الدرس السادس عشر

إخفاقات الاشتراكية تاريخيًّا

ستتعلم في هذا الدرس

  • ارتباط الشاهد التاريخي بالنظرية الاقتصادية.

  • وجه الشبه الاقتصادي بين «الاشتراكية» و«الفاشية».

  • الفقر المدقع وزيادة حالات الوفيات في ظل نظم اشتراكية عديدة.

(١) النظرية الاقتصادية والتاريخ

في الدرس الثاني بينا الفرق بين علم الاقتصاد والعلوم الطبيعية كالفيزياء والكيمياء. في علم الاقتصاد لا تُطور إحدى النظريات الأساسية من خلال سلسلة من الافتراضات تفنَّد أو تؤكَّد عن طريق الملاحظة التجريبية. على العكس، المبادئ الأساسية في هذا الكتاب هي بوجه عام تمرينات منطقية تدربك في اتجاه مسار فكري محدد. والتحليل الاقتصادي الأساسي ليس مجموعة من العلاقات اكتُشفت في معمل، أو بعد التفكر طويلًا في كم هائل من بيانات الأسعار. بل تمنحك دروس هذا الكتاب إطار عمل فكريًّا لتفسير بيانات الأسعار وغيرها من الشواهد التاريخية.

ومن هذا المنطلق، فنحن لا نحاول في هذا الدرس أن «نختبر» تحليل الاشتراكية الذي طرحناه في الدرس الخامس عشر. فعلى وجه التحديد، وبصرف النظر عن السجل التاريخي للأنظمة الاشتراكية، لا تزال الحجج الاقتصادية التي أشرنا إليها في الفصل السابق صالحة على افتراض أننا لم نرتكب خطأ بيِّنًا في استدلالنا المنطقي. مع ذلك فمن الممكن دائمًا أن تكون نتائجنا — بالرغم من صلاحيتها — غير مهمة. على سبيل المثال: ما من شك في أن الحكام الاشتراكيين يعانون مشكلة الحساب عند اتخاذ قرار بشأن الاستغلال الأفضل لموارد بلادهم، وأن العمال أيضًا في ظل الأنظمة الاشتراكية لا يملكون نفس الحافز للكد في العمل كما كانوا سيفعلون لو أنهم يعيشون في ظل نظام رأسمالي.

لكن ماذا لو أن تلك العوامل لا تعني شيئًا سوى أن التحول من الرأسمالية الخالصة إلى الاشتراكية الخالصة سيجعل الفرد العادي أكثر فقرًا بنسبة ١٪؟ الأسوأ من ذلك أن نفترض أن المشكلات التي قلنا إنها تتعلق بالاشتراكية صحيحة، لكن توازنها بعض مزايا الاشتراكية التي أغفلنا ذكرها في حديثنا. ربما يتعين علينا إذن أن نتساءل هل استغل هذا الكتاب الموارد الاستغلال الأمثل عندما أفرد درسًا كاملًا للحديث عن الاشتراكية، بدلًا من الحديث عن أمور أخرى تافهة.

كما سيتبين لنا عما قريب، يشير السجل التاريخي إلى وجود اختلاف شاسع بين الدول الاشتراكية والرأسمالية. ولكي نكون أكثر وضوحًا، لا بد من القول إن الدليل ليس قاطعًا بحيث يتفوق على النظرية الاقتصادية، أو حتى يجعلنا على يقين الآن من أن الحجج التي ذكرناها في الدرس الخامس عشر لا شك صحيحة. تذكر أن مبادئ علم الاقتصاد الأساسية أو قوانينه تصاغ في ضوء الميول والنزعات؛ فلا بد من تثبيت جميع العوامل المؤثرة الأخرى عند محاولة التعرف على كيفية تأثير تغيير ما على الاقتصاد.

وعندما يتعلق الأمر بالسجل التاريخي والنظرية الاقتصادية، فإن حقيقة أن دولة ما تعرضت لمجاعة متفشية بعد تطبيق السياسات الاشتراكية لا تعطينا دليلًا على أن الاشتراكية نظام اقتصادي سيئ. ربما كان ممكنًا أن تحقق سياسات الاشتراكية ثروات غير مسبوقة، غير أن ثورة العمال اندلعت في الوقت نفسه تمامًا مثل زلزال أو انفجار بركاني مدمر.

