الاستقلال الثقافي وسياسية التعليم في سوريا١

١

منذ مجيئي إلى هذه العاصمة طلب إليَّ كثيرون من الأصدقاء — عدة مرات — أن أُلقيَ بعض المحاضرات لإطلاع الرأي العام على النقائص والمساوئ التي لاحظتها في معارف هذه البلاد، وعلى المشاريع التي وضعتها لإصلاح تلك النقائص وإزالة تلك المساوئ.

غير أني امتنعت عن تلبية هذه الطلبات، ولم أشأ أن أتكلَّم في المحافل العامة حتى هذا اليوم؛ وذلك لأني جئت إلى هنا للقيام بمهمة رسمية، هي درس أحوال المعارف ووضع المشاريع اللازمة لإصلاحها. فكان عليَّ أن أُقدِّم اقتراحاتي إلى الحكومة التي ألقت على عاتقي هذه المهمة، وأن أترك لها المجال اللازم لدرس هذه المشاريع وتقرير ما يجب عمله في شأنها. وما كان يسوغ لي — والحالة هذه — أن أقوم بعمل قد يظهر بمظهر الدعاية لترويج الآراء التي عرضتها، والسياسة التي رسمتها لإصلاح المعارف في هذه البلاد.

ولهذا السبب رأيت ألا أتكلم في المحافل العامة، وحافظت على خطتي هذه، حتى عندما اطَّلعت على الدعايات التي عمد إليها الفرنسيون لإثارة آراء المنورين على اقتراحاتي ومشاريعي.

وأما الآن، فقد تبدلت الأوضاع تمامًا؛ لأن الحكومة قد تبنَّت المشاريع الإصلاحية التي كنت وضعتها، والخطط الأساسية التي كنت رسمتها لمعارف البلاد، ورفعت إلى المجلس النيابي مشروع القانون الذي كنت هيَّأته لتنفيذ تلك المشاريع الإصلاحية، عملًا بتلك الخطط السياسية. والمجلس النيابي شارك رأي الحكومة في هذا المضمار، وأقر القانون بحماس واندفاع.

وقد أصبحت — بهذه الصورة — المشاريع التي كنت وضعتها مشاريعَ الحكومة السورية نفسها، والسياسة التي كنت رسمتها سياسةَ الحكومة السورية بذاتها، بناءً على قرار المجلس النيابي الذي يُمثِّل الشعب السوري بأجمعه.

ولذلك أصبح من حقي، بل من واجبي، أن أشرح أُسس هذه المشاريع، ومرامي هذه السياسة إلى الرأي العام المنوَّر، بشيء من التفصيل، مع ذكر الأسباب الموجبة لها، والفوائد المتوخاة منها.

ولذلك دعوتكم إلى هذه القاعة، ووقفت أمامكم على هذا المنبر؛ لأداء الواجب الذي ذكرته الآن.

إن موقفي هذا يبعث في نفسي بعض الذكريات التي تعود إلى ما قبل ربع قرن تقريبًا، فإني أتذكَّر الآن آخر المحاضرات التي كنت ألقيتها في هذه العاصمة، في مكان قريب من هذا المكان؛ كان ذلك بعد إعلان استقلال سوريا «بحدودها الطبيعية من جبال طوروس حتى رفح»، حسب نص القرار الذي أعلنه المؤتمر السوري العام، في اليوم الثامن من آذار سنة ١٩٢٠م.

كنت جمعت المدرسين والمعلِّمين في قاعة المعهد القائم على ضفة بَرَدَى اليمنى، وألقيت عليهم محاضرةً طويلةً تحوم حول الاستقلال، شرحت لهم خلالها الخطط التي يجب أن يسيروا عليها لتفهيم التلاميذ معنى الاستقلال، والوسائل التي يجب أن يتوسلوا بها لأجل أن يغرسوا في نفوس الناشئة حب الاستقلال، كما أني أوضحت لهم الطرائق التي يجب أن يتَّبعوها لتفهيم الطلاب الواجبات التي تترتب على أبناء الوطن لإدامة الاستقلال.

وكانت تلك المحاضرة آخر المحاضرات التي ألقيتها في هذه المدينة، بل في هذه البلاد.

كلكم تعرفون ماذا حدث بعد ذلك:

لقد زحفت القوة الغاشمة وقضت على ذلك الاستقلال، واحتلَّت البلاد من أولها إلى آخرها، وأخذت تسيطر على مقدَّراتها تحت ستار الانتداب.

ولكن الشعب السوري لم يرضخ لهذه السيطرة، بل إنه أخذ يثور عليها كلما وجد إلى ذلك سبيلًا، وواصل الكفاح في سبيل استعادة الاستقلال، سنوات بعد سنوات، إلى أن تمكَّن أخيرًا من الوصول إلى بُغْيته؛ فتخلَّص من الانتداب، وأخذ يتنعم مرةً أخرى بنِعَم الاستقلال.

ولكن الحكم الأجنبي الذي كان قد استمر بهذه الصورة مدةً طويلة، ترك في البلاد بطبيعة الحال آثارًا عميقة؛ إنه كان بث كثيرًا من البذور الضارة، وكان غرز كثيرًا من الجذور الخانقة في مختلِف ميادين الحياة. وربما كان أسوأ هذه البذور، وأخطر تلك الجذور، هي التي كانت انتشرت وامتدَّت في أرض الثقافة والمعارف، فكان على سوريا أن تُسارع إلى إزالة تلك الآثار السيئة، وإبادة تلك البذور الضارة، واجتثاث تلك الجذور الخانقة من تربة المعارف الخصبة؛ لتضمن لنفسها «الاستقلال» في ميدان الثقافة أيضًا.

