الدرس السابع

التبادل غير المباشر وظهور النقود

ستتعلم في هذا الدرس

  • حدود التبادل المباشر.

  • مميزات التبادل غير المباشر واستخدام النقود.

  • منشأ النقود.

(١) حدود التبادل غير المباشر

في الدرس السادس درسنا الفوائد الهائلة للتبادل المباشر. فنظرًا لاختلاف أذواق الأفراد (أو تفضيلاتهم)، ونظرًا لأنهم كثيرًا ما يبدءون عمليات التبادل ولدى كل منهم كميات مختلفة من سلع مختلفة، فهناك مكاسب تُجنى من وراء التبادل. يستطيع الأفراد أن يتبادلوا ممتلكاتهم طواعية فيما بينهم، بحيث ينتهي التبادل بامتلاك كل منهم سلعًا أخرى يقدرها أكثر من السلع التي كان يمتلكها من قبل.

لكن على الرغم من أن التبادل المباشر يعود بالنفع على كل من يشارك فيه، فهناك حدود لنفعه. والواقع أنه يصعب تصور عالم لا يتعامل الأفراد فيه إلا بالتبادل المباشر؛ في مقابل التبادل غير المباشر (الذي سنتناوله في الجزء التالي). لكن لكي نتعرف على الفارق المهم بينهما، دعونا نتخيل عالَمًا لا يتعامل فيه الأفراد إلا بالتبادل المباشر.

تذكر أنه في التبادل المباشر لا بد أن يكون كل شخص راغبًا في استخدام الشيء الذي حصل عليه من التبادل استخدامًا مباشرًا. لذا سنستبعد أي حالة يتخلى فيها الشخص عن شيء يمتلكه مقابل الحصول على شيء آخر ينوي التنازل عنه لشخص ثالث. وقد تبين أن ذلك القيد صارم للغاية.

على سبيل المثال: سنفترض أن مزارعًا ذهب إلى البلدة ليصلح حذاءه البالي، ويشتري ثوبًا جديدًا، وأنه أحضر معه عشرات البيضات على أمل مقايضتها. لا يتعين على هذا المزارع المسكين العثور على إسكافي ماهر يصلح له حذاءه فحسب، بل العثور على إسكافي يكون في حاجة إلى البيض في هذا اليوم تحديدًا. وينطبق نفس الأمر على محاولته شراء ثوب جديد؛ إذ يحتاج شخصًا لديه ثوب يعجبه ويكون على استعداد للتنازل عن الثوب مقابل الحصول على البيض (وبسعر مقبول).

لكن إذا كنت تظن الوضع سيئًا مع هذا المزارع، فهو أكثر سوءًا مع الرجل الذي يصنع عربات الخيول. فهو عندما يأخذ عربة إلى السوق، يتوقع الحصول على تشكيلة واسعة من السلع والخدمات مقابل سلعة مرتفعة الثمن كالعربة. لكن لو كانت التعاملات تقتصر على التبادل المباشر، لكان من الصعب عليه أن يجد شريكًا مناسبًا لإتمام التبادل؛ إذ لن يكون عليه العثور على شخص يمتلك تشكيلة مناسبة من اللحم والبيض واللبن والثياب وبقية المؤن التي يفضلها صانع العربة على عربته، بل يجب أن يكون هذا البائع موجودًا في السوق من أجل شراء عربة خيول على وجه التحديد. ما احتمالات حدوث ذلك؟

الواقع أننا في عالم يقتصر على التبادل المباشر لن نجد صانعين لعربات الخيول، وعلى الأرجح لن نجد أيضًا أساكفة. لن يتمكن الأفراد من التخصص في مهن محددة، لأن ذلك سيعد نوعًا من المخاطرة غير المحسوبة. فمثلًا: أي مدرس يستطيع تعليم الأطفال دروس الحساب والنحو مقابل الحصول على الحليب والخبز والكيروسين التي سيعطيها إياه آباء هؤلاء الأطفال. لكن لو تصادف في إحدى السنوات أنه لم يكن هناك أي جزار لديه أطفال في سن التعليم، فسيتعين على المدرس أن يستغني عن اللحم طوال هذه السنة!

