الفصل السادس

رأس المال الهيكلي: لو كنَّا نعرف ما نعرفه فحسب!

رأس المال الوحيد الذي تمتلكه أي مؤسسة ولا يمكنها الاستغناء عنه هو المعرفة المتوفِّرة لدى موظَّفيها والكفاءة التي يتحلَّون بها. وإنتاجية هذا النوع من رأس المال تعتمد على مدى مشاركة الموظفين بفعالية لكفاءاتهم مع غيرهم ممن يستطيعون الاستفادة من هذه الكفاءات.

أندرو كارنيجي
كتاب: «تحرير أصول المعرفة: حلول مقدمة من شركة مايكروسوفت بخصوص إدارة المعرفة»
مدينة هوليوود هي مدينة نجاحها قائم على رأس المال الفكري؛ حيث تبحث خارج حدودها عن موضوع لاستغلاله في إنتاج الأفلام، وغيرها من أشكال الترفيه، مأخوذ من الروايات والكتب المصورة والمسرحيات وألعاب الفيديو وبرامج التليفزيون. ولقد قررت شركة والت ديزني استغلال رأس مالها الفكري بطريقة جديدة ومبتكرة، كما ذُكر في هذا المقال المقتبس من جريدة «أورلاندو سنتينل» بقلم ريتشارد فيرييه:

تعكف شركة والت ديزني حاليًّا على صنع ثلاثة أفلام مستوحاة من الألعاب الكلاسيكية لمدينة الملاهي؛ مضيفة بذلك بُعدًا جديدًا لفكرة استغلتها الشركة قبل نصف قرن مضى. والأفلام — «دببة الريف» و«قراصنة الكاريبي» «والقصر المسكون» — مستوحاة من ألعاب أيقونية لديزني وسيجري طرحها هذا العام والعام المقبل. وتمثل الأفلام فصلًا جديدًا من تاريخ السينما واستراتيجية جديدة لشركة ديزني، التي تصمِّم ألعاب ملاهيها وتفرد لها بالأساس مساحة لتظهر في أفلامها، بداية من «سنووايت والأقزام السبعة» حتى «الأسد الملك».

أسَّس والت ديزني مدينة ملاهي ديزني لاند عام ١٩٥٥ باعتبارها مركزًا واقعيًّا للشخصيات الكارتونية التي ابتكرها هو وفريقه من صنَّاع الرسوم المتحركة على الشاشة. وتصل فكرة والت ديزني للتآزُر أو الترويج التبادلي — التي تقلَّدها في الوقت الحالي شركات إعلامية أخرى — إلى مستويات جديدة في الأفلام القادمة. ستكون أسماء الأفلام مألوفةً بالفعل بالنسبة إلى ملايين الأمريكيين الذين زاروا مدن ملاهي ديزني بأورلاندو وفلوريدا وآناهايم وكاليفورنيا، مما يوفِّر لديزني جمهورًا جاهزًا في وقتٍ تتنافس فيه الاستديوهات بشراسة على تسويق أفلامها. ومن خلال تسليط الضوء مرة أخرى على الألعاب الكلاسيكية للشركة، تساعد الأفلام أيضًا في الترويج لملاهي ديزني. وعن هذا يقول ديك كوك، مدير استديوهات ديزني: «هذا يبدو طبيعيًّا للغاية لدرجة أننا سنُنعَت بالجنون إذا لم نسعَ إلى ذلك. هذه الألعاب بمنزلة أيقونات تميز ديزني. ولقد استُغلت في الأفلام.» ولا بد أن كوك يعلم هذا الأمر جيدًا. فقد بدأ مدير الاستديوهات مشوارَه المهني الذي امتدَّ على مدى ٣١ عامًا كعامل تشغيل الألعاب بمدينة ملاهي ديزني لاند، وعملت زوجته في عرض مسرح العرائس «مهرجان دببة الريف» بمدينة آناهايم ذات مرة. وعقب قائلًا: «هذه الأفلام هي تعريف لنوعية الأفلام التي نود إنتاجها.» وقد تنتج ديزني المزيد من هذه الأفلام إذا ما نجحت الأفلام الثلاثة الأولى، على حد قول كوك. لقد جاءت تجربته بينما كانت ديزني تحاول تحسين أداء شباك تذاكرها من خلال المزيد من العروض الموجهة للأسرة والمرتبطة بالأفكار الأصيلة للشركة. سعت شركة ديزني — التي واجهت تحديًا أمام أفلام منافسة حققت نجاحًا مدويًا مثل «هاري بوتر وحجر الفلاسفة»، و«سيد الخواتم» — إلى استعادة سمعتها باعتبارها رائدة الأفلام العائلية. وتُبرز استراتيجية ديزني الجديدة أيضًا كيف أن الأفلام صارت أدوات لتسويق المنتجات على نحو متزايد، بداية من ألعاب الفيديو حتى السيارات، وفق تصريحات مؤرخي السينما. فقد صرَّح ريك جيويل، مساعد عميد كلية السينما والتليفزيون بجامعة كاليفورنيا الجنوبية قائلًا: «ثمة ندرة هائلة في الأفكار الجديدة هذه الأيام. والاستديوهات ليست على أتم الاستعداد للمخاطرة بموضوع جديد.» ويرفض المديرون التنفيذيون تلك الفكرة. فقد علَّقت نينا جيكوبسون، مديرة إنتاج استديوهات ديزني، قائلة: «لن يكون هناك طائلٌ من إنتاج هذه الأفلام إذا لم تفكر في أن لها الحق في التواجد بشروطها الخاصة؛ وإلا فستكون إعلانات تجارية، لا أفلامًا. الحقيقة أن والت كان واحدًا من أعظم عقول القرن العشرين، وثمة أسباب تفسر لماذا صارت هذه الألعاب ذات شعبية كبيرة ولا يزال الناس يتذكرونها. وإذا كانت لديك إمكانية الوصول إلى هذه الأيقونة الثقافية العظيمة، فلا حرج من العودة إليها.» وعلى الرغم من أن شركة ديزني قد أنتجت فيلمًا للتليفزيون عام ١٩٩٧ مستوحًى من لعبة برج الرعب الموجودة باستديوهات ديزني – مترو جولدوين ماير بمدينة أورلاندو – فإن الاستديوهات لم تنتج قط فيلمًا روائيًّا طويلًا مستوحًى من لعبة بمدينة ملاهي … ستساعد مدن الملاهي في نشر الخبر، ولا بد أن الأفلام ستزيد من الترويج لألعاب الملاهي. صرَّحت ليسلي جودمان المتحدث الرسمي لملاهي ومنتجعات والت ديزني قائلة: «من المفيد أن نزيد الوعي بألعابنا الترفيهية.» (فيرييه، ٢٠٠٢)