وكان أقصر السبل إلى ذلك سَنُّ قانون جديد، يلغي في جملة واحدة جميع نُظم المعارف الموضوعة في عهد الانتداب، ويقرر الأسس التي يجب أن يُبنى عليها صرح المعارف الجديد.

إن قانون المعارف العام إنما وُضِعَ لهذا الغرض، وتنفيذًا لهذه السياسة.

وأستطيع أن أقول: إنه بمثابة «صك الاستقلال الثقافي» في هذه البلاد.

وأنا أشكر النواب المحترمين الذين وافقوا على هذه الحملة الإصلاحية الجذرية، وأشعر باغتباط عظيم؛ لأنه قُدِّر لي أن أكون من المساهمين في هذه الحركة الاستقلالية المباركة، بعد أن كنت اضطُررت إلى مغادرة البلاد عند زوال الاستقلال الأوَّل.

نعم أيها السادة، إن قانون المعارف العام الذي صدر من المجلس النيابي أخيرًا، لهو بمثابة «صك الاستقلال الثقافي» بكل معنى الكلمة.

لأن النظم السابقة — الباقية من عهد الانتداب — كانت قد وضعت معارف البلاد تحت احتكار النظم الفرنسية احتكارًا تامًّا، وجعلت الثقافة في هذه البلاد خاضعةً للثقافة الفرنسية خضوعًا مطلقًا.

وأما قانون المعارف العام الجديد، فقد تضمَّن — قبل كل شيء، وأكثر من كل شيء — الأحكام التي تكفل تخليص المعارف السورية وثقافتها من ذلك الاحتكار وتلك السيطرة.

ولهذا السبب قلت: إن القانون المذكور يقوم مقام «صك الاستقلال الثقافي» في هذه البلاد.

ولكني أرى من الضروري أن أُوضِّح في الوقت نفسه ما أقصده من تعبير «الاستقلال الثقافي»؛ لكيلا أدع مجالًا لإساءة تفسير هذا التعبير.

كلكم تعلمون أن الاستقلال لا يعني كراهية الأجنبي، ولا يتضمن قطع العلائق مع الأجانب، بل إنما يعني تنظيم شئون البلاد، وتوجيه سياستها حسب ما تقتضيه مصالح الأُمَّة، لا حسب ما يطلبه أو يفرضه الأجنبي، خدمةً لمصالحه الخاصة.

والاستقلال الثقافي لا يختلف عن ذلك في هذا المضمار؛ إنه لا يعني كراهية الثقافات الأجنبية، ولا يتضمن قطع العلائق مع الثقافات الأخرى، إنما يعني تنظيم ثقافة البلاد وتوجيهها حسَب ما تقتضيه مصالح الأُمَّة ونزعاتها الخاصة، لا حسب ما يطلبه أو يفرضه الأجنبي، خدمةً لمصالحه ومصالح ثقافته.

إذ من المعلوم أن الدول المستعمِرة كثيرًا ما تسعى لنشر ثقافتها في بعض البلاد؛ بُغْية تقوية نفوذها السياسي فيها. ولدينا شواهد تاريخية عديدة على أن النفوذ الثقافي كثيرًا ما يكون مقدمةً للنفوذ السياسي، كما أن السيطرة السياسية كثيرًا ما تسعى لترسيخ أقدامها، عن طريق تقوية السيطرة الثقافية.

والاستقلال الثقافي إنما يعني التخلُّص من أمثال هذه السيطرات الأجنبية، ولا يرمي إلى الاستغناء عن ثمار الثقافات الأجنبية.

ولذلك، عندما انتقدتُ خضوع معارف البلاد لاحتكار الثقافة الفرنسية والنظم الفرنسية، ورسمت الخطط اللازمة لتخليص المعارف السورية من قيود هذا الاحتكار؛ لم أقصد بذلك قطع العلائق مع الثقافة الفرنسية والاستغناء عن ثمار الثقافة المذكورة، بل إنما قصدت جعل المعارف السورية حرةً في تنظيم شئونها، لتقتبس ما يلائمها من النظم الفرنسية والثقافة الفرنسية، دون أن تحرم نفسها من ثمار النظم والثقافات العالمية الأخرى.

إني لم أختط الخطط المذكورة معاداةً للنظم الفرنسية، إنما اختطتها لاعتقادي بأن تلك النظم لا تُلائم حاجات هذه البلاد، وتحُول دون تقدُّم معارفها وثقافتها تقدُّمًا مطردًا وسويًّا.

إني أود أن أعلن هذه الحقيقة من فوق هذا المنبر ليعلمها الجميع؛ ذلك لأنني كثيرًا ما لاحظت أن البعض يتوهمون بأنني أكره النظم الفرنسية وأُعادي الثقافة الفرنسية، والبعض يتمادَون في طريق التوهم إلى حد الظن بأني أفعل ذلك محاباةً للثقافة الأنجلوسكسونية، وترويجًا للنظم الأمريكية. كما أني لاحظت أحيانًا أن البعض يؤيدني تحت تأثير هذا الوهم، في حين أن البعض الآخر يعارضني بناءً على هذا الوهم.

وأما أنا، فأرى أن أُصرِّح بأن كِلا الفريقين على خطأ عظيم في هذا الأمر.

