السلام العالمي ونصيب المرأة في تحقيقه

سادتي وسيداتي

موضوع خطير أهنئ جناب مدير قسم الخدمة العامة على حسن اختياره له، كما أشكره على ما أولاني من ثقة غالية مكَّنتني من بحثه ومحاضرتكم عنه، وإبداء وجهة نظري فيه. وسأحاول ما استطعت أنْ أكون عند حُسن ظنه بي.

السلام العالمي أمنية غالية تبدو للمتفائلين عزيزة المنال إلَّا أنها مُمْكِنَةُ التحقيق؛ لذلك نجدهم لا يألون جهدًا، ولا يدَّخِرُون وُسعًا في السعي وراء تحقيقها والعمل على توطيد السلام. أمَّا المتشائمون — ومعظمهم من النفعيين مع الأسف — فإنهم يؤكدون أنَّ السلام حُلم من الأحلام. وهم يزعمون أنَّ الميل إلى الحرب غريزة في الإنسان بدافع تنازُع البقاء. ويدعمون نظريَّتَهُم بأن الطبيعة لم تختَصَّ النوع البشري وحده بهذه الغريزة، بل شملت بها نوع الحيوان الذي يفترس قويُّه ضعيفَه بما وهبته من سلاح طبيعي.

وبناءً عليه فالحرب لا مفر منها ولا علاج لها. وإنَّ فكرة إبطالها والسعي وراء توطيد السلام فكرة خاطئة نشأت عن توهُّمات الخياليين، الذين يعيشون في الأحلام بعيدين عن الحقائق. ومع أنَّ كل المظاهر — مع الأسف — تدعو الإنسان إلى التسليم كرهًا بالكثير من نظرياتهم، إلَّا أنني مع هذا أُفَضِّلُ الأخذ بنظرية أهل الخيال؛ لأنها هي وحدها الجديرة بالإنسانية السامية الرفيعة، كما أنها هي التي تُفسِح للناس مجال الأمل في هذه الحياة الفانية. والأمل ضرورة من ضرورات الوجود، وأنَّ لا حياة بلا أمل. والظمآن إذا سار خلف السراب في طلب الماء كثيرًا ما يسعده الحظ بالوصول إلى ما يطفئ ظمأه، وإلَّا كان الأمل على الأقل دافعًا له إلى الصبر، والمثابرة في المضي وراء الغاية.

مُنًى إنْ تكن حقًّا تكُن أسعد المنى
وإلَّا فقد عِشْنَا بها زمنًا رغدَا

فإذا قارنَّا بين نظرية المتشائم الذي يقطع علينا سبيل الأمل في السلام، ونظرية المتفائل الذي يَنشُد السعادة من طريق السلام، واعتقدنا مع جماعة المتفائلين أنَّ السلام وإنْ كان عزيز المنال إلَّا أنه ميسور التحقيق، وجب علينا حينئذٍ أنْ نبحث عن الوسائل التي تؤدي بنا إلى تحقيقه وتوطيد دعائمه، معتمدين على حسن نيتنا وقوة إيماننا؛ لتذليل كل الصِّعاب التي تعترض المجاهدين في سبيل السلام مهما لَقِينا في هذا السبيل من سخرية المتشائمين ومعارضة المغرضين.

على المرء أنْ يسعى إلى الخير جهده
وليس عليه أنْ تتم المقاصد

أمَّا المقارنة بين الإنسان والحيوان لتقوية حجة مؤيدي الحرب ونظرية داروين، فهي قياس مع الفارق، ودليل ضعف على صحة هذه النظرية؛ للتفاوت العظيم بين النوع البشري والحيوان في الخلق والاستعداد.

ولو أنَّ الطبيعة قد وهبت الحيوان سلاحًا طبيعيًّا إلَّا أنها غرست فيه الإلهام باستعمال هذا السلاح في حالتَي الجوع والدفاع عن النفس فقط؛ لأنها خلفته ضعيفًا محدود الإدراك، غير مسئول إلا عن نفسه. أمَّا الإنسان فقد فضَّله الله — سبحانه وتعالى — على باقي مخلوقاته، وتفنن في إبداعه، وخصَّه بمميزات رفعت من قدره ومرتبته عن باقي الكائنات، أهمها العقل والذاكرة والنطق، وأعطاه بذلك مقاليد أمور الحياة، ووضع عليه مسئوليات تصريفها، وجعل من هذه المميزات سلاحَه وقُوتَه. والدليل على ذلك أنَّ الحيوان يولد مجهَّزًا بالأسلحة اللازمة لضمان حياته، فهو يُخلق بمخالبه وأنيابه، ولا يكاد يحتاج منذ ولادته إلى مُعِين على السير وطلب القُوت. أمَّا الطفل فيحتاج منذ ولادته لرعاية والديه وتعهُّدهما له في غذائه وجميع مرافقه، ويظل كذلك حتى تتكون مداركه شيئًا فشيئًا، ويبلغ السن التي يستغني فيها عن معاونة غيره والاعتماد على نفسه؛ ليقوم هو بدوره في إسداء المعونة لأمثاله في الحياة الاجتماعية.

لذلك يرى المتفائلون بحَقٍّ أنَّ الإنسان مخلوق اجتماعي لا يمكنه أنْ يعيش بمفرده، بل لا بُدَّ له من التعاون وتبادُل المساعدة بينه وبين بني جنسه، بل بينه وبين سائر المخلوقات. وقد خلقه الله لرُقِيِّ الكون وعمرانه، لا للهدم والتخريب؛ فهو لذلك دائم الطُّمُوح إلى أسمى درجات الكمال. وكثيرًا ما يكبو الطامح في طريقه إلى الغاية.

ولكن ما كانت هذه الكبوات دليلًا على أنه سيبوء بالفشل، فلا بُدَّ له إذن من استئناف خطواته الطيبة، والمُضِي في سبيل الخير، وهذه الفكرة هي التي تحدو بأصحاب المُثُل العليا إلى الاستمساك بحبال الأمل في تحقيق فكرة السلام؛ لاعتقادهم أنه بفضل التَّرَقِّي والتقدُّم، لا بُدَّ أنْ يسمو الإنسان على مطامعه، ويرتفع فوق ميوله ومصالحه الخاصة. فتتحول غريزة القتال لديه إلى قوة إنشائية منظَّمة، تساعده على أداء رسالته المُثلى للمجتمع، وبذلك سينتهي به هذا التدرُّج حتمًا إلى وضع نظام جديد يضمن للعالم سلامه وطمأنينته.

وأي وقت أنسب للعمل على تحقيق هذه النظرية السلميَّة من وقتنا هذا، الذي لا تقتصر فيه مضارُّ الحرب على المتحاربين، بل تتعداها إلى الآمنين، ويتأثر بنتائجها العالم كله؛ لما أصبح بين الدول من مصالح مشتركة وارتباطات دولية تضطر الصغير منها والكبير إلى خوض غمار الحرب، فيخرج الجميع منها بسبب الاختراعات الجهنمية الحديثة، منهوكي القوى خاسرين إلَّا فئات محدودة تذكي نار الحرب ولا تكتوي بأوارها؛ لأنها تستغلها في تنفيذ مآربها وغاياتها.

وأي دليل على قولنا هذا أصدق من نتائج الحرب العالمية الكبرى، التي لا زال العالم يرزح تحت أثقالها بما خرَّبت من مدن عامرة، وبما خلَّفت بين الأمم من ضغائن، وبما ألحقته بالتوازُن العالمي من اختلال شديد الخطر، حتى أصبح العالم يعيش على فوهة بركان يكاد أنْ ينفجر عند حدوث أيَّة أزمة دولية.

فمن مخلَّفات الحرب العظمى ما تقاسيه الإنسانيَّة اليوم من أزمات اقتصادية، وحروب داخلية، ومطامع استعماريَّة لا حَدَّ لها ولا رادع. عمادها الظلم البيِّن والتعدي على الضعيف، والاستهتار بالأرواح البريئة والحقوق المشروعة.