•••

رون: تكمن عبقرية هذه الاستراتيجية في طريقة استغلال شركة «ديزني» لرأس مالها الفكري؛ ولا سيما رأس المال الهيكلي ورصيد الشركة من العملاء. ولشركة ديزني تاريخ عريق في التخلِّي عن المعتقدات السائدة؛ وبخاصة عندما تفكر مليًّا في المكان الذي اختاره مؤسِّسها لأشهر مدينتي ملاهي في مزارع البرتقال والجوز (مدينة ديزني لاند بمدينة آناهايم، ولاية كاليفورنيا) وأرض المستنقعات (عالم والت ديزني، بمدينة أورلاندو، ولاية فلوريدا). من الممكن التغلُّب على الشعار الذي يتردَّد كثيرًا في سوق العقارات — الموقع، ثم الموقع، ثم الموقع — من خلال رأس المال الفكري؛ عندما تضع في الاعتبار أن شركة «ديزني» اشترت ٢٩٥٠٠ فدان بمدينة أورلاندو مقابل متوسط سعر ٢٠٠ دولار للفدان. اليوم، تبلغ قيمة الفدان نفسه مليون دولار. وفيما يتعلق باقتباس مقال جريدة «سنتينل»، بالطبع تعزز «ديزني» الأفلام المذكورة لتشمل ما هو أكثر من ألعاب الملاهي الترفيهية، ولكن الواقع أن الفكرة تنبع من ألعاب صُمِّمت منذ نحو ٥٠ عامًا مضت، ومع الوضع في الاعتبار أن الملايين من مختلف الأعمار عاشوا تجربة ركوب هذه الألعاب، فإن الاستفادة هنا تصل إلى مستويات مهولة. وهذه الاستفادة المهولة تُترجم على هيئة إيرادات مهولة.

ومع ذلك، لا تستغل معظم شركات الخدمات المهنية نقاط القوة بهذه الطريقة. إنها لا تفكِّر إلا في استغلال الموظفين، أو الأسوأ، استغلال ساعات العمل. في حين أن ما ينبغي عليهم التركيز عليه هو استغلال رأس مالهم الفكري.

في يناير ١٩٩٥، اجتمعت مجموعة إدارة رأس المال الفكري — وهي مجموعة شركات رائدة تتصدَّر طليعة الشركات التي تُدير رأس مالها الفكري — وعرَّفت هذا النوع من رأس المال على هذا النحو: «معرفة يمكن تحويلها إلى أرباح» (ليف، ٢٠٠١: ١٥٥). ويعرِّف كارل – إيريك سيفبي «إدارة المعرفة» بأنها: «فن ابتكار قيمة من أصول غير ملموسة (ويقصد «بالقيمة» الجانب المالي والجانب غير المالي على حد سواء).»

وعلى الرغم من أننا لسنا من المغرمين بمصطلح «إدارة المعرفة»؛ لأسباب شرحناها في الفصل الخامس الذي تناول رأس المال البشري، ونظرًا لأننا نهتم في هذا الفصل برأس المال الهيكلي، لا البشري، فإننا سنستعين بالمصطلح؛ لأنه يمثل الاتجاه السائد في مفردات إدارة الأعمال، ويسهل على الراغبين منكم في الفهم المتعمق لهذا المجال المهم من خلال إجراء المزيد من الأبحاث في هذا الصدد.

بالطبع، لا تمثل إدارة المعرفة شيئًا جديدًا؛ إذ إن إجراءات التشغيل القياسية والموثقة في كتيب إجراءات التشغيل أنجزت الشيء نفسه، قبل إتاحة أجهزة الكمبيوتر بفترة طويلة. والمكتبات من مختلف أنحاء العالم تحتوي على مخزون من رأس المال الهيكلي. أما فيما يتعلق بنقاشنا، فإن رأس المال الهيكلي — المتمثل في أنظمة شركتك والإجراءات والتكنولوجيا وقاعدة البيانات وغيرها من العمليات التي تستعين بها لإنجاز العمل — هو المعرفة التي لا تغادر العمل لتعود إلى منزل في المساء، على عكس رأس مال شركتك البشري الذي يغادر العمل. ورأس المال الهيكلي مهم لأنه يمنع — أو ينبغي أن يمنع — الشركات من إعادة اختراع العجلة مرة أخرى، ولكن كما أشار توماس ستيوارت: ««إعادة اختراع العجلة» هي العبارة الحتمية، ومعظم الشركات تجيد هذا الأمر لدرجة أنك تعتقد أنهم كانوا موردين لأكبر شركة تنتج دراجات شوين» (ستيوارت، ٢٠٠١: ٢٢٣). والآن، توظف جميع الشركات المحاسبية الكبرى والشركات الاستشارية والكثير من الشركات المدرجة على قائمة مجلة «فورتشن ٥٠٠» مديرين لأقسام المعرفة والمعلومات، وظيفتهم ابتكار المعرفة، وتخزينها آليًّا، وتنظيمها بأسلوب يمكن أن يستعين به من يحتاجون إلى هذه المعرفة بالشكل الذي يحتاجونها به في الوقت الذي يحتاجونها فيه بالضبط. فالشيء الذي تعرفه ليس مهمًّا بالضرورة؛ وإنما «توقيت» معرفتك به هو الذي يمثل أهمية. وإذا كنت تريد أن تزيد الاستفادة من عملياتك للتشغيل، فمن الضروري أن تسهل على رأس المال البشري عملية استغلال رأس المال شركتك الهيكلي.

ينبغي أن يتعامل أي نظام لإدارة المعرفة مع تحصيل المعرفة الضمنية الموجودة لدى رأس المال البشري في شركتك ووضعها في الموقع الذي يمكن إعادةُ استغلالِها من خلاله على يد من قد يحتاجون إلى هذا النوع من المعرفة. وتمتلك شركات الخدمات المهنية مستودعاتٍ شاسعةً للمعرفة الضمنية؛ ولكن نظرًا لأن هذه المعرفة تكمن في رءوس موظفيها، فهي لا تشق طريقها أبدًا نحو رأس المال الهيكلي للشركة. فلن يفيد والت ديزني أن يحلم بإنتاج فيلم «قراصنة الكاريبي» ما لم يشارك معرفته ورؤيته مع المبتكرين لتحقيق حلمه على أرض الواقع. وإدارة المعرفة ليست معنية بابتكار قاعدة بيانات أخرى، أو بوابة الشبكة الداخلية، بل هي معنية بمشاركة المعرفة عبر مختلف أقسام الشركة، بصورةٍ تتيح إعادة استخدامها، من أجل الاستفادة مما تعرفه الشركة على نحو أكثر فعالية.

