الفصل الثالث

نموذج يليق بمهنة عظيمة

يحب الناس أن ينظروا إلى شركاتهم من منظور الأرقام (كما في المحصلة النهائية) أو (قوى السوق) أو الأشياء (المنتج) أو حتى البشر (الموظفين). لكن هذا المنظور خاطئ. فالأعمال تُبنى من الأفكار؛ الأفكار التي يُعبر عنها في صورة كلمات.

جيمس تشامبي

ذات يوم، أتى خياط مهاجر إلى هذا البلد وفتح متجرًا. كان يُركِّب الأزرار ويحيك الملابس ويصنع السُّترات وجميع الأشياء الأخرى التي يفعلها الخياط عادةً. في أحد الأيام، زاره ابنه الذي كان يعمل محاسبًا، وأثناء زيارته لاحظ علبتَين من السجائر موضوعتَين بجوار آلة تسجيل النقود؛ إحدى العلبتَين كان مكتوبًا عليها «فواتير مدفوعة» والأخرى «فواتير غير مدفوعة». انتقد الابن أباه لحفظه سجلاته بطريقة غير احترافية لأن الرجل العجوز لم يعرف ماذا كانت أرباحه.

وضع الرجل بحنوٍّ ذراعه حول كتفَي ابنه وأخبره بأنه عندما أتى إلى هذا البلد منذ عدة سنوات، لم يكن يملك سوى ملابسه. الآن أصبح لديه منزل وسيارة ومشروع جيد وصحة جيدة وابنة تعمل أستاذة جامعية وأخرى تعمل مهندسة وابن يعمل محاسبًا غير ماهر بالقدر الكافي. ثم قال الخيَّاط العجوز: «عندما أجمع كل النعم التي رُزقتُها وأطرح منها الملابس التي على جسدي، ما يتبقى هو ربحي» (مقتبس في «ستيبير»، ١٩٩٨: ٥-٦).

•••

رون: يميل المهنيون إلى الانغماس كثيرًا في الجوانب الفنية والاستغراق في معرفة أدق تفاصيل ما يفعلونه، وقلما يتوقفون ويفكرون في سبب ما يحققونه من نجاح.

•••

بول: لكن البعض يتوقف ويفكر بالفعل. أحد هؤلاء مارك سبوفورث الرئيس السابق ﻟ «مجلس الممارس العام» ورئيس مجلس إدارة المجموعة الفنية بمعهد المحاسبين القانونيين في إنجلترا وويلز (إيكاو) في لندن. ففي مقدمة لندوة خاصة لعملائه، قال سبوفورث:

ينظر إلينا عملاؤنا بطرق شتى؛ فهم يروننا كاستشاريين أو حلفاء أو أصدقاء أو محاسبين أو درع حامية من مأموري الضرائب؛ نحن نلعب جميع الأدوار. لكن على مدى العشرين سنة الأخيرة، أصبحت مهنتي مهووسة بالتفاصيل المعقدة للحسابات مُحدثة تغييرًا بعد تغيير في توجه نحو صياغة مجموعة من الحسابات التي سوف ترضي مأمور الضرائب والبنوك و«دار الشركات» والحكومة وجميع الناس على ما يبدو باستثناء الأشخاص المهمين بحق في كل نشاط أو شركة نهتم بها، وأقصد ملاك ومديري تلك الشركات.

والنتيجة أن الناس يرون المحاسبين القانونيين مجرد أشخاص مملين لا يتعاملون إلا مع الأرقام، ومهووسين بتفاصيل القيود المزدوجة ويبحثون عن «الكأس المقدسة» المراوغة، أو بعبارة أخرى مجموعة صحيحة من الحسابات.

ما نسيناه أن علم المحاسبة لغة أو وسيلة تواصل وإعلام. من الجيد تشكيل أدبيات ومؤلفات رائعة من هذه اللغة، لكن معظم الناس الذين نتواصل معهم لا يفهمون أصلًا لغتَنا الغامضة. لذا علينا العودة إلى استخدامها في خدمة الغرض الذي ابتُكرت من أجله، وهو مساعدتنا على قياس القرارات وتفسيرها وتحليلها وصنعها وحل المشكلات.

وهي لغة قوية ومؤثرة للغاية؛ فبمقدورها وصف إجراءات كل شركة في أي مجال أيًّا كان نوعه، وتغطي القطاعين الحكومي والخاص. ويمكنها أن تساعد الطفل في مصروفه أو مايكروسوفت في ملايين دولاراتها. إنها بالفعل قوية ومؤثرة للغاية.

وما نسيناه في مهنتنا أننا خبراء في هذه اللغة، وأنها تعطينا قدرًا كبيرًا من القدرة على تقديم المساعدة. نحن نقدم تدريبًا من خلال زيارة شركة تلو الأخرى، متأملين الطريقة التي تُدار بها بَدْءًا من العمال العاديين وصولًا إلى المستوى الأعلى من الهيكل التنظيمي. نحن نفحص الأنظمة ورقابتها ومدى نجاحها، ونكتسب خبرات خلال حياتنا بشأن الأخطاء التي يتعين عليهم عدم ارتكابها والحيل الذكية التي يستخدمها رجال الأعمال في بناء شركاتهم. ونفهم الكيفية التي تُصمَّم بها الصفقات والمشروعات والطريقة التي تُحقَّق بها الأرباح.

وماذا نفعل؟ نستخدم جميع هذه الخبرات لتصميم مجموعة مثالية من الحسابات التي ينتهي بها الحال في خزانة حفظ الملفات بمكاتب العملاء أو «دار الشركات». يا لها من خسارة! لا بد من وضع حد لذلك.

إن وتيرة التغيير في العالم تتسارع تسارعًا هائلًا، ليس فقط بسبب تكنولوجيا الحاسوب، ولكن أيضًا بسبب توفير مستوى أفضل من التعليم والدعوات لمزيد من المسئولية الاجتماعية، ولأنه مع نمو الأسواق العالمية، أصبحت التجارة عالمية بالفعل.

لدى بعض الشركات حاليًّا إجمالي مبيعات يفوق من حيث القيمة إجمالي الناتج المحلي لبعض الدول الصغيرة. إن المنافسة تزداد شراسة. فأصبح الاتصال أسرعَ من أي وقت مضى. والبيانات تنهمر علينا، وكذلك الحال بالنسبة للقوانين واللوائح الجديدة. وتحتاج الشركات الأصغر حجمًا إلى معرفة ما تفعله بكل هذه البيانات والمعلومات؛ إذ ثمة قدر كبير منها يتعذر عليها تحليله وقراءته، وقدر كبير من الأشياء التي يتعين عليها فعلها دون توافر وقت كافٍ لذلك.

لذا ينبغي علينا نحن المحاسبين أن نتوقف عن قضاء هذا الوقت الكبير للغاية في إنتاج أرقام ذكية وفحصها. ينبغي علينا أن نبدأ في استخدام خبرتنا في تفسير الأرقام. ينبغي أن نبدأ في تدريس لغتنا وأن نقضي المزيد من الوقت في مشاركة خبراتنا في العمل، وفي الإسهام في تنمية الشركات الصغيرة وتحقيق أهدافها بأدنى قدر من الضغط. ويمكننا أن نفعل ذلك.

حتى وإن لم يكن لدينا نحن أنفسنا حلٌّ للمشكلات، فإننا نعلم كمشتغلين بالمعرفة من أين نحصل على هذه الإجابة. فتطوير الأعمال رحلة، ومهمتنا أن نجعل هذه الرحلة سلسةً ومريحةً بقدر الإمكان.

تجد الصحافة فرصة سانحة لنشر مشاعر اليأس والإحباط بشأن ركود جديد وتباطؤ في الاقتصاد وعدم قدرة البلاد على الالتزام بأهداف إنفاقها العامة. ولا تقتصر مهمتنا على مساعدة الشركات الصغيرة في النجاة من ركود الاقتصاد فحسب، بل مساعدتها كذلك في التوسع والنمو خلال هذا الركود.

تشير الأبحاث إلى أن أكبر عوائق النمو التي تواجه الشركات الصغيرة هي قلة الإيرادات وعدم وجود استراتيجية نمو مُخطط لها وعدم وجود تمويل لهذا النمو.

إن ما قاله سبوفورث يقدم لنا رؤية أخرى حول الكيفية التي لا نبصر بها حقيقة أن السبب الوحيد وراء وجودنا هو خدمة العملاء خارج حدود شركاتنا.

•••

رون: من المثير للاهتمام أنه لو تعيَّن على شخص خارج حدود شركاتنا دراسة معادلة الممارسة المطروحة في الفصل الثاني، فإن هذا الشخص الخارجي سوف يتولد لديه انطباع بأن المهنيين ناجحون لأنهم تعلموا الكيفية التي يعززون بها كفاءة موظفيهم، ولأنهم درَّبوا عملاءهم على الإيمان بأنهم يشترون أوقاتهم. وهذا سوء فهم عميق للأشياء الفعلية التي تجعل المهنيين ناجحين، وجعل تركيز المهنة منصبًّا على محاولة تعزيز أشياء بعينها لا تفسِّر نجاح تلك المهنة.

إن الشركات المهنية ليست ناجحة لأنها ترفع مستوى أداء الموظفين، أو لأنها تعزز كفاءتهم باستمرار، أو لأنها ترفع من معدلاتهم بالساعة كل عامين أو بضعة أعوام. فكل هذه الأنشطة ما هي إلا وسيلة لتحقيق أهداف نهائية تتمثل في خدمة احتياجات عملائها، ومِن ثَمَّ خلق ثراء من أجلهم يفوق السعر النقدي الذي يدفعونه بإرادتهم للشركة. في الفصل الثاني، تساءلنا عمَّا إذا كانت المهنة تُركز على الأشياء الصحيحة بهدف تنمية وتعزيز ربحية الشركة. وبوضع معادلة الممارسة المذكورة في هذا الفصل في الاعتبار، بالتأكيد ستكون الإجابة بالنفي.

(١) لماذا ينجح المهنيون؟

رون: بالتأكيد ليس السبب وراء نجاح المهنيين هو أنهم يبيعون الساعات؛ لأن العملاء لا يشترون الساعات. وهذا مفهوم بسيط للغاية، لكنه عميق في الوقت نفسه. فعلى مدى جيلين تقريبًا، غرست المهنة في أفرادها الاعتقاد الجوهري بأنهم لا يبيعون سوى الوقت. لكن من جديد، لا يشتري العملاء الوقت؛ هم في الأساس يشترون النتائج والتوقعات والمشاعر الطيبة والآمال والأحلام والرؤية المتفائلة للمستقبل وحلول المشكلات. ولا يبدو أن العملاء مهتمون بالمدة التي يستغرقها المصنعون في إنتاج سياراتهم. إن فكرة أن المهنيين لا يقدمون شيئًا لعملائهم الذين يحظون بفرصة خدمتهم سوى وقتهم ليست مثارًا للتهكم فحسب، وإنما فكرة مهينة، وغير جديرة بدعوة نبيلة؛ فالمهنة موجودة كي «تحترف شيئًا ما»، وهذا الشيء قد يكون احترام الحق والعدل كما في مهنة المحاماة، أو العلم والعلاج كما في مهنة الطب، أو المبادئ والتعاليم الأخلاقية كما في مجال الدعوة الدينية، ومساعدة العملاء على تحقيق أهدافهم كما في مجال المحاسبة. فليس من المنطقي أن تحترف شركة من شركات المستقبل بيع الساعات أو تعظيم أداء الموظفين (يا له من طموح متواضع!) أو زيادة الكفاءة على حساب كل شيء آخر.

فأنت وزملاؤك لم تدخلوا المهنة بأحلام الحصول على أكبر عدد من الساعات المدفوعة في الشركة أو الفوز بأعلى معدل بالساعة أو أكبر نسبة عائد، لكنكم دخلتموها بهدف مساعدة الآخرين؛ لكنك سرعان ما تعلمت أن مساعدة إخوتك في الإنسانية لا يمكن قياسها بدقة — لأنها تتصل بفعل أشياء «معنوية وعاطفية» — لذا فقد استُعيض عنها بمقاييس أكثر «محسوسية» للجهود والأنشطة، التي لا تربطها علاقة كبيرة عادةً بالنتائج التي تتحقق من أجل العملاء. هل هذا هو أفضل ما يمكن أن تقدمه مهنتنا للطلاب الحالمين الذين يتمنون صنع فارق في هذا العالم؟ هل هذه المقاييس العتيقة مستحسنة لمهنة نبيلة؟ هل يمكن أن يكون هذا أحد أسباب التدهور المتذبذب في عدد الطلاب الذين يدخلون مجال المحاسبة؟

في الواقع، ينجح المهنيون لأنهم يساعدون الناس على تحقيق أهدافهم، وهذا في الأساس مسعى إنساني ولا يمكن قياسه من خلال استبيان مُرضٍ أو على سجل لساعات العمل. فمساعدة العملاء على تحقيق أهدافهم تتم من خلال تعزيز رأس المال الفكري لدى شركتك لا من خلال زيادة أعداد موظفيك ومحاولة زيادة الساعات المدفوعة (التي هي ثابتة في كل الأحوال).