لكن كما سترى، السجل التاريخي أكثر شمولًا من مجرد نوادر بسيطة تُروى عن أنظمة اشتراكية بعينها مرت بنكبة مؤقتة. فواضح من سجل القرن العشرين أن الأنظمة التي كانت تطبق الاشتراكية لم تفِ بوعدها الذي قطعته لشعوبها بأن توفر لهم مستوى معيشيًّا أفضل في مجتمع يخلو من الامتيازات الاجتماعية الجائرة. بل على العكس، تزامن انتشار الحكومات الاشتراكية الرسمية مع عدد من أحلك حلقات التاريخ البشري.

(٢) الشيوعية مقابل الفاشية

في النقاشات السياسية النمطية، يمكن وضع أيديولوجية أحد الأنظمة أو الحكام على خط بسيط يصل بين اليسار واليمين. في أقصى اليسار نجد الشيوعيين أمثال جوزيف ستالين وماو تسي تونج، بينما نجد الفاشيين أمثال أدولف هتلر وبنيتو موسوليني في أقصى اليمين. ووفقًا لهذا الإطار المعياري، فإن أيديولوجيات أخرى وقادة آخرين يكونون أقل تطرفًا، ومن ثم يقعون بين هذين الطرفين. على سبيل المثال: يمكن وضع باراك أوباما إلى يمين ستالين لكن إلى يسار رونالد ريجان الذي بدوره يمكن أن يعد «يساريًّا» إذا ما قورن بهتلر.

وبالرغم من وجود عدة طرق لتصنيف الأيديولوجيات السياسية، فإن المعيار السابق غير مقبول تمامًا من الناحية الاقتصادية. فمع أن الشيوعية والفاشية (المتطرفة) تختلفان في جوانب مهمة أخرى، فإنهما شكلان من أشكال الاشتراكية. تسعى «الشيوعية» إلى تملك الحكومة لوسائل الإنتاج من خلال ثورة الطبقة العاملة. «الفاشية» أيضًا تسعى إلى تأسيس سيطرة حكومية مطلقة على وسائل الإنتاج، لكنها تُبقي بصورة رمزية على نظام الملكية الخاصة. لكن الواقع أن الفاشية المتطرفة ما هي في جوهرها سوى اشتراكية، لأن الحكومة تفرض قوانين واضحة تحدد كيفية استخدام أصحاب الممتلكات لممتلكاتهم. والواقع أيضًا أن مصطلح «النازية» نفسه يرمز إلى «الاشتراكية القومية». ويدل المصطلح على أن الاختلاف بين الشيوعيين والنازيين لم يكن حول قدسية حقوق الملكية الخاصة، وإنما الفلسفة التي يُفترض بها أن توجه الحكام الاشتراكيين في إدارتهم للاقتصاد بالأسلوب الذي يخدم الصالح العام. مال الشيوعيون للاهتمام بالصراع الطبقي الدولي، وكان الفاشيون أكثر اهتمامًا بقوة دولهم منفردة (والنازيون تحديدًا كانوا أكثر اهتمامًا بنقاء السلالة العرقية).

فيما يتعلق بتقييم ثمار الأيديولوجيات المختلفة، يمكننا إذن أن نلقي بلائمة أهوال الاتحاد السوفييتي وألمانيا النازية على الاشتراكية. قل ما شئت عن ظلم اقتصاد السوق الخالص وقسوته، لكن الهولوكوست ما كانت لتُرتكب قط في مجتمع يقدس حقوق الملكية الخاصة. لطالما حذر العقلاء من المفكرين السياسيين أنه عندما يمتلك الحكام السلطة لتحقيق نفع هائل، فهم في الوقت نفسه يملكون السلطة لإحداث ضرر جسيم. وتبين تجربة ديكتاتوريات «اليمين» و«اليسار» في القرن العشرين أن هذا التحذير لم يكن عبثًا.

