أحمد الفحماوي

١٢٤٦–١٣٠٩ﻫ
هو الشيخ أحمد الفحماوي١ ابن الحاج إسماعيل ابن الحاج قاسم بن إسماعيل بن عامر بن منصور، ومنصور هذا من قبيلة المحاميد نسبة إلى محمود القرشي.

وُلِد صاحب الترجمة بأم الفحم بمركز جنين بمديرية نابلس بولاية بيروت ببر الشام، وأم الفحم قريبة من بيت لحم مسقط رأس سيدنا عيسى ابن مريم عليهما الصلاة والسلام؛ ولذا قال صاحب الترجمة تحدُّثًا بنعم الله: «بلدنا بُنيَ في وسط الحول المذكور في قوله تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ … فبلدتُنا في وسط البرَكة، فلله الحمد والشكر.» وُلِد رحمه الله في سنة ١٢٤٦ هجرية الموافقة لسنة ١٨٣٠ ميلادية، وتُوفي إلى رحمة الله بمصر المحروسة في سنة ١٣٠٩ﻫ الموافقة لسنة ١٨٩٢م، ودُفن بحوش الترجمان أمام حوش المرحوم الشيخ الحدَّاد، بتربة الشيخ حسن الشبراخيتي شارح الأربعين حديثًا النووية، معه في لحد واحد، وذلك بقرافة المجاورين.

وخلَّف من الذكور محمد ماجد أفندي الأجزاجي بشارع شبرا، ومحمد عارف أفندي معلِّم العلوم الرياضية والعمارة بمدرسة المهندسخانة سابقًا ومن وكلاء النائب العمومي لاحقًا.

أرسله أبوه للجامع الأزهر لطلب العلم، وكان عمره إذ ذاك نحو خمسة وعشرين سنة، فبعد سنتين أو ثلاث تزوَّج بالست أليفة بنت السيد أحمد العبساوي الجواهرجي الحسيني فخلَّف منها ولدَيه المذكورين آنفًا، ثم تُوفي أبوه إلى رحمة الله، فسافر لبلدة أم الفحم لحضور العزاء، ثم عاد وأقام بمصر حتى قضى نحبَه، وكان أبوه يُنفق عليه، فلما تُوفي سعى على معايشه بتعاطي صنعة نسْخ كُتُب العلم بحبر مطبعة الحجر لصاحبها كاستلي؛ أشهر مطبعة وقتَها بعد مطبعة بولاق الأميرية.

فطبع بخطِّه مجموع المتون وكُتُب التصوف لسيدي عبد الوهاب الشعراني، وديوان سيدي عمر بن الفارض، والشفا للقاضي عياض، وأخيرًا اللزوميات لأبي العلاء المعري، وكتَبها كذلك بالحبر العادة لكثير من الذوات، وكتَب كثيرًا من المصاحف والربعات ودلائل الخيرات.

وتوظَّف بوزارة المعارف المصرية بقلم الترجمة، ثم انتقل إلى الدائرة السنية أمينًا لكُتبخانتها.

وكان رحمه الله نجيبًا أديبًا، نادرة زمانه، يحفظ كثيرًا من قصائد الأدب، وكثيرًا من الحِكم، وكثيرًا من الأحاديث النبوية والقدسية، وكان صالحًا تقيًّا، عالِمًا عاملًا، مخلصًا صادقًا، أمينًا كريمًا، زاهدًا في الدنيا، راغبًا في الآخرة.

وكان رحمه الله نصوحًا لأولاده وأحبابه. أحفظُ له ثلاثَ نصائح لي؛ أحدها وأنا تلميذ حديث البلوغ، وهي أنه أوصاني بالاستبراء عقب الحدَث «البول»، وأخبرني بأن المبنيَّ على الفاسد فاسد، والمبنيَّ على الصحيح صحيح، وأن هذا أساس العبادات. والثانية وأنا معلِّم بمدرسة المهندسخانة، وهي أنه أخبرني أن الناس في غفلة عن الله سبحانه، وأن اللازم أن العبد يتوجَّه بوجهه وقلبه دائمًا إلى الله تعالى، وأوصاني بقوله: الزم يا بني هذا الدعاء: «اللهم لا تحوِّل قلبي ولا وجهي إلا إليك، ومثل ذلك لأصحاب الحقوق عليَّ وللمسلمين.»

