العلم والأخلاق

المُناقشات التي قامت حول مسألة العلم والأخلاق في:
  • أواسط القرن الثامن عشر.

  • أواخر القرن التاسع عشر.

  • أواسط القرن العشرين.

  • الفكر والعاطفة في الحياة.

***

العلم والأخلاق أثمن الثروات المعنوية التي يعتز بها الإنسان، هذه حقيقة لم يختلف المفكرون فيها أبدًا، غير أنه: أيُّهما أثمن وأفضل؟ هذه مسألة اختلف فيها المفكرون والكُتَّاب كثيرًا منذ الأزمنة القديمة إلى الآن.

لقد قام فريق منهم يفضِّل الأخلاق على العلم، وراح فريق آخر يُفضِّل العلم على الأخلاق، وظهر فريق ثالث يستنكر المفاضلة بين العلم والأخلاق من أساسها، قائلًا إنهما توءمان لا ينفصلان، فلا مجال للمفاضلة بينهما أبدًا.

واندفع جماعة من هذا الفريق إلى أبعد من ذلك، فقال: إن كلًّا من العلم والأخلاق يساعد الآخر، ويمهِّد له سُبل التكامل والارتقاء.

ولعل أبرع الكلمات التي عبَّرت عن الرأي الأول، كانت تلك التي صدرت عن أعماق تفكير «باسكال» Pascal الشهير: «لو اجتمعت الأجسام الأرضية والأجرام السماوية كلها لَمَا ساوت أحقر فكرة من الأفكار. ولو اجتمعت الأفكار كلها مع تلك الأجسام والأجرام بأجمعها، لَمَا عادلت أصغر خلجة من خلجات العاطفة والحنان.»
وأما أبلغ الكلمات التي عبَّرت عن الرأي الثاني، فكانت صدرت من العالِم الطبيعي الشهير «كوفيه» Cuvier: «إن المعروف الذي يسديه الإنسان لبني نوعه يندثر سريعًا مهما كان عظيمًا، ولكن الحقيقة التي يتركها لهم تبقى على مدى الدهر، فلا تزول أبدًا.»

ولا شك في أن أغلب المفكرين والكُتَّاب كانوا من أنصار الرأي الأول، إنهم كانوا يقولون: «إن الأخلاق أهم وأفضل من العلم» بوجه عام.

غير أن هؤلاء أنفسهم كانوا يختلفون فيما بينهم عندما يتساءلون: «هل العلم يفيد الأخلاق؟» لأن فريقًا منهم كان يَرُد على هذا السؤال بالإيجاب، في حين أن فريقًا آخر كان يجيب عليه بالنفي، في حين أن فريقًا ثالثًا كان يقف موقف التردد والشك حيال هذه القضية الخطيرة.

كان سقراط — مثلًا — يعتقد بأن «المعرفة مصدر كل خير وكل فضيلة»، وبأن «معرفة الخير، هي الطريقة الموصلة إلى اصطناع الفضيلة». في حين أن أرسطو كان يشك كثيرًا في مساعدة العلم للأخلاق، وكان يرى أن العلم لا يؤثر في الأخلاق إلا قليلًا، وإن لم يقل إنه لا يؤثر فيه أبدًا.

ولكن بعض المفكرين ذهبوا في هذا السَّبيل إلى حدٍّ أبعد من الشك والارتياب، فأنكروا فائدة العلم للأخلاق إنكارًا قاطعًا. وذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك أيضًا؛ فادَّعوا بأن العلم يضر بالأخلاق ويفسد المجتمع!

إن هذا الرأي المتطرف أثار مناقشات قلميةً وخطابيةً عنيفة، وهذه المناقشات كانت قد وصلت إلى أقصى درجات العنف؛ أولًا في أواسط القرن الثامن عشر، ثم في أواخر القرن التاسع عشر. كما أنها تجددت بشكل مثير جدًّا خلال السنين الأخيرة.

فرأيت أن أُلخِّص هنا أهم صفحات هذه المناقشات، في كل دور من هذه الأدوار الثلاثة، قبل أن أُبديَ رأيي فيها.

في أواسط القرن الثامن عشر

في أواسط القرن الثامن عشر، كانت الأذهان كثيرًا ما تلتفت إلى مسألة «علاقة العلم بالأخلاق»، وتبحث في تأثير أو عدم تأثير العلم في الأخلاق.

ولهذا السبب رأى المجمع العلمي في «ديجون» في فرنسا، أن يدعوَ المفكرين والأدباء إلى مناقشة هذه القضية مناقشةً جدية، فطرح على «بساط المسابقة» المسألة التالية:

«هل أفضى ارتقاء العلوم والفنون إلى ارتقاء الأخلاق وتزكيتها من شوائب المفاسد؟»

وقرر المجمع المذكور منح جائزة مالية لأحسن الردود التي سيتلقاها على هذه المسألة. كان ذلك سنة ١٧٤٩م. واطَّلع جان جاك روسو على إعلان المسابقة عن طريق المصادفة، ولكنه ما كاد يقرأ مضمونه حتى التمعت في ذهنه بغتةً بارقة فكرة طريفة، هزَّت مشاعره هزًّا عنيفًا، وجعلته يبكي من شدة الفرح، وراح روسو بعد ذلك يُوسِّع هذه الفكرة، وأنشأ مقالةً عنوانها «خُطبة في العلوم والفنون والآداب».

احتوت المقالة المذكورة طائفةً كبيرةً من الآراء الطريفة معروضةً بأسلوب خطابي ضخم، وصارت العامل الأول في شهرة جان جاك روسو، وفتحت عهدًا جديدًا في حياته الفكرية.

إنه كان حتى ذلك التاريخ من الأشخاص الذين لا يعرفهم أحد غير أصدقائهم، وكان يعيش عيشة تشرُّد وقلق، دون أن يستطيع أن يلعب أدنى دور في حياة العلم والأدب، على الرغم من بلوغه سن الأربعين، وعلى الرغم من تمتُّعه بحساسية مرهفة ومخيلة وقَّادة.

ولكنه بعد الشهرة التي نالها بمقالته هذه صارت تتدفق من قلمه الآراء والكتابات الثورية، التي تتناول مختلِف مظاهر الحياة الأدبية والسياسية والاجتماعية. وهذه الكتابات أوصلته إلى مكانة رفيعة جدًّا بين رجال الفكر والأدب. وفي الأخير أدخلته في عداد الخالدين من عمَّال الثورة والانقلاب.

إن خُطبة روسو «في العلوم والفنون والآداب» كانت أولى الكتابات التي لفتت إليه الأنظار، وقد أثارت إعجاب أعضاء المجمع بكثرة الآراء الطريفة التي تتدفق من مخيلته، والجرأة العجيبة التي تتجلى في محاكماته، والجرس والفخامة التي تظهر في أسلوب بيانه؛ ولذلك قرروا أن يمنحوه الجائزة، ولكنهم صرَّحوا في الوقت نفسه بأنهم اتخذوا هذا القرار دون أن يستصوبوا الآراء المسرودة في الخُطبة!

لقد ادَّعى روسو في خُطبته هذه أن العلوم تُفسد الأخلاق وتسبب انحطاط المجتمعات، وحاول أن يبرهن على ذلك بسلسلة طويلة من الشواهد التاريخية والدلائل الفلسفية، التي امتازت بالطرافة والإمتاع، وإن أعوزها الشيء الكثير من الصحة والسداد.

وأما أهم الآراء التي سردها روسو في خُطبته فيمكن أن تُلخَّص بما يلي:

«إن العلوم والآداب والفنون الجميلة من أقوى دعائم الظلم والاستبداد؛ لأنها تغطي الأغلال الحديدية التي تُكبِّل أيدي الإنسان بباقات الزهور التي تبهر الأبصار، إنها تستأصل غريزة الحرية من النفوس، وتُحبِّب الرق والعبودية للناس.

ولهذا السبب نرى أنه كلما ارتقت العلوم والفنون والآداب، وكلما ارتفعت أنوارها فوق الأفق، أفَلَت أنوار الفضيلة والأخلاق، وفسدت النفوس والأرواح.

وحدث هذا في كل زمان ومكان؛ فإن مصر وروما واليونان لم تسيطر على العالم إلا عندما كانت عريقةً في الجهل، ولكنها عندما أخذت تهتم بالعلوم والآداب، وعندما صار ينبغ فيها العلماء والأدباء؛ فقدت كل ما كان لها من قوة، وسارت نحو مهاوي الانقراض.

وقد حدث نفس الشيء في بيزانس؛ فإنها حينما أصبحت محط رحال العلماء، ومجمع أنواع العلوم؛ صارت في الوقت نفسه مسرحًا للرذائل وبؤرةً للمفاسد.

وأما الفُرس والإسكيت والجرمان، فإنهم مع ما كانوا عليه من عماية الجهل، حكموا الأمم التي كانت وصلت إلى أرقى مراتب العلم والفن.

ولم يبلغ الإسبارطيون ما بلغوا من السيادة والاستيلاء إلا بسبب «جهلهم الميمون».

وما فقدت روما أهل الخير والإحسان إلا بعد أن كثُر فيها رجال العلم والأدب؛ فقد كان الرومان يصرفون أوقاتهم — إلى ذلك الحين — في أعمال البر والخير، غير أنه لما ظهر العلماء الذين يُكثرون من إمعان النظر في الخير؛ لم يبقَ بينهم من يفعل الخير!

