الفصل الرابع عشر

أنا الغريقة ما خوفي من البلل

في ١٣ أبريل

أشعر بشوق إلى استئناف الكتابة لك عن تاريخ حياتي، نمت مرتاحة مطمئنة نحو أربع ساعات، وصحوت شاعرة بالراحة.

أتصوَّر أنك وأنت تقرأ رسالتي تحرق الأرم على ذلك الخئون الذي ضحَّى بي على مذبح شهواته، وعلى أهله الذين منعوه أن ينتشلني من سقوطي ثم وشوا بي، ولكن ما هم غرمائي الحقيقيين، وإن كانوا قد أردفوا الأذية بأذية مجانًا، وإنما غريمي الحقيقي تلك العادات التي يسمونها شريعة أدبية، فإنها تصرُّ على تسويد عاري كلما أبهت الزمان سواده، وتصبغ به حياة خطيبي أيضًا، فأولئك الذين وشوا بي بلؤم خدموه في عرف الجمهور من حيث يقصدون أذاي.

العجيب أني كدت أنسى خيانة ذلك الوغد لي، ولكنه وأهله لم ينسوا عاري فنبهوا الناس إليه إذ خفي عليهم.

بل الأعجب يا موريس أن أصدقائي وصديقاتي في الإسكندرية الذين لم يشهدوا شخصي الأول، ولا رأوني في حالة دنسي وهواني، ولم يعرفوني إلا «فلانة الأرملة» الفاضلة القديسة المحسنة نفروا مني وتجافوني لما وقفوا على حقيقة أمري، فكل ما شهدوه عيانًا من صلاحي وتثبتوا منه بالبراهين الحسية من حسن سيرتي كذبوه وأنكروه، ولكنهم صدقوا مجرد الخبر عن هفوتي فتأمل ما أشد فاعلية تلك الهفوة.

كل ما أتيته من الحسنات وفعلته من الصالحات، وصنعته من المعروف وبرهنت عليه من العفاف والطهارة بتقشفي، وتعبدي وتصوني بغية أن يكون حجابًا كثيفًا قويًّا أحجب به إثمي الوحيد لم يستطع الثبات أمام هجمات الناس على سيرتي، دكوا ذلك الحجاب المتين إلى أساساته وفضحوا عاري.

تأملت كثيرًا في العادات والآداب البشرية، فوجدتها عكس المعقول فحرت كل الحيرة في سرها، هل انتبهت يا موريس إلى أمر غريب فيها؟ هو أن الآثام التي لا تؤذي إلا آثمها وحده يصرُّ الناس على معاقبته عليها، ولن يغتفروها له ولو تاب وكفر وصان نفسه عن سائر الآثام، لماذا؟ وأما الآثام المؤذية لغير آثمها، فيغتفرونها له من غير أن يتوب، فالسرقة مثلًا يؤذى بها المسروق وينتفع السارق فيغتفرونها، والكذب يضرُّ بالمكذوب عليهم فيغتفرونه للكاذب، والظلم يضنك المظلومين فيغتفرونه للظالم، وأما الزنا فلأنه لا يضرُّ إلا بالتي زنت وحدها إذا كانت بلا بعل فلا يغتفرونه لها، بل يعاقبونها عليه أقسى عقاب، ولكن زنا الرجل الذي يضرُّ بالزانية وزنا الزوجة الذي يضر بزوجها يتسامحون بهما، ويغتفرونهما بلا كفارة حتى بلا توبة.

لو قام المسيح الآن وقال ما قاله يوم قدم له الفريسيون زانيةً، وسألوه حكمه عليها: «مَنْ كان منكم بلا خطية فليرم إيفون مونار بحجر»، لرماني كل الناس حتى ذلك الذي لم يؤذ سواي، بل هم الآن يرمونني بما هو أقتل من الحجارة، يرمونني بسهام الاحتقار والازدراء، أظنك أنت وحدك يا موريس تقول ما قاله المسيح لتلك الزانية: «اذهبي يا امرأة ولا أنا أدينك.»

