الفصل السادس

فلق النواة

برلين سنة ١٩٣٩

ينتقل بنا البحث الآن إلى مرحلة جديدة من مراحل تطور البحوث الذرية، وهي المرحلة التي أدت بطريقة مباشرة إلى صناعة القنابل الفتاكة التي ألقيت على اليابان، وقد أشرت في مقدمة هذا الكتاب إلى أبحاث هاهن واشتراسمان التي أجرياها في برلين عام ١٩٣٩، ورويتُ الرأي الذي صرَّحتُ به في تلك السنة من أن هذه الأبحاث تعتبر أهم حدث في أخبار العالم، وللقارئ أن يتساءل: ما هي الأهمية الخاصة لهذه البحوث؟ وهل تعدو أن تكون إحدى البحوث العديدة في تحولات النواة؟ وهي البحوث التي أشرت إليها في الفصل السابق، وذكرت أنها أجريت في جميع أنحاء المعمورة؟

الجواب على ذلك: أن العمل الذي قام به هاهن واشتراسمان ليس كغيره من تحولات النواة، فالتحولات التي كانت معروفة إلى هذا العهد كانت تقسيمًا للنواة، ولكنه تقسيم جزئي لا يفقد النواة إلا كسرًا بسيطًا من وزنها بخروج جسيم ألفا أو بروتون أو نيوترون أو ديبلون منها، فكأنما أتينا على كتلة من الخشب فضربناها بفأس في أحد أطرافها فانفصلت قطعة صغيرة منها، أما الكتلة ذاتها فظلت سليمة في مجموعها، وكل الأبحاث التي حدثت في تحولات النواة لغاية سنة ١٩٣٩ إنما كانت من هذا النوع من أنواع الانفصال.

أما ما قام به هاهن واشتراسمان فشيء آخر غير انفصال قطعة صغيرة من كتلة النواة، هذا الشيء هو فلق النواة فلقًا أو قسمة الكتلة إلى جزأين متقاربين في الوزن، فكأنما ضربنا بالفأس في مركز النواة فانفلقت فلقتين.

أبحاث فيرمي١ والعنصر رقم ٩٣

وتتصل أبحاث هاهن واشتراسمان ببحوث فيرمي عن العنصر رقم ٩٣، فإلى سنة ١٩٣٤ كان عدد العناصر المعروفة ٩٢ عنصرًا، وفي تلك السنة نشر فيرمي بحثًا في مجلة (Nature) الإنجليزية دَلَّلَ فيه على وجود عنصر جديد يقع بعد عنصر اليورانيوم، وكان اليورانيوم آخر عنصر في جدول العناصر ورقمه الذري ٩٢. والطريقة التي استخدمها فيرمي هي إطلاق النيوترونات على عنصر اليورانيوم نفسه وامتحان نتائج هذا التحول، وقد كان فيرمي وأعوانه قد دللوا من قبل على أن إطلاق النيوترونات على النواة من شأنه أن يُفْقِدَهَا توازنها فتنبعث منها إلكترونات، وبذلك يزداد رقمها الذري، فإطلاق النيوترونات على آخر عنصر في الجدول من شأنه إذن أن يخلَّ توازن النواة وتنبعث منها إلكترونات فيزيد رقمها الذري عن ٩٢، أو بعبارة أخرى: تتحول إلى عنصر جديد رقمه الذري ٩٣ أو أكثر يضاف إلى قائمة العناصر المعروفة.

وقد استلفت عمل فيرمي نظر كثير من الباحثين، وقامت مناقشة بينهم حول إثبات وجود العنصر رقم ٩٣، وأجريت تجارب عديدة لامتحان المسألة والتحقُّق من صحتها، وكان في مقدمة هؤلاء الباحثين هاهن واشتراسمان؛ إذ نجحا في عام ١٩٣٨ في إثبات وجود العنصر رقم ٩٣ بالطريقة التي استحدثها فيرمي.

صناعة العناصر

واستحداث عنصر جديد يضاف إلى قائمة العناصر أمر له خطره، وخاصة إذا كان هذا العنصر مصنوعًا في المعمل، والواقع أن هذا الحدث له مغزى بعيد، فالنظرة التقليدية إلى العناصر أنها أشياء موجودة في الطبيعة، وأن مهمة العلم أن يحصيها وأن يكشف عن المجهول منها، وقد كان اكتشاف عنصر جديد في الأرض أو السماء يعتبر عملًا من الأعمال العلمية العظيمة ويرفع من قدر صاحبه بين مصاف الباحثين، وها نحن نرى أن الموقف قد تغير؛ فالعنصر رقم ٩٣ لم يبحث عنه باحث بين المواد النادرة ليعثر عليه، بل إنه صُنع صنعًا كما لو كان بناءً يُشيَّد طبقًا للأوصاف الموضوعة، ومع أننا لا نزال بعيدين كل البعد عن تعميم هذا العمل في مدى واسع إلا أننا — ولا شك — نشعر بأهمية هذه القدرة الجديدة المكتسبة.

