المسرحية

المشهد الأول

(المسرح مظلم تمامًا، صحراء واسعة، سيدنا موسى عليه السلام يمشي في الظلمة، يظهر الضوء عليه بالتدريج، يبدو عليه الإعياء والقلق، ظهره محني قليلًا كأنما يحمل فوق جسده عبئًا ثقيلًا، يتوقف يتلفت حوله كأنما فقد معالم الطريق، يجلس ليستريح فوق صخرة رملية، يفتح كيسًا به كتاب التوراة وخبز مقدد وجبن، يمضغ على مهلٍ ويخاطب نفسه، بين يديه كتاب التوراة.)

سيدنا موسى : مضى وقتٌ طويل منذ التقيت به فوق جبل سيناء، وقد امتثلت أنا وقومي لأوامره بالحرف؛ كلمته في التوراة أصبحت هي العليا، قال لنا: اقطعوا غرلة الذكر، قطعناها. قال لنا: اقتلوا أهل كنعان وفلسطين وخذوا الأرض، قتلناهم وأخذنا الأرض. قال لنا: ارجموا الزانية، رجمناها. قال لنا: أنا الرب الأعلى مالك السموات والأرض ولا شريك له، وإن كان هو معبودكم المقدس العجل، قلنا له سمعًا وطاعة، وحطمنا العجل. قال لنا: أنتم شعبي المختار الوحيد بين شعوب الأرض، قلنا: وأنت ربنا المختار الوحيد بين الآلهة.

(يقرقش سيدنا موسى قطعة الخبز المقدد، يبتلع قليلًا من الماء من قربةٍ مصنوعة من جلد الماعز، يواصل حديثه لنفسه.)

سيدنا موسى : مضى وقتٌ طويل طويل منذ التقيت بك يا رب فوق جبل سيناء. هذا الجبل المقدس جزء من أرضنا الموعودة، أليس كذلك يا رب؟ ألم تقل لنا في التوراة يا رب: إن أرضكم الموعودة تمتد من النيل إلى الفرات؟ لقد وفينا بعهدنا لك؛ قطعنا غرلة الذكر، جميع رجالنا تُجرى لهم عمليات الختان بالقانون، لا أحد يفلت مهما اشتدت الحملات الطبية ضد هذه العملية الضارة، لقد ثبت ضررها طبيًّا يا رب لكننا نتلقى الأوامر منك وليس من البشر الأطباء أو غير الأطباء؛ فأنت معبودنا الوحيد إلى الأبد. وفَّينا لك العهد، فلماذا لم توفِّنا بعهدك؟ أين هذه الأرض الموعودة من النيل إلى الفرات؟ حتى جبل سيناء فقدناه، لم يصبح لنا إلا الأرض فلسطين، وهي ليست كل فلسطين، أجزاءٌ منها يا رب يستولي عليها الفلسطينيون تحت اسم تنفيذ قرار الأمم المتحدة، هل يعلو قرار الأمم المتحدة على قرارك يا رب؟ لماذا لا نسمع صوتك؟ أيمكن أن ألقاك يا رب كما لقيتك من قبل؟ أنا بحاجةٍ إليك، فقد أوفدني قومي إليك وأخشى أن يعلنوا العصيان عليك ويعودوا إلى العجل الذهبي، إنهم يحبون الذهب يا سيدي، ويقولون بالذهب نأخذ ما نريد، ولا نأخذ منك أنت وربك الأعلى إلا الكلام!
لا تؤاخذهم يا رب واغفر لهم.

(يواصل سيدنا موسى قرقشة الخبز، يتطلع بعينيه الكليلتين إلى السماء، إلى قمة جبلٍ عالٍ غارق في الظلام والدخان الأسود، يتحرك من وراء الدخان شبحٌ ضخمٌ غامض الملامح، السماء تزمجر بالرعد والبرق، تهبط بعض الأمطار الخفيفة، يلجأ سيدنا موسى إلى كهفٍ مظلم، يرقد داخله يتطلع إلى السماء، يواصل حديثه.)

سيدنا موسى : أعرف يا رب أنك غاضبٌ على قومك بني إسرائيل، لقد وقعوا تحت قبضة إبليس، إنه يوسوس لهم بالسلام، يقول لهم أعطوا الأرض مقابل السلام، هل هذا الكلام؟ إبليس وأنت تعرفه يا رب، إنه لا يؤمن بكلامك، يقول للناس إنك أنت الذي أمرت بهذه المذابح البشرية من أجل الأرض الموعودة، وأصبحت الناس تنصت لوسوسة إبليس، لقد تعبوا يا رب من الحروب المتتالية منذ إنشاء دولة إسرائيل، إنهم مستعدون للانسحاب من بعض المدن الصغيرة في الضفة الغربية مقابل السلام، لكن لا يزال بين قومي رجالٌ مخلصون لك حافظون لعهدك، ومنهم ابنك البار بينامين، أعطاه أبوه نتانياهو اسم النبي بنيامين ليكون مخلصًا لقومه إخلاص الأنبياء؛ أي الاستعداد لقتل البشر جميعًا من أجل تنفيذ كلمة الرب. إن كلمتك هي العليا، نحن نطيعك يا رب ونتلقى منك الأوامر، وليس من الأمم المتحدة أو أي أحدٍ من البشر، وإن كان رئيس الولايات المتحدة بيل كلينتون!

(تهدأ السماء قليلًا، وفي الطريق البعيد في الطرف الآخر من المسرح، يظهر سيدنا عيسى عليه السلام، يتقدم بخطوات الشاب الممشوق المملوء شوقًا لمقابلة أبيه «الرب الأعلى» بعد طول غياب، يتطلع نحو الجبل العالي الغارق في الظلمة والدخان وشبورة رمادية شبه سوداء، يتوقف قليلًا شاخصًا بوجهه نحو السماء، يحمل في يده اليسرى كتاب الإنجيل، يده اليسرى مرفوعة نحو أبيه فوق الجبل.)

سيدنا عيسى : يا أبي ألا يرق قلبك لابنك المطيع الذي أراق دمه فوق الصليب من أجل تنفيذ أمرك؟ لماذا تبخل عليَّ بهذا اللقاء؟ أريد أن أرى وجهك، أليس من حق الابن البار أن يرى أباه، ولو مرة واحدة في حياته أو في موته؟ لقد جئت يا أبي كل هذا الطريق الطويل الشاق أطلب منك العون. إن قومي يا أبي ضلوا السبيل؛ أصبحت الكنائس خالية إلا من النسوة والعجائز والأطفال، الرجال الأشداء والشباب انصرفوا إلى جمع الأموال، النساء من غير العجائز انضممن إلى حركات التحرير النسوية يسمونها «الفيمينست»، هذه كارثة يا أبي، هؤلاء النساء يؤلفن كتبًا خطيرة انتشرت بين الناس، لم يعد أحدٌ يقرأ كتابك الإنجيل، ولم تعد هناك دور نشر متحمسة لإعادة طبعه إلا بعض الدور الصغيرة في بعض الجامعات، ومن أجل التدريس فقط في قسم الدين أو قسم التاريخ، تصور يا أبي أن كتابك لم يعد إلا من مخلفات التاريخ القديم، لا يهتم به إلا الدارسون والنقاد، معظمهم نساء، أهلكوا كتابك نقدًا وأنت ساكت. هؤلاء النسوة أنت أمرتهن بالصمت، لم يكن يطلع لهن صوت، لو أمرتني أن أعود إليهم سألبي الأمر. جئت أطلب منك العون؟ لماذا لا ترد عليَّ يا أبي! آه يا أبتاه! يا أبتاه! إني أناديك، ابنك المعذب يناديك فهل تسمع النداء؟

(يدب الصمت في السماء، لا رعد ولا برق لا حركة واحدة لورقة شجرة، الهواء ساكن، السماء زرقاء بلون البحر بلا موجة واحدة، كتلة من الزرقة الصلبة الصماء، الأرض صفراء بلون رمال الصحراء الواسعة الممدودة تحت السماء، الكون كله ساكن سكون الموتى.)

(يركع سيدنا عيسى فوق ركبته، يمسك رأسه بين يديه وينشج بصوتٍ خافت مكتوم): آه يا أبتي آه، هذا العذاب أقسى من العذاب الذي عشته فوق الصليب. ناديت عليك يا أبي من فوق الصليب فلم ترد عليَّ، وها أنت تواصل صمتك غير المفهوم، آه يا أبتي كم أشتاق إليك، وإلى ذراعَي أمي، أريد أن أبكي فوق صدرها وأطلب منها المغفرة، كم قسوت إليها، كم تجاهلتها من أجلك يا أبي، مع أنها هي التي ولدتني وأرضعتني وحمتني من أعدائي، هي التي بقيت معي حتى آخر لحظة من حياتي، وبعد أن هرب الجميع من حولي، بعد أن تخلى عني الجميع بما فيهم أنت يا أبي، لماذا تركتني هكذا وفوق الصليب أنزف الدم حتى آخر قطرة، آه يا أمي! يا أماه اغفري ذنوب ابنك، لكني يا أمي لم أكن أدرك وجودك، لم أكن أسمع صوتك، كان أبي يأمرك بالصمت، ويتكلم هو بدلًا منك، وكنت أنا صغير السن أسمع كلام أبي، ولا أسمع كلامك، كان يقول لي لا تسمع كلام النسوة. نعم يا أبي أنت قلت لي هذا وأكثر من هذا، ومعي كتابك يشهد على كلامي، ها هو كتابك.

(يمسك سيدنا عيسى الإنجيل بين يديه المنتفضتين بالانفعال، يفرد صفحاته بأصابع طويلة مرتعشة، وتبدأ السماء في الزمجرة، يسمع صوت الرعد من فوق الجبل، تهبط الأمطار ويلجأ سيدنا عيسى إلى الكهف حمايةً من المطر، وهناك يجد سيدنا موسى قابعًا يحوط ركبتيه بذراعيه ويقرأ في التوراة، يتعانقان كالأخ يعثر على أخيه.)

سيدنا موسى : سمعتك يا أخي عيسى وأنت تطلب مقابلة ربنا الأعلى، هدئ من روعك، خذ اشرب قليلًا من الماء (يناوله القربة)، أنا أعرف كل شيء عن الكارثة التي تعيشها، وسوف ينصرك الله يا أخي على أعدائك النساء والرجال أيضًا، ولكن عليك بالصبر، لقد صبرت قرونًا طويلة فلماذا لا تصبر يومًا أو يومين، لقد طلبت أنا أيضًا مقابلة الرب الأعلى، أرسلت طلبًا بالفاكس إلى سيدنا رضوان عليه السلام.
سيدنا عيسى (في دهشة) : بالفاكس؟ أتظن أن هناك فاكس في الملكوت الأعلى؟
سيدنا موسى : بالطبع يا أخي. إن ربنا يملك شجرة المعرفة كلها، أتظن أنه لا يعرف الفاكس وغير ذلك من اكتشافات البشر؟! عليك يا بني أن ترسل طلبًا للمقابلة بالفاكس، وإلا فلن ينظر سيدنا رضوان في أمرك.
سيدنا عيسى : هل عندك رقم الفاكس؟
سيدنا موسى : نعم، ها هو (يُخرج من بين صفحات التوراة قصاصة ورق صغيرة كتب عليها رقم طويل جدًّا، ينقله سيدنا عيسى إلى مفكرةٍ صغيرة في جيبه).
سيدنا موسى : هذا الرقم سري لا تعطِه لأحد، أرسله إليَّ الله مع الملاك الطاهر وأنا راقدٌ في الكهف، وقال لي الملاك إن الله يخصك برقمه السري أنت وبني إسرائيل؛ لأنكم شعبه المختار.
سيدنا عيسى : أرجوك يا أخي موسى لا داعي لحكاية الشعب المختار هذه؛ لأن الله هو أبي، وأنا ابن الله وقومي هم شعب الله المختار.

(يشد سيدنا موسى الورقة من يد سيدنا عيسى غاضبًا قبل أن ينقل الرقم كله إلى مفكرته.)

سيدنا موسى : طيب يا أخي خلي أبوك يعطيك رقمه!
أنت دائمًا هكذا أنت وقومك تضربون اليد التي تقدم إليكم المساعدة.
سيدنا عيسى (بكبرياء) : أي مساعدة؟ نحن الذين نقدم إليكم المساعدات والمعونات. إن دولتكم كلها يا أخي لم تقُم إلا على أكتافنا؛ ألم نمدكم بالأسلحة لتقتلوا أهل فلسطين والعرب؟ حتى السلاح النووي الذي نحرمه على الجميع إلا أنتم ونحن؛ وكنتم مشردين في العالم فجعلناكم دولة مثل الدول الأخرى، رغم أن دولتكم لم تقُم إلا على إراقة الدم، ولا تزال تريق الدم رغم اعتراضاتنا، ماذا تريدون يا أخ موسى أكثر مما أخذتم؟ أتريدون الأرض الموعودة من النيل إلى الفرات؟! هذا طمعٌ وجشع زائدٌ على الحد!
سيدنا موسى : يا بني أنت شابٌّ غرير مغرور، تتصور أنك مركز الكون. إن دولتنا إسرائيل يا سيدي قامت بأمر الله وليس بأمر البشر. وإذا كنتم تساعدوننا فهذا من أجل مصالحكم في الشرق الأوسط؛ لولا وجودنا في المنطقة يا أخي لما أصبح لكم وجود فيها. هذا العراك يا بني بيننا لا فائدة منه لكم أو لنا؛ لن يستفيد منه إلا أعداؤنا المسلمون. خذ يا بني لقمةً صغيرة لا بد أنك جائع بعد هذا المشوار الطويل.

(يقرقشان معًا الخبز المقدد، ويردد سيدنا عيسى آية الإنجيل بصوتٍ خافت: «خبزنا كفافنا أعطنا اليوم، واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضًا للمذنبين إلينا، ولا تُدخلنا في تجربةٍ لكن نجنا من الشرير، لأن لك الملك والقوة والمجد إلى الأبد، آمين.»)

(في الطريق البعيد من الطرف الآخر للمسرح يظهر سيدنا محمد يسير بخطوةٍ وئيدة، ينظر أمامه، في يده كتاب الله القرآن، وفي اليد الأخرى سبحة، يحركها بين أصابعه بهدوء، يتقدم بضع خطوات ثم يتوقف يتفقد الطريق.)

سيدنا محمد : تغيرت معالم الطريق منذ سرت فيه آخر مرة، كل شيء يتغير ولا دوام إلا لله سبحانه وتعالى، كان هذا الطريق يقود إلى المدينة المنورة، وكان هنا كهف دلني الله إليه، ما إن دخلت الكهف حتى أمر الله العنكبوتة أن تسرع إلى الباب وتنسج فوقه خيوطها، جاء الكفار رأوا خيوط العنكبوت على الباب، فأدركوا أن الكهف لم يدخله أحد، ساروا في طريقهم، ما إن اختفوا حتى خرجت من الكهف، هكذا نجاني الله من الموت بسبب تلك العنكبوتة الصغيرة، لولا هذه العنكبوتة ما وصلت سالمًا إلى المدينة المنورة، وما قامت دولة الإسلام. سبحان الله مالك السماوات والأرض لا شريك لك، تعرف ما في الصدور، وتعرف لماذا جئت إليك اليوم يا رب أطلب العون، كانت دولة الإسلام والعرب تمتد من بلاد الفرس إلى ما بين النهرين إلى الشام ومصر وبلاد المشرق حتى بلاد المغرب إلى الأندلس في إسبانيا، لكن أحوال المسلمين ساءت، وحكوماتهم فسدت وتقلصت دولة الإسلام، ولا تزال تتقلص، وأخشى أن تنتهي تمامًا من فوق الأرض. أصبح المسلمون والعرب في مؤخرة البلاد، يسمونها البلاد المتخلفة، مع أن حضارة الغرب قامت على حضارتنا. وقد منحت يا رب أمتنا العربية خيرات كثيرة؛ فهي خير أمة أُخرجت للناس كما ذكرت في كتابك الكريم. وأهم هذه الخيرات هو البترول بالطبع، لكن هذا البترول تحول من سلاحٍ في أيدينا إلى سلاحٍ في يد أعدائنا. إبليس يوسوس في آذان الناس ويقول لهم أين ربكم الأعلى يا معشر المسلمين؟! لماذا ينتصر عليكم اليهود والنصارى في كل المعارك، معركة وراء معركة تنهزمون وتضيع الأرض والمال والبنون، مع أنكم أكثر الناس تمسكًا بدينهم، وتمسكًا بالأخلاق والفضيلة، ونساؤكم صالحات محجبات، أما النساء النصارى واليهود فهن كاسيات عاريات، أعوذ بالله، لم يصل الفساد في بلادنا إلى هذا الحد. وقد جئت إليك اليوم يا رب أطلب المشورة في مشكلةٍ حادة لا تقبل التأجيل؛ هذه الأسرة المالكة لأرض الحجاز، بني سعود، هؤلاء اشتد فسادهم في الأرض؛ إن ملكهم يطلق على نفسه اسم خادم الحرمين الشريفين، إلا أنه لا يخدم إلا نفسه. حتى القبر الذي دفنوني فيه أصبح مهملًا، هناك جدار يوشك على السقوط، مع أنه لا يكف عن بناء القصور لنسائه وأولاده. وهو يجمع الأموال من الحجاج لبيت الله الحرام، ومن عوائد البترول، ويودعها باسمه في بنوك النصارى واليهود. إنه يتفاوض مع اليهود والنصارى سرًّا، يتآمر معهم ضد المسلمين، ثم يذهب إلى الجامع ليصلي دون وضوء. إنه يا رب يشوه صورة الإسلام في العالم، ويقول إنك الذي منعت النساء من قيادة السيارات، وإنني قلت في حديث؛ وأنا لم أقل هذا، ولم تكن السيارات قد اكتُشفت بعد على أيامي، وكانت النساء تركب الإبل، وما الفرق بين الإبل والسيارات يا رب؟! على الأقل السيارة لها سقف يحمي المرأة من العواصف والأمطار وقطاع الطرق، لكن الإبل بلا سقف. وقد انتهز إبليس الفرصة وراح يوسوس في آذان النساء، لكن النساء في بلادنا لا ينصتن لوسوسة الشيطان، إنهن صالحات فاضلات ولسن مثل نساء اليهود والنصارى.
المشكلة في بلادنا يا رب هم الملوك؛ إن الملوك إذا حكموا قرية أفسدوها، وقد زرت ملك السعودية في نومه، وقلت له: اسمع يا فهد. إن الله ينهاك عن الفساد، أنت تكتنز الذهب الفضة والمسلمين. لكنه في الصباح غيَّر الحلم، وقال إنني زرته في المنام لأبلغه أنَّا راضون عنه وعن أعماله، وأنني قلت له الصلح خير مع بني إسرائيل؛ فهم أهل الكتاب وقد أرسل الله التوراة والإنجيل هدى للعالمين! وقد جئت إليك يا رب أطلب العون ضد طغيان هذا الملك السعودي، والذي جعل من بلاده قاعدة عسكرية لجيوش الأعداء ضد المسلمين، وأخشى على أمتي الانقراض.

(يجلس سيدنا محمد على صخرةٍ صغيرة، يبدو عليه الإعياء من طول الطريق الشاق، يتيمم بالرمال، ثم يقف بين يدي الله يصلي، يركع ويسجد أربع ركعات وسجدات ثم يجلس، يحرك حبات السبحة بين أصابعه، وهو صامتٌ شاخص نحو السماء.)

(في الكهف سيدنا عيسى وسيدنا موسى جالسان، يتابعان من بعيدٍ سيدنا محمد بعد أن استمعا إلى كل ما قال.)

سيدنا موسى : أتصدق أن الله قال لهم إنهم خير أمة أخرجت للناس؟ هذا كذب وافتراء على الله، وانظر ماذا قال عن اليهود والنصارى. هذا الرجل هو العدو الخطير، علينا القضاء عليه قبل أن يقضي علينا.
سيدنا عيسى : يا أخي موسى اهدأ ولا تجعل الغضب يسيطر عليك. إن محمدًا يعترف بنا وأننا أهل الكتاب، يؤمن أن التوراة والإنجيل هي كتب الله، وهو أفضل من غيره الذين ينكرون التوراة والإنجيل تمامًا، ويمكن التفاوض معه.
سيدنا موسى : نتفاوض معه؟ على ماذا يا أخ عيسى؟ نحن في غير حاجةٍ إليه ولا إلى قومه المسلمين، إنهم الآن بلا حول ولا قوة، لا أموال عندهم ولا أسلحة ولا علوم ولا تكنولوجيا.
سيدنا عيسى : لكننا في حاجةٍ إليه يا موسى.
سيدنا موسى : ما فائدته؟
سيدنا عيسى : سوف يكون معنا ضد إبليس لا شك؛ فأنا أعرف أن إبليس يعرف بلقائنا هنا، لا شيء يخفى عليه، قد يستطيع أيضًا أن يحظى بمقابلة أبي، وأنا أعرف أن أبي يحرص على وجود الشيطان دائمًا، لا يتصور أبي الكون بدون شيطان.
سيدنا موسى : لماذا يا أخي؟
سيدنا عيسى : عليك أن تسأله هو هذا السؤال، فهذا الإبليس أنا أتمنى له الموت إلا أنه لا يموت أبدًا، إنه يعيش، نحن الذين متنا وشبعنا موتًا.

