الدرس الرابع

اقتصاد «روبنسون كروزو»

ستتعلم في هذا الدرس

  • كيف يمكن لاقتصاد قائم على فرد واحد أن يبيِّن المفاهيم والتصنيفات الاقتصادية.

  • أهمية الادخار والاستثمار.

  • كيف يفسر الاقتصاديون الخيارات الفردية.

(١) مقدمة

تعلمت في الدروس الثلاثة الأولى أن علم الاقتصاد هو دراسة عمليات التبادل، وأن اتخاذ قرار بتصنيف سلوك بشري على أنه فعل متعمَّد ينجم عنه العديد من الأفكار التي ستساعدنا في تفسير اقتصادات السوق المعاصرة. وفي الجزء الثاني من هذا الكتاب سنبدأ تحليلنا الكامل لاقتصاد سوق فيه باعة ومشترون يستخدمون النقود في تعاملاتهم. يظن معظم الناس على الأرجح أن هذا ما يُفترض بكتاب عن الاقتصاد أن يتناوله!

لكن قبل أن نتعمق في ذلك سنستعرض في الدرس الحالي — آخر دروس الجزء الخاص بالمبادئ الأساسية — بعض الحقائق الاقتصادية الأساسية التي تنطبق حتى على فرد واحد يعيش على جزيرة نائية. فهناك عدد هائل من الاستنتاجات التي يمكن أن نستخلصها من هذه الحالة المحدودة للغاية.

على مرِّ السنين تهكَّم نقاد كثيرون مما يُطلق عليه اقتصاد «روبنسون كروزو» نسبة إلى البَحَّار الذي تحطمت سفينته في رواية «دانييل ديفو» الشهيرة.١ قطعًا لا نقول إن شخصًا منعزلًا هو الوصف الدقيق للاقتصاد المعاصر، بل نقول إنه قبل تحليل اقتصاد قوامه مليارات من البشر يتفاعل بعضهم مع بعض، علينا البدء بشخص واحد فقط، والتأكد من أننا نفهم السبب وراء المسار الذي اختار أن يسلكه في حياته.

وكما سترى، فإننا في هذا الدرس نُرسي مبادئ «عامة» حول الأفعال المتعمَّدة التي يقوم بها أحد الأفراد في مواجهة الندرة. وستظل هذه المبادئ العامة صحيحة حتى عندما يُنقَذ كروزو ويعود إلى موطنه. لكن كي نتحاشى إرباك الطلاب سنبدأ بأبسط حالة حيث يتعين على كروزو أن يتصرف وحده لتحسين وضعه في ظل الظروف المحيطة به.

(٢) كروزو يبتكر سلعًا مستعينًا بقدراته العقلية

عندما وجد كروزو نفسه وحيدًا على جزيرته الاستوائية، أدرك على الفور أن ما يحدث حوله لا يروق له. فقد بدأت معدته تقرقر، وأصبح حلقه جافًّا، فضلًا عن أنه لا يرى أي مأوى طبيعي يقيه من العواصف المطرية المروعة التي لا بد أنها تضرب الجزيرة من آن لآخر. وبدلًا من أن يستسلم كروزو لقدَره، فإنه يقرر أن يفعل شيئًا لتغيير مسار الأحداث، بحيث تسير الأمور على نحو يروق له أكثر.

وقبل أن يتخذ كروزو قرارًا عقلانيًّا بشأن ما سيفعله، فإنه بحاجة أولًا أن يرى ما لديه. يتسلق كروزو قمة أحد التلال ويلقي نظرة على الجزيرة، فيرى الكثير من أشجار جوز الهند، وجداول صغيرة من المياه الجارية، فضلًا عن العديد من الصخور ذات الأحجام المختلفة، وأشجار كُروم قوية. يبدأ عقل كروزو في العمل ليقرر ما سيفعل أولًا.

هنا يمكننا أن نتوقف، ونصف الموقف باستخدام المفاهيم الاقتصادية. لعلَّك على الأرجح أدركت — مثلما أدرك كروزو — السبب في أن الأشياء المذكورة في الفقرة السابقة وثيقة الصلة بموقفه هذا، وأنها ستكون ضمن الحقائق التي ستأخذها في اعتبارك إذا وجدت نفسك في موقف كروزو. وباستخدام المصطلحات الاقتصادية، فإن كروزو أجرى جردًا للسلع المتوفرة لديه؛ بمعنى أنه قيَّم مخزون العناصر المادية المتاحة أمامه التي يظهر فيها أثر الندرة.

كان من الممكن أن يقول كروزو في النهاية: «حسنًا، هذه الجزيرة خاضعة لقوة الجاذبية الأرضية، أي إنني لن أنجرف إلى الفضاء الخارجي وأتجمد من البرد. هناك الكثير من الأكسجين هنا، أي إنني لن أختنق. ووجود غلاف جوي أمر مفيد لأنه ينقل الأمواج الصوتية بما يمكِّنني من سماع صوت العاصفة وهي تقترب.» خصائص الجزيرة هذه مفيدة جدًّا لكروزو، وستساهم في تحقيق أهدافه، لكنه لن يركز عليها أثناء وضع خططه، لأنها ليست نادرة. فهو لا يحتاج لأن «يقتصد» في استهلاك هذه الظروف العامة المحيطة مثلما يحتاج للتحكم في استهلاكه للجوز والكروم … إلخ.

تعد «المفاضلات» العلامة المميزة للندرة. فإلى أن يعثر كروزو على مصدر آخر للغذاء (مثل السمك بعد صنع بعض الأدوات اللازمة للصيد)، هو بحاجة لأن يحرص على ألا يستهلك ما لديه من جوز الهند سريعًا. (وهو أيضًا لن يحرق مجموعة من أغصان الجوز فقط من باب التسلية.) وإذا قرر استخدام صخور معينة لبناء مأوى، فإنه لن يستطيع استخدام الصخور نفسها لإشعال النيران. وحتى إذا كانت أشجار الكروم متوافرة في كل مكان، فعليه أن يكون حريصًا عندما يقطعها لصنع شبكة صيد، لأن التوغل في الغابة للعثور على مزيد من الكروم يستغرق وقتًا.