يجب أن تعرف الشركات المعرفةَ الفنية والتقنية الأساسية في كل قسم من أقسامها، وتحدد الموضع الذي ينبغي أن تكمن فيه هذه المعرفة وطرق ربط خيوط هذه المعرفة بعضها ببعض. وفي كتاب لهما بعنوان: «تحرير أصول المعرفة: حلول مقدمة من شركة مايكروسوفت بخصوص إدارة المعرفة»، تلخص سوزان كونواي وتشار سليجار العوامل الأساسية لنظام إدارة المعرفة الفعَّال على النحو التالي:
  • التخزين: ينبغي أن يحتويَ النظام على مستودعٍ لحفظ أصول المعرفة. وربما يحظى النظام بطريقة لتعقب الوثائق ونظام التحكم بالنسخ وضمان عنصر الأمان والبحث وإمكانيات التصنيف.
  • النشر: ينبغي أن يتيح النظام لعدة أفراد الاطَّلاع على المعلومات والوصول إليها بسهولة؛ في حين يُقيِّد عدد الموظفين الذين بإمكانهم ابتكار المعلومات ونشرها. وقد يشتمل ذلك النظام على خصائص البحث والتعقُّب.
  • الاشتراك: ينبغي أن يتيحَ النظام للمستخدمين وضْعَ القواعد الخاصة بالمعلومات التي «ستُدفع» إليهم تلقائيًّا. ولعلَّ هذا النظامَ يكون قادرًا أيضًا على المفاضلة بين أشكال معينة من المشاركات والتمتُّع بخاصية التحديث وهلم جرًّا.
  • إعادة الاستخدام: ينبغي أن يوفِّر النظامُ بيئةَ نشرٍ متعددة المصادر. وربما يشتمل النظام على التقييم والتقييد وخصائص التعقب.
  • التعاون: ينبغي أن يسمح النظام لعدة مساهمين بأن يتعاونوا معًا من أجل ابتكار محتوى واحد وإدارة عملية تعقب المراجعة. وربما يحدِّد النظام الخبراء وإمكانية تواجدهم عبر شبكة الإنترنت وإمكانية إجراء المناقشات وهلم جرًّا.
  • التواصل: ينبغي أن يُسجِّل النظام جميع أشكال تبادل المعلومات آليًّا ويدير تداولها، ومن بين أشكال تبادل المعلومات بما فيها رسائل البريد الإلكتروني والتواصل عبر الهاتف والرسائل الفورية والحوار المباشر، وأن يتيح كذلك التواصل العفوي. (كونواي وسليجار، ٢٠٠٢: ١٧)

تمتلك شركة «مايكروسوفت» — ولعلها المؤسسة الأبرز في مجال رأس المال الفكري على مرِّ التاريخ الحديث — أكثرَ من ٢٫٥ مليون صفحة وألفي موقعٍ إلكتروني على الشبكة الإلكترونية الداخلية لتحقق بذلك الأسبقية في هذا المجال. وهذا ما وصفه بيل جيتس بأنه «عمل فكري يُنجَز من خلال المزج بين عمليات خاصة بالعمل التجاري والثقافة المؤسسية وبين تكنولوجيا تمكينية لتعزيز بيئة إبداعية للعمل» (المرجع السابق: ٤).

ولا شك أن إدارة المعرفة ليست أداةً تكنولوجية جديدة نقترح عليك إضافتها لكفاءات شركتك؛ وإنما هي تغيير «ثقافي» يطرأ على الطريقة التي تنظر بها إلى ما تبتكره شركتك وما تنشره من أفكار وما تبيعه من منتجات أو خدمات. وشركات الخدمات المهنية لا تختلف عن شركة «مايكروسوفت» قيد أنملة؛ فكلتاهما مثال يُحتذى به من جانب المؤسسات التي ينصب تركيزها على رأس المال الفكري الأصيل.

•••

بول: هذا هو التغيير الذي نود منك أن تحدثه في طريقة تفكيرك: «شركتي للخدمات المهنية تُعدُّ المثال الذي يُحتذى به من جانب المؤسسات التي ينصب تركيزها على رأس المال الفكري الأصيل.» اكتب هذه العبارة، وعلقها أيضًا على حائط مكتبك؛ لتذكر أي شخص يدخل إلى مقر شركتك بتلك الحقيقة. فكِّر مليًّا في ماهية النموذج المُتبع لتغيير طريقة التفكير. ففي حين أن منافسيك عالقون في وجهة النظر القاصرة التي ترى أن وسائل زيادة الإيرادات والأرباح تتمثل في معدلات تحويل ساعات العمل إلى نقود وفي القوى العاملة، أنت تعرف أن الأمر ليس كذلك؛ لأن شركتك تُعدُّ المثال الذي يُحتذى به من جانب المؤسسات التي ينصب تركيزها على رأس المال الفكري الأصيل. وهذا، بالطبع، يعني أن تخزين المعرفة واستغلالها وإعادة استغلالها «عامل مهم للنجاح» في شركتك (وفي أي شركة مستقبلية).

•••

رون: فكِّر في نموذج الشركة النمطية: كم مرة تضطر تلك الشركة إلى إعادة تنفيذ العمل؛ لأن الموظف الذي نفذه في الأصل لا يمكن تحديد موقعه (أو لأنه لم يعد على قوة العمل لدى الشركة) أو لأنه لم يستغرق الوقت اللازم لتوثيق المعرفة «الضمنية» التي تعلمها خلال عمله لكي تصير معرفة «ظاهرية» وجزءًا من رأس المال الهيكلي للشركة؟ إلى أيِّ مدى تستثمر الشركة في رأس مالها البشري؛ وذلك من خلال إرسال موظفيها إلى دورات تعليمية إضافية ولكن دون تخزين آلي للمعرفة التي تعلموها على الإطلاق؟

إن إضافة برنامج حاسوبي متعلق بإدارة المعرفة لمنظومة العمل بشركتك لن يسفر عن أي مزايا مستدامة على المدى الطويل، ما لم تتفهم أهمية استغلال المعرفة. وتعتمد جميع ملكات الابتكار والإبداع على المعرفة؛ إلا أن الشركات التقليدية تنشغل كثيرًا بنظام احتساب الأجر بالساعات لدرجة أنها لا تخصص الوقت أو تكرس الاهتمام لهذه الموارد المهمة. وعدد الفرص الضائعة مهول فيما يتعلق بكل من الافتقار إلى ملكات الابتكار والإبداع وكذلك خسارة الأرباح؛ نظرًا لعدم إحراز تقدم على منحنى القيمة الخاص بالعملاء.

(١) استغلال رأس المال الفكري وابتكار ثاني أكبر عملة رائجة في العالم

رون: أسدى الكاتب الساخر، آرت بوخفالد، هذه النصيحة إلى الصحفية جوديث مارتن (التي تكتب تحت اسم مستعار هو «ميس مانرز») (ويعني الآنسة فضيلة) في بداية مشوارها المهني بصحيفة «واشنطن بوست»: «لا تبيعي أبدًا أي شيء مرة واحدة فقط.» أخبرها مفسرًا أن المادة التي يستعين بها في عموده الصحفي بالجرائد يعيد تجميعها وبيعها مرة أخرى في كتب ذات أغلفة سميكة وكتب ذات أغلفة ورقية، ثم يعيد الحديث عن هذه المادة العلمية وبيعها مرة أخرى في البرامج الحوارية والخطب مدفوعة الأجر. وأردف قائلًا: «هذا كل ما تدور حوله المعرفة المنقحة»» (مقتبس من ستيوارت، ٢٠٠١: ١٤٥).