سادتي وسيداتي

ليست فكرة السلام وليدة اليوم، بل هي فكرة نشأت منذ القدم في عصور مختلفة، عقب الحروب المتوالية المنهِكة؛ لميل الإنسان الطبيعي إلى الهدوء، وحاجته إلى الراحة والطمأنينة. ففي زمن الفراعنة حاول إخناتون التمهيد لبث روح السلام، ومساواة الولايات الخاضعة له في المعاملة والحقوق، وتوحيد العقيدة الدينية بأن الشمس هي مصدر الحياة للجميع. ولكي ينفذ هذا المشروع نقل العاصمة من طيبة إلى تل العمارنة التي بناها ليقيم فيها على نظم جديدة تناسب الحياة الجديدة التي كان يهيئها لبلاده، فازدهرت في عصره الفنون والصنائع. ولكن مع الأسف بينما كان يدعو هو إلى بث روح التآخي وتوطيد السلام في ترتيله للإله آتون، كان أمراء سوريا والولايات التابعة لمصر يتغنَّوْن بالأناشيد الثورية، فهال الكهنة والوزراء هذا الانقلاب، فثاروا عليه وبثوا رُوح التمرد في الأهلين. وكان كلما نبهه رجاله إلى الخطر الذي يهدده ويهدد سيادته لمقاومة أعدائه، يقول: «دعوا السيف في غمده مَن حمل السيف مات به.» وإخناتون هو حمو الملك توت عنخ آمون الذي اكتشفوا في قبره أجمل الآثار المصريَّة وأبدعها رسمًا وأدقَّها صنعًا.

وفكر من بعده إسكندر الأكبر في نشر السلام؛ بإنشاء التعاون بين الإغريق وغيرهم من أمم الشرق على أساس المساواة. وفي عصور مختلفة ظهر رجال مفكرون وفلاسفة أوقفوا أفكارهم وجهودهم على خدمة السلام، منهم أفلاطون، وشيشرون، ومارك أورليوس إمبراطور روما، وغيرهم من الذين كانوا يعتقدون أنَّ الحرب إجرام ووحشية.

ثم ظهر الدين المسيحي ونشر بتعاليمه السامية رُوح التسامح والتضحية بين الناس، وكان قصد العناية الإلهية منه أنْ يرفرف السلام على العالم، وأنْ تعم أركانه السعادة والصلاح، ولكن هذه المبادئ الكريمة التي تحث على الإخاء والوئام لم ترُق في أعين اليهود، فقاوموا المسيح وأشعلوا نار الفتنة ضده بين شعب الرومان الملحد إذ ذاك؛ فحُكِمَ على المسيح بالصلب وعلى أنصاره بالاضطهاد، فرفعه الله إليه ليكون آية للعالم في التضحية والتفاني في إعلاء كلمة الله ونشر السلام على الأرض.

فإذا أنصفْنا الحقيقة والتاريخ قلنا إنَّ جميع الأديان حثت على التسامح ونشر روح الإخاء، إلَّا أنَّ المسيح يُعتبر أول واضع لأسس السلام والتسامح على الأرض، ولكن مع الأسف أساء بعض الرؤساء الرُّوحانيين فَهم تعاليم المسيح، ولم يعملوا على إقامة صرح التعاون والمحبة بين البشر على الأساس المتين الذي وضعه. وسادت رُوح التعصب الديني القرون الوسطى المظلمة، وكان من أثر ذلك تلك الحروب الصليبية التي سمَّوْها حروبًا مقدسةً، وذلك التعذيب الرهيب الذي كان يقوم به رجال التفتيش للقضاء على مخالفيهم في العقيدة والرأي، مما لا يغيب على كل العارفين بالتاريخ.

وفي مِثل هؤلاء يقول شاعرنا الكبير شوقي رحمة الله عليه:

عيسى سبيلك رحمة ومحبة
في العالمين وعصمة وسلام
ما كنت سَفَّاك الدماء ولا امرأً
هان الضعافُ عليه والأيتام
يا حامل الآلام عن هذا الورى
كثُرت عليه باسمك الآلام
أنت الذي جعل العباد جميعهم
رحِمًا وباسمك تُقطع الأرحام
وفي أوروبا بدأت في سنة ٩٩٠ أول حركة في سبيل ما أطلقوا عليه اسم هدنة الله Tréve de Dieu وذلك بتشكيل المجمع الأسقفي Conseil du Puy الذي تَكَوَّنَ من عُصبة جمعت بين النبلاء والفلاحين، الذين تعهَّدوا باحترام ميثاق السلام، واكتملت هيئة هذا المجلس سنة ١٠١٦ باجتماع فيردون سيرسون Verdun sur Saone، وتعهد أعضاؤه أن يحترموا في أوقات الحرب الزراعةَ والحيوانات الأليفة والأموال والكنائس.
وفي سنة ١٠٣١ اجتمع مجلس ليموج Limoge الذي اقترح فرض الحَجْر الديني على كل إقليم لا يحترم هذا الميثاق، بتشكيل هيئة نظاميَّة أُسقُفيَّة لترغم كل من يخرج على هذا الميثاق باحترام السلام، وفي سنة ١٠٥٤ انعقد مجلس كليرمون، وفي ١٩ نوفمبر سنة ١٠٩٥ أعلن البابا أوربين الثاني كقانون عام للعالم المسيحي أنَّ السلام هو غاية الله.

ولكن هذه الرُّوح الطيبة تضاءلت أمام الحروب الصليبية، إلَّا أنها كانت تعود للظهور في كثير من أوقات الهدنة في عقول المفكرين والفلاسفة، أمثال «دانتي» و«بيير ديبوا».

فقد لاحظ «دانتي» انقسام العالم إلى أجزاءٍ متعددة، لا غاية لها سوى الحرب والقتال، فأراد القضاء على هذه الحالة بتوحيد العالم، ونشر السلام في أرجائه، فوضع كتابًا عن «النكبة»، واقترح فيه اتحادَ دول العالم المختلفة تحت رئاسة ملك واحد. وفي داخل هذا الاتحاد تُحافِظُ كل دولة على استقلالها الداخلي، وتعترف بسلطة هذا الملك في فض كل نزاع ينشأ بينها وبين غيرها من الدول المشتركة في الاتحاد. وبذلك يتحقق السلم الدائم لسعادة الإنسانية ورخائها.

أمَّا «بيير ديبوا» فقد رغب في تنظيم العالم المسيحي فقط؛ ولذلك اقترح إنشاء مجمع ديني يدير الشئون العامة المتعلقة بالجماعة المسيحية، مع احتفاظ كل دولة مسيحية باستقلالها. فإذا نشأ خلاف بينها وجب حله بطريق التحكيم، وإذا امتنعت دولة مسيحية عن الخضوع لهذا المجمع وجب تطبيق عقوبات عليها، فتحاصر وتمنع الواردات عنها حتى تُذعِن بفعل الجوع.

ولكن اقتراحات دانتي وديبوا لم تخرج إلى حَيِّزِ التنفيذ، وظلَّ الانقسام موجودًا والفوضى سائدة.

وظهرت الدول الحديثة واستندت على مبدأ السيادة المطلقة، وأنكرت التعاون بينها وتنازعت البقاء، فظهر نظام التوازن الأوروبي القائم على الميول الفردية المحضة لكل دولة بذاتها، وأصبح قبلة تلك الدول، فزال كل أمل في توحيد العالم وإخضاعه لسيادة واحدة، وتبخرت غاية القرون الوسطى وحلَّت محلها غاية الأثرة والمنفعة والسيادة.

وتطورت أوروبا بعد ذلك تحت تأثير عصر النهضة «الرنيسانس»، فنشأت فكرة الإصلاح الديني والثورة ضد الكنيسة الرسميَّة، فزادت عوامل الفوضى والانقسام، وتعدَّدَت الحروب الدينية ودامت قرنًا كاملًا، حتى انتصرت فكرة الإصلاح في النهاية في أواسط أوروبا وغيرها، وكان انتصارها قضاءً مبرمًا على ما تبقى من وحدة أوروبا.

وهكذا سادت الحروب المتعددة القرن السادس عشر والسابع عشر، وأنتجت في النهاية ثورة فكرية في سبيل السلام، وأبرزت طائفة من المفكرين والفلاسفة أمثال ديكارت وهوبز وسبينوزا ولببنتز الذين حاولوا إقامة نظم فلسفيَّة، ووضع أساس نظري للحرية الفرديَّة والحرية السياسيَّة.