وكما تبين كل هذه الأمثلة، فإن كروزو بحاجة لأن يفكر في تبعات أفعاله كلما تضمنت خططه استخدام الصخور والكروم والجوز … إلخ. فلأن هذه العناصر نادرة، ربما يندم كروزو لاحقًا على التأثير عليها، لأن هذا سيضعف قدرته على تحقيق أهدافه في المستقبل. والعناصر التي يمكن أن تساعد المرء في تحقيق أهدافه، وتساعده في تحقيق مزيد من الأهداف إذا توافر المزيد منها تُسمى «سلعًا». في المقابل، نجد أن الظروف المحيطة مثل الجاذبية والأكسجين ليست سلعًا بالمفهوم الاقتصادي، لأن أي إجراء سيقدم عليه كروزو لن يقلل من نفعها في تحقيق أهدافه. وليس عليه أن يقلق بشأن العدْو بأقصى سرعة ومن ثمَّ «استهلاك كل الأكسجين»، فضلًا عن أنه لا يواجه أي مفاضلات عند الاعتماد على الجاذبية أثناء ضرب ثمار الجوز بعصا طويلة.٢ علاوة على ذلك، ليست هناك أهداف أخرى من الممكن أن يحققها كروزو لو توافر لديه «مزيد من الأكسجين» أو «مزيد من الجاذبية». فبالرغم من أن الأكسجين والجاذبية ضروريان لحياة كروزو، فإنه ليس في حاجة للاقتصاد في استخدامهما، ومن ثمَّ لا يصنفان على أنهما سلع اقتصادية.

من المهم أن ندرك أن أي عنصر يصبح سلعة عندما يدرجه الشخص ضمن خططه. فثمار الجوز الموجودة على جزيرة استوائية ليست سلعة بسبب خصائصها المادية في حد ذاتها، بل لأنها: (أ) تخفف الشعور بالجوع. (ب) كروزو يفضل ألا يشعر بالجوع. (ﺟ) كروزو على وعي بالنقطة الأولى. ولو أنه كان يجهل حقيقة أن ثمار الجوز تؤكل، لما اعتبرها سلعة. إليك مثالًا آخر؛ قد يكون لبعض النباتات على الجزيرة فوائد طبية، لكن إذا لم يكن كروزو يعرفها، فهذه النباتات لن تصنَّف على أنها سلع اقتصادية.

(٣) السلع الاستهلاكية مقابل السلع الإنتاجية

الآن وقد فهمنا ما تعنيه السلع بوجه عام، يمكننا البدء في الإشارة إلى بعض التمييزات. فمن ناحية، يدرك كروزو أن هناك عناصر نادرة يمكن أن تساعده في تحقيق أهدافه مباشرة. مثلًا: المياه الجارية في الجداول يمكن أن تروي عطشه مباشرة، وثمار الجوز يمكن أن تسد جوعه مباشرة. يطلق الاقتصاديون على هذه العناصر اسم «السلع الاستهلاكية».

ومن ناحية أخرى، هناك عناصر مفيدة بالتأكيد، ومن شأنها أن تمكن كروزو من تحقيق مزيد من الأهداف إذا توافر منها المزيد — ومن ثم فهي سلع — لكنها لن تفيده إفادة مباشرة. هذه العناصر مفيدة ولكن على نحو غير مباشر لأنها تساعد كروزو في الحصول على مزيد من السلع الاستهلاكية. إذا فكرنا في عصا طويلة — على سبيل المثال — فسنجد أنها في حد ذاتها لن تفيده في شيء، ولو كانت هي الشيء المادي الوحيد على الجزيرة لما اعتبرها كروزو سلعة على الإطلاق. لكن لأن هناك ثمار جوز على الأشجار — بعضها يصعب أن يصل إليه كروزو بيده — فجأة تكتسب العصا قيمة على نحو غير مباشر. حينئذ سيعتبر كروزو العصا سلعة، على الرغم من أنها لا تسد جوعه على نحو مباشر، وإنما تساعده على نحو غير مباشر في الوصول إلى هدفه. يطلق الاقتصاديون على هذه العناصر — كالعصا في المثال — اسم «السلع الإنتاجية» أو «عوامل الإنتاج» أو «وسائل الإنتاج».

وكما هو الحال مع السلع بوجه عام، يعتمد التمييز بين السلع الاستهلاكية والإنتاجية على رأي الفرد الذي يستخدم السلعة. على سبيل المثال: لو أن عملاقًا سيغتسل على جزيرة كروزو، فربما يعتبر العصا أداة ممتازة لحكِّ ذلك الجزء الذي يصعب الوصول إليه بين لوحي كتفيه. وهنا تعد العصا نفسها سلعة استهلاكية في نظر هذا العملاق.
figure

(٤) الأرض والعمل والسلع الرأسمالية

حتى ضمن فئة السلع الإنتاجية يمكننا الإشارة إلى تمييزات أخرى. فالسلع الإنتاجية التي هي هبات مباشرة من الطبيعة يُطلق عليها «الأرض» أو «الموارد الطبيعية». وهي تشمل عناصر دائمة إلى حد ما مثل جدول مياه جارٍ، أو شجرة تغل محصولًا من ثمار الجوز لأجل غير مسمى، لكنها تشمل أيضًا الموارد القابلة للنفاد مثل القليل من راسب القصدير الذي يمكن أن يستفيد به كروزو في صنع أوانٍ لطهي الطعام وصنارة للصيد.