فإني لم أكن في يوم من الأيام، لا من الداعين ولا من المعادين لثقافة من الثقافات في حد ذاتها، أو لنظام من النظم في حد ذاته. إنما أنا كنت أقول، ولا أزال أقول؛ إنه يوجد في كل ثقافة من الثقافات العالمية، وفي كل نظام من نُظم معارف الأمم الكبيرة، بعض العناصر المفيدة لنا، وبعض العناصر الضارة بنا، بعض الأمور الموافقة لحاجتنا، وبعض الأمور المخالفة لطبائعنا. فيترتب علينا أن نقتبس من كل واحدة منها ما يفيدنا وما يساعدنا على النهوض والتقدم، دون أن نتقيَّد بإحداها على وجه الانحصار.

صحيح أنني انتقدت في تقاريري بشدة النظم التي وضعها الفرنسيون في هذه البلاد، ولكني أرجو ألا يغرب عن بال أحد بأنني عندما كنت في العراق، انتقدت بشدة أيضًا الاقتراحات التي كانت قدَّمتها لجنة بول مونرو الأمريكية لإصلاح المعارف هناك.

وأستطيع أن أؤكد بأن الانتقادات التي كنت وجَّهتها إلى تلك المقترحات في العراق، لم تكن قط أقل عنفًا من التي وجَّهتها إلى النظم القائمة هنا.

إن الرسائل العديدة التي كنت كتبتها ردًّا على تقرير لجنة مونرو المذكورة، كانت نُشِرت في حينها في جميع الجرائد العراقية، وقد جُمِعت بعد ذلك في كتاب خاص، يستطيع أن يراجعه كل من يريد التأكد من الأمر.

ويجدُر بي أن أذكر في هذا المقام أن عدة مجلات فرنسية كانت نشرت أخبار تلك الانتقادات، وأغدقت عليَّ كثيرًا من كلمات المدح والإطراء، حتى إن إحداها كانت أصدرت رسالةً خاصةً عن هذا الموضوع.

واسمحوا لي أن أذكر بوجه خاص أن إحدى المقالات التي نُشرت في باريس وفي بيروت عندئذ، كانت تحمل توقيع «غبرييال بونور» مدير المعارف لدى المفوضية الفرنسية في سوريا ولبنان!

عندما أقدمت على تلك الحملة الانتقادية ببغداد؛ راح جماعة من الكُتَّاب هناك يتهمونني بمعاداة النظم الأنجلوأمريكية، وبمحاباة النظم اللاتينية.

أفليس من الغريب أن يقوم الآن هنا جماعة من الشبان يتهمونني بعكس ذلك؛ بمعاداة النظم الفرنسية ومحاباة النظم الأنجلو الأمريكية؟

إني أعتقد أن مقابلة هاتين التهمتين المتناقضتين بعضهما ببعض تكفي للبرهنة على بُعْدها عن الحقيقة والواقع برهنةً قاطعة.

إني أعلن مرةً أخرى بأنني لا أُعادي ولا أُحابي ثقافةً من الثقافات أو نظامًا من النظم، إنما «أعارض الاستسلام والخضوع إلى النظم الأنجلوأمريكية والنظم الفرنكولاتينية» على حدٍّ سواء.

وإذا ما عارضت الأولى في العراق والثانية في سوريا، فإنما فعلت ذلك لغاية واحدة؛ هي إيجاد نُظم تعليمية خاصة بالبلاد العربية، وتكوين ثقافة مشتركة بين جميع الأقطار العربية.

إني أعرف أن الموقف الذي أقفه تجاه هاتين الثقافتين لا يروق للكثيرين من المثقفين في هذه البلاد؛ لأنهم يُكثرون الكلام عن الثقافتين الأنجلوسكسونية والفرانكولاتينية، ويتساءلون على الدوام: أيتهما أرقى؟ أيتهما أكمل؟

وأما أنا، فلا أود أن أشغل ذهني بمثل هذه المسائل؛ لأني أعتقد أن المهم بالنسبة إلينا، لم يكن «معرفة الأرقى والأكمل»، بل هو «معرفة الأصلح الأنسب».

كما أعتقد أن الأرقى والأكمل في أمور التربية والثقافة قلَّما يكون الأصلح والأنسب للاقتباس والاتباع.

إن كلامي هذا قد يبدو غريبًا في الوهلة الأولى، غير أن هذا الاستغراب يزول بسرعة عند التأمل في الأمر تأملًا جديًّا.

فاسمحوا لي بأن أقص عليكم بهذه الوسيلة إحدى مشاهداتي وملاحظاتي القديمة:

عندما كنت معلِّمًا للعلوم الطبيعية في إحدى ولايات البلقان التي أصبحت الآن جزءًا من بلاد اليونان، كنت أُكثِر من التجوال في الرُّبى والوديان والحقول والبساتين؛ بُغْية درس الحيوانات والنباتات، وجمع نماذج الحشائش والحشرات. وقد ذهبت مرةً خلال هذه الجولات إلى مزرعة رجل من رجال المعارف هناك، وعندما رأيت آلات الحرث البدائية المستعمَلة فيها، اقترحت على صاحب المزرعة أن يجلب الآلات الزراعية الحديثة، وقلت له بنزوة الشاب الذي ينتهز الفرص لتطبيق ما لديه من معلومات: لا يجوز لك أن تستمر على الزراعة بهذه الأساليب القديمة والوسائط البدائية، وأنت من رجال المعارف في هذه البلاد.