(٣) ضحايا الاشتراكية

في هذا الجزء الأخير سنستعرض بإيجاز شديد بعض الإحصاءات العامة التي تتعلق بنزعة القتل المجردة لدى الأنظمة الاشتراكية المختلفة في القرن العشرين. والحق أن حكومات الدول الرأسمالية شاركت بنصيبها من عمليات القتل الجماعي أيضًا، ولعل أشهر مثال على ذلك إلقاء الولايات المتحدة القنبلة الذرية على هيروشيما وناجازاكي، وقصف الحلفاء المتكرر لمدن ألمانية ويابانية ما أسفر عن مقتل مئات الآلاف من المدنيين. شاركت الدول الرأسمالية أيضًا في ارتكاب ظلم كبير، مثل تجارة العبيد في أفريقيا، وإبادة السكان الأصليين، والاستغلال الإمبريالي للمستعمرات. وبطبيعة الحال قد يقول أنصار اقتصاد السوق الخالص — وهو قول صحيح تمامًا — إن هذه الأفعال كانت إما (أ) تدابير ضرورية للدفاع عن النفس من أجل حماية الممتلكات والأرواح، أو (ب) حيودًا عن مبدأ حقوق الملكية الخاصة، أو كلا الأمرين معًا، ومن ثم فهي ليست سبَّة في جبين الرأسمالية باعتبارها نظامًا اقتصاديًّا. لكن إذا أردنا تبرئة الرأسمالية من الجرائم التي ارتكبت تحت لوائها، أفلا ينبغي إذن أن نتعامل مع الاشتراكية بالمثل؟ فرغم كل شيء، ما من أكاديمي ماركسي في جامعة هارفارد كان ليتمنى أن يعاني الروس حملات التطهير التي نفذها ستالين، ويمكنه ببساطة أن يقول إن الحكام السوفييت لم يطبقوا الاشتراكية الحقَّة على أرض الواقع.

أحد الفروق المهمة بين جرائم الأنظمة الرأسمالية والاشتراكية — مهمة على الأقل من حيث تقييمهما كنظامين اقتصاديين — أن جرائم الأنظمة الرأسمالية ارتُكبت في الأغلب في حق ضحايا من خارج النظام، بينما ارتُكبت جرائم القتل التي سنوردها لاحقًا بين شعوب الأنظمة الاشتراكية نفسها. لو أن مجموعة تضم على سبيل المثال ١٠ ملايين مواطن كانوا بصدد اتخاذ قرار؛ إما أن يتبنوا نظام الملكية الخاصة، أو أن يتركوا مصيرهم بيد مجموعة من الخبراء يضعون خطة الاقتصاد، فربما يهتمون كثيرًا بمعرفة ما يقوله التاريخ في هذا الصدد، وأنه من الوارد جدًّا أن ينقلب هؤلاء الحكام ويذبحوا ٥٠٠٠٠٠ مواطن منهم. صحيح أن الشعب قد يتخذ بعض الضمانات الاحترازية، ويستشهد بتجربة الأنظمة الاشتراكية الديمقراطية التي لم ينته بها الأمر بقتل شعوبها، لكن فرصة حدوث ذلك في ظل الأنظمة الاشتراكية لا شك مؤشر مهم يجدر بهذه المجموعة أن تفكر فيه مليًّا قبل أن تتخذ قراراها.

فارق مهم آخر في السجلات للأنظمة المختلفة يكمن في التفاوت الكمِّي المطلق. فقد يقول كثير من المفكرين «اليساريين» إن ديكتاتور تشيلي أوجستو بينوشيه كان النِّد الرأسمالي للديكتاتوريين الماركسيين، لأنه أطاح بنظام اشتراكي منتخب انتخابًا ديمقراطيًّا، ثم طبَّق سياسة «العلاج بالصدمة» عملًا بنصيحة عدد من الاقتصاديين تدربوا في جامعة شيكاغو. لكن حتى إذا وافقنا على هذه المقارنة، فالتاريخ لا يزال يصب في مصلحة الرأسمالية. فبرغم أن نظام بينوشيه كان وحشيًّا وعنيفًا، فإنه لم يقتل ما يقرب من ربع السكان في أقل من أربع سنوات كما فعل نظام «الخمير الحمر» بقيادة بول بوت في كمبوديا.