بعدما تركني خطيبي عرف كل معارفي سبب تركه لي، وعرفوا حقيقة أمري فقللوا من اعتباري جدًّا، وحطوا من شأني حتى إن الذين لم يشكوا بتوبتي وإخلاصي وصدقي في سلوكي، ومظاهري تغير نظرهم فيَّ، وصارت زلتي الماضية أداة تعييري، فإذا استاءت إحدى السيدات مني لأمر بغير حق بالرغم من اجتهادي في إرضاء الكل تنتقم مني بأن تعيرني بهفوتي الماضية، إذا ذهبت إلى الكنيسة قال بعضهم: «إنها لمرائية»، إذا أحسنت إلى فقير قالوا: «تتظاهر بالفضيلة لتستر عارها»، إن زارني أحد من الرجال غير مرة قالوا: «عشيقها»، وإن ترددت على صديقة مرارًا قالوا: «متفقتان على البغي؟»

لما ذهبت إلى الكنيسة لأول مرة في تلك الأثناء كانت أكثر العيون ترمقني، وبعض الأصابع تشير إليَّ خفية وبعض السيدات يتهامسن (بالطبع بحديثي)؛ لأن حكايتي جديدة وغريبة، وإن كانت زلتي مألوفة عندهم.

مرضت على الأثر فاستدعيت الطبيب الذي كان يعودني قبلًا، فتخلف عن عيادتي وعلمت بعدئذٍ أنه اضطر إلى ذلك؛ لئلا يظن الناس فيه سوءًا يؤثر تأثيرًا سيئًا على مصلحته ووظيفته، فترى أنه لولا مصلحته لما استنكف أن يعودني.

والذي يجنني أني كنت وصديقتي مرة في سان استفانو، فصادفت سيدة مع شقيقة ذلك الخئون تنظر إليَّ تارة وتكلمها أخرى، وأحيانًا تقهقهان، فسألت صديقتي: «من هذه السيدة؟» فتوسمتها وقالت: «هي زوجة ذلك الغادر مع أخته»، حيتهما صديقتي فلم تردَّا التحية، فقلت لها: «إنهما تنكرانك الآن لأجلي»، فقالت: «لا تعجبي لا يراشق بالحجارة إلا من كان بيته من زجاج»، عند ذلك لم أطق البقاء هناك فعدت وصديقتي حالًا؟

لم يعد أحد من الشبان يعاشرني ويجالسني إلا على نية دنيئة لم يعد يتقدم طالب ليدي البتة؛ لأني في عرف الناس ساقطة، وإذا تقدم إليَّ شاب يجهل أمري فلا يلبث أن يطلع عليه فينثني عني.

تقدم إليَّ بعض الشبان طمعًا بالمال اليسير الذي جمعته من وخز الإبرة، ولكن لم يكن بينهم أحد ذا مكانة معتبرة يستطيع أن يرفعني من حطتي، فأيُّ من أرضاه بعلًا منهم يزيدني حطة؛ ولذلك رفضتهم جميعًا؛ لأني لم أبتغ الزوجية إلا لاسترداد مقامي الذي خسرته.

مرَّ عليَّ بعد ذلك ثلاث سنين أخرى، وأنا أغالط الناس في اعتقادهم بي وأجاهد في إثبات توبتي وطهارتي الحقيقية، فلم يمحوا عاري ولا شاءوا أن يردوني إلى مكانتي الأولى.

كنت أتحسر من أعماق قلبي وأتنغص كلما رأيت امرأة تمشي مع زوجها في متنزه أو نحوه، وبينهما ولد ومعارفهما يلتقون بهما ويرفعون لهما قبعاتهم، وإذا رأيت رجلًا يعني بامرأته أغبطهما وأقول: «هل ترى أحصل على زوج يعني بي فأعبده، ويرفع مقامي فأسجد له؟» وإذا رأيت امرأة تتسيد في بيتها والأسرات تزورها وأولادها يحفون حولها وزوجها يمازحها يطفر الدمع من عيني، وأقول: «أنَّى لي مثل هذه السعادة؟»

مللتُ وحدتي، قنطت من استرداد شرفي، يئست من إقناع الناس بأني لا أقل عن أفضل نسائهن فضلًا وطهارة، فقلت في نفسي: «إذا كان الناس يصرون على رفض توبتي، ولا يحسبون لي حسناتي ولا يغضون الطرف عن زلتي القديمة، فإلى متى أجاهد في مقاومة شهواتي، وأحرم نفسي لذاتها؟»

ما حدثتني نفسي هذا الحديث إلا بعد، إذ هاجم الغاوون من الشبان عفافي، فكانوا يرتدون خائبين، وأخيرًا اتصل بي شاب لطيف مثر له بعض المبادئ الحسنة، فأبدى لي من الحب أعظمه، واقترح علي أن يغنيني عن إبرتي ويريحني من سهر الليالي أمام آلة الخياطة إذا ساكنته.