ولو أن فابريتشيوس Fabricius العظيم يُبعث اليوم من قبره ويعود إلى الحياة، فيرى ما حلَّ بروما التي كان أنقذها من براثن الاضمحلال؛ لاندهش بلا شك، ولأخذ يصيح بأعلى صوته: «ماذا تصنعون أيها المأفونون؟! هيا اهدموا هذه الصروح، وحطموا هذه الأنصاب، واحرقوا هذه الألواح واستنقذوا … أنفسكم من هذه العلوم والفنون التي أفسدتكم، وجعلتكم أذلاء مستعبَدين!»

إن الطبيعة لم تُخفِ أعمالها وراء ستار الغيب إلا عن حكمة واستبصار، إنها تبغي بذلك أن تصوننا عن التصدي للأبحاث الواهية، وعن التوغل بالعلوم الضارة التي تنشأ من تلك الأبحاث، فهي بذلك تشبه الأُم «التي تسعى دومًا لإخفاء الأسلحة الخطرة عن أطفالها؛ لكيلا تمتد أيديهم إليها، ويصيبهم الأذى منها». إن الطبيعة أيضًا تسعى لإخفاء أسرارها عنا؛ لتقينا المكاره التي تنجم عن اطِّلاعنا عليها.

وهناك حقيقة أخرى يجب ألا تفوتنا؛ إن الطبيعة جعلت «تحصيل العلم» من الأمور المقرونة بالمشاق، إنها قصدت بذلك أن تُفهمنا بأننا لم نُخلق للعلم، وأما المساعي المتواصلة التي نبذلها للتخلص من «الجهالة الميمونة» التي أحاطتنا بها الحكمة الأزلية، فلن تؤديَ إلى نتيجة غير «معاقبتنا بفساد الأخلاق وطول الأسر والعبودية».

وهذا أمر طبيعي لا غرابة فيه أبدًا؛ لأن ينابيع العلوم والفنون كلها كدرة وملوثة، فإن علم الهيئة ينبع من الخرافات، وعلم البلاغة قد تولَّد من المداهنة والمداجاة، وعلم الهندسة لم ينشأ إلا من الخسة والطمع، وأما علم الطبيعة فقد تولَّد من نزعة التطلع والتجسس الواهي، حتى علم الأخلاق نفسه لم ينشأ إلا من الغرور والخُيَلاء. فلو لم تكن السفاهة والترف لَمَا احتاج أحد إلى الفنون والصنائع، ولو لم تكن المظالم والتعديات لَمَا كنا بحاجة إلى علم الحقوق، ولولا الشهوات والأطماع لَمَا تكوَّن علم التاريخ.

ولو كان الإنسان قد راعى دومًا واجباته الأخلاقية وحاجاته الطبيعية، وأنفق كل أوقاته في سبيل خدمة وطنه وأصدقائه وأبناء نوعه البائسين، لَمَا بقي على الأرض من يقضي أيام حياته فيما لا يفيد من الأفكار والعلوم والآداب.

إن هذه العلوم والفنون التي نشأت قديمًا على المنوال المذكور آنفًا، أصبحت الآن غذاءً مقويًا للمساوئ والرذائل، وسببًا فعَّالًا للحط من مقام الفضيلة والأخلاق.

ولهذا كله نجد أن البشر كلما ابتعدوا عن حالة الفطرة، فقدوا نقاوة الأخلاق والفضيلة.

وقديمًا قبل أن توجد الطباعة كانت الأضرار الناجمة عن آراء الكُتَّاب لا تتوسع كثيرًا ولا تدوم طويلًا؛ لأنها كانت تبقى مخطوطةً لا تنتشر بين الناس بسهولة، فلا تلبث أن تندثر وتزول بعد موت أصحابها بمدة يسيرة. وأما الآن فقد فشا أمر الطباعة؛ تلك الصناعة التي يجب أن تُسمَّى «صناعة تأييد أباطيل البشر وأضاليلهم»، ولذلك كان من الطبيعي أن يتوسع نطاق تلك الأضرار توسُّعًا كبيرًا، وبها ستبقى أوهام «هوبس» و«اسبينوزا» تعثو في الأرض فسادًا على مدى الأحقاب، حتى إذا اطَّلع عليها أحفادنا، لن يترددوا في البت في موضوع مسألتنا هذه؛ فإنهم إن لم يكونوا مثلنا عجزةً مستكينين، فسيرفعون أَكُفهم إلى السماء متضرعين بقولهم: «اللهم أنقذنا من شئم علوم أجدادنا وفنونهم، ويسِّر لنا العود إلى ماضي جهلنا، وأرجِعنا إلى الفقر والعفاف.»

هذا كان مضمون الخُطبة التي أرسلها جان جاك روسو إلى المجمع العلمي في ديجون.

وكان قد ذكر في مقدمة الخُطبة أنه يذود عن حياض الفضيلة، ولا يقصد شن الغارات على العلم، غير أنه لم يقتصر في حقيقة الأمر على الذود عن الفضيلة، بل أشهر حربًا عَوانًا على العلم، وحاول أن يغزوه بكل ما استطاع حشده من جنود المنطق والكلام.

وكان لهذه الخُطبة وقع كبير في نفوس الخاصة والعامة؛ لِما كان في إنشائها من العذوبة وسِحر البيان، ومع هذا فإنها لم تبقَ دون رد بطبيعة الحال؛ فقد انبرى عدد كبير من الأدباء والعلماء لتفنيد الآراء التي وردت فيها، وإظهار المغالطات التي تضمَّنتها.

والمناقشات القلمية التي بدأت بهذه الصورة استمرت مدةً تُناهز السنتين.

وكان أهم المعارضين لآراء روسو في هذه القضية؛ «غوتيه» من أعضاء المجمع العلمي في نانسي، و«بورد» من أعضاء المجمع في ليون، و«لوقات» من أعضاء المجمع العلمي في روان، وقد شارك هؤلاء في الانتقاد «استانبسلاس» مَلِك بولونيا الكبير، و«ليسيننغ» فيلسوف ألمانيا الشهير.

وأما خلاصة ما قاله هؤلاء في ردودهم فكان ما يأتي:

إن الزعم بأن البشر قد قضَوا زمنًا خاليًا من المساوئ والمفاسد، ضرب من الهذيان؛ لأن التاريخ يشهد أن الأمم لم تكن في أوائل نشأتها على غير حالة التوحش، وما علمنا أو سمعنا بأن حياة أُمَّة من الأمم الوحشية كانت مثالًا للفضائل الأخلاقية.

والتاريخ مليء بالشواهد التي تدل على عكس ما يدَّعيه روسو، ومن المعلوم أن الأثينيين تغلَّبوا على الميديين، فإن تقدُّمهم في العلوم لم يَحُلْ دون انتصارهم على الشعوب الجاهلة.

وقد عاش الحكيمان العظيمان سقراط وآريستيد، بجانب البطلين الشهيرين ملتياديس وتميستوفليس في عصر واحد، وفي أُمَّة واحدة، ولم يُورث علم الأولين أي ضرر كان لفضائل الأخيرين.

هذا، والعلوم لم تتولد من المساوئ كما زعم روسو، وإنما تولدت من الاحتياجات، فكيف كان يستطيع الإنسان أن يبقى جاهلًا وهو يعيش بين عدد كبير من الأعداء الأقوياء، ولا يملك من السلاح لمقاومتهم ومنازلتهم شيئًا غير قابلية التفكير والاختراع؟

وأما الحكم على العلم بأنه «مضر» نظرًا لصعوبة تحصيله، فذلك مما يخالف العقل والمنطق كل المخالفة؛ إذ من المعلوم أن الزراعة أيضًا ذات مشقة ونَصَب، فهل هي أيضًا من الأعمال المضرة؟ وهل يسوغ لنا أن نقول إن المشقة التي تُلازمها برهان قاطع على مضرتها، وعلى أنه يجب على الإنسان أن يحذر من الاشتغال بها؟

ثم إن القول بأن ارتقاء العلوم يستوجب انحطاط الفضائل، لا يستند إلى أي أساس صحيح؛ فإننا نعلم بعكس ذلك أن الفضائل تشب وتترعرع بقدر ما تتقدم المعارف. ويسمو معنى الفضيلة في الأذهان كلما اتسع نطاق العلم وارتفع مناره، فكم من عمل كان يُعَد قديمًا من الفضائل الخارقة للعادة، فأصبح اليوم — لارتقاء العلوم — من الأمور الاعتيادية الطبيعية!

هذه هي خلاصة ما قاله المعارضون.

غير أن روسو لم يسكت على هذه الانتقادات، بل إنه أخذ يفنِّدها، تارةً بالنكت الظريفة، وطورًا بالمغالطات الحاذقة، ومع هذا فقد تراجع خلال هذه المناقشات بصورة تدريجية عن بعض الآراء التي كان أبداها في بادئ الأمر، دون أن يعترف بهذا التراجع بصورة صريحة.

وأما أغرب الردود التي وجَّهها روسو إلى معارضيه فكانت:

«إنه لم يقل إن العلم هو المنبع الوحيد لفساد الأخلاق؛ لأنه يرى أن العلم هو أحد المنابع العديدة لذلك الفساد، فإن كل ما يقال عن وجود مساوئ الأخلاق عند الأقوام الجاهلة، لا يكفي لجرح مُدَّعيه، بل إن جرح ما ادَّعاه روسو إنما يتوقف على إثبات وجود أُمَّة فاضلة مع كونها عالِمة.»

«وأما كون الزراعة ذات مشقة ونَصَب، فهو أيضًا لا يجرح ما قاله عن دلالة المشقة التي تُلازم تحصيل العلم، بل بعكس ذلك إنه مما يؤيد رأيه في هذا المضار أن الطبيعة قد جعلت الزراعة شاقة لكيلا تدع لأبناء البشر وقتًا للاشتغال بالأمور الواهية، مثل العلوم والفنون، بعد المشاق التي يتكبدونها في سبيل القيام بأعمال الزراعة الضرورية.»