لا شك أن قتل الحكومة نفسًا واحدة عن عمد يساوي قتل عدد كبير من الضحايا. والمادة المطروحة في هذا الفصل لا تهدف قطعًا إلى تبرير أو تهوين الجرائم والفظائع التي ارتكبتها الحكومات التي تدعي تأييد نظام الملكية الخاصة والأسواق الحرة. لكن الكثيرين لم يسمعوا قط بالحقائق، ولا يدركون أن الأنظمة الاشتراكية الاستبدادية في القرن العشرين تحولت إلى آلات قتل داخلية إلى درجة تضعها جميعًا ضمن فئة مختلفة قائمة بذاتها.

(٣-١) الأعداد الإجمالية

لا شك أنك سمعت عن الأعمال الوحشية التي ارتكبها الاشتراكيون القوميون في ألمانيا تحت قيادة أدولف هتلر. وربما لا تدرك أن الأرقام تبين أن الأنظمة الشيوعية كانت أسوأ من ذلك بكثير. ويضم «الكتاب الأسود للشيوعية» مجموعة مقالات جديرة بالتقدير نشرتها مطابع جامعة هارفارد. كان عدد كبير من مؤلفي الكتاب مؤرخين شيوعيين سابقين، وهم يكشفون النقاب تفصيلًا عن الأنشطة التي كانت تتبناها الأنظمة الشيوعية بعد نشر السجلات على الملأ عقب سقوط الاتحاد السوفييتي. ولكي نعطيك لمحة سريعة عن محتوى الكتاب، سنشير فيما يلي إلى ثلاثة مقتطفات من المقدمة:

بعد أن تجاوزت الأنظمة الشيوعية الجرائم الفردية والمذابح الصغيرة الخاصة، حولت تلك الأنظمة جريمة الإبادة الجماعية إلى نظام حكومة متقدم جدًّا بغرض تعزيز قبضتها على السلطة. وبعد فترات متنوعة تتراوح بين بضع سنوات في أوروبا الشرقية وعدة عقود في الاتحاد السوفييتي والصين، خبت جذوة الإرهاب، واستقرت الأنظمة على نمط من فرض الإجراءات القمعية بصورة يومية، فضلًا عن مراقبة كل وسائل الاتصال، والسيطرة على الحدود، ونفي المعارضين. لكن استمرت ذاكرة الإرهاب في الحفاظ على مصداقية التهديد بالقمع، ومن ثم على فعاليته. ولا نستثني أيًّا من الأنظمة الشيوعية الرائجة حاليًّا في الغرب؛ لا صين «هلمسمان العظيم»، ولا كوريا كيم إيل سونج، ولا فيتنام «العم الطيِّب هُو» ولا كوبا المتفاخر فيدل كاسترو محاطًا بالمتشدد تشي جيفارا. (صفحتا ٢، ٣).

لقد حدَّدنا الجرائم ضد المدنيين بوصفها جوهر ظاهرة الإرهاب. وهذه الجرائم تميل إلى الانسجام داخل نمط يسهل تمييزه حتى ولو تنوعت ممارسات النظام إلى حد ما. ويشمل هذا النمط الإعدام بشتى الوسائل مثل الرمي بالرصاص، والشنق، والإغراق، والضرب المبرح، وفي بعض الحالات القتل بالغاز أو السم أو «حوادث السيارات»؛ أو تدمير السكان عن طريق تجويعهم إما بمجاعة مصطنعة أو بحجب الطعام، أو كليهما معًا؛ وأيضًا بالترحيل الذي قد يسفر عن الموت … في مكان إقامة الأشخاص أو من خلال العمل القسري … أما الفترات التي وُصفت بكونها فترات «حروب أهلية» فهي أكثر تعقيدًا؛ فليس من السهل دومًا التمييز بين الأحداث الناجمة عن القتال بين الحكام والمتمردين والأحداث التي لا يلائمها إلا أن توصف بأنها مذبحة للمدنيين.

مع ذلك علينا البدء من مكان ما. والتقدير التالي — المعتمد على تقديرات غير رسمية — يلقي قدرًا من الضوء على مستوى هذه الجرائم ومدى خطورتها:
  • الاتحاد السوفييتي: ٢٠ مليون قتيل.

  • الصين: ٦٥ مليون قتيل.

  • فيتنام: مليون قتيل.

  • كوريا الشمالية: مليونا قتيل.