وظهرت مؤلَّفات كثيرة حاول واضعوها خلق نظام جديد لتحقيق السلم العالمي. ومن بين هذه الكتب كتاب «تقريظ السلم» الذي صوَّر فيه مؤلفه خسائر الحروب وفظائعها، وأظهر حسنات السلم وفوائده. وكذلك كتاب Le Nouveau Cynée لأمريك كروسيه؛ فقد بحث فيه عن إقامة نظام دولي يتفق ومبدأ السيادة المطلقة، فاقترح إنشاء جمعية دولية تجتمع في مدينة البندقية، وتشترك فيها جميع الدول بغَضِّ النظر عن الأديان؛ لما بين الدول المختلفة من روابط التضامن التي تحتم عليها جميعًا العمل على استتاب السلم وتوطيد أركانه. وذلك بفَضِّ جميع المنازعات التي قد تنشأ بينها، بالطرق الودية وبدون الالتجاء إلى الحرب، ومن بين هذه المؤلفات المؤلَّف الذي وضعه L’Abbé de St. Pierre واقترح فيه مشروعًا لتحقيق السلم الدائم بعقد معاهدة بين الدول؛ لإقامة تحالُف دائم بينها والاتفاق فيه على استنكار الحرب، وعلى حل منازعاتها المختلفة بطريق الوساطة. وفي حالة فشل هذه الوساطة تتجه الدول إلى هيئة مكوَّنة من الممثلين السياسيين للدول الحليفة؛ كي تلزم الدولة المعتدية باحترام الحكم الصادر عليها. فإذا رفضت التنفيذ وجب على هذه الهيئة أن تستعمل القوة ضدها حتى تنزل على حكمها وتعوض الخسائر الناتجة من عملها.
أعقب ذلك الثورة الأمريكية والثورة الفرنسية التي نصت في دستورها الصادر في مايو سنة ١٧٩٠ على تنازُلها عن الدخول في حرب مقبلة، وعن عدم استعمال سلاحها في وجه حرية أي شعب. ولكنها لم تلبث أنْ أعلنت الحرب على النمسا في ٢٠ أبريل سنة ١٧٩٢. وتلتها حروب الجمهورية. وبعد انتهاء هذه الحروب وسقوط نابوليون وضع مؤتمر فينا سنة ١٨١٥ نظامًا جديدًا في أوروبا، يستند إلى مبدأ التوازن وإنشاء مجتمع الدول الأوروبية Un Concert Europèen للمحافظة على النظام الموضوع. وكان القيصر إسكندر الأول قيصر روسيا هو أول من قدم اقتراحًا صريحًا بنزع السلاح في سنة ١٨١٦، وبعده تألَّفت ثلاث جمعيات سلمية في الولايات المتحدة، وهي: جمعية الصداقة المسيحية، وجمعية نيويورك للسلم، وجمعية ماساشوستس للسلم. واندمجت هذه الجمعيات معًا في جمعية واحدة تحت اسم الجمعية الأمريكية للسلم سنة ١٨٢٨، وكان لهذه الجمعية أثرُها في انتشار فكرة السلام في أميركا وبريطانيا وفرنسا. وتبع ذلك مؤتمرات عدة عُقِدَتْ في باريس ولم تأتِ بثمرة.

واجتمع أول مؤتمر للسلم في بروكسل سنة ١٨٤٨، وتلاه مؤتمرا باريس ولندره، واتُّفِقَ في هذه المؤتمرات على إنشاء جمعيات سلمية جديدة، ومنع القروض الحربية، ونشر معاهدات التحكيم بين الدول، وتخفيض التسلح ووضع قواعد للقانون الدولي.

وفي سنة ١٨٥٥ ألَّف الكاتب الروسي الشهير «ليون تولستوي» كتابه «سباستبول» ضمنه وصف حصار تلك المدينة أثناء حرب القرم. ثم كتب بعده كتاب «الحرب والسلم»، وهو بمثابة احتجاج على الحرب. وبقي تولستوي طول حياته يجاهر بأن القوة لا تعالَج بالقسوة، بل يجب أنْ تنفذ وصية الإنجيل: «من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر.» ولقد كان لهذا الكاتب العظيم تأثير كبير في حركة العصيان المدني التي قامت في روسيا.

وفي سنة ١٨٨٩ ابتدأ التنظيم الدولي للأفكار السلمية، وعقدت المؤتمرات العديدة لهذا الغرض بعد إنشاء مكتب السلم بمدينة برن سنة ١٨٩١. واقترح بعد حرب السبعين إنقاص التسلُّح عدة دفعات في برلمانات إنجلترا وفرنسا، ثم عُقِدَ مؤتمر السلام في لاهاي سنة ١٨٩٩ بناءً على دعوة القيصر نيقولا الثاني، وطُرِحَتْ فيه مسألة إنقاص التسلح، ولكته لم يسفر إلَّا عن التصريح الآتي، وهو «يرى المؤتمر أن نزع السلاح الذي أثقل كاهل الأمم، أمر مرغوب فيه جِدَّ الرغبة لسعادة العالم المادية والمعنوية.» ولم يكن لهذا المؤتمر أي تأثير ولا نتيجة، ولم تَكَدْ أعمالُه تنتهي حتى بدأت الحرب بين بريطانيا العظمى وجمهوريات الترنسفال والأورانج في جنوب أفريقيا في أكتوبر سنة ١٨٩٩، بل اضطر القيصر نفسه أن يجرِّد جيوشه لرد غارة اليابان على منشوريا، فكانت الحرب قاسيةً بين الفريقين (١٩٠٤-١٩٠٥).

وعُقِدَتْ بعد ذلك مثل تلك المؤتمرات بواشنجطن سنة ١٨٩٩، والمكسيك سنة ١٩٠٢، وريوديجانيرو سنة ١٩٠٦، وهكذا تدرَّجت الأفكار السلمية وارتقت. وبعد أن كانت قاصرةً على الاحتجاج الأدبي على الحرب تحولت إلى مجهودات وضعية لإقامة نظام دولي ذي صيغة اجتماعية، الغرض منها ضمان حياد الشعوب والدول، وتعاونها على أساس السلم والقانون، وجعل التحكيم هو الوسيلة لفض المنازعات الدولية.

فعقد في لاهاي سنة ١٩٠٧ بناءً على دعوة الولايات المتحدة المؤتمر الثاني للسلام، وكان أوسع نطاقًا من مؤتمر سنة ١٨٩٩؛ إذ حضره مندوبو ٤٤ دولة، أي جميع دول العالم المتمدينة تقريبًا، وتمت فيه اتفاقات عديدة خاصة بحق الحروب وبداية الأعمال العدائية في الحرب. وعقد كذلك مؤتمر للسلم في بونوس أيريس سنة ١٩١٠.

وبالرغم من المؤتمرات التي عُقِدَتْ في القرن التاسع عشر للسلام، والوسائل التي دُرِسَتْ لفض المنازعات الدولية على أساس السلم، وبالرغم من الجمعيات المتعددة التي أُنشِئت لوضع القانون الدولي واستيفائه؛ فإن ذلك كله لم يمنع نشوب الحرب العظمى التي اشترك فيها العالم كله تقريبًا، وما زلنا نعاني نتائجها المُرَّة حتى الآن.

على أنَّ ما عاناه العالم مُدَّة الحرب العظمى من الكوارث المتنوعة لم يثبط همم العاملين، بل ضاعف من نشاطهم في الاستمرار على الدعوة للسلام، ودفع المفكرين إلى استنباط الطرق الفعالة التي تؤدي إلى استتبابه. فتكونت منهم جماعات مختلفة لخدمة ذلك الغرض. منها لجنة بريس في إنجلترا سنة ١٩١٧ التي وضعت مشروعًا لمنع الحروب، وكوَّنت جماعةً أسمتها عُصبة الأمم في سنة ١٩١٧، ومنها الجماعة المعروفة باسم لجنة تدعيم السلام، التي تكونت في أمريكا برياسة الرئيس «تافت»، وجماعة عصبة الأمم الفرنسية التي تكوَّنت تحت رئاسة المسيو ليون بورجوي Leon Bourgeois، ثم عنيت بعض الحكومات بتلك الحركة السلمية وعملت على نجاحها. وكونت حكومات السويد والنرويج والدانمارك لجانًا كانت تعمل مستقلةً ثم وحَّدت جهودها، فلما انتهت الحرب عهدت حكومات الحلفاء إلى لجنة من كبار علماء القانون الدولي العام، وضع صيغة لعهد ينظم هذه الجماعة، فلما أتمت اللجنة عملها وضعت مشروع عصبة الأمم، فأقرَّته دول الحلفاء وعُرِضَ على حكومات بعض الدول المحايدة لإبداء ملحوظاتهم عليها، وأُخِذَ ببعض هذه الملاحظات، ووُضِعَ العهد في صيغته النهائية في أبريل سنة ١٩١٩، وأُدْمِجَ في المعاهدات التي عُقِدَتْ مع دول الأعداء، ووُضِعَ موضع التنفيذ في سنة ١٩٢٠. وراعت اللجنة في وضعها لمشروع عهد عصبة الأمم الاقتراحات التي وضعتها الحكومة الإنجليزية، واقتراحات الرئيس ولسن التي تتضمن إنشاء جمعية تضم شعوب العالم، يكون عملها ضمان طرق المواصلات البحرية العظمى وحرية الملاحة فيها لجميع الشعوب، ومنع الحروب التي تقوم خروجًا على المعاهدات أو قبل إخطار سابق.