السلعة الإنتاجية الوحيدة الأكثر أهمية وتنوعًا من حيث الاستخدام هي «عمل» كروزو نفسه، وهو سلسلة من الخدمات الإنتاجية يؤديها كروزو مستعينًا بجسده. وفي ضوء منطق المبادئ الاقتصادية، سيكون من المعقول جدًّا تصنيف العمل ضمن الموارد الطبيعية الأخرى التي وفرت قدرًا غير محدود من الخدمات. لكن الاقتصاديين اختصوا مفهوم العمل بمعاملة خاصة منذ القدم، لأنه عامل الإنتاج الوحيد الذي يملكه كل فرد، ولأنه السلعة الإنتاجية الوحيدة التي تتطلبها جميع عمليات الإنتاج. عندما يكرس كروزو جهده البدني لتحقيق إشباع غير مباشر لأهدافه، فهو يؤدي عملًا. ومن ناحية أخرى، إذا حقق إشباعًا مباشرًا لأهدافه من خلال التحكم في يديه ومخه … إلخ، يطلق الاقتصاديون على ذلك اسم «وقت الفراغ». سوف يوزع كروزو «قوته البدنية» بين الأنشطة الخاصة بالعمل وبوقت الفراغ لكي يحقق الأهداف الأكثر أهمية من وجهة نظره. تاريخيًّا، أشار الاقتصاديون إلى «عدم جدوى العمل» للتأكيد على حقيقة أن الأفراد يستمتعون استمتاعًا مباشرًا بوقت الفراغ، وأنهم لن يخصصوا جزءًا من وقتهم النادر للعمل إلا إذا حقق لهم ذلك (على نحو غير مباشر) غايات أكثر أهمية من وقت الفراغ الذي يضحُّون به.٣
وأخيرًا، «السلع الرأسمالية» هي عوامل الإنتاج التي ابتكرها البشر.٤ وكل سلعة رأسمالية هي نتاج المزج بين مورد طبيعي (واحد على الأقل) وبين العمل. وتُنتَج معظم السلع الرأسمالية أيضًا بمساعدة سلع رأسمالية (موجودة مسبقًا).٥ وفيما يتعلق بكروزو، فمن أمثلة السلع الرأسمالية شبكة صيد يصنعها من أغصان الكروم وجهده في العمل، ومأوى يبنيه من الصخور وفروع الأشجار والطين وأوراق الأشجار وجهده في العمل.

(٥) الدخل والادخار والاستثمار

الآن بتنا نعلم أن كروزو يستطيع تقسيم عالمه إلى أنواع مختلفة من الأشياء النادرة في فئات تضم الموارد الطبيعية، والعمل، والسلع الرأسمالية، والسلع الاستهلاكية (وتشمل وقت الفراغ). ويربط بين كل هذه العوامل الوقت، وإدراك كروزو أن أفعاله الآن قد تؤثر على سعادته في المستقبل. بمعنى أدق، يستطيع كروزو أن يدخر ويستثمر اليوم لكي يرفع دخله في المستقبل.

يشير «الدخل» إلى السلع (والخدمات) الاستهلاكية الجديدة التي يمكن للفرد أن يحصل عليها في غضون فترة زمنية.٦ ويحدث «الادخار» عندما يقل استهلاك الفرد عن دخله، أما «الاستثمار» فيحدث عندما تكرَّس عناصر الإنتاج لتوفير دخل في المستقبل، بدلًا من الاستهلاك الفوري.

في الدرس العاشر سنناقش بمزيد من التفصيل العلاقة بين الدخل والادخار والاستثمار في اقتصاد السوق المعاصر، حيث تتضمن معظم عمليات التبادل استخدام النقود. أما الآن، فنحن نبين في عجالة أن لهذه المفاهيم المتطورة أوجه تشابه حتى في اقتصاد كروزو.

من الأيسر أن نضرب مثالًا عدديًّا. وبالطبع فإن الأرقام التالية اختيرت من أجل التبسيط وتجسيد السيناريو بما يمكنك من التفكير في أنواع المفاضلات التي يواجهها كروزو. لنفترض أن كروزو وجد شجرة مناسبة يتسلقها ويُسقط منها ثمرة جوز واحدة كل ساعة بيديه العاريتين. إذا خصص كروزو ١٠ ساعات يوميًّا للعمل، وترك الباقي لوقت الفراغ (الذي يشمل النوم)، فهذا يعني أنه سيجني من عمله ١٠ ثمرات من الجوز في اليوم باستخدام الموارد الطبيعية المتاحة له على الجزيرة. ولحسن الحظ، فإن تناول ١٠ ثمرات من الجوز كل يوم يوفر تغذية كافية لبقاء كروزو بصحة جيدة. لكن العمل ١٠ ساعات يوميًّا دون الاستمتاع بيوم راحة ليس الأسلوب الأمثل في الحياة. وعلاوة على جدول العمل الشاق هذا، يدرك كروزو جيدًا أنه لو حدث وأصيب بالمرض أو بالأذى فمن السهل أن يلقى حتفه لأنه يكسب قوته يومًا بيوم.

هناك حل لهذه المشكلة؛ فكروزو رجل منظم ومدبِّر، ويدرك أن القدرة على الادخار والاستثمار يمكن أن تحسن مستوى معيشته إلى حد بعيد. وبعد تقييم وضعه على الجزيرة، سرعان ما يبدأ كروزو في ادخار ٢٠٪ من دخله عن كل يوم. أي إنه يواصل العمل ١٠ ساعات كل يوم، ويجمع (يكسب) ١٠ ثمرات من الجوز كل يوم، لكنه لا يأكل (يستهلك) سوى ٨ ثمرات فقط كل يوم، ويستقطع جانبًا (يدخر) ثمرتين من الثمار التي يجنيها كل يوم.

إذا استمرت حياة كروزو على هذا النحو ٢٥ يومًا، يكون قد جمع مخزون ٥٠ ثمرة. ومن هذا اليوم فصاعدًا، سيواصل كروزو تناول ١٠ ثمرات في اليوم، أي إنه يستهلك كامل ما يجنيه كل يوم. والسبب الرئيسي وراء توقف كروزو عن ادخار مزيد من ثمار الجوز أنه اكتشف أن طعمها يبدأ في التغير بعد مرور خمسة أيام من قطفها. ولذلك، بدأ نظامًا مريحًا، فأصبح يجني كل يوم ١٠ ثمرات طازجة ويضيفها إلى جانب من مخزونه، وطوال اليوم يتناول ١٠ ثمار قديمة من الجانب الآخر من المخزون. ومع تعاقب هذه الدورة، يتمكن كروزو من التمتع بتناول ١٠ ثمار كاملة (لا يزال طعمها جيدًا إلى حد بعيد) في اليوم، وفي الوقت نفسه يدخر ٥٠ ثمرة يسحب منها حالما اضطر إلى ذلك. على سبيل المثال: إذا أصيب كروزو بمرض استوائي أعجزه عن العمل، فسيكون قد ادخر ما يكفيه لمدة ١٠ أيام بنصف حصة اليوم المعتاد.٧ وبسبب استعداده للعمل الجاد وادخار ثمار هذا العمل، عزز كروزو وضعه المادي كثيرًا مقارنة بموقفه الأصلي. وبدلًا من أن يعيش على حافة الموت جوعًا، بات يملك الآن مخزونًا يكفيه عشرة أيام.