وهكذا نرى أنه في عالم التبادل المباشر، سيعيش الأفراد حياةً مثل حياة روبنسون كروزو. سيكون عليهم تلبية احتياجاتهم على نحو مباشر، فيحصلون على طعامهم بأنفسهم، ويحيكون ملابسهم، ويبنون منازلهم وهلم جرًّا. وسيكون مستواهم المعيشي أعلى بكثير، نظرًا للمكاسب التي يحققونها من جراء التبادل فيما بينهم، لكن التخصص وعمليات الإنتاج واسعة النطاق لن تكون ممكنة.

(٢) مزايا التبادل غير المباشر

تعرفنا على قيود التبادل المباشر. يمكن التغلب على تلك القيود عندما يبدأ الأفراد في استخدام التبادل غير المباشر. وفي التبادل غير المباشر، يتخلى أحد الطرفين على الأقل عن سلعته مقابل الحصول على شيء ينوي أن يستبدل به شيئًا آخر في المستقبل. فما إن تتاح هذه الإمكانية حتى تختفي القيود التي يفرضها التبادل المباشر.

على سبيل المثال: لنعد إلى المزارع الذي ذهب إلى البلدة حاملًا بضع عشرات من البيضات يريد تصليح حذائه وشراء ثوب جديد. ولنفترض أن الإسكافي الوحيد في البلدة قال له: «عذرًا، لست بحاجة إلى البيض اليوم.» في حالة التبادل المباشر ستكون هذه هي النهاية.

لكن في حالة التبادل غير المباشر، بإمكان المزارع أن يسأل: «ما الذي تود الحصول عليه مقابل تصليح حذائي؟» لنفترض أن الإسكافي أجاب: «سأصلح حذاءك إذا أعطيتني على الأقل ٦ أرطال من الزُّبد، أو ٤ أرغفة من الخبز، أو رطلًا من اللحم المقدد. هذه هي الأشياء التي أحتاجها اليوم.»

هذا يعطي أملًا للمزارع. الآن بإمكانه أن يتجول في البلدة (بحذائه البالي) ليبحث عن شخص في حاجة إلى البيض وعلى استعداد لإعطائه في المقابل زبدًا أو خبزًا أو لحمًا مقددًا. فبدلًا من الحاجة إلى العثور على الشخص المثالي — وهو إسكافي يبحث عن بيض في هذا اليوم تحديدًا — أصبح أمام المزارع ثلاثة مرشحين محتملين قد يساهمون في تحقيق الغرض.

ويمكن أن يتخذ المزارع خطوة أخرى اعتمادًا على مقدار الوقت الذي يرغب في قضائه في هذه العملية برمتها. سنفترض أنه عثر على جزار لديه فائض من اللحم المقدد يحاول بيعه، لكن الجزار (شأنه شأن الإسكافي) ليس بحاجة إلى البيض اليوم، وإنما يريد بعض السمك. بعد بضع دقائق يقابل المزارع صيادًا عاد لتوه من رحلة صيد، ويتوق لتناول طبق من البيض المقلي. ويا لها من فرصة أتيحت أمام هذا المزارع!

في حالة التبادل المباشر كان يتعين على المزارع العثور على الشخص المثالي، وهو إسكافي يرغب في الحصول على البيض. بينما في التبادل غير المباشر يظهر نطاق شاسع من التبادلات النافعة، لا سيما إذا كانت أطراف التبادل على استعداد لقبول عدة خيارات وليس خيارًا واحدًا. تتمثل المزايا الهائلة للتبادل غير المباشر في أنه يسهل إعادة ترتيب الممتلكات بين عدة أفراد، بحيث يصبحون جميعًا أفضل حالًا مما كانوا عليه، حتى ولو اعترض أحد الأطراف على تبادل بعينه ضمن مجموعة التبادلات التي تحدث. الشكل التالي يوضح المثال:
مراتب الاستخدام المباشر الإسكافي المزارع الجزار
١ لحم مقدد حذاء سليم بيض
٢ وقت فراغ بيض لحم مقدد
٣ بيض لحم مقدد حذاء سليم