وظهر تصريح ولسن في ٨ يناير سنة ١٩١٨، ذلك التصريح الذي كان لشروطه الأربعة عشر تأثير عظيم على العالم المتعطش للسلم؛ إذ أحل الأمل محل اليأس في قلوب بعض المتحاربين وغير المتحاربين، وكان له رنة سرور عظيمة، على الأخص في البلاد الضعيفة التي علقت عليه آمالها في تحقيق أمانيها القومية، ولكن بكل أسف، إن هذه الشروط التي استقبلها العالم بالتهليل والتكبير، لم تصادف من الحلفاء تأييدًا، واستنكرها الشعب الأمريكي استنكارًا أعجز الرئيس ولسون عن الدفاع عن مشروعه والعمل على تنفيذه.

ولكن هذا لم يُثنِ من عزم الرئيس وتمسُّكه بوضع أساس متين للسلام، فلما عقد مؤتمر الصلح اختلفت فيه وجهات النظر لاختلاف المذاهب؛ إذ كان المؤتمِرون الأوروبيون يرمون إلى تحقيق نظريتهم المبنية على التعاون الدولي والمحالفات، بينما يرمي الأمريكيون إلى التعاون بين الدول مع الاحتفاظ بمذهب مونرو. ولما لم يؤخذ بإحدى هاتين الطريقتين بتمامها، نجح الرئيس ولسن في وضع عهد جمعية الأمم على أساس التعاوُن الدولي والتضامن بين الدول. بيد أنَّ بقية المعاهدة لوحظ فيها من الموازنة الدولية شيء كثير.

وفي سنة ١٩٢٥ عقدت الدول الغربية الأربع الكبرى معاهدة لوكارنو؛ لصيانة السلم على حدودها ونبذ الحرب. وفي سنة ١٩٢٨ أمضت جل دول العالم «ميثاق بريان-كيلوج» الذي يقضي في مادته الأولى بنبذ الحرب كأداة للسياسة الوطنية في مختلف الدول، واعتبارها خارجة عن القانون Hors la Loi، ولكن بكل أسف نقضت بعض الدول معاهدة لوكارنو. ولم يكن حظ ميثاق «بريان-كيلوج» بأحسن من ذلك؛ فقد فسرته الدول الموقِّعة تفسيرًا يذهب بكل قوة فعلية له. وما على الباحث إلَّا أنْ يقرأ مذكرات السير أوستن تشمبرلن في سنة ١٩٢٨، وتقرير لجنة الشئون الخارجية بمجلس شيوخ الولايات المتحدة في يناير سنة ١٩٢٩، فيجد فيهما الدليل القاطع على ذلك.
وهنا أتحاشى التعرُّض للدخول في شرح ماهية عصبة الأمم، وشروطها ومبادئها وأغراضها التي تحتاج إلى شرح طويل يخرج منه الإنسان صفر اليدين؛ لأنها بُنِيَتْ على أساس تنفيذ معاهدة فرساي التي أملتها الأنانية والقوة. تلك المعاهدة التي محتها القوة كما أوجدتها. ويكفي أنْ نستشهد هنا على ضعفها ببعض ما جاء بخطبة المستر نيفل تشمبرلن التي ألقاها في ٢٣ فبراير سنة ١٩٣٨ بمجلس العموم حيث قال:

هل يظن أحد هنا أنَّ عصبة الأمم بتكوينها الحالي يمكنها أنْ تضمن السلام العام؟ إذا كان الأمر كما أظن — وهو أنَّ عصبة الأمم بتكوينها الحالي لا يمكنها أنْ تكفل لأحد الضمان المتبادل — فلا يجوز لنا أنْ نحاول خداع أنفسنا، وإيهام الدول الصغيرة بأن عصبة الأمم قادرة على حمايتها من الاعتداء، وأنْ تبقى تلك الدول على هذه العقيدة في الوقت الذي نعلم فيه أنه لا يُنتظر شيء من هذا.

ثم قوله:

ما معنى هذه العبارة: إنَّ السلام لا يمكن ضمانه إلَّا بالثقة المتبادلة بواسطة عصبة الأمم؟ أي بلد في أوروبا عندما يهدده جارٌ أقوى منه يمكنه الاعتماد على عصبة الأمم لحمايته ضد الاعتداء؟! إني أتحدى أي عضو من المعارضين أنْ يجاوب على سؤالي هذا. إنه لا يمكن لأحدهم إلَّا أنْ يجاوب صراحة بأنه لا يوجد.

وعصبة الأمم في رأيي كشركة مساهمة أراد مؤسسوها أنْ يستأثروا بأرباحها، فضعفت الثقة في أسهُمها، وتدهورت أثمانها بسبب انسحاب رءوس الأموال منها، فأصبحت مهددةً بالإفلاس، وهذا ما يؤسف له غاية الأسف. وقد كان من المستطاع بشيء من إنكار الذات والمساعدة البريئة أنْ تصبح عصبة الأمم بفضل الإخلاص المتبادل موردًا للربح المعنوي الحلال.

سادتي وسيداتي

لا ننكر أنَّ عصبة الأمم استطاعت في السنوات الأولى من تكوينها تسوية حوالي ثلاثين مشكلة دولية مختلفة، منها مسألة جزر «الندا» بين فنلندا والسويد، ومسألة كورفو، والنزاع البولوني اللتواتي، والنزاع اليوغوسلافي الألباني، والنزاع اليوناني البلغاري، والنزاع بين بوليفيا وبرجواي وغير ذلك. وأنها أدت خدمات إنسانية جليلة، ولكن بعض الدول العظمى التي أسستها لم تستطع كَبْحَ جماح مطامعها الاستعمارية، ولم تساعدها على الاستمرار في عملها الإنساني بخروجها على مواثيق العصبة، ومحاربة الدول الآمنة المطمئنة وانسحاب بعضها، مخالف بذلك العهود التي وقَّعها؛ فضعفت عصبة الأمم بخروجها منها، وقَلَّتْ هيبتها فعجزت العصبة عن مد يد المعونة للدول التي استنجدت بها، كالصين والحبشة وإسبانيا وفلسطين. ومما يؤسف له ويحزن العالم أنَّ الدول العظمى التي أدعت في البداية أنها إنما خاضت غمار الحرب للدفاع عن الضعيف، ولتحرير الشعوب المظلومة، هي هي بعينها التي نكثت العهود التي وقعتها وشجَّعت الدول الأخرى على خوض غمار الحرب.

•••

نرى مما تقدم أنه بالرغم من أنَّ فكرة السلام قد نشأت قبل الميلاد بكثير، وأنَّ جميع الأديان دعت إلى السلام. وبالرغم من أنَّ رجالًا عظماء في مختلف العصور سعوا لتوطيد السلام بكل ما أوتوا من سلطة مادية وفكرية، وبالرغم من المعاهدات التي أُبرِمَت، والقوانين التي وُضِعَتْ، والمؤتمرات التي عُقِدَتْ لتوطيد دعائم السلام وإيجاد طريقة لوضع حَدٍّ للحروب، فإن العالم لم يُوَفَّقْ حتى الآن إلى تحقيق هذه الأمنية التي تنشدها العشيرة جمعاء منذ آلاف السنين. والسبب في ذلك يرجع إلى أنانية الرجل، وجشع الاستعمار، وعدم توافر النية الخالصة للسلام.

وإذا كانت النساء قد اشتركت في بعض الحروب الماضية؛ باستثارة همم الرجال، أو بتضميد الجرحى، وإذا كان التاريخ قد أنبأنا أنَّ ملكات أو سيدات عظيمات أقمن الحروب أمثال سميراميس، وكليوباترا، والسيدة عائشة أم المؤمنين، وجان دارك، وإليزابيث التي تغلبت بَحَرِيَّتُهَا على البحرية الإسبانية، وكاترين قيصرة روسيا التي كانوا ينادونها بكاترين الأكبر، وماري تريز ملكة النمسا التي كانوا يلقبونها بالملك تريز، والملكة فيكتوريا وغيرهن، فليس معنى ذلك أنَّ المرأة ميَّالة للحروب بطبيعتها، ولكن معناه أنها وُجِدَتْ ظروف خاصة اضطرت بعضهن — بحكم مراكزهن — إلى اتباع القوانين الوضعية لبلادهن، والدفاع عن كيانها، ولأن المرأة ما كانت تملك حق التشريع والتنفيذ. وبهذه المناسبة يجدر بنا ألَّا نُغفِل المجهودات الجليلة التي بذلتها الملكة فكتوريا في سبيل تسوية الخلاف الذي قام بين إنجلترا وأمريكا بالطريقة السلمية، وشجاعة الملكة ولهلمين في بدء الحرب العظمى وأثناء قيامها، برفضها اشتراك هولندا فيها.