مسألة ادخار السلع الاستهلاكية وتجميعها مفيدة للغاية، لكن كروزو يدرك أن بوسعه فعل ما هو أفضل من ذلك. وبعد أن يقيِّم المواد المتاحة على الجزيرة، يقرر أن «يستثمر» مدخراته في مشروع طويل المدى يُتوقع أن يرفع دخله اليومي في المستقبل بمعدل ثابت. واعتمادًا على الخمسين ثمرة التي يدخرها كروزو، فإنه يقرر أن يتوقف عن جني المزيد من ثمار الجوز مدة يومين.

لكنه لن يستمتع براحة هو في أمس الحاجة إليها؛ بل على العكس، سيمضي كروزو اليوم الأول — عشر ساعات كاملة — يجوب الجزيرة، ويجمع الأغصان ذات الطول والسمك المناسبين. تمضي هذه العملية ببطء، لأن كروزو كلما رأى غصنًا مناسبًا احتاج أن يستخدم صخرة حادة لنشر الغصن قبل أن يقتلعه بأمان من الشجرة دون أن يتلفه.٨ خلال هذا اليوم، يتناول كروزو ١٠ ثمرات من الجوز، فيقل مخزونه إلى ٤٠ ثمرة. فعلى الرغم من أنه عمل طوال اليوم، فإنه لم يجن ثمارًا جديدة، بل صار لديه مجموعة من الأغصان الطويلة القوية التي بدَّل هيئتها ونقلها من مكانها الأصلي.

وفي اليوم الثاني يمضي كروزو خمس ساعات أخرى يستخدم الصخور الحادة في تجهيز الأغصان، ثم يمضي ساعتين في قطع أغصان الكروم ونقلها إلى المخيم. وأخيرًا، خلال الساعات الثلاث المتبقية من يوم العمل الثاني، يضع كروزو الأغصان على الأرض بحيث تتداخل نهاية كل غصن تداخلًا كبيرًا مع بداية الغصن الذي يليه، ثم يستخدم الكروم لربط الأغصان بإحكام بعضها مع بعض. في نهاية اليوم الثاني يتناقص مخزون كروزو من ثمار الجوز إلى ٣٠ ثمرة. لكن بالإضافة إلى ذلك (النقص) في احتياطي مدخرات كروزو، فهو الآن يملك سلعة رأسمالية جديدة، وهي عصا طويلة متينة.

في اليوم التالي يأخذ كروزو سلعته الرأسمالية الجديدة في جولة. وما أشد سروره حينما اكتشف أن جهده — مدعومًا بالسلعة الرأسمالية الجديدة — يمكِّنه من جني ٥ ثمرات في ساعة واحدة. وهذه زيادة كبيرة في «إنتاجية» كروزو مما يجعله يعتقد أنه كان يشق على نفسه في العمل! وبدلًا من العمل ١٠ ساعات يوميًّا في جمع الطعام، صار يمضي ٤ ساعات فقط يجني من ورائها ٢٠ ثمرة في اليوم، أي ضعف ما كان «يكسبه» بيديه فقط دون الاستعانة بشيء يساعده. ورغبة من كروزو في استعادة كامل مخزونه الذي تبقى معه الثمار صالحة للأكل، فإنه يدخر جزءًا مما يجنيه على مدى عدة أسابيع حتى يصل مخزونه الاحتياطي إلى ١٠٠ ثمرة.٩ مرة أخرى يمتلك كروزو مخزون خمسة أيام، لكن نصيب اليوم الواحد ٢٠ ثمرة. في حالة «التوازن» الجديدة، يمضي كروزو ٤ ساعات يوميًّا في جمع ٢٠ ثمرة جديدة يضيفها إلى مخزونه. وفي اليوم نفسه، يأكل العشرين ثمرة الأقدم (الأكثر نضجًا) من مخزونه.

من الواضح أن أوضاع السيد كروزو تتحسن. من قبل، كان عليه أن يمضي ١٠ ساعات من العمل الشاق كل يوم؛ فمن الصعب تسلق الأشجار طوال اليوم. لكن لقاء كل هذه المشقة، كان كروزو يحصل على ١٠ ثمرات من الجوز كل يوم. وبعد استثماره الحكيم في صنع سلعة رأسمالية، اكتشف أنه بحاجة إلى قضاء ٤ ساعات فقط في اليوم في إسقاط الثمار باستخدام العصا الخشبية، وهذه مهمة أسهل بكثير من تسلق الأشجار وقطف الثمار بيديه. أيضًا صار يحصل يوميًّا على ضعف ما كان يحصل عليه من قبل، وهو أقصى ما قد يرغب في تناوله من ثمار الجوز.

هناك نقطة واحدة مهمة لا بد من الإشارة إليها. إذا أراد كروزو الحفاظ الدائم على مستواه المعيشي الجديد والأفضل، فلا يمكنه أن يستمتع بوقت فراغ قدره ٢٠ ساعة يوميًّا. فبالإضافة إلى قضاء ٤ ساعات في جمع ثمار الجوز، عليه أن يخصص جزءًا من وقته النادر لصيانة عصاه الخشبية. افترض أنه بعد مرور أسبوع كامل على استخدام العصا، بدأت الأغصان المكونة لها في الالتواء، وتآكلت نهايتاها. معنى ذلك أنه بعد اليوم السابع من استخدام سلعته الرأسمالية الجديدة، سيحتاج كروزو لتخصيص بعض الوقت لاستبدال الغصنين الطرفيين، وإعادة ربط العصا كلها بفروع كروم جديدة.

الآن إذا عمل كروزو مدة ٤ ساعات فقط يوميًّا — الحد الأدنى — في جمع الجوز، فسيستمر في هذا التراخي سبعة أيام. وفي صبيحة اليوم الثامن سيجد كروزو أن عصاه قد صارت بلا جدوى، وسيتعين عليه قضاء (ربما) سبع ساعات من ذلك اليوم في جمع فروع كروم وغصنين جديدين، وتجميع العصا الجديدة. علاوة على ذلك، وبالإضافة إلى العمل ساعات طويلة، سيضطر كروزو للسحب من مخزونه، لأنه لن يتمكن من جمع أي ثمار جديدة في ذلك اليوم.