(السماء تبدأ في الزمجرة، في الطريق البعيد يظهر إبليس قادمًا بحركته الشابة النشيطة. سيدنا محمد ينهي الصلاة حين يبدأ المطر يتساقط فوق رأسه، يلم ملابسه من حوله ويسرع باحثًا عن مكان يلجأ إليه، يعثر على الكهف، يرحب به سيدنا عيسى، وسيدنا موسى يظل صامتًا.)

سيدنا عيسى : يا أخ محمد، أنت في أمانٍ هنا مع أخويك عيسى وموسى.
سيدنا محمد : أهلًا بك يا أخ عيسى ابن السيدة الطاهرة مريم، لك عندنا معزة كبيرة، وأنت أيضًا يا أخ موسى لقد ذكر الله اسمك في القرآن مائة وثلاثين مرة.
سيدنا موسى : مائة منها لعنات بالطبع.
سيدنا عيسى : انظروا من القادم؟ إنه إبليس!
سيدنا محمد : وهناك امرأتان تقبلان من الطريق الآخر، من هما؟
سيدنا موسى : واحدة منهما تشبه حواء، والأخرى لا أعرفها.

(من الناحية الأخرى للمسرح تظهر بنت الله وحواء، تسيران معًا قامتهما متقاربة طويلة ممشوقة، إلا أن وجه بنت الله لفتاةٍ صغيرة في الثامنة عشرة، ووجه حواء امرأة ناضجة شابة في الأربعين.)

(يختبئان وراء شجرة تين شوكي حين يريان إبليس من بعيد … إبليس واقفٌ شاخص إلى الجبل حيث الرب الأعلى المختفي وراء السحب والدخان.)

إبليس : أنا خلاص يا رب تعبت من الوسوسة في آذان الناس، قررت أخيرًا أن أقدم استقالتي إليك. لقد وجدت عملًا آخر يدر عليَّ أموالًا كثيرة؛ فهذا العمل الذي أوكلته إليَّ يا رب قد أهلكني، ولم آخذ منه إلا اللعنات؛ لهذا كتبت استقالتي، كان يمكن أن أرسلها إليك بالفاكس، لكني آثرت المجيء بنفسي إليك، لنتصافح وننسى هذا الماضي البغيض الذي جعلتني فيه عدوًّا لك.
(يُخرج إبليس من جيبه ورقة يقرؤها):

أنا الموقع أدناه باسمي إبليس الشيطان، والذي كان في الأصل «لوسيفر» حامل النور، وهو الاسم الذي أعطته لي أمي، أعلن أنني أستقيل من المنصب الذي وضعني فيه الرب الأعلى، وهي استقالة مسببة إن شاء الرب أن يفحص الأسباب، وكل ما أطلبه من الله، أن يبحث عن شيطانٍ آخر.

إمضاء لوسيفر
ينادي إبليس : يا أخ رضوان، يا حارس الجنة، بلغ رئيسك الأعلى أنني أريد مقابلته دقائق. أنا أعرف أنه مشغول، وأرى اللمبة الحمراء معلقة على بابه، لكن أخبره أن إبليس الشيطان يطلب لقاءه للمرة الأخيرة، بعد ذلك لن تروا وجهي، هذه استقالتي!

(حواء وبنت الله تتوقفان عن السير، يراهما إبليس فيُقبل نحوهما مُرحِّبًا.)

إبليس : أهلًا حواء، وأنتِ لا أعرفك يا فتاتي من أنتِ؟
بنت الله : أنا بنت الله.

(يتلقى إبليس هذا الاسم بدهشةٍ شديدة، لكنه يضحك بشدةٍ ويخبط كفه بجبهته.)

إبليس (ضاحكًا) : هذا أجمل اسم أسمعه، من أعطاك هذا الاسم الجميل يا فتاتي؟
بنت الله : المؤلفة.
إبليس : يا لها من امرأة! أنا إبليس لم يخطر لي أبدًا أن الله يمكن أن يلد البنات. لقد أعلن في كتابه التوراة أنه ليس عنده إلا الأولاد الذكور، الذين تزوجوا بنات الناس بعد أن رأوا أنهن حسنات. هل قرأت هذه الآية في التوراة يا فتاتي؟
حواء : إن هذا التاريخ الوارد في التوراة كله مغلوط؛ فأنا حواء بلحمها ودمها، وأمي ولدتني في الحقل، وكانت تزرع حين أحست آلام الولادة، فما هذه القصة المغلوطة عن زوجي آدم الذي ولدني من ضلعه؟! كانت أمي قد زرعت في وسط الحقل شجرة تفاح، أراد ربك الأعلى أن يستولي على الثمار وحده، تعاون مع زوجي على طردي من الحقل، حرضه على خيانتي مع امرأةٍ أخرى مقابل بعض المال، أشاع أن الشجرة مقدسة، من يأكل منها يموت، أكلت منها كثيرًا دون أن يصيبني شيء، هل يموت أحد من أكل التفاح يا إبليس؟
إبليس : التفاح يا سيدتي ألذ الثمار، إنه يشرح القلب ويشفي المرض، وكم تسللت في الليل، وسرقت الثمار من فوق الشجرة، دون أن يراني الرب الأعلى.

(هنا بدأت السماء تزمجر بالبرق والرعد والمطر، وظهر سيدنا رضوان من فوق قمة الجبل، يظهر بالتدريج من وراء السحب والدخان.)

سيدنا رضوان : يا أهل الأرض، تعطَّف جل جلاله ربكم الأعلى وسمح لكم باللقاء معه. ليس عنده وقت كي يقابلكم واحدًا واحدًا، فهل تصعدون جميعًا في وقتٍ واحد؟! وصلتني أسماؤكم كلها بالفاكس، وكان مزاج سيدي رائقًا، كان يشرب الشاي بالنعناع بعد وجبةٍ دسمة من الضأن المشوي. بالمناسبة هل أتيتم بذبائح؟! إن سيدي لا يقبل إلا الضأن، أو الكندوز الصغير أو البتلو، أما الذبائح الأخرى فهو لا يقبلها، ومن لم يأتِ بذبائح فليعُد من حيث أتى، ليس عندنا وقت لمن يأتون بأيادٍ فارغة!

(يتقدم سيدنا موسى): نعم يا أخ رضوان، أنا جئت بخروفٍ من النوع الذي يحبه سيدك الأعلى.

(يتقدم وراءه سيدنا عيسى): إنه أبي يا أخ رضوان، لا يطلب الأب من الابن أي ذبائح.

سيدنا محمد : وفي كتابه القرآن الكريم لم يطلب الله منا أي ذبائح يا أخ رضوان، وها هو الكتاب في يدي.
حواء : وأنا امرأة فقيرة وسيدك الأعلى يقول إنه مع الفقراء.
بنت الله : وهو أبي الإمام تزوج أمي ومعي الدليل المادي.
إبليس : وأنا إبليس يا رضوان، لا يمكنك أن تمنعني من الدخول، لا أريد شيئًا إلا الاستقالة من منصبي.

(في تلك اللحظة يأتي سيدنا إبراهيم بخطًى سريعة، يلحق بالموكب الداخل إلى مقابلة الرب الأعلى.)

سيدنا إبراهيم : وأنا يا رضوان أبو الأنبياء جميعًا، وجئت في مهمةٍ عاجلة أود إنجازها قبل أن أموت.

(يدخل بعد سيدنا إبراهيم عددٌ من الرجال والنساء والأطفال من الشعب العادي، يدخلون ولا يستطيع سيدنا رضوان أن يغلق الباب أمام أعدادهم الكبيرة.)

المشهد الثاني

(الرب الأعلى جالسٌ على العرش العالي يشبه عروش الأباطرة، الكرسي الذهبي المذهب والفراش الوثير، والأرائك المريحة تتدلى فوقها عناقيد العنب، عرشٌ فاخر من الأبهة، وصاحب العرش يرتدي ملابس الأباطرة، من حوله الجنود واقفين صفًّا صفًّا، أحد الجنود يمسك مروحة من ريش النعام يهوي بها على رأس صاحب العرش، على البعد هناك بحيرة من الماء وجداول، وأنهر من الخمر وفتيات عذراوات حسناوات جمالهن فائق مثل الحور العين في الجنة، إلا أننا لا نرى هؤلاء الفتيات إلا من بعيد جدًّا، ومن وراء ستائر شفافة السحب والدخان، وكذلك نرى ثمار الفاكهة حمراء اللون تتدلى من الشجرة الكبيرة.)

(الأرض مفروشة بسجادٍ سميك من النوع العجمي، يجلس عليه البشر الذين دخلوا لمقابلة الرب الأعلى. عن يمين العرش يقف سيدنا رضوان الذي يتولى الرد على الأسئلة نيابةً عن صاحب العرش، إلا إذا أشار له سيده بيده فيصمت تمامًا، ويتولى الرب الأعلى الإجابة بنفسه.)

(الصمت يدب والمشهد فيه رهبة كبيرة، يتربع سيدنا موسى على الأرض في أدبٍ جم إلى جواره سيدنا عيسى، إلى جواره سيدنا محمد، ثم سيدنا إبراهيم، بنت الله وحواء تجلسان في الناحية الأخرى، إلى جوارهما إبليس، والإلهة إيزيس، ومريم العذراء، لا يسمع إلا صوت مروحة ريش النعام في يد الجندي، تتحرك برقةٍ تطري الهواء حول رأس صاحب العرش، ثم يسمع صوت دقات مطرقة، ثلاث دقات، تعلن بدء الجلسة، كأنما هي محكمة.)

سيدنا رضوان : من فيكم يريد أن يبدأ، ونرجو الاختصار مع التركيز؛ لأن وقت سيدي الأعلى ضيق.

(يتهامس سيدنا موسى وعيسى ومحمد وإبراهيم.)

سيدنا محمد : تقدم يا سيدنا إبراهيم أنت أبونا جميعًا، ولا يحق للأنبياء أن يتكلموا قبل الأب.

(ينهض سيدنا إبراهيم ويقترب من العرش في خشوع.)

سيدنا إبراهيم : يا سيدي الرب إن ضميري يعذبني، وأخشى أن أموت قبل أن أفصح عما في نفسي، لقد فعلت في حياتي كثيرًا من المظالم، وكلها تنفيذًا لأوامرك، قتلت ونهبت أراضي الناس دون وجه حق، لكني آمنت بك وبنيت لك المذبح والبيت، وجعلت سارة زوجي تذبح لك عجلًا كلما جئت إلى بيتنا، وتضع لك خبزًا من دقيقٍ وسمن، ونضع الشحم على النار لتشم منه رائحة الشواء، وجعلنا لك بساطًا من أبرشيم دقيق الصنعة، كما طلبت منا خوانًا من خشب الشمشاد، وكنت أقف أمامك وأنت تأكل تحت الشجرة، وأنتقي لك الحسناوات الحور لأنك كنت تغضب وتقول:
ما لكم تُقربون إليَّ كل عرجاء وعوراء؟! نعم يا سيدي نفذت أوامرك بالحرف، وكنت أحيانًا أراجعك عن القتل، وأسألك أتقتل الآلاف لأن رجلًا واحدًا منهم لم يعبدك؟ لكنك لم تسمع كلامي، كنت تسمع نفسك فقط، تعبد ذاتك، وتجعلنا عبيدك، تفرض علينا الطاعة العمياء دون سؤال. أعطيت نفسك الحق أن تفعل أي شيء، وكان يجب أن تُلزم نفسك بالعدل، وتُلزمني بالعدل، أنا رسولك إلى الناس، لكنك جعلت مني قاتلًا بلا ضمير وخائنًا بلا أخلاق، أمرتني أن أُلقي زوجتي الحبيبة هاجر وطفلي إسماعيل في الصحراء، لتأكلهم الضباع أو يموتوا من الجوع والعطش، لم ترحم امرأة فقيرة ومولودها الصغير من أجل مساندتك لسارة زوجتي الأولى، هي التي أشارت عليَّ أن أتزوج جاريتها هاجر، قالت لي: أنا امرأة عاقر عجوز، وأنت في حاجةٍ إلى نسلٍ يخلفك، ثم نهشتها الغيرة بعد أن تزوجت هاجر، وأنجبت ابني إسماعيل. وقد أمرتني أن أنفذ رغبة سارة، وأُلقي هاجر وإسماعيل في العراء، وكنت أعرف أنك ظالم، وأنك تقف بجانب سارة لأنها تملك الكثير من رءوس الضأن، وتذبح لك حين تأتي إلينا وتخبز الدقيق والسمن، تفرش البساط من أبرشيم والخوان من خشب الشمشاد؛ لكن هاجر الجارية لم تكن تملك شيئًا، وقد غضبت عليها لمجرد أنها فقيرة، كما غضبت على قابيل ابن أبي الكبير آدم، حين قدم لك من ثمار الأرض قربانًا، فأشحت عنه بوجهك، ونظرت إلى أخيه هابيل الذي قدم لك من أبكار غنمه ومن سمانها، واغتاظ قابيل وسقط وجهه. يا سيدي أنت زرعت الحقد بين الأخوين الشقيقين، لمجرد أن أحدهما يقدم لك الغنم، والآخر لا يملك منها شيئًا، الاثنان قربا إليك القربان، فتقبلت من أحدهما ولم تتقبل من الآخر، قتل الأخ أخاه بسبب ما فعلت يا سيدي، أنت مسئول عن هذه الجريمة، لكنك ألصقتها بقابيل الفتى المسكين الذي لم يكن إلا أداة لك، وهذه الأرض الموعودة يا سيدي التي روتها الدماء البريئة، ولم يكف من أجلها سفك الدماء حتى اليوم، هل تتابع يا سيدي أخبار العالم اليوم؟ ألا تؤرقك هذه الدماء المسفوكة باسمك وباسم أرضك الموعودة بإبراهيم ونسله من بني إسرائيل؟ مقابل ماذا وعدتني بهذه الأرض يا سيدي؟ أيمكن أن ترد عليَّ بكلمةٍ واحدة قبل أن أموت؟! أرجوك تكلم، أسعفني فالعالم كله يأكل وجهي، وضميري ينخس مثل الإبرة في صدري؛ فأنا لا أعرف ما هو السبب وراء هذه الأرض الموعودة، وما هو ذلك العهد الذي كان بيننا يا سيدي؟ أكان عهدًا سريًّا؟ لماذا لا تتكلم؟! هذه محكمة علنية أمام الناس، وأنا أريدهم أن يحكموا بيننا بالعدل، من المسئول عن سفك هذه الدماء أنا أم أنت؟ ومقابل ماذا وعدتني بهذه الأرض، أهي رءوس الغنم ولحم الضأن المشوي يا سيدي؟!

(هنا يرفع الرب الأعلى يده علامة الاعتراض، يبدو على ملامح وجهه شيء من الغضب، لكنه غضبٌ محكوم يتناسب مع السيادة العليا.)

الرب الأعلى (بغضبٍ بارد) : لا! كفى! أسكتوه!

(يصمت سيدنا إبراهيم راكعًا فوق الأرض. يدب الصمت في المكان، لا يُسمع إلا صوت مروحة ريشة النعام. أحد الجنود يمسح العرق من فوق جبهة الرب الأعلى بقطعةٍ معقمةٍ من الشاش المغموس في ماء الكولونيا داخل قنينةٍ من الفضة.)

(أحد الموظفين في البلاط يجري بسرعةٍ حاملًا كتب الله الثلاثة إلى سيدنا رضوان عليه السلام، يفتح رضوان الكتاب الأول وهو التوراة، يشرب قليلًا من الماء من إناءٍ بلُّوري، يتنحنح ثم يقول بصوتٍ رخيم هادئ كصوت القضاة من البشر، في يده مطرقة لها رأس ذهبي يشبه رأس «الكوبرا»، يدق بها على منضدةٍ من الفضة أمامه، حين تسري الهمهمة والهسيس بين الناس؛ فقد دخل إلى القاعة بعض المارة في الطريق من الفقراء والفقيرات الساعين إلى أعمالهم، منهم فلاحون وفلاحات وعمال وعاملات مصانع وجنود وطلبة ومومسات، وحلاقوا صحة ممن يمارسون عمليات الختان وأطباء ممن يمارسون عمليات الإجهاض، وأصحاب بنوك ومرابين وتجار ووزراء في حكومات ورؤساء دول، وغير ذلك من المهن المعروفة المختلفة، كلهم جالسون على البساط العجمي فوق الأرض. قد نلمح بعض الوجوه المعروفة في التاريخ من كبار الفنانين أو الفنانات من الأموات والأحياء، وكذلك ملوك وأباطرة ورؤساء دول من الموتى ومن المعاصرين، منهم الملك فاروق ملك مصر، أنور السادات، أبو الهول، رونالد ريجان، جورج بوش، كليوباترة وأنطونيوس، نفرتيني وإخناتون، أم كلثوم مطربة الشرق، رابعة العدوية، كارل ماركس، سيجمون فرويد … وغيرهم من الرجال والنساء المعروفين في الشرق والغرب. نرى أيضًا «حواء» وبنت الله وسط هذه الوجوه، وهما جالستان متجاورتان ضمن الصفوف الأمامية. تسري الهمهمة بين الناس. تقرب حواء رأسها من بنت الله.)

حواء : أتعرفين مقابل ماذا وعده بالأرض؟
بنت الله : مقابل ماذا؟

(يدق سيدنا رضوان بالمطرقة لإيقاف الهمهمة بين الناس.)

(يدب الصمت.)

سيدنا رضوان : سيدي الأعلى قد أنابني عنه لأتولى عنه الرد على السيد إبراهيم، وحسب توجيهات السيد الرئيس سأقرأ عليكم من كتابه الكريم التوراة النص الخاص بالأرض الموعودة للسيد إبراهيم؛ ذلك أن هذه المحكمة هي ساحة العدل الأعلى لا تعلوها ساحة، ولا يمكن الحكم دون الرجوع إلى النصوص المقدسة في الكتب السماوية.

(يرتدي سيدنا رضوان نظارة النظر، لها سلسلة ذهبية تتدلى فوق صدره، يشرب قليلًا من الماء.)

سيدنا رضوان (يفر الصفحات في كتاب التوراة) : نعم أيها السادة، إني أبحث عن هذه الآية الخاصة بأرض الميعاد، نعم، ها هي: «ويقول الرب لإبراهيم: أنا الرب أعطيك هذه الأرض لترثها لنسلك، أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير الفرات.»

(يمد سيدنا رضوان يده إلى الكوب ويشرب قليلًا من الماء. أحد الوجوه في القاعة من الجمهور، يضع له عين واحدة والعين الأخرى مغطاة بغطاءٍ أسود مستدير، يرتدي بدلة عسكرية، يفرك يديه في سعادةٍ ويهمس في أذن جاره، له وجه بنيامين نتانياهو رئيس حكومة إسرائيل.)

الرجل ذو العين الواحدة (في سعادة) : أرأيت يا بنيامين! أمامنا حربٌ كبيرة لإبادة شعب مصر وشعب العراق! كلمة الرب الأعلى مقدسة في كتابه التوراة، ونحن يا سيدي قصرنا في حق الرب، ولم نصل إلا نهر الأردن، مع أنه أعطانا الأرض من النيل إلى الفرات!
بنيامين نتانياهو (يهز رأسه بالإيجاب) : نعم نعم، معك حق يا شيمون.

(في الصف أمام بنيامين نتانياهو يجلس رجل أمريكي له وجه بيل كلينتون رئيس الولايات المتحدة، يستدير بنصف رأسه إلى الوراء ويخاطب بنيامين بصوتٍ هامس.)

بيل كلينتون : أرجوك يا بنيامين، أرجو أن تؤجل كل شيء أسبوعين فقط، حتى أنتهي من المعركة الانتخابية، هذا الرجل «بوب دول» لا بد من الانتصار عليه، وإن ساعدتني اليوم أساعدك غدًا، ونحن إخوة.

(يدق سيدنا رضوان بالمطرقة فيسود الصمت في القاعة، يرتفع صوت فتاة صغيرة من وسط الناس.)

صوت الفتاة : هذه الأرض كلها من النيل إلى الفرات، أعطاها ربنا لبني إسرائيل، لماذا؟

(ترتفع أصوات فتيات وأطفال ونساء ورجال في القاعة الكبيرة، ويقولون في نفسٍ واحد.)