والثالثة: ذكر الحديث: بين العبد وربه سبع عقبات، أهونها الموت، وأصعبها الوقوف بين يدي الله عز وجل إذا تعلَّق المظلومون بالظالمين يقول هذا أخذ مالي وظلمني وهذا هتَك عِرضي وفضحني، وأخبرني بأن المُنجي من كل ذلك المواظبة على الصلوات الخمس، وأن الإنسان بعد السلام من كل فرض يقول: أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه ثلاثًا، أستغفر الله العظيم لي ولوالدي ولأصحاب الحقوق عليَّ ولجميع المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات خمسًا، وذلك قبل أن يغيِّر جلسة التشهد من كل فرض.

ولما تزوَّج ولداه محمد ماجد أفندي ومحمد عارف أفندي، وكانت الستُّ والدتهما مطلقةً خارج منزله، وكان على ذمته غيرُها، عزمَا على أن تكون أمُّهما معهما بالمنزل، فكتبا له عريضة بطلبهما هذا حياءً منه أن يطلبا إليه ذلك شفهيًّا.

وهذه صورة العريضة:

عريضة مقدمة بين يدي حضرة والدنا للنظر في إصلاح ورفعهما في الدارين، فنعرض أحوالنا الدنيوية والأخروية
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الحليم الحكيم العادل، والصلاة والسلام على رسوله خير الأواخر والأوائل، وعلى آله وصحبه أُولي الفضائل والشمائل، أما بعد: فإن المنة لله ولرسوله وللوالدين، حفظهما الباري تعالى ورفعهما في الدارين، فنعرض يا أبانا على شريف مسامع جنابك، أنه من مِنَنك على أولادك، أنك أحسنتَ مثوانا، وسعيتَ لنا في صنعتَين شرَّفتنا بهما، جعل الله يدَنا العليا بالعطاء، ولم يجعل يدنا السفلى بالاستعطاء، لما ألهمك ربُّك وأنت مسافر بإسلامبول حديث: كفى بالمرء إثمًا أن يُضيِّع مَن يعول، ودوام السعي لنا بكل الهمة، على ما فيه صلاحنا، فلك المنة، واتخاذك إيانا كأخوَيك، مع الشفقة بنا ولِين جنبَيك، وتحريضنا على صلة الأم والأرحام، وقولك لنا إن أمنعكما عنهم حرام، وتعليمك إيانا أمورَ ديننا، وحثنا على الزواج حفظًا لسيرنا، وغير ذلك من مننك التي لا تُحصى، وإرشاداتك المخلصة التي لا تُستقصى، فحق علينا أن نقول، موقنين من الله القبول: سبحانك لا نُحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، حيث منَّ الله علينا بوالد بار، شفوق صالح صبار، وحق لنا أن نقول، وعلى الله بلوغ المأمول:

حيث إن متوسط مكاسب ولدَيك شهريًّا مدة السبع سنوات نحو الخمسة عشر جنيهًا تنصرف مع مكسبك الشهري تقريبًا في المنزل مع وجود الدَّين، ولم يصل للست أُمِّنا من مكاسبنا إلا جنيهان شهريًّا، فلما منَّ الله علينا بالزواج ألهمنا سبحانه أننا قادمون فضلًا عما سبق على ما هو أصعب، فإنه إذا كان الأمر الأول هو في حالة خلونا من الزواج، فما يكون شأن الأمر الثاني ووجود الأزواج، وفي الأول والثاني تكون أمُّنا محرومةً منا، وقد منَّ الله علينا بحل هذه المسألة هكذا:
  • أولًا: ألا نصرف زيادة عن حدنا.
  • ثانيًا: ألا نأخذ شيئًا بالدَّين.
  • ثالثًا: أن تبقى الستُّ والدتنا في منزلنا.
وفي ذلك يا أبانا مزايا دنيوية وأخروية:
  • أما الدنيوية: فإنها توفر علينا اثنين جنيه، وهدو سرنا من جهة الست أُمِّنا واحتياجاتها الشرعية.
  • وأما الأخروية: فإنها الحصول على رضاء أُمِّنا عنَّا، كما تحصلنا بفضل الله على رضاء أبينا.