لم تعد النظرية القديمة تناسب عوامل النجاح في شركات المستقبل. قال بَكمينستر فولر (المصمم وعالم الكونيات والفيلسوف والرياضي والمعماري الذي صمم القبة الجيوديسية): «لا يمكنك تغيير أي شيء بواسطة محاربته أو مقاومته. يمكنك تغيير أي شيء بجعله مهجورًا من خلال ابتكار طرق جديدة» (مُقتبس في فانس وديكون، ١٩٩٥: ٧٨). حان الوقت للاستعاضة عن نظرية الممارسة المذكورة في الفصل السابق بهذا النموذج الجديد:

الربحية = رأس المال الفكري × السعر × الفعالية

لنستكشف كل عنصر من عناصر هذه المعادلة، ثم نناقش أسباب كونها نظريةً أفضل لتفسير نجاح الشركات التي تعمل في واقع السوق اليوم وشركات المستقبل.

نبدأ بالربحية وليس الإيراد، لأننا غير مهتمين بالنمو كغاية في حد ذاته. وكما تعلم الكثير من الشركات حول العالم — بعضها عن طريق خوض التجربة بنفسها مثل شركات خطوط الطيران وشركات البيع بالتجزئة والمصنعين — فإن الحصة السوقية ليست «الباب السحري» لمزيد من الربحية. نحن مهتمون بالعثور على العملاء المناسبين في المكان المناسب، بما يتوافق مع طبيعة نشاطنا ورؤيتنا وأهدافنا حتى إن كان هذا معناه خسارة عملاء من وقت لآخر. لقد ابتكرتُ قانونًا على غرار قانون كريشام الذي يقول: «النقود الرديئة تطرد النقود الجيدة من السوق»، اشتقاقًا من الاقتصاد النقدي، وأسميتُه قانون بيكر، إذ أقول فيه: «العملاء الرديئون يطردون العملاء الجيدين.»

•••

بول: لو أن ثمة عبارة واحدة فقط في هذا الكتاب ينبغي على القراء أن يعلقوها على جدرانهم، لكانت العبارة التالية: «العملاء الرديئون يطردون العملاء الجيدين.» في كل ندوة للمحاسبين يُطلب مني أن ألقيَ كلمةً، دائمًا ما أطرح السؤال التالي: «كم منا لديه عملاء يتمنى لو أنهم لم يكونوا من بين عملائه؟» حتى الآن لم تصادفني ندوة تقل فيها نسبة من يرفعون أيديَهم عن ٩٩ بالمائة (معظمهم كان يرفعها بطريقة متحمسة إلى جانب أعناقهم التي تشرئب كما لو أن لسان حالهم يقول: «أجل، لديَّ هذه النوعية من العملاء، يا له من أمر بغيض!»)

أنت تعرف نوعية العملاء التي يفكرون فيها؛ إنهم العملاء الذين لا يدفعون الفواتير، والذين يستنزفون طاقتك بدلًا من بنائها، والذين لا تحب ببساطة أن تتعامل معهم؛ والقائمة لا تنتهي.

أو فكِّر في هذا: تخيل أنك تستطيع تصنيف العمل الذي تقوم به في القوائم الثلاث التالية:
  • أعشق بحق القيام بهذا النوع من العمل.

  • يمكنني تحمله.

  • للأمانة أنا أكرهه.

كم من الوقت تستغرق في أسبوع عملك العادي في إنجاز نوع العمل الذي يندرج ضمن القائمتين الأخيرتين؟

ربما من غير المستغرب أن تقرأ أنه بالنسبة إلى الكثير من المحاسبين، تبلغ نسبة القائمتين الأخيرتين نحو ٨٠ بالمائة. أو بعبارة أخرى، هم لا يحبون ما يفعلونه سوى ٢٠ بالمائة من الوقت، ولكنهم يتظاهرون بالسعادة لأنهم يتلقون راتبًا. وكما يشير ديفيد ميستر في كتابه «الحِرفية الحقيقية: شجاعة الاهتمام بموظفيك وعملائك ومهنتك»، توجد «مهنة» أخرى تقول: «ادفع لي المال وسوف أتظاهر بالرضا» (ميستر، ١٩٩٧). البعض يُطلق على ذلك أقدم مهنة في العالم.

لماذا تشوه المهنة نفسها إلى هذا الحد؟ لعل السبب في ذلك أن الكثيرين (إن لم يكن الأغلبية) في هذه المهنة «لا يتحرَّوْن الدقة» — على حد قول أحد الممارسين في المملكة المتحدة — في اختيار العملاء الذين يتعاملون معهم. وبطريقة أوضح، إذا بدا لهم أن العميل لديه دفتر شيكات، فإنهم يتحمسون للتعامل معه. البعض لا يفعل ذلك.

لنأخذ توم ويديل نموذجًا، وهو أحد شركاء شركة «فاناكور وديبندكتوس وديجيوفاني وويديل» المحاسبية (كم يعاني مَنْ يتولى الرد على الهاتف هناك!) التي يقع مقرها في نيوبورج وبكبسي. ويديل البالغ من العمر اثنين وأربعين عامًا والأصغر سنًّا بين شركائه، كان قد عُيِّن الشريك الإداري قبل ستة أسابيع من حضوره برنامجًا مدته أربعة أيام كنت قد نظَّمته في شيكاجو. بالفعل وصلت الرسالة إلى ويديل. ففي طريقه إلى المنزل عائدًا من البرنامج، قال لشركائه: «من الواضح أن علينا فعل الكثير جدًّا من الأشياء من أجل تنفيذ هذا الأمر. أريد أن أعرف الآن هل أنتم متفقون معي؟»

كان هذا السؤال مفرطًا في تعميمه دون أي إشارة ضمنية إلى «إعادة تنظيم» قائمة عملاء الشركة. أجابوه بالقول: «أجل، بكل تأكيد.» سألهم ويديل قائلًا: «هل أنتم متأكدون؟» فأجابوه: «أجل، نحن متفقون معك بحق يا توم.»

لذا في اليوم التالي، دخل ويديل إلى مكتبه مبكرًا، وحصل على قائمة كاملة بعملاء الشركة ونسخ منها ٢٧ نسخة (ليوزعها على أعضاء فريقه حينذاك)، وأعطى كل عضو نسخة إضافة إلى التعليمات: «ضع دائرة حول اسم كل شخص في هذه القائمة لا تريد التعامل معه وأعدها لي قبل الساعة الحادية عشرة صباحًا من فضلك.» كان هذا هو معياره الوحيد. لم يكن لدى الشركاء الآخرين أدنى فكرة عن أنه فعل ذلك (من المرجح ويديل قد عوَّل على كلامهم حين قالوا «نحن متفقون معك»).

في ظهيرة ذلك اليوم، اطَّلع ويديل على كل عميل وُضعت دائرة حول اسمه وأوقف التعامل معه (بكياسة)، بل اقترح عليه أيضًا التعامل مع شركة محاسبية أخرى سوف ترحب به ترحيبًا كبيرًا. وبحلول الساعة الرابعة مساءً، كانت المهمة قد أُنجزت. لقد تخلص ويديل من العملاء إضافة إلى إيراد قيمته ٦٤ ألف دولار أمريكي.

عندما أخبر ويديل الفريق بما فعله، سُروا! في الساعة ٤:١٥، دعا الشركاء الآخرين، الذين كانوا قد أدركوا حينذاك ما حدث، إلى اجتماع. كانت رسالتهم في الأساس: «لسنا متأكدين تمامًا من اتفاقنا معك، يا توم!» لكن بعد مضي ثلاثة أشهر، أصبحوا متأكدين تمامًا من اتفاقهم معه.

عرض ويديل بياناته المالية عليَّ وأشار إلى إيراد قيمته ٣٠٠ ألف دولار أمريكي حققتْه الشركة خلال هذه الفترة. وأشار إلى هذه النقطة البسيطة الرائعة: «لم نكن لنحقق ذلك لو أننا لم نُفسح المجال عن طريق التخلُّص من اﻟ ٦٤ ألف دولار.»

هل لديك عملاء غير مرغوب فيهم يشغلون حيزًا؟ يحاول الكثير من المحاسبين أن يرضوا جميع الناس. ومع ذلك، فإنهم ينصحون عملاءهم بأن يكونوا «انتقائيين» عندما يختار هؤلاء العملاء بدورهم شرائح العملاء الذين يتعاملون معهم. الإجابة تعود بالفعل إلى التعليق الذي سُقناه آنفًا حول اختيار المحاسبين عملاءهم بلا تمييز. هل تريد أن تتحقق من ذلك؟ أخرج آخر النشرات الدعائية لشركتك (إذا كنت لا تزال من بين من يؤمنون بالنشرات الدعائية) وميِّز المواضع التي تقول شيئًا من قبيل: «لا بد أن تتمتع بخصوصية ما كي تكون أحد عملائنا.» أشك أن تجد شيئًا كهذا. حتى نشرتك الدعائية أو موقعك الإلكتروني يشير ضمنيًّا على الأرجح إلى أن كل ما يتعين على العملاء فعله هو أن يشيروا بأصبعهم لتبدأ على الفور التعامل معهم.

بالطبع، إذا كان المحاسبون لا يزالون عالقين فيما يُطلِق عليه بوب إليوت (رئيس مجلس الإدارة السابق لمجموعة تتبع «المعهد الأمريكي للمحاسبين القانونيين المعتمدين» التي أوقفت نشاطها حاليًّا وهو يتأمل مستقبل المهنة) «دوامة المهام الضريبية اللعينة»، فقد يُصبح التمييز بين العملاء أمرًا صعبًا، لكن عندما ندرك في نهاية المطاف نحن المشتغلين بمهنة المحاسبة أنه لا يزال لدينا أشياء نقدمها لعملائنا أكثر بكثير من أي مهنة أخرى في مجال مساعدة عملائنا الذين ننتقيهم بعناية على تنمية أعمالهم، سنملك الشجاعة اللازمة لكي نصبح محترفين بحق. فالعملاء الرديئون يطردون العملاء الجيدين (ومعيار الرداءة هنا يمكن أن يكون ببساطة عدم حبك لهم).

بعد سنوات من «الترويج» لهذه الرسالة، لم أعرف قط أي شركة ندمت على اتخاذ إجراء مشابه لذلك الذي اتخذه توم ويديل. ولن تندم أنت أيضًا. فالعملاء الرديئون يطردون العملاء الجيدين.

