الدرس الحادي والعشرون

التضخم

ستتعلم في هذا الدرس

  • الفرق بين «التضخم النقدي» و«التضخم السعري».

  • كيف يؤدي تدخل الحكومة إلى ارتفاع الأسعار.

  • الآثار السلبية للتضخم السعري.

(١) التضخم النقدي والتضخم السعري

يستخدم الأفراد مصطلح التضخم طوال الوقت، لكنهم لا يتفقون دائمًا على ما يعنيه هذا المصطلح. تاريخيًّا، كان «التضخم» يشير إلى زيادة مقدار النقود في الاقتصاد.١ لكن على مدار القرن العشرين وعلى نحو تدريجي، صار المصطلح يشير إلى الزيادة العامة في أسعار السلع والخدمات في الاقتصاد. ولكي نتفادى خلط الأمور سنستخدم في هذا الدرس مصطلحين أكثر تحديدًا هما «التضخم النقدي» و«التضخم السعري».
الواقع أن الظاهرتين — زيادة مخزون النقود٢ والارتفاع العام في الأسعار — متلازمتان. والواقع أيضًا أنه بعد توثيق العلاقات المتبادلة التاريخية الوثيقة — على مر القرون وعبر مختلف أنحاء العالم — لخَّص ميلتون فريدمان بحثه بقوله: «التضخم ظاهرة نقدية في كل زمان وفي أي مكان.»

ما يعنيه فريدمان أنه كلَّما وجد — أثناء بحثه — ارتفاعًا سريعًا وطويل الأجل في الأسعار، وجد أيضًا زيادة سريعة في مخزون النقود. وغالبًا ما يلقي الأفراد بلائمة تضخم الأسعار على الشركات الجشعة، أو النقابات العمالية المتعسفة، أو الحكومة التي تُراكم ديونها. لكن فريدمان أكد أن تضخم الأسعار المستمر على مر التاريخ يمكن أن يحدث في حالة واحدة وهي زيادة كمية النقود في الاقتصاد أيضًا.

التحول المفاجئ

استُخدمت كلمة «التضخم» في الأصل للإشارة إلى كمية النقود فحسب، ومعناها أن مقدار النقود قد تضخم وزاد عن حدِّه الطبيعي. والإصرار على ضرورة قصر استخدام الكلمة على معناها الأصلي ليس من قبيل الحذلقة فحسب. إنما استخدامها لتعني «ارتفاع الأسعار» يُقصد به صرف الانتباه عن معرفة السبب الحقيقي وراء التضخم، وعن إيجاد العلاج المناسب له.

هنري هازليت، كتاب «ما يجب أن
تعرفه عن التضخم»، صفحة ٢

في الجزء التالي سنستعرض الاقتصاديات الأساسية لتضخم الأسعار، كي نفهم العلاقات المتبادلة التي اكتشفها فريدمان (وآخرون) بين (أ) زيادة مخزون النقود و(ب) زيادة أسعار معظم السلع والخدمات. وينبغي أن نؤكد أنه لا توجد علاقة محددة ومباشرة بين النقود والأسعار. على سبيل المثال: إذا زاد مقدار النقود بنسبة ١٠٪ في إحدى السنوات، فلا يمكننا أن نفترض تلقائيًّا أن أسعار جميع (أو حتى معظم) السلع والخدمات ستزداد بالقدر نفسه. ولكن ربما نقول إنه على مر العصور وفي شتى البلدان كلما شهد الاقتصاد فترة طويلة من ارتفاع الأسعار كانت هناك أيضًا زيادة طويلة الأجل في مقدار النقود في ذلك الاقتصاد.

يبين الرسم البياني الآتي العلاقة بين النقود والأسعار في الولايات المتحدة على مدى ٥٠ عامًا.

في الرسم البياني التالي يشير الخط الرمادي إلى «مؤشر أسعار المستهلك»، وهو مؤشر قياسي يستخدم لقياس تغيرات الأسعار. يحسب مؤشر أسعار المستهلك متوسط أسعار السلع التي يشتريها المستهلكون (كالمواد الغذائية، والبنزين … إلخ) بغرض عمل مقارنة تقريبية بين «مستوى السعر» في السنوات المختلفة. أما الخط الأسود في الرسم البياني فيشير إلى عرض النقد «ع١» وهو مقياس مخصص لعرض النقود يتضمن العملات الورقية الفعلية، بالإضافة إلى إجمالي أرصدة الحسابات الجارية المملوكة للأفراد في الدولة.

وتمثل وحدات المحور الرأسي في الرسم البياني مؤشرًا يأخذ القيمة ١٠٠ للنقطة الأولى في الرسم التي تمثل قيم كل من «مؤشر أسعار المستهلك» و«ع١» في يناير ١٩٦٠. ويبين الرسم أنه في الأربع والعشرين سنة الأولى (من ١٩٦٠ وحتى ١٩٨٤) ارتفع كل من «مؤشر أسعار المستهلك» و«ع١» بنسب متشابهة. أيضًا زاد مخزون النقود بوتيرة أسرع قليلًا — إذ إن قيمته الأولى عام ١٩٦٠ تضاعفت بنهاية عام ١٩٧٥ بينما لم تتضاعف الأسعار حتى أوائل عام ١٩٧٧ — لكن العلاقة تبدو قوية للغاية بين السلسلتين.

لاحظ أن التضخم السريع في الأسعار في أواخر السبعينيات اقترن بزيادة مماثلة في مخزون النقود. وتحديدًا من يناير عام ١٩٧٥ وحتى يناير عام ١٩٨٠، ارتفع «مؤشر أسعار المستهلك» بنسبة ٤٩٪، بينما ارتفع «ع١» ٤٠٪. ولكي تفهم ما تعنيه هذه الأرقام، يمكننا القول إن السلعة التي كانت تتكلف ١٠ دولارات في بداية عام ١٩٧٥ أصبحت تكلفتها ١٥ دولارًا بعد مرور خمس سنوات فحسب، بمتوسط تضخم أسعار سنوي يزيد عن ٨٪ على مدار خمس سنوات متتالية.٣

الآن تخيل اقتصاديًّا خبيرًا في تاريخ النقود الأمريكية (مُقاسة بعرض النقد ع١) والأسعار في عام ١٩٨٣. في ذلك الوقت ورجوعًا حتى عام ١٩٦٠، ربما كان سيظن أن هناك ارتباطًا وثيق الصلة بين «ع١» و«مؤشر أسعار المستهلك». بالطبع، قد تزداد إحدى السلسلتين بوتيرة أسرع من الأخرى في بعض الأحيان، لكن معدلات النمو المختلفة كانت تميل نحو التعادل حتى إنه بعد مرور ٢٣ عامًا تكاد السلسلتان تكونان قد ازدادتا بنفس النسبة. وقد يبدو للشخص الذي كان يظن أن علم الاقتصاد يتعلق بالكامل بالقياسات الدقيقة والعلاقات الإحصائية أنه اكتشف المكافئ الاقتصادي لشحنة الإلكترون.