سادتي وسيداتي

في كل الأدوار التي اضطرمت فيها نيران الحرب، وتشاحن فيها الرجال وتطاحنوا، مدفوعين بالعوامل الدينية، أو الوطنية، أو المطامع الاستعمارية إلى غير ذلك من الأسباب التي تؤدي إلى الحروب، إذا كان لم يُسمع للمرأة في البداية صوت يُذكر ضد الحرب أو دعوة للسلام، مع أنها — بحكم أمومتها وعاطفة الرحمة التي تملأ قلبها — نزاعةٌ إلى الهدوء والطمأنينة؛ فذلك لأن الرجل في معظم هذه العصور كان قد استأثر بالتشريع والتنفيذ، وكأنما هو يتمثل بقول الشاعر:

كُتِبَ القتل والقتال علينا
وعلى الغانيات جَرُّ الذيول

ولأنه أراد أنْ تقتصر وظيفة المرأة على خدمته وطاعة أمره، معتبرًا إياها مخلوقًا ضعيفًا لا يُدانيه في سعة العقل ورجاحة التفكير. ونسي أنَّ الله — جل جلاله — قد خلق المرأة منه لحفظ توازن الكون، وإذا كان الرجل هو العقل المفكر في جسم المجتمع الإنساني، فهي له القلب النابض المملوء بالعاطفة والرحمة والحنان.

ونذكر بهذه المناسبة كلمة جاءت في الأثر، وهي: «لو أراد الله أنْ يجعل المرأة رئيسة للرجل لخلقها من رأسه، ولو أراد أنْ يجعلها أمَة له لخلقها من قدمه، ولكنه أراد أنْ تكون شريكته ونديدته فخلقها من ضلعه.»

فلا شك أنَّ العالم إذا سار على قدميه باشتراك المرأة والرجل اشتراكًا فعليًّا في إدارة دقة أمور الحياة، بدلًا من سيره على قدم واحدة؛ لحَفِظ توازنه، ولما وقع بين آنٍ وآخر في الأخطاء التي تئن الإنسانية من نتائجها وترزح تحت نيرها. فالمرأة التي خُلِقَتْ لتهب الحياة للوجود بالألم والمشقة في تأدية وظيفة الأمومة، تقدر أكثر من غيرها قيمة الحياة، وتعرف كيف تصونها، وهي بحكم تلك الوظيفة وما تتطلبه منها من إدارة ونظام وإعداد أولادها وتربيتهم، لديها من الاستعداد ما يؤهلها لاستدراك أمور قد تغيب عن الرجل، ويمكنها — بما وهبتها الطبيعة من فطنة وحيطة — أنْ تتدارك نتائج ما يقع فيه الرجل من أخطاء بسبب اعتداده برأيه وميله إلى القوة والعنف.

سادتي وسيداتي

لو كان للمرأة حق التشريع والتنفيذ، لساعدت الرجل في خلق الأنظمة الكفيلة بضمان سلام العالم وطمأنينته، بما امتازت به من وفرة العاطفة والحرص على النظام. ولقد ظهر تأثيرها في بعض الدول التي اعترفت للمرأة بحقوقها السياسية، وأشركتها في إدارة بعض شئونها، كالولايات المتحدة والسويد والنرويج وتركيا، وبعض ولايات الهند وبريطانيا العظمى؛ إذ نرى أنَّ هذه البلاد بعد اشتراك المرأة في أمور التشريع فيها أقل اندفاعًا إلى الحرب من غيرها من البلاد التي حرَمت المرأة من حقوقها الشرعية. ونعتقد أنَّ هذا الاعتراف بحق المرأة — إذا عم جميع البلاد — سيساعد كثيرًا على تحقيق أمنية السلام العالمي التي تَنشُدها الشعوب، ذلك السلام الذي لم يوفق الرجل وحده حتى الآن إلى توطيد دعائمه.

يظن الكثيرون أنَّ المرأة تناضل للوصول إلى حقوقها السياسية؛ لمحض رغبتها في التساوي بالرجل ومزاحمته في ميادين الحياة. ولكن في الواقع أنَّ المرأة لا تريد الحصول على هذا الحق إلَّا لتقوم بنصيبها في إنهاض العالم وإنقاذه من ويلات الحروب؛ لأن عليها الغرم في حالتَي النصر والهزيمة.

سادتي وسيداتي

لقد فطنت المرأة إلى وجوب النزول لميدان العمل لمنع الحرب؛ لما رأت أنَّ مجهودات الرجل قد ذهبت سُدًى طيلة محاولاته الماضية لتوطيد السلام، ورأته يتفنن يومًا بعد يوم في خلق الوسائل الجهنمية للتخريب والتدمير، فوجَّهت المؤلفة السويدية فردريك بريمر نداءً في سنة ١٨٥٤ إلى نساء العالم طالبةً منهن تكوين اتحاد عالمي للسلام. وفي سنة ١٨٥٥ تكونت في إنجلترا جمعية الشابات المسيحية الأولى. وعندما عقد مؤتمر السلام في باريس سنة ١٨٧٨ طلبت السيدة جوليا ورد هو Ward Howe الأمريكية أنْ تلقي فيه كلمةً عن السلام، فرُفِضَ السماح لها بذلك رغم ما هو مُعتَرَف به للمرأة من قديم الزمن من حق القيام ببث روح السلام. وفي سنة ١٨٨٩ ارتفع صوت آخر ضد الحرب هو صوت مدام برتافون سوتنر في كتابها «ألقوا السلاح»، الذي كان له تأثير كبير في العالم الأوروبي رفَع من قدرها في اعتبار عظماء الكُتَّاب والسياسيين، وبعد ظهور ذلك الكتاب خدمت السلام كثيرًا عن طريق الصحافة والخطب والمؤتمرات والأوساط الأدبية، ثم صارت رئيسة الجمعية النمساوية للسلام، ثم وكيلة ورئيسة شرف لمكتب السلام العالمي، وترأَّست بعد ذلك إدارة مجلة للسلام. ولما تعرفت بملك الفولاذ أندريو كارنيجي، وكان هو كذلك من أكبر دعاة السلام، وبذل من أجله أموالًا طائلةً، وتنازل للعالم عن سراي السلام في لاهاي. كان لها تأثير كبير في الاجتماعات التي كانت تُعقد في لاهاي، وقد مُنِحت جائزة نوبل للسلام سنة ١٩٠٥، كما كانت من العاملات في جمعية الإرشاد في مؤسسة كارنيجي، واشتركت اشتراكًا فعليًّا في مانيفست نيقولا الثاني سنة ١٨٩٨. وفي سنة ١٩١٢ قامت برحلة للولايات المتحدة، وأسست فرعًا للدعاية للسلام في الجمعية النسائية الأمريكية، وكانت دائمًا في كلامها ودعايتها تتجه نحو العاطفة وتناجي القلوب.
وتأسس في سنة ١٨٨٨ المجلس النسائي الدولي Le Conseil International des Femmes وكان أول هيئة نسائية دولية عملت للسلام العالمي بإدراج مبدأ التحكيم الدولي في برنامجها والدعوة إليه.

وقد كان دستور هذا المجلس ينص نصًّا صريحًا على أنَّ هيئته لا تبث الدعوة لسياسة معينة لصالح دعاية معينة، ولكنها تعمل على أساس المبدأ الذهبي القائل: «عامل الناس بما تحب أنْ يعاملوك به.» وتبذل كل نشاطها في تطبيق هذا المبدأ على الحياة الاجتماعية والعادات والتشريع.

فلما أثيرت في سنة ١٨٩٨ مسألة إدماج العمل للسلام في برنامج المجلس، انقسم أعضاؤه إلى قسمين عند أخذ الرأي عمَّا إذا كان دستور المجلس يسمح بذلك. فجرت مناقشات، ثم مكاتبات بين الليدي أبردين رئيسة المجلس النسائي الدولي، وبين رئيسات المجالس المنتمية إليه في سائر دول أوروبا وأمريكا. وأخيرًا قَرَّ قرارهن على أنَّ استتباب السلام في العالم هو أحسن سبيل لتطبيق المبدأ الذهبي الذي يعتنقه المجلس. وأنَّ حاجة الإنسانيَّة إلى السلام تَفُوق حاجتها إلى أي شيء آخر؛ وعليه — وقبل كل شيء — تتوقف سعادتها ورقيها. وبناءً على ذلك أُدرِج قرار بهذا المعنى في برنامج مؤتمر المجلس النسائي الدولي عند انعقاده بمدينة لندن سنة ١٨٩٩، حيث وافق المؤتمر بالإجماع على التصريح الآتي:

إنَّ المجلس النسائي الدولي يُقَرِّرُ أنْ يعمل في كل أمة من الأمم بشتى الوسائل على تقوية حركة السلام العالمي بالدعاية لفكرة الالتجاء إلى التحكيم الدولي.