•••

رون: إن تبني هذا الاعتقاد معناه أنك تحتاج إلى أن تصبح أكثر انتقائية بشأن من تتعامل معهم في مجال نشاطك، بالرغم من أن النشاط الهامشي قد يكون مربحًا استنادًا إلى المعايير المحاسبية التقليدية. بعد عقود من دراسة شركات الخدمات المهنية، تعلمنا أن أهم التكاليف بالنسبة لنا — والمزايا أيضًا — لا تظهر أبدًا على بيان الأرباح والخسائر؛ فقبول العملاء الذين لا يناسبون شركتك — بسبب شخصيتهم أو نظرًا لطبيعة العمل المتضمن — له الكثير من الآثار الضارة، مثل التأثير سلبًا على الروح المعنوية لأفراد الفريق، واستنزاف طاقاتك على نحو دائم بسبب عملاء لا يُقدرون ما تقدمه لهم. ونظرًا لأهمية هذا الأمر، فقد خصصنا الفصل الثامن لاستكشافه؛ إذ سنقدم صورة مماثلة قوية لتأخذها في الاعتبار وأنت تُدير قدرتك الثابتة على التكيف. أما الآن، فيكفي أن نقول إننا سنركز على «الربحية»، وليس مجرد الإيراد المرتفع. فيما يتعلق بالعملاء، عادة ما يكون القليل كثيرًا.
تعتمد قدرة شركتك على تحقيق الثراء للآخرين في نهاية المطاف على قدرتك على صنع «رأس المال الفكري» وتحليله وتجديده ونشره وتعزيزه. ثمة العديد من التعريفات لرأس المال الفكري تعتمد على السياق أو المجال الذي ترد فيه. وفي كتابنا هذا، نُعرِّف رأس المال الفكري بأنه يتألف من ثلاثة عناصر رئيسة:
  • «رأس المال البشري»: ويتضمن أفراد فريقك وشركاءك الذين يعملون من أجلك أو معك. وكما يقول أحد قادة المحاسبين القانونيين: «إنهم رأس المال الذي يغادرك عند حلول المساء.» الشيء الذي من المهم أن تتذكره عن رأس المال البشري هو أنه لا يمكن امتلاكه بل يجري التعاقد بشأنه لأنه اختياري تمامًا. في الواقع، نحن نعتبر أن المهنيين هم مشتغلون بالمعرفة يملكون وسيلة إنتاج شركتك، وسيستثمر المشتغلون بالمعرفة رأس مالهم البشري في تلك الشركات التي تدفع عائدًا جيدًا على الاستثمار، سواء من الناحية الاقتصادية أو السيكولوجية. في الواقع، موظفوك ليسوا أصولًا (هم يستحقون احترامًا أكبر من احترامك لمكائن التصوير وأجهزة الكمبيوتر)، وهم ليسوا موارد (تُجنى من الأرض مثل الأخشاب عندما ينفد ما لديك)؛ إنهم في نهاية المطاف «متطوعون»، وهم وحدهم من يقررون ما إذا كانوا سيأتون للعمل في صبيحة اليوم التالي أو لا.

  • «رأس المال الهيكلي»: وهو كل شيء يتبقى في شركتك بمجرد أن يغادرك رأس مالك البشري في نهاية اليوم، ويشمل قواعد البيانات وقوائم العملاء والأجهزة والإجراءات وشبكات الإنترنت والبوابات الإلكترونية والكتيبات والملفات والتكنولوجيا وقوائم المراجعة وجميع أدوات المعرفة الظاهرة التي تستخدمها بهدف تحقيق نتائج لعملائك.

  • «رأس المال الاجتماعي»: ويشمل «عملاءك» الذين هم السبب الرئيس وراء تواجد شركتك، لكنه يشمل أيضًا مورديك وبائعيك وشبكاتك ومصادر إحالتك وخريجيك وسمعتك. من بين الأنواع الثلاثة لرأس المال الفكري، يُعد رأس المال الاجتماعي هو الأكثر إهمالًا والأقل نصيبًا من استثمار الشركة، ومع ذلك يحظى بأعلى تقدير من جانب العملاء.

هذه ليست نظرية جديدة ابتُكرت خلال ثورة التجارة عبر الإنترنت. في الواقع، لا علاقة مطلقًا بين رأس المال الفكري والتكنولوجيا في حد ذاتها. لقد كان رأس المال الفكري دائمًا العامل الرئيس في صنع الثروة. فالثروة لا تتواجد في الموارد المادية — مثل الأخشاب أو الأراضي أو العقارات أو النفط وما إلى ذلك — لكنها تكمن في الأفكار وما يترتب عليها من إبداع. تأمل مثلًا حقيقة أن النفط كان عديم الفائدة تمامًا — في الواقع، كان النفط مصدر إزعاج كبير للمزارعين — إلى أن اختُرع محرك الاحتراق. فلولا المحرك المتردد والاحتياجات الكهربية للدول الصناعية، لما أصبح الشرق الأوسط، الذي استحوذ على آبار النفط لآلاف السنين، شيئًا سوى كثبان رملية وصخور وكهوف.

لا يوجد لدى شركات الخدمات المهنية سوى القليل جدًّا من الأصول المادية؛ بالتأكيد ميزانياتهم العمومية لا تقيس أهم عامل في تحقيق الثروة وهو رأس المال الفكري. ومع ذلك، فإن هذا العامل دون سواه هو الوسيلة التي تُنتج «الغايات» التي يشتريها العملاء. في الواقع، يتواجد جُل رأس المال البشري في صورة لا يمكن امتلاكها أو التحكم فيها أو إدارتها. وينبغي على شركات المستقبل أن تفهم الأهمية العميقة لرأس المال الفكري كي تركز على الخصائص المناسبة من أجل تدعيمه وتعزيزه؛ بحيث تتمكن من تحقيق أهدافها المتعلقة بخدمة الآخرين. وسوف نبحث هذه العناصر الثلاثة بمزيد من التفصيل في الفصول التالية.

ثمة أربعة مكونات أساسية للتسويق: السعر والمنتج والمكان والترويج. ويُعد السعر من بين هذه العناصر الأربعة الأكثر تعقيدًا. إنه فرصة شركتك الوحيدة للاستحواذ على القيمة التي تصنعها من خلال عرض القيمة الخاص بك. لو فكرت كمزارع في المكونات الأربعة للتسويق، فإن «المنتج» هو محصولك، سواء كان قمحًا أو ذرة أو فاكهة أو غير ذلك، أو مزيجًا من هذا وذاك. و«المكان» هو الأرض التي تزرع فيها محصولك. و«الترويج» هو السماد أو الماء الذي يحتاجه محصولك. و«السعر» هو الحصاد أو الغلة، عندما تجني ما زرعتَه. ومع ذلك، على عكس المزارعين الذين هم «متلقون للأسعار»، فإن المهنيين صانعون للأسعار لأنه لا يوجد سعر ثابت لرأس المال الفكري.

ومع ذلك، كان التسعير المهني مسألة مهملة حتى وقت قريب للغاية. بل إن التسعير قد أُهمل في معظم المجالات، وعادة ما يُحال إلى قاعدة مُجربة أو معادلة سعر الكُلفة. وهذا الأمر بادئ في التغير بفضل بعض القادة المبدعين في هذا الشأن (بالتأكيد يتصدر توم ناجل وريد هولدن قائمة من تمكنوا من دمج التسعير في المخططات التنظيمية للعديد من الشركات). حان الوقت لأن يُحدد المهنيون أسعارهم «على بصيرة» أيضًا، وهذا الأمر قد بدأ بالفعل.

لفترة طويلة للغاية ظل سعر المهنة يتحدد على نحو حصري أو كبير باستخدام قاعدة عشوائية أساسها احتساب السعر بناءً على أجور العاملين أو حساب المصروفات العامة مع إضافة صافي دخل مرغوب فيه. وتعد آليتا التسعير كلتاهما هي بقايا نظرية قيمة العمل لكارل ماركس، وقد هُجرت هذه النظرية تمامًا في سوق ديناميكية ابتكارية أساسها رأس المال الفكري. تُحدد شركة المستقبل سعر رأس مالها الفكري على أساس القيمة التي تتحقق للعميل، لا على أساس تكلفة العمالة الداخلية لرأس المال البشري أو الرغبات الربحية لدى أصحاب الشركة، وبالتأكيد ليس على أساس ساعات العمل المتضمنة في عملية تحقيق هذه القيمة. سوف نستكشف هذا الموضوع بمزيد من التفصيل في الفصل التاسع.

في شركة المستقبل، تكون الأسبقية «للفعالية» على «الكفاءة»؛ فالشركة لا تتواجد لتكون كُفؤة، بل تتواجد من أجل تحقيق الثراء لعملائها. والوسواس القهري لزيادة الكفاءة (أي فعل الأشياء بطريقة صحيحة) يقلل من فعالية الشركة في فعل الأشياء الصحيحة. وقد أعاق تعقب الكفاءة قدرة معظم الشركات على تعقب الفرص، ومِن ثَمَّ تقضي الشركات معظم وقتها في حل المشكلات. وكما أُشير سابقًا في مقدمة ندوة مارك سبوفورث، فقد استحوذت عقلية حساب التكاليف لوقت طويل جدًّا على تفكير المهنيين، ما أعماهم عن إبصار الحاجات والرغبات الحقيقية للعميل. لا يمكن لأحد أن يُنمي شركة وهو يخفض التكاليف باستمرار ويزيد الكفاءة دومًا.

•••

بول: بول كوك، مؤسس شركة «رايكيم»، عبَّر عن ذلك على نحو جيد حقًّا عندما قال: «لا يمكنك أن تقطع طريقك إلى النجاح. في الواقع، لا يمكنك أن تستمر في خفض التكاليف وتنمو.» بعد ذلك تأتي دراسة «برايسووتر هاوس» (التي أُجريت قبل أن يتحول اسمها إلى «برايسووتر هاوس كوبرز») التي تشير إلى أن القيمة التي يمكن إضافتها إلى الشركة من خلال خفض التكاليف منعدمة رياضيًّا. وتشير أيضًا إلى النقطة البديهية (ومع ذلك تغيب كثيرًا عن الأذهان) التي مفادها أن الحد من الناحية الاقتصادية يقلُّ كثيرًا عن الصفر؛ إذ إنك لا تستطيع أن تقلل التكاليف إلى الصفر حتى في عصر الإنترنت.

•••

رون: الكفاءة ليست أمرًا سيئًا في حد ذاتها. المشكلة أنها تنال تركيزًا كبيرًا على حساب كل شيء آخر تقريبًا، ومما يزيد الأمر سوءًا أن مقاييس الكفاءة التي تتواجد بالفعل في شركة خدمات مهنية — الساعات المدفوعة، معدلات الأرباح ومعدلات الاستفادة — جميعها بمثابة مؤشرات «متأخرة» تقيس الجهود والأنشطة، وليست مؤشرات «مُوجهة» تقيس النتائج وتحدد النجاح بنفس طريقة العميل. حان الوقت للشركات أن تضع فرضيات قابلة للاختبار في صورة «عوامل نجاح حاسمة» و«مؤشرات أداء رئيسة» تقيس النتائج الفعلية لعملها بالطريقة نفسها التي يفعل بها العملاء ذلك.

على عكس الكفاءة، لا يوجد فيما يتعلق بالفعالية ما يُسمى بالإحصاء الحر. صحيح أنه يمكننا قياس شيء ما بدقة، لكن هذا ليس معناه أنه ينبغي أن نفعل ذلك. كذلك تعد القياسات غير الدقيقة «للأشياء الصحيحة»، بالنسبة إلى الفعالية، أهم بكثير من القياسات الدقيقة «للأشياء الخاطئة». قد يكون ذلك صادمًا للبعض منكم، خصوصًا من هم مدربون جيدًا على حساب التكاليف، لكن التحكم في التكاليف، ناهيك عن حسابها، لا يضمن النجاح. فالمهنيون ليسوا مجرد آلات أو ماكينات تخضع لقوانين الهندسة الكهروميكانيكية، بل هم بشر لا يستطيعون كبح مشاعرهم على باب الشركة؛ فهم عرضة للخوف والشك ولمستويات متباينة من تقدير الذات وعدم اليقين والغضب والانزعاج وجميع المشاعر الأخرى التي لا يمكن أن تقيسها مقاييس الكفاءة التقليدية. بعبارة أخرى، «البشر محيرون». على الجانب الآخر، لا يعمل التركيز على الفعالية على إزالة هذه المشكلات، لكنه يأخذها في الاعتبار على نحو أفضل بكثير من مقاييس الكفاءة، التي يمكن أن تتجاهل الجانب العاطفي، بل تصبح بلا رحمة في بعض الأحيان.

ترتبط معادلة الممارسة هذه برؤيتنا حول شركة المستقبل. فالمهنيون هم المشتغلون النهائيون بالمعرفة الذين يستخدمون قلوبهم وعقولهم لا عضلاتهم وأيديهم. وهذه المعادلة تُدرك أهمية رأس المال الفكري وثمنه وفعالية العاملين الذين ينتجونه إضافة إلى العملاء الذين يشترونه. ربما لم تصبح بعدُ نظريةً مثالية، لكنها أفضل بكثير من البديل الذي جرى مناقشته في الفصل الثاني.

(٢) التنافر الإدراكي

رون: لديَّ عَلاقة حب وكراهية بهذه المعادلة في الوقت نفسه؛ فمن ناحية، أعتقد أنها نموذج أكثر تميزًا لشركة المستقبل؛ لأنه يدرك وقائع السوق الذي يعمل فيه المهنيون ويركز على تعزيز الأشياء الصحيحة؛ إنه يأخذ في الاعتبار أهمية الديناميكية والابتكار وجميع الأنشطة البشرية الأخرى التي لم تأخذها المعادلة السابقة بعين الاعتبار. ومن ناحية أخرى، نظرًا لأنها لا تزيد عن كونها معادلة جبرية، فإنها تُعد تبسيطًا مذهلًا للعناصر التي تُشكِّل شركة الخدمات المهنية المعتادة.

