأنها تعتمد إلى حد كبير على الادخار الفردي الذي تديره المنشآت.

وهذا التوازن الاجتماعي في الرأسمالية الراينية ينعكس على الصعيد السياسي، على عكس ما يجري فيما وراء الأطلنطي. فمشاركة المواطنين في الحياة العامة في تلك البلدان إيجابية وواسعة النطاق، وتظل معدلات الامتناع عن التصويت منخفضة نسبيًّا، والأحزاب قوية وبنيتها متينة، ولذا فهي تستطيع أن توفر تدريبًا راقيًا لأعضائها وممثليها المنتخبين، من خلال هيئات مرموقة مثل مؤسسة إيبرت التابعة للحزب الاشتراكي الديموقراطي أو مؤسسة أديناور التابعة للحزب الديموقراطي المسيحي. وعلى أي حال فإن القانون يلزم الساسة بالمشاركة النشطة في حياة المؤسسات، وهناك غرامات منصوص عليها في حالة التغيب عن جلسات البرلمان، وتصويت أعضاء البرلمان فردي، كما أن الجمع بين المناصب المنتخبة محدد بكل حزم باثنين فقط.

فالنموذج الرايني أصيل إذن. وهو يجسد توليفة موفقة بين الرأسمالية والاشتراكية الديموقراطية. والإحساس بالتوازن الذي يوحي به بدا مغرٍ. غير أن فعاليته لا تقل إغراءً هي أيضًا.

على أن ما يثير الدهشة حقًّا أن كل ذلك يظل مجهولًا إلى حد كبير. فمن المعروف أن الشعوب السعيدة ليس لها تاريخ. والسعادة ليست قصة نجاح، على الطريقة الأمريكية.

١  الاستطرادات الواردة بعد ذلك تسترجع أساسًا دراسة أجراها جيروم فينيون، الذي أقدم له جزيل شكري.
٢  يبلغ حاليًّا عدد أعضاء اتحاد النقابات الألمانية وحده ١٠٫٦ مليون عضو بعد إعادة توحيد البلاد وفقًا لما ورد في جريدة الموند الفرنسية بتاريخ ١١ / ٥ / ١٩٩٤م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