ابتسم الرجل من كلامي هذا ابتسامةً ساخرةً وقال: لقد جرَّبت ذلك يا سيدي، جرَّبته فعلًا، غير أني ندمت على ما فعلت وعدلت عنه تمامًا.

قال ذلك بأداء التحسُّر والتألُّم، وأخذ يسير معي نحو سقيفة كبيرة، وهناك أراني المكائن الضخمة المهمَلة والمهجورة منذ مدة قائلًا: ها هي المكائن التي جلبتها وخسرت من أجلها خسائر فادحة.

وفهمت عندئذٍ ما كان حدث بكل وضوح وجلاء؛ قرر الرجل أن يُزوِّد مزرعته بالمكائن الزراعية الحديثة، وراجع لأجل ذلك مفتش الزراعة، راجيًا منه التوسط لجلب المكائن اللازمة. والمفتش الذي كان مثلي حديث التخرُّج من المدرسة، أخذ يبحث في الكتب والفهارس التي بين يديه عن أرقى المكائن وأكملها، ولما عثر على ضالته المنشودة في الكتب والفهارس المذكورة، أسرع إلى جلب المكائن التي اختارها، دون أن يفكر فيما إذا كانت الخيول الموجودة في البلاد تستطيع أن تجرها، وأن تتحمل أثقالها؛ إذ من المعلوم أنه يوجد في أوروبا أجناس خاصة من الخيول، تمتاز بقوة العضلات وقدرة الجر؛ فتستطيع أن تجر أضعاف ما تستطيع أن تجره أقوى الخيول الموجودة في هذه البلاد.

وأظن أنكم تستطيعون أن تتصوروا بسهولة ماذا حدث بعد ذلك؛ وصلت المكائن الفخمة وبدأت المحاولات لأجل استعمالها، وأدت هذه المحاولات إلى موت حصان واحد، ثم ثانٍ ثم ثالث. وعندما رأى صاحب المزرعة هذه النتائج الأليمة؛ أدرك أنه من الخير له أن يُوقف الخسارة عند حدها، فترك المكائن جانبًا، ورجع إلى آلاته القديمة، وصار يصم آذانه عن كل ما يقال عن الزراعة الحديثة!

وهكذا، إن تقصير الخبير الزراعي في بحث القضية من جميع وجوهها المختلفة، وعدم تفكيره في الأحوال المحلية؛ أدى إلى أضرار عديدة، فإنه أوقع بصاحب المزرعة خسائر فادحة، وفضلًا عن ذلك أساء إلى سمعة الزراعة الحديثة، وصار سببًا لتأخر الإصلاح الزراعي في تلك الجهات سنوات طويلة؛ فقد استمرت الزراعة هناك تعتمد على الآلات القديمة، إلى أن يأتيَ أناس يجمعون بين العلم النظري وبين التفكير العملي؛ فيجلبون مكائن صغيرةً متناسبةً مع قوة الخيول الموجودة، وإن كانت دون ماكينات المفتش بكثير، من حيث الرقي والكمال والحداثة.

إن هذه الملاحظات أثَّرت في نفسي تأثيرًا عميقًا، وزوَّدتني بدرس ثمين استفدت منه طول حياتي في جميع أعمالي الإنشائية والإصلاحية استفادةً كبيرةً جدًّا.

إذا كان عدم الانتباه إلى وجوب «الملاءمة والتكييف» يُولِّد نتائج خطيرةً إلى هذا الحد، حتى في المكائن المادية البسيطة. وإذا كان عدم التفكير في الأحوال المحلية يؤدي إلى مثل هذه النتائج السيئة، حتى في الأعمال الزراعية العادية؛ فماذا تكون هذه النتائج في الأمور الاجتماعية التي تؤلِّف نوعًا من «المكائن المعنوية» المعقدة إلى أقصى حدود التعقيد؟ وكيف يكون الحال بوجه خاص بالنسبة إلى هذه «المكائن المعنوية الدقيقة»، التي نُسمِّيها عادةً باسم «النظم التعليمية»؟ ماذا تكون النتائج إذا نقلنا هذه النظم من قُطر إلى آخر، ومن أُمَّة إلى أخرى، دون تفكير شامل وتبصُّر تام؟

أنا لا أرى لزومًا إلى التوسع في هذه القضية في هذا المقام، فلا أود أن أطيل الحديث إليكم بسرد الأمثلة والشواهد التي أستطيع أن أستقيها من حياة التربية والتعليم نفسها. ولذلك أكتفي بتكرار وتأكيد ما قلته آنفًا: إن الأرقى والأكمل، قلَّما يكون الأصلح والأنسب.

هذا، وفي صدد البحث في صلاحية أو عدم صلاحية نُظم التعليم للاقتباس، أود أن ألفت الأنظار إلى أمرين آخرين، لا يقلان أهميةً عن الذي شرحته آنفًا.
  • أولًا: يجب ألا يغرب عن البال أن النظام التعليمي في أي بلد من بلاد العالم لا يكون «نظامًا قائمًا بذاته، يعمل بمفرده، مجرَّدًا عن النظم العائلية والقومية السائدة في البيئة التي ينتسب إليها»، إنما يكون جزءًا من «مجموعة النظم الاجتماعية» الخاصة بتلك البيئة، وهو يعمل معها ويؤثر فيها، ويتأثر منها على الدوام. ونستطيع أن نقول لذلك إن تأثر الناشئة من النظام التعليمي يختلط عادةً مع تأثرها بالنظم العائلية والأدبية والسياسية والاجتماعية التي تُرافق النظام المذكور، وتشاركه في التأثير.