عندما ننظر إلى المعادلات، غالبًا ما نفكر في كل عنصر بوصفه يُشكِّل جزءًا منفصلًا يمكن التحكم فيه والتلاعب به على المستوى الفردي؛ وهي رؤية أحادية البعد إلى حد كبير لشركة مؤلفة من بشر. ما لا توضحه النظرية هو الكيفية التي تُرفع بها الأسعار أو تُزاد بها الفعالية، كما أنها لا توضح العلاقاتِ التي تربط العناصر المختلفة وكيف يعتمد كل منها على الآخر. بالتأكيد، يمكن أن تصف المعادلةُ سمةً مجردةً مثل الفعالية، لكنها لا تعزِّز بحقٍّ فَهْمَ المرء للكيفية التي يحدث بها التغيير في الشركة ككل. بعبارة أخرى، يمكن للمعادلة أن توضح «الغايات» (الربحية)، ولكنها لا توضِّح «الوسيلة» (الطريقة التي يقيس بها المرء الفعالية). إن أي معادلة تفترض علاقة ما من علاقات السبب والنتيجة، وغالبًا ما تدفعنا للاعتقاد بأن هذه التسلسلات متعاقبةٌ وخطية وليست عرضة للتقييم الدائم للأسباب المسبقة. وفي ظل النظرية القديمة، إذا أنجزت عددًا أكبر من ساعات العمل، فسوف تنمو الإيرادات، لكن الواقع اليومي للشركات يشير إلى أن محاولة جعل أفراد فريقك يعملون لعدد ساعات أكبر سوف يؤدي إلى جميع أنواع العواقب غير المرغوب فيها التي ستؤثر في نهاية المطاف على هدف زيادة الإيرادات. لا يمكن لمعادلة أن تأخذ في الاعتبار كل هذه العناصر المترابطة.

ثمة مشكلة أخرى تتعلق بهذه المعادلة تتمثل في أنها تنظر إلى خصائص شركة ما باعتبارها مجرد مجموعة أجزاء. فإذا غيَّرت جانبًا، فإنك تُغيِّر جانبًا آخر بالمقدار نفسه دائمًا، لكن في نظام حيوي وعضوي مثل الشركات، لا ترتبط الأجزاء والكل على هذا النمط الخطي؛ ومِن ثَمَّ يمكن أن يصبح لتغييرٍ بسيط تأثيرٌ عميق وهائل على كل شيء آخر. فكر في تأثيرات مدير مؤذٍ يُحقر من شأن أفراد فريقه ويُرهبهم. ربما يحقق مستوى أعلى من الكفاءة في جانب واحد من المعادلة، لكنه يدمِّر تمامًا الروح المعنوية والتحفيز؛ مما يؤدي إلى تراجع مستوى الشركة على مقياس الفعالية وخدمة العملاء والربحية.

إن أي معادلة مشابهة للفارق بين خريطة وإقليم: إحداهما تفسير ثنائي الأبعاد والآخر مليء بتداخلات معقدة وكثيرة لا يمكن تصويرها قط على الورق. قال أحدهم ذات مرة إن الفارق بين دراسة كيان حي على الورق كالفارق بين إجراء تشريح للدلافين مقارنة بالسباحة معها. إن كلا النشاطَين سوف يمنحك فهمًا أفضل للدلافين بالتأكيد، لكن أيهما سيجعلك تلاحظ الملمس الغني والطابع السياقي لكائن حي؟ يفهم اختصاصيو الأمراض السريرية ضمنيًّا هذا الفارق؛ إذ يعلِّمون الأطباء ألَّا يعالجوا نتيجة اختبار أبدًا بل يعالجوا المريض.

إن القارئ الواعي — ربما الذي حظي بتدريب علمي وتسويقي — سوف يلاحظ أن المعادلة لا تجيب أيضًا عن السؤال المهم المتعلِّق بأسباب كوننا في شركة ما ما دامت تضع الربحية قبل أي شيء آخر على ما يبدو. هذا إغفال خطير. فحقيقة احتياج أي شركة أو مشروع إلى تحقيق ربح هي مجرد كلام مرسل لا معنى له وهي غير مناسبة تمامًا؛ فالأهم هو أن تجتذب الشركة عملاء وأن تحتفظ بهم وأن تضيفَ ثراءً إلى حياتهم، وأن تحرصَ على منحهم قيمةً تفوق بكثيرٍ ما دفعوه من نقود، كما أن المعادلة لا تجيب عن أهم سؤال يتعلق بمصدر الأرباح. ونظرًا لجوانب القصور هذه، يتناول الجزء المتبقي من هذا الفصل هذه الأمور لأهميتها الكبيرة بالنسبة إلى المهنيين الذين يعملون في شركة المستقبل.

في جميع الأحوال، بينما تستطيع ملاحظة نقاط الضعف في معادلة الممارسة الجديدة، يتعيَّن علينا في كتاب (أو خلال ندوة) تحليل الأشياء إلى عناصر منفصلة بهدف التعامل معها على نحو أكثر فعالية. لا يمكننا أن نفعل كل شيء في الوقت نفسه. وهنا تأتي ميزة النظرية. فبينما لن تستطيع أبدًا الوصول إلى الجوهر الحقيقي لشركة كائنة، فإنه يمكن دراسته في أجزائه الكمية والوصفية؛ ونتيجة لذلك نكتسب فهمًا أفضل للكيفية التي ترتبط بها تلك الأشياء وتتداخل. ليس بالضرورة أن تكون النظرية رائعة أو تصل إلى الجوهر الكامل للظاهرة التي تحاول تفسيرها؛ كل ما تحتاج إليه النظرية كي تكون فعالةً أن تتيح لنا فرصة التنبؤ بالسلوك الذي نرصده وتفسيره ووصفه. ومن هذا المنظور، يتضح أن نظرية الممارسة أفضل من النظرية القديمة.

(٣) سبب تواجدنا في شركة ما

لا بد أن تحقِّق أي شركة ربحًا وإلا فمصيرها الاندثار، لكن عندما يصبح هدف المرء الوحيد من شركته هو تحقيق الربح، فإنها ستندثر كذلك؛ إذ لم يعد يوجد سبب لوجودها.

هنري فورد

لماذا نحن هنا؟ أعتقد أن الكثير من الناس يفترضون خطأً أن سبب وجود شركتهم الوحيد هو تحقيق الربح. لا بد أن نتعمق أكثر لنصل إلى الأسباب الحقيقية وراء تواجدنا. وبينما نبحث الأمر، نتوصَّل حتمًا إلى نتيجةٍ مفادُها أن مجموعةً من الناس يجتمعون معًا ويتواجدون في شكل مؤسسة نطلق عليها شركة بحيث يتسنى لهم إنجاز شيء ما معًا لم يكن لينجزَه أي منهم بمفرده؛ إنهم يقدِّمون إسهامًا للمجتمع؛ عبارة تبدو مبتذلة لكنها جوهرية.

ديفيد باكارد

لا يوجد سوى رئيسٍ واحد؛ إنه العميل. فبوسعه أن يفصل أي شخص من الشركة، بدءًا من رئيس مجلس الإدارة نزولًا إلى آخر الهيكل التنظيمي، ببساطة من خلال إنفاق نقوده في مكان آخر.

سام والتون

•••

رون: جميع رواد الأعمال المستشهد بهم هنا بَنَوا شركات لا تزال موجودة؛ وكما ترون، فعلوا ذلك بتركيزهم على العميل وليس الأرباح.

•••

بول: أكَّد ديفيد باكارد وبيل هيوليت هذه الرسالة مرارًا وتكرارًا. يمكنك أن تقول إن ثمة هدفًا أسمى.

يُذكِّرني هذا بصديقي ليود الذي بدا وكأنه يملك كل شيء. ليود الذي يُقيم في نيويورك ويبلغ من العمر أربعةً وثلاثين عامًا كان يشغل منصب نائب رئيس بنك تجاري عالمي كبير وكان يتقاضى راتبًا ضخمًا، لكن ليود قرَّر منذ ثلاثة شهور أن معنى الحياة في نظره أكبر بكثير مما يفعله. استقال ليود من منصبه بالبنك ليقضي عامًا لدى مؤسسة مالية ناشئة في هاييتي؛ إذ عمل مع أشخاص محدودي الدخل مقابل راتب يكاد يكفيه للعيش. كانت خطته أن يتبع هذا بعام في كردستان. وقبل أن يسافر إلى هاييتي، وصف نقلته هذه ﺑ «التحول من النجاح إلى القيمة».

هذا اتجاه متنامٍ. بعض الشركات المحاسبية تضع هذا «الهدف الأسمى» في الحسبان وتصنع «مشروعات قيِّمة» رائعة لتحقيق هذا الهدف. أحد أفضل تلك المشروعات القيِّمة أطلقتْه شركةُ «لينكنهايمر» للمحاسبة ومقرُّها سانتا روزا بولاية كاليفورنيا. عرَّفني أحد شركاء الشركة ويُدعى جون جونز ببرنامج «كيدأكونتس تشيلدرنز موني». أوضح جونز أن الهدف الأساسي من البرنامج هو تعليم الأطفال في مرحلة التعليم الأساسي كيفيةَ وضع ميزانية لأنفسهم وعدمَ النظر إلى نقودهم باعتبارها مجرد شيء ينفقونه على الفور، وأيضًا إقناعهم بأنه لا بأس من التفكير في النقود والحديث عنها وعن كيفية استخدامها ومساعدتهم على فهم حقيقة أنهم يمكن أن يتعاملوا مع النقود بذكاء.

من المثير للاهتمام أن البرنامج كان ثمرة لعملية عصف ذهني في الاجتماع السنوي الموسع للشركة. «كنا نتحدث عن كيفية تطوير الشركة. واقترح أحد الحاضرين فكرة بدت غريبة حينذاك، مفادها أنه قد يكون من المثير للاهتمام التحدثُ إلى الأطفال على سبيل التغيير بدلًا من التحدث إلى العملاء الحاليين والعملاء المحتملين. لماذا لا نفعل شيئًا ذا أهمية وقيمة للمجتمع؟»

في هذه المرحلة، كان من الممكن أن يقول شركاء الشركة: «قدِّم لنا بعض الخطط وميزانية.» لو أنهم فعلوا ذلك، لكانت الفكرة وُئِدَت من توِّها على الأرجح، لكنهم قالوا ببساطة: «فلنُنفذ هذه الفكرة!» وتطوع ستيف ميكسيس أحد المديرين بالشركة لتنفيذ الفكرة، حيث شكَّل فريقًا صغيرًا، وطوروا معًا كتابًا خاصًّا بالنشاط من أجل الأطفال أطلقوا عليه اسم «تعقب نقودي»، يصوِّر شخصيةً تُدعى ليستر لينكس يوجِّه الأطفال خلال كتاب النشاط. يُعطي ليستر إرشاداتٍ للأطفال بشأن إعداد ميزانيةٍ خاصة بهم ويساعدهم على التعامل مع ورقة نقدية مكبرة من فئة الدولار الواحد صُمِّمت خصيصًا من أجلهم، والتي يقسِّمها الأطفال إلى أجزاء.

يُدرَّس البرنامج في ثلاث حصص أسبوعية. يزور ميكسيس (أو عضو آخر من الفريق بدءًا من الموظف العادي وصولًا إلى أحد الشركاء) قاعةَ الدرس لمدة ٤٥ دقيقة في الأسبوع الأول، حيث يشجع الأطفال على المشاركة في مناقشة حول الأجزاء الأربعة للدولار. وفي نهاية هذا اللقاء الأول، تُعطي الشركة كل طالب كتابه الذي يأخذه معه إلى المنزل. وتُترك مواد الواجب المنزلي مع المعلم؛ ويُكمل الأطفال التدريبات خلال الأسبوع الثاني. يعود محاسبٌ شابٌّ من فريق لينكنهايمر في الأسبوع الثالث ليشرف على مناقشات حول معنى الإنفاق الذكي، وحجم وقوة السوق الاستهلاكية للأطفال والكيفية التي يؤثر بها الإعلان على طريقة إنفاقهم لنقودهم. وبطبيعة الحال، في نهاية البرنامج، يتسلم الأطفال شهادةً تُثبت مشاركتهم في برنامج «كيدأكونتس».