وقد تكلَّم موسى عليه الصلاة والسلام ثلاثة آلاف وخمسمائة كلمة، فكان آخر كلامه: يا رب أوصني، قال: أوصيك بأمِّك حسنًا، وقد كرَّرها تعالى سبع مرات، قال: حسبي، ثم قال: يا موسى، ألا إن رضاها رضاي وسخطها سخطي. وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لابن مهران: لا تأتين أبواب السلاطين وإن أمرتهم بمعروف أو نهيتهم عن منكر، ولا تخلونَّ بامرأة وإن علَّمتها سورة من القرآن، ولا تصحبنَّ عاقًّا؛ فإنه لن يقبلك وقد عقَّ والديه.

وجاء رجل إلى النبي فقال: يا رسول الله، إن لي والدةً أُنفق عليها وهي تؤذيني بلسانها فكيف أصنع؟ فقال النبي : أدِّ حقها، فوالله لو قطعت من لحمك ما أديتَ ربع حقها، أمَا علمت أن الجنة تحت أقدام والدتك، فسكت الرجل وقال: والله لا أقول لها شيئًا، ثم أتى الرجل إلى والدته وقبَّل أقدامها، وقال: يا والدتي بذلك أمرني رسول الله . وقد قال : ما عُبد الله بشيء أفضل من جبر الخواطر. وقد سمعنا منك مرارًا: البَرُّ بارٌّ بأهله. وقال عليه الصلاة والسلام: رحِم الله امرأً أعان ولدَه على برِّه. ونرى أنه بعد الوصول إلى ذلك لا ريب أن الله تبارك وتعالى يُوصلنا إلى الخير، وفي الحديث القدسي: أنا الرحمن خلقتُ الرحم وشققتُ له اسمًا من اسمي، فمَن وصلها وصلتُه ومَن قطعها قطعتُه. وقال : من أحبَّ أن يُنسأَ له في عمره ويُبسَط له في رزقه فليصلْ رحمَه.

وعرْضُنا مسألتنا هذه لحضرتك يا أبانا تحريريًّا هو لشدة الحياء منك، ولتمكن حضرتك من التأمل والتفكر والتدبُّر والتروي في هذه التجارة المنجية لنا جميعًا من النار، فأعنَّا يا أبانا في الدنيا يُعنْكَ في الآخرة.

والحاصل أن مطمح نظرِنا معيشتُنا في الدنيا ممتعين بالحزم، ووصولنا للفتوح ورضاء الوالدين ما استطعنا كما أمر الله ورسوله، محاربين أنفسَنا والشيطان والدنيا والهوى، خالصة قلوبنا لله فإنَّا هُدنا إليه، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتديَ لولا أن هدانا الله، ولا زلتم ملجأً لنا وللقاصدين، ربنا تقبَّل منا إنك أنت السميع العليم، وأرنا مناسكنا وتُب علينا إنك أنت التواب الرحيم، وعَلِّمنا الكتاب والحكمة وزكِّنا إنك أنت العزيز الحكيم، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا، آمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

فأجاب صاحبُ الترجمة طلبَهما، فرحمه الله وإيانا رحمة واسعة.

١  هذه الترجمة بقلم محمد عارف الفحماوي ولده بناءً على طلب المرحوم أحمد تيمور باشا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