صوت الجمهور : لماذا؟ لماذا؟ ليه؟ ليه!

(يدق سيدنا رضوان بالمطرقة بشدة.)

سيدنا رضوان : لأنهم شعب الله المختار، وها هو سيدي الأعلى ينص على ذلك في كتابه التوراة.

(يرفع سيدنا محمد يده وهو جالسٌ في الصف الأمامي مع الأنبياء والشخصيات الهامة، ينهض واقفًا ليتكلم دون أن يأذن له سيدنا رضوان بالكلام.)

سيدنا محمد : يا سيدنا رضوان، شعب الله المختار ليس هم اليهود، نحن العرب خير أمة أخرجت للناس، هذا هو النص في القرآن الكريم.

(سيدنا رضوان يترك التوراة، يمسك كتاب القرآن، يفر الصفحات، يتوقف عند صفحةٍ يقرأ منها.)

سيدنا رضوان : لا يا سيد محمد، انظر في القرآن تجد أن الله يقول لبني إسرائيل: إني فضلتكم على العالمين، لم يقلها مرةً واحدة بل عدة مرات، راجع القرآن يا سيد محمد.
سيدنا محمد : نعم يا أخ رضوان، أعرف أن الله ذكر ذلك في القرآن، فإن بني إسرائيل من أهل الكتاب مثل النصارى، إنهم مؤمنون بالله وليسوا مثل الكفرة عبدة الأوثان. وقد طلب الله منا أن نؤمن بكتبه الثلاثة، أنزلها جميعًا هدى ونورًا للعالمين، لكني أنا آخر الأنبياء، والقرآن هو كلمة الله النهائية، وقال الله لنا نحن خير أمة أخرجت للناس، وقد تمرد اليهود كثيرًا على الله سبحانه وتعالى، وعبدوا آلهةً آخرين منهم العجل.

(تسري ضحكاتٍ مكتومة في القاعة بين الجمهور، خاصةً بين الأطفال وتلاميذ المدارس والتلميذات، وكان لهم ركن بعيد في القاعة.)

أحد الأطفال (يضحك بشدة) : العجل؟ معقول؟!

(سيدنا رضوان يدق بالمطرقة.)

سيدنا رضوان : يا سيد محمد أنا لم أعطِك الإذن بالكلام، أرجوك انتظر دورك، الكلمة الآن للسيد موسى، تفضل يا سيد موسى.

(قبل أن يتكلم سيدنا موسى ترفع «بنت الله» يدها، وتتكلم بعد أن تنهض من مكانها.)

بنت الله : لم نعرف الرد يا سيدنا رضوان على حكاية هاجر وطفلها إسماعيل، وأيضًا حكاية الأرض من النيل إلى الفرات، ولماذا أمر الله بني إسرائيل أن يقتلوا كل السجينات غير العذراوات من شعب كنعان وفلسطين، ثم يوزعوا السجينات العذراوات على الجنود لاغتصابهن جنسيًّا؟!

(يدب الصمت في القاعة، يُطرق الجمهور في حياء، تسري همهمة وهسيس بين الجالسين والجالسات، تنهض حواء وتتكلم.)

حواء : يا سيدي رضوان هذا الطفل إسماعيل وأمه هاجر لقيا الأهوال في الصحراء، حتى وصلا المدينة واشتغلت هاجر في الأرض وشقيت لتعول ابنها، لكن ما إن كبر الابن حتى عاد إليه أبوه إبراهيم يريد انتزاعه من أمه بالقوة، رفضت الأم ورفض الابن، فإذا بربك الأعلى يأمر إبراهيم أن يذبح ابنه، ألم تكن عندك وسيلة لإرضاء ربك يا إبراهيم سوى ذبح ابنك؟

(يرفع سيدنا إبراهيم رأسه المطرق بين ركبتيه، تبدو عليه الشيخوخة والإعياء.)

سيدنا إبراهيم : كان الرب يطلب منا ذبائح، في كل مرة نطلب منه مساعدة لا بد أن نقدم له ذبيحة، كان الرب يبتهج برائحة لحم الضحية، كان الفقراء الذين لا يملكون الأغنام والعجول يذبحون أولادهم وبناتهم خشية غضب الرب، ثم أصبح الكبش أو الخروف يُذبح بدلًا من الابن أو الابنة، وقد أمرني الله بذبح ابني إسماعيل، سألته لماذا يا رب؟ هذا كبش أقدمه لك بدلًا من ابني، غضب الله غضبًا شديدًا، وقال لي ألا تعطيني يا إبراهيم وأنا ربك الأعلى الذي أعطاك الأرض؟!
وخشيت أن يأخذ مني الأرض بل خشيت أن يقتل ابني إذا أنا لم أذبحه.

(يمسك سيدنا إبراهيم رأسه بين يديه ويبكي بصوتٍ مكتوم.)

سيدنا إبراهيم : آه يا ربي كم كنت قاسيًا، قلبك من حجرٍ، لم تكن ترحم دموعي يا رب، أرجوك يا سيد رضوان اسأله لماذا كان قاسيًا إلى هذا الحد؟! لماذا لم يكن يهدأ إلا حين يرى الدم المراق؟ إن زوجة موسى يا سيد رضوان رأت الرب غاضبًا، يريد قتل زوجها موسى، مع أن موسى كان مطيعًا للرب أكثر مني، ولم يكن يسأله مثلي أي سؤال، زوجة والرب غاضب، تريد أن تحمي زوجها، قال لها موسى إن ربنا عصبي المزاج لا بد له أن يرى الدم ليهدأ، ولم يكن مع الزوجة في تلك اللحظة أي خروفٍ أو عجل أو حتى فرخ صغير، فأمسكت ابنها وقطعت غرلته، سال الدم وتراجع الرب عن قتل موسى وهدأ.
بنت الله : عملية الختان جريمة في حق الإنسان يا سيدنا رضوان، أرجوك أن تسأل سيدك الأعلى لماذا فرضها على شعبه المختار، وقال إنها مقابل الأرض، هو يعدهم بالأرض وهم يعدونه بالختان، ما علاقة الأرض بقطع جزء من جسم الإنسان؟!
سيدنا رضوان (في ضيق) : أنا لم آذن لك بالكلام، أرجوكِ انتظري دورك.

(هنا يرفع الرب الأعلى يده بحركةٍ بطيئة، يشير إلى سيدنا رضوان بالسكوت، ثم يتكلم هو بصوتٍ يشبه صوت الرعد الخافت له نبرة معدنية غير بشرية.)

الرب الأعلى : الختان عملية لإثبات الطاعة لي والخضوع، إنها واجبةٌ على كل عبيدي.

(يدب الصمت لحظة، ثم تبدأ الهمهمة، أكثر الحاضرين لا يقتنعون بالإجابة، أصوات زمجرة بين الناس، خاصة الأطفال الذكور، أحدهم يبكي بصوتٍ مكتوم ويخفي وجهه بيديه، الطفل إلى جواره يهمس في أذن الطفل الآخر.)

الطفل : حلاق الصحة طاهره بالموس، وقطع الرأس كلها مش الجلد بس!
الطفل الآخر : الجرح بتاعي قعد ينزف وكنت هاموت، ونمت في السرير أسبوعين مش قادر أمشي.

(سيدنا رضون يدق بالمطرقة فيسود الهدوء.)

بنت الله : أتقطع أجزاء من أجسام الأطفال لمجرد إثبات الطاعة والخضوع؟! ألهذا الحد تبلغ عبادة الذات يا ربي؟

(يسود بعض الغضب في القاعة، يدق سيدنا رضوان على المطرقة، يتحرك بعض الجنود المسلحين لحفظ النظام، يعود الهدوء والسكون.)

سيدنا إبراهيم : نحن يا رب نعبدك ونصلي لك وأنت لا تعبد أحدًا، أنت تعبد ذاتك وهذا حقك يا رب، ومن حقك أن تفعل ما تشاء دون أن يسألك أحد، لكن إذا أعطيت نفسك هذا الحق فلا بد أن تلزمنا بالعدل، لكنك أمرتنا بالقتل والخيانة الزوجية. إذا كنت ستحرقني في النار يا سيدي أحرقني، فهي أفضل لي من هذه النار التي تنهش قلبي وضميري.

(يسقط سيدنا إبراهيم مغشيًّا عليه، يحوطه بعض الجنود يحملونه خارج القاعة، يسود الهرج، لكن النظام يعود مع دقات المطرقة.)

سيدنا رضوان : الكلمة الآن للسيد موسى.

(كان سيدنا موسى جالسًا مطرقًا حزينًا، يرفع رأسه في بطء وإعياء، ينهض في شيءٍ من التثاقل والتردد، يتلعثم قليلًا في الكلام، يختار كلماته بحذرٍ شديد.)

سيدنا موسى : يا سيدنا رضوان أنا جئت في الأصل لأسأل الله عن وعده لنا بالأرض من نهر مصر إلى نهر الفرات، وأنه لم يحقق لنا إلا أرض فلسطين ليس كلها، وهناك أجزاء لا زلنا نتقاتل من أجلها كل يوم، ولا تكف الحرب التي نالنا منها الكثير، والتي لم يكن لنا أن تنتصر فيها على جيوش العرب والمسلمين، لولا عون الله ربنا الكريم، والمعونات العسكرية والمالية من الدول الصديقة والشعوب الطيبة المؤمنة بالكتاب المقدس، وهو يجمع العهد القديم والعهد الجديد وكلاهما عهود الله ربنا العظيم، والله إذا وعد وفى بالعهد وإلا فما الفرق بين عهد الله وعهد البشر. لكن كلام أبي إبراهيم قد فتح عيني على أشياء لم أعرفها، وذكرني بمآسي عشتها أنا وزوجتي، وكنت أطيعه طاعةً عمياء بلا سؤال، وقد أمرني الله أن أعود إلى مصر لأظهر سحري أمام فرعون، وبينما أنا ذاهبٌ إليه في الليل لأنفذ أمر ربي، إذا بربي يحاول قتلي في الظلمة، ولم أعرف لماذا يقتلني من وراء ظهري وأنا أنفذ أوامره.

(يحرك الرب الأعلى يده في غضبٍ مشيرًا إلى سيدنا رضوان، يتوقف سيدنا موسى عن الكلام.)

الرب الأعلى : يا موسى أنت أغضبتني؛ لأنك كنت تناقشني وحاولت الهرب وعدم تنفيذ أمري، ثم أنا يا موسى ربك الأعلى، أنا خلقتك وأعطيتك الحياة بإرادتي الحرة، ومن حقي أن آخذ حياتك حين أشاء!
سيدنا رضوان : هذا حق الله ربنا الأعلى يا سيد موسى.
سيدنا موسى : سمعًا وطاعة يا سيدي، هذه مرة واحدة حاولت فيها الهرب لأن فرعون كاد يقتلني.
الرب الأعلى : وماذا فعلت بفرعون يا موسى بسبب ذلك؟ ألم أنتقم لك منه شر انتقام، ليس منه فقط ولكن من الجيش المصري كله، الذي أغرقته هو وفرعون في البحر، بل انتقمت أيضًا من الشعب المصري كله من أجلك يا موسى أنت وقومك، اقرأ يا رضوان آياتي على الناس لعلهم يتذكرون.
سيدنا رضوان (يقرأ من كتاب الله) : وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ … صدق الله العظيم.
الرب الأعلى : اقرأ عليهم يا رضوان ماذا فعلت بالشعب المصري.
سيدنا رضوان (يقرأ) : فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ صدق الله العظيم.
الرب الأعلى : هذه آياتي في القرآن الذي أنزلته على المسلمين، ذكرت اسمك يا موسى في الكتاب مائة وعشرين مرة، وكم مرة يا رضوان ذكرت بني إسرائيل؟ اقرأ عليهم يا رضوان لعلهم يتذكرون.
سيدنا رضوان (يقرأ) : وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ، يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ صدق الله العظيم.
الرب الأعلى : كم مرة يا رضوان كررت هذا الكلام؟
سيدنا رضوان : كثيرٌ يا سيدي، كثيرًا وهو مدون هنا في القرآن الكريم.
سيدنا موسى : يا ربنا العظيم أنا لا أنكر …
الرب الأعلى (مقاطعًا) : كيف تنكر يا موسى وأنا لم أكف عن ذكرك أنت وقومك، حتى في الكتاب الذي أنزلته للمسلمين، وفرضت على المسلمين أن يؤمنوا بك نبيًّا ورسولًا من عندي، ويؤمنوا بالتوراة والإنجيل كما يؤمنون بالقرآن.
سيدنا موسى : يا ربنا العظيم أنا لا أنكر.
الرب الأعلى (مقاطعًا) : اسكت يا موسى، لا أريد أن أسمع صوتك! أهكذا تنقاد بسهولةٍ لهؤلاء الآخرين الذين كفروا بنعمتي وتبعوا الشيطان إبليس؟!
سيدنا موسى : يا ربنا العظيم أنا …
الرب الأعلى (مقاطعًا) : اسكت تمامًا وإلا سحبت منكم الأرض التي أخذتموها من شعب فلسطين، ثم لماذا تأخذون هضبة الجولان أيضًا في سوريا؟ هل عهدي لكم يشمل أي أرض في سوريا؟ لماذا تطمعون أيضًا في نهر الأردن؟ هل ذكرت نهر الأردن في التوراة يا رضوان؟
سيدنا رضوان : لا يا سيدي، لم يرد نهر الأردن ولا الجولان، فقط نهر النيل ونهر الفرات.
الرب الأعلى : من عليه الدور الآن، أريد أن أنتهي بسرعةٍ من هذه المهزلة، إنها لمهزلةٌ يا رضوان أن أجلس هنا لأستمع إلى هذا الكلام الفارغ، أهذه نتيجة إيماني بالديمقراطية يا رضوان، كما أن هذه المخلوقات التي خلقتها من الطين، لا يمكن أن يكون عندها عقل، ولا بد أن تحكم بالديكتاتورية والبطش! إنهم البشر يخافون ولا يختشون.
سيدنا رضوان : اللي اختشوا ماتوا يا ربنا العظيم، الدور الآن على السيد عيسى ابن مريم.

(يتقدم سيدنا عيسى بحماس الشباب والعاطفة فاتحًا ذراعيه، لكن الإله الأب الجالس على العرش يرمقه ببرودٍ شديد، يكتفي سيدنا عيسى بقبلةٍ يطبعها على خد أبيه، الذي تتقلص عضلات وجهه علامة الضيق، ثم يخرج منديلًا حريريًّا من جيبه يمسح عن وجهه القبلة، كأنما هي بصقة، سيدنا عيسى يتماسك بعد أن يزول حماسه.)

سيدنا عيسى : يا أبي لا أعرف لماذا تنكرني الآن، وها هي أمي تجلس وسط الناس.

(يتلفت سيدنا عيسى إلى الجمهور يبحث عن وجه أمه السيدة مريم عليها السلام، يظهر وجه الأم مريم العذراء بصورتها المعلقة في الكنائس، تحمل طفلها عيسى المسيح، إلى جوارها صورة الإلهة المصرية القديمة إيزيس، تحمل طفلها حورس، الصورتان متشابهتان إلى حد كبير، والطفلان متشابهان، إلا أن إيزيس تحمل فوق رأسها الشمس، ومريم العذراء تحمل فوق رأسها تاج الألوهية.)

مريم العذراء : إنه أبوك يا بني وقد جاءني في ظلمة الليل يرتدي ثوب الملاك، كان أبي رجلًا يحترمه الجميع، وكانت أمي عاقرًا دعت الله أن يرزقها بطفلٍ تهبه لخدمة الله في المعبد، حبلت أمي وولدتني بنتًا لكنها نفذت وعدها لله، وهبتني لخدمة الله في المعبد، وفي ليلةٍ وأنا غارقة في العبادة جاء الملاك، وفعل بي ما يفعله الزوج بزوجته، لمَّا رآني مذعورةً أرتجف هدأ روعي، وقال إنه روح الله أرسله إلي لأحبل بابنه الذي سيكون نبيًّا، لكن الذعر غلبني فهربت من المعبد، وهربت من قريتي «ندرت»، وعشت في منزلٍ مهجور حتى جاءني المخاض وأنا راقدة تحت النخلة. كم تعذبت يا بني وأنا أهرب بك من قريةٍ إلى قرية ومن بلدٍ إلى بلد! الناس أكلت وجهي ووجه أبي، يقولون لي: يا بنت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيًّا! ولم يكن عندي أي رد، صمت عن الكلام حتى تكلمت أنت يا بني.
سيدنا عيسى : نعم يا أمي وكنت أخاطب الناس أو أخاطب أبي، أهملتك يا أمي ولم أخاطبك، حتى وأنا فوق الصليب رأيتك إلى جواري تبكين، لكني تجاهلت وجودك ودموعك، ورحت أخاطب أبي وأناديه، كان المجتمع يفرض عليَّ ذلك يا أمي؛ فهو مجتمعٌ أبوي لا يحترم إلا الأب، مجتمعٌ لا يحترم النساء يا أمي، وقد حاولت أن أنصف النساء لكني فشلت، كان الرجال ينتهكون جسد المرأة ثم يقولون عنها بغي، يرجمونها بالأحجار حتى تموت، وقلت لهم من كان منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر.
مريم العذراء : نعم يا بني قلت ذلك وأكثر، لكن أباك تخلى عنك وتركك لهؤلاء الرجال الفاسقين حتى دقوك بالمسامير فوق الصليب وقتلوك، آه يا بني كم انفطر قلبي عليك وأنت شابٌّ صغير، وأنت طفلٌ رضيع بدون أب …

(صوت مريم العذراء ينشج بالبكاء المكتوم وتكف عن الكلام.)

(حواء إلى جوارها تربِّت على كتفها.)

سيدنا عيسى : يا أبي أنا جئت إليك لتقول شيئًا يصحح ما جاء في الإنجيل من روايات وقصص لا يصدقها عقل، خصوصًا هذه القصص عن النساء والزانية الكبرى التي تركب الشيطان، وتتهكم عليك حتى ضربتها بالسيف وساح دمها في السماء، من هي يا أبي هذه المرأة؛ لأن النساء «الفيمينست» في عالم اليوم لا يكففن عن الأسئلة، وقد درسن التاريخ القديم في مصر وبابل القديمة، وأنت تقول إن بابل هي المرأة الزانية، فكيف تكون المدينة امرأة زانية؟ النساء الفيمينست يا أبي يقلن إن في بابل كانت تعيش الأم الكبرى، الإلهة الأنثى القديمة التي ولدت آدم وحواء، ومنها جاءت البشرية كلها، لكنك قتلت الأم الكبرى، امرأة بابل، وأخذت منها عرش المدينة، وجعلتها زانية مخيفة تركب الشيطان، وأكثر ما كان يخيفك هو برج بابل، لقد أفزعك هذا البرج وأمرت بهدمه حتى تهدِم عمل الناس، وبلبلت ألسنتهم حتى لا يفهم بعضهم بعضًا ويتقاتلوا، وقلبت التاريخ رأسًا على عقب؛ جعلت آدم الرجل يلد من ضلعه حتى تنكر وجود الأم الأولى في التاريخ، وعاقبت حواء وحملتها وزر الخطيئة الأولى، وشرعت الحروب بلا سبب إلا عبادة ذاتك، واتخذك اليهود سببًا لإبادة الشعب الفلسطيني، والحروب الصليبية تمت تحت اسمك، والحروب الطائفية وحروب الاستعمار القديم والجديد كلها تتم تحت اسمك، حتى جورج بوش حمل الإنجيل في يده وهو يعلن الحرب في الخليج، ولم تكن هي إلا إحدى حروب البترول التي لم تكف حتى اليوم. إن القانون الدولي اليوم ينص على أن الأرض ومواردها الطبيعية، هي ملك للشعب الذي يعيش عليها، فكيف يكون قانون البشر أعدل من قانونك يا أبي، وأنت الله؟! المفروض أن قانون الله هو أعدل من قوانين البشر! والقانون الدولي في الأمم المتحدة ينص على أن المرأة مساوية للرجل، ولها جميع حقوق الإنسان بما في ذلك امتلاكها لجسمها، وأنت جعلت الرجل مسيطرًا على المرأة يسودها ويملك جسدها، فأين العدل؟ أين العدل يا أبي الذي جعلتني أموت فوق الصليب من أجلك؟!

(سيدنا عيسى راكعًا يمسك رأسه بيديه، ويجهش ببكاء مكتوم. الصمت يدب في القاعة لا يُسمع إلا مروحة ريش النعام، والجندي يمسح العرق عن جبهة الرب الأعلى، يدفعه الرب بيده غاضبًا، يتراجع الجندي إلى الوراء في خشوع.)