لكي نبقي المثال بسيطًا لم ندرج الصياد في الجدول الموضح أعلاه؛ فقد افترضنا أن المزارع تمكن من العثور على جزار يريد البيض في مقابل اللحم المقدد. وكما يوضح الجدول، يصبح الرجال الثلاثة أفضل حالًا عندما: (١) يصلح الإسكافي حذاء المزارع. (٢) يعطي المزارع البيض للجزار. (٣) يعطي الجزار اللحم المقدد للإسكافي. هكذا يصبحون أفضل حالًا لأنهم انتقلوا من المرتبة الثانية إلى المرتبة الأولى ضمن قائمة تفضيلاتهم. (لاحظ أن المواقع الأصلية لكل منهم مظللة باللون الرمادي.)

لكن لاحظ أن هذا التبادل المفيد للممتلكات ما كان ليحدث في حالة التبادل المباشر. ونحن نعلم بالفعل من القصة الأولى أنه ما من أرباح مباشرة يمكن أن تتحقق من التبادل بين الإسكافي والمزارع، مثلما يتضح من الشكل السابق، لأن الإسكافي يقدر وقت فراغه أكثر مما يقدر البيض الذي يعرضه عليه المزارع. يوضح الشكل أيضًا أن الجزار يقدر اللحم أكثر من إصلاح الإسكافي حذاءه، ولذا لا توجد فوائد مباشرة من التبادل بينهما. وأخيرًا، لا توجد فوائد مباشرة من التبادل بين المزارع والجزار، لأن رغبة المزارع المباشرة في الحصول على اللحم تقع في المرتبة الثالثة. ولو كان المزارع والجزار الشخصين الوحيدين في هذا التبادل، لما وافق المزارع على إجراء التبادل.

تكمن قيمة التبادل غير المباشر في أنه يسمح بنقل السلع (والخدمات) على نطاق عالمي للتغلب على الصعوبات التي يفرضها التبادل المباشر. وكما يوضح المثال الذي أشرنا إليه، يسمح التبادل غير المباشر للجميع بالانتقال إلى مرتبة أعلى بكثير ضمن قائمة التفضيلات، من خلال عناء مؤقت سرعان ما يزول بعد مبادلة السلعة الأقل تفضيلًا. فعندما يتعلق الأمر بإعادة الترتيب المربح للأملاك، ييسر التبادل غير المباشر فكرة: «خطوة للوراء، خطوتان نحو الأمام».

(٣) مزايا النقود

تعرفنا على مزايا التبادل المباشر، وعلى المزايا الأكبر للتبادل غير المباشر. لكن حتى إذا بدأ الأفراد في قبول أشياء يخططون لمبادلتها مرة أخرى بغرض الحصول على مبتغاهم النهائي، فلا تزال هذه العملية بطيئة ومزعجة. ولكي تدرك السبب في ذلك، تذكر المثال الذي أوردناه عن المزارع ذي الحذاء البالي؛ فعلى الرغم من أنه نجح في النهاية في الحصول على ما كان يريد، فقد كان عليه أن يتجول طويلًا في البلدة ليتمكن من العثور على الأشياء التي طلبها الإسكافي.

بالإضافة إلى الجهد البدني المبذول، ينبغي أيضًا أن نلفت النظر إلى المجهود الذهني الذي ستضطر الأطراف المشاركة في عمليات التبادل لبذله كي يتمكنوا من متابعة عشرات وربما مئات من أسعار التبادل المهمة. على سبيل المثال: تعالوا نسترجع قصة المزارع وهو يحاول أن يعثر على مشترٍ للبيض الذي يملكه لكي يتمكن من إعطاء الإسكافي ما يكفي من اللحم ليصلح له حذاءه. في هذا المثال، افترضنا أن المشكلة وجدت طريقها إلى الحل حالما التقى المزارع بالصياد.