بالرغم من ذلك، فإن الرسم البياني يوضح ما حدث. فمنذ منتصف الثمانينيات، زاد مخزون النقود — مُقاسًا بالعرض «ع١» على الأقل — بوتيرة أسرع بكثير (بالحديث عن النسب المئوية) عن الأسعار مقاسة على الأقل بمؤشر أسعار المستهلك. وبالطبع، انهارت العلاقة تمامًا بين السلسلتين أثناء الأزمة المالية التي شهدها عام ٢٠٠٨، عندما ارتفع عرض النقد «ع١» ارتفاعًا حادًّا بينما انخفض «مؤشر أسعار المستهلك».

نحن نتناول الرسم السابق بالتحليل لنتأكد من أنك تفهم الدروس المستفادة من العمل التجريبي على كل من التضخم النقدي والسعري والقيود التي يفرضها كل منهما. على مر التاريخ، كلما حدث تضخم سعري كبير — لا سيما «التضخم الجامح» حيث ترتفع الأسعار ارتفاعًا جنونيًّا بنسبة مليون بالمائة (أو أكثر!) على سبيل المثال سنويًّا — نجد دائمًا أن مخزون النقود يزداد كثيرًا في الفترة نفسها.

لكن كما يبدو جليًّا من الرسم البياني السابق، فإنه لا توجد قاعدة آلية تربط بين الأسعار ومخزون النقود. ففي نهاية الأمر، كل ما في الاقتصاد يحدث نتيجة لأفعال فردية توجهها قيم الأفراد ومعتقداتهم الذاتية. فإذا ظلت قيم الأفراد ومعتقداتهم بشأن أمور محددة ثابتة إلى حد بعيد على مدى سنوات، فربما يكتشف الإحصائيون «قوانين» واضحة تربط بين المقاييس المختلفة للنشاط الاقتصادي. لكن هذه القوانين قد تنهار في لحظة إذا غيَّر البشر تفضيلاتهم أو معتقداتهم بشأن المستقبل.

وفي كتاب تمهيدي كالكتاب الذي بين أيدينا، لن نحاول تفسير الأنماط المحددة في الرسم البياني السابق، لكنك ستعرف في الجزء التالي كيف يمكن استخدام أدوات اقتصادية مبسطة مع النقود والأسعار، وهو ما سيكون على الأقل بمنزلة إطار عمل يصل بك إلى فهم أوضح.

(٢) كيف تتسبب الحكومة في رفع الأسعار

في الدرس السابع تحدثنا حديثًا عامًّا عن النقود في اقتصاد السوق الخالص، ورأينا أن مبادئ علم الاقتصاد نفسها تنطبق على سلع كالذهب والفضة عندما تصبح نقودًا؛ أي تتحول إلى وسيط تبادل مقبول على نطاق واسع.

والأرجح أنك لن تندهش إذا علمت أن مسئولي الحكومات على مر التاريخ لم يتركوا «سوق المال» وشأنه. بل إن الحكومات على مر العصور «خفَّضت العملات» — بمعنى أنها قللت القيمة السوقية لكل وحدات النقود — في الوقت الذي كانت تزيد هي من ثرائها.

على سبيل المثال: كان قياصرة روما القديمة يسلكون النهج التالي: يأخذون العملات الذهبية المدفوعة في صورة ضرائب، ويصهرونها، ثم يضيفون إليها معدنًا رديئًا ويأمرون دور سك النقود بسَكِّ عملات أكثر من العدد الأصلي، مع ترك العلامات الرسمية نفسها على العملات الجديدة. وبمرور الوقت تؤدي هذه العملية إلى انخفاض تدريجي في كمية الذهب الفعلي الداخل في تلك العملات «الذهبية» المستخدمة في التجارة.٤ وحين ينتبه التجار لهذه الحقيقة، فإنهم يعدِّلون الأسعار وفقًا لذلك بحيث إن السلعة التي كانت تتكلف «عملة ذهبية واحدة» ستتكلف في النهاية عدة «عملات ذهبية».

لا شك أن المغزى من وراء ذلك الإجراء كان (في البداية على الأقل) — قبل أن يدرك التجار التبعات الكاملة لتخفيض العملة — تمكين الحكومة الرومانية من شراء مزيد من السلع عما كانت ستشتريه من دون تخفيض العملات. على سبيل المثال: إذا كانت الحكومة قد حصَّلت في الأساس ١٠٠٠ عملة ذهبية من الضرائب، يمكنها شراء سلع وخدمات قيمتها ١٠٠٠ عملة ذهبية من دون اللجوء للتخفيض. لكن باللجوء إلى الحيلة الموضحة أعلاه، إذا أخذت الحكومة العملات الأصلية وحولتها إلى ١١٠٠ عملة تبدو في ظاهرها صورة طبق الأصل من العملات الأصلية، فمن البديهي أن ذلك سيمكِّنها من الحصول على مزيد من السلع والخدمات من المنتجين في المجتمع.

ما إن ينتبه التجار إلى هذه الخدعة حتى يبدأ سباقُ تسلح من نوع رديء. قد يرفع التجار أسعارهم تحسبًا لحدوث تخفيض آخر على قيمة العملات، وفي المقابل لم يكن هناك ما يمنع الحكومة الرومانية من الإسراع بخطى تقليل قيمة العملات؛ فكانت النتيجة الحتمية هي ارتفاع الأسعار في الإمبراطورية الرومانية ارتفاعًا هائلًا.

(٢-١) ظهور النقود الإلزامية

الأرجح أنك تعلم أن الحكومات في جميع أنحاء العالم توقفت عن استخدام النظم النقدية القائمة على المعادن النفيسة. فكل الاقتصادات الكبرى اليوم قائمة على «النقود الإلزامية» التي تشير إلى النقود التي ليس لها غطاء من أي سلع في السوق. على سبيل المثال: نجد الدولار الأمريكي يمثل النقود الرسمية في الولايات المتحدة. فالحكومة الأمريكية والبنك المركزي — الاحتياطي الفيدرالي — يتحكمان تحكمًا صارمًا في عدد العملات الورقية من مختلف فئات النقد، ويتحكمان أيضًا (على نحو أقل) في إجمالي الودائع في جميع الحسابات الجارية مقاسة بالدولار الأمريكي. لكن ما من شيء «يضمن» قيمة الدولار.