بالتأكيد استوعبت شركات الخطوط الجوية هذا الدرس. وتحديدًا قبل ٢١ عامًا من وقت تأليف هذا الكتاب في مايو ٢٠٠٢، ووفقًا لتقرير نُشر بمجلة «ذا إيكونوميست»، عدد ٤ مايو ٢٠٠٢، دشنت شركة الخطوط الجوية الأمريكية برنامج مزايا السفريات المتكررة على الخطوط الجوية نفسها، الذي أصبح بمنزلة عملة خاصة مؤخرًا، وسرعان ما قلدتها جميع شركات الخطوط الجوية الأخرى تقريبًا. وفي نهاية شهر أبريل عام ٢٠٠٢، ظل إجمالي ما يقرب من ٨٫٥ تريليون ميل غير مستخدم؛ وقُدرت هذه المسافة بقيمة سوقية تتراوح بين سِنتَين و٩ سنتات للميل، وتقدر هذه العملة العالمية بقيمة ٥٠٠ مليار دولار (مقارنةً بالعملات الورقية والمعدنية المتداولة في شتى أنحاء العالم، يمكن القول إن عملة مزايا السفريات المتكررة هي ثاني أكبر عملة بعد الدولار). وهذه الأميال محل نزاع في قضايا الطلاق والانفصال، وثلثا المسافرين الذين أُجريَ عليهم الاستطلاع يقولون إنهم يعتبرون الفوز بأميال إضافية — كميزة تمنحها الشركة لعملائها كثيري السفر — هي أفضل شيء بعد النقود الحقيقية. وواحد من كل ثلاثة أمريكيين يجمع هذه الأميال الإضافية، وتقريبًا نصف هذه الأميال جميعها تكتسب شكلًا ملموسًا على أرض الواقع (من خلال برامج كسب ولاء العميل المتمثلة في مزايا على شكل بطاقات ائتمان وحجوزات بالفنادق وتعاقد مع شركات تأجير السيارات وعروض مكالمات هاتفية … إلخ)، مولدًا بذلك أرباحًا تُقدر بنحو ١٠ مليارات دولار لشركات الخطوط الجوية في عام ٢٠٠١. وآنذاك قدَّمت شركة «يو إس إيروايز» عرضًا يمكن بمقتضاه، مقابل قطع ١٠ ملايين ميل، أن تشتريَ مقعدًا في أول مركبة فضائية خاصة تقل المسافرين إلى الفضاء في عام ٢٠٠٤. وكل هذه الأفكار الثرية جاءت نتيجة استغلال نظام حجز وبطاقات بلاستيكية منقوش عليها اسم العميل وعدد السفريات المتكررة والمقاعد الشاغرة بالطائرة. ولم تتولد هذه الأفكار الثرية المذهلة من قبل صناعة تؤمن بأنها تبيع للمسافرين أميالًا، أو تبيع للمسافرين ساعات، وهو الأسوأ.

ولا يمكن أن تكون المقارنة برأس المال «المادي» كاشفة أكثر منها عند فحص الميزة الحقيقية المتضمنة في شركات الخِدمات المهنية، وكما ذُكر في موضع سابق، إذا ما خصَّصت شركة خطوط جوية طائرة من طراز بوينج ٧٧٧ لرحلة طيران بين سان فرانسيسكو ولندن، فلا يمكن استخدام الطائرة في الوقت نفسه لقطع رحلة طيران بين سان فرانسيسكو وطوكيو. وعلى الرغم من ذلك، يمكن لنظام الحجز بشركات الخطوط الجوية، الذي يعتمد على رأس المال الهيكلي للشركة ورأس المال الاجتماعي (رصيد الشركة من العملاء والموردين)، التعامل مع عدد غير محدود من العملاء. وهذا تحديدًا هو السبب وراء اعتبار رأس المال الفكري أصلًا غير تنافسي، مقارنةً برأس المال المادي أو المالي.

قد تشعر في مرحلة ما أنك تعايش فترة أخرى من «التنافر المعرفي»؛ لأننا نستعين بأمثلة من مجال الخطوط الجوية. فعلى أي حال، وكما لاحظ الكثير من المعلِّقين، فمنذ اندلاع الحرب العالمية الثانية، وصل مجال الخطوط الجوية بأسره إلى نقطة تعادل بين الأرباح والخسائر. إذن، لماذا نستعين بشركات الخطوط الجوية باعتبارها نموذجًا للنجاح؟ هذا سؤال وجيه ويتكرَّر كثيرًا؛ ولذا ينبغي علينا أن نجيب عنه الآن نظرًا لأننا سنستعين بشركات الخطوط الجوية في أمثلة كثيرة على مدى هذا الكتاب.

على الرغم من أن جميع شركات خطوط الطيران لا تندرج تحت تصنيف الشركات الأكثر ربحية، فإن بعض شركات النقل تندرج تحت هذا التصنيف بالتأكيد، والبعض الآخر حَقَّق أرقامًا قياسية بالفعل، وعندما يحدث ذلك، تجد أن هذه الشركات تتبع الاستراتيجيات نفسها في مجالات التسعير واستغلال الطاقة الإنتاجية والتسويق وغيرها من وسائل استغلال رأس المال الفكري. ويمكن القول جدلًا إنه إذا كانت شركات خطوط الطيران لا تُجيد القيام بهذه الوظائف بمهارة، فلن يكون لها وجود على أرض الواقع. وثمة زاوية أخرى للنظر من خلالها إلى هذا الأمر أَلَا وهي أن تكون ممتنًّا لأن قطاع الخدمات المهنية ليس قطاعًا تنافسيًّا على نحو مكثف مثل مجال خطوط الطيران؛ إذ تعمل شركات المحاماة والشركات المحاسبية وفقًا لهامش أرباح قد تحسدها عليه أي شركة خطوط طيران؛ ونظرًا لأن شركات الخطوط الجوية تحظى بنسبة عالية من التكاليف الثابتة — ونسبة منخفضة نسبيًّا من التكاليف الهامشية — فإنها تقدِّم العديدَ من الدروس القيمة لشركات الخدمات المهنية في هذه المجالات. ففي مجالات محددة — لا سيما التسعير واستغلال الطاقة الإنتاجية — تقدِّم شركاتُ الخطوط الجوية عددًا كبيرًا من «أفضل الممارسات»؛ ولذا من المهم فهم السبب وراء إنجازها للعمل بطريقتها الخاصة. وسأعترف بأنني مولعٌ بهذا المجال على وجه التحديد، غالبًا لأنني أقضي الكثير من وقتي على متن الطائرات، وأجدني باستمرار أطرح أسئلة على غرار: «لماذا تنجزون العمل بتلك الطريقة؟» و«كيف يمكن تطبيق هذا الجانب من عملكم على شركة تعمل في مجال الخدمات المهنية؟»

إن الطرح المستمر للأسئلة هو شكل من أشكال المقارنة المرجعية (وهو مصطلح شائع نُحِت في العقد الأخير أو نحو ذلك)، وهي ممارسة موجودة منذ الأزل. ومثلما درس مؤسِّسو دستور الولايات المتحدة الأمريكية السجلات التاريخية للحضارات الأخرى واستخلصوا منها أفضل الأفكار، ومثلما استخلص هنري فورد فكرة خط التجميع الآلي من زيارة مسلخ، فإن فرص التعلم من صناعات ومجالات أخرى لا حصر لها. كان كتابي الأول بعنوان: «دليل المهني في التسعير القيمي» عبارة عن دراسة شاملة قائمة على مقارنة مرجعية لعمليات التسعير بنظيرتها في مجالات أخرى وبنظرية التسعير الاقتصادي العريقة. ومن خلال دراسة أفضل البدائل لنماذج التسعير، طُورت المفاهيم الخاصة بعقد السعر الثابت وطلبيات تغيير بنود التعاقد والعروض المجمعة وغيرها من المفاهيم. والواقع أن واحدة من أنجح الأدوات — وأهمها — لفرض التسعير القيمي داخل شركات الخدمات المهنية هو طلب تغيير بنود التعاقد، وهو أداة تسعير طوَّرها في الأساس المتعاقدون. لا يحتكر المهنيون سمة الذكاء؛ إذ ربما يكون طلب تغيير بنود التعاقد هو أكثر أدوات التسعير تعقيدًا على الإطلاق، لأسباب سنستكشفها في الفصل التاسع.