الواقع أنه كان يمكن للمزارع أن يتوصل إلى اتفاق أفضل. إذا كان الصياد على استعداد لبيع ٣ سمكات مقابل ٦ بيضات، وكان الجزار على استعداد لبيع رطل من اللحم مقابل ٣ سمكات، لأدرك المزارع أنه يمكنه تصليح حذائه مقابل التنازل عن ٦ بيضات!

لو كان هذا هو الخيار الوحيد المطروح أمام المزارع، لظن أن الأمر يستحق هذا السعر. لكن ماذا لو كانت البلدة كبيرة جدًّا، وفيها العديد من التجار والحرفيين؟ سنفترض أن المزارع تمكن من العثور على خباز على استعداد للتخلي عن ٤ أرغفة مقابل الحصول على ٥ بيضات فقط. في هذه الحالة سيقول المزارع: «حسنًا، يمكنني أن أصلح حذائي مقابل ٥ بيضات فقط.» لاحظ أن هذا السعر أرخص من السعر الذي عرضه الصياد بمقدار بيضة واحدة.

على الأرجح بدأ الأمر يختلط عليك بسبب كثرة التفاصيل. لكن في عالم الواقع سيضطر الأفراد لمتابعة أسعار صرف مختلف السلع، بعضها مقابل بعض، كي يكونوا قادرين على تحديد مدى نجاح الصفقات التي يعقدونها. وهكذا نرى احتمالًا لأن يكون التبادل غير المباشر سلاحًا ذا حدين؛ فهو نعمة لأنه يسمح للعديد من الأفراد بإجراء عمليات معقدة (لكنها مفيدة بإجماع الكل) لإعادة ترتيب ممتلكاتهم، لكنه نقمة أيضًا لأن الأفراد في هذه الحالة لا يعتمدون على تفضيلاتهم فحسب عند اتخاذ قرار بشأن إتمام التبادل وبشأن عدد الوحدات التي سيتنازلون عنها أو يحصلون عليها من السلع. فقبل التخلي عن أي شيء لا يريدونه، عليهم أن يتساءلوا أولًا: «بكم يمكنني بيع هذا إذا انتظرت مشتريًا آخر؟»

تزداد صعوبة السؤال السابق عندما يحتاج التجار التفكير في خطوتين أو ثلاث أو أكثر لكي يتمكنوا من معرفة السعر النهائي للشيء الذي يحاولون شراءه. انظر كيف تعقدت الأمور في المثال الخاص بالمزارع حتى بعد أن طرحنا عددًا قليلًا من المتداولين وعروضهم. من الناحية النظرية، إذا أراد المزارع التأكد من حصوله على خدمة تصليح الحذاء لدى الإسكافي مقابل أقل سعر ممكن، فعليه أن يجوب البلدة كلها ويدون السعر الذي سيعرضه كل فرد مقابل السلعة التي سيتنازل عنها، وبعدها سيحتاج إلى عبقري في الرياضيات كي يساعده في حل هذه المسألة المعقدة، ويريه سلسلة (ربما تكون طويلة جدًّا) من عمليات التبادل التي يمكنه من خلالها التخلي عن أقل عدد ممكن من البيض مقابل الحصول في النهاية على ٦ أرطال من الزبد أو ٤ أرغفة أو رطل من اللحم (وهي الأشياء التي أصر الإسكافي عليها قبل إصلاح الحذاء).

بالطبع لسنا في حاجة في عالم الواقع إلى المرور بهذه التجربة الذهنية الشاقة في كل مرة نرغب فيها في إجراء تبادل ما. وبدلًا من ذلك، فإننا نستخدم «النقود» التي يمكن تعريفها بأنها: «وسيط تبادل مقبول على نطاق واسع.» بعبارة أخرى، النقود سلعة تقع في أحد جانبي أي عملية تجارية. فبدلًا من إجراء تبادل مباشر بين السلع، يبيع الأفراد ممتلكاتهم أولًا للحصول على النقود، ثم يستخدمون النقود لشراء كل ما يرغبون فيه.