وكان بين الانتقادات التي كتبها عاهل بولونيا استانيسلاس كلمة تثير غرور روسو وخُيَلاءه:

«إذا كان العلم لا يجتمع مع الكمال، فما بال علم روسو لا يحط من كماله؟ وكيف لم يمنعه كماله من الاشتغال بالعلم، إذا كانت الفضيلة تنحط — كما يزعم هو — بارتقاء العلم؟»

وقد دس روسو بين أجوبته عبارةً قصد بها الرد على هذه الملاحظة بصورة غير مباشرة، فقال: «إن العلم والفضيلة قد يجتمعان في الفرد، ولكنهما لا يمكن أن يجتمعا في الأُمَّة.»

إن مناقضة أعمال روسو لأقواله في هذا المضمار أفسحت مجالًا واسعًا لنقد الناقدين؛ «لماذا يواصل روسو الاشتغال بالعلوم والآداب، مع شدة تنديده بها، وحضِّه النَّاس على إهمالها؟ أفلا يدل ذلك على أنه هو بنفسه لم يكن جازمًا بصحة ما أورده في خُطبته؟»

على أن روسو لم يتأخر في الرد على أمثال هذه الاعتراضات أيضًا؛ فقد نشر بعد سنتين من إذاعة خُطبته المذكورة مقدمةً لروايته التمثيلية «نارسيس»، ضمَّنها أجوبته الأخيرة على الانتقادات التي وُجِّهت إليه في هذا الصدد. ومما قاله فيها: «إن التصدي لرد آرائه بمناقضة أعماله لها، خروج عن دائرة المنطق والإنصاف؛ لأن مخالفة أعماله لأقواله يمكن أن تُتخذ ذريعةً لمؤاخذته من جرَّاء أفعاله، ولكنها لا يمكن أن تُتخذ دليلًا على بطلان آرائه. إنه كان كتب الرواية قديمًا قبل أن يتشرف بالتخلص من الأفكار الباطلة المستولية على محيطه، فليس من الحق مؤاخذته الآن على ما كان كتبه بالأمس تحت تلك الظروف.» ومع هذا صرَّح روسو بأنه لا يود أن يترك الاشتغال بالعلم والأدب فيما بعدُ أيضًا، وإن كان مقتنعًا بأنهما أفسدا الأخلاق؛ وذلك لأنه موقن — في الوقت نفسه — بأنهما لا يزيدان في فساد الأخلاق بعد أن فسدت، بل ربما حالَا دون اشتداد هذا الفساد. «وكما أننا عندما نرى مريضًا اختلَّت صحته من كثرة العقاقير التي استعملها نُضطر إلى معالجته بعقاقير أخرى، وكذلك نحن مضطرون إلى الاستعانة بالعلم والأدب لأجل توقيف فساد الأخلاق، مع علمنا بأن ذلك الفساد كان قد أُنشئ من العلم والأدب.»

وبهذا القول الأخير كان روسو قد تباعد عن مزاعمه الأولى تباعدًا كبيرًا، إنه لا زال يقول إن العلم قد أفسد الأخلاق.» ولكنه يضيف إلى ذلك قولًا جديدًا: «فإن العلم — الآن — وسيلة لمنع ذلك الفساد عن التمادي والازدياد.»

ويتبين من ذلك أن روسو بعد كل هذه المناقشات الصاخبة التي أثارها قد انتهى إلى الحكم بأن «العلم ينفع الأخلاق»، وإن كان قد قيَّد هذا الحكم بقيد «في الأحوال الحاضرة»!

غير أن كل من يبحث في «الاعترافات» التي كتبها روسو عن سيرة حياته؛ يجد فيها دلائل عديدةً تُناقض ما ادعاه في خُطبته الشهيرة مناقضةً أصرح من ذلك أيضًا؛ لأنها تنطق صراحةً بحُسْن تأثير العلم في الأخلاق وبعِظَم خدمته لها.

مثلًا، يعترف روسو بأنه حينما كان يشتغل أجيرًا في حانوت كان لا يأبى الكذب ويُقدِم على السرقة، ولكنه «لما استطاب طعم المطالعة»؛ تغيَّر تغيُّرًا أساسيًّا، وأصبح «مُنكبًّا على المطالعة كل الانكباب» و«كره الكذب، ولم يسرق شيئًا».

وكذلك يقول روسو في اعترافاته: «بأنه بينما كان ذاهبًا لمقابلة امرأة جميلة كانت شغفت به وضربت له موعدًا للِّقاء؛ تذكَّر مدام دو فارنس التي كان يعيش معها ويتمتع بعطفها منذ صباه، وأدرك أن العمل الذي أوشك أن يُقدِم عليه إنما هو خيانة لتلك الامرأة الوفية، لا تتفق مع مكارم الأخلاق؛ ولذلك عدل عن ملاقاة الامرأة الجميلة في الموعد الذي كانت ضربته له، على الرغم من افتتانه بجمالها الباهر. وقد كتب روسو في اعترافاته عندما قصَّ هذه الواقعة: «إنها أول يد للمطالعة عنده، وإن المطالعة هي التي علَّمته التأمل في مثل هذه المواقف الأخلاقية.»

ولا حاجة إلى القول أن هذه الكلمات التي صدرت من قلم روسو عندما كتب اعترافاته، يمكن أن تُعتبر من أحسن الردود على ما كان ذهب إليه عندما كتب خُطبته المشهورة «في العلوم والفنون والآداب».

ولهذا نستطيع أن نقول؛ إن الآراء التي أذاعها روسو في تلك الخُطبة لم تُعمر طويلًا، بل إنها زالت عن ذهن صاحبها الأصلي أيضًا.

ومع هذا يجب أن نلاحظ أن خُطبة جان جاك روسو لم تخلُ من الفائدة؛ لأنها وجَّهت الأذهان نحو الفضائل والأخلاق، ونبَّهت النَّاس إلى وجوب الاهتمام بها، بجانب الاهتمام بالعلوم والآداب.

في أواخر القرن التاسع عشر

عندما قامت الضجَّة التي وصفناها آنفًا حول مسألة العلم والأخلاق، كانت العلوم الحديثة لا تزال في فجر نشأتها، إنها ما كانت كشفت بعدُ شيئًا كثيرًا عن أسرار الطبيعة، ولا كانت أنتجت شيئًا يستحق الذكر من التطبيقات العملية — ما كان ظهر بعدُ أحدٌ من أساطين العلم والاختراع الحديثين، مثل؛ لابلاس، ولافوازيه، وآمبر، وفولتا، وليستر، وباستور، وفاط، وستيفنس، وبرتلو، وأديسون — ولا كان خرج إلى عالم الوجود شيء من المخترعات الحديثة مثل؛ المكائن والمحركات، والبواخر والطيارات، وكل ما له اتصال بالكهربائيات. ولهذا السبب، ما كانت العلوم تتمتع بمكانة عالية في النفوس، ولا بسيطرة قوية على الحياة.

غير أن هذه المكانة أخذت تتعالى، وهذه السيطرة أخذت تتفاقم بسرعة كبيرة بعد حلول القرن التاسع عشر؛ حيث أخذت العلوم تتقدم بسرعة محيرة للعقول في ساحتَي النظريات والتطبيقات، وصارت المخترعات تتوالى بسرعة خارقة للعادة، وتتغلغل في جميع نواحي الحياة، وأخذ كل شيء يتبدل ويتقدم، كل شيء؛ من الزراعة والصناعة إلى الطب والجراحة، ومن وسائل المناقلة والمواصلة إلى وسائط التسخين والتنوير والطبخ. كل شيء أخذ يتطور ويتحسن ويتقدم بدون انقطاع.

وهذا الانقلاب العظيم الذي شمل بهذه الصورة جميع مناحي الحياة المادية أشاع في النفوس تيارًا قويًّا من التفاؤل، وهذا التفاؤل وصل عند بعض المفكرين إلى حد الاعتقاد بأن هذا التقدم العلمي الهائل، لا بد أن يكون مقدمةً لتقدُّم معنوي خطير، يضع حدًّا للتعاسة والشقاء على وجه الأرض، وينشر ألوية الوئام والسلام بين الأنام.

ولذلك أخذت معاهد العلم والتعليم تشغل المكانة الأولى بين جميع المؤسسات الاجتماعية، وصار الناس يُعلِّقون أكبر الآمال على العلوم وعلى ثمرات العلوم.

غير أن بعض المفكرين أخذوا يلاحظون بعدئذٍ أن التقدم العلمي — النظري والعملي — الذي أشرنا إليه آنفًا، لم يترافق مع تقدُّم معنوي أخلاقي واجتماعي.

فإذا كان الطب مثلًا، قطع أشواطًا محيرةً للعقول في سبيل تخفيف الآلام المادية ومعالجة الأمراض البدنية، إلا أن المجتمع لم يتوصل إلى إيجاد نظام يضمن تخفيف الآلام المعنوية، ومعالجة الأمراض الاجتماعية.

وإذا كانت فئات من الناس صارت تعيش عيشة هناء تفوق الهناء السابق آلاف الدرجات، إلا أن فئات أخرى من الناس ظلت تعيش عيشة ضنك وشقاء، حتى إن بعض الفئات صارت تغوص في بحار الفاقة والحرمان.

ولهذا، صار بعض المفكرين يشعرون بخيبة مريرة في الآمال التي كانوا علَّقوها على تقدُّم العلوم؛ فأخذت النزعة التفاؤلية التي وصفناها آنفًا تخفُّ شيئًا فشيئًا، فتترك محلها إلى نزعة تشاؤمية تشتد وتتفاقم تدريجًا.

