أحمد الحجَّار الحلبي

١١٩٠–١٢٧٠ﻫ

وقفتُ له على ترجمة بخط أحد أتباعه وتلامذته، قال: هو علَم العلم الباذخ، وطَود الفضل الشامخ، عالِم الأئمة، إمام العلماء، العالِم العابد الورِع الناسك الزاهد، سيف الله البتَّار، القائم بالله لله في جميع الأطوار، أبو عبد الرحمن أحمد الحجار ابن قاسم شنون، الحلبي وفاة ومولدًا، الدمشقي محتدًا.

وُلِد رحمه الله في حدود التسعين من المائة الأولى بعد الألف من الهجرة، وأخذ القرآن الكريم عن الشيخ الإمام الورع عبد الكريم الترمانيني والد السيد أحمد الترمانيني، وقرأ عليه مقدمات العلوم؛ كالآجرومية وغاية أبي شجاع وغيرهما، ثم لازَم الإمام الشهير بالشافعي الصغير السيد أحمد الهبراوي المتوفَّى سنة ١٢٢٤ﻫ، وأخَذ عن طائفة من أجلَّاء العلماء في ذلك العصر، وتلقَّى علوم التوحيد عن العارف بالله زين المرشدين أبي محمد إبراهيم الكبير الهلالي المتوفَّى سنة ١٢٣٨ﻫ، وسلَك عليه الطريق الهلالي المأخوذ من الطريقَين القادري والخلوتي، وأدخله الخلوة الأربعينية مرات، حتى ظهرت عليه أماراتُ النجابة، وسطعت عليه أنوارُ المعارف والفتوحات الإلهية، فأذِن له في الهجرة إلى دمشق، وقال له: لا تأكل غير البصل، فهاجر إليها وأقام مجاورًا في المدرسة البدرائية عشرين سنة ونيِّفًا، معتكفًا على أكْل البصل في جميع تلك المدة، ولم يتناول غيرَه أُدمًا سوى مرة اشتهى الدَّسَمَ فأذاب شحمًا وقلَى به بصلًا، فاعترتْه الحمى المثلثة ثمانية أشهر، فأحسن التوبة، وعاد إلى البصل بقية إقامته بدمشق.

وكان إذا اتفق له حضور وليمة في تلك المدة يقول لصاحب الدعوة: أحضر لي بصلًا فإني لا آكل غيرَه، بهذا أمرني شيخي.

ومن فضلاء ذلك العصر الذين أخذ عنهم: سعيد الحلبي، وحامد العطار، وعبد الرحمن الكزبري، والسراج الداغستاني، والضياء خالد الكردي النقشبندي، الذي اصطحبه لزيارة بيت المقدس وعادا معًا إلى دمشق حيث ألبسه الخِرقة النقشبندية وأقامه خليفة له، لكن غلَب عليه الاشتهارُ بالعلم وتدريسه، وانتفع به خلقٌ كثير هناك منهم السيد إبراهيم العطار، ثم استدعاه أهلُ حلب للاحتياج إليه، وقُلِّد بها فتوى السادة الشافعية، والتدريس في مدرسة بني العشائر والصلاحية وغيرهما، مع الإمامة والخطابة في الشعبانية، وانتفع به خلقٌ كثير، وتهذَّب على يديه رجالٌ وأبطال، منهم العلَّامة محقق المعقول والمنقول، مدقِّق الفروع والأصول، أبو محمد عبد القادر بن عمر بن صالح الشهير بالحبَّال، الزبيري نسبًا الحنفي مذهبًا، صاحب «نتيجة الأفكار نظم تنوير الأبصار» وغيرها من التآليف المنقَّحة المفيدة، المتوفَّى أواخر شعبان سنة ١٣٠٠ﻫ، والعلَّامة الشيخ هاشم بن عيسى الشافعي صاحب «شرح الألفية» وغيره، المتوفى آخر رمضان سنة ١٢٩٢ﻫ، وزينة البلاد، ومفخرة الزهاد، وعالِم العُبَّاد، السيد إسماعيل اللبابيدي، شارح الآجرومية بلسان الحكمة والوعظ شرحًا نفيسًا واسعًا في نحو عشرين كراسة، وصاحب التصانيف العديدة نظمًا ونثرًا، المتوفَّى سنة ١٢٩٠ﻫ، ومنهم العلَّامة الشيخ صالح أفندي الجندي العباسي مفتي معرَّة النعمان.

وحينما أراد السلطان العثماني عبد المجيد الاحتفالَ بخِتان ابنه السلطان عبد الحميد، أمر باستدعاء صاحب الترجمة في مقدمة مَن دعاهم من علماء البلاد الإسلامية، فلما دخل على السلطان للتسليم صافحَه وقرأ عليه ويدُه في يده «سورة العصر»، فهملتْ دموعُ السلطان اتعاظًا، وحَظيَ عنده بالمرتبة العليا. وعرَض عليه كثيرًا من الخِلع والهدايا السنيَّة فلم يقبل منها شيئًا، وعاد إلى حلب معزَّزًا مكرَّمًا، حيث واصل الاشتغال بالعلم تدريسًا وتصنيفًا.