    فإذا نظرنا إلى النظام التعليمي مجرَّدًا عن سائر النظم التي تُرافقه، وحكمنا له أو عليه بالنظر إلى أحوال الشبيبة التي نشأت على ذلك النظام؛ نكون قد انحرفنا عن جادة الحقيقة والصواب انحرافًا كبيرًا؛ لأن أحوال الشبيبة لا تكون وليدة النظام التعليمي وحده، بل تكون حصيلة التفاعل الذي يحدث بين هذا النظام، وبين سائر النظم الاجتماعية التي تشاركه في التأثير على الدوام.

    ويتبين من ذلك؛ «أن النظام التعليمي» القائم في بلد من البلاد، إذا انتقل إلى بلد آخر — بما أنه ينتقل بمفرده، وينفصل عن سائر النظم التي كانت ترافقه في منشأه الأصلي — لا يمكن أن يعطيَ نتائج مماثلةً للتي يعطيها في بيئته الأصلية، وهذه النتائج قد تختلف عن تلك اختلافًا كليًّا.

    هذه حقيقة هامة يجب أن تبقى نُصْب أعيننا عندما نتكلم ونتناقش في تفضيل نُظم التعليم بعضها على بعض.

  • ثانيًا: يجب أن نلاحظ أن نظم التعليم قلَّما تكون خاليةً من النواقص والمآخذ، حتى بالنسبة إلى البلاد التي أوجدتها؛ لأن العادات والتقاليد الموروثة من الماضي لا تخلو من التأثير في نظم التعليم، حتى في البلاد التي تكون أشد استرسالًا في التجديد؛ ولذلك نجد أن هذه النظم قلَّما تسلم من انتقاد الناقدين. وهذه الحالة تبلغ أشدها بوجه خاص في البلاد التي تكون عريقةً في شئون الثقافة والتعليم، وغنيةً بالمعاهد التعليمية التي تتباهى بماضٍ مجيد وعمر طويل.

    إن نظرةً سريعةً إلى الانتقادات الكثيرة والشديدة التي يُوجهها رجال الفكر والتربية في تلك البلاد، إلى النظم التعليمية القائمة فيها، تكفي لإظهار هذه الحقيقة إلى العيان.

    وهذا يزيد الأضرار التي تتولد من «الاقتباس بدون تأمل وتكييف»؛ لأن هذا الاقتباس قد يُؤدِّي إلى نقل النواقص التي كان يشكو منها، ويسعى لإزالتها المفكرون في البلاد التي أنشأت ذلك النظام. وهذه النقائص عندما تنتقل إلى بيئة جديدة؛ قد تصبح أشد ضررًا بكثير مما كانت في بيئتها الأصلية.

    وكثيرًا ما يكون شأن المقلدين في هذه الأمور، شأن الخياط الصيني المشهور الذي يُضرَب به الأمثال؛ يقال إن بحارًا إنجليزيًّا كان قضى وقتًا طويلًا في البحار النائية، وخلال هذه الأسفار تمزَّق بنطلونه، فاضطُر أن يُرقِّعه عدة مرات، إلى أن وصل إلى ميناء صيني، وبحث هناك عن خياط ماهر يستطيع أن يخيط له بنطلونًا جديدًا، حسب النموذج الذي يحمله. ودلوه على خياط ماهر تعهَّد أن يخيط له بنطلونًا جديدًا خلال بضعة أيام، حسب النموذج تمامًا. ذهب البحَّار إلى حانوت الخياط لاستلام البنطلون في اليوم الذي تم الاتفاق عليه، فوجد أن الخياط كان أجاد التقليد كل الإجادة، وقدَّم له بنطلونًا طبق الأصل تمامًا، بما فيه الرقع أيضًا!

    ونحن عندما نقتبس بعض النظم التعليمية بدون تأمُّل جدِّي وتفكير عميق، كثيرًا ما نعمل عمل هذا الخياط المشهور، ونقلد تلك النظم، مع كل ما فيها من عيوب!

    ومما يجب ألا يغرب عن البال أن أمثال هذه العيوب قد تكون مصحوبةً في منبت النظام الأصلي، ببعض العوامل التي تُخفِّف وطأتها وتلافي أضرارها. ولكنها في بيئتها الجديدة تبقى محرومةً من كل هذه العوامل المخففة؛ فتزداد عيبًا على عيب.

أظن أن كل ما ذكرته آنفًا يبرهن لنا برهنةً قطعيةً على أنه لا يجوز لنا أن نقتبس أي نظام تعليمي كان، بهيئته الأصلية، بل يجب علينا أن نضع لأنفسنا نظامًا تعليميًّا خاصًّا، مستنيرين في ذلك بتجارب جميع الأمم التي سبقتنا في مضمار التقدم والرُّقِي، دون أن نرتبط بنظام إحدى تلك الأمم على وجه الانحصار. ولأجل أن ننجح في هذا العمل يجب أن نوسِّع آفاق أبحاثنا إلى أقصى حدود الإمكان؛ فندرس نُظم التعليم القائمة في مختلِف أقطار العالم المتمدين، ونتتبع تطوُّر هذه النظم، ونطَّلع على تفاصيل الأطوار التي اجتازتها قبل أن تصل إلى حالتها الحاضرة، وأن نحيط علمًا بما يقال فيها إن كان لها أو كان عليها، في البلاد التي أوجدتها من جهة، وفي سائر البلاد من جهة أخرى.

