الفصل الثاني

حديث الحمى

كنت إلى ذلك الحين قد عدت تلك العليلة بضع عيادات مختصرة، فلم أكن أعرف عنها شيئًا، وكان منزلها في عابدين وكنت أجدها وحدها في منزلها لا يحفُّ بها صديق ولا نسيب سوى وصيفتها فانتين وخادم وطني، فسألت فانتين عن سرِّ وحدتها فقالت: «إن المدموازيل إيفون غريبة لا أهل لها في مصر»، فلم أستزدها بيانًا، غير أني افتكرت حينئذٍ أن جواب فانتين لم يكن لقصد التبيان، بل لمجرد الإجابة فقط، وإذ لم يكن أمر إيفون يهمني جدًّا لم أكترث أن أتحرى عن حقيقته، ولكن لما كان موريس يسائلني عن صحتها تقت أن أسأله عن ملخص سيرتها، فلم أجسر على هذا الفضول.

وفي اليوم التالي عدت جميع مرضاي وجعلت زيارة إيفون الأخيرة؛ لكي يتسع لي الوقت لمحاضرتها، ومن حسن الحظ وجدتها أحسن حالًا بالرغم مما هي فيه من السقم والهزال والونى، وظهر لي حينئذٍ أن ثورة انفعالاتها شرعت تخمد.

– أراك اليوم أحسن حالًا يا مدموازيل إيفون ولي الأمل أن يكون شفاؤك قريبًا.

– الشفاء والفناء عندي سيان يا دكتور بوشه، وإنما أتمنى الخلاص من هذا العذاب بأي منهما.

– أظن أن سبب مرضك الحالي الهواجس المحزنة، فيجب أن تصرفيها وأنا أضمن شفاءك بإذن الله.

فتنهدت قائلة: آه، ليت ذلك في طوقي، كل شيء يستطيعه الإنسان إلا تحويل الفكر عن وجهته.

– لا أجهل هذه الحقيقة يا مدموازيل إيفون، وإنما عندي لدفع الأفكار المحزنة المؤلمة وسيلة فلسفية وهي «حب النفس»، أحبي نفسك فوق كل شيء تضحي بكل العالم لأجلها، وحينئذٍ لا تبالين بغير مسراتك، أرى أن هذه القاعدة هي العلاج الوحيد للأفكار المحزنة والهموم المزعجة؛ لأني لم أجد مريضًا بداء الفكر إلا مَنْ يهتم بشئون الآخرين.

فابتسمت ابتسامة لطيفة جدًّا تشف عن تسامي عقلها عن هذه الفلسفة، وانقلبت عن جنبها إلى ظهرها ولم ترد جوابًا، وكان سكوتها أفصح دلالة على أنها لم تقتنع بقولي، ولكن لم يكن لها جلد على مجادلتي، وبعد هنيهة قلت لها: زارني المسيو موريس كاسيه أمس، وسألني بتدقيق عنك.

فتململت، وفي الحال أدركت أن الحديث عنه يهيج عواطفها، ولكني لم أفهم البتة لماذا.

– أشكر لطفه، أتعرفه من قبل يا دكتور؟

– كلا ولكن معرفتي له أمس كانت كمعرفة عمر، فإني أعجبت بذوقه ولطفه وعظم ثقته بي.

– ماذا قلت له عني؟

– قلت: إنكِ مقبلة على الشفاء بإذن الله، على أنه كان قلقًا جدًّا عليكِ، ودقق في التساؤل عنكِ.

بقيت إيفون صامتة كأنها تأبى الخوض في هذا الموضوع؛ ولذلك رأيت أن اقتضاب هذا الحديث أفضل لئلا يسوءها التمادي فيه، فنهضت وودعتها ومضيت وأنا أشعر أني خارج من حضرة ملاك؛ لأن صورة تلك المرأة رسمت أثرًا جميلًا في صفحة مخيلتي، ولم أزل إلى الآن كلما تنبهت لها ذاكرتي تخيلت رسم فتاة وديعة سليمة الطوية أبية النفس سمحة الخلق.

ولما عدت إلى البيت وجدت بربريًّا ينتظرني، وفي يده رسالة لي ففضضتها وقرأت:

سيدي الدكتور بوشه

أصبحت اليوم والصداع يجنني والحمى تشويني شيًّا، وكنت أنتظر أن تخمد قليلًا؛ لكي أستطيع أن أزورك في الموعد المعين وأتلقن منك أخبارك السارة عن مدموازيل إيفون مونار، ولكن خاب فألي فهل تتفضل عليَّ بهذا الفضل العظيم، وهو أن تعودني في أفرغ أوقاتك؟ أمتن لك على كل حال.