وصار بعض المفكرين لا يكتفون بالتألم من الانحطاط الأخلاقي والاجتماعي الذي أخذ يتفشى على الرغم من تقدُّم العلوم، بل إنهم أخذوا يربطون بين هذا التقدم وذلك الانحطاط، ويضعون مسئولية هذه الأحوال على عاتق العلوم مباشرة.

إن هذا التيار الفكري الجديد أخذ يتقوَّى في أواخر القرن الماضي، حتى قام الكاتب الناقد الفرنسي فرديناند برونتيار F. brunetiére يجهر به ويعلنه على الملأ، بمقالة طنانة أحدثت دويًّا كبيرًا في عالم الفكر والأدب، وفتحت بابًا واسعًا للبحث والنقاش في مسألة «العلم والأخلاق».

لقد عنون «برونتيار» مقالته هذه بعنوان «إفلاس العلوم»، وقال فيها: «إن الآمال التي يعقدها الناس على العلم، وينتظرون تحقُّقها بفارغ الصبر، ما هي إلا سراب خدَّاع.» وادَّعى في الأخير «أن العلم أفلس، لأنه لم يستطع أن يفيَ بوعوده العظيمة.»

وكان ذلك سنة ١٨٩٥م، غير أن هذا الهجوم الذي شُنَّ على العلم بقلم أحد رجال الأدب، كان من الطبيعي أن يُولِّد رد فعل شديد في محافل العلماء، وأن يحمل جماعةً منهم للدفاع عن العلم بكل ما لديهم من قوة.

وقد صدر أول الردود على هذا الهجوم بقلم العالِم المفكر «شارل ريشه» Ch. Recher المشهور بأبحاثه الفلسفية.

نشر المُومأ إليه — قبل أن يمضيَ عشرة أيام على صدور مقالة برونتيار — ردًّا رزينًا عنونه بعنوان «هل أفلس العلم؟»

وكان مما قاله في هذا الرد: «إن العلوم لم تستسلم إلى الخُيَلاء، ولم تَعِد الناس شيئًا، ومع هذا، إنها جلبت لهم فوائد كثيرةً جدًّا، وهذه الفوائد لم تقتصر على الأمور المادية، بل تعدتها إلى بعض الأمور المعنوية والأخلاقية أيضًا.

إن العالِم يبحث عن الحقيقة، ولكنه — خلال بحثه هذا — يهتدي إلى الحق والخير أيضًا.»

«واليوم نحن نجد أنفسنا أمام نظرية أخلاقية جديدة، ترغم جميع المفكرين على الاعتراف بها؛ إنها نشأت عن العلم، وتأسست على مبادئ التساند والترابط المغروزة في طبائع الإنسان.»

ثم تلا هذا العالِمَ الشهير في الدفاع عن العلم، الكيمياوي الكبير برتلو Berthelot، فنشر مقالةً بعنوان «العلم والأخلاق»، أشار فيها إلى الخدمات الجليلة التي قدَّمتها العلوم إلى البشرية، ثم قال: «إن أمر انتصار العلم واستقرار حُكْمه هو وحده الذي سيبلغ بالناس الغاية القصوى من السعادة والأخلاق.»

وما مضى على تاريخ نشر هذه المقالة شهران، حتى قام جماعة من العلماء والمفكرين، وأدبوا مأدبةً كبرى تكريمًا لهذا العالِم الكبير، ألقوا خلالها بهذه الوسيلة خُطبًا عديدةً لتبجيل خدمات العلم، ولرد ما وصموه به من الإفلاس. وقد ضمت هذه الحفلة التكريمية جماعةً من كبار رجال السياسة، أمثال؛ كليمانصو، وجوريس، وبريسون، ومن أكابر العلماء أمثال؛ أدمون بربيه، وبرتلو، وشارل ريشه. ومن مشاهير الأدباء مثل؛ أميل زولا. وبذلك تحولت الحفلة إلى «شِبْه مظاهرة» تهدف إلى «الدفاع عن العلم».

وقد قال أدمون بربيه (من أكابر علماء الحياة) في الخُطبة التي ألقاها في هذه الحفلة: «إن مكتشفات العلوم الطبيعية أدت إلى تكوين أخلاق اجتماعية.» وبعد أن تكلَّم عن مناقب «باستور»، وأطنب في مدح ما تحلَّى به من الأخلاق السامية والسجايا العالية، قال: «هكذا ينجب العلم رجالًا تمثلت فيهم أنبل الفضائل وأمتن السجايا الأخلاقية.»

وقام شارل ريشه أيضًا يلقي خُطبةً مطولةً مدللة، وصف فيها «حياة العلماء في المخابر»، وذكر مناقب العاملين في تلك المخابر، وأتى على شرح النزعات النزيهة التي تجيش في صدورهم، والعواطف السامية التي تتجلَّى في أعمالهم، والوداد القلبي الخالص الذي يستحكم بينهم. وأنهى كلامه أخيرًا بهذه العبارات: «إن هذا الجهاد العلمي العظيم لا بد أن يؤديَ إلى فكرة أخلاقية جديدة، أرفع وأسمى من الفكرة القديمة بمراتب عديدة، وهي؛ احترام حياة الإنسان، والتأثر من آلام الغير، والتعاضد بين الأفراد، والاتحاد بين الشعوب.»

وعلى أثر ذيوع أخبار هذه الحفلة؛ قام «برونتيار» السالف الذكر، ونشر مقالةً جديدةً حمل فيها على العلم حملةً أشد بكثير من الحملة الأولى. وكان مما جاء فيها هذه الأسئلة: «ألم يكن رُقيُّ العلم هو الذي أوجد الآلات المخرِّبة؟ والشقاء الذي يضرب أطنابه في المناجم، ألم ينشأ من العلم؟ أولم يكن العلم هو الذي أخذ يجذب الفلاحين والقرويين إلى المدن الكبيرة، حتى أفضى إلى مزاحمة الناس بعضهم بعضًا مزاحمةً شديدة؟ ألم يكن هو الذي ساق النساء إلى الكدح في الفحش، وهو الذي ملأ المعامل بالأطفال الصغار؟ ومن الذي اخترع أنواع المسكرات، وضروب الحيل لغش الأطعمة والأشربة؟ وما الذي أوجب سيطرة الثروة على العمل، وأكسبها تلك القوة الحاكمة؟ أولم يكن السبب في ذلك كله العلم ومكتشفاته ومخترعاته؟»

غير أن العلم لم يبقَ محرومًا من مدافعين ومحامين تجاه هذه الاتهامات الجديدة والشديدة أيضًا، وربما كانت أظرف هذه المدافعات هو الرد الذي كتبه الشاعر الفيلسوف الشهير «سوللي برودوم» Suly Prudhomme، إذ قال: «إن كثيرًا من المجرمين والجناة يستفيدون من نور القمر في ارتكاب جناياتهم، فهل يجرؤ أحد على نسبة تلك الجرائم والجنايات إلى النور، بحجة أن الجناة استفادوا منه، أو أن نور القمر هو الذي سهَّل لهم السبيل؟! فالعلم كذلك؛ إنه يضيء بنوره جميع الأنحاء والطرق، فإذا سلك سالك بسوء اختياره مسالك الرذيلة، فإنما يكون هو الآثم والجاني، لا العلوم التي استفاد من أنوارها.»

وهكذا استمرت هذه المناظرات والمناقشات مدةً طويلة، حتى إنها تسربت إلى ممالك وبلاد أخرى، وصارت فيها كلها مشغلةً للكُتَّاب والعلماء والمفكرين.

في أواسط القرن العشرين

لقد مضى على تاريخ مناقشات «إفلاس العلوم» المذكورة آنفًا مدة تزيد على نصف قرن.

وقد تقدمت العلوم خلال هذه المدة تقدُّمًا كبيرًا، تضاءل بجانبه كل ما كان سبق لها من تقدُّم وازدهار، ولا سيما تطبيقات هذه العلوم، فإنها توسعت توسُّعًا هائلًا، وشملت جميع ميادين الحياة. وصارت الاكتشافات والاختراعات تتوالى بسرعة تحيِّر العقول، وتزيد في سيطرة الإنسان على المادة، وفي قدرته على استغلال الطبيعة زيادةً خارقةً للعادة.

وقد قامت خلال هذه المدة حربان عالميتان، نشطت من جرَّائهما صناعات الإنشاء والتدمير على حدٍّ سواء نشاطًا هائلًا، ونتج عن ذلك كله أزمات اجتماعية خطيرة، شبيهة بالزلازل العنيفة، أشاعت الفزع في النفوس، وأوجدت البلبلة في الأخلاق.

وكان من الطبيعي أن تعيد هذه الحوادث والانقلابات إلى أذهان المفكرين مسألة «العلم والأخلاق»، وأن تطرح هذه المسألة على بساط البحث والنقاش في كثير من المناسبات.

ولكن خلال هذه الأبحاث والمناقشات الجديدة، انتقل مركز ثِقَل المسألة من العلم إلى الصناعة، وتبلورت القضية على شكل «علاقة الأخلاق بتقدُّم الصناعات».

أخذ عدد غير قليل من الكُتَّاب والمفكرين يعزو القلق الاجتماعي الذي شمل جميع أنحاء العالم المتمدن، والبلبلة الأخلاقية التي انتشرت بين جميع شعوب الأرض، إلى تأثير الاختراعات وتقدُّم الصناعات، حتى إن البعض منهم أخذ يدعو إلى وضْع حدٍّ ﻟ «تيار التصنيع الجارف»، وصار يقول بوجوب «ترك الاختراع»، أُسوة بالذين يدعون إلى «الانقطاع عن التسلُّح».