الخلاصة هي: يمكننا (بل يجب علينا) أن نتعلم من المؤسسات الأخرى، التي ينصبُّ تركيزها على رأس المال الفكري، كيف نستفيد من أصولنا المعرفية أفضل استفادة ممكنة. ويستشهد ويليام كوب، مبتكر «منحنى القيمة» الشهير، بما يلي باعتباره مثالًا على شركة استغلت بنجاح رأس مالها الفكري:
ابتكرت شركة «لينكلاترز» اللندنية نظامًا متخصِّصًا لتقديم خدمة قانونية معقدة جدًّا يمكن الوصول إليها عبر شبكة الإنترنت يُطلق عليها «بلو فلاج» (وتعني الراية الزرقاء). في المعتاد، يتعاقد العميل مع شركة «لينكلاترز» للقيام بدراسةٍ استقصائية خاصة بالقانون وتقديم المذكرة الناتجة عن الدراسة. وقد تبلغ تكلفة ذلك نحو ١٢٥ ألف جنيه إسترليني. ومن خلال خدمة «بلو فلاج»، يتيح ذلك الأجر نفسه (بالإضافة إلى ٤٠ ألف جنيه إسترليني للصيانة السنوية) شراء إمكانية الوصول إلى المعلومات نفسها لعدد غير محدود من الدراسات الاستقصائية. (كوب، نوفمبر ٢٠٠٠: ٤، موقع: www.Cobb-Consulting.com)

يوضح كوب أن فريقًا قد استغرقَ عامَين تقريبًا ليطوِّر هذا النموذج لرأس المال الفكري، وخلال تلك الفترة بالتأكيد تدهورت كفاءةُ المهنيين المشاركين في العمل، بمقياس نظام احتساب الأجر بالساعات. ولا شك أن مجال شركات الخطوط الجوية يعاني الحالة نفسها من تدهور الكفاءات عند تطوير برنامج مزايا السفريات المتكررة. هل هذا يعني أنه لا ينبغي علينا أن نستثمر الموارد اللازمة لاستحداث وابتكار عروض جديدة للمنتجات والخدمات؟ من الواضح أن المهنيين قد أجابوا عن هذا السؤال ﺑ «أجل» مدوية.

فكر في هذا الأمر: كان آخر عرض خدمات جديد بحق طُوِّر من الصفر على يد أهل مهنة المحاسبة القانونية المعتمدة هو بيان معايير خدمات المحاسبة والمراجعة، الذي بدأ العمل به في عام ١٩٧٨. وجميع الخدمات الجديدة الأخرى التي قدمها أهل المهنة للسوق — بدايةً من رعاية كبار السن حتى خدمات موثوقية مواقع الشبكة العنكبوتية عبر الإنترنت (Webtrust)، ومن لغة البرمجة المرنة لإعداد تقارير الأعمال (XBRL) حتى خِدمات توكيد الثقة في النظم الإلكترونية (Systrust) — مجرد إضافات لخدماتٍ قدمها آخرون. بعبارة أخرى، لمهنة المحاسبة القانونية المعتمدة منحنى ابتكار عمره ٢٤ عامًا، ويزيد مع مرور الزمن! وهذا أمر غير مقبول؛ وأحد الأسباب المفسِّرة لهذا الأمر هو أننا نركِّز باستمرارٍ على الكفاءة ونظام احتساب الأجر بالساعات على حساب الفعالية والابتكار. لا شك أن الكفاءة تؤثر على بيان دخل شركتك؛ إلا أن ما تتمتع به من ابتكار وإبداع وديناميكية هو ما تعتمد عليه ميزانيتك العمومية. وإلا فكيف كان سيتسنَّى لشركة «ديزني» تحقيق ثروة مذهلة على أرض المستنقعات أو لشركات الخطوط الجوية أن تبتكر ثاني أكبر عملة في العالم؟

(٢) تحويل المعرفة الضمنية إلى معرفة ظاهرية

رون: يشير ويليام كوب أيضًا قائلًا: «معظم الشركات لا يمكنها إجبار محاميها على استخدام النماذج نفسها، ناهيك عن الأفكار المشتركة.» وهذا بمنزلة إهدار فظيع لأهمِّ أصول الشركة التي يجب استغلالها في المستقبل؛ ألا وهو رأس مالها الفكري.

عرَّف الفيلسوف مايكل بولاني لأول مرة المعرفة الضمنية والمعرفة الظاهرية. وكي يوضح المعرفة الضمنية، قال إن الأمر أشبه بمحاولتك شرح كيفية ركوب دراجة أو السباحة. فالمعرفة الضمنية «جامدة»، بمعنى أنها لا تنتقل بسهولة وموجودة داخل عقول البشر. إنها ذات طبيعة معقدة وثرية؛ في حين أن المعرفة الظاهرية تميل لأن تكون هشة، كالفارق بين أن تُلقي نظرة على خريطة وأن تقطع رحلة إلى مكان معين. إنه الفارق بين أن تقرأ دليل الموظفين وأن تقضي ساعة في الدردشة مع زميل في العمل عن طبيعة الوظيفة وثقافة الشركة. ولكي تتحول المعرفة الضمنية إلى معرفة ظاهرية — أي معرفة تختزن في مكان ويمكن للآخرين أن يطلعوا عليها ويراجعوها ويستخدموها — يجب أن تُنقل أولًا من العقول إلى وسيلة أخرى (قاعدة بيانات، ورقة بيضاء، تقرير، كتيب، فيديو، صورة … إلخ.) فالمعرفة الضمنية تميل إلى الديناميكية؛ في حين أن المعرفة الظاهرية ساكنة؛ وكلتاهما ضرورية للابتكار والتميز.

تستلزم نظم إدارة المعرفة «شبكات ممارسة مهنية» لتعزيز رأس المال الفكري لدى الشركة. ويمكن ابتكار هذه الشبكات من خلال مواقع على شبكة الإنترنت أو المذكرات الداخلية أو قاعدة البيانات أو البوابات الإلكترونية. وتعزز كل وسيلة من هذه الوسائل قدرة المشتغلين بالمعرفة على الوصول إلى المعرفة التي يحتاجون إليها عندما يحتاجون إليها. وربما يحتوي النظام على أداة لتقييم فائدة الأصول المعرفية المتنوعة؛ بنفس الطريقة التي يتيح بها موقع أمازون (amazon.com) لعملائه استعراض الكتب التي يبيعها وتقدير قيمة الكتب المعروضة للبيع.