وكنت كلما كرر علي هذا الاقتراح عدَّلته له بقولي: إني أغنيه عن كل أمانيه، وأكون نسخة آماله الأصلية إذا كان يتزوجني، فصرح لي أن ذلك يستحيل عليه للسبب الذي أعلمه، فعذرته بعد الذي رأيته من تمسك الناس بتلك المبادئ العسوفة.

ولما قطعت الأمل من نيل وطري بتمامه كما وضعت نصب عيني، ومللت عيشة الوحدة ووهنت قواي الأدبية عن مقاومة الميل الطبيعي إلى إلف قلت: أنا الغريقة ما خوفي من البلل.

الناس يتنعمون وأنا أشقى وما هم بأبر مني، فلماذا لا أنعم؟

وكان ذلك الشاب يقطن في مصر، فانتقلت إليها، وسكنا في منزل حائد عن بيئتنا، وحينئذٍ اخترت لنفسي اسمًا ثالثًا وهو اسمي الحالي: «إيفون مونار»؛ لأن اسمي الثاني أصبح مرادفًا لاسمي الأول، فلم يعد يواري ماضيَّ.

انتقلت من بين معارفي وعمدت إلى تغيير اسمي عند إبدال الحياة الدنسة بحياتي الطاهرة؛ لكي يبقى شخصي الحقيقي مصونًا من الدنس؛ ولكي يسلم شرف أهلي من العار كذا تفعل البغيات إذا كن طيبات الأصل، فأحرجن إلى البغاء هل رأيت مومسًا تقول لك اسمها الحقيقي؟ هل عرفت امرأة بغيًّا تقطن في بلد أهلها؟ لماذا؟ — لأنها وهي تنتهج نهجًا فاسدًا لا تزال تتشبث بالمبادئ الشريفة، وتحرص على عرض أهلها؛ ولذلك تكتم اسمها الحقيقي؛ لكي تخفي معه شخصيتها الشريفة وتتقلَّد اسمًا كاذبًا؛ لكي تخلق لنفسها شخصية جديدة لمظاهرها.

إذا التقت بمن يعلم حقيقتها ويعرف أهلها تخجل منه، وتهرب من وجهه مهما كانت فاجرة سليطة، لماذا؟ لأن شخصيتها الحقيقية لا تزال تتمسك بأهداب الشرف فتخجل من العار، وأما الشيء العاري من ثوب الحياء فيها فهو شخصيتها المزورة.

أما المرأة المحصنة فيمكن أن تسلم شخصيتها الحقيقية وعرضها معًا، تسلم اسمها وجسمها جميعًا ولا تخجل بفسادها.

ساكنت ذلك الشاب نحو سنتين فكنت منعمة معه، ولكني خسرت كل أصدقائي ولم يعد يعرفني إلا مثيلاتي، على أني لم أعد أعبأ بنظر الناس السيئ إليَّ، وما كنت أهتم إلا بلذتي وسروري وإرضاء ذلك الشاب؛ لأنه كان يحبني جدًّا، ويعتبرني ويدرك قيمتي الحقيقية.

بعد السنتين اتفق له أن تزوج زواجًا حسنًا فتركني.

فكرت أن أعود إلى الخياطة، فشعرت أنها شغل شاق جدًّا لم يعد لي جلد عليه، فأقمت في بيت فخيم، وجعلته شبه منتدى أو قل حانة لكبار الغواة.

باسم «إيفون مونار» أطلقت لهواني العنان، وتمتعت بكل شهواتي؛ لأني رأيت أن العمر واحد سواء قضي بالتقشف أو بالتنعم وأن فضيلتي لا قيمة لها؛ لأن الناس ينكرونها عليَّ وعلى مثيلاتي في حين أنهم يغضون الطرف عن رذائل غيري.

في ذلك الحين درست العالم جيدًا، وهذه الحقائق التي أدونها لك لم تتجل لي في حينها، وإنما الآن صرت أفهمها بعد ذلك الدرس.

بذلت عرضي يا موريس في تلك الأيام؛ لأني لم أجد من يشتريه غاليًا، مع أني غليته جدًّا وزينته بالفضائل، وطهرته بالتوبة فظل بلا قيمة في عيون الناس.