وقد عمد بعض الكُتَّاب إلى التمثُّل بالأساطير اليونانية، وصاروا يشيرون إلى أسطورة «بروميثيوس Prométhé» المشهورة:

من المعلوم أن بروميثيوس — على ما ترويه الأساطير اليونانية — من أنصاف الآلهة؛ إنه سرق النار من السماء وأعطاها إلى الإنسان، والآلهة غضبت من فَعْلته هذه غضبًا شديدًا؛ فكبَّلته بالأصفاد، وحُكِم عليه بأن يعيش إلى الأبد، مُعرَّضًا لأشد الآلام على الدوام؛ حيث تنقضُّ عليه الصقور كل يوم، وتنهش أحشاءه نهشًا لتتغذى بها، على أن تتكوَّن تلك الأحشاء من جديد؛ لتُنهش وتُؤكل بدورها في اليوم التالي، وهكذا دواليك إلى أبد الآبدين. وكل ذلك عقاب على الجناية التي ارتكبها ﺑ «سرقة النار من السماء، وإيصالها إلى الإنسان على الأرض».

كان المفكرون يقولون إن هذه الأسطورة ترمز إلى أن الإنسان توصَّل إلى استعمال النار، مستفيدًا من الحرائق التي تنشب في بعض الأشجار، من جرَّاء الصواعق التي تنزل عليها من السماء أيام العواصف الهوجاء.

ولكن البعض ممن اقتدوا بجان جاك روسو في قضية العلم والأخلاق صاروا يقولون؛ إن هذه الأسطورة ترمز إلى أن «الاختراع» مصدر بلايا الإنسان؛ لأن النار أُم «الاختراعات» بوجه عام.

وقال بعضهم مشيرًا إلى توالي الاختراعات الصناعية الهائلة؛ لقد فكَّ بروميثيوس عقاله، وتخلَّص من الأصفاد، وعاد إلى الفساد ﺑ «سرقة أسرار الطبيعة وإيصالها إلى الإنسان». فيجب تكبيله من جديد بالأصفاد؛ لمنعه من الاستمرار في هذا العمل الضار.

وقد صاح جوزيف كاييو (رئيس وزراء فرنسا المشهور) في إحدى كتاباته: «أسرعوا إلى تكبيل بروميثيوس، اضبطوا العلوم، اتقوا شر الصناعات!»

ولا حاجة إلى القول أن أمثال هذه المخاوف وهذه الدعايات ازدادت بوجه خاص بعد فظائع الحرب العالمية الثانية، ولا سيما بعد قنبلة هيروشيما الذرية، التي دمَّرت المدينة وأهلكت مئات الألوف من الناس بضربة واحدة.

وصار المفكرون والكُتَّاب يُكثرون من بحث قضية «الصناعات والأخلاق»، ويثيرونها بصور وأشكال شتى.

ولذلك رأى منظمو «المجالسات والمطارحات الأممية» في جنيف Rencontres internationales de Genéve أن يجعلوا موضوع مطارحات سنة ١٩٤٧ مسألة «تقدُّم الصناعة وتقدُّم الأخلاق» Progrés technique et progrés moral؛ لإظهار مختلف وجوه النظر في هذه القضية الهامة.

بدأت هذه المطارحات في اليوم الأول من شهر أيلول في السنة المذكورة، واستمرت مدة أسبوعين، وأُلقيت خلالها تسع محاضرات، وعُقدت سبع جلسات لمناقشة المسائل من وجوهها المختلفة، واشترك في هذه المناقشات والمطارحات ثلاثة وأربعون شخصًا من مختلِف البلدان الغربية والشرقية.

فيحسُن بنا أن نُلقيَ نظرةً عامةً إلى أهم الآراء التي أُبديت خلال هذه المحاضرات والمناقشات:

كان بعض المتحدثين متشائمًا إلى أقصى حدود التشاؤم، في حين أن بعضهم كان بعكس ذلك متفائلًا إلى أقصى حدود التفاؤل.

وكان معظم المتشائمين من المتمسكين بالتعاليم الدينية، ومعظم المتفائلين من القائلين بالماركسية والاشتراكية.

وكان المتشائمون يشيرون إلى الكوارث التي حلَّت بالبشرية منذ تعمُّم المكائن وتقدُّم الصناعات، ويسترسلون في وصف التفكك الأخلاقي الذي رافق الانقلاب الصناعي، ويخلُصون من كل ذلك إلى القول بأن مستقبل البشرية أصبح مظلمًا جدًّا، ينذر بأشد الكوارث وأهول النكبات.

ولكن المتفائلين كانوا يقولون إن البشرية لم تكن في يوم من الأيام أقل شقاءً ولا أكثر فضيلةً مما هي الآن، وكانوا يدَّعون أن المساوئ التي لا نزال نشاهدها الآن ستزول بفضل «الإصلاحات الاجتماعية» التي تقول بها وتدعو إليها المذاهب الاشتراكية، والتي صارت تسعى إلى تحقيقها الحكومات العصرية، بالرغم من الجهود الفاشلة التي تبذلها القوى الرجعية.

وكان أشد المتحدثين إيغالًا في التشاؤم رينه جيولوئين René Gillouin، ويمكننا أن نلخِّص أهم الآراء التي سردها خلال حديثه بما يلي:

كان طلابنا يربون فيما مضى لخدمة الله، ولكنهم الآن صاروا يربون لخدمة المكائن والصناعات.

والصناعات مع العلوم التي تُولِّدها وتغذيها هي المصدر الأصلي لبلايا الإنسان.

فإن المقصود الأصلي من «الإغواء» المذكور في قصة آدم وحواء، لم يكن «إغواء الجسد» وحده كما هو شائع بين الناس، بل إنه يشمل إغواء القدرة وإغواء المعرفة أيضًا. والشجرة الممنوعة التي أكل منها آدم، والتي خسر من أجلها الجنة لم تكن تحمل شهوة الجسد وحدها، بل كانت تحمل شهوة القدرة وشهوة المعرفة أيضًا.

شهوة الجسد، شهوة القدرة، شهوة المعرفة؛ هذه هي أنواع الشهوات التي كانت ولا تزال مصدر بلايا الإنسان.

وربما كان النوع الأخير أخطر الجميع؛ ذلك لأن شهوة الجسد محدودة بحدود ضيِّقة لم تتغير تغيُّرًا يُذكَر بتوالي الأجيال، وشهوة القدرة والحكم أيضًا محدودة بحدود طبيعية، وإن كانت أوسع مجالًا بكثير من مجال شهوة الجسد، وأما شهوة المعرفة فإنها غير محدودة بأي حدود كانت؛ فتستطيع أن تتوسع إلى ما لا نهاية له، وهذه الشهوة تثير وتغذي وتنمِّي شهوة القدرة، وهذه بدورها ترخي العِنان وتفسح المجال لشهوة الجسد.

ولهذه الأسباب عمَّ الفساد في الأرض بتقدُّم العلوم والصناعات.

وقد أصبح شعار العصر الحاضر يتلخص في ثلاث عبارات: لا شيء صحيح، كل شيء مباح، كل شيء ممكن. الأولى تشير إلى إنكار الديانات والفلسفات الماورائية، والثانية تشير إلى الاستهتار بالمبادئ الأخلاقية، والثالثة تشير إلى الاعتماد على القوة الصناعية.

وإذا كنا لا نزال نشاهد في البشرية بعض الآثار للفضائل الأخلاقية، فإن الفضل في ذلك يعود إلى بقية الضوابط الأخلاقية والاجتماعية التي ورثها الجيل الحاضر عن الأجيال الماضية.

صارت المكائن والمعامل تسيطر على العالم وتجعل الناس عبيدًا للقُوى والمنافع المادية، وهي توشك أن تقضيَ على ما تبقَّى من الضوابط الأخلاقية.

أصبحت البشرية الآن شبيهةً بمخزن بارود، يتلهى في أرجائه بحرية غريبة أطفال انتفخت جيوبهم بالثقاب.

والحرب الثالثة آتية لا محالة مع كوارث هائلة.

يبدو في الأفق الآن علائم طوفان جديد، ليس من الماء كالطوفان الأول، ولكنه طوفان من الحديد والنار والأشعة والسموم.

وهذا الطوفان الجديد ربما سيؤدي إلى هلاك الجنس البشري بأجمعه، وإلى فناء الحضارة الحاضرة بكليتها. وربما أدى إلى فناء جميع آثار الحياة؛ حيث لا يبقى كائن حي على الأرض. وربما تعرضت الكرة الأرضية نفسها إلى الفناء؛ حيث تنفلق وتنفجر بمجموعها وتتناثر شظاياها إلى الفضاء.

وقد تخرج الكرة الأرضية سليمةً من هذا الطوفان الهائل.

وقد يظهر خلال هذا الطوفان الجديد نوح ثانٍ يُنشئ سفينةً جديدة، ينجي بها بعض الأفراد من البشر، ويبدأ للإنسان تاريخ جديد، وحضارة جديدة بكل معنى الجدة، حيث يبدأ كل شيء من لا شيء.

وأما أقوى وأفصح كلمات التفاؤل، فقد صدرت على لسان العالِم الإنجليزي هالدان Haldane، والكاتب الفرنسي هروه Hervé.

ويمكننا أن نُلخِّص أهم الآراء الواردة في هذه الكلمات بما يلي:

إن قول القائلين بأن «العصر الحاضر هو عصر انحطاط في الأخلاق» لا يستند إلى أساس صحيح، ومما لا مجال للشك فيه أن العلوم والصناعات ارتفعت بالإنسان مادةً ومعنًى، وجعلته أقرب إلى الإنسانية الحقة، وأدنى إلى العدل التام.