إنها قاعدة بديهية لدى المنشغلين بالتفكير في إدارة المعرفة تفيد بأن أفضل مكان لتبادل المعرفة الضمنية يكون حول ماكينة القهوة أو مبرد المياه. فالحوارات غير المتكلفة بين الموظفين غنية بتبادل المعرفة. وقد تغير الشعار القديم الخاص بالثورة الصناعية من «توقفوا عن الحديث وابدءوا العمل» إلى «تحدثوا وابدءوا العمل» في الشركات التي يعمل بها المشتغلون بالمعرفة. وأنظمة إدارة المعرفة لا تفعل ما هو أكثر من أخذ بعضٍ من هذه المعرفة الضمنية وتحويلها إلى معرفة ظاهرية من خلال إتاحة المعرفة بأماكن يستطيع الناس الوصول إليها عندما يحتاجونها. وفي نظام حقيقي لإدارة المعرفة، يكون كل فرد في الفريق مستهلكًا للمعرفة ومنتجًا لها. وبدرجة معينة، تعترف شركات الخدمات المهنية بأهمية هذا النوع من نقل المعرفة. ومع ذلك، عادةً ما تُنقل المعرفة بناءً على أغراض معينة؛ فهي ليست واحدة من متطلبات الشركة، كما أنها ليست وسيلة من وسائل القياس والتقييم. وكثيرًا ما تنجز الشركة مهمةً رائعةً بالنيابة عن العميل، ولعلها تحتفل أيضًا بالنجاح المترتب على ذلك؛ ولكنها تفشل في تسجيل ما تعلمته كي يمكن الاستفادة منه في المستقبل.

كيف يتسنَّى لشركة أن تخزِّن جميع المعرفة الضمنية المهمة لديها وتحولها إلى معرفة ظاهرية لكي يستخدمها من يتصدَّون للمهام نفسها؟ أكرِّر مرة أخرى الإجابة هي من خلال دراسة أفضل الممارسات. ولهذا السبب، سنتناول ما قد يبدو للوهلة الأولى نموذجًا مستبعدًا لمؤسسة معرفية؛ أقصد الجيش الأمريكي.

(٣) دروس معرفية مستفادة من الجيش الأمريكي

رون: خلال شهر يونيو عام ٢٠٠٢، أجريتُ محادثتَين مطولتَين مع اثنين من أفراد الجيش الأمريكي؛ أحدهما رقيب نشط في قوات الاحتياط، والثاني لواء متقاعد قضى ٢٠ عامًا في الخدمة، تصادف أنه كان يقرأ الكتاب نفسه الذي كنت أقرؤُه — «الأمل ليس بمنهاج» — على متن طائرة استقللناها معًا. كان أغلب حديثنا عن سياسة الجيش بخصوص إجراء استعراض الخبرة المكتسبة، والذي يتم بعد الانتهاء من كل دورة تدريبية. وأكد لي كِلا الضابطَين أن هدف الجيش لم يكن قط إعادة اختراع العجلة. بل إن اللواء المتقاعد عبَّر عن شعوره المستمر بالإحباط حيال عجز شركته عن إجراء استعراض الخبرة المكتسبة لنشر المعرفة داخل الشركة. (بدا الاعتراض الرئيس في التساؤل التالي: «لمَ عسانا نريد أن نُهدرَ وقتًا في إنجاز هذا الأمر؟»)
وبعد دراسة المواقف التي استعان خلالها الجيش بنظام استعراض الخبرة المكتسبة، الذي ابتُكر عام ١٩٧٣، واسترجاع مشواري المهني في المحاسبة القانونية، صرتُ مقتنعًا بأنها ممارسة قد يكون لها الكثير من الآثار الصحية على شركات الخدمات المهنية المستقبلية. لعلنا نتجاهل الابتكارات داخل الجيش لأن مهمته تبدو مختلفة جدًّا عن مهمة المؤسسة المدنية؛ إلا أن هذا التوجه هو توجه ضيق الأفق كثيرًا؛ ولذا نكتشف من جديد ممارسة مفيدة من قطاع آخر. في الواقع، نظرًا لأن استعراض الخبرة المكتسبة بمنزلة طريقة مفيدة لتحويل المعرفة الضمنية إلى معرفة ظاهرية، ناهيك عن تعزيز التعلُّم ومشاركة المعرفة على نطاق المؤسسة بأكملها، سأستشهد باقتباس طويل من كتاب «الأمل ليس بمنهاج: ما يمكن لقادة الأعمال أن يتعلموه من الجيش الأمريكي»، تأليف جوردون أر سوليفان ومايكل في هاربر:

بعد كل تدريب، يُجرى استعراض للخبرة المكتسبة من هذا التدريب. وتتلخص الأهداف من وراء هذا الاستعراض ببساطة في التعلُّم والتحسن والأداء الأفضل في المرة القادمة. يجلس المشاركون مع مُنسِّق يُطلق عليه «مراقب – متحكم» يكون قد قضى معهم فترة التدريب ويناقشون معه ما حدث. إن القيام بهذا الأمر بفعالية يتطلَّب عدة أشياء. أولًا، لا بد من وجود أساس جيد تمامًا لاستيعاب ما حدث فعلًا … ويسمي الجنود هذه الخطوة «المعلومات المأخوذة من الملاحظة المباشرة». وبالإضافة إلى المعلومات المأخوذة من الملاحظة المباشرة، لا بد أن يتوافر فهمٌ واضحٌ لا لبس فيه لما كان ينبغي أن يحدث، وذلك يأتي من وجود معايير مستمدة من عقيدة راسخة.

وبالوضع في الاعتبار تلك العناصر، يمكننا الحديث عن التدريب بطريقةٍ تركِّز على تحسين أداء الفريق دون الوقوع في شَرَك تقييمات الأداء الفردي أو الرتبة أو المنصب أو الشخصية. ومن خلال طرح أسئلةٍ على غرار: «في رأيك ما الذي أريدك أن تفعله؟» (بدلًا من طرح أسئلة على غرار: «كيف ارتكبت هذا الخطأ الفادح؟») يستطيع المرء أن يصل إلى الأسباب الجذرية لكل من النجاح والفشل. وهذه ليست عملية سهلة؛ فهي تستغرق الكثير من الوقت بصفة عامة، ربما من ساعتين إلى ثلاث ساعات «لاستعراض الخبرة المكتسبة» من التدريب. وتكلفة الوقت وحدها باهظة؛ إلا أن النتيجة تتمثل في فهم متعمق كثيرًا لما حدث. وعائد الاستثمار، الذي يُقاس بناء على تحسن مستوى الأداء، مرتفع للغاية.