ومن مصنفاته: «كنز المعاني شرح رسالة الشيخ قاسم الخاني في الميزان»، وقد أفاد فيه وأجاد، ولم يترك مجالًا لأحد من النقَّاد، بيَّن فيه الموجهات بشباك ظريف، ووضع شباكًا آخر للأشكال الأربعة بيَّن فيه كيفيةَ وضْع تركيب ضروبها، وأتى فيه بعجائب وغرائب لم يُسبَق إليها، وافتتحه بقوله: «الحمد لله الذي زيَّن نوعَ الإنسان بفصيح المنطق والكلام.» واختتمه بقوله: «وقد وافق الفراغ منه في دمشق المحمية، في المدرسة البدرائية، قُبيل الزوال من السُّبع الرابع من العُشر السادس، من الثلث الثاني من السدس الثالث، بعد الواحد الصحيح، من هجرة النبي الفصيح، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وشرَّف وعظَّم، والحمد لله رب العالمين.» وكتب ولدُه عبد الرحمن عليه حاشية نفيسة سمَّاها «تُحفة المُعاني على كنز المَعاني».

ومن مصنفاته: «نظم مختصر المنار وشرحه»، و«نظم الرسالة الفتحية في أعمال الربع المجيب وشرحه»، و«نظم معفوات الصلاة وشرحه»، و«نظم الجمل»، ونظم الحل والكسور سمَّاه: «مخدرات الحور»، وشرحه ولدُه عبد الرحمن شرحًا نفيسًا سمَّاه: «الجوهر المنثور على مخدرات الحور»، ورسالة في الجهاد رتَّبها على ثمانية أبواب عدد أبواب الجنة، وهي رسالة جيدة في بابها، في نحو خمسة كراريس، ورسالة في النحو سمَّاها: «تمرين الطلاب» رتَّبها ترتيبًا حسنًا، وهي أول ما ألَّف في حداثة سنِّه، وأقرأها لجماعة من المبتدئين، كان منهم السيد أحمد الترمانيني الشهير، وبذا عدَّه في شيوخه، وله شعر رائق، منه:

إني لأعجب والحجارةُ صنعتي
وأشد ما فيها عليَّ يهون
كيف ابتليت بقلبك القاسي الذي
عمري أعالجه وليس يلين

وله مشطرا بيتي الخفاجي:

وحقُّ المصطفى لي فيه حبٌّ
بديع في البرايا لا يُشبَّه
محا حبُّ الورى عني ولكن
إذا مَرِض الغرام يكون طبَّه
ولا أرضى سوى الفردوسِ مأوًى
لألقى وجْهَ مَن أمسيتُ صبَّه
ولا تحلو جنانُ الخلدِ إلا
إذا كان الفتى مع مَن أَحبَّه

وكان مع اشتغاله بالعلم، كثيرَ الشغف والولع بقضاء مصالح العامة عند الأمراء والحكام، آمرًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر، لا يردُّ مستشفعًا به قط، وطالما تحمَّل المكاره من العامة وصرف زمنه مسلوبَ الراحة لأجلهم، وكثيرًا ما كان يأتيه المستشفعُ في حال تهيُّئِه للوضوء، فيخرج معه إلى دار الحكومة بهيئته التي هو عليها، مشمِّرًا عن ذراعَيه، من غير سراويل ولا حزام.

وكان في داره شجرةُ رمان، فربما أخذ في يده عودًا منها كهيئة عصا يُشير إلى الحكام بها وقتَ حديثه معهم فترتعدُ منه فرائصُهم ويتهيبونه، وربما أغلظ لهم القولَ؛ إذ كان لا تأخذُه في الله لومةُ لائم.

كما كان أعظمَ ولعًا بإحياء المساجد المندرسة والبحث عن أوقافها حتى أحيا جملةً منها، من بينها مسجد كان أحدُ قناصل الدول الأجنبية قد أدخله في إصطبل دوابِّه، فتصدَّى الشيخُ لإعادته مسجدًا، وجاء به بفعلة فتحوا بابَه، وأنشئوا محرابه، ثم انصرفوا إلى بيوتهم، وعادوا في الصباح لإتمامه، فإذا بالمسجد كله قد هُدم ووُضعت على أرضه قاذوراتٌ نجسة، وما وصل نبأُ ذلك إلى الشيخ في داره حتى غادرها مسرعًا إلى المسجد، وهو يبكي وينتحب، وتجمَّع الناسُ حوله خاصة وعامة وارتفعت أصواتُهم بالبكاء معه، ثم اشتدَّ هياج العامة وصمَّموا على البطش بذلك القنصل، وانطلقت جموعُهم تُحاصره في الخان الذي كان مقيمًا به، وهو أشبه بالحصن كأغلب أبنية حلب، فتملَّكه الذُّعرُ، وأطلَّ عليهم من طاقٍ في الخان مناديًا: «يا معشر المسلمين انصرفوا ولكم عليَّ أن أبنيَ المسجد أحسن بناء»، ولكنهم لم ينصرفوا، وأخذوا يضيِّقون الحصار عليه، والشيخ معهم.

ولم يجد الوالي بُدًّا من النزول بنفسه لتدارك الأمر، وأعلن أمام الجموع الكبيرة أنه سيبدأ فورًا إعادة بناء المسجد ولن ينصرف حتى يتمَّ بناءُ المحراب أمامه وأمام الشيخ، فهدأت ثورتُهم وعدلوا عن حصار القنصل، وتمَّ بناءُ المسجد على أحسن صورة تليق بعزة الإسلام ومجده، طيَّب الله ثرى الشيخ وأجزل مثوبته، ورحم الله مَن عاونهم وعاونوه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