لقد اعتاد الإنسان أن يتحسر على الماضي؛ لأنه صدَّق الأسطورة القائلة بأن البشرية مرَّت في سالف الأيام بعصر ذهبي، كان فيه كل شيء على خير ما يرام.

نحن نغض الطرف عن مساوئ الماضي وشروره، في حين أننا ننظر إلى المستقبل من خلال نظارات قاتمة اللون، وأما إذا تركنا هذه العادة السيئة، ونظرنا إلى التاريخ نظرة حياد وإمعان؛ علمنا بلا ريب بأن العصور السالفة كانت بعيدةً جدًّا عما يُعزى إليها من محاسن الأخلاق.

كلنا نذكر الحضارة اليونانية بالتبجيل والإكبار، ولكننا ننسى أن تلك الحضارة كانت قائمةً على أساس استعباد الإنسان للإنسان، وأن معظم سكان المدن اليونانية كانوا عبيدًا يتحملون أنواع المشاق لتوفير الراحة والرخاء لطائفة محدودة من الأسياد الأحرار، وكان الضمير الأخلاقي اليوناني لا يحرك ساكنًا ضد هذه الأوضاع، حتى إن كبار الفلاسفة أنفسهم ما كانوا يشعرون بما ينطوي عليه هذا النظام الاجتماعي من الظلم الفادح، وبما كان يتضمنه من المخالفة الصارخة لكرامة الإنسان.

وكثيرًا ما يمتدحون القرون الوسطى، ويشيدون بذكر سمو المعنويات التي كانت سائدةً في خلالها، ولكنهم لا يذكرون كيف كان يشقى الفلاحون في تلك العصور، وينسون المحارق التي كانت تُشعل لإحراق المفكرين الأحرار وهم أحياء!

يتكلمون عن عصر لويس الرابع عشر، ولكنهم ينسون أن زعيم ذلك العصر «ريشليو» كان يقول: الشعب بغلة يجب أن تُحمل عليها كل أعباء الحكومة.

يتكلمون كثيرًا عن النفوس التي تُقتل خلال الحروب بواسطة صناعات الحرب، ولكنهم ينسون أن يبحثوا عن النفوس التي كانت تتضور من الآلام، وتموت من الأمراض قبل تقدُّم الطب والجراحة.

يذكرون المدن التي أصابها الدمار خلال الحروب الأخيرة، ولكنهم ينسون العهود التي كانت تُحرق خلالها القُرى حرقًا، وتُدمَّر المدن تدميرًا.

إن من يُقلِّب صحائف التاريخ بنظرات الباحث المنصف؛ يُضطر إلى التسليم بأن العصور الخالية لم تكن قط أسمى خُلقًا من العالم الحالي.

إن تقدُّم العلوم والصناعات هو الذي فسح المجال لإلغاء الرق، وهو الذي أيقظ الضمير العالمي، وصار يحمل الناس على التفكير في حقوق الإنسان وكرامته.

ولا ننسى أن الضمير العالمي أخذ يستهجن الاستعمار، وصار يطلب إلغاء نظام استعباد الشعوب، أُسوةً بإلغاء نظام استرقاق الأفراد.

«لذلك كله يمكننا أن نؤكد بأن قول القائلين بانحطاط الأخلاق من جرَّاء تقدُّم الصناعات، لا يستند على أي أساس صحيح.»

وأما معظم المتكلمين — خلال المطارحات — فقد التزموا جانب الاعتدال بين هذه الآراء المتطرفة في التشاؤم والتفاؤل.

وقد قالوا: إن الأخلاق لم تنحط بالنسبة إلى القرون الماضية، ولكنها لم تتقدم تقدُّمًا متناسبًا مع تقدُّم العلوم والصناعات، وفرْق السرعة في تقدُّم الإنسان في واحد من هذين الميدانين المختلفين، هو الذي سبَّب ولا يزال يسبب كل الأزمات الخطيرة التي نشاهدها الآن.

وأما الدعوة إلى توقيف الاكتشافات وتعطيل الاختراعات، فلا يمكن أن تُحمل على محمل الجد؛ إذ من البديهي أنه ليس في استطاعة أحد أن يمنع الأدمغة والأيدي من التفكير والعمل، والاكتشاف والاختراع.

فكل ما يمكن عمله، وكل ما يجب عمله، في هذا المضمار، هو زيادة الاعتناء بالأخلاق خلال تقدُّم الصناعات.

وأما السبيل الحقيقي لصيانة الأخلاق وتقويمها، فهو الإسراع إلى إصلاح أحوال المجتمع إصلاحًا جديًّا.

لأن الإصلاحات الاجتماعية شغلت بهذه الصورة حيزًا كبيرًا في أحاديث معظم المتكلمين الذين اشتركوا في المباحثات والمطارحات التي لخَّصناها في هذا المقال.

وقد حصل شبه إجماع على القول بأن البحث في التقدم الأخلاقي والتقدم الصناعي لا يمكن أن يؤديَ إلى نتيجة منطقية مفيدة، ما لم يقترن بالبحث في «التقدم الاجتماعي» أيضًا.

وقد قال عدد كبير من المتحدثين؛ إن عدم تطور الأوضاع الاجتماعية التطور الذي يقتضيه تقدُّم الحياة الصناعية هو الذي أوجد الأزمات المعنوية التي ابتُلي بها العصر الحاضر، وتحقيق الإصلاحات الاجتماعية التي صارت تشعر بها جميع الحكومات العصرية تقريبًا هي الوسيلة الوحيدة للقضاء على هذه الأزمات المعنوية.

وقد علَّل المفكر الهندي «صوامي» Sw-âmi Siddheswarananda خلال المحاضرة التي ألقاها «عدم تقدُّم الأخلاق بالسرعة التي تقدمت بها الصناعات» بقوله: إن ما يكتشفه وما يخترعه فرد من أفراد البشر ينتقل إلى بني نوعه بسهولة، ويصبح مِلْكًا للجميع؛ فيدخل في عداد المكتسبات البشرية العامة بعد مدة وجيزة.

وأما السمو الأخلاقي الذي يصل إليه بعض الأفراد، فلا ينتقل منهم إلى غيرهم بسهولة، ولا يدخل في عداد مكتسبات البشرية العامة.

ولهذا السبب لا يمكن للأخلاق أن تتقدم بالسرعة التي تتقدم بها العلوم والصناعات.

وقد أشار معظم المشتركين في هذه المناقشات والمطارحات إلى أن الأخلاق شيء، والعلم والصناعة شيء آخر، وأن المعلومات والمخترعات يمكن أن تُستخدم للخير أو للشر على حدٍّ سواء. وخلصوا من ذلك كله إلى القول بأنه لا يجوز اعتبار العلوم والصناعات مسئولةً عن مساوئ الأخلاق.

وقد ذكر أحدهم بهذه المناسبة قول المفكر الهندي راما كريشنا Rama Krischna في هذا المضمار: «الضوء يُستفاد منه في قراءة الكتابات المقدَّسة، كما يُستفاد منه في أعمال الغش والتزوير.»

وقد سرد آخرون عدة تشبيهات طريفة لشرح وتأييد هذا المبدأ الهام:

الكلام يكون واسطةً في بعض الأحيان للسب والشتم، فهل يخطر على بال أحد أن يقول لهذا السبب: «لا كان الكلام»؟

إن الطباعة قد تكون واسطةً لنشر المواعظ الأخلاقية، وقد تكون آلةً لنشر المفتريات الدينية، أو لإثارة الفتن الدامية، فهل يجوز لأحد أن يدَّعيَ أن الطباعة هي المسئولة عن هذه الفتن والدناءات؟

نحن نعلم أن مادة الديناميت تُستعمل لصنع القنابل المدمرة، ولكن هل يجوز لنا أن ننسى — مع ذلك — أنها تخدم البشرية خدمات عظيمةً جدًّا عندما تُستعمل لنسف الصخور، وشق الطرق والأنفاق، ولاستخراج المعادن؟

كلنا يعلم أن الطيران زاد في قوة تدمير الحروب زيادةً كبيرة، ولكن هل يخطر على بال أحد أن يتمنى حرمان البشرية من فوائد الطيران الخارقة؟

إن كل هذه الأقوال تنتهي إلى هذه النتيجة المنطقية؛ من العبث أن ننتقد الاختراعات، ونسترسل في تعداد مثالبها. وأما ما يجب علينا عمله في هذا الباب فهو الاهتمام بالأخلاق أيضًا اهتمامًا فعَّالًا.

قال الفيلسوف المشهور «برغسون»: إن جسم البشرية تضخَّم تضخمًا خارقًا للعادة، فأصبح في حاجة إلى مزيد في الروح.

فهل من سبيل إلى تحقيق ذلك غير الاهتمام بالتربية الأخلاقية، والإسراع إلى الإصلاحات الاجتماعية؟

الفكر والعاطفة في الحياة

إني لم أقصد من سرد هذه التفاصيل عن أهم المناقشات التي قامت حول مسألة «العلم والأخلاق» منذ قرنين من الزمان، إلا إطلاع القراء على أهم ما قيل في شأن العلم من وِجهة علاقته بالأخلاق، إن كان ذلك إثباتًا لهذه العلاقة أم نفيًا لها، وإن كان مدحًا لهذه العلاقة أم ذمًّا لها.

والآن بعد أن استعرضنا بهذه الصورة أخطر وأجرأ الآراء التي صدرت من أشد المفكرين والكُتَّاب تطرُّفًا في هذه القضية، يجدر بنا أن نُنعم النظر في هذه الآراء المتضاربة، ثم نعود إلى درس القضية من أساسها، لنتوصل إلى حكم صحيح في هذه المسألة الخطيرة.