الرب الأعلى (بصوتٍ حزين) : يا بني العدل يختلف من زمنٍ إلى زمن، لا يمكن أن نقارن العدالة اليوم بالعدالة منذ عشرين قرنًا، ما تعتبره ظلمًا اليوم ربما كان عدلًا في ذلك البلد أو تلك المدينة. إن الأحكام تتغير بتغير الزمان والمكان يا بني.

(تسري همهمة في القاعة ويرفع بعض الناس أياديهم طلبًا للكلام، يدق سيدنا رضوان المطرقة، ترفع بنت الله يدها، يتجاهلها سيدنا رضوان.)

سيدنا رضوان : الكلمة حتى الآن للسيد عيسى أم أنك انتهيت من الكلام؟ هل عندك أقوالٌ أخرى؟

(يرفع سيدنا عيسى رأسه والدموع في عينيه.)

سيدنا عيسى : لكنك يا أبي تقول إن أحكامك ثابتة خالدة لا تتغير بالزمان أو المكان.
الرب الأعلى : عندي يا بني أحكامٌ ثابتة لا تتغير، وعندي أحكام يمكن أن تتغير، وعندي أيضًا في كتبي الثلاثة قصص وأحداث حقيقية وقعت في حياة الناس، وعندي أيضًا قصص رمزية؛ مثلًا برج بابل، كان رمزًا للفساد في مدينة بابل؛ ولذلك أمرت بهدمه، لكني لم أهدم برج إيفل في باريس، ولا الهرم الأكبر في مصر، ولا ناطحات السحاب في أمريكا، وكلها أعلى من برج بابل!
سيدنا عيسى : لكن يا أبي كيف في كتبك نعرف القصص الحقيقية من القصص الرمزية أو الأحكام الخالدة الثابتة من الأحكام المتغيرة.
الرب الأعلى : هذه هي مهمة المفسرين من البشر.
سيدنا عيسى : إذن لا يمكن أن نفهم كلمتك إلا بالتفسيرات البشرية وكلها متضاربة ومختلفة؛ أن يفسر البشر كلمة الله يعني أنهم أقدر على الوضوح من الله، وهذا غير جائز يا أبي، أن تحتمل كلمة الله أكثر من معنًى يعني أنها ليست كلمة الله. يا أبي تضع على البشر عبئًا كبيرًا لاختيار الثابت من المتغير والحقيقي من الرمزي؛ ولهذا يختلف المفسرون ويتقاتلون وتُسفك الدماء، وكل منهم يدعي أنه يعبر عن كلمتك؛ وعلى هذا لا يمكن أن تكون كلمتك مرجعًا سليمًا لأحد. إن عقل البشر أقل من عقلك، وقد نغفر لهم الغموض أو القصور عن الشرح، لكن عقل الله هو العقل الأكبر؛ لذلك لا بد أن تكون كلمة الله أوضح من كلمة البشر.

(يدق سيدنا رضوان بالمطرقة.)

سيدنا رضوان : انتهى وقتك يا سيد عيسى، أنت أخذت نصيب غيرك في الكلام.
سيدنا عيسى : أنا متأسفٌ ولكن عندي سؤال أخير يا أبي، هل أنت خلقت الإنسان قبل الحيوان أم الحيوان قبل الإنسان؟ نحن لا نعرف لأن أقوالك في كتبك متضاربة، ولماذا ترتدي جسد رجل؟ وهل كنت موجودًا قبل أن تخلق هذا الكون؟ أين كنت؟ في كونٍ آخر؟ من الذي خلق هذا الكون الآخر؟ أكوانٌ أخرى كثيرة اكتُشفت اليوم ومجموعات شمسية أكبر من الشمس والقمر اللذين تحدثت عنهما في كتبك، نحن في حيرةٍ يا أبي!
الرب الأعلى : عقل الإنسان يا بني قاصر وعاجز عن تصور وجودي خارج الزمان والمكان، أنا بالطبع خارج الزمان والمكان وخارج جميع هذه الأكوان المكتشَفة والتي لم تُكتشف بعد. هذا التصور فوق عقل البشر، لكن الملايين في العالم حتى اليوم، يؤمنون أنني خلقت العالم وكنت موجودًا قبل العالم، فلماذا يؤمن بي الملايين حتى اليوم يا بني؟
سيدنا عيسى : لا أعرف يا أبي الإجابة.

(يدب الصمت في القاعة، الجميع يفكرون بعمق، لحظة من الصمت الكامل، حتى المروحة توقفت في يد الجندي، يبدو على الرب الأعلى الانتصار والزهو.)

(ترفع بنت الله يدها تطلب الكلمة، يمنعها سيدنا رضوان.)

سيدنا رضوان : الدور ليس عليك يا آنستي.
بنت الله : الملايين يؤمنون لأنهم يخافون من العقاب في الدنيا والآخرة، والحرق في نار جهنم أو القتل والطرد من أرضهم؛ لأنهم لا يطيعون الله أو الإمام أو مندوب الله على الأرض. إن الملايين في ألمانيا آمنوا بهتلر النازي، والملايين في إنجلترا آمنوا بتاتشر، والملايين في إسرائيل آمنوا بجولدا مائير وبنيامين نتانياهو، والملايين في أمريكا آمنوا بجورج بوش والملايين في العراق آمنوا بصدام حسين، والملايين في السعودية آمنوا بالملك فهد، والملايين في مصر آمنوا بالسادات … في كل بلاد العالم يؤمن الملايين بالحكام السفاحين خوفًا من التعذيب والقتل والسجون، أو خوفًا من الاتهام بالكفر أو الإلحاد أو الشيوعية أو الإباحية أو الفيمينيزم. إن جميع الحكام في العالم يعلنون الحروب حاملين التوراة أو الإنجيل أو القرآن، إنهم يا سيدي يحملون كتبك ويحاربون باسمك من أفريقيا الجنوبية إلى إسرائيل، من آسيا إلى أمريكا اللاتينية. يا سيدي أنت جعلت حرب الاغتصاب مقدسة، وإذا قامت الحرب النووية في العالم فسوف تقوم تحت اسمك.

(سيدنا رضوان يدق بشدة على المنضدة بالمطرقة.)

سيدنا رضوان : أرجو منكِ عدم الكلام، وإلا أخرجتكِ بالقوة خارج القاعة!
حواء : دعها تتكلم؛ نحن في قاعةٍ ديمقراطية!
مريم العذراء : دعها تتكلم، إنها تعبر عن رأي الأغلبية في هذه القاعة، الأغلبية الصامتة.

(تسري الهمهمة في القاعة، ترتفع بعض أصوات النساء والتلاميذ الصغار والتلميذات وبعض الشباب من الرجال.)

صوت المجموعة : دعها تتكلم يا سيد رضوان، نحن نضم صوتنا إلى صوتها.
سيدنا رضوان : يا حضرات السادة والسيدات والآنسات إن الوقت ضيق أو انتهى، ولم يتحدث بعدُ السيد محمد، وهذه الآنسة تأخذ الوقت من السيد محمد، تفضل يا سيد محمد.

(ينهض سيدنا محمد ويسير بضع خطوات إلى الأمام بوقارٍ وهدوء.)

سيدنا محمد : أولًا أود أن أشكر مولانا وسيدنا خالقنا وخالق هذا الكون على سعة صدره؛ ولأنه جلس كل هذا الوقت رغم مشاغله الكثيرة، واستمع إلى كل هذه الآراء المتعددة دون أن يغضب، وفي مقدوره لو شاء سبحانه وتعالى أن يحول هذه القاعة إلى نار الحميم، لكنه هو الرحمن الرحيم الذي يشملنا برحمته وقلبه الكبير، وقد جئت يا سيدي ومولاي لأشكو لك ملك السعودية، الذي يعبث فسادًا في أرض الحجاز المقدسة، وجعلها تحت أقدام العسكر الأجانب لمحاربة المسلمين، وإني أشكر هذه الفتاة الصغيرة التي سبقتني في الكلام، وأشارت إلى هذا الملك وغيره من الملوك والحكام، الذين سفكوا الدماء واغتصبوا الأراضي والأموال تحت اسمك يا رب، سبحانك وتعالى وأنت مولاي بريء منهم ومما يقولون، وتحت اسمي أنا رسولك وعبدك المطيع وأنا بريءٌ مما يدعون، وهم يحورون كتابك القرآن الكريم ويفسرونه كما يشاءون، ويروجون الأحاديث عني وهي مكذوبة، ويغيرون الأحاديث غير المكذوبة التي قلتها في زمانٍ ومكان غير هذا الزمان وغير هذا المكان، ولي حديث قلت لهم فيه: أنتم أعلم بشئون دنياكم، لكنهم يتجاهلون هذا الحديث ويقهرون النساء باسمي واسمك سبحانك. وفي زماني منذ ستة عشر قرنًا لم أفرض الحجاب على المرأة وشرعت لها أن تختار زوجها وأن تطلقه إذا كرهت وجهه، لكنهم يقهرون النساء ويقهرون الفقراء ويكنزون الذهب والفضة وأموال البترول، ويتفاوضون مع أعداء المسلمين سرًّا، وقد شوهوا صورة الإسلام، إلى حد أن أصدر شيخهم واسمه «ابن الباز» كتابًا يقول فيه إن وجه المرأة عورة ما عدا نصف عين، ويدعي أنني أنا الذي شرعت هذا، وأنا بريءٌ من هذا الرجل الذي تسانده السلطة في المملكة السعودية، وأضحك علينا الناس في العالم بأن رفض الاعتراف بالعلم، وأكد أن الأرض منبسطة وليست كروية، وكل ذلك ينسبه إليك سبحانك وينسبه إليَّ، مع أن الإسلام هو دين العقل ودين العلم والمعرفة، وأول آية أنزلتها عليَّ يا رب هي اقرأ باسم ربك الأعلى الذي علم بالقلم. سبحانه أكبر مما يدَّعون! وكم أود يا ربي أن أعود إليهم لأواجههم بأكاذيبهم وأنقذ أمتي الإسلامية منهم، فقد فسدوا وأفسدوا حتى توالت الهزائم على أمة المسلمين، وأصبحوا في مؤخرة العالم بعد أن كانوا في المقدمة، يحملون مشعل الحضارة والعلم.
وقد جئت إليك يا ربي أطلب منك هذا الرجاء، فما أحوج العالم اليوم إلى رسولٍ من عندك، ينقذهم من الضلال والمضللين.

(الرب الأعلى صامتٌ يفكر بعمق، يشير بيده إلى سيدنا رضوان، يتهامسان في تداولٍ وتشاور، يعود سيدنا رضوان إلى مكانه، همهمة تسري في القاعة، يدق بالمطرقة ليسري الهدوء من جديد.)

سيدنا رضوان : يوافق الرب الأعلى على ما قاله السيد محمد، لقد فسد الملوك والحكام جميعًا فوق الأرض في الغرب والشرق والشمال والجنوب، وأصبح العالم في حاجةٍ إلى رسولٍ جديد من عند ربنا الأعلى، إلا أن الأمر يحتاج بعض الوقت حتى يصطفي الله سبحانه واحدًا من رسله ليكون رسولًا إلى البشر في القرن الواحد والعشرين، وسوف يعقد سيدي الأعلى اجتماعًا مغلقًا مع جميع الرسل والأنبياء ابتداءً من السيد إبراهيم حتى السيد محمد؛ ليختار من بينهم الرسول الجديد، وسوف نعلمكم في حينه باسمه بإذن ربنا الكريم، والآن ننهي هذا الاجتماع ونتمنى لكم …

(بنت الله تقف وتقاطع سيدنا رضوان.)

بنت الله : أنا لم آخذ الكلمة بعدُ يا سيد رضوان.
حواء : ولماذا لا نحضر هذا الاجتماع المغلق يا سيد رضوان؟ لماذا يكون كل الرسل والأنبياء من الرجال؟! أليس هناك امرأة واحدة تصلح أن تكون نبية؟!

(تسري همهمة في القاعة بين الجمهور، يقف أحد التلاميذ يحمل آلة موسيقية قديمة، يبدو عليه بعض الشقاوة والذكاء.)

التلميذ : ولم نسمع إبليس الذي هو أصل الشر في العالم.

(يضحك التلاميذ، بعضهم يقول في نفَسٍ واحد، والتلميذ يدق على الآلة.)

المجموعة : عاوزين نسمع إبليس! عاوزين نسمع إبليس!

(يسود الهرج والمرج ويضحك الجمهور، ويتلفت حوله باحثًا عن إبليس، سيدنا رضوان يدق بالمطرقة لإعادة الهدوء.)

(يقف إبليس في يده الورقة التي كتب فيها استقالته، الكل ينصت والصمت يدب في القاعة.)

إبليس : هذا الاجتماع تاريخي يا سيد رضوان، لأول مرة في التاريخ يستمع ربنا الأعلى إلى صوتنا، وكان لا يسمع إلا صوته، ولا يرى إلا نفسه، ولا يعبد إلا ذاته. إن عبادة الذات تستوجب المسئولية؛ لأن المسئولية لا تنفصل عن القوة، وإذا كان ربنا الأعلى هو الأقوى هو القوة العليا والجبروت الأعظم، فلا بد أن تكون مسئوليته هي الأكبر، هذا هو العدل والمنطق، فالعدل هو المنطق البسيط الواضح؛ ولأن ربنا الأعلى هو الحكمة العليا والعقل الأكبر، فلا بد يكون منطقه هو المنطق الأكثر عدلًا والأكثر وضوحًا، لابد لكلمة الله أن تكون أكثر عدلًا وأكثر وضوحًا من كلمة البشر، كلمتك يا سيدي التي جاءت في كتبك الثلاثة السماوية كانت قاصرة، كانت في حاجةٍ إلى البشر ليفسروها للناس، وكانت في حاجةٍ إلى الترجمة، وقد تضاربت أقوالك في هذه الكتب الثلاثة، ولم تجعل الفضيلة الكبرى هي العدل أو المنطق، بل جعلتها عبادة ذاتك وعدم عبادة إله آخر، وأصبح الشرك بك هو الإثم الأعظم، وتقول في كتابك القرآن: ويغفر الله الذنوب جميعًا إلا أن يشرك به، هكذا يا سيدي ضحيت بالعدل والمنطق، وحكمت على من لا يعبدك بالكفر والإلحاد وشرعت للناس قتله، وادعيت أنك تعرف كل شيء عن البشر وأنت لا تعرف عنهم شيئًا، ولا تستطيع أن تتصل بهم مباشرة، وإلا ما أرسلت إليهم رسلًا، وقد حاولت أن تخفي عجزك بالغموض والرمز أو التأثير على الناس بالمعجزات والسحر، لكن فرعون يا سيدي كان لديه من السحرة أكثر مما عندك، وعنده من الثعابين أكثر من ثعبان موسى، أما رسولك إبراهيم فأنت لم تثق في طاعته لك حتى ذبح ابنه، وكان يمكن أن تعرف ذلك دون حاجةٍ إلى ذبح الابن البريء، لقد جعلت من إبراهيم نموذجًا سيئًا للآباء والأزواج، انهزمت الأبوة والإخلاص الزوجي في مواجهة الخوف منك، وكان يمكن أن تمتحن قلب إبراهيم بطريقةٍ أخرى، تزيد من إنسانيته وأبوته وإخلاصه لزوجته وابنه، لكنك جعلت العبادة والطقوس الدينية فوق المبادئ الإنسانية العليا، صحيح أنك كنت تتراجع أحيانًا، وتقول: لا إكراه في الدين، لكنك بصفةٍ عامة وقفت ضد الفكر الحر والمعرفة، وفي كتابك التوراة احتكرت شجرة المعرفة لنفسك، صحيح أنك في القرآن تراجعت قليلًا وأسقطت اسم الشجرة تمامًا، قلت عنها «الشجرة» بلا اسم، إلا أنك كنت ضد المعرفة والمنطق الواضح، وهناك اختلافات كثيرة بين كتبك الثلاثة، مما بلبل عقول الناس وقسمهم فرقًا وطوائف ومذاهب يتقاتلون باسمك، كل منهم يحمل كتابًا من كتبك وفي يده الأخرى السيف أو قنبلة أو مدفع رشاش، وأهم شيء يا سيدي أنك جعلتني في هذه الكتب الثلاثة عدو البشر والمسئول عن الشر في العالم، ولكن كيف أكون المسئول وأنت الذي تملك القوة والسلاح والمال والمعرفة والإعلام والسماوات والأرض؟! كان يمكنك يا سيدي بكل هذه القوة والجبروت أن تمنع هذا الدم المراق على أرض فلسطين، كان يمكنك أن تنزع السلاح النووي أو غير النووي من يد إسرائيل وأمريكا وروسيا وإنجلترا وفرنسا والصين. هذه الحكومات العسكرية النووية يا سيدي هي سبب الفساد في العالم، وليس أنا إبليس المسكين الذي لا يملك سيفًا واحدًا، ولم يحمل في يده سلاحًا أي سلاح. ما ذنبي يا سيدي وما خطيئتي؟! أنني رفضت الركوع لآدم؟ كيف أركع لحاكمٍ فاسد يا ربي؟ لقد اعترفت يا سيدي في كتابك أن آدم فاسد، ومع ذلك جعلته خليفتك في الأرض، ثارت الملائكة جميعًا وليس أنا وحدي، وقالوا لك: أتجعل فيها من يفسد فيها ونحن نسبح بحمدك؟! اعترفت بذلك في القرآن، وإذا أصبح الفاسد خليفة أو حاكمًا فماذا يحدث؟ ألا يعم الفساد؟! وإذا سألناك لماذا تفعل ذلك تقول هذه هي إرادتي ومشيئتي وأنا حر. لكن الحرية مسئولية يا سيدي، وإن لم يكن الرب الأعلى مسئولًا عن أفعاله فمن يكون؟! هؤلاء الذين يذبحون الشعوب البريئة في فلسطين أو غير فلسطين، ليسوا إلا سلالة الحكام الفاسدين ابتداءً من آدم حتى اليوم، لقد أرسلت عيسى ابن مريم رسولًا وابنًا بارًّا، لكنه تعذب وقُتل على الصليب، واعترفت بذلك في كتابك الإنجيل، لكنك أنكرت ذلك في كتابك القرآن، فهل وجدت أن مقتل رسولك هزيمة لك تشكك الناس فيك؟! إن الفساد أو الظلم يا سيدي يقود إلى فساد أو ظلم آخر، وقد تراكمت المظالم والمفاسد في العالم، حتى أغرقت الأرض بالحروب والدم. يا سيدي أنت جعلت القلة التي تملك السلاح والمال تتحكم في الأغلبية الساحقة من البشر التي لا تملك السلاح ولا المال. أنت جعلت الرجال الرجال يتحكمون في النساء، وشرعت لهم الخيانة، وفرضت على المرأة وحدها الإخلاص الزوجي. أنت يا سيدي شجعت الجهل والغموض، قاومت المعرفة، كل خطوة خطاها الإنسان نحو العلم كانت بالرغم منك، وكل حرب في التاريخ قامت باسمك، وكل من خالفك تهدده بالحرق في النار أو القتل. وبعد كل ذلك يا سيدي تطلب من الناس أن تحبك؟! لا يا سيدي؛ إن الحب والخوف لا يجتمعان في قلبٍ واحد. وقد جئت اليوم ومعي استقالتي من منصبي، هذا المنصب أنت فرضته عليَّ، كنت أنا الشماعة التي يطلق عليها الحكام الفاسدون جرائمهم، ابتداءً من آدم حتى الملك فهد في السعودية أو بنيامين نتانياهو في إسرائيل.

(يتقدم إبليس نحو عرش الرب الأعلى، ينحني بأدب شديد، يقدم له الورقة، ثم يستدير ويسير خارجًا من القاعة.)

(عيناه مملوءتان بالدموع، العيون ترمقه بذهولٍ ورهبة، الصمت يدب في القاعة طويلًا، الرب الأعلى يشير بيده إلى السيد رضوان، يأتي إليه أحد الجنود بنظارة النظر فوق صينية من الفضة أو الذهب، يرتديها الرب الأعلى فوق عينيه، لها شكلٌ خاص غير نظارات البشر، يقرأ استقالة إبليس وهو صامت، ثم يلقي بها فوق الصينية التي يحملها الجندي خارج القاعة.)

(يشير الرب الأعلى إلى السيد رضوان، يتهامسان قليلًا، ثم يعود رضوان إلى مكانه.)

السيد رضوان : انتهى هذا الاجتماع بأمر ربنا الأعلى. عليكم جميعًا بالانصراف، إلا السادة الرسل والأنبياء، نرجو منهم البقاء، فسوف ينعقد اجتماع القمة المغلق بعد الاستراحة.

المشهد الثالث

(اجتماع القمة يرأسه الرب الأعلى جالسًا إلى عرشه العالي في المشهد السابق، الأنبياء والرسل جالسون على شكل نصف دائرة حول منضدة، السيد رضوان يدير الجلسة في يده المطرقة، إلى جواره كاتب الجلسة، الغرفة فخمة تشبه الغرف في القصور، يتدلى من السقف نجفة تشبه النجف في قصور الملوك والأباطرة.)