الدولار الأمريكي ما هو إلا دولار أمريكي؛ فهو لا يخول لحامله أي حق آخر، لأنه ليس عقدًا قانونيًّا مُلزِمًا وليس استحقاقًا على الحكومة الأمريكية بأي حال من الأحوال. فإذا ذهبت إلى وزارة الخزانة الأمريكية أو بنك الاحتياطي الفيدرالي، وأعطيتهم ورقة نقدية فئة ٢٠ دولارًا، ثم سألت: «علام أحصل مقابل هذه؟» فسيأتيك الرد: «إما ورقتين من فئة العشرة، أو أربعًا من فئة الخمسة، أو عشرين ورقة من فئة الدولار. أيها تريد؟»

لو أنعمت التفكير في هذا الأمر فستجده غريبًا للغاية. فالأفراد لديهم استعداد للعمل وقتًا شاقًّا في أحد المصانع في طقس شديد الحرارة، ولسرقة البنوك، بل لقتل بعضهم بعضًا من أجل الحصول على مزيد من هذه الأوراق التي لا تشكل في حد ذاتها أي قيمة. والمقصود أن ورقة من فئة ١٠٠ دولار ليست مفيدة كثيرًا بذاتها في أكثر من استخدامها كمؤشر يوضع بين صفحات الكتب، وحتى في تلك الحالة ستكون مؤشرًا مليئًا بالجراثيم. لذلك يتبين لنا أنه أمر غريب للغاية أن تكون تلك الأوراق النقدية من أكثر الأشياء مطمعًا على سطح الأرض.

لا شك أن السبب الذي يدفع العمال إلى التضحية بأوقات فراغهم ويدفع التجار إلى التنازل عن بضائعهم مقابل الحصول على الدولارات هو أنهم يتوقعون قيام الآخرين بفعل الشيء نفسه في المستقبل. بعبارة أخرى، السبب الذي يجعل امرأً يقضي ٤٠ ساعة أسبوعيًّا في تلقي الأوامر من شخص يمقته هو أنه سيحصل في النهاية على حفنة من الدولارات مقابل هذه الخدمات. وعندها فإنه يظن أن الآخرين سيتلقون الأوامر منه لامتلاكه تلك الدولارات. سوف يدخل أحد الأماكن فينتبه من في المكان لقدومه وينظفون له الطاولة، ثم يجلبون له ما لذ وطاب من الطعام والشراب. وسيأتي رجل يومئ برأسه وهو يقدم نفسه قائلًا إنه سيقوم على خدمته، فيجيب هو: «أحضِر لي بيضًا»؛ ليس هذا فحسب، بل سيطيعه الأفراد الموجودون في المكان. فامتلاكه تلك الأوراق الخضراء جعله الرئيس، ومن أجل نفس السبب الذي جعله يتلقى الأوامر من ذلك الجعجاع في العمل.

من الواضح أنه أيًّا كان المسئول عن إيجاد تلك الأوراق الخضراء، فإنه يقوم بعمل رائع للغاية. فليس أسهل من أن تطبع الحكومة الأمريكية مزيدًا من الدولارات، لأن تكلفة ذلك لن تتعدى بضعة بنسات تُنفق في شراء الورق والحبر اللازمين، وعندها يمكن للحكومة أن تطبع أي عدد تريد من الأصفار على تلك الأوراق لتوجِد أي قدر تريد من المال بتكلفة تكاد لا تُذكر. إنها سلطة هائلة تتمتع بها مجموعة واحدة، ومن المشوق أن نعرف كيف آلت الأمور إلى ما آلت إليه.

على الرغم من أن الاقتصادات المعاصرة تقوم جميعها على النقود الإلزامية، فإن الأمر لم يكن كذلك دائمًا. رأينا في الدرس السابع كيف أن سلعًا سوقية (كالذهب والفضة) يمكن أن تظهر تلقائيًّا من اقتصاد قائم على المقايضة لتتحول في نهاية الأمر إلى نقود. وصحيح أنه في موقف كهذا يكون كدُّ الأفراد في العمل مقابل الحصول على أوقية من الذهب راجعًا في جزء منه إلى أن الآخرين سيكدُّون في العمل أيضًا للحصول على الأوقية نفسها من الذهب في المستقبل، لكن الأهم من ذلك أن الذهب والفضة والسلع الأخرى التي كانت تُستخدم نقودًا كانت في حد ذاتها سلعًا فعلية في السوق يقدرها الأفراد حتى قبل أن تصبح نقودًا. وفي اقتصاد السوق الخالص لا توجد هيئة بعينها مسئولة عن «النقود». بل يمكن لعدة أفراد أن يمتلكوا مناجم ذهب على سبيل المثال، ومن ثم كان إجمالي مقدار النقود في الاقتصاد يتحدد في السوق المفتوحة عن طريق العرض والطلب، مثلما أن إجمالي عدد الدراجات في السوق لا تحدده هيئة بعينها تابعة للحكومة.

تاريخيًّا تولَّت الحكومات سلطة التحكم في النقود؛ أولًا بإصدار عملة ورقية مرتبطة بالذهب أو الفضة أو كليهما معًا. على سبيل المثال: في الفترة من عام ١٨٣٤ وحتى ١٩٣٣ (مع استثناءات قليلة جدًّا)، كان الأمريكيون يعلمون أن ٢٠٫٦٧ دولارًا أمريكيًّا تخول لهم الحصول على أوقية من الذهب. ولم يكن هذا مجرد توقع أو أمنية من جانبهم، بل كانت الحكومة «ملزَمة قانونًا» بإعطاء ذهب لمن يعطونها دولارات ورقية. ومن ثم لم تكن الدولارات الورقية نفسها هي النقود الحقيقية، بل كانت «شهادات» تخول لحاملها حق الحصول على النقود «الحقيقية»؛ أي الذهب.٥

وعندما تولَّى الرئيس فرانكلين روزفلت حكم البلاد عام ١٩٣٣ في ذروة «الكساد الكبير» حظر استبدال الدولارات بالذهب. وطوال عدة عقود تالية ظلت حكومات أخرى (وبنوكها المركزية) تستبدل بالذهب الدولارات الأمريكية، لكن ريتشارد نيكسون أغلق هذا الباب عندما أنهى رسميًّا العلاقة بين الذهب والدولار عام ١٩٧١. ومن ذلك الحين فصاعدًا، أصبح الدولار الأمريكي نقودًا إلزامية غير مدعومة بسلع أخرى. ولمَّا كانت جميع العملات الرئيسية الأخرى في ذلك الوقت مرتبطة بالدولار الأمريكي، فإن إجراءً كهذا ترتب عليه التزام الاقتصاد العالمي بأسره باستخدام النقود الإلزامية.