بدلًا من العمل وفق هذا الجدول المتقلب — سبعة أيام من العمل الخفيف مع جمع الكثير من ثمار الجوز، ثم يومًا من العمل الشاق دون جني أي من ثمار الجوز — يستطيع كروزو أن يوازن الأمور. ففي اليوم العادي في ظل التوازن الجديد يمكنه قضاء ٤ ساعات في جمع ٢٠ ثمرة جوز يضيفها إلى مخزونه (مع تناول العشرين ثمرة الأكثر نضجًا من مخزون المائة ثمرة). لكنه يستطيع أيضًا قضاء ساعة خامسة كل يوم في صيانة سلعته الاستهلاكية. وبهذه الطريقة وبعد مرور سبعة أيام، سيكون قد أمضى الساعات السبعة اللازمة من العمل لاستعادة العصا بعد أن بُليَت من استهلاكها طوال الأسبوع.١٠

وباستخدام المفاهيم الاقتصادية يمكننا أن نعاود وصف ما فعله كروزو. عندما استهلك كروزو أقل من دخله اليومي، فإنه ادخر بعض الثمار لبناء رصيد يقيه من الاضطرابات المفاجئة التي يمكن أن يتعرض لها دخله في المستقبل. علاوة على ذلك استثمر كروزو موارده فيما بعد في صنع سلعة رأسمالية رفعت إنتاجية عمله بدرجة كبيرة. وبعد إتمام صنع العصا يستهلك كروز «صافي» دخله اليومي فقط، لأنه استثمر ما يكفي من «إجمالي» دخله ليعوض «إهلاك» سلعته الرأسمالية.

(٦) تقييم السلع وِحدةً وِحدة

من أهم التطورات التي حدثت في النظرية الاقتصادية إدراك أن الأفراد يقيِّمون السلع وحدة وحدة، بدلًا من مقارنة فئات بأكملها من السلع بعضها مع بعض. وبلغة الاقتصاد، يقول الاقتصاديون اليوم إن الأفراد يقيِّمون السلع بناء على «المنفعة الحدية».

عادةً تُوضَّح هذه الطريقة الجديدة في التفكير باستخدام ما يطلق عليه «مفارقة الماء والماس». للوهلة الأولى يبدو غريبًا أن يكون سعر الماء منخفضًا إلى هذا الحد — حتى إن المطاعم تقدمه مجانًا! — بينما سعر الماس باهظ جدًّا. (جرب أن تطلب من النادل كوبًا آخر مملوءًا بالماس.) إذا فكر الاقتصاديون أن قيمة السلع مرتبطة في النهاية بمحاولات البشر تحقيق أهدافهم الشخصية، فكيف يكون الماس أعلى قيمة من الماء؟ فعلى أي حال، لن تحقق الكثير من أهدافك لو أنك متَّ عطشًا.

في مطلع سبعينيات القرن التاسع عشر، عمل ثلاثة اقتصاديين على إيجاد حل لهذه الإشكالية كل على حدة. صحيح أنه لكي نوضح قيمة شيء ما، لا بد من الدخول إلى رأس الشخص الذي يقيم هذا الشيء وفهم أهدافه. لكن عندما يجري هذا الشخص اختيارات في عالم الواقع، فإنه لا يواجه المفاضلة بين «الماء كله» أو «الماس كله». ولو كان ذلك هو الاختيار حقًّا، لاختار الشخص الماء على الأرجح. لكن في الحياة العادية، الماء متوافر بكثرة إلى درجة أن قيمة الجالون منه منخفضة للغاية. في المقابل، الماس ليس متوفرًا بما يكفي لتلبية استخدامات الأفراد كافة. لذلك فإن قيمة قطعة الماس مرتفعة للغاية. وهنا يقول الاقتصاديون إن الماس أشد ندرة من الماء.

ينطبق هذا المبدأ الخاص بتقييم السلع بواسطة الوحدات الفردية على عالم روبنسون كروزو. فمثلًا، تصور أن كروزو لم يأخذ حذره في إحدى الليالي وغلبه النعاس فجأة والنار لا تزال مشتعلة، فتهب رياح تحمل معها شرارة إلى كوخه البسيط (المبني من أغصان الأشجار والكروم وأوراق الشجر). عندما يستيقظ كروزو، سيجد الكوخ برمته مشتعلًا.

هنا يدرك أن عليه أن يهرع إلى الخارج قبل أن ينهار الكوخ فوق رأسه، لكن ليس لديه ما يكفي من الوقت إلا لإنقاذ شيء واحد فقط من الأشياء الموجودة في الكوخ وهي ثمرة جوز طازجة وساعة كان يرتديها وقت تحطم السفينة. أي شيء ينبغي عليه التقاطه وهو يجري فرارًا من النيران؟

قد يقول رأي سطحي: «ينبغي أن يأخذ ثمرة الجوز، على افتراض أن هدف تحاشي الموت جوعًا أكثر أهمية من الاحتفاظ بتذكار عديم القيمة يذكره بحضارته.»

لكن تلك الإجابة خاطئة؛ فثمرة الجوز هذه ليست الفارق بين الحياة والموت. والواقع أن كروزو لديه بالفعل ٩٩ ثمرة أخرى مخزنة بعيدًا عن النيران. وفي أسوأ الاحتمالات، كل ما سيترتب على التضحية بثمرة الجوز هو أن كروزو سيضطر يومًا ما (وليس اليوم التالي بالضرورة) لأن يأكل ١٩ ثمرة فقط، بدلًا من ٢٠ ثمرة كما اعتاد أن يفعل. وربما يقرر كروزو أن يعمل ١٢ دقيقة إضافية في وقت ما١١ ليجني ٢١ ثمرة ويعوض الثمرة التي التهمتها النيران.