  • كمبوديا: مليونا قتيل.

  • أوروبا الشرقية: مليون قتيل.

  • أمريكا اللاتينية: ١٥٠٠٠٠ قتيل.

  • أفريقيا: ١٫٧ مليون قتيل.

  • أفغانستان: ١٫٥ مليون قتيل (صفحة ٤).

من السمات المميزة لكثير من الأنظمة الشيوعية استخدامها الممنهج للمجاعة باعتبارها سلاحًا؛ فكان النظام يرمي إلى السيطرة على إجمالي كميات الغذاء المتاحة، ثم بمنتهى البراعة يوزعها على الأفراد على أساس «جدارة» أو «عدم جدارة» هؤلاء الأفراد. وكانت هذه السياسة تسفر عن وقوع مجاعة على نطاق واسع. تذكر أنه في الفترة التي أعقبت عام ١٩١٨، لم تحدث مثل هذه المجاعات إلا في البلدان الشيوعية، مما أسفر عن وفاة مئات الآلاف — وفي بعض الأحيان — ملايين من البشر. وتكرر الأمر ثانية في ثمانينيات القرن العشرين عندما عانت إثيوبيا وموزمبيق — الدولتان الأفريقيتان الوحيدتان اللتان أعلنتا تطبيق ماركسية لينين — دون غيرهما من تلك المجاعات المهلكة (صفحة ٨).

(٣-٢) على مقربة من تجربة موجَّهة

كما أشرنا في بداية هذا الدرس، فإنه لا وجود لتجارب موجَّهة في العلوم الاجتماعية بوجه عام، وفي الاقتصاد بوجه خاص. لا يمكن للأفراد أن يخضعوا خضوعًا كاملًا لتوجيه من يجرون تلك التجارب، ولذا فمن المستحيل إعادة تجربة بعينها بنفس الظروف الأولى دون حدوث تغيير ولو كان طفيفًا.

وعندما نتحدث عن الإرث المروِّع الذي خلَّفته الأنظمة الشيوعية، يجادل بعض المدافعين عنها بأن الجرائم التي ارتكبت كانت ناجمة عن شعوب مكبوتة أو تتصف بالعداء الشديد. قد يقول البعض مثلًا إنه ليس من الغريب أن الثوار البلاشفة — بعد التاريخ الطويل من التعرض للقمع على أيدي القياصرة — قد حادوا عن الطريق الصحيح حال وصولهم إلى السلطة. وربما يضيف الاشتراكيون أنه لو كانت الاشتراكية المكتملة قد طُبقت في مجتمع ديمقراطي متحضر، لاختلفت الأمور كثيرًا.

وأقرب ما يمكننا فعله لاختبار صحة هذا القول هو إلقاء نظرة على البلدان التي كانت تتشابه تمامًا في كل شيء عدا الإطار المؤسسي الذي كانت تتبعه. لنقارن مثلًا بين برلين الشرقية والغربية أثناء سنوات الحرب الباردة. فلأنهما منبثقتان من مدينة واحدة قُسِّمت وقت الحرب، فمن الواضح أن العادات واللغة والتوجهات الدينية كانت متشابهة في الأساس على كلا جانبي «الستار الحديدي» الذي كان يفصل بينهما. لكن بمرور الوقت اتسعت بينهما الفجوة في المستوى المعيشي على نحو هائل، حيث المجتمع الرأسمالي يتفوق كثيرًا على نظيره الشيوعي. وكما أشار ساخرون كُثُر أثناء سنوات الحرب الباردة، فإن الفرق الواضح بين برلين الشرقية والغربية هو أن مهمة جنود الحراسة على الجانب السوفييتي من الجدار كانت احتجاز الشعب داخل الفردوس المزعوم للعمال، بينما كانت مهمة جنود الحراسة على البلدان الرأسمالية هي منع دخول المهاجرين غير الشرعيين.