وكان بين السيدات اللاتي حضرن هذا المؤتمر وخطبن فيه: البارونة برتافون سوتنر، وهي السيدة الوحيدة التي نالت جائزة نوبل للسلام، ومؤلِّفة الكتاب الذائع الصيت المسمى «ضعوا أسلحتكم جانبًا». وتعتبر الليدي أبردين — التي ظلت ستًّا وثلاثين سنةً رئيسةً للمجلس النسائي الدولي، وهي الآن رئيسته الفخرية — من أقوى الدعاة للسلام بين نساء العالم أجمع. وقد خطبت مرةً أثناء الحرب في مدينة جنيف في حفل هائل من السيدات، فناشدتْهن قائلةً: «إذا كان الغزال البري يعرف كيف يحمي أولاده وكيف يخبئهم في كهوف الصخر إذا ما رأى النسر يحوم فوق رءوسهم، وإذا كانت الأم بين القبائل المتوحشة تعرف كيف تستميت في المحافظة على أطفالها ضد اعتداء القبائل المُغِيرة على قبيلتها، فهل نعجز نحن أمهات هذا الجيل عن إيجاد وسيلة للتفاهُم بيننا، نستمدها من حبنا لأولادنا، وبها نستطيع أنْ نقضي على تلك الأخطار الجسيمة التي تهدد البشرية في كيانها ووجودها، ألا وهي الحرب؟!»

وتأسست في سنة ١٩١٥ في أمريكا أول جمعية نسائية غرضها الوحيد الدعوة إلى السلام تحت رئاسة مسز جين آدمس، وعضوية مسز شابمان كات مؤسسة الاتحاد النسائي الدولي؛ للمطالبة بحق الانتخاب. وفي نفس السنة دعت نساء هولندا إلى عقد مؤتمر في لاهاي، بينما كانت رحى الحرب العالمية دائرة، حضره نساء بعض الدول المتحاربة، ومنها بريطانيا وبلجيكا وألمانيا ونساء اثنتي عشرة دولةً.

وليس من ظاهرة أقوى وأدل على قوة شعور المرأة ضد الحرب من تلك التي جمعت على منبر واحد بين نساء دول متعادية. وكُنَّ يجهرن بأن الذي جمع بينهن إنما هو شعور إنساني قوي لا يتنافى مع الوطنية بل يعلو عليها. وقلن: «إنَّ الشعور الذي يجمعنا اليوم لهو أقوى من الشعور الذي فرَّق بيننا.» وقد تعرضت مندوبات البلاد اللاتي حضرن هذا المؤتمر إلى السخرية الشديدة في بلادهن، وإلى تجهُّم الأوساط الاجتماعية لهن. بل تعرضن للسجن، ولكنهن أظهرن أنَّ المرأة قادرة أنْ تضع الاعتبارات الإنسانية فوق كل اعتبار، وأثبتن بتلك الشجاعة أنهن أقوى من الرجل، وأقدر على التغلب على الأثَرة وحب الذات.

واعترف الرئيس ولسون فيما بعدُ بأنه استلهم واسترشد بالقرارات التي أصدرها هذا المؤتمر في مبادئه الأربعة عشر المعروفة عنه. ووالت تلك الهيئة بعد ذلك نشاطها بلا انقطاع، كلما عَنَّ لها أنْ تناهض الاستعمار الأوروبي المهدِّد للشعوب الضعيفة في آسيا وأفريقيا.

ولقد توفيت الآن مسز أدامس بعد أنْ أحرزت في سنة ١٩٣٢ جائزة نوبل للسلم، فتنازلت عنهما لهيئة الجمعية قائلةً: إنَّ فضل هذه الجمعية في العمل هو الذي جلب تلك المكافأة.

واعترافًا من الجمعية بفضل هذه السيدة المؤسِّسة لها نَقَشَت على قبرها اسم الجمعية؛ ليكون ذكرًا خالدًا بأنها هي المؤسِّسة.

وتأسس للجمعية المشار إليها فرع في مصر في سنة ١٩٣٦.

ثم أنشئ اتحاد الأمهات والمربيات في سبيل السلم لمؤسسته ورئيسته مدام إيدن شنك باتن Eden Chenk Patin ولهذه الجمعية فرع في القاهرة رئيسته السيدة فاطمة نعمت راشد.

وتألف بعد ذلك «المجلس الدولي العام للسيدات والاتحاد الدولي العام للمطالبة بحق الاقتراع وللعمل المدني والسياسي للسيدات».

وقد أضافا إلى برنامجهما النسائي مسألة السلام.

أما الاتحاد النسائي الدولي فقد شكل لجنة للسلم تمولها اللجنة الأمريكية المعروفة باسم ليزلي، ويرأسها في الغالب سيدات أمريكيات، وقد صرفت معظم اهتمامها إلى القيام بدعاوة واسعة النطاق في سبيل السلم.

وكانت زيارة بعض كبريات خطيباتها لمصر، وكلهن من أفصح الداعيات إلى السلام، مثل: مسز أشبي، ومدام ملاتير سيلييه، ومدام باكرفون بوس، والآنسة روزا مانوس، وقد كان لنشاطهن وبلاغتهن تأثير كبير في مصر عند زيارتهن لها في سنة ١٩٣٥.

وفي شهر يوليه سنة ١٩٣٨ عقد المجلس النسائي الدولي مؤتمرًا في مدينة «أدنبره»، أصدر فيه القرارات الآتية:
  • (١)

    إنَّ المؤتمر النسائي الدولي الذي يمثل ٤٠ مليون سيدة من سيدات العالم، يَوَدُّ أنْ يعبر عن الحزن المقرون بالغضب والاشمئزاز الذي يشعر به تجاه ما يعانيه المضطَهَدون بسبب جنسيتهم أو دينهم أو مذهبهم السياسي في مختلِف بلاد العالم، وهو يَعتبر هذا الاضطهاد منافيًا لجميع مبادئ الإنسانية، مخالفًا لاحترام الكرامة البشرية، ويؤثر تأثيرًا سيئًا في أخلاق من يشهده من شباب الجيل الجديد.

  • (٢)

    حيث إنَّ الحروب تنشأ عنها في كثير من الأحيان مشاكل اقتصادية، يصعب على الرأي العام غير المطَّلِع فَهمها، فيخيل له أنَّ الحرب هي السبيل الوحيدة لحلها، وجب علينا أنْ نعمل على نشر التعليم الاقتصادي للشباب والشيوخ، وأن نبذل مجهودات عنيفةً لإحلال العدل الاقتصادي بين الأمم.

  • (٣)

    يناشد المؤتمر نساء جميع الأمم ألَّا يفقدن شجاعتهن، أو يتنازلن عن مُثلهن العليا، بل يثابرن على استعمال نفوذهن الفردي والمشترك إلى جانب تلك القوى التي تعمل للسلام والعدل والوئام بين الأمم؛ وبذلك يمنعن انهيار صرح المدنية وتَفَشِّي رُوح الفوضى السياسية والاقتصادية والأدبية في العالم.

  • (٤)

    يرحب مؤتمر المجلس النسائي الدولي بجميع المجهودات التي تبذلها بعض حكومات الدول لفتح باب المناقشة في مسألة الغارات الجوية على السكان المدنيين. وهو يطلب من المجالس النسائية القومية في البلاد المختلفة أنْ تُلِحَّ على حكوماتها بشدة باتِّخاذ إجراء حاسم للوصول إلى اتِّفاق دولي يحرم كل الغارات الجوية.

    وقد أراد المؤتمر بهذه القرارات وضع حَدٍّ لتلك الحالة التي ظلت جيلًا تجعل متاعبنا نحن النساء في سبيل أولادنا وحبنا لهم عديمي القيمة والفائدة …

    إنه لمن الجنون أنْ نبذل الجهد في فترات السلم لكي نخلق جيلًا من الشباب قويًّا صحيح البدن، ولا ينتهي الأمر بهذا الجيل إلَّا أنْ يذهب طُعْمة للمدافع، ويُدْفَنَ في مدافنَ نجهلها في ساحات خربتها الحرب ومحت معالمها.

    إنَّ الرجال يهزءون بنا، وينعتون أنوثتنا بالضعف والجُبن. فليقولوا ما يشاءون؛ فإنَّا لا نخجل من أنوثتنا، بل إنَّ صفات الأنوثة هذه فيها من القوة المعنوية والشجاعة الأدبية ما يكفل القضاء على سياسة القوة، وبناء صرح من السياسة الجديدة التي تضمن لأولادنا في المستقبل أنْ يعيشوا في جوٍّ من الإخاء والتعاون.