ولا أراني في حاجة إلى البرهنة على أنه يوجد بين الآراء التي لخَّصناها ونقلناها آنفًا ما كان من نوع السفسطة والمغالطة، ولعل أغرب هذه السفسطات كان قول جان جاك روسو بأن «الحكمة الأزلية جعلت تحصيل العلم مقرونًا بالمشقة لكي تُحذِّر الناس من طلب العلم.» ثم زعمه — ردًّا على المعارضين الذين ذكروا له مشقة الزراعة — «أن الحكمة الأزلية جعلت الزراعة أيضًا مقرونةً بالمشقة؛ لكيلا تدع للناس وقتًا يصرفونه بالاشتغال بالعلوم الواهية، بعد المشاق التي يتكبدونها في سبيل الأعمال الزراعية الضرورية.»

ولكني أقول — في الوقت نفسه — بأن معظم الآراء التي أبداها الطرفان المتخالفان دفاعًا عن العلم أو تهجُّمًا عليه لا تخلو من الصحة والصواب، غير أنها مع ذلك لا تُوافِق الحقيقة تمام الموافقة؛ لأني أعتقد أن كل واحد من الفريقين المتخالفَين كان محقًّا من جهة ومخطئًا من جهة أخرى، والآراء التي سردها كانت — على الأكثر — صائبةً من جهة، وخاطئةً من جهة أخرى؛ وذلك لأن كل واحد منها كان لاحظ وجهًا من وجوه الحقيقة، وبقي غافلًا أو متغافلًا عن وجوهها الأخرى.

ولا غرابة في ذلك أبدًا؛ لأن القضايا الاجتماعية كثيرًا ما تكون شديدة الإعضال وكثيرة الوجوه، فيستحيل على من ينظر إليها نظرةً عَجْلَى أن يحيط علمًا بجميع وجوهها دفعةً واحدة. فلا يتيسر على الباحث أن يكوِّن رأيًا صحيحًا فيها إلا بعد أن يُقلِّبها على جميع وجوهها، وبتعبير أصح، إلا بعد أن يستعرض ويدرس جميع وجوهها المختلفة استعراضًا تامًّا ودرسًا وافيًا، دون أن يقصر بحثه على أحد وجوهها على وجه الانحصار.

ومن المفيد لنا أن نتذكر في هذا المقام القصة التشبيهية التي كان يشير إليها الفيلسوف الإنجليزي الشهير «هربرت سبنسر»، لتعليل اختلاف الناس في بعض القضايا الفلسفية:

يقولون إنه التقى في عهد الإقطاع — في القرون الوسطى — في محلٍّ ما، فارسان من الفرسان، واختلفا على لون ترس شاهداه هناك؛ ادَّعى أحدهما أنه أسود اللون، وعارضه الثاني مدعيًا بأنه أبيض اللون. وكاد الفارسان يتخاصمان ويتبارزان من جرَّاء الخلاف الذي حدث بينهما بهذه الصورة، إلى أن تبيَّن أن الترس كان في حقيقة الحال ذا لونين؛ كان أحد وجهيه أبيض، ووجهه الثاني أسود. فكان كل واحد من الفارسين محقًّا من جهة، ومخطئًا من جهة أخرى؛ لأنه كان يرى أحد وجهَي الترس ويبقى غافلًا عن وجهه الثاني.

إن قضية العلم والأخلاق من جملة القضايا المعضلة التي تتنوع وتتداخل فيها العوامل، وتتشابك وتتعقد فيها النتائج، وتتعدد وتتخالف فيها المظاهر والوجوه؛ فلا يمكن الوصول إلى الحقيقة في شأنها إلا بعد إمعان النظر فيها مليًّا من جميع وجوهها المختلفة.

فلندرس إذن مسألة العلم والأخلاق بنظرات فاحصة تحيط بالقضايا من جميع وجوهها، لنهتدي إلى الحقيقة في شأنها:

من الأمور التي لا مجال للاختلاف فيها أن الأخلاق لم ترتقِ ارتقاءً متناسبًا مع تقدُّم العلوم؛ فإن العلوم قد تقدمت خلال القرون الأخيرة في جميع الميادين بدون استثناء، في حين الأخلاق إذا كانت قد ارتقت في بعض الميادين فإنها انحطت انحطاطًا صريحًا في ميادين أخرى.

ويظهر من ذلك بلا ريب، أن تقدُّم العلوم لم يضمن ارتقاء الأخلاق.

ولكنه ليس من المنطق ولا من الإنصاف أن نعتبر العلم مسئولًا عن ذلك، وأن نقول إن ارتقاء العلوم هو الذي سبَّب انحطاط الأخلاق؛ لأن عوامل التطورات الاجتماعية كثيرة ومتشابكة جدًّا، والعلم لم يكن إلا عاملًا واحدًا بين تلك العوامل الكثيرة. فإذا كانت تطورات الحياة الاجتماعية أدت إلى انحطاط الأخلاق من وجوه عديدة، وزادت شقاء الناس في ميادين كثيرة، فليس من المنطق في شيء أن نعزوَ ذلك إلى تأثير العلم.

إذا نشب حريق في اللحظة التي بدأت الساعة تدق السادسة مثلًا، أو في الوقت الذي بدأ الراديو يذيع حفلةً موسيقية، فهل يخطر على بال أحد من العقلاء أن يدَّعيَ بأن دقات الساعة، أو ألحان الموسيقى كانت السبب الموجب للحريق؟

وإذا اختطف جماعة من الجناة غادةً عذراء بعد تخديرها بالكلورفورم، فهل يخطر على بال أحد من الناس أن يعتبر مادة الكلورفورم مسئولةً عن هذه الجريمة؟ أو أن يدَّعيَ أن هذه الجناية هي من نتائج الأبحاث العلمية التي أدت إلى تركيب الكلورفورم، متناسيًا الخدمات العظيمة التي أدتها وتؤديها المادة المذكورة إلى البشرية، عن طريق إبطال الآلام وتسهيل العمليات الجراحية؟

لا أراني في حاجة إلى تكثير الأمثلة في هذا السبيل، ولكني لا أتردد في القول بأن كل ما قيل في صدد البرهنة على مسئولية العلم عن انحطاط الأخلاق، لا يخرج عن نطاق هذين المثالين بوجه من الوجوه.

فيجب علينا أن نكُف عن توجيه أمثال هذه التهم إلى العلم، وعلينا ألا ننسى أن العلم شيء، والأخلاق شيء آخر، وأن لكل منهما نظامًا تطوريًّا خاصًّا به، يختلف عن نظام تطور صِنوه اختلافًا كبيرًا.

ولذلك إذا ما لاحظنا أن الأخلاق آخذة في الانحطاط، في الوقت الذي لا تزال العلوم مستمرةً في التقدم، فلا يحق لنا أن نستدل من ذلك على أن تقدُّم العلوم كان السبب الموجب لانحطاط الأخلاق.

أقول هذا، وأرجو أن لا يُفهم من ذلك بأنني أنفي وجود أية علاقة كانت بين العلم والأخلاق.

إنني أنفي وجود علاقة سببية بين تقدُّم العلوم وبين انحطاط الأخلاق، ولكني لا أنفي وجود بعض العلاقات بين العلم والأخلاق في بعض المناسبات.

ولكي أتوصَّل إلى تحديد هذه العلاقات، وتعيين حدودها بطريقة علمية، أرى أن أتعمَّق في البحث بعض التعمُّق، على أساس «الرجوع إلى العناصر المكوِّنة لكل من العلم والأخلاق».

ومن المعلوم أن العلم يتولد من التفكير والمحاكمة، في حين أن الأخلاق تستند إلى الحس والعاطفة؛ ولذلك نستطيع أن نُرجع قضية «العلم والأخلاق» إلى قضية «الفكر والعاطفة».

ولذلك يجدُر بنا أن ندرس أولًا علاقة الفكر بالعاطفة، ثم نبحث في تأثير كل من الأفكار والعواطف في السلوك والأخلاق.

إن المشاهدات الاعتيادية تدل دلالةً واضحةً على وجود علاقات قوية بين الفكر والعاطفة، والأبحاث العلمية تؤيد ذلك تأييدًا قاطعًا؛ فإن الأفكار والخواطر كثيرًا ما تثير الأشجان وتهيج العواطف، كما أن العواطف بدورها كثيرًا ما تثير الأفكار وتوجِّه المحاكمات.

وهكذا يؤثر كل من الأفكار والعواطف بعضهما في بعض تأثيرًا بيِّنًا، يكون قويًّا في بعض الأحوال وضعيفًا في الأحوال الأخرى.

ومما يجب ألا يغرب عن البال، أن الأفكار والعواطف تتجهان تارةً اتجاهًا واحدًا؛ فتُقوِّيان بعضهما البعض في ذلك الاتجاه. غير أنهما تتجهان أحيانًا اتجاهين مختلفين، وتتصادمان من جرَّاء هذا الاختلاف. وهذا التصادم ينتهي طورًا بغلبة الأفكار على العواطف، وطورًا بانتصار العواطف على الأفكار.

وكل هذا يكون تارةً مفيدًا وطورًا مضرًّا؛ لأن العواطف في حد ذاتها تكون تارةً حسنةً وطورًا سيئة. فمن الطبيعي أن يكون تأثيرها في الأفكار أيضًا؛ فإنها مرةً تُقوِّي الأفكار وتساعدها على المضي في الاتجاه الحسن، ولكنها طورًا تُضلِّل المحاكمات وتُبعدها عن سواء السبيل.

وأما الأفكار والمحاكمات، فهي أيضًا تثير العواطف الحسنة في بعض الأحوال، والعواطف السيئة في بعض الأحوال. كما أنها كثيرًا ما تُضعف حرارة تلك العواطف، حتى إن تأثيرها في هذا المضمار قد يصل إلى حد إخماد العواطف وإطفائها تمامًا.