المبدأ العام أن كروزو سيقيم السلعتين وحدة وحدة. فعندما يقرر قيمة ثمرة جوز مقارنة بساعة، فإنه يفكر في مدى تأثر أهدافه بكل من هذين الشيئين. لا يهتم كروزو على الإطلاق بأن مائة ثمرة من الجوز أكثر قيمة له من مائة ساعة؛ فهذا ليس القرار الذي يواجهه وهو يهرع خارج الكوخ المحترق، بل عليه أن يقرر هل ثمرة جوز واحدة أكثر قيمة من ساعة واحدة. وكما رأينا، فقدان ثمرة واحدة ليس أمرًا مهلكًا على الإطلاق. كل ما في الأمر أنه سيتعين على كروزو تناول قدر أقل بقليل مما اعتاد عليه في وقت ما، أو العمل فترة أطول قليلًا. الاقتصاديون يقولون إنه عند النقطة الحدية لا يكون فقدان ثمرة واحدة أمرًا مهمًّا على الإطلاق. ولذلك من الحكمة أن يلتقط كروزو الساعة التي يقدرها لأسباب عاطفية.

(٧) مما سبق: ماذا ينبغي لكروزو أن يفعل؟

أخيرًا بتنا على استعداد لتوضيح كيف يتصرف كروزو على أرض الواقع. لنوضح ذلك ببساطة، سيتخذ كروزو قرارات من أجل أن يحقق أهم أهدافه. وبلغة الاقتصاد، سيتصرف كروزو لتحقيق أعلى تفضيلاته مرتبة، وبعض الاقتصاديين يقولون إنه يحاول تحقيق أقصى قدر من المنفعة.

لكن هناك تنبيهًا مهمًّا. عندما يتخذ كروزو قرارًا، لا يمكنه ببساطة أن يفكر في «الفوائد» مثلما يراها من منظوره الشخصي. بل عليه أيضًا أن يفكر في «التكاليف». فتكلفة قرار ما القيمة التي يضعها كروزو على أهم أهدافه الذي لن يكون قادرًا على تحقيقه بسبب اتخاذ هذا القرار. وكثيرًا ما يوضح الاقتصاديون هذه النقطة باستخدام مصطلح «تكلفة الفرصة البديلة» التي يعرفونها بأنها القيمة الذاتية لثاني أهم البدائل التي يتعين التضحية بها بسبب اختيار ما.

حتى الآن، كنا نشرح طبيعة المفاضلات التي يواجهها كروزو عند اتخاذ قراراته اليومية. ومن دون أن ندرك أوجه الصلة بين خياراته، لن نستطيع فهم قراراته الفعلية. لنفكر — على سبيل المثال — في أفعاله وهو يهرع خارج الكوخ المشتعل. قلنا إنه واجه اختيارًا بين أمرين؛ التقاط ثمرة الجوز أو التقاط الساعة. لكن الواقع أننا تحايلنا قليلًا، فقد انتقلنا سريعًا إلى ما كنا نعلم أنه المفاضلة الفعلية. والواقع أيضًا أن كروزو كان أمامه كل أنواع الخيارات. فبدلًا من التقاط ثمرة الجوز أو الساعة، كان بوسعه استخدام يديه في لكم وجهه. أو كان من الممكن أن يلتقط الثمرة، ثم بعد ذلك يرميها فوق السقف المشتعل. الحقيقة أننا سلَّمنا بأن كروزو سيترك الكوخ في المقام الأول. ومن المؤكد أنه كان بوسعه تناول ثمرته الأخيرة بهدوء قبل أن يلقى حتفه مختنقًا بالدخان.

عندما ناقشنا أفعال كروزو بعد أن تسببت حماقته في اندلاع النار في كوخه، لم نكلف أنفسنا عناء تصور كل الاحتمالات السخيفة التي ذكرناها للتو. بل كنا نعلم يقينًا أن كروزو سيختار إنقاذ حياته أولًا وقبل كل شيء بالجري خارج الكوخ، لأننا نعتقد أنه يضع الحفاظ على حياته في مرتبة عالية جدًّا ضمن قائمة أهدافه المفضلة. (لنقل إنها كانت أعلى بكثير جدًّا من «الحصول على بضع دقائق أخرى من النوم».) وفي هذا السياق، علمنا أنه واجه القرار التالي بالتقاط شيء واحد فقط في طريقه للخروج من الكوخ. ولم نكلف أنفسنا عناء مقارنة فوائد إنقاذ الساعة، في مقابل تكلفة عدم قدرته على لكم وجهه بكلتا يديه. ما كان ذلك ليصبح وصفًا دقيقًا للتكلفة الحقيقية لفعله، لأنه من المفترض أن «متعة لكم الوجه» لا تحتل مرتبة عالية ضمن قائمة تفضيلات كروزو.

لكننا عندما حاولنا فهم القرار الذي كان كروزو بصدد اتخاذه، نظرنا إلى أفضل خيار كان سيضحي به لأنه قرر أن يلتقط الساعة. وفي قصتنا افترضنا أن ثاني أفضل البدائل أمام كروزو هو التقاط ثمرة الجوز.١٢ قد يفسر الاقتصادي تصرف كروزو على النحو الآتي: قرر كروزو أن فوائد اقتناء الساعة فاقت تكلفة خسارة ثمرة جوز. وهذا ببساطة ليس سوى تعبير مختلف عن قولنا إن الأهداف التي يمكن أن يحققها كروزو باستخدام ساعة و٩٩ ثمرة جوز أهم بكثير له من الأهداف التي يمكن أن يحققها ومعه ١٠٠ ثمرة جوز فقط.
القرارات الأخرى التي سيتخذها كروزو ستكون أكثر تعقيدًا، لكن المبدأ الأساسي سيظل واحدًا؛ فهو دائمًا يختار الخيار الذي تفوق فوائده تكاليفه. على سبيل المثال: عندما يقرر كروزو أن يعمل ساعة خامسة في يوم معين من أجل جمع المزيد من أغصان الكروم، فذلك لأنه يعتبر أن فوائد ذلك العمل تفوق تكاليفه. في هذه الحالة، تتمثل الفوائد في المتعة الإضافية التي سيجنيها من استهلاك مزيد من ثمار الجوز في المستقبل. (تذكر أنه بحاجة إلى أغصان الكروم للإبقاء على عصاه الخشبية في حالة جيدة، ليضرب بها ثمار الجوز.) والتكلفة هي القيمة التي يضعها كروزو على أهم أهدافه التي لن يتمكن من تحقيقها الآن. على سبيل المثال: افترض أن كروزو وهو في طريقه لجمع مزيد من الأغصان رأى كومة من الأغصان مقطوعة بعناية وملقاة على الأرض، نتيجة حدوث صاعقة برق استثنائية. في تلك الحالة، ربما يقرر الاستمتاع بساعة إضافية من وقت الفراغ. وذلك يعني أن تكلفة قراره الأول (قضاء ساعة في قطع الأغصان) كانت تعدل قيمة الحصول على ٢٠ ساعة من وقت الفراغ بدلًا من ١٩ ساعة في ذلك اليوم.١٣