وبهذه الصورة، وبهذه الصورة وحدها، نستطيع أن نضع لأنفسنا نظامًا تعليميًّا خاصًّا بنا، يأتي موافقًا لحاجاتنا من جهة، ولمقتضيات فن التربية والتعليم من جهة أخرى.

هذا ما أردت أن أفعله عند تقرير سياسة التعليم في سوريا، وهذا ما أود أن يفعله كل من يُعنى بتنظيم شئون التربية والتعليم عنايةً جديةً في سوريا، وفي سائر البلاد العربية.

٢

بعد هذه الإيضاحات العامة، أود أن أنتقل إلى بعض التفاصيل، وأستعرض أهم المبادئ التي أقرَّها، وأهم التغييرات التي أجراها قانون المعارف العام الجديد.

لا شك في أن أهم هذه المبادئ وهذه التغييرات، هو حذف اللغات الأجنبية من مناهج المدارس الابتدائية.

أنا أعرف أن هذا المبدأ صادف معارضةً شديدةً ومقاومةً عنيفةً من بعض البيئات، لقد ظن المعارضون أن هذه الحركة ارتجاعية تُبعد البلاد عن الغرب، وتعزلها عن الحضارة الغربية، وتؤدي إلى انحطاط مستوى الثقافة فيها. وقد حاول هؤلاء أن يبرهنوا على صحة مزاعمهم هذه بالتكلم عن أهمية اللغات الأجنبية، وعن ضرورة الاتصال بالثقافات الغربية.

ولكن هذه المزاعم لا تقوم على أيِّ أساس صحيح؛ لأن حذف اللغات الأجنبية من مناهج الدراسة الابتدائية، لا يعني إهمال هذه اللغات في سائر مراحل التعليم. فالبحث عن أهمية اللغات الأجنبية لا يبرهن على أي شيء كان في هذا الموضوع.

إننا لا ندرس في المدارس الابتدائية علم الاقتصاد مثلًا، فهل يعني ذلك أننا لا نُقدِّر أهمية هذا العلم، وأننا نريد أن نحرم البلاد من فوائد علم الاقتصاد؟

وكذلك لا ندرس فن الجراحة في المدارس الثانوية، فهل يعني ذلك أننا لا نُقدِّر أهمية هذا الفن، ونضع بيننا وبينه سدًّا منيعًا؟

إن كل مادة تُدرَّس في المدارس لغاية خاصة، وفي الصفوف التي تستطيع أن تحقق تلك الغاية. وعندما نبحث في الموقع الذي يجب أن نعطيه لكل مادة من المواد، ولكل علم من العلوم في مناهج الدراسة، يجب علينا أن نتساءل أولًا؛ ما هي الغاية المتوخاة من تدريس ذلك العلم وتلك المادة؟ وثانيًا؛ متى — في أية مرحلة من مراحل التعليم، وفي أية سنة من سني الدراسة — يجب تدريس ذلك العلم وتلك المادة، لتحقيق الغاية المذكورة؟

وعندما نريد أن نقرر الموقع الذي يجب أن نخصصه لتعليم اللغات الأجنبية في مناهج الدراسة، يترتب علينا أن نسير على خطة مماثلة لذلك، فنتساءل أولًا؛ ما هي الغاية من تعليم اللغات المذكورة؟ ونفكر بعد ذلك فيما إذا كانت الغاية المذكورة تستوجب تعليم اللغات الأجنبية في المدارس الابتدائية.

إن تعليم لغة من اللغات الأجنبية يهدف إلى غايتين أساسيتين:
  • أولًا: غاية عملية. وهي الفوائد المباشرة التي تحصل من جرَّاء استعمال اللغة الأجنبية في المعاملات المختلفة، تكلُّمًا أو كتابة.
  • ثانيًا: غاية ثقافية. وهي الفوائد التي تحصل من تعلُّم اللغة المذكورة، عن طريق توسيع المدارك من جهة، والاستفادة من الكتب الأدبية والعلمية المكتوبة بتلك اللغة من جهة أخرى.

ومن البديهي أن الغاية الأولى تتطلب تدريس اللغات الأجنبية في المدارس التجارية، والغاية الثانية تتطلَّب تدريس تلك اللغات في المدارس الثانوية، ولكن لا الغاية الأولى ولا الغاية الثانية تستلزم تدريس اللغات الأجنبية في مدارس المرحلة الأولى من التعليم.

وذلك لأن هذه المدارس تؤسَّس لأجل تعليم جميع أبناء الشعب، ولهذا فإنها تحصر أعمالها وتدريساتها بالأمور التي يحتاج إليها جميع الناس، والتي لا يستغني عنها أحد، مهما كانت المهنة التي سيمارسها فيما بعد.

ومن الأمور البديهية أن اللغات الأجنبية لا تدخل في نطاق هذه الأمور؛ إنها لم تكن من الأمور التي يحتاج إليها جميع أفراد الشعب، والتي لا يستغني عنها أحد. ولهذا السبب يجب أن تبقى خارجةً عن تدريسات مدارس المرحلة الأولى من التعليم.

هذه حقيقة ناصعة يعترف بها جميع رجال التربية في جميع أنحاء العالم المتمدين.

فإننا إذا استعرضنا مناهج الدراسة الابتدائية الموضوعة في مختلِف البلاد الأوروبية، نجد أنها تُقدِّر هذه الحقيقة حق قدرها، فلا تُدخل في هذه المناهج لغةً غير اللغة القومية.

ولا تشذ الدول عن هذه القاعدة العامة، ولا تُدرِّس في مدارس المرحلة الأولى من التعليم لغةً ثانية، إلا في بعض الأحوال الخاصة، وذلك لاعتبارات سياسية محضة.