(يرتفع الستار قبل أن يدخل الرب الأعلى إلى الاجتماع، كرسي العرش العالي خالٍ منه، لكن الرسل والأنبياء جميعًا حاضرون، الذين ذُكرت أسماؤهم في الكتب السماوية الثلاثة، بالطبع هناك بعض الغائبين، إلا أن الرسل الأربعة الأساسيين موجودون، وهم إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد، جالسين بوقار … يجلس في الوسط إبراهيم، عن يمينه موسى، عن يساره عيسى، ثم محمد يجلس إلى جوار عيسى.)

(سيدنا عيسى وسيدنا محمد يتحدثان معًا بصوتٍ خافت.)

سيدنا محمد : كان ربنا الكريم واسع الصدر، وقد ضرب لنا مثلًا عظيمًا في احترام الرأي الآخر، وهو سبحانه الذي قال لنا: لا إكراه في الدين، من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، هؤلاء الذين يقتلون باسم الإسلام يشوهون صورته الصحيحة، مما يعطي أعداءنا الفرصة للنيل منه، وقد أصبح الإسلام في الغرب هو العدو الأول بعد سقوط الشيوعية.
سيدنا عيسى : نعم يا أخ محمد، لا بد من وجود عدو لتبرير وجود الحرب ومصانع الأسلحة، هل يمكن أن تتخيل هذا العالم بدون عدو؟ أو بدون شيطان؟ بعد استقالة إبليس ماذا يكون الكون يا أخي محمد؟

(من الناحية الأخرى يتهامس السيد إبراهيم مع السيد موسى.)

السيد إبراهيم : ما يفعله قومك في إسرائيل يا موسى لا يُرضي؛ الله جعل أرض فلسطين لنا حسب وعده في التوراة، لكن هذا كان منذ آلاف السنين، فكيف تواصلون ذبح الفلسطينيين بهذه الوحشية، لقد قلبتم الدنيا كلها ضدكم، حتى حكومة فرنسا العنصرية الاستعمارية أصبحت ضدكم، هل عرفت أن جاك شيراك أصبح نصيرًا للعرب، ويطالب بدولة مستقلة للفلسطينيين؟ هل سمعت الأخبار في الراديو بالأمس؟!
السيد موسى : إنه صراعٌ بين فرنسا وأمريكا يا سيدي حول منطقة الشرق الأوسط وما فيها من بترول. أنا بالطبع لا أتفق مع هذا النتانياهو، إنه يبالغ في قسوته على الفلسطينيين، ويشجع المستوطنات غير الشرعية في الأرض المحتلة، وهذا يعطل مسيرة السلام التي نحن أحوج إليها من العرب، لتعيش دولة إسرائيل في أمان بدلًا من هذه الحروب.

(يدخل حاجبٌ يعلن بصوتٍ جهوري): السيد صاحب العزة والجلالة مولانا ربنا الأعلى!

(يفتح الباب المبطن بالجوخ الأخضر، ويدخل إلى القاعة الرب الأعلى، ومن ورائه بعض موظفي البلاط والجنود والملائكة وبعض مصوري الصحف والتليفزيون، يجلس على العرش بعد أن يقف له الحاضرون مع الانحناء في خشوعٍ كبير، يبدأ الحديث سيدنا رضوان بعد انصراف الحاشية والبلاط ومندوبي الإعلام.)

سيدنا رضوان : هذا اجتماع قمة مغلق، أراد ربنا الأعلى أن يتباحث مع رسله الكرام في بعض مشاكل الكون، وقد حضرتم سيادتكم الاجتماع الموسع السابق، وأصبحتم على درايةٍ بالمشاكل التي تواجهنا اليوم، والتي يجب أن نجد لها حلًّا سريعًا من أجل الحفاظ على العرش الأعلى؛ إذ لا يمكن أن يتعرض هذا العرش لأي أذى ونحن موجودون؛ نحن حماة هذا العرش أيها السادة، أليس كذلك؟!

(يوافق الجميع دون اعتراض، يشرب سيدنا رضوان بعض الماء من إناءٍ فضي، يواصل كلامه.)

سيدنا رضوان : ولعل أخطر ما حدث اليوم هو استقالة إبليس، وقد حاولت أن أثنيه عن هذه الاستقالة، ليعود إلى عمله ويوسوس في آذان الناس، إلا أنه رفض تمامًا. وليس أمامنا أيها السادة إلا أن نختار من بينكم واحدًا يقوم بدور إبليس، وإلا أصبحنا في حرجٍ شديد، فلا أحد يتصور العالم بدون شيطان، ما رأيكم دام فضلكم؟

(الصمت يدب بين الحاضرين، لا أحد يتقدم، كل واحد منهم ينظر إلى الآخر، يبدو عليهم جميعًا القلق والخوف والتردد، تمر لحظة طويلًا لا أحد يتقدم.)

سيدنا رضوان : إذا لم يتقدم أحد فسوف يضطر سيدنا ومولانا أن يختار واحدًا من بينكم، ما رأيكم؟
سيدنا إبراهيم : من حق الله أن يختار من يشاء، وليس أمامنا إلا الطاعة والصبر، وأنا رجلٌ عجوز قبيح الصوت والشكل، والشيطان لا بد أن يكون شابًّا جذابًا يمكنه أن يغري الناس، أما أنا فلا إغراء ولا يحزنون.
سيدنا موسى : وأنا أيضًا عجوز وقبيح الشكل، وسوف ينفر الناس مني إذا أصبحت الشيطان، وهكذا يصبح وجود الشيطان مثل عدم وجوده.
سيدنا محمد : وأنا لا أصلح يا سيد رضوان؛ فقد ولى الشباب وراح، وليست عندي قدرة على الوسوسة في آذان الناس. إن صوتي قوي يا سيد رضوان.

(العيون تتجه إلى عيسى، الشاب الوسيم.)

سيدنا رضوان : أيمكن أن تقبل هذا المنصب يا سيد عيسى من أجل أبيك؟!
سيدنا عيسى : من أجل أبي صلبوني وعذبوني يا سيد رضوان، وليس من العدل أن أعذَّب وأصلَب من جديد، لماذا لا تلعب أنت يا سيد رضوان دور الشيطان، وقد عشت حياتك كلها في نعيم الجنة، ومن العدل أن تنال بعض الأذى وتعاني بعض الألم، كما عانينا نحن؟!

(يوافق الجميع على رأي سيدنا عيسى، يقولون في نفسٍ واحد وهم يتنفسون الصعداء، جميع الرسل في صوتٍ واحد: هذا رأيٌ سديد، وكلنا نوافق عليه بالإجماع!)

(يسقط وجه سيدنا رضوان فزعًا وهولًا، ينظر إلى ربه الأعلى يطلب منه الإنقاذ.)

الرب الأعلى : رضوان هو ساعدي الأيمن، لا أستطيع الاستغناء عنه، على أي حال سنترك منصب إبليس حتى نفرغ من المواضيع الأخرى. تفضل يا سيد رضوان.
السيد رضوان (يقرأ من ورقة) :

البند الثاني في جدول الأعمال، هو انتخاب الرسول الجديد، الذي سيرسله ربنا الأعلى لإصلاح العالم. لقد طلب السيد محمد من سيدنا الأعلى أن يرسله مرةً أخرى ليهدي الناس إلى الصراط المستقيم، لكن سيدنا الأعلى رأى أن الشورى في أمر هذا الرسول الجديد ضرورية، فأنتم جميعًا رسله وأنبياؤه وهو يثق فيكم جميعًا، وأنتم أمامه سواسية كأسنان المشط؛ ولهذا ترك لكم الحرية أن تختاروا فيما بينكم هذا الرسول الجديد.

(يدب الصمت بين الحاضرين، يطرق كل منهم مفكرًا بعمق.)

(لا أحد يتكلم. أخيرًا نسمع صوت سيدنا إبراهيم.)

سيدنا إبراهيم : حيث إنه لا أحد تقدم فإني أرشح السيد موسى بصفتي أكبر الحاضرين سنًّا ولأنني أبو الأنبياء، وقد رشحت السيد موسى لأنه أقدم الأنبياء من بعدي، وأكثرهم تجارب وحنكة، والرسول الجديد يجب أن يكون على قدرٍ كبير من الحنكة.
سيدنا رضوان : ما رأيكم أيها السادة.
سيدنا محمد : معذرة يا أبي إبراهيم، لا أوافق على هذا؛ لأن السيد موسى يقف إلى جانب قومه بني إسرائيل، والمشكلة الكبرى في العالم اليوم هي إسرائيل، ولا يمكن أن يكون رسول الله الجديد من بني إسرائيل، أنا أرشح بدلًا منه السيد عيسى.
سيدنا رضوان : ما رأيك يا سيد عيسى؟
السيد عيسى : أود أن أشكر أخي محمد على ترشيحي، ولكني أعتذر وأخشى أن أعود إلى ذلك العالم، فتكون نهايتي التعذيب والصلب مرة أخرى.

(يتلفت سيدنا عيسى حوله في الوجوه، كأنما يبحث عن أحدٍ غائب.)

سيدنا عيسى : ألا تلاحظون أيها السادة أن جميع الحاضرين من الرجال، لا توجد معنا امرأة واحدة، ماذا أقول لنساء العالم الفيمينست حين أعود إليهن؟! أرجوكم أعفوني من هذا الدور!
السيد محمد : هناك بعض النساء العظيمات يصلحن لدور النبوة، منهن السيدة خديجة زوجتي الأولى؛ إنها أول من اعتنق الإسلام، وبعد أن نزل عليَّ جبريل في غار حراء، عدت إليها أرتجف بالخوف وقلت لها: دثروني، ولم أعرف ماذا أفعل، وهي التي شجعتني وقالت لي: انهض، أنت رسول الله. لولا ذلك أيها السادة ما نهضت وما نهض الإسلام.
سيدنا عيسى : وأمي السيدة مريم العذراء، هي أطهر النساء جميعًا كما ورد في القرآن يا أخ محمد، وقد اصطفاها الله على نساء العالمين، وخصص لها في القرآن سورة كاملة باسمها هي سورة مريم، أما السيدة خديجة يا أخ محمد، فلم يرد اسمها في القرآن على الإطلاق! بل لم يرد اسم امرأة في كتاب القرآن إلا اسم أمي مريم، ما رأيك يا أخ محمد؟
سيدنا محمد : كلامك صحيح يا أخ عيسى، وقد سألني الناس مرارًا لماذا لم يرد اسم السيدة خديجة في القرآن كما ورد اسم السيدة مريم، وقلت لهم لعل الله له حكمة في ذلك لا نعرفها نحن البشر.
سيدنا إبراهيم : السيدة مريم ابنة هارون طاهرة الذيل، ولكن هل ننتخبها في غيابها يا سيد رضوان؟ لماذا لا تدعوها إلى الاجتماع هي وغيرها من النساء العظيمات في التاريخ، لعل الله يصلح الكون برسولة امرأة، بعد أن فشلنا نحن جميعًا الرجال.

(سيدنا رضوان يتهامس مع الرب الأعلى يستشيره الرأي، يطول الهمس بينهما بضع لحظات، ثم يدق سيدنا رضوان الجرس، ويستدعي الجنود السيدة مريم العذراء وبعض النساء يدخلن معها منهن بنت الله، يجلسن في الصفوف الخلفية، تدخل حواء أيضًا ووجوه نسائية معروفة في التاريخ القديم؛ الإلهة معات، والإلهة إيزيس، نفرتيتي، كليوباترة، رابعة العدوية وغيرهن.)

سيدنا رضوان (يخاطب النساء) : أمر ربنا الأعلى أن تكون بعض النساء الطاهرات حاضرات معنا في اجتماع القمة هذا، وقد ذكر الله سبحانه في كتبه الثلاثة أنه خلق الإنسان من نفسٍ واحدة، ذكر وأنثى، ولا فضل لإنسانٍ على إنسانٍ إلا بالتقوى والصلاح وعمل الخير، وهناك نساء كثيرات اشتهرن في التاريخ بالتقوى والصلاح وعمل الخير، منهن السيدة مريم أم النبي عيسى المسيح والسيدة خديجة زوجة النبي محمد، والسيدة والدة النبي موسى التي أنقذت حياته من فرعون، والسيدة هاجر التي أنقذت حياة ابنها إسماعيل، وغيرهن من الأمهات والزوجات اللائي أثبتن شجاعتهن، والتضحية بحياتهن من أجل إعلاء كلمة الحق. وقد أمر ربنا الأعلى بحضوركن للتشاور فيمن يكون الرسول الجديد، الذي يرسله الله لإصلاح هذا العالم الغارق في الدم والحروب والمظالم. لقد جاءني الآن بالفاكس إشارة أن مائتي ألف طفل ماتوا جوعًا وهم يهربون من نيران الحرب المشتعلة في زائير ورواندا وبروندي، وأن ٧٠ شابًّا وطفلًا قُتلوا في معركةٍ أخيرة بين الجيش الإسرائيلي والشعب الفلسطيني غير المسلح، وأن الدول النووية الكبرى تريد نزع السلاح النووي من كل بلاد العالم إلا بلادهم وإسرائيل، ونزع هذا السلاح لا بد أن يسري على الجميع.
إن ربنا الأعلى غاضبٌ على حكام هذا العالم، لقد فسدوا في الأرض وكالوا بمكيالين، وقد قرر سبحانه أن يرسل إلى الناس رسولًا جديدًا، يذكرهم بكلمة الله ويهديهم إلى الصراط المستقيم، أو رسولة امرأة، فلماذا يكون كل الأنبياء رجالًا؛ لهذا نطلب منكن إبداء الرأي في هذا الأمر، وترشيح واحدة منكن لهذا الدور.

(حواء ترفع يدها تطلب الكلمة.)

سيدنا رضوان : تفضلي يا ست حواء.
حواء : أريد أن أسألك يا سيد رضوان لماذا حذفت اسمي؟ لماذا لم تذكر اسمي ضمن هؤلاء النساء في التاريخ، أتفعل ما فعله سيدك الأعلى، وتنكر أنني أول من قاد البشر إلى المعرفة، وليس إلى الموت كما ذكر في كتبه للناس، لقد حذف ربك الأعلى اسمي في كتابه الأول التوراة، لكنه ألصق بي الخطيئة الأولى، ثم حذف اسمي تمامًا في كتابه الثالث القرآن، جعلني فقط زوجة آدم، لكنه أشرك آدم معي في الخطيئة حين قال: وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ، يستخدم ربك الأعلى صيغة المثنى هنا دليلًا على أن الاثنين آدم وزوجته قد اقترفا الإثم، لكنه يغفر لآدم وحده ويقول: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، لماذا يا سيد رضوان لم يقل: فتلقى آدم وزوجه من ربهما كلمات فتاب عليهما؟ لا شك أن ربك الأعلى على درايةٍ كبيرة بالنحو في اللغة العربية؛ ولهذا يا سيدي أصبحت أنا «حواء الآثمة» في نظر الناس جميعًا ممن يؤمنون بسيدك الأعلى وكتبه، وخرج آدم بريئًا مع أنه كان فاسدًا يسفك الدماء، واعترضت الملائكة أن يكون آدم خليفة لسيدك على الأرض، وقالوا كما جاء في القرآن: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ؟ أتعرف بماذا رد عليهم؟ قال: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ، هكذا ادعى لنفسه المعرفة وطردني منها، مع أنني صاحبة المعرفة الأولى من خلال تجربتي في حياتي؛ فالمعرفة يا سيد رضوان لا تنتج إلا من التجربة في مكانٍ معين وزمانٍ معين، وسيدك الأعلى يعيش خارج الزمان وخارج المكان، فمن أين يحصل على المعرفة؟! المعرفة يا سيد رضوان تنتج عن الحواس والعقل داخل تجربة نعيشها.
سيدنا رضوان : هذا تخريفٌ يا سيدة حواء، كيف تنتج المعرفة عن الحواس والعقل؟ ربنا الأعلى هو صاحب المعرفة، إننا لا نحصل على المعرفة بواسطة التجربة، بل من الله سبحانه وتعالى، هو الذي يهبنا العلم والمعرفة قبل التجربة والممارسة. نحن يا سيدة حواء لا نعرف إلا ما يريده الله لنا أن نعرف؛ قال الله تعالى قل: قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، والله يهدي من يشاء ويضل من يشاء.
سيدنا محمد : نعم يا سيد رضوان، لكن الله قال أيضًا في قرآنه الكريم: وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ! إننا نولد يا سيد رضوان وعقولنا صفحة بيضاء، لا نعرف شيئًا ثم نتعلم ونكتسب المعرفة عن طريق السمع والبصر والأفئدة، والأفئدة تعني القلوب، ما تحسه القلوب أي الحواس.
حواء : هذا الكلام يعني أننا نكتسب المعرفة من أحاسيسنا ومما نراه ونسمعه ونعيشه في الحياة، وهو يناقض الآية السابقة التي تقول: إن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء، هذه الآية تعني أن المعرفة بيد الله فقط، يُعطيها من يشاء ويحرمها من يشاء؛ أي هناك قضاء وقدر سابق على ولادة الإنسان، وليس للإنسان خيار أو معرفة مكتسبة من واقع حياته عن طريق حواسه؛ لأن كل شيء قد تم وعُرف وكُتب بصرف النظر عن تجاربه وخبراته.
وإذا كان الله قد فرض على الإنسان الهداية أو الضلال، فالإنسان غير مسئول عن هدايته أو ضلاله، والله هو المسئول الوحيد وهو الذي يحاسب على ذلك وليس الإنسان؛ لأن هداية الإنسان أو ضلاله ليست نتيجة اختياره بل مفروضة عليه من الله، والإجبار يا سيد رضوان يعفي من المسئولية، وهذا مبدأٌ أساسي في العدالة، أليس كذلك أيها السادة والسيدات؟!
سيدنا إبراهيم : نعم يا سيدة حواء، الإجبار يعفي من المسئولية، كذلك أيضًا فإن الإنسان مسئول عن أفعاله وليس مسئولًا عن أفعال الغير، وقد راجعت ربي الأعلي أكثر من مرة، حين كان يأمرني بحرق المدينة كلها، وقتل كل من كان فيها بسبب ضلال عشرة منهم فقط أو عشرين.
سيدنا محمد : وهذا يا سيدنا ما نص عليه الله في القرآن الكريم، حين قال تعالى: ولا تزر واحدة وزر الأخرى ولكلٍّ ما فعل.
سيدنا إبراهيم : نعم يا سيد محمد، لكن الله سبحانه وتعالى قال أيضًا: قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا، وهذا يعني أن الإنسان لا يملك حتى ضرر نفسه أو نفعها فما بال الآخرين، وهناك آية أخرى في القرآن يا سيد محمد تقول: إن أصابك من سيئةٍ فمن نفسك وإن أصابك من حسنةٍ فمن الله، وهكذا نرى أن آيات الله تتضارب وتقول الشيء ثم تنكره، وتقول الشيء ونقيضه فلا نعرف الحقيقة أبدًا.
سيدنا محمد : لنفهم هذه الآيات يا سيدنا إبراهيم، لا بد من إرجاعها إلى الظروف التي نزلت فيها، ولكل آيةٍ ظرف يختلف عن الآية الأخرى، مثلًا كان الله يأمرني بالقتال حتى ترتفع كلمة الله «وقاتلوا الذين كفروا بالله والرسول».
وفي ظروفٍ أخرى كان ينهاني عن القتل ويأمرني بالتفاوض والصلح وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا، لا بد من معرفة المكان والزمان الذي نزلت فيه الآية لنفهمها ونعرف أسبابها.
سيدنا إبراهيم : إذن كلمة الله ليست مطلقة وليست ثابتة، ولكنها مرهونة بالزمان والمكان، وبالتالي يمكن أن تتغير من وقتٍ إلى وقت.
سيدنا محمد : هناك أحكامٌ ثابتة مطلقة في كتاب الله وهناك أحكامٌ متروكة للبشر يغيرونها حسب مصالحهم، فإذا تعارض نص مع المصلحة العامة للناس تغير النص، لكن هناك نصوصٌ ثابتة مطلقة لا تقبل التغيير أبدًا.
سيدنا إبراهيم : مثل ماذا يا سيد محمد؟
سيدنا محمد : مثلًا الأركان الخمسة للإسلام ثابتة لا تتغير؛ الإيمان بالله الواحد الأحد لا شريك له، ورسله والأنبياء جميعًا من إبراهيم ويعقوب وإسحاق وموسى وعيسى ومحمد، والإيمان باليوم الآخر، والصلاة، والزكاة، والحج لمن استطاع سبيلًا.
سيدنا عيسى : لكنكم يا سيد محمد لا تؤمنون أنني صُلبت، وقال الله في القرآن: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ، ونحن في المسيحية نؤمن بالله وابن الله والروح القدس؛ أي إننا نؤمن بالتثليث وليس التوحيد، وإذا كان كل واحد مسئولًا عما يفعل، ولا تزر واحدة وزر أخرى، فلماذا يعاقبنا الله جميعًا لأن واحدة أخطأت هي حواء.
حواء : وما هي خطيئتي؟! حسب ما يحكيه الرب الأعلى في كتبه السماوية، كان أمامي طريقان لا ثالث لهما:
  • الطريق الأول: هو ألا آكل من الشجرة فأحصل على الخلود مع الجهل.
  • والطريق الثاني: هو أن آكل من الشجرة وأكتسب المعرفة لكني أحرم من الخلود. وقد فضلت المعرفة مع عدم الخلود عن الخلود مع الجهل!
سيدنا رضوان : عدم الخلود يعني الموت، والمعرفة تعني ممارسة الجنس مع آدم والحمل والولادة، أليس كذلك يا سيدة حواء.
حواء : نعم، وما العيب في الجنس والحمل والولادة يا سيد رضوان؟! لقد قال ربك الأعلى للبشر تكاثروا وتناسلوا، فكيف كان يحدث ذلك بدون أن آكل أنا وزوجي من الشجرة، ونعرف الجنس معًا، كان علينا أن نختار بين طاعة الله وبين ممارسة الجنس والإنجاب. إن طاعة الله تعني أننا لن يكون لنا نسل؛ أي إننا سننقرض، كما أن عدم طاعته تعني أيضًا الموت لنا، إذن الطاعة أو عدم الطاعة كلاهما تقود إلى موتنا؛ لهذا كان علينا أن نختار الجنس والتناسل ثم الموت، بدلًا من الموت قبل ممارسة الجنس والإنجاب، على الأقل أصبح لنا نسل يتناسل من بعدنا، وهكذا استمرت البشرية يا سيد رضوان؛ فالبشرية كلها مدينة لي أنا؛ لأنني عصيت الله وكنت أكثر شجاعة ووعيًا من زوجي آدم. ومع ذلك يا سيد رضوان فقد أدانني ربك الأعلى، وعاقبني شر عقاب بأن جعل زوجي يسود عليَّ، وكنت أرجح منه عقلًا وحكمة، بل إنه عاقب كل بنات حواء، وجعل الرجال قوامين على النساء يسيطرون عليهن في العائلة أو الدولة.
سيدنا رضوان : العائلة مثل الدولة مجموعة ولا بد لها من قائدٍ واحد، يتخذ القرار النهائي حين يختلف الأفراد، وكان لا بد لآدم أن يكون هو القائد يا سيدة حواء؛ لأنه أطاعه وفهم أوامره أكثر منك، وكنت أنت عاصية أكثر منه وأقل طاعة لله؛ لهذا رأى الله أن يفرض عليك طاعة زوجك؛ لأنك إذا أطعتِ زوجك أطعتِ ربنا الأعلى.
حواء : معنى ذلك أن ربك الأعلى عجز عن أن يفرض طاعته عليَّ مباشرة، ففرض عليَّ الطاعة من خلال زوجي، ثم فرض «قانون الطاعة» على جميع النساء في العالم، وجعل الرجل وصيًّا على المرأة وعلى أخلاقها وشرفها وعذريتها وإخلاصها الزوجي، وأعطى للزوج سلطة مراقبة أخلاق زوجته وإخلاصها له، لكنه لم يعطِ الزوجة هذا الحق، بل شرع الخيانة الزوجية للرجال عن طريق تعدد الزوجات أو تعدد الجواري ومن ملكت أيمانهم، كل ذلك لأنني أنا حواء الآثمة دون أن أقترف أي إثم، بل إنني السبب الأول لاستمرار البشرية.