وفي ضوء أساسيات علم الاقتصاد، تتمثل أهمية النقود الإلزامية مقارنة بالنقود السلعية في سهولة زيادة النقود الإلزامية في الاقتصاد. فتضخم الأسعار الكبير والسريع مستبعَد إلى حد بعيد إذا كان الجميع يستخدم الذهب الحقيقي نقودًا، لأنه من الصعب التنقيب عن مزيد من الذهب. أما في حالة النقود الإلزامية، فيمكن للحكومة أن تزيد مقدار النقود مليون مرة في وقت وجيز للغاية، والواقع أن ذلك قد يحدث عن طريق ضغط بضعة أزرار في حالة المعاملات البنكية الإلكترونية الحديثة. لقد حدثت كل حالات التضخم الجامح — حيث انهارت النقود بعد أن فقدت قيمتها بسرعة هائلة — على مر التاريخ بسبب دوران الحكومات في حلقة مفرغة حيث تواصل الأسعار ارتفاعها وتواصل الحكومة طباعة المزيد من النقود لتسديد نفقاتها.

تتجاهل النقاشات النمطية حول «السياسة النقدية» الملائمة ذلك الملمح بالغ الأهمية الذي يميز عالمنا منذ عام ١٩٧١؛ فالأفراد المسئولون عن عملات بلدانهم يملكون القدرة حرفيًّا على تدمير هذه العملات بين عشية وضحاها. وبالطبع لا يحدث ذلك على أرض الواقع لأنه من المفترض ألا يكون لمسئولي الحكومة مصلحة في تدمير اقتصادهم (مع أن ما يتخذونه من قرارات قد يعكس صورة أخرى). الكثيرون لن يعطوا شخصًا واحدًا أو مجموعة قليلة من الأشخاص حق القضاء على كل مقتنيات الدولة من الكتب أو محركات الأقراص الصلبة — على سبيل المثال — بالضغط على بضعة أزرار. لكن هكذا هو حال عالمنا فيما يتعلق بما يمكن أن نعتبرها أهم سلعة على الإطلاق؛ إنها النقود.

(٢-٢) سعر النقود يتحدد وفقًا للعرض والطلب

سواء أكانت لدينا نقود سلعية كالذهب، أو نقود إلزامية كالدولار الأمريكي اليوم، فالسعر السوقي في كلتا الحالتين يتحدد وفقًا للعرض والطلب. بالطبع في حالة النقود السلعية يتكون المعروض في السوق مما يعرضه شتى المنتجين في القطاع الخاص. أما في حالة النقود الإلزامية الحالية، فتحدد الحكومات (أو هيئاتها المعنية) كميات كل من الدولار، واليورو، والبيزو … إلخ.٦ وبالرغم من هذا الفارق فيمكن لأدوات العرض والطلب نفسها تفسير سعر أوقيات الذهب وأيضًا تفسير سعر النقود الورقية.

العائق الرئيسي الوحيد أمام استخدام تحليل العرض والطلب في هذا الدرس هو أن «سعر» النقود يسلك اتجاهًا يخالف ما اعتدتَ على التفكير فيه بشأن الأسعار الأخرى. على سبيل المثال: افترض أننا نحلل سوق السيارات في إحدى المدن. تخيل أن سعر التوازن في ظل العرض والطلب الأصليين هو ٢٠٠٠٠ دولار وأن كمية التوازن تساوي ١٠٠٠ سيارة. بعدها يُفتتح توكيل جديد لبيع السيارات، بحيث ينتقل منحنى عرض السيارات نحو اليمين. في ظل التوازن الجديد ينخفض السعر إلى ١٥٠٠٠ دولار وتتضاعف كمية السيارات حتى ٢٠٠٠ سيارة.

ماذا يحدث إذا حللنا السوق نفسها، ولكن من منظور النقود؟ فحتى النقود الإلزامية في النهاية ليست سوى سلعة اقتصادية، ومن ثم ينبغي أن نكون قادرين على استخدام أدواتنا التحليلية. المشكلة هنا تظهر عندما نرغب في تحديد «سعر» للدولارات. عند الحديث عن سوق السيارات، يمكننا القول إن سعر الدولار الواحد في البداية كان ٢٠٠٠٠/١ من السيارة الواحدة، لكن بعد افتتاح التوكيل الجديد، ارتفع سعر الدولار الواحد إلى ١٥٠٠٠/١ من سعر السيارة الواحدة.

وهكذا نرى أن التغير في سعر النقود سار في الاتجاه العكسي لسعر السيارات. بعبارة أخرى، إذا قلنا إن شراء سيارة يتطلب عددًا قليلًا من الدولارات، فذلك يتساوى مع قولنا إن شراء دولار واحد يتطلب جزءًا أكبر من السيارة. ربما تراه كلامًا غريبًا للوهلة الأولى، لكن تاجر السيارات يبيع السيارات في الأساس كي يشتري دولارات في المقابل، بينما زبائنه يبيعون الدولارات كي يشتروا سيارات.

ولو كانت الدولارات والسيارات هي السلع الوحيدة في الاقتصاد، لانتهى الأمر. لكن المغزى من وراء امتلاك النقود هو أنها توجد في أحد طرفي جميع المعاملات التجارية التي تتضمن عدة آلاف من مختلف ألوان السلع. لذا، ستنقصنا الدقة لو قلنا إن سعر النقود يعادل ٢٠٠٠٠/١ أو ١٥٠٠٠/١ سيارة. علينا أن نفكر أيضًا في عدد عملات الدولار اللازمة لشراء عبوات من العلكة، أو جالونات من البنزين، أو ساعات من العمل في حرفة النِّجارة وهلم جرًّا.

لنفترض — على سبيل المثال — أن قطعة العلكة كانت تتكلف ٢٥ سنتًا، ثم تضاعف سعرها إلى ٥٠ سنتًا. يمكن التعبير عن ذلك بقولنا إن سعر الدولار الواحد كان يساوي ٤ قطع من العلكة، ثم انخفض إلى النصف وأصبح يساوي قطعتين. تلك نقطة مهمة؛ فعندما يرتفع سعر سلعة أو خدمة (مقاسًا بالدولار)، فالأمر واحد إذا قلنا إن القيمة السوقية للدولار قد انخفضت. فعندما ينخفض «سعر النقود»، يدل ذلك على أن أسعار دولارات السلع الأخرى ترتفع.

على أرض الواقع، لا ترتفع أسعار السلع والخدمات المختلفة جميعًا بنفس الدرجة، بل ترتفع بعض الأسعار وتنخفض أسعار أخرى. ولذا فإنه من المثير للجدل أن نحدد ما نعنيه بعبارة «سعر النقود». ابتكر الاقتصاديون عدة «سلال» من السلع من أجل تقريب الفكرة، ومن بين تلك الإجراءات «مؤشر أسعار المستهلك». وما يعنينا الآن أن تفهم أن الأسعار المرتفعة (مقاسة بالنقود) هي نفسها قيمة منخفضة أو «قدرة شرائية» منخفضة للنقود.