عندما يستخدم أفراد المجتمع النقود، فهم يستفيدون بكل مزايا التبادل غير المباشر ويقللون عيوبه أيضًا. وبدلًا من معرفة عشرات أو حتى مئات من أسعار التبادل لمختلف السلع المعروضة والمطلوبة، يمكِّن استخدام النقود أطرافَ التبادل من معرفة أعلى الأسعار وأقلها فحسب من السلع التي يرغبون في الحصول عليها.

على سبيل المثال: إذا كانت البلدة المذكورة في مثالنا تستخدم الفضة كنقود متداولة، ففي هذه الحالة ستسهل مهمة المزارع ذي الحذاء البالي إلى حد ما. فعندما يذهب إلى البلدة، سيبحث عن الشخص الذي سيعرض أكبر عدد من أوقيات الفضة مقابل البيض الذي يملكه. وعندما يحصل على الفضة، سيبحث عن الشخص الذي سيصلح له حذاءه مقابل أقل عدد من أوقيات الفضة. وما دام جميع من بالبلدة يبيعون ويشترون باستخدام الفضة، فستضمن الخطوات السابقة إصلاح حذاء المزارع (وحصوله على كل ما يريد) مقابل أقل عدد ممكن من بيضاته. فهو لم يعد بحاجة إلى تدوين رغبات كل شخص يقابله — إذ لن تعنيه رغبات الآخرين في شيء — كما لم يعد بحاجة لعبقري في الرياضيات ليحل مسألة رياضية معقدة يصل من خلالها إلى أفضل الأسعار الممكنة.١

(٤) من اخترع النقود؟

الإجابة: «لا أحد.» فكما هو الحال مع طريق ترابي وسط غابة، أو اللغة الإنجليزية، أو موسيقى روك آند رول، أو قواعد لعبة الشطرنج، أو تسريحات الشعر خلال ثمانينيات القرن العشرين، لم يستيقظ أحد صبيحة أحد الأيام ليخترع النقود. بل ظهرت النقود تدريجيًّا عبر الزمن باعتبارها نتيجة تراكمية لتصرفات أناس عديدين. والنقود مثال نموذجي على ما أسماه الاقتصادي النمساوي فريدريك هايك «نظام عفوي»، بمعنى أن استخدام النقود عملية بالغة الفائدة والتعقيد، مع أنه لم يخطط لها أي خبير أو حتى مجموعة خبراء. استخدم هايك كلمات الفيلسوف الاسكتلندي آدم فيرجسون في وصف الأنظمة العفوية (بما في ذلك النقود واللغات) بأنها «نتاج الفعل البشري وليست بتخطيط البشر».

اليوم، يكاد جميع البشر ينظرون إلى النقود باعتبارها أوراقًا تصدرها الحكومة. لكن الأمر لم يكن كذلك دائمًا. تاريخيًّا، ظهرت النقود أولًا في الأسواق كنتيجة طبيعية لعمليات التبادل الطوعية بين أفراد عاديين. رأى الملوك وغيرهم من الحكام السياسيين المكاسب التي يمكن حصدها وتدريجيًّا وضعوا أيديهم على هذا النظام الذي أوجده السوق، كما سنرى بمزيد من التفصيل في الدرس الحادي والعشرين.

لكن من دون تدخل أحد الملوك الحكماء، كيف كان للمجتمع أن يستخدم النقود؟ كيف يقرر الجميع ما يستخدمونه؟ يقول الباحثون إنه على مر التاريخ استخدمت الحضارات المختلفة مختلف الأشياء المادية باعتبارها نقودًا، مثل الأصداف البحرية، والأحجار، ورءوس الماشية، والملح، والتبغ، والذهب، والفضة، وحتى السجائر (في معسكرات الأسرى أثناء الحرب العالمية الثانية). كيف يمكن لمجموعة من الأشخاص أن تتفق على تعيين سلعة معينة لتكون نقودًا من دون اللجوء إلى عملية سياسية؟