ما هو أهم

وقد توصل هاهن واشتراسمان إلى ما هو أهم من إثبات وجود العنصر رقم ٩٣ الذي استحدثه فيرمي؛ إذ أوجدا الأمل لأول مرة في إطلاق طاقة الذرة من عقالها، فإطلاق النيوترونات البطيئة على ذرة اليورانيوم لا ينشأ عنه فلق هذه الذرة فحسب، بل تنشأ عنه طاقة قدَّرها هندرسون٢ عام ١٩٣٩ بمقدار ١٧٥ مليون فولت إلكتروني، وقدرها كانر٣ عام ١٩٤٠ بمقدار ١٥٩ مليون فولت إلكتروني.

ماذا يحدث لفلقتي النواة؟

إذا اعتبرنا أن الوزن الذري لليورانيوم هو نحو ٢٣٩ في المتوسط، فقد وجد أن وزن إحدى الفلقتين هو ٩٦ والأخرى ١٤٣ في المتوسط … وأقول في المتوسط لأن اليورانيوم مؤلف من أصناف موجودة بنسب متفاوتة، وسيأتي الكلام فيما بعد عن أهمية أحد هذه الأصناف في صناعة القنابل الذرية — أقول: إذا اعتبرنا ذلك فإن كلًّا من الفلقتين تكون غير متوازنة، ولذلك يظهر لها النشاط الإشعاعي فتنبعث منها جسيمات، وقد قام باحثون عديدون بالبحث عن هذه الجسيمات فوجدوا أنها نيوترونات قدر لعددها نحو ثلاثة نيوترونات عن كل ذرة من ذرات اليورانيوم الأصلية، ومعنى هذا أننا نطلق النيوترونات على ذرة اليورانيوم وتتحول إلى فلقتين، ثم لا تلبث كل من هاتين الفلقتين أن تبعث بنيوترونات جديدة.

مفتاح الطاقة الذرية

وما إن وصل العلم إلى هذه النقطة حتى تجلت أهمية الموضوع من ناحية الحصول على الطاقة الذرية بمقياس واسع، فانقسام عدد محدود من الذرات وانطلاق الطاقة منها قد يكون له أهميته من الناحيتين العلمية والفلسفية، أما من الناحية العمرانية والصناعية فماذا تفيدنا طاقة بضع ذرات؟ بل ماذا تجدي طاقة مليون من الذرات؟!

إن الجرام الواحد من اليورانيوم يحتوي على آلاف ملايين ملايين الملايين من الذرات! أما إذا كان انقسام ذرة يتبعه انقسام جارتها ثم جارة جارتها بطريقة متسلسلة وحتمية فإن ذلك يكون المفتاح الذهبي لذلك الكنز الهائل من الطاقة المختزنة بين ثنايا المادة، فانبعاث النيوترونات من فلقتي ذرة اليورانيوم يكون أمرًا في منتهى الخطورة إذا أصابت هذه النيوترونات ذرة أخرى من ذرات اليورانيوم ففلقتها وأطلقت طاقتها من عقالها ثم انبعث عن الفلقتين الجديدتين نيوترونات جديدة وهكذا.

وهناك شرط آخر يجب أن يتحقق لتحقيق الغرض المنشود، ألا وهو أن هذه العمليات المتسلسلة يجب أن تنطلق في ملايين ملايين ملايين ملايين الذرات بسرعة تكفل إتمامها في لحظة قصيرة!

التفاعلات المتسلسلة

ويطلق على هذا النوع من التفاعلات اسم التفاعلات المتسلسلة، وهي عبارة عن سلسلة من التفاعلات تلي الواحدة منها الأخرى بحيث يكفي أن يحدث التفاعل الأول لحدوث جميع التفاعلات الأخرى الواحد منها تلو الآخر، ويشبه هذا النوع من التفاعلات ما يحدث عندما نضع أحجار «الدومينو» على نضد، كل حجر منها في وضع رأسي، وتكون الأحجار متقاربة وفي خط مستقيم، فإننا إذا دفعنا الحجر القائم في أول الصف بحيث ينقلب على الحجر المجاور له انقلب هذا على الذي يليه وهكذا، فتقع الحجارة كلها على النضد في زمن وجيز.

ومن التفاعلات المتسلسلة عملية الاحتراق؛ إذ من المعلوم أنه يكفي إشعال عود من الثقاب لكي تنتشر النار، ونحن إذا فكرنا مليًّا في عملية الاحتراق على أنها تفاعل بين ذرات مادة الوقود وذرات الأوكسجين فهمنا السبب في أن معظم النار من مستصغر الشرر، فمادة الوقود — ولتكن الكربون مثلًا — تتحد مع الأوكسجين في درجة حرارة معينة تسمى درجة حرارة الاشتعال، وعود من الثقاب كفيل برفع درجة حرارة الملايين من الجزيئات إلى درجة حرارة الاشتعال.

ولما كانت عملية الاحتراق هي نفسها مصدر للحرارة فإن احتراق الجزيئات الأولى من المادة يرفع درجة حرارة الجزيئات التي تليها فتصل إلى درجة حرارة الاشتعال، فتحترق، فتنبعث منها حرارة، فترفع حرارة الجزيئات المجاورة إلى درجة الاشتعال، فتحترق، وهكذا إلى أن تلتهم النيران ما حولها، فالتفاعلات المتسلسلة تفاعلات لها خطرها، من أجل ذلك كان لخبر انبعاث النيوترونات من فلقتي نواة اليورانيوم مغزى خاص عند الذين يعلمون.

هوامش

(١) E. Fermi.
(٢) Henderson.
(٣) Kanner.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