فلتقف نساء العالم جنبًا إلى جنب في المناداة بالسلام والعمل له، ولتتغنَّ جميعًا بأنشودة سلمى لاجرلوف Selma Lagerlof التي تقول فيها:
طالما يستطيع لساني أن ينطق
وطالما يجري الدم في عروقي
فإنني سأعمل من أجل السلام
ولو كلفني ذلك سعادتي وحياتي.

بعض شهيرات النساء الداعيات إلى السلام

ومن حق شهيرات النساء الداعيات إلى السلام علينا — ونحن في مقام التحدث عن نصيب المرأة في تحقيق السلام العالمي — أنْ نسجل أسماءهن بالفخار والإعجاب؛ لما لهن من مآثر خالدة، ونذكر منهن: البارونة برتافون سوتنر، وهي سيدة نمساوية الأصل، وُلِدت عام ١٨٤٣، وقامت بدور عظيم في نصرة السلم قبل الحرب العظمى، وكانت أديبةً وخطيبةً بليغةً، لم تكُفَّ عن حملاتها الكتابية والخطابية حتى وفاتها في سنة ١٩١٥ في إبان الحرب العظمى.

مسز شابمان كات: مؤسسة ورئيسة الاتحاد النسائي الدولي حتى سنة ١٩٢٣ ورئيسته الفخرية الآن. Mrs. Chapman Catt
مسز جان أدمس (الولايات المتحدة) Mrs. Jane Adams
مسز بيتك لورانس (بريطانيا العظمى) Mrs. Pethick Lawrence
مسز باكر فان بوس (هولاندا) Mrs. Bakker Van Bosse
مسز روزا مانوس (هولاندا) Mrs. Rosa Manus
مسز أليتا جاكوبس (هولاندا) Mrs. Alitta Jacobs
مدام سيفرين (فرنسا) Mme. Severine
مدام مارسيل كابي (فرنسا) Mme. Marcelle Capy
مدام ملاتير سيليه (فرنسا) Mme. Malaterre Sellier
مدام شريبر كريجر (ألمانيا) Mme. Schreiber Kriger
مدام أنيتا أوجسبرج Mme. Anitia Augspurg
مدام ليدا جوستافا هيمان Mme. Lyda Gustava Hymann
مدام مرغريت سلنسكا Mme. Margueritte Selenska

واهتمت الرئيسة المؤسسة للاتحاد «مسز شابمان كات» الأميركية المعروفة بذاتها بمسألة السلام، وترأست في واشنطن في سنة ١٩٣٠ مؤتمرًا دوليًّا عامًّا، كان الغرض منه درس الأسباب المحرِّضة على الحرب والعلاج الملائم لها لحفظ السلم.

أما الرئيسة الحاضرة مسز كوربيت أشبي المعروفة بالنشاط في عصبة الأمم، فقد انتدبتها الحكومة البريطانية عنها في مؤتمر نزع السلاح المنعقد في سنة ١٩٣٢، وقد ترأست إحدى جلسات نزع السلاح.

ولقد قامت المؤسسات السلمية المختلفة مع الجمعيات الأخرى النسائية الدولية بعمل مشترك عظيم الشأن في إبان الْتِئام مؤتمر نزع السلاح.

وهناك لجنة الاتصال الممثِّلة لأربع عشرة من تلك الجمعيات تعمل لحفظ الصلة ما بين عصبة الأمم، والعالم النسائي، والسهر على إحسان الدفاع عن قضية السلم، ورفعت إلى اتحاد عصبة الأمم عرائض بالنص الذي وضعته لجنة نزع السلاح، وعليها أكثر من اثني عشر مليونًا من الإمضاءات من العالم بأسره؛ فكان لتقديم هذه العرائض من الأثر البليغ ما لا يُنسى.

وتكفَّل الاتحاد النسائي المصري بجمع أكثر ما يمكن من التوقيعات في مصر، فبلغ العدد نصف مليون، وكانت التوقيعات تشمل جميع أسماء البارزين في السياسة والعلم في مصر.

ورأى الوزراء الذين كانوا قد صدَّقوا على ميثاق كيلوج وكبار الموظفين أنَّ من واجبهم التوقيع على الأوراق التي قُدِّمَتْ إليهم من تلك العرائض.

وممَّا نذكره كمثل من نشاط السيدات في العمل لمصلحة السلم نشاطُ السيدات اليابانيات اللائي جمعن في غضون ٢٠ يومًا فقط مائة وثمانين ألفًا من التوقيعات، رفعنها إلى مؤتمر نزع السلاح البحري الذي عُقد بلندن في سنة ١٩٣٠، وحدث في عصبة الأمم مرارًا أنْ أُوفِدَتْ سيدات مندوبات عن حكوماتهن؛ ففرنسا أوفدت مدام ملاتير سيليه. ورومانيا: الآنسة هيلين فاكارسكو، والبرنسيس كانتاكوزين. والمجر: الكونتس أبوني. وبولونيا: البرنسيس رادزيفيل. وغيرهن كثيرًات لم تعِ الذاكرة أسماءهن.

ونذكر هنا فقط أنَّ حكومة إيران أرسلت في سنة ١٩٣٦ إلى جمعية جنيف سيدة بصفة مندوبة مساعدة هي الآنسة فاطمة سيال.

وتألفت بمصر في هذه السنين الأخيرة عدة جمعيات سلمية نذكر منها: الاتحاد السلمي — قسم القاهرة والإسكندرية — وأقسام الاتحاد النسائي للسلم، والاتحاد المصري للسلام.

وأهم الداعيات للسلم السيدة نعمت راشد ومدام فهمي ويصا، وقد ظهر نشاط تلك الجمعيات في أثناء الحرب الحبشية، وفي الاجتماع العام الذي عُقد بباريس في سبتمبر سنة ١٩٣٦ للسلم.

وقد عزَّز الاتحاد النسائي المصري مبدئيًّا اشتراكُ مصر في ذلك المؤتمر، وأُبدِيَ فيه مع ذلك ملحوظات تظهر الآن أهميتها الحيوية للشعوب الشرقية.١

ولست أجد للتعبير عن سمو شعور المرأة بالواجب الإنساني وتفانيها في التضحية خيرًا من أنْ ألخِّص لكم تلك القصة البديعة التي خلدها الشاعر الفرنسي الكبير «فرانسوا كوبيه» في قصيدته الشهيرة «السهرة»:

هي قصة فتاة فرنسية من الأسر النبيلة تُدعى «إيرين دي جرانييف» ذهب خطيبها «روجيه» إلى ميدان القتال في الحرب الفرنسية الألمانية سنة ١٨٧٠. وكانت تحبه حبًّا شديدًا؛ فكانت تبتهل إلى الله سبحانه وتعالى بأن يرده سالمًا. وتقضي الوقت في مؤاساة الفقراء وزيارة العائلات التي سافر أبناؤها إلى ميدان القتال كخطيبها، ووصلها منه مرةً خطاب ينبئها أنه سليم مُعافًى فطارت فرحًا، واشتد أملها بعودته سالمًا.

وفي ذات مساء سمعت دوي الرصاص على مقربة من دارها، ثم رأت رجال الإسعاف يحملون إلى الدار فتًى ألمانيًّا جريحًا، فعنيت به وأنزلته في الحجرة التي كان ينزل بها «روجيه»، ودعت الطبيب الذي بلغها أنَّ حالة الجريح شديدة الخطورة، ولكنه قد ينجو من الموت بشرط مراعاة الدقة في تمريضه، والسهر عليه الليل بطوله، وإعطائه الدواء في مواعيده ساعةً بعد ساعة. فأجابت الفتاة النبيلة أنها على أتم استعداد للسهر عليه بنفسها؛ لأنها تدعو الله إذا ما وقع خطيبها جريحًا أنْ يهيئ له سيدة ألمانية تسهر عليه.