هل أفلح الأمر؟ نعم، على عدة مستويات. فالأبحاث التي أجرتها الشركة تشير إلى أن ثلثَي الأطفال (من أعمار تتراوح بين ثمانية وعشرة أعوام في المعتاد) يأخذون كتاب النشاط معهم إلى المنزل ويبدءون في استخدامه، بل إن أحد الأطفال شكا أنه لم يستطع استخدام كتابه؛ لأن أباه قد أخذه منه. وأشار الطالب قائلًا: «أبي يستخدمه شخصيًّا!»

بعد أن لاحظ أحد الصحفيين المحليين البرنامج وهو يُطبق عمليًّا ونشر عنه مقالًا بإحدى الصحف المحلية، بدأت لينكنهايمر تتلقَّى مكالماتٍ من مدارس أخرى وشركاتٍ محاسبية. تمنح لينكنهايمر حاليًّا ترخيص البرنامج بأكمله لشركات أخرى في أنحاء الولايات المتحدة (والشركة مهتمة بتلقى مكالماتٍ من شركاتٍ أخرى حول العالم: فقط أرسِلْ رسالة إلكترونية إلى جون جونز على البريد الإلكتروني التالي: jjones@linkcpa.com لمزيد من المعلومات).

أصبح أمرًا معتادًا أن تتلقى الشركة حاليًّا مكالمات بانتظام يُثنَى فيها على البرنامج. يوضح جونز قائلًا: «قابلت بالصدفة أحد العملاء المحتملين الذين كنت قد تحدثت إليهم لعدة أسابيع. لقد أخبرني أننا شركة مختلفة تمامًا وأن ما نفعله مع المدارس أمر رائع. وأصبح هذا الشخص وشركته عملاء لدينا حاليًّا.»

لكن جونز كان لديه أشياء أهم بكثير ليخبرنا بها:

كان يمكن أن نحقق المزيد من المال هذا العام لو أننا تابعنا جهودنا الرامية إلى تطوير العمل باستخدام طرق أكثر تقليدية، لكن من يدري؟ لا أزال أعتقد على المدى الطويل أن الشركة أفضل حالًا بكثير مع هذا المشروع المجتمعي الذي يمثِّل جزءًا مما نفعله. فكل مشروع أو نشاط يحتاج إلى التميز في شيء كي ينجح. فالربح وصافي الدخل هما نتيجتان ثانويتان للكثير من الأشياء الأخرى، ولا يمكنك أن تتحكم فيها تحكمًا مباشرًا. بالنسبة لي، يبدو أن الشركات التي لديها حياة داخلية ونوع من الحيوية تضمن أرباحًا أعلى على الأرجح بل وتحتفظ بها. لقد أضفى هذا المشروع نوعًا من الحيوية على الشركة.

والحيوية هنا تعني القيمة. إن التحول من النجاح إلى القيمة طريقة هادفة ومهمة لممارسة الأعمال.

•••

رون: فكر في الأمر على النحو التالي: إن الربح لا يعدو أن يكون بمنزلة الأكسجين للجسم؛ إنه ليس المغزى من الحياة. فهو ليس سوى مؤشرٍ متأخر لما يدور في قلوب وعقول عملائك. أحد الأشياء الكثيرة التي واجهتُها بشأن معادلة الممارسة الجديدة كان المكانة العالية التي تُمنح للربح، كما لو كان الهدف الوحيد لأي شركة خدمات مهنية. ويتناول هذا الجزء أسباب خطأ هذا الاعتقاد تمامًا.

كما أوضح بيتر دراكر بإصرار، «لا يوجد سوى تعريف واحد صحيح للهدف من الأعمال: اجتذاب العملاء» (مقتبس في فلاهيرتي، ١٩٩٩: ١٣١)، وهو ما يُعرف باسم «مفهوم التسويق». إن الغرض من أي منشأة — بَدْءًا من الهيئات الحكومية، مرورًا بالمؤسسات الخيرية ووصولًا إلى المؤسسات — هو تحقيق نتائج «خارج» حدودها. ناتج أي مدرسة هو طالب متعلم، وناتج أي مستشفى هو مريض قد عُولج. أما بالنسبة إلى الشركة المهنية، فإن الناتج النهائي هو عميل راضٍ ولديه ولاء للشركة.

الأشياء الوحيدة التي تتواجد داخل حدود الشركة هي التكاليف والأنشطة والجهود والمشكلات والاحتكاك والأداء المتواضع والسياسة والأزمات. لا يوجد في الشركات ما يُطلق عليه «مركز الربح»؛ لا يوجد سوى مركزَي التكلفة والجهد. في الواقع، وكما كتب بيتر دراكر قائلًا: «أحد أكبر الأخطاء التي ارتكبتُها خلال حياتي المهنية تمثَّل في إدخال مصطلح «مركز الربح» نحو عام ١٩٤٥» (دراكر، ٢٠٠٢: ٨٤). إن مركز الربح الوحيد هو شيك من عميل لا يُرد لعدم وجود رصيد كافٍ. إن العملاء لا يُبالون مطلقًا بالتفاصيل الداخلية لشركتك فيما يتعلق بالتكاليف ونسب الأرباح المرغوب فيها والجهود المبذولة. لا تُصنع القيمة إلا عندما تُنتِج شيئًا يدفع ثمنه العميل طوعًا أو رغبة منه. على سبيل المثال، أصبحت شركة «سيرز روباك» وكيل مشتريات أُسر الطبقة الوسطى؛ وشركات التجميل كما أوضح مؤسس شركة «ريفلون» تشارلز ريفسون تبيع «الأمل». إن الشيء الذي يجعل مفهوم التسويق رائعًا على هذا النحو البالغ هو أن التركيز دائمًا ما ينصب على ما هو خارج الشركة؛ فهو لا ينظر داخلها ليسأل: «ما الذي نريده ونحتاج إليه؟» لكنه ينظر خارجها إلى العميل ليسأله: «ما الذي ترغب فيه وتُقدِّره؟»

في الواقع، إن ما يُطلق عليه عادة «الرأسمالية» يوصف على نحو أكثر دقة ﺑ «الاستهلاكية» التي يكون فيها العملاء هم السادة؛ بعبارة أخرى، من لديهم المال هم من يتحكمون. وفي حين تواجد مفهوم التسويق لعقود، فإنه عادة ما يكون عرضة للتجاهل في شركات الخدمات المهنية التي تغرق في قواعدها ولوائحها وقراراتها ومستويات كفاءتها الداخلية، وتتجاهل نتيجة لذلك، في أغلب الأحيان، السببَ الأساسي وراء وجودها. وربما يكون هذا هو سبب ما نستشعره دائمًا من خوف لدى العديد من المهنيين عندما نقترح تشكيل هيئة استشارية للعملاء مهمتها جمع الآراء والأفكار والمقترحات من أفضل عملائها. فيبدو وكأن الخوف يتملكهم مما قد يقوله عملاؤهم بالفعل؛ فضلًا عن أن الشركة لن تلتفت إلى النصائح التي يقدمونها. علاوة على ذلك، تُوضع العوائق التي تعرقل الحوار مع العملاء والتواصل معهم، سواء من خلال التسعير على أساس الساعة للمكالمات الهاتفية والاجتماعات أو المكوث في المكاتب لتسجيل الساعات وإعداد الفواتير الخاصة بها، وتغيب عن أنظارنا حقيقة أن السبب الوحيد وراء تواجدنا هو خدمة العملاء خارج جدران شركاتنا أو مكاتبنا.

«جيش الخلاص» إحدى المؤسسات التي تفهم بالفعل كيف تحقق نتائج بدلًا من قياس وإحصاء الجهود. وصفها بيتر دراكر بأنها أكثر الشركات فعالية في الولايات المتحدة، بل قال إنه «لم يقترب من مستواها شركة أخرى فيما يتعلَّق بوضوح الأهداف والقدرة على الابتكار والنتائج القابلة للقياس والاهتمام والإخلاص والاستفادة المثلى من المال» (مقتبس في واطسون وبراون، ٢٠٠١: ١٦). بدأت مؤسسة «جيش الخلاص» نشاطها في الولايات المتحدة في ١٠ مارس ١٨٨٠، بعد ١٥ عامًا من تأسيسها في إنجلترا على يد ويليام بوث. واليوم تمتلك المؤسسة ميزانية سنوية تتجاوز مليارَي دولار أمريكي وقوة عمل (موظفين ومتطوعين) تبلغ ٣٫٤ ملايين فرد؛ وهذا العدد لا يعبر بدقة عن قيمة الإسهامات الإضافية التي يقدِّمها موظفو الشركة والتي، إن أُخذت في الاعتبار، حسب تقدير مجلة «فوربس»، من شأنها أن تجعل المؤسسة من بين كبرى الشركات على قائمة «فوربس» لأفضل ٥٠٠ شركة. وهذا ترتيب لا بأس به، بالنظر إلى أن الشركات الأصلية على مؤشر داو جونز لأفضل ٣٠ شركة صناعية لعام ١٨٩٦، لم يتبقَّ منها سوى جنرال إلكتريك. تقدم مؤسسة «جيش الخلاص» مجموعةً من الخِدْمات وتعتبر الحاجات فرصًا والمشكلات أصولًا مستقبلية. تُدير المؤسسة أكثر من ١٦٠٠ متجر يبيع بأسعار مخفضة، وتوفر لنحو ٦٥ ألف شخص مكانًا للنوم كل ليلة، وتستجيب على الفور للكوارث وتقدم الإغاثة، كما توفر المؤسسة خِدْمات التأهيل الطويلة الأجل لمدمني المخدرات والكحوليات (بمعدلات فعالية تجعل الهيئات الحكومية تشعر بالخجل). إضافة إلى ذلك، تقدم المؤسسة «خدمات إرشاد وتوجيه بموجب تعاقدات مع الحكومة من أجل السجناء السابقين الذين يُطلق سراحهم قبل نهاية مدة العقوبة أو يبقون تحت المراقبة، كما تقدم المؤسسة خدمات رعاية نهارية للأطفال وكبار السن، وتنظم برامج رياضية وترفيهية مجتمعية وخدمات طبية وتدريبًا مهنيًّا ووظائف مؤقتة وخدمات البحث عن المفقودين والمعسكرات الصيفية للأطفال وتنظيم زيارات إلى دور الرعاية» (المرجع السابق: ٢٢). من كل دولار أمريكي يُجمع، يُخصَّص ٨٣ سنتًا على الأقل لهذه الخدمات ولا يُخصَّص سوى ١٧ سنتًا للمصروفات العامة والإدارة (وهو رقم من شأنه أن يجعل أي هيئة أو وكالة حكومية مدعى عليها في دعوى تدليس).

