عبد القادر الجزائري

١٢٢٢–١٣٠٠ﻫ

وقفتُ له على ترجمة كتبها حفيدُه الأمير طاهر الجزائري، قال: هو سُمو الأمير عبد القادر الجزائري الحسيني الكبير فرع الشجرة الزكية، وبدر العصابة الحسنية، إنسان عين السادة الأخيار، وعِقد جِيد القادة الأبرار، صدر الشريعة بل تاجها، بدر الحقيقة بل معراجها، نخبة آل بيتٍ اشتهرت بالشرف أوائلهم وأواخرهم، وأشرقت في أفق سماء السعادة فضائلُهم ومفاخرُهم، من عجزَت عن حصْر أوصافه الأقلام، وتباهتْ بوجوده الليالي والأيام، وتزيَّنت الطروس بغرر مزاياه ومدائحه، وتلت النفوسُ آياتِ الحمد والإخلاص في صحائفه، واسطة عِقد الشرف المقتنى، وغصن شجرة المجد المجتنى، كعبة القاصدين، حرَم الخائفين، ناصر الدين، الأمير عبد القادر بن محيي الدين بن مصطفى بن محمد بن المختار بن عبد القادر بن أحمد المختار بن عبد القادر بن خدة بن أحمد بن محمد بن عبد القوي بن علي بن أحمد بن عبد القوي بن خالد بن يوسف بن أحمد بن بشار بن أحمد بن محمد بن إدريس بن إدريس بن عبد الله الكامل بن الحسن المثنى بن الحسن السبط ابن فاطمة الزهراء، بضعة خير الأنام، عليه أفضل الصلاة وأكمل السلام.

وُلِد قدَّس الله سرَّه في رجب سنة ألف ومائتين واثنتين وعشرين ببلدة القيطنة التي اختطها جدُّه بإيالة وهران من أعمال الجزائر، ثاني أنجال والده ووالدته السيدة الشريفة الزهراء بنت السيد عبد القادر بن دوخة الحسيني، تربَّى في حِجْر والده، وفي مدرسته حفِظ القرآن الكريم، وأخذ العلم عن أهل العرفان.

وفي سنة ١٢٣٦ﻫ سافر إلى وهران وحصَّل بها، وبرع في مختلف الفنون.

وفي سنة ١٢٤١ﻫ سافر منها برًّا صحبةَ والده ذي الكمالات والعلوم الباهرة، قاصدين مكة المكرمة عن طريق القاهرة، وبعد الحج رجعَا إلى دمشق الشام، لزيارة الصلحاء والعلماء الأعلام، وأخذ بها عن الولي الصالح الإمام حضرة مولانا الشيخ خالد المجدوي الطريقة النقشبندية، ثم غادرها إلى بغداد حيث أخذ الطريقة العلية القادرية على السيد محمود الكيلاني، ثم رجع برًّا إلى الشام، ومنها قصَد بيت الله الحرام مرة أخرى، وبعد أداء المناسك رجع من طريق البر إلى بلدته في السنة الثالثة والأربعين بعد المائتين والألف من الهجرة.

وفي سنة ١٢٤٦ﻫ قام والدُه بأمر الجهاد فحارب معه سنتين، وفي رجب سنة ١٢٤٨ﻫ بايعه أهل الجزائر أميرًا عليهم لاشتهاره بالشجاعة والعلم والصلاح والبراعة، فباشر الأعمال، وركِب الأخطار والأهوال، وأقام الإمارة على قدمَي الفضل والعدل، وزانها بما يؤيده العقلُ والنقل، وضرب السكة من فضة ونحاس، وأنشأ المعاملَ للأسلحة واللباس، وقام بأمر الجهاد ستةَ عشرَ عامًا، يحارب جيوش فرنسا ويحمي دينَه ووطنه، وأظهر من الشجاعة والبسالة في كل مجال ما اشتهر في الآفاق، وقد بسطتُ ترجمتَه في كتابي المسمَّى ﺑ «تحفة الزائر في مآثر الأمير عبد القادر».

وكان يباشر القتال بنفسه، ويتقدَّم أصحابُه في المواقف، فيرجع وألبسته محرقة من الرمي بالرصاص، ولم يُصبْه سوى جُرح بكتفه وآخر بأذنه، وماتت تحته عدةُ خيول.