وأما المفاضلة بين الأفكار والعواطف، فمما لا مبرر له أبدًا؛ لأن كلًّا منها ضروري للحياة النفسية، ولا فضل لأحدهما على الآخر بوجه من الوجوه.

ونستطيع أن نقول إن أحسن السجايا تتكوَّن عندما تكون العاطفة منورةً بأنوار الفكر، كما يكون الفكر مشبوبًا بحرارة العاطفة.

ويجب ألا ننسى أن ما نُسمِّيه «المُثُل العليا» ليست إلا «أفكارًا ساميةً مصحوبةً بعواطف حارَّة»، تنجذب إليها القلوب والعقول، وتتوجه نحوها الجهود والعزائم.

وأما تأثير كل من الأفكار والعواطف في السلوك والأخلاق، فيمكن أن يُلخَّص بالعبارات التالية التي تقرر رأي جميع المفكرين والباحثين في هذه الأمور:

«إن العواطف تعمل عمل المحرك الحقيقي في السلوك، والدافع الأصلي في الإرادة. وأما الأفكار فإنها لا تحرك الإرادة، وإنما تنير لها الطرق والمسالك.»

وقد وضَّح الفيلسوف الألماني المشهور «شوبنهاور» هذه الحقيقة بتشبيه طريف، يستند إلى قصة «المُقعد والأعمى» المشهورة، حيث قال:

«إن العاطفة تشبه الأعمى، والفكر يشبه المُقعد.»

فإن العاطفة مثل الرجل الأعمى، تملك قوة الحركة والسير، ولكنها محرومة من نعمة البصر، إنها تعجز عن رؤية الطرق، فلا تستطيع أن تُعيِّن الاتجاهات التي يجب أن تسير نحوها.

وأما الفكر، فهو مثل الرجل المُقعد، يتمتع بباصرة حادة، يرى الطريق وكل ما يحيط بالطريق، فيستطيع أن يُعيِّن الاتجاهات التي يجب أن يسير نحوها، ولكنه محروم من قدرة الحركة، فلا يستطيع أن يسير نحو الأماكن التي يشاهدها بعينيه، مع أنه يدرك وجوب التوجه نحوها، وضرورة الوصول إليها.

إن عمل الفكر والعاطفة في حياة الإنسان يشبه إلى حدٍّ كبير عمل المُقعد والأعمى في تلك القصة المشهورة.

لا شك في أن هذا التشبيه الطريف يُمثِّل علاقة كل من الأفكار والعواطف بالسلوك والأخلاق تمثيلًا واضحًا.

ومع هذا إذا أردنا أن نُوضِّح هذه الحقيقة أكثر من ذلك أيضًا، نستطيع أن نلجأ إلى تشبيه آخر فنقول:

إن الإنسان يشبه السفن البخارية، والعاطفة تشبه المكائن المحركة للسفينة، وأما الفكر فيشبه الإبرة المغناطيسية التي تُعيِّن الاتجاه، والناظور الذي يساعد على رؤية المسافات البعيدة، والمصابيح الكشافة التي تشق ظلام الليل.

وبناءً على هذا التشبيه نستطيع أن نقول؛ لولا العواطف لَمَا استطاعت السفينة أن تتحرك من محلِّها، ولولا الأفكار لفقدت السفينة كل وسائل الاتجاه فضلَّت الطريق، ولربما ارتطمت بالصخور فتحطمت تمامًا.

إن هذين التشبيهين يُوضِّحان تأثير كل من الأفكار والعواطف في أفعال الإنسان، ويشيران في الوقت نفسه إلى نوع العلاقات التي تقوم بين العلم والأخلاق.

غير أني أرى أن أُصرِّح في هذا المقام بأنني لم أذكر هذين التشبيهين إلا بقصد تسهيل تصوُّر الأمر بأمثلة مادية محسوسة، ولكني أعرف في الوقت نفسه أن هذين التشبيهين لا يُعبِّران عن حقائق الأحوال تعبيرًا صحيحًا.

وذلك لأن علاقة الفكر بالعاطفة، والعلم بالأخلاق، أكثر إعضالًا وأشد تعقيدًا مما يُستفاد من هذين التشبيهين.

إذ يجب ألا يغرب عن البال أن الأعمى والمُقعد المذكورَين في التشبيه الأول شخصان منفصلان بعضهما عن بعض انفصالًا تامًّا، وأنهما يبقيان منفصلَين ومستقلَّين، حتى عندما يقرران التعاون والتساند في الحياة؛ فلا الأعمى يبعث القوة في المُقعد، ولا المُقعد يحيي الباصرة في الأعمى، إنما الأول يستفيد من عينَي الثاني، فيسير في الاتجاه الذي يعيِّنه إليه، والثاني يستفيد من عضلات الأول، ويسير محمولًا على كتفيه، والعلاقة بينهما تبقى محصورةً على كل حال في التعاون للوصول إلى غاية مشتركة.

وكذلك الأمر في الماكينة البخارية والإبرة والمصابيح الكشافة التي جاء ذِكرها في التشبيه الثاني؛ فإن كل هذه الأشياء مستقل بعضها عن بعض استقلالًا تامًّا، وكل منها يعمل في تحريك السفينة عملًا مستقلًّا ولا يؤثر في عمل غيره أقل تأثير؛ فلا الإبرة المغناطيسية مثلًا تزيد في قوة الماكينة البخارية، ولا الماكينة المذكورة تغيِّر شيئًا من صحة الإبرة وحساسيتها. فالعلاقة بين هذه الأشياء المختلفة تبقى منحصرةً في «الاشتراك في الخدمة لغاية واحدة، وفقًا لمشيئة رُبَّان السفينة».

ولكن قضية «الفكر والعاطفة» تختلف عن ذلك اختلافًا كبيرًا؛ فإن الفكر والعاطفة لم يكونا من الأمور المستقلة بعضها عن بعض، مثل الإبرة المغناطيسية والماكينة البخارية، أو مثل الرجل المُقعد والرجل الأعمى، بل إنهما في حقيقة الأمر مظهران متلازمان من مظاهر الحياة النفسية، وهما يرتبطان بجذور مشتركة، ويؤثِّران بعضهما في بعض تأثيرًا مباشرًا، والعلاقة بينهما لا تنحصر في «التوجه إلى اتجاه واحد» فحسب، بل إنها تتضمن «التأثير المباشر» إلى حد «التفاعل المتقابل» و«التمازج الفعلي» أيضًا.

ويتبيَّن من ذلك كله أن العلاقة بين الفكر والعاطفة تكون أكثر عمقًا، وأعظم اتساعًا، وأشد استحكامًا من العلائق التي يشير إليها التشبيهان المذكوران آنفًا.

كان المفكر الفرنسي المشهور «ألفريد فوييه» قد لاحظ أن الأفكار لا تخلو من قوة دافعة صغيرة أو كبيرة، وبنى على هذه الملاحظة نظريةً نفسيةً وفلسفيةً خاصةً عُرِفت باسم نظرية «الفِكَر القوانية» Idées Forces، وكان من أُسس هذه النظرية؛ أن الحادثات النفسية متحدة بالأصل، وأن بين التمييز وبين الترجيح رابطةً مُحكمةً لا تترك مجالًا لفصل الإرادة عن العقل، وأن التفكير ليس ببعيد عن «الفعل»، بل هو «فعل» وربما كان أسمى صور «الفعل».

وكان «ألفريد بينه» قد وضع قبل وفاته بمدة وجيزة نظريةً نفسية، قال فيها؛ إن الفكر والعاطفة هما بمثابة طورَين نفسيين كلاهما مقدمة للفعل وتوطئة له، ولهذا السبب نجد أحيانًا أن العاطفة تصطبغ بصبغة فكرية، كما نجد أحيانًا أن الفكر يصطبغ بصبغة عاطفية.

وجميع النظريات النفسية الحديثة تتفق في القول بأن الحياة النفسية تؤلِّف كلًّا، وبأن الحوادث النفسية التي نُسميها بأسماء مختلفة لم تكن إلا من مظاهر هذا الكل.

ولذلك كله يجوز لنا أن نقول؛ إن سلوك الإنسان يتبع العواطف أكثر مما يتبع الأفكار، على شرط ألا ننسى أن العواطف والأفكار تتلازم وتتفاعل على الدوام.

وإذا رجعنا إلى مسألة «العلم والأخلاق» — بعد هذه الحقائق التي توصَّلنا إليها عن «الفكر والعاطفة» — اضطُررنا إلى القول؛ إن العلاقة بين العلم والأخلاق — مثل العلاقة بين الفكر والعاطفة — متينة ومتشابكة جدًّا، وكلاهما ضروري للمجتمع، ويجب أن يكون موضع اهتمام جميع الذين يُعنَون بشئون المجتمعات، ويفكرون في إصلاح أحوالها.

لا العلم وحده، ولا الأخلاق وحدها تضمن للمجتمع البقاء والارتقاء.

هذا، وأرى من المفيد أن أذكر الحقائق التالية أيضًا:

إن الأخلاق لا تستغني عن العلم، إلا في حالاتها الغريزية البدائية، وأما مراتبها السامية، فلا يمكن أن ترتقيَ إليها إلا إذا استنارت بأنوار العلوم، وسارت نحو المُثُل العليا.

والعلوم لا يمكن أن تتقدم كثيرًا إلا إذا وجدت بيئةً أخلاقيةً تدعمها وتساعد على ازدهارها.

فلا بد للأمم التي تبغي التقدم والنهوض أن تسعى لاستكمال الوسائل اللازمة لتزكية الأخلاق، وترقية العلوم في وقت واحد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