حالما نفهم العلاقة بين الأسعار العادية وبين «سعر» النقود، يسهل علينا معرفة أسباب تضخم الأسعار، وتشمل كل ما يسبب انخفاض أسعار النقود. وباستخدام أدواتنا العادية، يعني ذلك أنه قد يكون هناك سببان للارتفاع العام في أسعار السلع والخدمات في الاقتصاد؛ إما (١) زيادة المعروض من النقود، أو (٢) انخفاض الطلب عليها، أو كلاهما معًا.

وبهذه النظرة يمكننا العودة إلى بعض النقاط المذكورة آنفًا في هذا الدرس. على سبيل المثال: الانهيار الكامل الذي حدث لبعض العملات — حيث انخفضت القوة الشرائية أو سعر النقود إلى الصفر بسرعة هائلة — إنما حدث عندما بدأت الحكومات خلق كميات هائلة جديدة من العملة (أي إن المعروض من النقود قد زاد). ما إن بدأت هذه العملية حتى تشكك الأفراد في قدرة العملة على شراء سلع وخدمات في المستقبل، ومن ثم لم يعودوا راغبين في امتلاكها، فانخفض الطلب عليها. تفاقمت العملية حتى أصبح سعر العملة صفرًا فعليًّا، بمعنى أن وحدات هذه العملة (كالمارك الألماني مثلًا) أصبحت لا تشتري أي شيء في السوق.

من ناحية أخرى، يمكننا أيضًا تفسير ما حدث في الولايات المتحدة في منتصف الثمانينيات. فكما يوضح الرسم البياني المشار إليه في بداية الدرس، زاد مخزون النقود (مُقاسًا بعرض النقد ع١) بسرعة هائلة مع أن الأسعار (مقاسة بمؤشر أسعار المستهلك) لم ترتفع بالقدر نفسه. بعبارة أخرى، شهدت الولايات المتحدة بدءًا من منتصف الثمانينيات فصاعدًا زيادة كبيرة في كمية النقود، وانخفاضًا أقل بكثير في سعرها. والتفسير بسيط؛ فقد زاد المعروض من الدولارات، وزاد معه الطلب. والأسباب المحددة وراء زيادة الطلب — التي تشمل على الأرجح الاقتصاد الأمريكي القوي، والنجاح في خفض معدلات التضخم السعري عن مستوياته الخطرة التي شهدتها أواخر السبعينيات — ليست موضوع نقاشنا. المهم أنك لا تستطيع النظر إلى عدد أوراق الدولار وحساب ما سيحدث للأسعار، لأن القيمة السوقية للنقود تتحدد وفقًا للعرض والطلب.

(٣) خطر تضخم الأسعار الناجم عن التدخل الحكومي

لا تقتصر عواقب التدخل الحكومي على التضخم السعري فحسب. فحتى في اقتصاد سوق خالص يَستخدِم الذهب، يمكن لكمية هائلة من الذهب (المستخرج من مناجم أو أراضٍ أجنبية مكتشفة حديثًا) أن ترفع أسعار معظم السلع والخدمات (مقاسة بأوقيات الذهب). ومن الناحية النظرية، لو أن خيميائيي العصور الوسطى نجحوا في إيجاد طريقة لتحويل الرصاص إلى ذهب، لانخفض سعر الذهب في السوق حتى أصبحت مكاسب الخيميائيين متشابهة مع مكاسب المشتغلين بالصناعات الأخرى. بعبارة أخرى سينخفض سعر الذهب حتى يقترب من سعر الرصاص. وفي هذه الحالة، من المرجح أن يتحول الأفراد في اقتصاد السوق إلى استخدام شكل آخر من أشكال النقود لنفس السبب الذي جعلهم على مر التاريخ لا يستخدمون الرصاص كنقود سلعية مطلقًا.٧
بالرغم من ذلك، فإن التهديد الأكبر لاستقرار الأسعار على أرض الواقع لم يأت من النقود السلعية في السوق، وإنما من النقود الخاضعة لسيطرة الحكومة، وتحديدًا النقود الإلزامية.٨ على سبيل المثال: عندما كان الدولار الأمريكي مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالذهب عند سعر ٢٠٫٦٧ دولارًا للأوقية، ظلت القوة الشرائية للدولار ثابتة إلى حد بعيد على مدى فترات طويلة من الوقت. ربما كانت تنخفض أثناء سنوات الحرب وترتفع أثناء إحدى الأزمات الاقتصادية، لكن بوجه عام ظل الدولار قادرًا على شراء سلع في إحدى السنوات تتساوى في كميتها مع ما كان يشتريه في عقود سابقة. وإبان العِقد الذي يعتبره البعض أكثر العقود رخاءً في تاريخ الولايات المتحدة، كان «مؤشر أسعار المستهلك» ثابتًا في الفترة من عام ١٩٢٢ حتى عام ١٩٢٩. لم يشهد الأمريكيون ارتفاعًا ملحوظًا في أسعار الحليب والبيض واللحوم خلال هذه الفترة بالرغم من الانتعاش الاقتصادي حينئذ.

لكن لم يعد الحال كذلك. فتحديدًا منذ أن أنهى ريتشارد نيكسون رسميًّا العلاقة بين الدولار والذهب في عام ١٩٧١، حدث انخفاض ثابت ومستمر في القدرة الشرائية للدولار. أي إن أسعار السلع والخدمات في الولايات المتحدة ظلت ترتفع باستمرار مع تحول الاقتصاد من النقود السلعية (الذهب) إلى النقود الإلزامية. وعلى الشباب اليوم أن يلتمسوا العذر لآبائهم وأجدادهم عندما يتحدثون حديثًا يثير الملل حول مدى انخفاض الأسعار عندما كانوا هم أنفسهم صغارًا. ما لا يدركه هؤلاء الشباب — وربما حتى آباؤهم وأجدادهم — هو أن هذا التآكل الثابت للدولار ليس واقعًا طبيعيًّا، بل هو نتيجة تدخل الحكومة في الاقتصاد من خلال احتكارها مخزون الأموال واتخاذها قرارًا بضخ المزيد من الدولارات في السوق بصفة مستمرة.