وانصرف الطبيب ففتح الجريح عينيه، وقد سمع ما دار من الحديث، فقال بصوت خافت: شكرًا لك يا سيدتي عن نفسي وعن تلك التي ستردينني إليها. فطلبت إليه أن يلتزم الصمت وينام. فقال لها: ولكن هنا على صدري سرًّا أريد أن أبثك إياه الآن خوف أنْ يدهمني الموت. اسمعي يا سيدتي: إنَّ الحرب شيء هائل فظيع. لقد قادني النحس إلى «متز» في الشهر الماضي، فقتلت جنديًّا فرنسيًّا. فخفق قلب إيرين خفقانًا شديدًا، وامتقع وجهها، فخفضت نور المصباح حتى لا يرى شحوب لونها. واستمر الجريح يقول: وقد طعنت الجندي المسكين في ظهره، بينما كان يقوم بواجب الحراسة، وعدت إليه عند انتهاء المعركة، فوجدته لا يزال به رمق من الحياة وهو يتلوى من الألم، ويعالج سكرات الموت، فانحنيت عليه، وحاولت إسعافه، فقال لي بصوت متقطع: لا فائدة من إسعافي ومد يده المرتعشة إلى صدره الدامي، وأخرج منه توطًا «مداليونًا»، ودفعه إليَّ وهو يقول: «عدني بأن ترسل هذا إلى …» ثم انقطعت أنفاسه قبل أنْ يذكر اسم تلك التي يريد أنْ يرسل إليها النوط. وها أنا ذا يا سيدتي أدفع إليك بدوري هذه الحلية راجيًا منك البحث عن صاحبتها وتوصيلها إليها إذا لقيت حتفي. ودفع إليها بالنوط، وما إنْ وقع نظر إيرين عليه حتى وثب قلبها من مكانه وثبةً هائلةً، واضطربت كل جوانحها. فقد كان ذلك النوط هو نوط حبيبها وخطيبها «روجيه». ولكن الفتاة النبيلة الباسلة استطاعت أن تتجلد، وأن تخفي آلامها عن الجريح. واكتفت بأن قالت له في هدوء مدهش: «نَمْ هادئًا، فأنا أعدك بتوصيلها لصاحبتها.»

وبعد أنْ نام الجريح، قامت في صدر إيرين المسكينة معركة عنيفة بين واجبها الإنساني وبين دمِ خطيبها المقتول؛ إذن فقد مات خطيبها وانهارت آمالها. مات بيد هذا الألماني الغادر الذي طعنه غيلةً من الخلف. إذن فيد هذا الجريح ملوثة بدم خطيبها، وهذا القاتل الخائن ينام الآن في فراش القتيل. وها هي إيرين خطيبة القتيل التي ستسهر على هذا القاتل، وتجاهد الموت الذي أوشك أن يمد إليه يديه الفاتكتين. وهي التي عليها أن تقضي الليل ساهرةً إلى جانب فراشه، وأن تقدم إليه الدواء مرةً كل ساعة؛ لكي تحول بينه وبين الموت الذي ينشب فيه أظفاره.

يا لسخرية القدر! واهتزت الفتاة المسكينة كالعصفور بلله القطر، وهي تقول: حقًّا، إنَّ هذا أقوى ما تحتمله قوة البشر. وبغتة نظرت إلى إحدى زوايا الغرفة، فرأت سيف الجندي الألماني وهو ذلك السيف الذي سالت على حَدِّهِ دماء «روجيه» فهمت أنْ تأخذ السيف لكي تقضي به على القاتل. ثم تراجعت. أية حاجة بها إلى السيف؟! يكفي أن تمتنع عن إعطائه الدواء في ميعاده، ويفرض أن سِنة من الكرى قد لعبت بأجفانها.

وبينما هي في ثورة هذه العاصفة الجامحة إذا بالمريض يتقلب في فراشه، ويقول وهو في غيبوبة الحمى: «الدواء … اسقني الدواء.»

انظر إلى الشاعر وهو يقول: إنَّ إيرين رفعت حينئذٍ نظرها إلى تمثال المسيح المصلوب، وألقت عليه نظرة الشهيد الذبيح، ثم تقدمت إلى الجريح ولم تحول نظرها عن تمثال حامل الآلام، وسكبت له الدواء وسقته إياه في رفق، وابتهلت إلى صاحب التمثال أنْ يغفر لها ما خالج نفسها المعذبة لحظةً من الرغبة في الانتقام.

ثم استمع إليه وهو يقول: إنه حين عاد الطبيب عند الشفق لكي يرى حالة مريضه، ونظر إلى إيرين وهي تحمل كأس الدواء بين يديها إذا بالشيب قد وخط شعرها.

وليست هذه القصة وليدة الخيال؛ ففي حوادث العالم آلاف من أمثالها. حيث ترتفع المرأة إلى ذروة الكمال، وتُفني نفسها وآمالها وآلامها، وتضحي بسعادتها لأجل الغير، وتفنى في سبيل واجبها الإنساني الأسمى.

سادتي وسيداتي

لقد أوضحت لحضراتكم باختصار المجهودات النبيلة التي قامت بها المرأة في معظم بلاد العالم خدمة السلام والإنسانية، وكيف أبدع بعض الكُتَّاب في تصوير شعورها بالواجب الإنساني وقوة إرادتها وصبرها على المكاره وعدم انقيادها لثورة الغضب، وإني لأعتقد بأن المرأة لو كانت تملك حق التشريع وقوة التنفيذ في كل البلاد لحالت دون وقوع الحرب العظمى بما وُهِبَتْ من مرونة في المعاملة، وتروٍّ وتقدير للعواقب أكثر من الرجل، ولما وُضِعَتْ شروط الصلح التي أمْلَتْها أنانيةُ الظافرين على الأساس الواهي الذي انهار أمام القوة، ولما ضاعت مجهودات ولسن وأموال كارنيجي سُدًى في السعي وراء السلام، ولما أخفق ميثاق بريان كيلوج، ولما انتاب الضعف عصبة الأمم. وأظن أنكم لاحظتم أنَّ الفضل الأول في نشر فكرة السلام يرجع إلى السعي المتواصل والتشجيع الأدبي والمادي الذي بذله عظماء الولايات المتحدة وعظيماته أمثال الرئيس ولسن، والمستر كارنيجي، ومسز أدمس وغيرهم. وأن معظم الجمعيات الأوروبية التي تعمل لنشر السلام وتوطيد العلاقات الودية بين الأمم تُغَذِّيهَا أمريكا بأموالها وأفكارها، ولو كان للنساء حق إملاء إرادتهن على حكوماتهن لما انتُهِكَت حرمة المعاهدات والوثائق، ولما أُرِيقَت الدماء البريئة في الصين وفي الحبشة، ولما اشتعلت نار الفتنة الأهلية التي أثارتها المطامع السياسية في إسبانيا، فدمرت وخربت وأعادت مأساة قابيل وهابيل، ولما حدث ما أثار كره إيطاليا وألمانيا لليهود، ولما أصبح الصهيونيون بلا مأوًى، ولما جرأت إنجلترا على محاربة مداواة الظلم بظلم أفظع منه كما تفعل في فلسطين، ولما اتخذت جيوشها من الأراضي المقدسة مهد التآخي والوئام ساحة قتال وتخريب؛ تهرق فيها الدماء بلا سبب، وتزهق الأرواح بلا جريمة، وترتفع فيها أنَّات الثكالى واليتامى والأرامل طالبةً من الله العدل والقصاص.

سادتي وسيداتي

في مثل هذا اليوم من عام ١٩١٧ استولت الجيوش الإنكليزية على القدس، ودخلتها وعلى رأسها الجنرال اللنبي مترجلًا احترامًا لقدسية ذلك المكان. دخلت تلك الجيوش لتحرير شعب فلسطين من الاستعمار التركي برًّا بالعهود التي قطعتها إنجلترا للملك حسين، والتي رأت لتحقيقها أنْ تبسط وصايتها على هذا الشعب المنكود الحظ؛ كي تساعده على النهوض الأدبي والمادي الذي يضمن له مستقبلًا زاهرًا بالحرية والرخاء. ولقد مضى ما يقرب من ربع قرن وهذا الشعب المسكين يقاسي تحت نير ذلك الانتداب من أنواع الظلم والتعذيب ما تَقْشَعِرُّ له الأبدان وتشمئز منه الإنسانية. فاسمحوا لي أنْ أرفع صوتي عاليًا من فوق هذا المنبر المحترم باسم نساء الشرق وباسم الحق والعدل والسلام محتجَّةً على ما يقوم به الجنود الإنجليزية في تلك البقاع المقدَّسة، مناشدةً حضراتكم ونساء العالم الأوروبي ورجاله عامةً أنْ يضموا أصواتهم إلى أصواتنا لمطالبة إنجلترا بوضع حدٍّ لهذا الظلم الصارخ الذي يدنس المدنية الأوروبية.

والآن أتوجه بالشكر الجزيل لحضراتكم لإقبالكم على سماع هذه المحاضرة وإصغائكم لها، رغم ما يتطلبه الموضوع من إطالة، أستمحيكم المعذرة إنْ كانت قد سبَّبَت لكم شيئًا من الملل، وأتقدم بخالص الشكر إلى حضرات الأفاضل مدير قسم الخدمة العامة وزملائه المحترمين على ما أَوْلَوْنِي من ثقة. أرجو أنْ أكون قد وُفِّقْتُ لاستحقاقها، والسلام عليكم ورحمة الله.

١  اقرأ «الإجبسيين» عدد سبتمبر سنة ١٩٣٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