الإجابة أن ذلك على الأرجح كان نتاجًا طبيعيًّا لجهود بذلها أناس مثل مزارعنا الافتراضي الذي كان يسعى لتصليح حذائه. تذكر أنه على الرغم من أن المزارع لم يكن بحاجة مباشرة إلى السمك أو اللحم المقدد — فهو لم يذهب إلى البلدة ليحصل على أي منهما — لكن انتهى به الأمر ببيع بيضه مقابل بعض السمك، كي يبيع السمك مقابل اللحم، ثم يعطي اللحم للإسكافي مقابل تصليح حذائه. لاحظ أن الصياد والجزار شهدا طلبًا على منتجاتهما في السوق بسبب عملية التبادل غير المباشر. بعبارة أخرى، بالإضافة إلى كل الأشخاص الذين كانوا يريدون شراء السمك ليستخدموه مباشرة، حظي الصياد بزبون إضافي، وهو المزارع الذي أراد أن يستخدم السمك على نحو غير مباشر باعتباره «وسيط تبادل».

قد تتطور هذه العملية بوتيرة أسرع. في البداية عندما كان الأفراد يتبادلون السلع تبادلًا مباشرًا، كانت بعض السلع (مثل الدجاج والبيض والملح … إلخ) تحظى بطلب واسع النطاق، بينما سلع أخرى (مثل التلسكوبات والكافيار والقيثارات … إلخ) لا تلقى قبولًا إلا من قبل فئة محدودة من الأفراد. وعندما انتبه المزيد من الأفراد إلى مزايا التبادل غير المباشر، شهدت السلع التي كانت تحظى برواج من قبل طفرة كبيرة في رواجها. حتى أولئك الذين لم يكونوا في حاجة مباشرة لهذه السلع الرائجة، كانوا يقبلونها في التبادل لأنهم يعلمون أنها ستكون سهلة التداول مع الآخرين، ومن ثم يحصلون في النهاية على ما يريدون. إذا بلغت عملية التطور هذه نقطة يكاد يقبل الجميع عندها التبادل بسلعة بعينها، فسيكون هذا بداية ظهور النقود التي عرَّفناها بأنها «وسيط تبادل مقبول على نطاق واسع».

لكي نفهم لماذا أصبحت بعض السلع على مر التاريخ نقودًا بينما لم يصبح البعض الآخر كذلك، يمكننا ذكر عدد من الاعتبارات العملية مثل: (١) سهولة النقل. (٢) قابلية القسمة. (٣) التحمُّل. (٤) قيمة سوقية ملائمة. عندما نتأمل هذه المعايير الأربعة ندرك السبب وراء تميز الذهب والفضة عن غيرهما من السلع عند استخدامهما نقودًا. فالماشية مثلًا ليست وسيلة عملية لتُستخدم نقودًا لأنها تحدث رائحة كريهة، وتشغل حيزًا كبيرًا، بالإضافة إلى أنه لا يمكنك أن تقسم عجلًا إلى نصفين لتحصل على «فكة» أثناء إتمام إحدى المعاملات. الحلوى المثلجة أيضًا ما كانت لتصمد أمام الزمن إذا استُخدمت نقودًا، فهي تذوب إذا لم تُحفظ في ظروف معينة. وأخيرًا، يتمتع معدن مثل البرونز بالكثير من السمات الممتازة شأنه في ذلك شأن الذهب والفضة، لكن نظرًا لأنه موجود بوفرة فهو لا يحظى بقيمة سوقية مرتفعة. فذلك يعني أن المتداولين سيحتاجون حمل الكثير من البرونز في جيوبهم (أو في عربة) كلما رغبوا في شراء سلعة باهظة الثمن، مقارنة بعدد ما سيحتاجونه من عملات أو سبائك الذهب أو الفضة لإتمام العملية نفسها.