وإلى جانب حكايات الأجداد المثيرة للملل هذه، فمن مخاطر تضخم الأسعار الدائم أنه يقضي جزئيًّا على الهدف من استخدام النقود في المقام الأول. تذكر أن الدور الكبير الذي تلعبه النقود أنها تساعد الأفراد على وضع الخطط وتنسيق أنشطتهم في السوق. فبوسع المستثمرين الاستدلال على نجاح أنشطتهم التجارية من خلال حساب إجمالي أسعار المدخلات التي يشترونها، ومقارنته بإجمالي أسعار المنتجات التي يبيعونها للمستهلكين. ويمكن للعمال اتخاذ قرار سليم بشأن قبول وظيفة جديدة في مكان آخر بالنظر إلى أسعار السلع الرئيسية (مثل الغذاء والمسكن) في المكان الجديد مقارنة بأسعارها في مكان عملهم الحالي، وتكرار الشيء نفسه مع فرق الراتب في المكانين. ويمكن لزوجين متقاعدين يخططان لقضاء عطلة مترفة في أوروبا أن يتجنبا الموت جوعًا بعد مرور ٢٠ سنة بأن يستشيرا أحد الخبراء الماليين ليتأكدا من ادخارهما ما يكفي للإنفاق عليهما لاحقًا. امتلاك نقود مغطاة بسلعة مادية — أي نقود لا تتأرجح قيمتها على نحو عشوائي، ولا تفقد قدرتها الشرائية بمرور الوقت — هو ما يجعل كل هذه الأنشطة أكثر تنظيمًا. ولا يزال امتلاك النقود الإلزامية غير المغطاة بسلعة مادية أفضل من عدم الامتلاك، لكن الحكومات المتطرفة قد تجعل النقود بلا فائدة حتى إن العامة ينصرفون عنها ويستخدمون أشياء أخرى كوسيط للتبادل.

من بين المهام الرسمية المنوط بها «الاحتياطي الفيدرالي» — البنك المركزي في الولايات المتحدة — الحفاظ على استقرار الأسعار. منذ تأسيس «الاحتياطي الفيدرالي» عام ١٩١٣، فقَدَ الدولار الأمريكي نحو ٩٥٪ من قدرته الشرائية. للتعبير عن ذلك بصورة أخرى، يمكننا القول إن ما كان يتكلف دولارًا واحدًا في السوق عام ١٩١٣ صار يتكلف ٢٢ دولارًا اليوم. لكن بعيدًا عن هذا الانخفاض المستمر في «سعر» الدولار الأمريكي (مقارنة بمعظم السلع والخدمات)، فالواقع أن الانخفاض كان متقلبًا إلى أبعد الحدود. ارتفعت الأسعار بسرعة كبيرة إبان الحرب العالمية الأولى، ثم انخفضت في عامي ١٩٢٠ و١٩٢١، وظلت ثابتة طوال العشرينيات، ثم انخفضت ثانية خلال السنوات الأولى من «الكساد الكبير». ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية ارتفعت الأسعار في الولايات المتحدة على نحو مطرد، لكن إيقاع هذا الارتفاع لم يكن منتظمًا؛ وعلى وجه التحديد ارتفعت الأسعار بسرعة هائلة في نهاية السبعينيات قبل أن تنخفض معدلات ارتفاعها كثيرًا خلال الثمانينيات.

وحاليًّا (في عام ٢٠١٠)، تتباين توقعات المستثمرين الأمريكيين بشأن تضخم الأسعار في المستقبل. فالبعض يتوقع انهيارًا في الأسعار مثلما حدث خلال الفترة الأولى من «الكساد الكبير»، بينما يتوقع البعض الآخر ارتفاعًا في الأسعار، مثلما حدث مؤخرًا في زيمبابوي (ولكن على نحو أقل تطرفًا).٩ وبسبب غموض جانب مستقبلي مهم للغاية كهذا — وهو القدرة الشرائية للدولار — فقد انصرف الأمريكيون وغيرهم في شتى أنحاء العالم عن بناء مشاريعهم، واللعب مع أطفالهم، والاستمتاع بأوقاتهم لأنهم مضطرون إلى إجراء أبحاث حول الاجتماعات التي يعقدها «الاحتياطي الفيدرالي»، وتعديل محافظهم الاستثمارية باستمرار لضم المزيد من الذهب أو السندات إليها. لا غرابة في عمل كهذا على المستوى الفردي، ولا سيما في ظل التاريخ الهزيل للاحتياطي الفيدرالي فيما يتعلق بأداء مهمته الرسمية المتمثلة في استقرار الأسعار. لكن على مستوى النظام الاقتصادي ككل، فهذا العمل يهدر الكثير من الوقت والجهد وغيرهما من الموارد. ففي ظل اقتصاد السوق الخالص الذي يستخدم نقودًا مغطاة بسلعة مادية، يمكن للأفراد التركيز على أمور أكثر أهمية في حياتهم.

(٣-١) هل يمكن احتواء تضخم الأسعار من خلال توقعات صحيحة؟

يستخفُّ البعض بالتبعات الضارة المترتبة على تضخم الأسعار. وهؤلاء سيسلِّمون بأنه إذا باغت ارتفاع الأسعار الجميع، حينها ستكون المشكلة. لكن في هذه المرحلة يعرف الجميع أن الدولار الأمريكي (وغيره من العملات الإلزامية) سيفقد قدرته الشرائية بمرور الوقت. فعندما تقترض الشركات أموالًا، وعندما يتخذ كبار السن من العمال قرارًا بالتقاعد، فإنهم يأخذون هذه الظاهرة في الحسبان. والأكثر من هذا أنه في الاقتصادات المعاصرة، ثمة أدوات مالية دقيقة تتيح للمستثمرين حماية أنفسهم من تضخم الأسعار بسبل شتى. باختصار، لا يترك الأفراد في الاقتصاد المختلط أنفسهم فريسة سهلة عندما تتدخل الحكومة في المعروض من النقود، بل يتخذون رد الفعل اللازم ويحمون أنفسهم مستعينين بجوانب أخرى من اقتصاد السوق.

هذا صحيح تمامًا، لكن لاحظ أننا نستطيع قول الشيء نفسه إذا حقنت الحكومة الأفراد عشوائيًّا بالفيروسات أو أضرمت النيران في منازلهم. فلن يقف الأفراد مكتوفي الأيدي ويتقبلوا بسلبيةٍ الواقع الجديد، بل سيتخذون إجراءات مضادة فعالة (كالأمصال، والمزيد من أجهزة إنذار الحريق … إلخ) وسيحصلون على وقاية مالية أكبر عن طريق سياسات التأمين ضد الأمراض والحرائق. لكن من الهراء أن نقول إن هذه التدابير الدفاعية أبطلت تمامًا العواقب الضارة لما قامت به الحكومة.