والتحدي الأصعب يتمثل في تطوير ثقافة تقدر هذا النوع من التعلم. ذات مرة وصف زميل يعمل في مجال الصناعة محاولة لابتكار برنامج مماثل لدى شركته. وحكى لي حوارًا أجراه مع رئيس عمَّال رصيف الشحن، الذي كان يعاني خيبةَ أمل كبيرة، والذي قال له في النهاية: «اسمع، يمكنني إما أن أشحن المنتجات أو أن أتحدث عنها. أيهما تريد مني أن أفعله؟» ولا يمكن الرد على هذا السؤال إلا بالقول: «كِلا الأمرين»، ولكن من الصعب تطبيق تلك الإجابة على أرض الواقع. لقد استغرق الأمر عقدًا من الزمن لتحظى عملية استعراض الخبرة المكتسبة داخل الجيش بالاحترام، ولنتعلم أن بإمكاننا القيامَ بكِلا الأمرين — شحن المنتجات والحديث عنها — وأن الحديث المُصاغ بعنايةٍ يقود إلى شحن أكثر فعالية أو أيًّا ما كان. وهذا هو الاستثمار الذي لا يستطيع أحد أن يتحمل تبعات عدم القيام به.

اليوم صار استعراض الخبرة المكتسبة يحدث في الحاميات العسكرية وهيئات الأركان والمقار الرئيسة وأي مكان يجتمع فيه الجنود لأداء مهمة ما. يُجري فريق عملي الشخصي استعراضًا للخبرة المكتسبة بالنيابة عنِّي بعد فعالية كبيرة أكون قد شاركت فيها. إنني لا أستمتع بوجه خاص بمناقشة الثغرات في أدائي لا سيما حين أشعر بالرضا الشديد حيال ما أنجزته؛ إلا أن استعراض الخبرة المكتسبة ساعدني في تحسين أدائي، وساعد طاقم العاملين معي على تعلُّم دعمي على نحو أفضل.

بالنسبة إلى الجيش الأمريكي، فإن استعراض الخبرة المكتسبة هو السبيل إلى التحسن بعد اجتياز موقف عصيب وإضفاء الطابع المؤسسي على التعلم داخل المؤسسات الكبرى. وعلى الأرجح، فإن مؤسستك لن تصير أبدًا مؤسسة تعليمية بالمعنى المطلق للكلمة، بل سيكون الأمر بمثابة شيء تطمح إلى أن «تصيره» دومًا، لا أن «تكونه» بحق، ولكن في الجيش، غرس استعراض الخبرة المكتسبة الاحترام للتعلم المؤسسي، معززًا التوقع بأن القرارات والإجراءات المترتِّبة سيجري استعراضها بطريقةٍ تُفيد كلًّا من المشاركين والمؤسسة على حد سواء، مهما كان الأمر شاقًّا في وقتها. والإخفاق الحقيقي الوحيد هو الإخفاق في التعلم. (سوليفان وهاربر، ١٩٩٦: ١٩١–١٩٣)

تخيل الفوائد التي ستعود على الشركة من توافُر مكتبة لاستعراض الخبرات المكتسبة لأي نوع تقريبًا من المهام التي قد تتصدى لها الشركة. تخيل ابتكار ثقافة تكافئ المهنيين على استغراق الوقت للمساهمة في هذا المخزون من المعرفة؛ بل ربما حتى تحديد منفعته من خلال تعقُّب عدد المرات التي اطَّلع فيها الآخرون على نموذج معين لاستعراض الخبرة المكتسبة. وبمجرد أن تطمئنَّ شركتك حيال تحليل الأداء «بعد» كل مهمة، ستستعد على نحو أفضل لإعداد الخطط واتخاذ الاستعدادات اللازمة «قبل» الخوض في المهمة التالي. وكنتيجة لهذا، يزدهر الابتكار والإبداع والاستعداد لخوض المخاطر بينما تُجاهد الشركة باستمرار للتحسُّن من خلال عملية متكررة تحترم التعلُّم وتُكافئ عليه. وفيما يلي الأسئلة التي تحتاج إلى طرحها في كل مرة تجري استعراضًا للخبرة المكتسبة:
  • ماذا حدث؟

  • لماذا حدث؟

  • ما ينبغي علينا أن نفعله حيال هذا؟

وكل عضو بالفريق ساهم في التدريب سيُشارك في هذه العملية. واستعراض الخبرة المكتسبة ليس أداة لإلقاء اللوم أو توجيه أصابع الاتهام؛ بل إنها أداة للتعلُّم، مصممة لزيادة فعالية الشركة. وينبغي أن يكون دورها «تحليليًّا»، لا «نقديًّا». كما أنها تعزِّز بيئة عمل جماعي وتجعل الجميع مسئولًا عن نجاح المهمة، علاوة على ذلك، فإنها أداةٌ تطويريةٌ تُساعد القادة على الانخراط أكثر في نجاح فرقِهم. وإذا كان ثمة مواطِنُ ضعف، فإن استعراض الخبرة المكتسبة يحل «المشكلة»، بدلًا من تحديد «المسئول» عن المشكلة. حتى إن كان شخص واحد هو الذي يُجري استعراض الخبرة المكتسبة لعدم وجود فريق كامل منخرط في المهمة، فإنها لا تظل طريقة فعَّالة لنشر التعلُّم والمعرفة بين الموظفين الآخرين داخل الشركة.

يقترح الجيش أن تقسم وقتك للإجابة عن أسئلة استعراض الخبرة المكتسبة بنسبة ٢٥-٢٥-٥٠، بمعنى: ٢٥ بالمائة استعراض لما حدث، و٢٥ بالمائة استعراض لسبب حدوثه، وباقي الخمسين بالمائة لما ينبغي عليك أن تفعله حيال الأمر وكيف يمكنك أن تتعلم منه لكي تحسن أداءك. وكما يشير سوليفان وهاربر:

في موضع سابق، ناقشنا أننا، أثناء مواجهة بيئتنا الخارجية، «لا نعرف تحديدًا ما لا نعرفه». وأثناء مواجهتنا لبيئتنا الداخلية، يبدو أن العكس صحيحٌ في الأغلب الأعم: «لا نعرف ما نعرفه «بالفعل».» وباعتبارها أصلًا مهمًّا من أصول المؤسسة، تكون المعرفة صالحةً للاستعمال فقط إذا أمكن تحديدها ونشرها لكي تُسهم بالقيمة. ويتمثَّل التحدي في اكتشاف ما هو معروف في أي قسم من أقسام المؤسسة، وإتاحة معرفته للجميع إذا كان قيِّمًا. (المرجع السابق: ٢٠٦)

بدوري كمدربٍ يعقد دورات تدريبية وندوات علمية في شتى أنحاء العالم، لطالما أجريتُ دومًا استعراضًا للخبرة المكتسبة بطريقة غير رسمية؛ عادةً بعد الفعالية أو الحدث مباشرة (أو حتى أثناء فترات الاستراحة وتناول الغداء، وذلك من أجل إجراء التعديلات والتحسينات). أنا وبول فعلنا هذا عندما كنَّا نجوب العالم معًا، وكان كلٌّ منا يُقدِّم النصح للآخر باستمرار بخصوص جعل الأمور أوضح أو ضرب أمثلة أفضل أو إيجاد طريقةٍ أفضل لتنظيم المادة العلمية. وكانت هذه الأحاديث بيننا مستمرة، ونقلت بفعالية قدرًا كبيرًا من المعرفة الضمنية فيما بيننا.