إن الاعتبارات السياسية تعمل عملها في هذا الشأن في البلاد التي تتعدد وتتشابك فيها اللغات البيتية، تشابكًا يُضطر الحكومة إلى تقرير لغتين رسميتين. ولا أراني في حاجة إلى القول إنه في تلك البلاد تصبح «معرفة اللغة الثانية» ضرورةً لجميع المواطنين، فتدخل لهذا السبب في مناهج الدراسة الابتدائية.

ونستطيع أن نضيف إلى هذه الأحوال الخاصة قضايا «التعليم في المستعمرات» بالنسبة إلى الدول المستعمَرة أيضًا؛ وذلك لأن هناك تتغلب مصالح الدولة المستعمِرة على كل شيء، وتُعتبر لغة الدولة المذكورة اللغة الرسمية في البلاد، ولا تؤسس المدارس إلا لغرض تنشئة «العمال والموظفين» الذين تحتاج إليهم مصالح حكومة الاستعمار ومرافقها، ومتاجر المستعمِرين ومعاملهم، ولذلك يُعتبر «تعليم اللغة الأوروبية الرسمية» الهدف الرئيسي للمدارس، فلا يُلتفت لا إلى مصالح الأهلين، ولا إلى مبادئ التربية والتعليم.

وإذا استثنينا أمثال هذه الأحوال الشاذة الناتجة عن الاعتبارات السياسية كما قلنا، نستطيع أن نؤكد أن مدارس المرحلة الأولى من التعليم لا تُدرِّس لغةً غير اللغة القومية بوجه عام.

هذه هي أُولى الملاحظات التي حملتني على حذف اللغات الأجنبية من مناهج المدارس الابتدائية في هذه البلاد.

وأرجو أن تُلاحظوا بأنني قلت «أولى الملاحظات»، ولم أقل «أهم الملاحظات»؛ لأنني لم أُقدِم على حذف اللغات الأجنبية من المدارس الابتدائية لاعتقادي بأنها «ليست ضروريةً في تلك المرحلة من التعليم» فحسب، بل لاعتقادي في الوقت نفسه بأن «تعليم اللغات الأجنبية في المرحلة الأولى من التعليم لا يخلو من الضرر» أيضًا.

لأن تعليم لغة أجنبية لتلاميذ لم يتقنوا بعدُ لغتهم القومية، لا يتفق مع قواعد التربية الصحيحة، وينافي مبادئ التربية القومية السليمة؛ إذ من المعلوم أن «تجزئة المشاكل ومعالجتها واحدةً بعد أخرى» يُعتبر من أُولَيات قواعد التربية والتعليم. ولا حاجة إلى البرهنة على أن تعليم التلاميذ الصغار قواعد لغتين مختلفتين في وقت واحد، يخالف هذه القاعدة الهامة مخالفةً كبيرة. وهو يشوِّش أذهان التلاميذ ويرهق عقولهم، ويعيق نموَّهم الفكري من جرَّاء هذا التشويش والإرهاق.

هذه حقيقة ثابتة من الأبحاث والتجارب التي قام بها عدد غير قليل من رجال التربية وعلماء النفس في مختلِف البلاد الأوروبية.

أنا لا أرى مجالًا لشرح هذه الأبحاث والتجارب في هذا المقام؛ ولذلك أكتفي بذكر القرار الذي اتخذته إدارة المعارف في مقاطعة جنيف في سويسرا في هذا الصدد؛ إنها درست المشاكل التي تنتج من تعليم الأطفال الصغار لغتين مختلفتين في وقت واحد، واستعرضت التجارب والأبحاث التي أُجريت في هذا السبيل؛ فقررت في الأخير ألا تُدرِّس لغةً ثانيةً قبل السنة السادسة من الدراسة الابتدائية.

ولكي نقدر أهمية هذا القرار حق قدره، يجب ألا ننسى أن مدينة جنيف من أشهر المدن العالمية التي تزدحم فيها الأجناس، ويجتمع فيها الأجانب. كما يجب أن نتذكر أن مقاطعة جنيف تنتسب إلى الاتحاد السويسري الذي يعتبر اللغات الفرنسية والألمانية والإيطالية «رسمية»، في وقت واحد وعلى حدٍّ سواء.

نعم أيها السادة، حتى في تلك المدينة لا يبدءون تعليم اللغة الثانية إلا في السنة السادسة من الدراسة.

وفضلًا عن ذلك كله، أرى أن ألفت الأنظار إلى أمر آخر، فأقول؛ إن الأضرار التي تنتج من تعليم التلاميذ الصغار لغتين في وقت واحد، تكتسب خطورةً خاصةً بالنسبة إلى أولاد الناطقين بالضاد، وذلك لعدة أسباب:
  • أولًا: إن اللغة العربية كثيرة التعقيد في حد ذاتها، والخط العربي كثير المشاكل في حد ذاته؛ ولذلك لا مجال للشك في أن تعلُّم قواعد هذه اللغة وهذا الخط، يتطلَّب من أطفال العرب جُهدًا ذهنيًّا أكبر بكثير من الذي تتطلبه سائر اللغات والخطوط الأوروبية.
  • ثانيًا: إن الفروق الموجودة بين اللغة العربية وبين اللغات الأوروبية التي يراد تدريسها في المدارس العربية، أكبر بكثير من الفروق الموجودة بين مختلِف اللغات الأوروبية.
  • ثالثًا: إن الطفل العربي يُضطر إلى تعلُّم اللغة الفصحى في المدرسة. ومن المعلوم أن الفروق القائمة بين اللغات الدارجة وبين اللغة الفصحى، لم تكن من الفروق الضئيلة. وهذا أيضًا يُكلِّف التلميذ العربي جهودًا تفوق الجهود التي يتكلفها أمثاله الأوروبيون.