وينطبق المبدأ نفسه على تضخم الأسعار الناجم عن تدخل الحكومة. صحيح أنه يمكن تخفيف الضرر عن طريق ردود الفعل الدفاعية من جانب السوق. لكن سينتهي الأمر بالمجتمع إلى أن يصير أكثر فقرًا مما لو تركت الحكومة مسألة النقود في يد القطاع الخاص.

مهما كانت الظروف، فحتمًا سيشكل التضخم «النقدي» الحكومي ضررًا على الاقتصاد مقارنة بنتاج السوق الحرة. ذلك لأن الحكومة والبنك المركزي يستخدمان دائمًا النقود الجديدة في شراء أشياء سواء أكانت سلعًا مادية (كالدبابات وقاذفات القنابل أثناء الحرب) أم أصولًا مالية (كالأوراق المالية المدعومة برهن عقاري في أعقاب الأزمة المالية عام ٢٠٠٨).

رأينا في الدرس الثامن عشر أن الحكومة تضر الاقتصاد عندما تأخذ الموارد من يد القطاع الخاص وتضعها تحت تصرف مسئولي الحكومة. ويحدث هذا الإجراء الضار بالضرورة كلما أوجدت الحكومة نقودًا جديدة؛ أي أحدثت تضخمًا نقديًّا.

وأيًّا كان ما سيفعله العامة إزاء ذلك، فإنه لن يمنع الحكومة من الاستحواذ على السلع والأصول الفعلية (براميل النفط، وسندات الشركات … إلخ) عندما تكون هي المتحكمة في عملية طبع النقود. ففي ظل نظام النقود الإلزامية، تكون العملات المطبوعة حديثًا نقدًا قانونيًّا مثله مثل النقود التي يحملها المواطنون بالفعل في حقائبهم. ولهذا السبب، حتى إذا لم تؤدِّ حلقة بعينها من حلقات التضخم النقدي إلى حدوث تضخم سعري فوري،١٠ فسيظل تدخل الحكومة يشكل ضررًا على الاقتصاد مقارنة بنتاج السوق الحرة.

خلاصة الدرس

  • يشير «التضخم النقدي» إلى زيادة النقود، وفي الاقتصاد الأمريكي يشير المصطلح إلى زيادة في إجمالي عدد الدولارات. بينما يشير «التضخم السعري» إلى زيادة شاملة في أسعار السلع والخدمات مُقاسة بوحدات النقد.

  • يؤدي التدخل الحكومي إلى حدوث تضخم منهجي. وقد لجأت جميع الحكومات الكبرى إلى استخدام وسائل عدة لحمل شعوبها على وقف استخدام النقود السلعية السوقية (كالذهب والفضة) والتحول لاستخدام النقود الورقية الإلزامية. فزيادة كمية النقود الإلزامية أسهل بكثير من التنقيب عن المزيد من الذهب والفضة.

  • قد يؤدي تضخم الأسعار الدائم والمنتشر على نطاق واسع إلى تدمير أي اقتصاد. فعندما تتآكل القدرة الشرائية للنقود سريعًا، يقلل ذلك من فائدة امتلاك النقود من الأساس، ويدفع المجتمع للرجوع إلى نظام المقايضة. ومن دون وجود عملة مغطاة بسلعة مادية، يقل الحافز لدى الأفراد للادخار واتخاذ قرارات استثمارية طويلة الأجل.

مصطلحات جديدة

  • التضخم: مصطلح كان يشير في الأصل إلى التضخم النقدي، لكنه يستخدم حاليًّا للإشارة إلى التضخم السعري.
  • التضخم النقدي: زيادة إجمالي كمية النقود في الاقتصاد.
  • التضخم السعري: زيادة شاملة في أسعار السلع والخدمات مقاسة بوحدات النقد. والتضخم السعري مرادف لانخفاض القدرة الشرائية للنقود.
  • مخزون النقود: إجمالي كمية النقود في الاقتصاد خلال فترة زمنية معينة.
  • مؤشر أسعار المستهلك: أداة قياس يستخدمها «مكتب إحصاءات العمل الأمريكي» لتحديد «مستوى الأسعار» الذي يؤثر على المستهلكين. ويمثل مؤشر أسعار المستهلك متوسط أسعار البنزين والمواد الغذائية وغيرها من السلع الأساسية الأخرى (كلٌّ حسب أهميته).
  • عرض النقد «ع١»: مقياس شائع لإجمالي كمية النقود في الاقتصاد. ويشمل النقود الفعلية الموجودة لدى المواطنين، وأيضًا إجمالي النقود الموجودة في حساباتهم الجارية. (وبسبب نظام الصيرفة الاحتياطية الجزئية، يزيد «ع١» عن عدد الدولارات المطبوعة. فإذا حاول الجميع سحب أرصدتهم من البنوك في وقت واحد، فلن يكون هناك ما يكفي من العملات. ولهذا السبب، يشير «ع١» إلى إجمالي نقود أكبر من النقود الورقية الفعلية.)
  • التضخم الجامح: تضخم حاد للغاية. ليس هناك حد فاصل بين التضخم والتضخم الجامح، لكن في حالة التضخم الجامح يقدم الأفراد على شراء أي شيء بهدف التخلص من نقودهم التي تفقد قيمتها كل ساعة.
  • تخفيض قيمة العملة: سياسات حكومية تقلل قيمة النقود. ففي حالة العملات المعدنية التي كانت تستمد قيمتها مما تحتويه من معدن نفيس، كان تخفيض العملة يعني صهر العملات وإعادة سكها بإضافة معادن أقل قيمة. أما في حالة النقود الإلزامية فيتضمن تخفيض العملة خلق نقود جديدة بوتيرة سريعة، مما يقلل من قيمة وحدة النقد.
  • النقود الإلزامية: نقود ورقية ليست مدعومة بغطاء من أي نوع. والسبب الوحيد الذي يجعل الأفراد يقبلونها في تعاملاتهم هي أنهم يتوقعون أن تكون لهذه النقود قدرة شرائية في المستقبل.
  • الاحتياطي الفيدرالي: هو البنك المركزي في الولايات المتحدة، وتأسس عام ١٩١٣. الاحتياطي الفيدرالي مسئول عن السياسة النقدية الأمريكية، وهو المنوط بتوفير نمو اقتصادي مستقر (مما يعني تشغيل جميع الأيدي العاملة) والحد من تضخم الأسعار.