(صمت يدب في القاعة، الرجال مطرقون يفكرون.)

سيدنا رضوان : السبب الأول لاستمرار البشرية هو ربنا الأعلى سبحانه، وإن شاء الله لانقرض البشر جميعًا، لكنه أراد للبشرية الاستمرار وجعل آدم وحواء أداته لتحقيق إرادته، وهذا حقه المطلق علينا نحن عبيده؛ فهو الذي خلقنا وعلينا أن نعبده ونطيعه؛ فهو أعلم منا، وقد عرف ربنا الأعلى أن الرجال أكثر طاعة له من النساء؛ ولهذا خاطب الرجال وهذا أسهل له من مخاطبة الجنسين، ثم إن فرض زوج واحد على المرأة ضروري، حتى يُعرف الأب ولا تختلط الأنساب، لكن تعدد الزوجات لا يؤدي إلى خلط الأنساب لأن الأب واحد.
بنت الله : هذا يا سيدنا رضوان حين تكون الأنساب أبوية، لكن إذا كان النسب للأم لم تكن هناك مشكلة، وهناك بلاد كثيرة في العالم اليوم تنسب الأطفال لأمهاتهم أو تنسبهم للأم والأب معًا. إن تجاهل اسم الأم ليس إلا استمرارًا لتجاهل حق المرأة في التاريخ. وفي الحضارات الأموية السابقة على ظهور الإله الذكر الواحد، كان الأطفال يُنسبون للأم؛ وعرفنا الإلهة معات إلهة العدل، وإيزيس إلهة المعرفة؛ ولهذا عُرفت في التاريخ النساء العارفات، أُطلق عليها «العرافة»، كان يلجأ إليها الملوك والأباطرة القدامى يسألونها عن الغيب. في شمال أفريقيا كان اسمها «ديهار»، لكن اسمها أُسقط في التاريخ كما أُسقط أسماء النساء الحكيمات اللائي أطلقن عليهن الساحرات، وحُرقن في العصور الوسطى لاتهامهن بالشيطنة أو تحدي الكنيسة، ومن النساء العربيات القديمات كانت زرقاء اليمامة هي العرافة، ترى ما لا يراه الآخرون، وعفيراء والزبراء من بني رئام، التي أنذرتهم بهجوم أعدائهم عليهم، وقالت كلامًا شعرًا لا يقل إعجازًا في البلاغة عن القرآن، قالت الزبراء لبني رئام «واللوح الخافق، والليل الغاسق، والصباح الشارق، والنجم الطارق، والمزن الوادق، إن شجر الوادي ليأدو ختلًا، ويحرق أنيابًا عصلًا، وإن صخر الطود لينذر تكلًا، ولا تجدون عنه معلى.» وكانت بلقيس ملكة سبأ، والعرافة المرأة هي التي تنبأت بكارثة سد مأرب. لكن يا سيدنا رضوان انقلب التاريخ رأسًا على عقب، منذ تولي ربك الأعلى العرش؛ فقتل الأم الكبرى وسماها الزانية الكبرى في بابل، وأصبحت العرافة أو إلهة المعرفة هي الآثمة الشريرة، وهي الجاهلة الناقصة العقل والدين. وفي عالمنا اليوم تُحرم المرأة من الكلام لأن صوتها عورة، ووجهها عورة في بلادٍ كالسعودية، ولا يحق لها الانتخاب أو الترشيح في الكويت، ولا تستطيع أن تجدد جواز سفرها بدون إذن زوجها في مصر. وفي الغرب يا سيدنا رضوان في أمريكا وأوروبا، لا تزال المرأة خاضعة لزوجها ولا تحصل على أجرٍ عن عملها مثل الرجل، وتعاني أغلب النساء في العالم شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا من الفقر، إلى حد أن أطلقت الأمم اصطلاحًا جديدًا اسمه تأنيث الفقر. وهناك شيخٌ معروف في مصر اسمه الشيخ الشعراوي، يعتبر نفسه مندوب ربك الأعلى على الأرض، إليه تلجأ النساء الفنانات لإعلان التوبة إلى الله، وهجرة عملهن الفني باعتبار أن صوت المرأة في الغناء حرام، وظهورها على المسرح حرام، أو شاشة السينما والتليفزيون، بل إنه يحرِّم الموسيقى ويقول إنها من الشيطان. وقد أفتى هذا الشيخ يا سيدنا رضوان بأن ربك الأعلى يحرِّم نقل الأعضاء، مثل الكلْية وغيرها إلى المرضى، وقال يا سيدي بالحرف الواحد إن نقل الأعضاء أو غسيل الكلى لعلاج الفشل الكلوي، يؤخر لقاء الإنسان لربه وكلها محرمة، قال هذا بالأمس يا سيدي.
سيدنا محمد : إن كلام هذا الشيخ تخريف تخريف؛ فالله لم يأمرنا بالموت ولكن أمرنا بالحياة، آيات القرآن تشجعنا على الحياة، ولو أخذ المسلمون بما يقوله هذا الشيخ في الحياة والموت (وما سماه تأخير لقاء الإنسان مع ربه) لاختفى الإسلام واختفى المسلمون بالانقراض، وفي العالم اليوم تتوالى الاختراعات العلمية والطبية لمساعدة الإنسان على الحياة، ومقاومة المرض والموت. وليس هذا اعتراضًا على إرادة الله؛ فكله من قدر الله وقضائه، لكن الله أعطانا العقل لنجعل حياتنا أفضل وأجمل وأكثر عدلًا، ولي حديث يا سيد رضوان أقول فيه: اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا.

(صمتٌ يدب في القاعة، ثم تُسمع أصوات خارج القاعة، الجماهير تهتف في المظاهرات، الشعب السوداني خرج في مظاهرةٍ كبرى ضد حكومته.)

(صوت الجماهير يُسمع: كفاية دين، عاوزين تموين!)

بنت الله : هذه أصوات النساء والأطفال والرجال الفقراء يطالبون بالخبز بدلًا من الآيات المقدسات؛ وبالأمس يا سيدي قتل أبٌ سوداني أطفاله الأربعة، وقال في التحقيق إنه أمر الله، الرجل اسمه «خميس مسكين»، ارتكب هذه الجريمة وقال لرجال البوليس إنها تنفيذًا لأوامر يتلقاها من السماء، الأطفال عمرهم ما بين ٤–٩ سنوات، هشم أبوهم رءوسهم بالساطور؛ وهناك امرأة مصرية اسمها «سحر محمود أحمد»، قتلت طفلتها الوحيدة ياسمين مصطفى حسن، عمرها سنة واحدة، كتمت أنفاسها وحملت جثتها إلى البوليس، وقالت إنها قتلت ابنتها لترحمها من حياة الفقر وحتى تدخل الجنة وهي طفلة صغيرة لم تقترف ذنوبًا بعد؛ وهناك يا سيدي أربع نساء لقين مصرعهن أثناء تنافسهن على الحصول على الدقيق في مدينة اسمها كفر الدوار؛ وهناك زوج وزوجة ألقيا بطفلهما المولود في الشارع؛ لأن الأم حملت به قبل كتابة عقد الزواج؛ قُتل الطفل خوفًا من الفضيحة؛ وهناك زوجات يا سيدي انتحرن وقتلن أنفسهن بسبب خيانة الزوج أو زواجه بامرأةٍ أخرى؛ ورجال يطلِّقون زوجاتهم بلا سبب، لمجرد أن له الحق المطلق في الطلاق؛ وأطفال بنات يبيعهن الآباء لرجال عجائز تحت ستار عقد الزواج؛ وتُضرب الزوجات تحت اسم آية في القرآن تقول: «واضربوهن واهجروهن في المضاجع»؛ هذه المآسي كلها تحدث بسبب ما يطلقون عليه اسم «الشريعة».
سيدنا محمد : الشريعة يا ابنتي بريئة من كل هذا، وسوف يحاسب الله هؤلاء المذنبين حسابًا عسيرًا في الآخرة.
سيدنا إبراهيم : لكن يا سيد محمد هذا الحساب لا بد أن يكون في الدنيا وليس الآخرة؛ لأن الجرائم وقعت على الأرض هنا والآن، ولا يمكن تأجيل الحساب إلى ما بعد الموت؛ لأن تأجيل الحساب يعني تأجيل العدالة، والعدالة المؤجلة هي ظلم يا سيد محمد، العدالة المؤجلة يومًا واحدًا تساوي ظلمًا لمدة عام كامل.
سيدنا رضوان : ماذا تقول يا سيدنا إبراهيم؟ ألا تؤمن بالحياة الأخرى والحساب؟! أنت يا سيدنا أبو الأنبياء وأبو الرسالة التوحيدية، أنت أول من عرف التوحيد في التاريخ؟
سيدنا إبراهيم : لا يا سيدي، إن التوراة لا تشير إلى إلهٍ واحد بل «إلوهيم»؛ أي مجموعة من الآلهة. وقد بدأ التوحيد متأخرًا في مصر القديمة في عهد نفرتيتي وإخناتون، وكان للمصريين القدماء آلهة كثيرة منهم آلهة أقاليم وآلهة مدن وآلهة عواصم وآلهة للدولة وآلهة لقوى الطبيعة وآلهة للملوك وآلهة للشعب. وفكرة الحساب بعد الموت والدار الآخرة عرفها القدماء المصريون قبل ظهور التوراة بقرون. الحقيقة أن عقيدة الحساب بدأتها المرأة المصرية القديمة، وفكرة العدل أيضًا بدأتها المرأة المصرية القديمة، أو آلهة العدل، وهي أول من استيقظ فيها الضمير الإنساني.
الإلهة معات : في مصر القديمة كان الإنسان يقول لقلبه في محكمة العدل: يا قلبي الذي أخذته من أمي ووُلدت به وعشت معه، لا تشهد ضدي أمام أمي؛ فأنا لم أكذب ولم أسرق ولم أقتل.
الإلهة إيزيس : أمنا الكبرى «نوت» هي التي ربتنا على احترام العدل، وحين توليت العرش من بعدها، قالت لي: إن قدسية الإلهة لا تنبع من عبادة الناس لها، ولكن من حكمها بالعدل، وكانت تقول لي دائمًا: إن السفر الطويل للبحث عن الإلهة ينتهي بمرآة يرى الإنسان فيها نفسه العادلة؛ إلا أن الآلهة الذكور في مصر أصبحوا هم آلهة الدولة؛ لأنهم انشغلوا بالحرب والقتال، وانشغلنا نحن بالزراعة والعدل بين الناس. وكان آلهة الدول يتغيرون بتغير النظام الحاكم؛ في البداية كان حور، ثم جاء في الدولة القديمة منفتاح، ثم تولى أتوم رع ثم جاء الإله آمين أو آمون المندمج بالإله «رع» في الدولة الوسطى، وكان هذا الإله الحاكم يدخل باستمرار كضلعٍ أكبر في أسرةٍ ثالوثية من الأب والأم والابن. كان الإله مثل الإنسان يتزوج وينجب، ثم دخل التثليث في التتسيع؛ تكونت المجامع الإلهية الكبرى من التاسوع. وفي اليونان القديم كان آلهة الأولمب بالمئات. إن تعدد الآلهة ليس تخلفًا، والتوحيد لا يعني التقدم. في الغرب المسيحي في أوروبا وأمريكا حتى اليوم، يؤمنون بالله والابن والروح القدس؛ أي ثلاثة آلهة أو التثليث، وهم ليسوا أكثر تخلفًا ممن يؤمنون بالله الواحد الأحد. إن تعدد الآلهة كان تقدمًا في الحضارة المصرية والحضارات النهرية الزراعية كالعراق القديم، لكن البيئة الصحراوية تميل إلى التوحيد بحكم الصحراء، فما أسهل أن يكتشف الرجل البدوي قيمة خروفه في المرعى، وأهمية القمر في ليل الصحراء الصامت، فيقارن بين قرنَي الخروف وقرنَي الهلال، هكذا أصبح الخروف قمرًا في أقنومٍ واحد. في عهد نفرتيتي وإخناتون انطفأت فكرة التوحيد سريعًا لم تعِش إلا ١٧ عامًا فقط، وقد انتشر التوحيد بقوة السيف والقتل والتعذيب؛ قال الرب الأعلى في كتابه القرآن:
إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ.
سيدنا محمد : هؤلاء الذين يسعون في الأرض فسادًا، وليس الصالحين الذين يسعون إلى الخير والعدل.
سيدنا إبراهيم : نعم يا سيد محمد، لكن المشكلة من هو الذي يحدد الفاسد من الصالح؟! لقد كان آدم فاسدًا يُفسد في الأرض ويسفك الدماء، ومع ذلك أصبح خليفة الله في الأرض.
سيدنا محمد : الله هو الذي يحدد الفاسد من الصالح.
سيدنا إبراهيم : لكن الله لا يعيش مع الناس على الأرض حين يحاكمهم الحكام ويطبقون عليهم هذه الآية؛ مثلًا إن ملك السعودية يقطع رقاب الشباب الذين يعارضونه بالسيف، ويتلو تلك الآية من القرآن.
سيدنا محمد : وهناك شباب يحملون القرآن ويثورون ضد حكامهم طلبًا للعدل والحرية.
سيدنا إبراهيم : هكذا يُستخدم كتاب الله للدفاع عن الحق أو للدفاع عن الظلم لا فرق.
بنت الله : لهذا لا يوجد شيء اسمه كلمة الله المطلقة، كلمة الله نسبية تعتمد على القوة التي تستخدمها، وقد بدأ النساء يتضامنَّ في بعض البلاد ويمثلن قوةً جديدة، تستخدم التوراة أو الإنجيل أو القرآن من أجل تحرير النساء وليس من أجل عبوديتهن؛ مثلًا لم يعد الله عند هؤلاء النساء يخاطب بلغة المذكر. إن أي دين يعطي الإله صفة الذكورة، وإن كانت لغوية، يضع المرأة بالضرورة في مستوى أقل من الرجل في اللغة. إن اللغة الإنجليزية والفرنسية والعربية والعبرية وغيرها لغات ذكورية طردت النساء من اللغة، ليس اللغة فقط ولكن جملة الرموز في الأديان السماوية كلها ضد المرأة بل ضد الفقراء أيضًا، وإذا كان الإله السماوي ذكرًا فلا بد أن يكون الحاكم الأرضي ذكرًا أيضًا؛ لأن الإله نموذج البشر، وإذا قال الإله كلامًا متناقضًا أصبح التناقض أو الازدواجية سمة البشر، وإذا كانت كلمة الله ضد المنطق والعقل، أصبحت لغة البشر ضد المنطق والعقل.
سيدنا رضوان : كلمة الله يا فتاتي فوق المنطق وفوق العقل، لكنها ليست ضد المنطق أو العقل.
بنت الله : وهذا تناقض أيضًا يا سيد رضوان، فكيف تكون الكلمة منطقية ومع ذلك تتجاوز المنطق وتعلو عليه؟!
سيدنا رضوان : أنت تقولين كلامًا خطيرًا في حق الإله سبحانه وتعالى، ما اسمك؟
بنت الله : اسمي «بنت الله».
سيدنا رضوان (في فزع) : أعوذ بالله! ما سمعنا بهذا الاسم أبدًا، اسمك يدل على الكفر.
سيدنا عيسى : لماذا يا سيد رضوان، إذا كان هناك ابن الله، فلماذا لا تكون هناك بنت الله؟!
سيدنا موسى : قال الله في التوراة: إنه له أولاد فقط وليس له بنات.
سيدنا إبراهيم (يضحك) : يا سيد موسى هذا كلامٌ قديم لا بد من إرجاعه إلى زمانه ومكانه، وإلا أصبح مضحكًا اليوم.
حواء : في الزمان القديم أنجبت أنا وآدم عددًا من البنات والأولاد، وكانت المشكلة دائمًا أن الابن الفاسد مثل أبيه كان هو الذي يصبح خليفة، وكان إبليس أحد أبنائي لكنه كان صالحًا، يسعى إلى المعرفة والحقيقة مثلي، وأصبح خطرًا يهدد سلطة الخليفة الأكبر، إنه الصراع على السلطة ليس إلا هو الذي جعل التاريخ البشري مليئًا بالدم.
بنت الله : وكم قتلت في التاريخ نساء! أولهن الأم الكبرى في بابل، ومنهن أيضًا مناة؛ كانت إلهة الموت، أمها في مصر القديمة هي الإلهة سخمت، والإلهة العزى، كلمة العزى تعني العزة والقوة، وكانت العزى امرأة سوداء فقيرة لها شعر قوي غزير، قوية العزيمة، ضربها خالد بن الوليد بالسيف ففلق رأسها ثم قتل سادنها وقطع شجرتها، هذه هي الإلهة العزى التي آمن بها سيدنا محمد حين كان على دين قومه وأهداها شاة عفراء، وكان لها حجرٌ مربع أبيض في الطائف، أما الإلهة مناة فكان لها الحجر الأسود الذي يقدسه العرب، أما الملكة حتشبسوت في مصر القديمة التي استقبلت سيدنا موسى وحكمت مصر أكثر من عشرين عامًا، وزوجها كان أمينوفيس الثاني، أما فرعون الذي حارب موسى فهو منفتاح، وجسده المحنط موجود اليوم في صالة الموميات الملكية في المتحف المصري بالقاهرة، أليس في ذلك تعارض مما جاء في كتب الله.
سيدنا محمد : لا يا آنستي، قال الله في القرآن الكريم إن فرعون حين أدركه الغرق والانهزام أمام جيش موسى وقومه قال: آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، لكن الله أجابه قائلًا، «الآن وقد عصيت قبل وكنت من المعتدين فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية».
ربما تكون هناك تناقضات في التوراة والإنجيل، وربما دخل عليهما كثيرٌ من التحريف، لكن القرآن الكريم هو كلام الله الصحيح الذي لم يحرفه أحد.
سيدنا إبراهيم : لا يا سيد محمد الكتب الثلاثة تم تحريفها، وهذا طبيعي؛ لأن النقل عن الرواة من البشر لا بد أن يؤدي إلى تغييرات في اللفظ والمعنى. وكان المفروض يا سيدي إذا أردنا الدقة والصدق أن تصل كلمة الله مباشرة من الله إلى الناس، دون أنبياء ودون مفسرين ودون مترجمين؛ مثلًا إن فرعون لم يكن يتكلم اللغة العربية، وجاء كلامه في القرآن باللغة العربية، فكيف هذا؟! إن جزءًا من المعنى يضيع بالضرورة من خلال الترجمة؛ إذ لا يمكن أن نفصل الحرف عن معناه. وكان المفروض يا سيدي أن تصل كلمة الله إلى الناس مباشرة بلغاتهم المحلية، دون حاجة إلى مترجمين أو مفسرين أو حتى أنبياء؛ أنا مثلًا حين كان الله يخاطبني لم أكن أستوعب كل ما يقوله بالحرف الواحد، وكنت أنقل عنه للناس من خلال إدراكي لما قال، وهكذا تتغير كلمة الله دائمًا حين تصل إلى الناس من خلال البشر، وقد جاءت التوراة باللغة العبرية ثم تُرجمت إلى اليونانية في عهد بطليموس فيلادلفوس عام ٢٨٥ قبل ميلاد السيد عيسى، أرسل بطليموس إلى العازر رئيس الكهنة في طلب نسخة من التوراة ومعها ٧٢ مترجمًا، ستة من كل سبط، فاستجاب العازر لهذا الطلب وجاء الوفد واصطحب ديمترويس (أحد أعوان بطليموس) إلى جزيرةٍ منعزلة، فأنجزوا العمل في ٧٢ يومًا ونالوا هدايا ثمينة من الملك، وقد اعتكف المترجمون كلٌّ في غرفةٍ مستقلة، وكانوا يترجمون كلمةً تلو الأخرى، أو كانوا اثنين اثنين ومعهما كاتب. هذه الترجمة تمت بناء على طلب الإمبراطور المصري لصالح المكتبة الملكية بالإسكندرية، ولا يخفى عليك يا سيدي أن هناك مصطلحات كثيرة في اللغة العربية لا مثيل لها في اليونانية، كما أن المترجم لا يمكن أن يتخلص من فهمه الخاص للنصوص؛ مثلًا أحد المترجمين واسمه سمعان الشيخ أراد أن يترجم قول شعياء النبي: «هو ذا العذراء تحبل» ( ٧:  ١٤) إلى «هو ذا الفتاة تحبل»؛ والفرق كبيرٌ بين كلمة عذراء وكلمة فتاة. وهناك ألفاظٌ كثيرة تغيرت وتغير معناها بين النسخة العبرية الأصلية والترجمة السبعينية. والسؤال يا سيدي: لماذا بذل الإمبراطور بطليموس فيلادلفوس كل هذه الأموال والهدايا ليترجم التوراة وينشرها على شعبه؟! هل يعرف أحد ماذا كان يفعل هذا الإمبراطور بمن يخالفه الأمر؟ كان يذبحهم ويحرقهم ويصلبهم، وقد وجد مثله الأعلى في ربنا الأعلى والدليل المادي في كتابه التوراة.
سيدنا رضوان : ماذا جرى لك يا سيدنا إبراهيم؟ هل كفرت بربنا الأعلى؟
سيدنا إبراهيم : لا يا سيد رضوان ولكني أريد لربنا أن يكون المثل الأعلى للحق والعدل الرحمة، وأعتقد أن كتبه الثلاثة لم تعد صالحة، ولا بد من كتابٍ رابع يصحح به الكتب الثلاثة السابقة، وينزل به للناس دون وسيط دون رسول دون مفسر دون مترجم؛ حتى تكون كلمته هي كلمته الأصلية ومعناها واضح مفهوم للناس من مختلف الشعوب واللغات واللهجات. إن جميع الأنبياء وأولهم أنا أيها السادة، وجميع المفسرين والشارحين لكتب الله، قد وقعوا جميعًا تحت نفوذ الأباطرة والملوك والحكام الفاسدين من الإمبراطور فيلادلفوس إلى فهد في السعودية، وبنيامين نتانياهو في إسرائيل، وهؤلاء الحكام الذين يذبحون الشعوب في زائير ورواندا، وجنوب أفريقيا، وشمال أفريقيا، وآسيا، وأوروبا، والأمريكتين، وأستراليا، وهؤلاء الذين استولوا بالأمس على كابول عاصمة أفغانستان، ومنعوا النساء والفتيات من التعليم والعمل تحت اسم الله.
سيدنا محمد : لا يا سيدنا إبراهيم هؤلاء لا يعرفون الله.
سيدنا إبراهيم : ومن الذي يعرف الله؟
سيدنا محمد : نحن الأنبياء عرفنا الله.
سيدنا إبراهيم : وما الفرق بيننا وبين الناس من الشعب؟
سيدنا محمد : لقد حلت إرادة الله في الرسل والأنبياء.
بنت الله : ولماذا لا تحل إرادة الله في جميع مخلوقاته بالعدل والقسطاس؟