ثم هاجمتْه جيوشُ مراكش من جهة أخرى، وبعد محاربات عديدة علِم أن التسليم أولى، فسلَّم لفرنسا على شروط مقرَّرة وعهود، وذلك في المحرم ١٢٦٤ﻫ، وبقي محجورًا عليه عندها.

وفي سنة ١٢٦٦ﻫ زاره في محل إقامته بمدينة «أمبواز» نابليون الثالث إمبراطور فرنسا وبشَّره بإطلاق سبيله، وأهدى إليه سيفًا مرصَّعًا، ورتَّب له في كل سنة خمسة آلاف ليرة فرنسية.

ثم سافر إلى باريس ومنها إلى الآستانة حيث قابل السلطان عبد المجيد خان فأكرم وفادتَه، ومنحه دارًا عظيمة بمدينة «بورصة»، ثم رجع سنة ١٢٧٠ﻫ إلى الآستانة وتوجَّه منها إلى باريس، ثم رجع إلى بورصة وبقي بها حتى سنة ١٢٧١ﻫ، فغادرها إلى دمشق للإقامة بها.

وفي سنة ١٢٧٣ﻫ توجَّه إلى زيارة بيت المقدس، وقرأ خلال شهر رمضان في دار الحديث هناك البخاري، كما قرأ الإتقان والإبريز في مدينة الجقمقية.

وفي شهر رمضان سنة ١٢٧٥ﻫ اعتكف بالجامع الأموي، وقرأ الشفاء والصحيحين في مشهد الإمام الحسين رضي الله عنه، وفي سنة ١٢٧٧ﻫ زار حمص وحماة، ومُنِح من الدولة العلية النيشان المجيدي من الرتبة الأولى، ونياشين كثيرة من دول مختلفة، تقديرًا لِما أبداه من المساعدة للمسيحيين في الفتنة التي حدثت في تلك السنة.

وفي سنة ١٢٨٠ﻫ توجَّه إلى مكة المكرمة وأقام بها وبالطائف وبالمدينة المنورة سنة وستة أشهر، وأخذ بمكة الطريقة الشاذلية عن الشيخ محمد الفاسي.

وفي سنة ١٢٨٢ﻫ قصد الآستانة وقابل السلطان عبد العزيز فأكرم نُزُله ومنحه النيشان العثماني من الرتبة الأولى، ثم توجَّه منها إلى باريس فزاد له الإمبراطور نابليون الثالث ٢٥٠٠ ليرة فرنسية على مرتَّبه السنوي السابق.

وفي سنة ١٢٨٦ﻫ دُعي إلى مصر لحضور احتفال خليج السويس، وقرأ «الفتوحات المكية» مرتين سنة ١٢٨٩ﻫ بعد أن أرسل عالِمَين لتصحيحها على النسخة الموجودة بخط مؤلفها الشيخ الأكبر في «قونية»، وأخذ الطريقة العلية المولوية على الدرويش صبري شيخ طريقة المولوية بالديار الدمشقية.

وكان مالكيَّ المذهب، محافظًا على السُّنن، عاكفًا على شهود الجماعة، كثيرَ الصدقات، وجعل مرتَّبًا في كل شهر للعلماء الصلحاء والفقراء، عاملًا بتقوى الله في السر والجهر.

وتغلغل في آخر عمره في علوم القوم، وأظهر من دقائق الحقائق وعوارف المعارف ما يؤذِن بسموِّ مقامه وعلوِّ قدْره، وكان يصوم شهر رمضان على الكعك والزبيب، معتزلًا عن القريب والغريب، وله خلوة يتحنث بها في قصره بقرية أشرفية صحنايا، وكان خلال مرض وفاتِه مشتغلًا بالمراقبة والمشاهدة، حتى إنه ما أنَّ ولا تأوَّه برغم اشتداد آلام الكُلى والمثانة طيلة ٢٥ يومًا، إلى أن انتقل إلى رحمة ربِّه الكريم في منتصف ليلة السبت ١٩ من رجب سنة ١٣٠٠ﻫ في قصره بقرية دمر بدمشق.

وصلَّى عليه بالجامع الأموي خلقٌ كثير، واجتمع في جنازته أُممٌ من جميع المِلل، ودُفن ظهر يوم السبت إلى جوار الشيخ الأكبر سيدي محيي الدين ابن العربي الحاتمي في حجرته.