ولعل حالة كوريا تعد مثالًا صارخًا على الفرق بين الاشتراكية المتطرفة والرأسمالية المعتدلة. (بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، ارتبط الاتحاد السوفييتي بعلاقات وثيقة مع كوريا الشمالية ذات التوجه الشيوعي، بينما بقيت القوات الأمريكية في كوريا الجنوبية.) تقدم لنا الصحافية باربرا ديميك في كتابها «لا شيء يدعو إلى الحسد» شواهد سردية مقنعة استندت فيها إلى لقاءاتها مع مواطنين فرُّوا من كوريا الشمالية. وفيما يلي مقتطفات من الفصل الافتتاحي:

إذا نظرت إلى صور التقطتها الأقمار الصناعية للشرق الأقصى ليلًا، فسترى بقعة شاسعة تفتقر إلى الضوء على نحو يثير الدهشة. تلك المساحة المظلمة هي جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية.

إلى جانب ذلك الثقب الأسود الغامض، تقع كوريا الجنوبية واليابان والصين وكلها تسطع بالرخاء إلى حد بعيد. وعلى بعد مئات الأميال من أعلى، تظهر لوحات الإعلانات وأضواء السيارات وأنوار الشوارع ولافتات النيون الخاصة بسلاسل المطاعم الشهيرة، كأنها بقع بيضاء دقيقة تدلل على انشغال الأفراد بأعمالهم بوصفهم من مستهلكي الطاقة في القرن الحادي والعشرين. ووسط هذا كله يوجد امتداد من الظلمة يكاد يتساوى في مساحته مع دولة إنجلترا. من المحير أن أمة قوامها ٢٣ مليون نسمة تظهر خاوية كأنها امتداد محيط ليس إلا. يمكن القول ببساطة إن كوريا الشمالية خاوية.

غرقت كوريا الشمالية في الظلام في مطلع التسعينيات من القرن العشرين؛ فعقب انهيار الاتحاد السوفييتي — الذي كان يدعم حليفته الشيوعية بزيت الوقود الرخيص — انهار الاقتصاد المتداعي لكوريا الشمالية. علا الصدأ محطات الطاقة، وأظلمت الطرقات، وتسلق الجياع أعمدة الكهرباء ليسرقوا قطعًا من الأسلاك النحاسية ويستبدلوا بها طعامًا يسدون به رمقهم. وعندما تزول الشمس عن كبد السماء، تصطبغ الطبيعة بصبغة رمادية، وتختفي المنازل الصغيرة في ظلمة الليل. تختفي قرى بأكملها في غسق الليل. حتى في أجزاء من العاصمة بيونج يانج، يمكنك التجول في شارع رئيسي ليلًا دون أن تميز البنايات الموجودة على كلا الجانبين.

عندما يحدق الغرباء في هذا الفضاء الذي يُعرف اليوم باسم كوريا الشمالية، تتبادر إلى أذهانهم القرى النائية في أفريقيا أو جنوب شرق آسيا حيث لم تصل الكهرباء هناك بعد. لكن كوريا الشمالية ليست بلدًا متخلفًا، بل بلدًا سقط من بين بلدان العالم المتقدم. يمكنك أن ترى بقايا الأسلاك الكهربائية التي كانت موجودة ذات يوم تتدلى فوق الرءوس على جانب أي طريق رئيسي في كوريا الشمالية؛ تلك الأسلاك المتآكلة لشبكة الكهرباء التي علاها الصدأ والتي كانت تغطي المدينة بأكملها ذات يوم.

يتذكر الكوريون الشماليون ممن تجاوزوا منتصف العمر جيدًا وقت أن كانوا ينعمون بكميات كبيرة من الكهرباء (وأيضًا الغذاء) تفوق ما يحظى به أبناء عمومتهم الموالين لأمريكا في كوريا الجنوبية، وهو ما يضاعف شعورهم بالمهانة جراء قضاء الليل في الظلام. في تسعينيات القرن العشرين، عرضت الولايات المتحدة مساعدة كوريا الشمالية بأن توفر لها احتياجاتها من الطاقة مقابل تخليها عن برنامجها النووي، لكن أخفقت الصفقة عقب اتهام إدارة بوش للكوريين بأنهم ينكثون عهدهم. يشكو سكان كوريا الشمالية مُرَّ الشكوى من الظلام، ويلقون باللائمة على العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة عليهم. هم لا يستطيعون القراءة ليلًا، ولا يمكنهم مشاهدة التليفزيون. ذات مرة قال لي حارس أمن كوري قوي البنيان بنبرة اتهام: «لا ثقافة لنا من دون وجود الكهرباء.»