كيف تحقق هذه المؤسسة تلك النتائج الرائعة، لا سيما إذا وضعنا في الاعتبار حقيقة أن متوسط أجور الموظفين أقل من ٤٠٠ دولار أمريكي أسبوعيًّا (بما لا يشمل المزايا التي تقدمها المؤسسة من سكن وانتقالات، وهذه لا يحصل عليها الموظف إلا بعد انقضاء ١٠ سنوات)، وأيضًا إذا وضعْنا في الاعتبار أنهم لا يُدارون بنظام الإدارة التفصيلية وأنهم لا يُسجَّلون في سجلاتِ ساعات العمل؟ أوضح روبرت واطسون في كتابه عن مؤسسة «جيش الخلاص» أن المؤسسة نجحت في «جذب الناس معنويًّا»؛ فالموظفون يجتهدون اجتهادًا كبيرًا عندما يعتقدون أنهم يقدمون إسهامًا يفوق تحقيق الأرباح. فيما يلي جانبٌ من الأفكار التي وردت في كتاب واطسون الرائع «أكثر المؤسسات فعالية في الولايات المتحدة: أسرار القيادة لدى مؤسسة «جيش الخلاص»»:

هل يمكن أن تعلِّم مؤسسةٌ خيرية القادةَ بحقٍّ الذين يتعين عليهم العمل في العالم الواقعي للأعمال؟ إذا كنا نعتقد فعلًا أننا نتطلع جميعًا إلى تحقيق ذاتنا على أفضل نحو ممكن بما يتجاوز الأمورَ المادية، وأن المؤسَّسات التي نبنيها هي ببساطة امتداد لتطلعاتنا، فإن الفارق بين المؤسسات الربحية وغير الربحية يتعلق بالسياسات المحاسبية وليس بالكفاءة والفعالية. والمحصلة النهائية هنا أن كلمة مؤسسة أعمُّ وأشملُ من ذلك. (المرجع السابق: ١٤)

لا يختلف العاملون لدى مؤسسة «جيش الخلاص»، كأفراد، عن الرجال والنساء الذين ترونهم في الشارع؛ فهم ليسوا أكثر ذكاءً أو قوة، كما أنهم لا يمتلكون موارد أكبر. إنما يميزهم شيئان، وهما متاحان للجميع: انفتاحٌ على نعمة الخالق، والتزامٌ بإظهارها من خلال خدمة الآخرين. هل ندخر موجوداتنا؟ إننا نستنزفها في سعي للوصول إلى المزيد والمزيد من الناس. هل نقلِّل من سقف توقعاتنا؟ نحن موجودون لإنقاذ العالم. هل ينبغي ألَّا نضع ثقتنا في أحد؟ أفضل عملائنا — وشركائنا المستقبليين — مدمنو مخدرات وسجناء وضعفاء للغاية وشديدو الفقر. (المرجع السابق: ٣٣)

إذا كنا نحن قادة مؤسسة «جيش الخلاص» واثقين من أننا متسقون مع رسالتنا الروحية، يمكننا أن نتخذ كلَّ قرار تقريبًا بالإجابة عن أسئلة من قبيل: «هل لهذا دور في مساعدة مَن يعانون؟» و«هل هذه هي الاستفادة المثلى من مواردنا لمساعدة الأشخاص الذين نتعهد بخدمتهم؟» إذا لم نكن نستطيع تحديد سياسة أو عرض أو حتى برنامج طويل الأمد على أساس هذه الشروط، فلا جدوى منه. المديرون في الشركات الأخرى بمقدورهم أن يعمِّموا أسئلة الاختبار هذه لتصبح سؤالًا واحدًا هو: إلى أيِّ مدًى سيؤثر هذا القرار على حياة عملائنا؟ هذا هو المطلوب. إذا لم تستطع إثباتَ أن ما تقترحُه سوف يحقِّق قيمةً للناس، فإن هذا على الأرجح هو الخيار الخاطئ. (المرجع السابق: ٧٥-٧٦)

هذه هي نصيحة الخبراء، ويمكن لجميع قادة شركات الخدمات المهنية — أو من يريدون أن يصبحوا قادة — أن يستفيدوا من قراءة قصة هذه المؤسسة؛ إذ تتضمَّن الكثير من الدروس المستفادة التي يمكن أن نتعلَّمها. شركتك موجودة لخدمة البشر، وليست جزءًا ديموغرافيًّا بعينه يُسمى «السوق». وكما اعتاد ستانلي ماركوس (نجل أحد مؤسسي شركة نيمان ماركوس) أن يقول، لا يشتري سوقٌ ما أي شيءٍ من أحد متاجره، لكن الكثيرَ من العملاء يأتون ليشتروا أشياء جاعلين إياه رجلًا ثريًّا. في الواقع، لا تتواجد شركة ما لتكون كفؤةً أو تُجري أعمالًا محاسبية أو تمنح الناس ألقابًا مبهرة أو سلطة على حياة الآخرين. إنما تتواجد لتحقيق نتائج وثروة خارج جدرانها. هذا درس شديد العمق ينبغي ألا يُنسى.

ربما أحد أسباب غياب هذه الحقيقة عنا هو أن لغة الأعمال تُستقى في الأساس من الصور التمثيلية المشتقة من الحرب والرياضة. ففي مجال الرياضة، عادةً ما تكون المنافسة قائمةً على مبدأ المكسب أو الخسارة، ما يعني فوز أحد المتنافسين وخسارة الآخر. هذا لا يناسب مطلقًا بيئة الأعمال. فازدهار منافسيك ليس معناه خسارتك. فثمة حيز لكل من «فيدكس» و«يو بي إس»، و«إيرباص» و«بوينج»، و«بيبسي» و«كوكاكولا»، و«فورد» و«جنرال موتورز»؛ وفي حين أن تنافسها قد يُفهم خطأ على أنه حرب فيما بينها، فإنه، وكما يوضح جون كاي قائلًا: «في أقصى خيالات «بيبسي» جموحًا، لم تفكر الشركة قط أن الصراع بينها وبين «كوكاكولا» سوف ينتهي بحريق أتلانتا الثاني [مقر كوكاكولا الرئيس]» (مقتبس في كوك ٢٠٠١: ٧٣).

لا يتمحور مجال الأعمال حول تدمير منافسيك؛ إنما جوهره هو إضافة المزيد من القيمة لعملائك. فالحرب تدمِّر والتجارة تبني. وطرفا الصفقة كلاهما يجب أن يستفيد، وإلا فلن تحدث الصفقة من الأساس، كما أشار آدم سميث في العقد الأول من القرن الثامن عشر. فالأسواق كما تشير لفظتها المشتقة من اللغة اليونانية القديمة معناها ساحة عامة للحوار؛ فهي مكان يلتقي فيه المشترون والبائعون من أجل التباحث حول سلعهم وتبادل الرؤى حول المستقبل حيث يتقابل العرض والطلب في نقطة التوازن بالمصافحة. الأمر أبعد ما يكون عن الحرب مثلما أن الرأسمالية أبعد ما تكون عن الشيوعية؛ وربما تحتاج هذه الصورة التمثيلية أيضًا إلى أن يُلقى بها في مزبلة التاريخ.

(٤) نجاح الدراسة: إنها تترك مفاتيح للحل

رون: فلنتعمَّق في الأمر أكثر: هب أن أكبر الشركاء في الشركات المائة الكبرى أُعيد توزيعهم عشوائيًّا على منافسيهم؛ هل تعتقد أنك سترى اختلافات أو ابتكارات كبيرة في الطريقة التي تُقدَّم بها الخدمة للعملاء؟ ينعم الاستشاريون المهنيون بفرصة متابعة الآلاف من الشركات المختلفة، وبمرور الوقت، يبدءون في عرض الأسس التشغيلية نفسها على كل شركة يتفاعلون معها. هل هناك ما يدعو للاستغراب من أننا قد بدأنا نؤمن بأننا لسنا أكثر من مجرد سلع، نقدِّم الخدمات نفسها بالأسعار نفسها في أغلب الأحيان وبمستوى الخدمة نفسه مثل الشركات الأخرى؟
لقد تعلمت أشياء كثيرة من بيتر دراكر، الاستشاري والمفكر البارز في مجال الإدارة، لكن ربما ليس هناك ما هو أعمق وأكثر ثباتًا مما كتبه في سيرته الذاتية «مغامرات متفرج»:

لم أسمع قط ما يكفي من المعزوفات كي أصبح موسيقيًّا. لكنني لاحظت فجأةً أنني أستطيع أن أتعلم بنفسي عن طريق البحث عن الأداء الجيد. وعلى حين غرة أدركت أن الطريقة الصحيحة، على الأقل بالنسبة لي، كانت البحث عن الشيء الذي يُجدي والأشخاص الذين يؤدون أداءً جيدًا. أدركت أنني لا أتعلم، على الأقل، من الأخطاء، وأن عليَّ أن أتعلم من النجاحات. ولقد استغرقت سنوات عديدة كي أدرك أنني قد عثرت مصادفةً على طريقة ما. لعلي لم أفهم تمامًا هذا الأمر إلا بعد أن قرأت — في أحد كتب مارتن بوبر الأولى على ما أظن — بعد سنوات مقولة الحَبر الحكيم في القرن الأول: «الإله الطيب خلق الإنسان على هذا النحو ليرتكب كل خطأ متصور على نحو مستقل. لا تحاول أبدًا التعلم من أخطاء الآخرين. تعلم مما يفعله الآخرون على نحو صحيح.» (دراكر، ١٩٩٤: ٧٥)

منذ ذلك الحين، تبنَّيْت هذه الطريقة وقد أثبتت جدواها في واقع الأمر. كل التعاليم الواردة في هذا الكتاب تعرض لك نجاحاتٍ، وليس هذا النجاح مستمدًّا فحسب من المهن المتخصصة، لكنه مستمدٌّ أيضًا من نجاحات الصناعات ورواد الأعمال الذين صنعوها. لقد كان مصدر الإلهام في معادلة الممارسة شركات مثل مايكروسوفت وديزني وفيدكس، إضافة إلى مبادئ ستانلي ماركوس وجيه دبليو ماريوت وتشارلز ريفسون وهنري فورد وغيرهم الكثير. الأمر لا يقتصر على تحديد المعايير فحسب، وإنما تحديد المعايير بطريقة أكثر قوة وتطبيق ذلك على أي مسعًى تتخذه في حياتك. فإذا أردت تعلم السمات الناجحة للحياة الزوجية، فلن أرهق نفسي بالحديث مع إليزابيث تايلور؛ وإذا أردت أن أصبح لاعب جولف محترف، فسوف أتفاعل مع أحد فرق الجولف الاحترافية وليس مع الدخلاء على اللعبة الذين يأتون إلى ملعب الجولف في العطلة الأسبوعية.

أورد آدم سميث هذه الرؤية العميقة في كتابه الرائد «استقصاء حول طبيعة وأسباب ثروة الأمم» (١٧٧٦). لقد أراد أن يشرح الأسباب التي تقف وراء ثراء الأمم وليس فقرها (لاحظ أن عنوان الكتاب ليس «استقصاء حول طبيعة وأسباب فقر الأمم».) فالفقر لا يحتاج لتوضيح كما أننا لا نتعلم الكثير من دراسته؛ فهو الحالة الطبيعية للبشر منذ أن خرجوا من كهوفهم. ما الذي سنتعلمه إذا اكتشفنا «الأسباب الجذرية» للفقر؟ هل سنصنع المزيد منه؟ إن ما تدعو الحاجة إلى توضيحه هو «الثراء» وليس الفقر. والفارق بين باحث جيد في مجال العلوم الاجتماعية وباحث عادي في المجال نفسه هو الفَهْم، وهو ما أوضحه تشارلز موراي في كتابه الذي نُشر عام ١٩٨٤ تحت عنوان «التقهقر» (الذي يشرح كيف أخفقت دولة الرفاهية) فيما يتعلق بأسباب امتلاك المراهقات أطفالًا (حالة من المؤكد أنها تؤدي، شئت أم أبيت، إلى عيش الأم والطفل في فقر). وأشار إلى أن دراسة المراهقات اللائي لديهن أطفالٌ قد لا توفر الرؤى المطلوبة لفهم الظاهرة؛ لأنك سوف تسمع أسبابًا من قبيل: «الأطفال لطفاء» و«الجنس ممتع» و«أردتُ شخصًا يحبني حبًّا غير مشروط». الأحرى أن تدرس لماذا لا تُنجب الغالبية العظمى من المراهقات أطفالًا (شعور الوالدين بالعار، العقوبة المجتمعية، التعارض مع إتمام التعليم الجامعي … إلخ). فهذه الأسباب تقدم العناصر الناقصة التي تُعين على التغلب على المشكلة. بي جيه أورورك، المراسل الأجنبي السابق لمجلة «رولينج ستون» وزميل مركز أبحاث مينكن في معهد كاتو حاليًّا، يُلخص الفكرة بأسلوب فَكِهٍ في مستهل كتابه «التهم الأثرياء: أطروحة في الاقتصاد»:

لديَّ سؤال جوهري حول الاقتصاد: لماذا تنمو وتزدهر بعضُ الأماكن في حين تعاني أخرى بؤسًا شديدًا؟ الأمر لا يتعلق بالعقول. فلا يوجد جزء من كوكبنا (ربما باستثناء برنتوود) أكثر حمقًا من بيفرلي هيلز بمواطنيها الحمقى. وعلى الجانب الآخر يتمتع الشطرنج بشعبية واسعة في روسيا، ومع ذلك تعاني البلاد من فقر مدقع. (أورورك، ١٩٩٨: ١)

سوف نتبع هذا النهج في هذا الكتاب، حيث سندرس ممارساتٍ ناجحةً من شركات تتسم بالفعالية في نشاطها، وسوف نوسع نطاق دراستنا بقدر الإمكان. فالحكمة لا تقيدها حدودٌ زمنية، وكثيرٌ من الدروس التي نعرضها هنا مستقاة مما أُطلق عليه «عالم ريادة الأعمال» الذي يقطنه هؤلاء المغامرون المبدعون الذين أطلقوا مشروعات لا يزال الكثيرون منا يرعَوْنها ويدعمونها حتى يومنا هذا، والذين كانت لديهم الرؤية والجَلَد لاختبار أفكارهم في السوق، والخضوع على نحو فردي لحكم عملائهم الذين قد يكافئونهم أو ينهرونهم. وفي حين أن هذه الخاصية قد يتعذر إدراجها في معادلة جبرية، فإنها بالتأكيد تمثل إحدى سمات الفعالية.