ثمة قيمة هائلة هنا بخصوص الجانب الفوري والعاجل من التقييم. فبحلول الوقت الذي تقرأ فيه تقييم الندوة العلمية، يكون قد فات الأوان، وبذلك يكون ما تقرؤه تاريخًا؛ وفي حين أنه قد يُلقي الضوء على كيفية التحسن في هذا الصدد، فلن يكون أبدًا مفيدًا بقدر إفادة استعراض الخبرة المكتسبة بعد الانتهاء من الفعالية أو الحدث مباشرة. في الواقع، الأمر مشابهٌ جدًّا لسجل ساعات العمل؛ بمعنى أن كليهما بمثابة «مؤشر متأخُّر». وما نريده هو «مؤشرات مُوجهة» يمكن أن تساعدنا في تلافي العقبات والمشكلات أو التعامل معها بفعالية عند ظهورها. وحتى يومنا هذا، داخل معهد فيراسيج (المؤسسة البحثية التي شاركتُ في تأسيسها والمخصصة لتدريس التسعير القيمي للمهنيين من مختلف أنحاء العالم)، أي شخص يعقد ندوة أو يلقي خطبة أو يقدم دورة تدريبية، يُجري استعراضًا للخبرة المكتسبة مع عضو من الفريق، مما يُسفر عن تحسينات للطريقة التي نقدِّم بها الأفكار لزملائنا من مختلف أنحاء العالم. وبالتأكيد، من المزعج أحيانًا أن تواجه الأخطاء والثغرات الموجودة في أدائك؛ ولكن ما الطريقة التي يُفترض أن يتعلَّم بها المشتغلون بالمعرفة؟ هل من خلال الحصول على مراجعة أو تقييم سنوي؟ يتطلب التعلُّم العملي معرفة تجريبية قائمة على تبادل الخبرات بحيث يستطيع المنخرطون عن قرب في العمل أن يُخزنوا هذه المعرفة ويشاركوها مع الآخرين. ومن المفيد أن نتذكر أن البيج ماك وفطيرة التفاح المقلية وشرائح البطاطس المقلية وبيج تيستي وشطائر البيض التي تقدمها «ماكدونالدز» جميعها من ابتكار شركات محلية حائزة على حق امتياز؛ وليست جزءًا من استراتيجية الشركة في حد ذاتها.

لا شك أن استعراض الخبرة المكتسبة يستغرق وقتًا ويُفسد مستوى الكفاءة (على الأقل على المدى القصير). ومن جديد قد نسمع الاعتراضات من أهل المهنة على هذه النقطة، التي يقتصر تركيزها على الكفاءة أكثر من الفعالية والتعلم. إن رأس المال الفكري لشركتك هو أهم مصدر لقدرتها على تحقيق الثروة على المدى الطويل، ويجب أن تُعادَ تغذيته وابتكاره من أجل إعداد الميزانية العمومية للشركة. أما التركيز باستمرار على «إنجاز العمل» بدلًا من التعلُّم والإبداع والابتكار وتبادل المعرفة، فهو المقابل المكافئ لاستهلاك الموارد الاستثمارية داخل شركتك.

وتخزين المعرفة الضمنية الموجودة في رءوس الموظفين لديك، أي رأس المال البشري، وجعلها جزءًا من رأس المال الهيكلي لشركتك سيضمن لك أن تعرف شركتك ما تعرفه، ويمكنها أن تنشره على نحو أسرع وبتكلفة هامشية أقل. ويُعدُّ رأس المال الفكري وسيلة لاستغلال الكفاءات في شركة المستقبل، ويجب أن تفهم الشركات هذه الحقيقة الاقتصادية الأساسية من أجل تحقيق الثروة.

موجز ونتائج

لقد استكشفنا في هذا الفصل ضرورة تخزين رأس المال البشري الضمني لشركتك وابتكار رأس مال هيكلي نتيجة لذلك، والذي سيبقى مع شركتك حتى وإن تركها رأس المال البشري. كما ناقشنا أيضًا السبب وراء أهمية استغلال رأس المال الهيكلي لتوليد ثروة لعملاء شركتك ولشركتك نفسها. وتُعد أفلام «ديزني» الجديدة — التي تعتمد على شعبية ألعاب ملاهي ديزني لاند — وبرامج مزايا السفريات المتكررة على الخطوط الجوية نفسها مثالين ممتازين على هذه العملية.

أليس من المأساوي أن يكون المهنيون من بين المنشغلين بالمعرفة البارزين اليوم؛ ورغم ذلك لم تتم مكافأتهم على إعمال عقولهم والتفكير مليًّا؛ لأنهم منشغلون للغاية بإنجاز العمل واحتساب الأجر بالساعات؟ وبدلًا من أن تسأل شخصًا يقرأ كتابًا في إحدى الشركات الأربع الكبرى العاملة في مجال المحاسبة والخدمات المهنية: «أليس لديك ما يكفي من العمل لتنجزه؟» أليس من الأفضل أن تسأله: «ما الذي تتعلَّمه من ذلك الكتاب؟» ولكن هذا السؤال يرغمنا على تحويل تركيزنا من الكفاءة ونظام احتساب الأجر بالساعات إلى الفعالية والتعلُّم وزيادة رأس مالنا الفكري. والتركيز يبعث برسالة مختلطة لأعضاء فريق الشركة: يقول الشركاء إنهم يتفهمون أهمية رأس المال الفكري والابتكار والإبداع؛ إلا أنهم غير مستعدين حقًّا لإجراء الاستثمارات الضرورية لتوليد المزيد من رأس المال الفكري واستغلاله بفعالية. ويتمثل جزء من المشكلة في أن وسائل القياس التقليدية تركز على الأمور الخطأ تمامًا (نظرًا لأن النظرية القديمة للشركات هي نظرية معيبة في حد ذاتها)، ولم نستغرق الوقت اللازم لدراسة النماذج الناجحة من مؤسسات رأس المال الفكري الأخرى حتى الآن. في الواقع، لقد طرحنا الجدلية التالية: لقد صار موروث معظم الشركات من أنظمة التقييمات وأنظمة المكافآت — نظام احتساب الأجر بالساعة وسجلات ساعات العمل وغيرها من أدوات القياس الموجهة نحو الإنتاجية — رأس مال هيكليًّا سلبيًّا في سياق التحول إلى شركة المستقبل. وكما هي الحال مع رأس المال البشري السلبي، يجب التخلُّص من هذا النوع من رأس المال العتيق من الشركة؛ لكي تستفيد الشركة من إمكانياتها الكامنة.

وبعد أن سلَّطنا الضوء على مكونات رأس المال البشري ورأس المال الهيكلي الخاصة برأس المال الفكري لدى شركتك، نحوِّل انتباهنا إلى شكل من أشكال رأس المال الفكري لشركتك؛ ألا وهو رأس المال الاجتماعي، وهو الأقل استغلالًا، وربما الأقل فَهمًا والأقل استخدامًا أيضًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