لكن للظلام مزايا خاصة به، لا سيما إن كنت مراهقًا تواعد صديقة ولا تود لأحد أن يراكما معًا.

عندما يأوي البالغون إلى فُرُشهم — أحيانًا في الساعة السابعة مساءً في فصل الشتاء — يسهل التسلل من المنزل. يمنح الظلام مساحة من الخصوصية والحرية يصعب توافرها في كوريا الشمالية تمامًا مثل الكهرباء. فعندما تتسربل برداء الظلام السحري، يمكنك فعل ما يحلو لك دون أن تلقي بالًا لعيون المتطفلين من الآباء والجيران وأفراد الشرطة السرية.

التقيت بالعديد من الكوريين الشماليين الذين أخبروني كيف أنهم تعلموا حب الظلام، لكن أكثر ما أثَّر فيّ قصة فتاة مراهقة وصديقها. كانت الفتاة في الثانية عشرة من عمرها عندما التقت بشاب من إحدى المدن المجاورة يكبرها بثلاثة أعوام. كانت الفتاة من أسرة تنتمي إلى الطبقة الدنيا، وظهورها على الملأ مع الشاب قد يضر بمستقبله المهني وأيضًا بسمعة فتاة عفيفة مثلها. لذا اقتصرت لقاءاتهما على نزهات طويلة سيرًا على الأقدام في الظلام. لم يكن هناك ما يمكن فعله على أي حال؛ فعندما بدأت لقاءاتهما في مطلع التسعينيات، لم يكن هناك من المطاعم أو دور السينما ما يقدم خدماته للمواطنين نظرًا لعدم توافر الطاقة.١

أثناء حديث باربرا ديميك عن كتابها في الراديو الوطني العام، روت قصة واحد من الفارِّين — على عكس المتوقع تمامًا — قرر الهجرة من كوريا الشمالية بسبب الحملة الإعلامية التي تشنها حكومته ضد جارتها الجنوبية. أظهرت الصورة إضراب العمال في كوريا الجنوبية، وكان الهدف من ورائها بيان الحالة المزرية للعمال تحت وطأة مجتمع رأسمالي استغلالي! لكن الكوري الشمالي أخبر ديميك أن ثلاثة أمور استرعت انتباهه في الصورة، وهو ما جعله يخاطر آخر الأمر بمحاولة الفرار من بلاده.

أولًا: أظهرت الصورة أن المواطن العادي في كوريا الجنوبية يمتلك سيارة، على عكس الحال في كوريا الشمالية. ثانيًا: أظهرت الصورة أن العامل المشارك في الإضراب — بالرغم مما يبدو عليه من ملامح الغضب وقبضته المرفوعة عاليًا — يضع قلمًا في جيب قميصه. وهذا أيضًا شيء لم يُسمع به من قبل قط بين المواطنين العاديين في كوريا الشمالية في ذلك الوقت. ثالثًا: صورة الحشد تؤكد على أن حق الاحتجاج مكفول للعمال في كوريا الجنوبية. وذاك أيضًا كان من المفاهيم الغريبة على عقول الكوريين الشماليين.

لعل حالة كوريا الشمالية تؤكد أكثر من غيرها على أن الاشتراكية لديها من القوة ما يمكنها من تدمير اقتصادات بأكملها، وتجويع ملايين البشر سواء أكان ذلك عمدًا أو عن غير تعمد. والمخاوف النظرية التي طرحناها في الدرس الخامس عشر واقعية وبالغة الأهمية. فمن الأهمية بمكان أن تكون على دراية بعلم الاقتصاد الصحيح لأن الحضارة الإنسانية على المحك.