(٥) ما طبيعة نشاطك؟

رون: السؤال عن طبيعة نشاطك يبدو بسيطًا وسلسًا، لكن، وكما يوضح بيتر دراكر: «لا شيء يبدو أكثر وضوحًا وبديهيةً من الإجابة عن سؤال عن طبيعة نشاط شركة ما. فشركة الحديد والصلب تصنع الحديد، وشركة السكك الحديدية تُدير حركة القطارات التي تنقل المسافرين والبضائع، وشركة التأمين توفر الغطاء التأميني ضد مخاطر الحرائق. في الواقع، يبدو السؤال بسيطًا لدرجة تجعله لا يُطرح كثيرًا؛ وتبدو الإجابة بديهيةً لدرجة تجعلها لا تُعطَى كثيرًا. حقيقةً، إن السؤال عن طبيعة النشاط عادةً ما يكون سؤالًا صعبًا لا يمكن الإجابة عنه إلا بعد تفكير عميق ودراسة جادة. ولا تكون الإجابة الصحيحة بديهيةً بأي حال من الأحوال» (مقتبس في فلاهيرتي، ١٩٩٩: ١٠٨).

إن جميع الطلاب في مجال التجارة والأعمال يعرفون جيدًا قصة أقطاب شركات خطوط السكك الحديدية الذين صنَّفوا أنفسهم باعتبارهم يعملون في مجال السكك الحديدية، ومِن ثَمَّ فوتوا على أنفسهم فرصة العمل في مجال النقل بالحافلات والطائرات، التي ربما كان من الممكن أن يستفيدوا منها استفادة كبيرة لو أنهم نظروا لأنفسهم باعتبارهم يعملون في مجال النقل عمومًا. الأمر نفسه ينطبق على «بلاك آند ديكر»: لو اعتبرَت الشركة نفسها تعمل في مجال الحفر (وهم بالتأكيد يعملون في نطاق أوسع بكثير من هذا، إنما أستخدم مثالًا أضيق نطاقًا هنا) في الوقت الذي يحتاج فيه العملاء إلى ثقب مثلًا، وليس حفرة، فالأرجح أنهم سيفوِّتون على أنفسهم فرصة صنع ثقوب بأشعة الليزر التي بمقدورها هي الأخرى أن تصنع ثقوبًا. ولو أن والت ديزني قصر الأيديولوجية الأساسية لشركته على إنتاج أفلام الكرتون، لما صنع أفلامًا وبنى مدنًا ترفيهية ومنتجعات لقضاء الإجازات وسفنًا للتنزه وغير ذلك. لقد عرَّف نشاط شركة ديزني بأنه «بيع السعادة». وتتم عملية التحديد هذه جزئيًّا من خلال النظر خارج حدود الشركة لفهم مدى استفادة العميل مما يشتريه، وواقع السوق والأيديولوجية الأساسية للشركة، أو بعبارة أخرى الرسالة التي تسعى لتحقيقها.

بل إن كثيرًا من شركات الخدمات المهنية لم تفكر قط في هذا السؤال؛ لأنه يبدو بسيطًا على نحو مخادع؛ ومع ذلك فإن وجود أيديولوجية أساسية لدى الشركة أمرٌ جوهريٌّ لتأسيس شركة قادرة على الاستمرار مستقبلًا. في الكتاب الرائع الذي ألَّفه جيمس سي كولينز وجيري آي بوراس ويحمل اسم «شركات تأسست لتبقى: العادات الناجحة للشركات البعيدة النظر»، يوضِّح المؤلفان أهمية التمسك بأيديولوجيتك الأساسية:

في كتابهما «البحث عن التميز» الذي نُشر عام ١٩٩٢، أسدى بيترز وَووترمان نصيحةً مفادها: «تشبث بنشاطك»، وهو ما يعني وفق تعبيرهما أن «احتمالات الأداء الممتاز تحبذ بقوة، على ما يبدو، تلك الشركات التي تبقى قريبة على نحو معقول من الأنشطة التي تعرفها.» ظاهريًّا، لا تتوافق هذه القاعدة مع الرؤية التطورية التي عرضناها. في الواقع، لو كانت شركة «ثري إم» قد قصرت نطاق نشاطها على التعدين أو ورق الصنفرة، لما أصبحت على ما هي عليه اليوم ولما أصبح لدينا تلك الملصقات التي ساعدتنا على أن نظل منظمين ونحن نكتب هذا الكتاب. من وجهة نظرنا، نشعر بالامتنان لعدم تشبث شركة «ثري إم» بنشاطها الأساسي! علاوة على ذلك، تشبثت شركة «نورتون» بنشاطها الأساسي أكثر من «ثري إم»؛ والنتيجة كما ترون. وتشبثت شركة «زينث» كذلك بنشاطها الأساسي أكثر من موتورولا وكانت النتيجة الاضمحلال. لم يكن لدى «جونسون آند جونسون» خبرة السلع الاستهلاكية عندما بدأت تبيع بودرة الأطفال. ولم يكن لدى شركة «ماريوت» معرفة أساسية في مجال الفنادق عندما بدأت فَتْح فروعٍ في هذا المجال. ولم يكن لدى شركة «إتش بي» خبرةٌ فنية في مجال الكمبيوتر في فترة الستينيات من القرن العشرين عندما أطلقت أول أجهزتها. كما أن شركة «ديزني» لم يكن لديها معرفة بمجال المدن الترفيهية عندما أسَّست «ديزني لاند». ولم يكن لدى شركة «آي بي إم» معرفة أساسية في مجال الإلكترونيات عندما دخلت مجال أجهزة الكمبيوتر. ولم يكن لدى شركة «بوينج» أي معرفة تقريبًا في مجال الطائرات التجارية عندما صنعت طائرتها «بوينج ٧٠٧». ولو كانت «أمريكان إكسبريس» تشبثت بنطاق نشاطها (الشحن السريع)، لما تواجدت على الأرجح اليوم [ناهيك عن امتلاك شركات محاسبية].

لا نقول إن التقدُّم التطوري يعادل التنوع غير الممنهج، أو أن وجود استراتيجية عمل مركزة أمر سيئ بالضرورة. فمثلًا «وول مارت» لا تزال مستمرة في التركيز بثبات على قطاع واحد — البيع بالتجزئة المخفَّض — مع السعي في الوقت نفسه إلى التطوير في إطار نطاق التركيز الضيق هذا. كما أننا لا ندعي أن فكرة «التمسك بالنشاط الأساسي» غير منطقية. السؤال الحقيقي هو: «ما النشاط الأساسي» في شركة بعيدة النظر؟ إجابتنا هي: أيديولوجيتها الأساسية. (كولينز وبوراس، ١٩٩٧: ١٨٦-١٨٧)

كما ترون، السؤال عن الأيديولوجية الأساسية على قدر من الأهمية بحيث ينبغي على أي شركة أن تجيب عنه. قد يذهب المرء إلى القول إنه لو كانت مهنةُ المحاسبة تعثَّرت في نطاقها الضيق، لما استطاعت قط أن تتشعب لتشمل أنشطة متنوعة، مثل إعداد الإقرارات الضريبية ناهيك عن الاستشارات، لكن إذا حددت أيديولوجيتك الأساسية بأنها «مساعدة العملاء على تحقيق أهدافهم العملية»، فسيصبح النشاط الضريبي والعمل الاستشاري امتدادًا طبيعيًّا لخدمات التدقيق المحاسبي. في مؤتمر عُقد عام ٢٠٠٠ تحت عنوان «حقبة الترفيه الجديدة» برعاية «معهد كاتو»، قدمت كريستي هفنر رئيسة مجلس إدارة «بلاي بوي إنتربرايزز» التعليقات التالية التي تسلط الضوء على أهمية فهم المجال الذي نعمل فيه:

قيل إن اسم العلامة التجارية مثل مدينة ترفيهية، ومنتجك مثل هدية تذكارية. فإذا كانت العلامة التجارية جيدة بحق، فإنها لا تكون مجرد شعار محدد لمنتج معين. إنها موقفٌ ووجهةُ نظر، شيء يتفاعل معه الناس ويرتبطون به. لقد ذهب البعض إلى الاعتقاد أنه حتى بعض العلامات التجارية الأكثر نجاحًا اليوم، مثل «كوكاكولا» و«ليفايز»، سوف تندثر في نهاية المطاف إذا ظلت أسيرة لمنتج بعينه. عندما أسس أبي شركة «بلاي بوي» عام ١٩٥٣، لم يكن يتخيل بالتأكيد بناء إمبراطورية، لكن كان لديه إحساس داخلي إيجابي بشأن أشياء من الممكن أن يتبين أنها مهمة للغاية فيما يتعلق بصنع اسم تجاري في نهاية المطاف. ومن بين هذه الأشياء كانت فكرة إصدار مجلة لا تكون فحسب مصدر ترفيه، بل كذلك أسلوب حياة يُروِّج له ويجسده هيفنر نفس من خلال منزل مؤسس مجلة «بلاي بوي» وطائرة الأرنب «بلاك بوني» (عندما استحوذتُ على الشركة في ثمانينيات القرن العشرين)، قررنا أن خبرتنا في النشر ليست أكثر الأصول التي يمكن أن نعزِّزها لدى شركتنا بل اسمنا التجاري، كما قررنا أن نمونا لن يتحقق بإطلاق مجلات أخرى أو الاستحواذ عليها كما فعل كثيرون غيرنا. بتأمل الماضي، يبدو هذا أشبه بفرصة بديهية إلى حد ما، لكنني أُشير إلى وجود شبكة تليفزيونية موسيقية اليوم تحظى بشعبية ضخمة، لكنها لا تحمل اسم «رولينج ستون» وإنما «إم تي في». وتوجد شبكة رياضية تحظى بشعبية ضخمة، لكنها لا تحمل اسم «سبورتس إلستراتيد» بل «إي إس بي إن». وتوجد شبكة إخبارية تحظى بشعبية ضخمة، لكنها لا تحمل اسم «تايم» بل «سي إن إن»؛ ومِن ثَمَّ أعدنا تشكيل الشركة من شركة كانت المجلة مركز نشاطها إلى شركة أصبح فيها الاسم التجاري هو محور التركيز. (مقتبس من «تقرير سياسة معهد كاتو»، يناير-فبراير، ٢٠٠١، صفحة ٦)

لا أتحدث هنا من منطلق التأييد لفكرة صنع «اسم تجاري» لشركتك؛ إذ يوجد كمٌّ هائل من المشكلات تتعلق بهذه الاستراتيجية كما أوضح الكثير من خبراء التسويق في هذه المهنة لوقت طويل (لا سيما بروس ماركوس وتروي ووه)، وأتفق مع وجهات نظرهم بشأن صنع علامة تجارية: فبخلاف الشركات المحاسبية الأربع الكبرى، من الصعب صنع اسم تجاري لشركة محلية صغيرة؛ إذ إن العملاء يرتبطون بالأشخاص الذين لديهم علاقات معهم لا بالاسم التجاري. إذا كنت تشك في ذلك، فلماذا إذن عندما يغادر شخص ما شركة صغيرة، يكون بمقدوره أن يأخذ معه العملاء الذين كان يخدمهم؟

•••

بول: انظر إلى الأمر من زاوية مختلفة. هل يمكن أن تلفت وفاتك اليوم أنظار عملائك؟ في الواقع، سيلحظون ذلك على الأرجح. وربما يرسلون برقية تعزية لعائلتك ولأصدقائك؛ وربما يدعمون الأشخاص الذين يحتاجون إلى دعمهم؛ بل ربما يحضرون جنازتك (حسب حالة الطقس في ذاك اليوم) أو على الأقل سيحضرون القدَّاس الذي يسبق جنازتك أو يعقبها! هل تستطيع أن تخمن ما سيفعلونه بعد ذلك؟ سوف يذهبون إلى شخص آخر في شركتك ويقولون: «إذن من الذي سيُنجز عملي الآن؟» ويستجيب شخص ما ويؤدي العمل الذي اعتدتَ أن تؤديَه. بل إن الأكثر إثارةً من ذلك أن العملاء ربما يسعدون بما يفعله الشخص الجديد.