النقطة الأخيرة التي نشير إليها في هذا الدرس هي أن «توقعات» كروزو — أي تنبؤاته بشأن المستقبل — تقف وراء كل أفعاله. فعندما يتخذ قرارًا معينًا، فهو يختار النتيجة التي يتوقع أن تعود عليه بفوائد أكثر من التكاليف. ومن الوارد أن يخطئ في توقعاته؛ فربما يمضي عدة أسابيع يجمع الأغصان ومواد أخرى من أجل بناء طوف، فهو يظن أنه سيتمكن من استخدامه في الهرب إلى أعالي البحار حيث يأمل أن ينقذه أحد. إن فوائد هذه الفرصة الضئيلة في النجاة أكثر أهمية لكروزو من وقت الفراغ الذي يضحي به أثناء بناء الطوف.

لكن بعد محاولات عديدة يدرك كروزو أن المحيط لن يسمح له بالهرب من الجزيرة على ظهر هذا الطوف. ولسوء الحظ لا يستطيع العثور على أي شيء على الجزيرة يصلح لأن يكون شراعًا ضخمًا. وهنا يدرك نادمًا أن الجهد الذي بذله في بناء الطوف ذهب سدى وكان مضيعة للوقت، أو بمعنى أدق، مضيعة لوقت الفراغ.

بالرغم من الخطأ الذي وقع فيه كروزو، فلا نزال نحن الاقتصاديين نفسر اختياراته السابقة بقولنا إنه اعتقد أن فوائد الخروج إلى البحر المفتوح أكبر من تكلفة عدة ساعات من وقت الفراغ. وحتى لو لم تكن تلك هي المفاضلة الصحيحة، فقد ظنَّها كروزو كذلك. وفي النهاية فإن معتقدات كروزو (وتفضيلاته) هي التي وجَّهت قراراته في اتجاه بعينه.

خلاصة الدرس

  • يمكننا أن نتعلم الكثير من المفاهيم والمبادئ الاقتصادية الأساسية بدراسة اقتصاد تخيلي قوامه شخص واحد فقط. وبعد إتقان المفاهيم في مثال مبسط، يمكننا تطبيقها على سياقات أكثر تعقيدًا (وواقعية) تتضمن العديد من الأشخاص.

  • أحد أهم القرارات التي يتخذها الشخص تدور حول ما إذا كان سيخصص الوقت والموارد الأخرى لتلبية احتياجات الحاضر أم المستقبل. من خلال الادخار والاستثمار، يضحي الأفراد بالمتع الحالية لكنهم يحصلون على متع أكبر بكثير في المستقبل.

  • يقول الاقتصاديون إن الفرد مستعد للمشاركة في «وحدات» أكثر من نشاط معين ما دامت الفوائد الذاتية أكبر من التكاليف.

مصطلحات جديدة

  • يقتصد: يستخدم موردًا ما بحذر لأنه نادر ويمكنه إشباع عدد محدود فحسب من الأهداف أو التفضيلات.
  • سلع وخدمات استهلاكية: عناصر مادية أو خدمات نادرة تشبع تفضيلات الشخص على نحو مباشر.
  • سلع إنتاجية/عوامل إنتاج/وسائل إنتاج: عناصر مادية أو خدمات نادرة تشبع التفضيلات على نحو غير مباشر، لأنها يمكن أن تستخدم لإنتاج سلع وخدمات استهلاكية.
  • الأرض/الموارد الطبيعية: عوامل إنتاج وهبتنا إياها الطبيعة.
  • العمل: مساهمة الجهد البشري في عملية الإنتاج.
  • وقت الفراغ: نوع خاص من السلع الاستهلاكية ينتج عن استخدام جسم المرء (ووقته) لإشباع تفضيلاته على نحو مباشر، في مقابل القيام بعمل ما.
  • عدم جدوى العمل: مصطلح يستخدمه الاقتصاديون لوصف حقيقة تفضيل الأفراد وقتَ الفراغ على العمل؛ فهم لا يعملون إلا انتظارًا لثمار العمل غير المباشرة.
  • سلع رأسمالية: سلع إنتاجية يصنعها البشر، وهي ليست هبات مباشرة من الطبيعة.
  • الدخل: تدفق السلع والخدمات الاستهلاكية التي يمكن أن يستمتع بها الفرد خلال فترة محددة من الزمن.
  • الادخار: استهلاك جزء من الدخل فقط؛ أي العيش بما هو دون ما يكسبه المرء.
  • الاستثمار: تحويل الموارد إلى مشروعات يتوقع أن تزيد الدخل في المستقبل.
  • الإنتاجية: مقدار الإنتاج الذي ينتجه عامل إنتاج معين خلال فترة من الزمن، وغالبًا ما يستخدم هذا المصطلح للإشارة إلى العمالة.
  • التوازن: موقف مستقر يحدث بعد تسوية كل الاضطرابات أو التغيرات.
  • الإهلاك: استنزاف أو استهلاك السلع الرأسمالية خلال دورة الإنتاج.
  • المنفعة الحدية: مصطلح اقتصادي يشير إلى المنفعة الذاتية التي يحصل عليها الفرد من استهلاك وحدة إضافية من سلعة أو خدمة.
  • الفوائد: المتع الذاتية الناتجة من فعل معين.
  • تكلفة الفرصة البديلة: فوائد ثاني أفضل الخيارات لفعل محدد.
  • التوقعات: تنبؤات الفرد بشأن المستقبل، وتنطوي على فهمه لكيفية سير العالَم، ومن ثمَّ فإنها توجِّه أفعاله الحالية.