الغرور القاتل

«بحلول ثمانينيات القرن العشرين، قدَّم كيم إيل سونج أو [نجله المحبوب] كيم يونج إيل — الذي كان يزداد اضطلاعًا بمسئوليات والده — «توجيهات فورية» لمواجهة النكبات التي تمر بها البلاد. كان الأب والابن خبيرين في جميع الأمور؛ المتعلقة منها بالجيولوجيا أو بالزراعة. عقب زيارة كيم يونج إيل إحدى مزارع الأغنام بالقرب من تشونجين ارتأت وكالة الأنباء المركزية الكورية أن: «تعليمات كيم يونج إيل وطيبته الفياضة يحققان تقدمًا كبيرًا في تربية الماعز وفي نتاج الألبان.» يومًا ما يصدر مرسومًا بضرورة تحول البلاد من استهلاك الأرز بوصفه غذاءً رئيسيًّا إلى البطاطس، وبعده بيوم يقرر أن تربية النعام كانت الحل لتغطية العجز في غذاء الكوريين الشماليين. وهكذا تتخبط البلاد ما بين فكرة طائشة وأخرى.»

باربرا ديميك، «لا شيء يدعو إلى الحسد:
قصص حياة عادية في كوريا الشمالية»
(نيويورك: «شبيجل آند جرو»، ٢٠٠٩)، صفحة ٦٥

خلاصة الدرس

  • لا يمكن للشواهد التاريخية أن تثبت صحة القوانين الاقتصادية أو تدحضها. ومع أنه ربما نكون قد وضعنا قانونًا أو مبدأً اقتصاديًّا دقيقًا باستخدام الاستدلال السليم، فإن تأثيره في الواقع قد يكون ضئيلًا مقارنة بعوامل أخرى أغفلناها في استدلالنا. ولهذا السبب من الأهمية بمكان أن نكمِّل نقدنا النظري للاشتراكية من خلال إلقاء نظرة على أمثلة من الواقع.

  • النظرية السياسية المعيارية تضع الشيوعية في أقصى يسار الخط تقابلها الفاشية في أقصى اليمين. لكن من المنظور الاقتصادي المطروح في هذا الكتاب، فإن ألمانيا النازية وكذلك روسيا ستالين كانتا نظامين اشتراكيين تخضع فيهما حقوق الملكية الخاصة لإرادة الديكتاتور.

  • أثناء القرن العشرين قتلت الأنظمة الاشتراكية عشرات الملايين من أبنائها، وهذه الأرقام لا تشمل ضحايا الحروب الخارجية. وقد يعزي المدافعون عن هذه الأنظمة تلك الأعداد من الضحايا إلى المجاعة، لكن المجاعات الجماعية لم تحدث في البلدان الرأسمالية، وهناك أدلة كثيرة على أن تلك «المجاعات» لم تكن سوى أدوات سياسية متعمدة بقصد تعزيز سلطة النظام. حتى عند مقارنة الأنظمة التي كانت متشابهة تمامًا في الأساس — مثل برلين الشرقية والغربية ومثل كوريا الشمالية والجنوبية — سنرى أن المستوى المعيشي قد اختلف كثيرًا بعد أن تحولت إحدى الثنائيتين إلى الشيوعية.

مصطلحات جديدة

  • الشيوعية: أيديولوجية اقتصادية وسياسية تسعى لتمليك الحكومة وسائلَ الإنتاج (باسم العمال) من خلال اندلاع ثورة عنيفة.
  • الفاشية: أيديولوجية اقتصادية وسياسية تسعى أيضًا لبسط نفوذ الحكومة على كافة الموارد بما يخدم الصالح العام، لكن الفاشية (خلافًا للشيوعية) تسمح للأفراد بامتلاك المصانع وغيرها من السلع الرأسمالية الأخرى.

أسئلة الدرس

  • (١)
    هل يثبت السجل التاريخي أن الاشتراكية نظام اقتصادي مَعيب؟
  • (٢)

    ما مشكلة نطاق «اليسار/اليمين» الذي يقع كل من ستالين وهتلر عند أقصى طرفيه؟

  • (٣)

    هل حدث أن قتلت الحكومات المؤيدة للرأسمالية أناسًا أبرياء؟

  • (٤)

    أي الحكومات أعْمَلَت آلة القتل في مواطنيها، وفقًا لما ورد في النص؟

  • (٥)
    فسر العنوان الفرعي: «على مقربة من تجربة موجَّهة».

هوامش

(١) باربرا ديميك، كتاب «لا شيء يدعو إلى الحسد: قصص حياة عادية في كوريا الشمالية» (نيويورك: «شبيجل آند جرو»، ٢٠٠٩) الصفحات ٣–٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