بافتراض هذا السيناريو، ثمة سؤالان مهمان هنا: لماذا لا أُدير الشركة الآن بطريقة تجعلها لا تعتمد عليَّ؟ لماذا لا أدير الشركة الآن كما لو كنت سأرحل عنها؟ بعبارة أخرى، لماذا لا أدير الشركة الآن بالطريقة التي تناسب الواقع الفعلي لما سيحدث إذا أنا متُّ؟ عندما تفعل ذلك، يمكنك أن تتعامل مع حقيقة أنك لا تزال على قيد الحياة باعتبارها ميزة لكن مع تعديل ما تفعله. في الواقع، ستصبح مثل النحلة الطنانة.

دعني أوضح سبب ذلك بنقل قصةٍ حكاها والت ديزني؛ إذ قال إن طفلًا طلب منه أن يرسم شخصية «ميكي ماوس». اعترف ديزني للطفل بأنه لم يعد يرسم، فسأله الطفل على الفور: «إذن أنت تبتكر كل هذه النكات والأفكار، أليس كذلك؟» أجابه ديزني بأنه لم يكن يفعل ذلك أيضًا. أخيرًا سأله الطفل: «أخبرني سيد ديزني، ماذا تفعل بالضبط؟» فأجاب قائلًا: «حسنًا، أحيانًا أعتبر نفسي نحلة صغيرة، أنطلق من مكان لآخر في الاستوديو لأجمع الرحيق وأحفز جميع من وُجد. أظن أن تلك هي الوظيفة التي أؤديها.»

لقد أصاب ديزني! نحن نفتقده تمامًا بالطبع مثلما سيفتقدك عملاؤك. لكننا نعشق الموروث (حبوب اللقاح، إن أردت) الذي خلَّفه ديزني؛ فالأشخاص الأقوياء يشاركون ثقافة رائعة بحق وشغفًا بما يفعلونه.

أليس هذا بالفعل ما نريده جميعًا؟ سوف نتناول هذا الأمر بمزيد من التفصيل لاحقًا.

•••

رون: بالنظر إلى الصورة الأشمل، ما نريد أن نقوله هنا إن أيديولوجيتك الأساسية ورؤيتك الجوهرية عنصران مهمَّان في تحديد طبيعة نشاط شركتك والعملاء الذين تخدمهم، والأهم من ذلك الأشياء التي لن تفعلها. ووجود فجوات في السوق يتسق تمام الاتساق مع هذه الرؤية؛ إذ لم تعد الشركات قادرةً على إرضاء جميع العملاء. وكما يقول آرت باومان، محرر «تقرير باومان المحاسبي»: «لسنوات عدة، أصبح واضحًا أن الشركات التي تركز على أهداف محددة هي التي تربح. نرى كل عام الفجوة بين من يملكون ومن لا يملكون في مجال المحاسبة تزداد اتساعًا بسبب هذه المسألة وحدها» (مقتبس في ووه، ٢٠٠١: ٢٦٤).

اقضِ الوقت اللازم للإجابة عن السؤال التالي: «ما طبيعة نشاط شركتي؟» حدِّد أيديولوجية أساسية، من واقع حياة عملائك وكيف يستفيدون مما تفعله. وأيًّا كان ما تقرره، فعليك أن تعي أن شركتك، صغيرة كانت أم كبيرة، هي شركة ذات رأس مال فكري، وهذا هو ما تطوره في نهاية المطاف من أجل تحقيق قيمة وثراء لعملائك وتحقيق نجاحك.

(٦) ما مصدر الأرباح؟

«السفينة في المرفأ آمنة؛ لكن ليس لهذا الغرض تُبنى السفن.»

جون إيه شيد
رون: في ندوات عقدناها حول العالم، عرضنا على المشاركين عوامل الإنتاج التالية في أي اقتصاد، ونوع الدخل المشتق منها:
الأراضي = الإيجارات.
العمالة = الأجور والرواتب.
رأس المال = الأسهم وتوزيعات الأرباح والأرباح الرأسمالية.
ثم نطرح سؤالًا يبدو أنه بسيط على غير الحقيقة: «ما مصدر الأرباح؟» حتمًا سيجيب أحدهم مازحًا: «ساعات العمل المدفوعة الأجر». بطبيعة الحال، عند الأخذ في الاعتبار مسألة أن المحاسبين عاشوا وفق معادلة الممارسة القديمة على مدى جيلين، ربما لا تنطوي الإجابة على مزاح. ومع ذلك، فالإجابة الفعلية هي: مصدر الأرباح «المخاطرة». فكلمة entrepreneur (رائد الأعمال) مصدرها الكلمة الفرنسية entreprendre التي تعني «أخذ على عاتقه» أو «التزم»، وهي مصدر الكلمة الإنجليزية enterprise التي تعني «مشروعًا» وتعني «مغامرة» أيضًا. وقد صاغ الاقتصادي الفرنسي الرائع جيه بي ساي الكلمة لتعني «صاحب رأس مال المخاطرة» أو «المغامر». لكن ليس رواد الأعمال فحسب هم من يحققون الأرباح؛ بل المنشآت القوية أيضًا.
عندما تنخرط شركة ما في الابتكار، فإنها تُقدم بذلك على مغامرة. في اللغة الإيطالية اشتُقَّت كلمة «مخاطرة» من risicare التي تعني «الجرأة» وتوحي بالاختيار وليس القدر كما يوضح بيتر أل برنشتاين في دراسته الرائعة عن المخاطرة التي حملت اسم «رغم الصعاب». في اللغة العربية تعني كلمة «مخاطرة» الجرأة. بعبارة أخرى، كلمة «مخاطرة» تتضمن معانيَ إيجابية. ثمة أربع استجابات تصدر عنا عندما نواجه خطرًا: إما أن نتجنبه، أو نقلل منه، أو نغيره، أو نتقبله. في الواقع، لا يمكن لشركة أن تتجنب المخاطرةَ؛ لأن هذا معناه عدمُ تحقيق أرباح. الهدف هو اتخاذ مخاطر محسوبة واختيارها بحكمة. المشكلة لدى العديد من شركات الخدمات المهنية تتمثَّل في أنها تعمل من أجل تجنُّب الخسارة، وليس تحقيق الفوز. فهذه الشركات تضع سقفًا مريحًا لإيراداتها (باستخدام آلية سعر الكُلفة للمعدلات بالساعة، المشتقة من إضافة صافي دخل مرغوب فيه إلى المصروفات التشغيلية). إنها تفرض ذلك على نفسها، وهذا منشؤه محاولة تجنُّب المخاطرة أو المجهول (وهو أمر باهظ التكلفة عند النظر إلى الفرص الضائعة). فتجنُّب المخاطرة يؤدي إلى فشل الشركة؛ إذ إن الشركة الناجحة يجب أن تسعى لتعظيم فرصها وليس الحد من المخاطرة.

صنَّف بيتر دراكر المخاطرة إلى ثلاث فئات: المخاطرة التي يمكن تحمُّلُها، وتلك التي لا يمكن تحملها، والمخاطرة الإجبارية. أولًا: يوجد نوع من المخاطرة يمكن للشركة أن تتحمله؛ فإذا نجحت في الابتكار، فلن تحقق نتائج هائلة، وإذا أخفقت، فإن ذلك لن يُلحق بها ضررًا جسيمًا. وثانيًا: توجد مخاطرة لا يمكن للشركة أن تتحملها. وهذه المخاطرة تتضمن عادةً ابتكارًا تفتقر الشركة إلى المعرفة اللازمة لتطبيقه، وعادة ما ينتهي الأمر بتعزيز موقف المنافس. وثالثًا: توجد مخاطرة لا تقوى الشركة على عدم الإقدام عليها؛ فعدم تنفيذ هذا الابتكار قد يكون معناه أنه قد تمضي سنوات عديدة على الشركة دون عمل (مقتبس في فلاهيرتي، ١٩٩٩: ١٧٢).

بطبيعة الحال، في هذا الكتاب، نؤيد النوع الثالث من المخاطرة، أو بعبارة أخرى، الإقدام على تلك المخاطر التي تدفع الشركة نحو مستويات أعلى من الفعالية والربحية. غالبًا ما يُنظر إلى المخاطرة في شركات الخدمات المهنية باعتبارها شيئًا سلبيًّا؛ استخدامًا متهورًا للموارد التي يكون من الأفضل تخصيصها للشركاء. وهذا أبعد ما يكون عن الحقيقة؛ فتخصيص جزء من موارد اليوم للتوقعات المستقبلية يستلزم مخاطرة بالتأكيد، ولكن بما أن هذا هو مصدر الأرباح — ناهيك عن الابتكار والديناميكية والنمو الاقتصادي — فإنها عمليةٌ يجب أن تكون متأصلةً في ثقافة شركة المستقبل. بمنظور الاقتصاد، قد لا تشكل الأرباح سوى ١٠ بالمائة مما يُنتجه الاقتصاد الأمريكي، لكن فيما يتعلق بخلق حافز لإنتاج نسبة اﻟ ٩٠ بالمائة المتبقية مما ينتجه، تُعدُّ الأرباح أساسية. والأرباح مشتقةً من المخاطرة؛ فالرضا بالوضع القائم ليس خيارًا.

هذه، بالمناسبة، نقطة أخرى جديرة بالملاحظة فيما يتصل بمعادلة الممارسة الجديدة؛ لأنها تجعل المعادلة تبدو كما لو أن الربحية تتحقق عن طريق تعزيز رأس المال الفكري بفعالية وبالسعر المناسب، لكن المعادلة تفتقر إلى التشديد على عنصر المخاطرة. ينبغي أن نتذكر دائمًا أن الأرباح تُشتقُّ في نهاية المطاف من المخاطرة، وأنه لن يكون بمقدور أي معادلة، مهما كانت درجة تعقيدها وتشابكها، أن تأسر لب رائد الأعمال.

موجز ونتائج

وضع هذا الفصل الأساس الذي ترتكز عليه بقية أجزاء الكتاب. لقد غطَّينا جانبًا كبيرًا من الموضوع وعرضنا بعض الأفكار الجذرية. فأوضحنا أن معادلة الممارسة القديمة غير جديرة بمهنتنا النبيلة، وأن هذه المعادلة تعزِّز الأشياء الخاطئة ولا توضح العناصر التي تُشكِّل نجاحنا. أما المعادلة الجديدة فتسُدُّ جميع هذه الثغرات، وهي نموذج جدير بأن يُتمسَّك به في مهنة هي مبعث فخر لنا. وفي حين أنه لا تزال هناك جوانب قصور في المعادلة — فهي لا تجيب عن أسئلة تتعلق بأسباب انخراطنا في هذا المجال وطبيعة المجال الذي نعمل به ومصدر الأرباح — فإنها بمنزلة نقطة انطلاق لفهم عوامل نجاح شركة المستقبل.

الشركات المهنية هي مؤسسات رأس مال فكري، وقد آن الأوان أن تبدأ تلك الشركات في التصرف استنادًا لهذه الحقيقة بدلًا من محاولة تعزيز الكفاءة باستمرار عن طريق التعامل مع رأس مالها البشري كما لو كان البشر آلات بلا عقل، ما يذكرنا بدراسات الحركة والزمن لفريدريك تايلور. فالبشر ليسوا مجرد آلات تتواجد لتعمل ساعات مدفوعة الأجر، ومعادلة الممارسة القديمة تُبقينا أسرى لهذه الوجهة في التفكير. ونعتقد أننا نستطيع — أو ينبغي علينا — أن نفعل ما هو أفضل من الفرص التي يقدمها لنا النموذج العتيق.

عندما عرضنا على الجمهور معادلة الممارسة الجديدة لأول مرة وقارناها بمعادلة الممارسة القديمة، أوضحت محاسِبة قانونية في فترة الاستراحة أسباب اعتقادها أن المعادلة الجديدة أفضل بكثير من المعادلة القديمة. كان أهم ما قالته: «معادلتكم تقدم عوامل أكثر بكثير مما قدمته المعادلة القديمة، وهذه العوامل من شأنها أن تُمكِّن أي شركة من تحقيق أهدافها. إن الأمر أشبه بالتحرُّر من قفص قيَّد شركتنا لعقود.»

أملنا الكبير أن يكون لهذا النموذج الجديد تأثيرٌ مماثل على جميع من يدرسونه، وأن يُغيِّر سلوكهم. في الواقع إن النموذج القديم مقيد للغاية، ولا يعكس واقع السوق الحالية التي يعمل فيها المهنيون. وينبغي على شركات المستقبل أن تقود المهنة عن طريق اتباع نموذج يليق بميراثها المشرف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