موريس كاسيه

فشعرت على أثر قراءة هذه الرسالة أني أتوقع لذة من الاجتماع بموريس، والاطلاع على حقيقة صلته بإيفون، فركبت مركبتي والبربري إلى جانب الحوذي يرشده إلى منزل سيده.

وجدت أمه والخادمة عنده فحييت ودنوت منه، فوجدت وجهه لا يزال يتورد والحمى آخذة بالخمود، وعلمت أن أنفلونزا شديدة هاجمته، فطمأنته وأمه ووصفت له العلاج الناجع، وبعد هنيهة أوعز إلى أمه والخادمة أن تتركانا وحدنا؛ لأنه كان على مثل نار الغضا في توقع أخبار إيفون، ولما خرجتا نظر إليَّ والأمل يشع من مقلتيه، وهو ملقى في سريره على يمينه ووجهه إليَّ، وقال: عدت إيفون اليوم؟

– من غير بد.

– كيف حالها؟

– أحسن من أمس، ولي الأمل أن تكون غدًا أحسن من اليوم، فأبرقت أسرته وقال: أكيد؟

– لست أخدعك لكي أطمئنك فقط، بل الحقيقة هي ما أقول.

– إذن تؤمل أن إيفون تشفى؟

– نعم.

– إني مدين لك بحياتي.

– أما زرتها يا مسيو موريس؟

– كلا.

– عجيب!

فسكت، وبعد هنيهة قلت له: ألا تزورها غدًا حين تستطيع الخروج.

– لا أظن.

– عجيب، كيف تطيق وأنت تحبها أن تجفوها في أثناء مرضها؟

– أراك يا دكتور بوشه تحرجني أن أطلعك على سرِّ حبي لإيفون.

– اعذرني على فضولي.

– بل سامحني أيها العزيز، فإني أكتم عنك مصيبتي بإيفون مع أني أشعر أنك أصبحت موضع ثقتي الوحيد بالرغم من حداثة تشرفي بمعرفتك، أما أنت صديق حقيقي الآن؟

لم يكن عندي ريب بأن موريس اتخذني صديقًا أمينًا لأول مقابلة، وامتلأ ثقة بي وتمنى أن أبادله مثل هذه الثقة، وتلك الصداقة على أنه تسرع في ذلك قبل أن يعرفني جيدًا، ولماذا؟ السبب بسيط، وهو أني كنت أعود مدموازيل إيفون كل يوم، ولو كان طبيب آخر سواي يعالجها لنال من حب موريس ودالته وثقته ما نلت، فأجبته على سؤاله: لا أظنك تشك بذلك.

– إن إيفون تأبى مقابلتي، فأخاف أن تتأثر إذا زرتها.

– ألا تحبك؟

– لا أظن أنها لا تحبني.

– فلماذا تأبى مقابلتك إذن؟

فتنهد قائلًا: هنا كل مصيبتي.

وعند ذلك ضغط على زر جرس الاستدعاء فدخلت الخادمة فقال لها: اقفلي الباب ولا يدخل علينا أحد بغير استئذان.

ارتفع قليلًا على مخدته ووضع كفه تحت رأسه، وقال: يلذ لي أيها الصديق أن أقص عليك حكايتي مع إيفون؛ لأن قصها يُفَرِّج كربي، آه إيفون، إيفون، ما أهنأ الموت عند مدخل بابك.

فتبسمت قليلًا فقال: لا تضحك يا عزيزي بوشه بل ارث فإن الحب أعظم ما في العالم، ولولاه لما كنت أنت بوشه الطبيب البارع، فلأجل مَنْ تهوى — ولا بد أنك تهوى واحدة؛ لأنك لم تزل شابًّا مثلي — تسعى إلى طلاب العلى؛ ولأجلها تمتاز عن الجماد، لا تؤاخذني على هذه السماجة في التعبير.

فأعملت الفكر في هذه الفلسفة المختصرة وقلت: صدقت، ما الإنسان إلا حيوان يحب، وما الحيوان بلا حب إلا حجر أصم، فلست أهزأ بك يا عزيزي، ولكني ابتسمت لتمنيك. إني أحترم حبك.

– تبتدئ قصتي مع إيفون بحادثة نزق وطيش، وسترى أن النزق يكون أحيانًا فال الخير؛ فلذلك النزق أنا مدين بحب إيفون.

ثم شرع موريس يحكي حكايته، وأنا أسمعها صامتًا إلا نادرًا، قال …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