أسئلة الدرس

(١) هل يؤمن علم الاقتصاد بأن الأفراد يتصرفون بمعزل عن بقية المجتمع؟
(٢) ماذا يعني قولنا إن كروزو ينتج سلعًا باستخدام «قدراته العقلية»؟
(٣) هل يمكن أن نبذل في وقت الفراغ مجهودًا بدنيًّا أكبر من الذي نبذله في العمل؟
(٤) لماذا ينبغي لكروزو أن يقلق بشأن إهلاك سلعه الرأسمالية؟
(٥) كيف تؤثر التوقعات على قرارات الفرد؟

هوامش

(١) ربما يكون القرَّاء المعاصرون على دراية أكبر بشخصية «توم هانكس» في فيلم «المنبوذ» (كاست أواي) الصادر عام ٢٠٠٠.
(٢) إذا استخدم كروزو العصا في إضرام النيران، فلن يتمكن من استخدامها في إسقاط ثمار الجوز. لكن دور الجاذبية في إسقاط ثمار الجوز سيظل كما هو بصرف النظر عن تصرفات كروزو.
(٣) لاحظ أن «وقت الفراغ» لا يعني بالضرورة التسكع على الشاطئ، وكذلك «العمل» لا يعني بالضرورة بذل جهد بدني. فربما يرغب كروزو في السباحة في المحيط وهو ما يُعَد بمنزلة تمرين بدني، بل وربما سيظل يشعر بألم في عضلاته إلى اليوم التالي. لكن قبل أن يمتِّع نفسه بهذا النشاط، فإنه يقوم أولًا بأداء عمل يبعث على الكثير من الملل — ولكنه غير مرهق بدنيًّا — وهو جمع الأغصان الصغيرة لإشعال النيران تلك الليلة.
(٤) كلا العنصرين الداخلين في هذا التعريف مهمَّان. إذا صنع كروزو سلعًا ولم تكن عوامل إنتاج، فلن تكون سلعًا رأسمالية، بل ستكون سلعًا استهلاكية. وإذا كانت لديه سلع هي عوامل إنتاج لكنه لم ينتجها، فلن تكون سلعًا رأسمالية أيضًا، وإنما ستكون موارد طبيعية.
(٥) المنطقي أن «أول» سلعة رأسمالية أُنتجت في تاريخ البشر لا بد أنها قد أُنتجت عندما استخدم أحد الأفراد جهده في تحويل هبات الطبيعة إلى أحد عوامل الإنتاج.
(٦) عمليًّا، يشير «إجمالي الدخل» إلى الحد الأقصى من الاستهلاك خلال فترة زمنية محددة، بينما يشير «صافي الدخل» إلى الحد الأقصى من الاستهلاك الممكن، وذلك بعد إجراء الاستثمار اللازم الذي من شأنه الحفاظ على إجمالي دخل الفترة المقبلة عند المستوى نفسه.
(٧) يمكننا افتراض أن مذاق ثمار الجوز لن يكون على الدرجة نفسها من الطيب، ولكنها لا تزال صالحة للأكل بحلول اليوم العاشر على إسقاطها من فوق الشجرة.
(٨) لاحظ أن الصخرة الحادة مورد طبيعي يستخدمه كروزو إلى جانب جهده من أجل إنتاج سلعة رأسمالية هي الغصن المبريّ.
(٩) عندما بدأ كروزو يومه الأول في استعمال العصا، كان لديه مخزون من ثلاثين ثمرة من ثمار الجوز. إذا استهلك ١٥ ثمرة من أصل ٢٠ يجمعها يوميًّا، فسيحتاج أسبوعين كاملين لتجميع مخزون من ١٠٠ ثمرة. وبعدها — أي في اليوم الخامس عشر من صنعه العصا — يصبح بإمكانه استهلاك دخله اليومي الذي يتكون من ٢٠ ثمرة.
(١٠) كي تكتمل القصة، عمليًّا سيتعين على كروزو العمل الساعة الخامسة من اليوم السابع إضافة إلى ساعة العمل الأولى من اليوم الأول في الأسبوع التالي، وذلك من أجل استبدال الغصنين الطرفيين اللذين بُليا من الاستخدام وإعادة ربط العصا بأكملها باستخدام أغصان جديدة. وسبب هذه الإشكالية أنه حتى لو قضى كروزو سبع ساعات في إصلاح العصا التالفة، لما تمكن من توزيع العمل بالتساوي على آخر ساعة من كل يوم على مدار أسبوع. إذا كنت مدققًا، وتريد حقًّا تحديد كيفية قضاء كروزو الوقت كل يوم، فضع في اعتبارك أن أمامه خيار تخصيص ما يزيد عن ٤ ساعات من أحد الأيام لجمع ثمار الجوز (مع استهلاك ٢٠ ثمرة فحسب في ذلك اليوم) بحيث يزداد المخزون مؤقتًا عن ١٠٠ ثمرة. بعدها وفي يوم لاحق عندما يريد كروزو تخصيص أكثر من الساعة الخامسة لصيانة العصا، يمكنه الاعتماد على الزيادة في المخزون. وهكذا فإنه بالتخطيط الملائم تكون جميع الأرقام دقيقة؛ فلا يقل المخزون أبدًا عن ١٠٠ ثمرة، ولا يضطر كروزو لتناول ثمرة مر عليها أكثر من خمسة أيام.
(١١) تذكر أن كروزو يمكنه جمع ٥ ثمرات جوز في الساعة باستخدام عصاه، بمعنى أنه يجمع ثمرة واحدة كل ١٢ دقيقة.
(١٢) بعبارة أخرى، إذا كانت الساعة خارج الكوخ فعلًا، فربما قرر كروزو إنقاذ ثمرة الجوز.
(١٣) تذكر أن كروزو يقضي الساعات الأربع الأولى من اليوم في جمع ثمار جوز الهند. وعندها يكون قد تبقى أمامه ٢٠ ساعة في اليوم. إذا قضى ساعة خامسة في جمع الأغصان، فسوف يتبقى أمامه ١٩ ساعة فقط من أجل وقت الفراغ تدخل فيها ساعات النوم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