لا شيء في علم الاقتصاد يقول إن الذهب والفضة لا بد أن يكونا نقودًا، أو أنهما الشكل «الطبيعي» الوحيد للنقود. ففي أي سوق دائمًا سيلجأ المتعاملون لاستخدام أنواع النقود التي تناسب احتياجاتهم. نحن فقط نوضح السبب في أن الذهب والفضة كثيرًا ما استُخدما نقودًا على مر التاريخ من قبل التجار المحترفين.

خلاصة الدرس

  • على الرغم من أن التبادل المباشر مفيد لأنه يعود بالنفع على كلا الطرفين، فإنه محدود لأن من يقوم بالتبادل يكون بحاجة إلى العثور على شخص لديه السلعة المرادة وفي نفس الوقت يكون على استعداد لقبول السلعة التي يعرضها عليه الطرف الأول. هذا القيد يجعل من الصعب على الأفراد أن يتخصصوا في مهن بعينها؛ فطبيب الأسنان الذي يريد شراء اللحم عليه أن يجد جزارًا يعاني ألمًا في الأسنان.

  • يزيد التبادل غير المباشر من فرص تحقيق صفقات تعود بالنفع على كلا الطرفين. قد تحدث عملية إعادة ترتيب للممتلكات على نحو أكثر تشعبًا، بما يعود بالنفع على كل الأطراف المشاركة. ويؤدي التبادل غير المباشر في نهاية الأمر إلى استخدام النقود التي تسهل على الأفراد تنظيم أنشطتهم التجارية.

  • لم يخترع أحد النقود، بل ظهرت تلقائيًّا، أو تكاد تكون ظهرت «مصادفة» نتيجة تصرفات الأفراد التي كانت ترمي إلى تحسين مواقفهم التجارية باستخدام التبادل غير المباشر.

مصطلحات جديدة

  • النقود: سلعة يقبلها الجميع في الاقتصاد وتكون في أحد طرفي أي عملية تجارية. بلغة الاقتصاديين؛ هي وسيط تبادل مقبول على نطاق واسع (أو عام).
  • نظام عفوي: نموذج متوقَّع الحدوث لم يخطط له أحد. من الأمثلة على ذلك قواعد اللغة في اللغة الإنجليزية، وموضة الملابس التي ميزت صالات الديسكو في سبعينيات القرن التاسع عشر، واستخدام النقود.
  • فرصة مراجحة: إمكانية الحصول على «ربح مؤكد» عندما تباع نفس السلعة بأسعار مختلفة في نفس الوقت.
  • وسيط تبادل: شيء يُقبل في عمليات التبادل؛ ليس لأن الشخص الذي يقبله ينوي استخدامه مباشرة، بل لأنه سيستبدل به في المستقبل شيئًا آخر. وتتطلب كل عملية تبادل غير مباشر وسيط تبادل، وهو السلعة التي يتم بواسطتها التبادل النهائي. (مثال: الموجات الصوتية تحتاج وسيطًا تنتقل خلاله لكي تصل إلى أذنك، وفي هذه الحالة الوسيط هو الهواء، ويمكن أيضًا أن يكون الماء إذا كانت رأسك أسفل سطح المياه في بركة سباحة.)

أسئلة الدرس

(١) ما الفرق بين التبادل المباشر وغير المباشر؟
(٢) لم يكون التخصص غير ذي جدوى في عالم يقتصر على التبادل المباشر؟
(٣) كيف يسهِّل التبادل غير المباشر استراتيجية «خطوة إلى الوراء؛ خطوتان إلى الأمام»؟
(٤) ما عيوب التبادل غير المباشر بدون استخدام النقود؟
(٥) صِفْ مجتمعًا يمارس فيه الأفراد التبادل غير المباشر، لكنهم لم يستخدموا النقود بعد.

هوامش

(١) التاجر الذكي سيتحيَّن أي «فرصة مراجحة» حتى في ظل اقتصاد نقدي. لكن حتى في المثال الذي بين أيدينا، تكون العمليات الحسابية أسهل بكثير من اقتصاد بلا وسيط تبادل في أحد طرفي كل معاملة تجارية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