(هنا تقف رابعة العدوية، كانت صامتة جالسة بين صفوف النساء، رفعت يدها.)

سيدنا رضوان : تفضلي يا سيدة رابعة.
رابعة العدوية : كل مخلوق أيها السادة يدل على الله، وما من واحدٍ ينم عنه. من خلال حبي العميق لله وجدته في نفسي. ليس من الممكن اكتشاف وجودنا الحقيقي دون الانفصال عن ذواتنا. إفناء الذات هو الشرط الأول للحب والاندماج بالله. الله هو القوة العليا التي تجعل الإفناء للذات ممكنًا، إفناء الذات للوصول إلى الذات الإنسانية المتجردة عن «الأنا»، لكنها هي «الأنا» في اندماجها بالآخر، بالله والطبيعة والناس وتاريخ البشرية. أنا وجدت نفسي أيها السادة في الله، جاهدت طويلًا وسافرت كثيرًا أبحث عن الله، وانتهى جهادي وسفري الطويل بهذه المرآة رأيت فيها نفسي، بلغت قمة السعادة حين وجدت نفسي في ذات الله، لكني قبل أن أجد نفسي أفنيتها في الآخر وهو الله.
الإيمان بالله هو الحب، حب الله والطبيعة والناس والجمال، والاستعداد للموت وإفناء الذات من أجل هذا الحب. إن الموت في سبيل هذا الحب ليس موتًا، ولكنه عودة إلى الحياة الحقيقية، الحياة التي نعثر فيها على ذواتنا الحقيقية.
إيزيس : هذا كلامٌ جميل يا سيدتي رابعة، ونحن نعتبرك الأم الأولى للفلسفة الصوفية، لكن التاريخ المكتوب أهملك لأنك لم تتركي وراءك كتبًا مطبوعة مثل ابن عربي، الذي تبناه بعض رجال الحكم وحفظوا أقواله وطبعوها، كما حدث مع الأنبياء من إبراهيم إلى محمد؛ فقد تبنى أقوالهم خلفاء أقوياء في السلطة الحاكمة، جمعوا هذه الأقوال وطبعوها، لولا ذلك لاندثر في التاريخ هؤلاء الأنبياء، لولا الكتب الثلاثة الموجودة الآن «التوراة والإنجيل والقرآن»، والتي يعيد طبعها بالملايين الملوك والحكام اليوم لما عرف الناس شيئًا عن النبي إبراهيم أو موسى أو عيسى المسيح أو محمد نبي المسلمين، ولما عرف الناس شيئًا عن الله السماوي الذي اختاره إبراهيم من مجموعة الآلهة «إلوهيم» وهو الله السماوي نفسه الذي عبده موسى ثم محمد. وكلمة الله هي كلمة عربية محرفة عن كلمة «اللاة»، وهذه في أصلها كانت «اللاة» تكتب بالتاء المربوطة أو التاء المفتوحة «اللات»، وكانت هي الإلهة الأنثى المعبودة في الجزيرة العربية مع الإلهتين «مناة» أو «منات» والإلهة «العزى».
قام الصراع على الأرض والمال بين القبائل التي كانت تعبد الإلهات الإناث، والقبائل الأخرى التي بدأت تعبد الآلهة الذكور ومنهم الإله بعل والإله يهوه والإله اللاه وغيرهم كثيرون، الصراع كان يدور حول الأرض والمال لكنه يدور تحت اسم أحد الآلهة، كما يحدث عندنا في مصر القديمة، كان الناس في مصر يعبدونني أنا إيزيس إلهة الحكمة والمعرفة والملاحة، أنا التي كنت أرشد الملاحين والسفن في البحر الكبير، أنا التي علمت المصريين والمصريات زراعة الحنطة والشعير، علمتني أمي «نوت» كيف أضع البذرة وأردمها بالتراب، وأرويها بماء النيل وأنتظر حتى يظهر النبت الأخضر. كانت أمي حين تنتظر النبت الأخضر تنظر إلى حركة الشمس بانبهارٍ وحركة القمر بالليل، هكذا اكتشفت أمي الزمن أو الوقت أو الساعة الشمسية، قسمت الزمن حسب القمر وحركة الشمس، حسبت النهار بخطوط فوق الأرض رسمتها كالأرقام كما رأت أمها نون تفعل، حسبت الليل ثم حسبت اليوم كله والأيام السبعة أو الأسبوع، وحسبت الحول أو السنة، وجدتها ٣٦٥ يومًا ثم أضافت لها خمسة أيام سمتها أيام النسيء، وهي الأيام الخمسة الزائدة عن الشهور في تلك السنة التي سمتها أمي بالسنة المختلة أو السنة الكبيسة. إن سنة التقويم الشمسي تنقص عن دورة الشعرى يومًا في كل أربع سنوات، والسنة تنقص ١ / ٤  يوم، حسبتها أمي فوق الأرض بالأرقام ٣٦٥ × ٤ = ١٤٦٠، يضاف إليها يوم واحد = ١٤٦١، هكذا وجدت أنه كلما مضت ١٤٦١ يومًا اعتدل الحساب من جديد، وعادت الشعرى اليمانية تظهر قبل شروق الشمس في أول شهر توت. نحن النساء يا سيدة رابعة بدأنا العلوم، وأولها علم الزراعة وعلم الفلك والحساب والجبر والهندسة، وفنون الموسيقى والشعر، ونحن أول من كتب الحروف والأرقام، وعلم الناس أسماء النجوم والكواكب، وكانت الأم تعلِّم ابنتها وحفيدتها وتنتقل المعرفة من جيلٍ إلى جيل، ومنها أسماء النجوم وعلم الفلك، وفي صعيد مصر بنينا البروج الفلكية خاصة البرجين في سقوف معبد دندرة وبرجين بالقرب من إسنا، في إسنا تبدأ البروج بالعذراء وفي دندرة تبدأ بالأسد، بنينا معبدَي إسنا حين كانت الشمس في فلك العذراء، ومعبد دندرة حين كانت الشمس في فلك الأسد، وهذا معناه أن معبدَي إسنا عمرهما سبعة آلاف سنة أما معبد دندرة فإن عمره أربعة آلاف سنة.
سيدنا رضوان : ما هذا الكلام يا سيدة إيزيس؟! هذا كلام غلط؛ لأن الله هو الذي علم آدم الأسماء، منها أسماء النجوم.
بنت الله : لا يا سيد رضوان، إن كلام جدتنا إيزيس صحيح، وقد نشرته جريدة المونيتور بالقاهرة في عددها الصادر ١٨ أغسطس ١٨٠٠، وثارت ضجة في أوروبا واعترضت الكنيسة التي كانت تؤمن بالكتاب المقدس، وتعتقد أن عمر البشرية هو العمر الوارد في التوراة.
سيدنا إبراهيم : التوراة ثلاثة أنواع؛ عبرية وسامرية وسبعونية، وفي كل واحدةٍ منها رقم مختلف لعمر البشرية، يتراوح من ٢٠٢٣ إلى ٢٣٢٤ إلى ٣٣٨٩ سنة.
بنت الله : في عام ١٧٩٣ بدأ «ديبوا» المعركة بعد أن درس البروج المصرية الفلكية، وقال إن حضارة مصر ترجع إلى ١٥ ألف سنة، وثارت الكنيسة في أوروبا لأن هذا الاكتشاف العلمي جاء مخالفًا لنصوص الله في التوراة.
وفي عام ١٧٩٨ غزا نابليون مصر. وزار علماؤه الصعيد وشاهدوا الأبراج الأربعة في سقوف معبدَي دندرة وإسنا. وفي يناير ١٨٨٢ سُرق برج دندرة من مصر إلى مرسليا ثم باريس بواسطة «ليلورين»، واشترته حكومة لويس الثامن عشر بمبلغ ١٥٠ ألف فرنك ووضعته في متحف اللوفر. لعن رجال الكنيسة برج دندرة وسموه «بالحجر الأسود الحقير» أو أداة «لبث الإلحاد وإنكار الله».

ثارت معركة حامية بين رجال الكنيسة يقودهم الأب «تيستا» وعلماء الآثار يقودهم «ديبوا»، وادعى الأب تيستا أن بروج إسنا ودندرة ترجع إلى القرن الثالث قبل ميلاد المسيح، وبالتالي لا تخالف كلام الله في التوراة، دامت هذه المعركة من ١٧٩٣ حتى ١٨٨٠، ثم انهزمت الكنيسة ورجالها أمام الحقائق التي أثبتها العلماء في مصر وفرنسا وألمانيا وإنجلترا، ومنهم شامبليون الذي قرأ الأوراق البردية وحروف اللغة المصرية الهيروغلوفية، واعترفت الكنيسة أن التاريخ المذكور في التوراة ليس هو الصحيح. وبدأ علم الآثار المصري الحديث يثبت أن أول إنسان ظهر على الأرض لم يكن هو سيدنا آدم الذي جاء عمره في التوراة، ولكن آدم آخر عمره أكثر من خمسين ألف عام، وحواء أخرى هي التي ولدت آدم وهي امرأة إفريقية سوداء البشرة.

(رابعة العدوية كانت واقفة لا تزال في يدها المرآة تنظر فيها، وجه رابعة العدوية أبيض البشرة أو قمحي اللون، ليس أسود.)

بنت الله (تخاطب رابعة العدوية) : وأنتِ يا سيدة رابعة تقولين إن سفرك الطويل باحثة عن الله قد انتهى بك إلى هذه المرآة ترين فيها وجهك، أليس كذلك؟
رابعة العدوية : نعم يا سيدتي أو آنستي، هل أنت سيدة أم آنسة؟!
بنت الله : ما الفرق بين السيدة والآنسة؟
رابعة العدوية : الآنسة عذراء لم تتزوج بعد.
بنت الله : هل تسألين الرجال هذا السؤال يا سيدة رابعة؟!
رابعة العدوية : لا يا سيدتي أو آنستي.
بنت الله : لماذا؟
رابعة العدوية : لأن العذرية ليست جزءًا من شخصية الرجل قبل الزواج، ولا يولد الرجال بغشاء بكارة.
بنت الله : ولماذا يكون غشاء البكارة جزءًا من شخصيتي يا سيدة رابعة؟
رابعة العدوية : لأنك بنت.
بنت الله : وماذا عن البنات اللائي يولدن بدون غشاء بكارة؟ إن ٢٥! من البنات يا سيدتي يولدن بدون هذا الغشاء! وإذا أردت أن أعرفك بقصتي فأنا أقول إنني إنسانة كاملة الأهلية، ولدتني أمي عام ١٩٧٥ في قريةٍ صغيرة بالقرب من البحر، ورأيت أبي يقتل أمه، ضربها بالفأس الذي كانت تزرع به الأرض لتطعمه، وهرب أبي من أمي بعد مولدي؛ لأنه أراد ابنًا ذكرًا يرث اسمه واسم أبيه، اشتغلت أمي بالفأس في الأرض لتعلمني في المدارس والجامعات، دخلت الجامعة قسم التاريخ، وأصحبت أستاذة أحمل درجة الدكتوراه، فهل يكون غشاء البكارة جزءًا من شخصيتي يا سيدتي؟ هذا الغشاء الذي ربما لم أولد به أو تمزق وأنا أقفز السلم أو أركب الدراجة أو الحصان، أو ربما اعتدى عليَّ رجل حين كانت أمي تتركني عند الجيران وأنا طفلة في الثامنة من عمري وتذهب إلى الحقل.
رابعة العدوية : أعوذ بالله، هل هناك رجلٌ يمكن أن يلمس طفلة في الثامنة؟
سيدنا إبراهيم : نعم يا سيدتي كان هناك رجال، بل أنبياء، يتزوجون بنات أطفال في سن الثامنة وأحيانًا السابعة. إن الأخلاق مثل اللغة مثل أي شيء تتغير حسب الزمان والمكان. على أيامنا كان الرجال يقدمون زوجاتهم إلى الأعداء الرجال فديةً لهم، وأنا نفسي قدمت زوجتي إلى فرعون مصر لتشاركه الفراش لعله يؤمِّن لي حياتي، كذبت عليه وقلت له إنها أختي.
بنت الله : أشكرك يا سيدنا إبراهيم على هذه الملاحظة، وهي حقيقة تاريخية وردت أيضًا في كتاب الله التوراة، لكني أريد أن أسأل السيدة رابعة العدوية سؤالًا.
رابعة العدوية : تفضلي يا سيدتي أو آنستي، آه متأسفة، تفضلي يا أستاذة أو يا دكتورة.
بنت الله : وأنت تنظرين في المرآة ماذا ترين؟
رابعة العدوية : أرى وجهي.
بنت الله : هل يمكن أن تصفي لنا هذا الوجه.
رابعة العدوية (تنظر في المرآة) : وجه امرأة بيضاء البشرة قمحية اللون شعرها طويل أسود (تضحك).
بنت الله : أنتِ قلتِ لنا رأيت الله في وجهك داخل المرآة، فهل يكون وجه الله مثل وجهك.
رابعة العدوية : نعم ولِم لا؟ أنا أرى الله في نفسي.
سيدنا رضوان : أستغفر الله العظيم؛ لا يمكن أن يكون لربنا الأعلى وجه امرأة، أستغفر الله العظيم!
سيدنا محمد : ربنا سبحانه وتعالى ليس له وجه ولا يد ولا لسان ولا جسد؛ إنه سبحانه وتعالى روح بلا جسم.
سيدنا إبراهيم : وكيف عرفت هذه الروح يا سيد محمد؟
سيدنا محمد : رأيتها في النوم وسمعت صوتها في غار حراء تناديني وتقول: اقرأ باسم ربك الذي خلق.
سيدنا إبراهيم : أكان هو صوت الله يا سيد محمد؟
سيدنا محمد : نعم يا أبانا إبراهيم.
سيدنا إبراهيم : كيف عرفت أنه صوت الله.
سيدنا محمد : سيدنا جبريل قال لي إنه صوت الله.
سيدنا إبراهيم : هل كان صوت امرأة أم صوت رجل؟
سيدنا محمد : صوت رجل.
سيدنا إبراهيم : ولماذا صوت رجل؟ لماذا لا يكون صوت امرأة؟! هذه هي المشكلة يا أيها السادة والسيدات والآنسات. نأسف، فلنحذف كلمة آنسات. هذه هي المشكلة أيها السادة والسيدات. إن الله قد ظهر لنا على شكل رجلٍ وبصوت رجل؛ مما يدل على أن هذه الصورة تدل علينا نحن الرجال أكثر مما تدل على الله؛ نحن الرجال تخيلنا أو تصورنا في أحلامنا أن الله لا بد أن يكون له شكلنا وصوتنا، بل أخلاقنا أيضًا وأحلامنا بالعذراوات البيضاوات الحور العين في الجنة؛ ولأننا كنا نشرع الخيانة الزوجية لنا فقط نحن الرجال، فقد نقلنا هذا الواقع إلى خيالنا؛ ولهذا غابت أسماء النساء العظيمات من النصوص الإلهية في الكتب الثلاثة السماوية. إن قوة المرأة أو قوة الرحم التناسلية غائبة في كتب الله، وطغى النسب الأبوي على أسماء الأمهات. في التوراة مثلًا أيها السادة والسيدات عرفنا مواليد آدم كلهم أبناء ذكورًا، ابتداءً من ابنه الأول شيتا ثم أنوش حتى نصل إلى نوح وإبراهيم، حوالي ٣٣٨٩ سنة كلهم ذكور، ومن إبراهيم إلى عيسى المسيح حوالي ٢٢٠٠ سنة كلهم أبناء ذكور، المدة من آدم حتى عيسى المسيح ٥٥٨٩ سنة كلهم ذكور، كيف هذا أيها السادة والسيدات؟!
سيدنا رضوان : يا سيدنا إبراهيم لا بد أن نميز بين الأحداث الحقيقية والأحداث الأدبية الخيالية في كتب الله سبحانه وتعالى، فهناك ما هو حقيقي وهناك رموز أو تورية أو خيال.
سيدنا إبراهيم : خيال أو تورية؟ إن البشر فقط يلجئون إلى التورية لإخفاء الحقيقة بسبب عجز البشر ليس إلا، أو خوفهم من بطش الحكام فيلجئون إلى الرموز، لكن الله لا يخاف من الحكام ولا يعجز عن نقل الحقيقة، فلماذا يلجأ إلى الرموز؟! ثم لماذا تكون كل هذه الرموز ذكورية والأسماء كلها أسماء رجال؟! ومن الذي يميز الحقيقة والرمز أو التورية؟!
سيدنا رضوان : هذه مجرد أفكار يا سيدنا إبراهيم، والله — سبحانه وتعالى — هو العليم الحكيم.
بنت الله : هذه الأفكار يا سيدنا رضوان تصبح قوة مادية حين تسيطر على الناس، تتحول إلى أسلحةٍ للقتل في يد الحكام أو قوانين إعدام أو قرارات بمنع النساء من الخروج للعمل أو التعليم. هل سمعت الأخبار يوم ٣ أكتوبر ١٩٩٦؟ إن حركة الطالبان التي استولت على الحكم في مدينة كابول عاصمة أفغانستان، قد منعت النساء من الخروج للعمل أو للمدارس، كل ذلك تحت اسم القرآن الكريم، وفي ١٦ يناير ١٩٩١ حمل جورج بوش الإنجيل في يده، وهو يعطي الأوامر بإلقاء آلاف القنابل على مدينة بغداد، وفي الشهر الماضي حمل بنيامين نتانياهو التوراة في يده، وهو يأمر بذبح الفلسطينيين في مدينة رام الله، وفي السعودية والكويت والصومال وزائير والبوسنة وروسيا وأمريكا وأوروبا في كل بلاد العالم، يحمل الحكام كتب الله وهم يصدرون أوامر الحرب أو القتل أو النهب وسرقة ثروات الشعوب الأخرى. ألا تعرفون أيها السادة أن الاستعمار منذ نشوئه حتى اليوم، يستخدم كلمة الله لاستعمار الآخرين ونهب أراضيهم ومواردهم الخام. والسادات في مصر كان يبدأ خطبه باسم الله ثم يتلو على الناس قرارات البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي أو غيرها من أدوات الاستعمار الجديد.
سيدنا إبراهيم : نعم أيها السادة والسيدات، هناك عالمان أحدهما حقيقي يعيش فوق الأرض ترويه دماء الحروب والاغتصاب والاستعمار القديم والجديد، وهناك عالمٌ آخر غير حقيقي؛ عالمٌ متخيَّل يعيش فيه الله في السماء لا يمتلك إلا الأفكار، وهذه الأفكار هي التي تتحول إلى قوةٍ مادية في يد البشر فوق الأرض. هكذا لا يوجد انفصالٌ بين الحقيقة والخيال، أو بين السماء والأرض، أو بين الله والإنسان، كلاهما واحد، ولا بد أن يظهر الله على شكل إنسانٍ، وإلا ما عرفناه وما تصورناه وما أحببناه. هل يمكن يا سيدة رابعة أن تحبي الله كل هذا الحب لو ظهر على شكل ثعبان!
رابعة العدوية : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
سيدنا إبراهيم : الثعبان أيها السادة والسيدات لم يكن شيطانًا ولم يكن عدوًّا للبشر، فمن الذي وضع العداوة بينهما؟! أليس هو إله التوراة الذي أوعز إلى آدم وحواء أن عدوهما هو الثعبان أو الحية الذكية التي دلتهما على شجرة المعرفة؟! وفي القرآن أيضًا قال الله لآدم وحواء أن يهبطا إلى الأرض، وأمر بعضهم أن يكون عدوًّا للآخر. كان البشر أيها السادة والسيدات يعيشون بلا عدو وبلا حرب ولا قتل، حتى جاءهم الإله يهوه إله الزلازل والبراكين والحروب، ولم يكن لهذا الإله أن يعيش دون أن يقاتل عدوًّا، فإن اختفى العدو أو مات، فلا بد له أن يخلق عدوًّا من خياله كما خلق إبليس، ويقول عنه الشيطان. وبدون الشيطان لا يمكن أن يستمر النظام في عالمكم اليوم، كانت الشيوعية هي الشيطان حتى سقوط حائط برلين والاتحاد السوفيتي، فأصبح العدو الجديد هو مَن أيها السادة والسيدات؟
سيدنا محمد : العدو الجديد أصبح العرب والمسلمون.
بنت الله : والفقراء والنساء من جميع الملل والأديان، انظروا الآلاف يموتون ويُقتلون من النساء والأطفال في زائير ورواندا.