نعم إني بذلت عفافي، ولكنني لم أترك مبادئي القويمة، ولم أعدل عن حشمتي وأدبي وصدقي وعدلي وإخلاصي وإحساني، لم أبذل إلا العرض الذي أبى الناس أن يقبلوه مني نفيسًا.

عاملت كل الذين كانوا يزورون حانتي بكل استقامة، وشرف نفس، صدقت معهم في مواعيدي وفي كلامي، حافظت على عهودي لهم، أخلصت لهم صداقتي، عزيتهم في أحزانهم، فرَّجت كروبهم، لم أتأخر عن أي فعل مروءة أستطيعها، تصدقت على بعضهم، سامحت المسيئين لي.

لم يعاملني من نوع عملي إلا النزر اليسير منهم، وهم الذين عرفوني جيدًا وكانوا ذوي مبادئ قويمة، ومع ذلك لم يتفوقوا عليَّ بذلك، وأما السواد الأعظم من معارفي فكانوا يكذبون عليَّ، ويخلفون في مواعيدهم وينقضون عهودهم، ويسرقونني ويستحلون أذيتي، لماذا؟

لأني امرأة ساقطة.

كانوا إذا صادفوا مني وفاء أو إخلاصًا يدهشون، ولا يصدقون، ويحاولون أن يؤولوه بمعنى غير ظاهر ويحسبونه دهاء عظيمًا سره فوق مداركهم؛ ذلك لأنه عجيب عندهم أن تكون الساقطة ذات مبدأ قويم.

•••

بين المومسات والرجال تنازع يتوارى وراء دعوى الحب، وهو أحدُّ من التنازع بين البائع والشاري، فالرجل يجتهد أن يشتري اللذة من المومس رخيصة، وهي تحاول أن تبيعها غالية، فهو يتحبب مرائيًا لكي يروي شهواته، وهي تتدلل متصنعة لكي تبتز ماله.

بل بين الفئتين عداء شديد، الرجل يستبيح حقوق المومس كما يستبيح عرضها، فيستحل انتهابها، ويأبى عليها مكانتها وينكرها خارج منزلها، ويضن بمؤاساتها في حزنها وبعيادتها في مرضها، ويمسك الإحسان عنها في شدة فاقتها، ويقطع حبل رجائها في ساعة يأسها، هل أحسنت جمعية خيرية إلى مومس فقيرة؟ هل آوى مستشفى خيري بغيًّا مريضة؟

لست أدري لماذا يقسو الرجال على الساقطات قسوة الظالمين المنتقمين؟ ماذا أذنبنَ لهم؟ إذا كانت البغي تحاول أن تلطخ الرجل بعارها، وتزرع فيه جرثومة دائها وتزوِّر حبها له؛ لكي تسلب ماله وتمكر عليه بدلالها لتبخسه سمعته، فإنما تفعل ذلك انتقامًا مرًّا منه؛ لأنه أسقطها ولم يشأ أن يرفعها، قطف أزاهرها ثم داسها تحت قدميه عمدًا لغير سبب.

بعكس ذلك يعامل المرأة المحصنة، يستر عارها وقد يفتدي سمعتها بدمه.

شقاء المرأة الساقطة على الأرض أشد من عقابها في جهنم.

لو أتيح لها أن تسترد مكانتها الحقيقية الأدبية، وهي إلى جنب زوج وضيع لتركت مقصورة بغائها، ومقصف لهوها وحلي بهائها ورضيت بالكوخ وشظف العيش. الساقطة تتمرمر في بأسائها، والبغي المنعمة تشعر بالويل المقبل عليها، فلماذا لا تفرُّ من شقائها؟ لأنها مقصوصة الجناحين والهاوية عميقة، وليس من يمد يده إليها لينتشلها.

الويل للفتاة التي لا تتشبث بعفافها تشبث الجسد بالروح. نعيم الفتاة عفافها، فموتها أفضل لها من فقده.

•••

لا موجب أن أفصِّل لك جزئيات حوادثي في تلك الأيام؛ لأن ما أجملته عنها يكفي لبيان تاريخ حياتي.

مالت الشمس إلى المغيب، وصرت أتوقع قدوم الزائرين، ولكني أشعر بكآبة؛ لأني صرت أستثقل الناس كلهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