أسئلة الدرس

(١) ما المعنيان اللذان يشير إليهما مصطلح «التضخم»؟
(٢) هل هناك علاقة وثيقة بين زيادة النقود وزيادة الأسعار؟
(٣) لماذا يبيع العمال ساعات عملهم مقابل أوراق نقدية لا قيمة لها في حد ذاتها؟
(٤) ما تأثير زيادة مخزون النقود على «سعر النقود» في حالة ثبات جميع العوامل الأخرى؟
(٥) ما أضرار التضخم السعري الناجم عن تدخل الحكومة؟

هوامش

(١) سيقول بعض الاقتصاديين إن مصطلح «التضخم» يشير إلى زيادة كمية النقود والائتمان في الاقتصاد. وذلك موضوع متخصص للغاية وله علاقة بحقيقة أن البنوك مسموح لها قانونًا بمنح قروض أكثر من النقود التي تمتلكها فعليًّا. وهذا الإجراء يُسمى «نظام الصيرفة الاحتياطية الجزئية»، وسوف نتجاهل كل هذا التعقيد.
(٢) على مدار هذا الفصل سنستخدم مصطلح «مخزون النقود» بدلًا من المصطلح الأكثر شيوعًا «مجموع النقد المتداول» لتفادي الالتباس. فعندما يقارن الأفراد النقود بالأسعار، فإنهم يكادون يقصدون دائمًا عدد الوحدات الفعلية من النقود في الاقتصاد؛ فهم لا يشيرون إلى «منحنى عرض النقود»، وهو مفهوم مجرد تعريفه في الاقتصادات الحديثة — حيث زاد تدخل الحكومة في مسألة النقود — سيكون صعبًا حقًّا.
(٣) إذا كنت بارعًا في الرياضيات، فاعلم أننا قد حسبنا متوسط معدلات النمو السنوية المجمَّعة. بعبارة أخرى، لم نأخذ إجمالي النسبة المئوية ونقسمها على ٥، بل أخذنا في الحسبان الزيادة الأسيَّة ذات الصلة (بضرب النسب المئوية بعضها في بعض).
(٤) لاحظ أنه حتى من دون تخفيض العملة، لن تكون العملات الذهبية ذهبًا خالصًا، لأنها ستكون مرنة يسهل انثناؤها. الطبيعي أن يضاف مقدار من معدن آخر أقل قيمة لتكون العملة أكثر صلابة وقابلية للاستخدام في التداول.
(٥) تاريخ تشريع الذهب والفضة في الولايات المتحدة قديمًا أمر معقد للغاية، ويقع خارج نطاق هذا الكتاب التمهيدي. المهم أن تعرف أنه حتى قبل كتابة الدستور، كان المستعمرون يستخدمون الذهب والفضة نقودًا. ولم يبدأ الأمريكيون استخدام العملات الورقية المرتبطة بالحكومة الأمريكية إلا لأنها كانت في الأصل إيصالات استحقاق للنقود السلعية الموجودة من قبل.
(٦) إذا أردنا الدقة، فإن الحكومة الأمريكية و«الاحتياطي الفيدرالي» لا يتحكمان في كمية الدولارات الأمريكية تحكمًا مطلقًا، إذا احتسبنا أرصدة الحسابات الجارية كجزء من إجمالي القيمة. فاستعداد البنوك التجارية لمنح القروض، واستعداد الأفراد في القطاع الخاص لاقتراض النقود يلعبان دورًا هنا. لكن لدواعٍ عملية نقول إن الحكومة الأمريكية وبنكها المركزي يتحكمان في «منحنى عرض الدولار».
(٧) حتى في هذه الحالة، لن يكون «انهيار» النقود الذهبية كارثة مطلقة، بل ستكون لذلك ميزاته. صحيح أن اقتصاد العالم سيشهد خللًا هائلًا إذا انخفضت قيمة نقوده — الذهب — فجأة انخفاضًا حادًّا بسبب اكتشاف الخيميائيين. لكن من ناحية أخرى، سيكون نجاح الخيميائيين في التوصل لاكتشاف كهذا أمرًا رائعًا، بسبب تلك الكميات الهائلة من الذهب الجديد. فإلى جانب انخفاض سعر المجوهرات النفيسة، سيستفيد المستهلكون من انخفاض كلفة علاج الأسنان (كحشوها بالذهب … إلخ) وعلاج المفاصل (الذي يتضمن حقن الذهب داخل الجسم)، إضافة إلى التطبيقات الصناعية. فعلى عكس النقود الإلزامية، تتسم النقود السلعية بفائدتها في أمور أخرى غير استخدامها وسيطًا للتبادل، ولذا تكون الزيادات المفاجئة في المعروض منها مفيدة من هذا المنظور.
(٨) علينا الإشارة إلى أن النقود الإلزامية داعبت خيال الاقتصاديين حتى في اقتصاد السوق الخالص، وأن هؤلاء الاقتصاديين ألَّفوا كتبًا ومقالات تصف آليات مثل هذا النظام. في متن الكتاب سنتجاهل هذا التعقيد، ونفترض أن النقود الإلزامية دائمًا تكون ناتجة عن تدخل الحكومة في اقتصاد السوق. وصحة هذا القول — ولو نظريًّا — محل خلاف بين الاقتصاديين، لكن الرابط بين الحكومات والنقود الإلزامية قائم بالتأكيد من الناحية العملية.
(٩) تفاقم العبث في زيمبابوي حتى إن بنكها المركزي أصدر وحدة نقدية فئة ١٠٠ تريليون دولار. وفي مؤتمر عُقد في ربيع عام ٢٠١٠، داعب أحد الأفراد مؤلف هذا الكتاب بأن أعطاه «إكرامية» كانت ورقة نقدية فئة «٥٠ تريليون دولار» أصدرها البنك المركزي في زيمبابوي. وقد حصل هذا الشخص على تلك العملة الورقية — التي تحمل الرقم ٥ يعقبه ١٣ صفرًا — بثمن زهيد من موقع «إي باي» للتسوق الإلكتروني. ويرى الاقتصادي ستيف هانكي أنه بحلول نوفمبر الثاني ٢٠٠٨ كانت زيمبابوي تعاني معدل تضخم شهري قدره ٧٩٫٦ مليارًا ٪. ووفقًا لهذا المعدل الخرافي كانت الأسعار في زيمبابوي تتضاعف كل ٢٥ ساعة! (انظر http://www.cato.org/zimbabwe).
(١٠) ضع في اعتبارك أن ضخ الحكومة نقودًا جديدة قد يرفع الأسعار التي ربما كانت ستنخفض لولا حدوث ذلك. على سبيل المثال: قد تطبع الحكومة نقودًا جديدة وتشتري السلع التي انخفض عليها الطلب (في القطاع الخاص). في هذه الحالة، ما زال التضخم النقدي يسفر عن حدوث تضخم سعري، ولكن من نقطة بدء منخفضة إذا جاز التعبير. وهكذا ربما لا ترتفع الأسعار الملاحَظة، لكن من الخطأ أن نخلص إلى أن التضخم النقدي لم يؤثر على الأسعار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