(الجميع في حالةٍ من الصمت والوجوم، وأخيرًا يحرك الرب الأعلى يده مشيرًا إلى سيدنا رضوان.)

سيدنا رضوان : والآن أيها السادة والسيدات والآنسات، متأسف، لا داعي لكلمة الآنسات، الآن أيها السادة كلمة ربنا الأعلى حفظه الله وأنجاه، (يتدارك الخطأ) معذرةً أقصد كلمة ربنا الأعلى حفظ نفسه، وأبقى نفسه إلى أبد الآبدين.
ربنا الأعلى (بصوتٍ هادئ حزين مملوء بالشجن) : لا يا رضوان لم أعد راغبًا في البقاء إلى أبد الآبدين، لقد مللت الخلود والوحدة والانعزال عن الناس في السماوات العليا. حين طلبتم مني الحضور لاجتماع القمة هذا، جئت إليكم بهذا الشكل الآدمي وإلا فزعتم من أي شكلٍ آخر، أردت أن أهبط إليكم على شكل «روح»، لكن الروح لا شكل لها ولا وجود لها إلا في الخيال، كيف يتحول الخيال إلى مادةٍ أو قوة؟! هذه هي كتبي السماوية حين تطبع وتتحول إلى دساتير تحملها الأحزاب الدينية، وهي أحزابٌ سياسية تتصارع على السلطة على الأرض والمال، كما هو حادث في العالم كله شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا، وقد غضبت مثلكم بسبب المذابح التي ذهب ضحيتها الآلاف من الشعب الفلسطيني أو الشعوب الأخرى في أفريقيا وآسيا وغيرهما، وغضبت مثلكم لما يحدث من قهرٍ للنساء باسمي، أو نهب لموارد الشعوب وأراضيها باسمي، وكنت غارقًا مستغرقًا في عبادة ذاتي لأكثر من خمسة آلاف عام؛ لأفرض عليكم عبادتي وأنا مجرد فكرة في الخيال؛ وبعد أن استمعت بأذني إلى كل أقوالكم وأقوالكن، أنتم الرجال وأنتن النساء، أعترف (لكم ولكن) أنني قد تحيزت للرجال دون النساء، وجعلت الرجل مسيطرًا على المرأة دون وجه حق، وتحيزت لقوم إبراهيم ووعدتهم بأرض شعب آخر دون وجه حق، لقد وقعت في أخطاءٍ وتناقضات كثيرة، لكني كنت دائمًا أعود إلى طبيعتي الإنسانية الأولى، وأعود إلى الخير والعدل والمساواة والرحمة والحب، وربما لهذا السبب بقيت كتبي الثلاثة حتى اليوم؛ إذ وجدت فيها الشعوب المقهورة والنساء المقهورات سلاحًا للدفاع عن حقوقهم وحقوقهن، كما وجد فيها أيضًا الملوك ورؤساء الدول والحكومات سلاحًا لقهر الشعوب والنساء والفقراء … لكن أيها السادة والسيدات إن البشرية تتقدم إلى الأمام، ولم يعد أحد يرجع إلى نظرية الخلق التي وردت في كتابي. أصبح العلم الحديث هو المرجع الوحيد للمعرفة الحقيقية، ولم تعد كتبي إلا للحفظ في المتاحف وفنادق الفقراء، وأقسام التاريخ والدين في المدارس والجامعات، هذا من الناحية الأكاديمية فقط، لكن من الناحية السياسية أو الاجتماعية أو الثقافية، فلا تزال كتبي هي الأساس رغم التقدم في العلوم الأخرى. وهذا خطيرٌ أيها السادة والسيدات، هذا الانفصال بين العلم والسياسة والثقافة، وهو انفصالٌ أنا المسئول الأول عنه لأني فصلت الجسد عن العقل أو الروح، في حين أنه لا يوجد جسد بدون روح، ولا توجد روح بدون جسد وعقل، هذه الفكرة لم تكن فكرتي في الأصل، نقلتها عن الملكة «تي» أم الإله إخناتون، وهو نقلها عن أمه ثم حذف اسم أمه من التاريخ، ونقلت عن إخناتون كلماته ووضعتها في كتابي التوراة دون أن أشير إليه، بل إن فكرة وجود الروح منفصلة عن الجسد لم تكن فكرتي في الأصل، ولكنها فكرة الآلهة الفراعنة الذكور حربهم ضد الإلهة الأم الكبرى إلهة الحكمة والخصب والطبيعة، اخترعوا فكرةً تقول إن لكل طفلٍ يولد شبيهَين له، يولدان معه ولا تراهما العين البشرية، لا تراهما إلا عين الإله فرعون؛ الشبيه الأول اسمه «كا» والشبيه الثاني اسمه «با»، وهما الروح التي تلبس جسم الطفل حتى يكبر ويموت، ثم يفارقان جسمه ويطيران في السماء على شكل طائر هو الروح، واخترعوا فكرة عقاب الأرواح بعد الموت على يد إلهة تشبه الوحش هي عدوتهم الإلهة نوت، وكانت إلهة السماء، وزوجها جيب إله الأرض، واخترعوا دار الحساب في الحياة الأخرى بعد الموت، وجعلوا فيها ميزانًا يزن السيئات والحسنات، وكان يوضع مع كل ميت في القبر كتاب اسمه كتاب الموتى، وقد أخذت عنهم كل هذه الأفكار ووضعتها في كتبي الثلاثة عن الحياة الأخرى والجنة، والحقيقة أيها السادة والسيدات أنني كنت أعيش في مصر القديمة، وكنت أسعى إلى الحكم بعد أن أحارب فرعون وأقتله، عاصرت الفراعنة وقت رمسيس الثاني الذي حكم مصر من ١٣٠١ حتى ١٢٣٥ قبل مولد عيسى المسيح الذي جعلته ابني، أما موسى فقد عاش في مصر معي في عهد رمسيس الثاني، وكان يسمى الفرعون منفتاح وهو «فرعون الخروج»، الذي حاربته وانتصرت عليه مع موسى وقومه إسرائيل، كانت هي الحرب التي انتصرنا فيها، وتصادف أن هجم على مصر من الصحراء أسراب من الجراد، فانتهزت الفرصة وقلت: أنا الذي أرسلت هذا الجراد، أما الفراعنة الأغنياء والطبقات العليا، فقد نجوا جميعًا من الأذى، هكذا كنت أوجه ضرباتي دائمًا إلى الضعفاء الفقراء من النساء والأطفال والعبيد، وكانت عمليات الختان والإخصاء تجرى للعبيد فقط، ولا تجرى للآلهة الفراعنة أو الأسياد، وحين صارت مصر تحت حكم المقدونيين بعد انتصار الإسكندر الأكبر المقدوني (٣٣٤–٣٢٣ قبل مولد عيسى المسيح)، وأنشئت عاصمة جديدة على شاطئ البحر سميت الإسكندرية على اسم الغازي الإسكندر الأكبر، فرض الحكام الجدد اللغة اليونانية على الشعب المصري بدلًا من اللغة المصرية، وتم إلغاء ديانة إيزيس التي كانت تدعو إلى العدل والمحبة والحرية، وقُتل كهنة إيزيس وحُرقت كتبها وصورها، فُرض على الشعب المصري عبادتي من خلال كتابي التوراة المترجم إلى اليونانية السكندرية، وهي الترجمة السبعينية، وبعد موت الإسكندر الأكبر استولى البطالمة على مصر وفلسطين، التي وقعت تحت حكم ملوك سوريا السلوقيين (١٩٨ قبل ميلاد المسيح)، وفي جميع الأحوال أيها السادة والسيدات لم تكن ترجمة كتابي التوراة أو الإنجيل أو القرآن تتم إلا بقرارٍ من الحاكم المسيطر. أنتم تقولون إن الحكام كانوا يحاربون باسمي، لكني كنت أحارب باسم الحكام في الحقيقة، وكنت واحدًا من الفراعنة اضطر للفرار من مصر، وأراد أن يشيد إمبراطوريته في أرض كنعان وفلسطين مع موسى وبني إسرائيل؛ ولهذا جاءت التوراة باللغة العبرية لأني كنت أخاطب قومي من بني إسرائيل، ولم أكن أخاطب الشعب المصري المحكوم برمسيس الثاني. هذا هو تاريخي أيها السادة والسيدات، وقد حذفت اسم أمي من التاريخ كما فعل إخناتون وحذفت أم آدم أيضًا، ووضعت نفسي مكان الأم الكبرى التي ولدت أول إنسان على الأرض، وجعلت نفسي خالق الكون في ستة أيام، حتى جاء العلم الحديث فكشفني، ولا يمكن لي بعد اجتماع اليوم أن أستمر في هذه اللعبة، ولا بد من وضع الأمور في نصابها، والاعتراف بالخطأ، فالاعتراف بالخطأ أفضل من الاستمرار فيه، وقد آن لهذا العالم أن يواصل حياته وتقدُّمه بدون إله وبدون شيطان أيضًا، وبدون هذا التقسيم الخطير بين الجسد والروح، هذه الآفة التي عذبت الإنسان أكثر من خمسة آلاف عام، وجعلت الجسد أدنى من العقل والروح، لأصبح أنا العقل وأنا الروح العليا، ويصبح الإنسان بجسده هو الأدنى. انقسم الإنسان إلى رجلٍ يرمز إلى العقل البشري، وإلى امرأة أدنى ترمز إلى الجسد والعقل والروح، كما وضعت عداوة بين الإنسان والطبيعة والكائنات الحية الأخرى ومنها الحية والثعبان. إن أخطر شيء يهدد قوة الإنسان هو ذلك التقسيم، لكني كنت في حاجةٍ إلى إضعاف الإنسان لأكون أنا الأقوى، حتى يصبح الإنسان عبدًا يعبدني، ويخاف من ناري أو يطمع في جنتي، لم يحبني أحد حبًّا حقيقيًّا؛ لأن الحب والخوف لا يجتمعان في قلبٍ واحد، أنا في حاجةٍ إلى الحب أيها السادة والسيدات، الحب الحقيقي بلا خوف من نارٍ أو طمع في جنة، هذا الحب لم يقدمه لي أحد من البشر إلا رابعة العدوية، لم تكن تطمع في الجنة أو تخاف النار، لكنها وقعت في الخطأ الذي أنا سببه الأول؛ فصلت رابعة بين الجسد والروح، فصلت بين جسدها وروحها، حين كانت تنظر في المرآة لم تكن ترى لا وجهها ولا وجهي، وإنما هي نصوصٌ وحروف مطبوعة في الكتاب الإلهي، لم تكن ترى في المرآة إلا صورتي في خيالها وخيال الناس، صورة من وحي الخيال كانت تراها، عاشت رابعة في الخيال، لم تعِش حياة المرأة الحقيقية، حكمت على جسدها بالإعدام كي تراني في مرآتها، وهذا ظلمٌ أيها السادة والسيدات، وإن كنت أنا خالقكم نساءً ورجالًا، فقد خلقتكم نساءً ورجالًا بأجسادٍ وعقولٍ وأرواحٍ متحدة داخل كيان الجسد.
إذا حُرم الجسد من حياته ورغباته حُرم العقل أيضًا وحُرمت الروح أيضًا؛ لهذا السبب لم تكن رابعة العدوية سعيدة في حياتها الحقيقية، كما كانت هي سعيدة في حياتها الخيالية الوهمية. إني أشعر بتأنيب الضمير؛ فهذه المرأة التي أعطتني كل هذا الحب لم أعطها أنا إلا الحرمان. كنت إلهًا قاسيًا في الحقيقة، أعوض عن قسوتي بالكلام عن الرحمة والعدل. كنت أنا أيضًا منقسمًا على نفسي أفصل بين جسدي وروحي، أنكر جسدي وأتصور أنني لست إلا روحًا في الهواء، وحين جاءت اللحظة الحاسمة لأهبط إليكم فوق الأرض، لم يكن لي مفر إلا الرجوع إلى الحق وارتداء جسدي الذي ترونه أمامكم أيها السادة والسيدات، وهو جسد رجل يدعي أنه ليس بشرًا، وجسد إنسان يدعي أنه إله. وقد آن الأوان أن أظهر على حقيقتي، وأعلن عن استقالتي من منصبي، منصب الإله الواحد الخالد إلى الأبد. إن الخلود نقمة وليس نعمة؛ تصوروا الحياة بلا موت ماذا تكون؟ إني أفضل أن أكون إنسانًا ميتًا يستمتع بالحياة والحب، والجنس، والحرية، وجميع زينات الدنيا، عن أن أكون إلهًا حيًّا بلا حياة ولا جنس، ولا حب ولا حرية إلا الفراغ الخالد. إن قضية الحب مثل قضية الحرية لا تتجزأ، وإذا خلت السماء من الحب والحرية خلت الأرض أيضًا من الحب والحرية، وإذا كان إله السماء دكتاتوريًّا فهل يعرف الحكام فوق الأرض شيئًا آخر غير الدكتاتورية؟!

(الصمت يدب في القاعة! الجميع جالسون صامتون واجمون.)

(يختفي الضوء ثم يظلم المسرح تمامًا.)

(تُسمع دقات قوية على الباب.)

(يضاء المسرح، الذي أصبح خاليًا إلا من بنت الله.)

(اختفت الشخصيات الأخرى في المسرحية.)

(تستمر الدقات على الباب، ثم يُكسر الباب ويدخل رجال البوليس يحملون البنادق، يتقدمهم رئيسهم نحو بنت الله.)

رئيس البوليس (في يده كتاب مطبوع) : أنت هنا ونحن نبحث عنك؟!
بنت الله : هذه داري ودار أمي وجدتي.
رئيس البوليس : وهذا الكتاب؟ هل أنت المؤلفة؟
بنت الله : نعم.
رئيس البوليس (يخاطب الجنود) : ضعوا في يديها السلاسل!
بنت الله (في دهشة) : لكنها مجرد مسرحية خيالية!
رئيس البوليس (في استنكار) : عاوزاها تكون حقيقية كمان؟!

المشهد الأخير

(بنت الله جالسة فوق الأرض التراب مكبلة بالسلاسل الحديدية، يُسمع صوت السلاسل تتحرك مع صوت غنائها الشجي الحزين، تتحسس الأرض التراب بكفيها وهي تغني):

بنت الله :
هذه الأرض كانت أرضها، ودارها كانت هذه الدار
وشجرة الجميز، وبابها المفتوح إلى المدخل،
والفرن والكانون والمشط والفأس
وجلبابها المعلق في المسمار.
الحصيرة القش ولدت فوقها ابنها،
أرضعته، علمته القراءة والكتابة، أعطته عقلها.
رأيته يمسك الفأس يضربها، وأنا أصرخ: جدتي!
دفنها تحت الأرض، أخفى جسدها،
ثم خرج للناس يقول إنه لم يلد ولم يولد ولم يكن له أم.
هذا هو أبي المعبود الأعظم،
أراد أن يقتلني أيضًا أنا ابنته.
لا يعترف إلا بأبنائه الذكور،
ويمحو من الوجود ذاكرتي.

(المسرح يظلم إلا من ضوءٍ خافت، تُسمع أصوات كثيرة وضجة بالخارج، صوت نساء وأطفال وشباب يكسرون باب الزنزانة، يدخلون إلى بنت الله، نرى من الوجوه في الضوء الخافت وجه إيزيس ورابعة العدوية وسيدنا إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد، وجميع الشخصيات التي اختفت من المشهد السابق تعود كلها.)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