وقد توفي عن زوجته ابنة عمِّه وعشرة أولاد ذكور وست بنات، وثلاث جوارٍ جركسيات وجارية حبشية، وكان رضي الله عنه معتدلَ القامة، عظيمَ الهامة، ممتلئ الجسم، وجهه أبيض مشرَب بحمرة، وشعر رأسه أسود إذ كان يخضب بالسواد، أقنى الأنف، أشهل العينين.

وله من المؤلفات تعليقات على حاشية جدِّه السيد عبد القادر بن خدة في علم الكلام، وتنبيه الغافل وذكرى العاقل، والمقراض الحاد لقطع لسان الطاعن في دين الإسلام من أهل الباطل والإلحاد، والمواقف في علم التصوف، وله من الشعر الرائق والنثر الفائق ما يطرب الأسماع، ويستهوي الألباب والطباع، كما كان يُجيد اللعب بالشطرنج، ويُحسن الخياطة ولا سيما خياطة الشبكة، وبالجملة كان إمامًا جليلًا، عالمًا عاملًا، نبيهًا نبيلًا، زاهدًا ورِعًا، مهيبًا شجاعًا، كريمًا حليمًا أوَّابًا، رضي الله عنه وأرضاه، وجعل الجنةَ مثواه، آمين.

وله ديوان شعر فائق العبارات، رائق الإشارات، سمَّاه: «نزهة الخاطر في قريض الأمير عبد القادر».

ومنه قوله مفاخرًا بانتمائه إلى آل البيت:

أبونا رسولُ الله خير الورى طُرًّا
فمَن في الورى يبغي يطاولنا قدرَا
ولانا غدًا دينًا وفرضًا محتمًا
على كل ذي لُبٍّ به يأمن الكفرا
وحسبي بهذا الفخر من كل منصبٍ
وعن رتبةٍ تسمو وبيضاء أو صفرا

وقال قدَّس الله سرَّه لمَّا شاهد تشييد حصن «طازه» في أسرع وقت، وأمر بكتابته على باب الحصن:

اللهُ أعلم أنَّ هذا لم يكن
منِّي على الأمد الطويل دليلَا
كلَّا وإنَّ منيَّتي لقريبةٌ
مني وأصبح في التراب جديلَا
ورضا الإله هو المُنى، ويكون من
بعدي انتفاع الخلق ثَمَّ طويلا

وقال لما تركه إخوتُه وتوجَّهوا إلى مراكش في أيام الجهاد:

يا سوادَ العين يا روحَ الجسد
يا ربيعَ القلب يا نِعم السند
كنتَ لي قُرَّةَ عين، وبها
راح قلبي لا بمالٍ وولد
فرمى الدهرُ بعيني أسهمًا
مُذ نأيتم لا أرى فيها أحد

وقال مستغيثًا ومتوسلًا بالنبي :

يا سيدي يا رسولَ الله يا سندي
ويا رجائي ويا حِصني ويا مددي
لا علْمَ عندي أرجِّيه ولا عمل
أمام نجواي من هُدَى ومن رشَدِ
أبغي رضاكَ ولا شيءَ أُقدِّمُه
سوى افتقاري وذُلِّي واصفرارِ يدي

وقال مرحِّبًا بالعالِم المتفنن السيد محمد الشاذلي القسطنطيني حين زاره في منفاه بفرنسا:

أهلًا وسهلًا بالحبيب القادم
هذا النهار لديَّ خيرُ مواسمِ
جاء السرورُ مصاحبًا لقدومه
وانزاحَ ما قد كان قبل ملازمي
أفديكَ بالنفس النفيسة زائرًا
من غير ما منٍّ ولستُ بنادمِ
طالت مساءلتي الركاب تشوقًا
لجمال رؤية وجهك المتعاظمِ
لا غروَ إنْ أحببتُكم من قبلُ ما
شاهدتكم أنتم جمالُ العالمِ
لا زلت ميمونَ النقيبة طالعًا
بالسعد ذا فضل وخِدن مكارمِ

وقال متحدثًا بنعمة الله:

الحمدُ لله الذي قد خصَّني
بصفات كلِّ الناس لا النسناس
الجودُ والعلمُ النفيس وإنني
لأنا الصبورُ لدى اشتداد الباسِ
وتحدَّثي شكرًا لنعمة خالقي
إذ كان في ضمني جميعُ الناس

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