ولهذه الأسباب كلها نستطيع أن نؤكد أن الأضرار التي تنتج من تعليم لغة أجنبية في مدرسة ابتدائية عربية، تكون أكثر وأعظم من الأضرار التي تنتج من أمثال ذلك في البلاد الأوروبية.

إني لم أقترح حذف اللغات الأجنبية من مناهج الدراسة الابتدائية السورية، إلا بعد ملاحظة جميع هذه الحقائق، وبعد درْس القضية من جميع هذه الوجوه المختلفة.

أنا أعرف أن الذين لا يزالون يتمسكون بمبدأ تعليم لغة أجنبية في المدارس الابتدائية يقولون: «إن حاجتنا إلى اللغات الأجنبية أكبر من حاجة الأوروبيين لها.»

ولكني أقول ردًّا على هذه الملاحظة: إن هذه الحاجة يجب أن تؤخذ بنظر الاعتبار في مدارس المرحلة الثانية من التعليم، لا في مدارس المرحلة الأولى. إن هذه الحاجة تستوجب الاعتناء باللغات الأجنبية في المدارس الثانوية، والمدارس المهنية، والمعاهد العالية، ولكنها لا تُبرِّر قط تعليم اللغات الأجنبية في المدارس الابتدائية.

وأنا لم أهمل هذه القضية أبدًا؛ إذ إنني وضعت في قانون المعارف العام مادةً تُخوِّل وزارة المعارف فتح صفوف خاصة لتعليم اللغات الأجنبية، مع بعض المواد الأخرى لمن يرغب فيها ويحتاج إليها بعد الانتهاء من الدراسة الابتدائية، وذلك في المدن التي تكثُر فيها المعاملات التجارية. كما أني بيَّنت في تقريري وجوب الاعتناء باللغات الأجنبية في المعاهد العالية، حتى إنني صرَّحت بأنه يجب على المعاهد المذكورة ألا تمنح شهادة التخرُّج لأيٍّ كان ما لم تتأكد من أنه يتقن لغة أوروبية إلى درجة تُمكِّنه من مطالعة الكتب والمجلات المطبوعة باللغة المذكورة، مطالعةً مقرونةً بالاستفادة التامة.

ولهذه الأسباب كلها، أنا لا أتردد في القول بأن حذف اللغات الأجنبية من مناهج الدراسة الابتدائية، كان من أهم الإصلاحات التي حققها قانون المعارف الجديد.

ولا أشك في أنه يحق لسوريا أن تتباهى بهذه الخطوة الإصلاحية الهامة التي سبقت بها جميع الأقطار العربية في هذا المضمار.

٣

وبعد هذه التفاصيل المتعلقة بقضية حذف اللغات الأجنبية من مناهج المدارس الابتدائية، أنتقل إلى شرح أهم التغييرات والإصلاحات التي تناولت التعليم الثانوي.

إن محور هذه التغييرات والإصلاحات هو تنقيص مدة الدراسة الثانوية، وجعلها ست سنوات عِوضًا عن سبع.

إن هذه التدابير أثارت حفيظة واضعي النظام القديم ودعاته، وحملهم على انتقاد اقتراحاتي بشدة متناهية، ولذلك أرى من الضروري أن أُوضِّح الملاحظات والأسباب التي دفعتني إلى اقتراح هذا الإصلاح.

من المعلوم أن مدة الدراسة الثانوية في سوريا كانت — حسب الخطط الموضوعة في عهد الانتداب — سبع سنوات، بعد دراسة ابتدائية مدتها خمس سنوات. في حين أن هذه المدة هي في مصر والعراق خمس سنوات بعد دراسة ابتدائية مدتها ست سنوات، وفي تركيا ست سنوات، بعد دراسة ابتدائية مدتها خمس سنوات. وإذا جمعنا سِني الدراستين الابتدائية والثانوية معًا؛ وجدنا أن الدراسة الثانوية تتم بعد بدء الدراسة في إحدى عشرة سنة، في كلٍّ من مصر والعراق وتركيا. وإذا استعرضنا المدة المقررة لذلك في مختلِف البلاد الأوروبية، وجدنا أنها تنحصر أيضًا في إحدى عشرة سنةً في كثير من البلاد مثل؛ إسبانيا ورومانيا والدنمارك والبرازيل.

ومع كل ذلك نجد أن هذه الدراسة تستغرق اثنتي عشرة سنةً في كل من سوريا ولبنان.

لماذا؟ هل من سبب مبرر لجعل مدة الدراسة الثانوية في سوريا، أطول مما هي في مصر وتركيا ورومانيا وإسبانيا مثلًا؟

أنا، بعد التفكير في الأمر مليًّا، توصلت إلى الحكم بأنه لا داعي إلى ذلك مطلقًا.

وللبرهنة على ذلك أتساءل أولًا؛ لماذا صارت مدة الدراسة الثانوية في سوريا سبع سنوات؟

إن جواب هذا السؤال بسيط وجليٌّ تمامًا؛ لأن مدة الدراسة الثانوية في فرنسا سبع سنوات!

فإننا مهما توسَّعنا في الدرس، ومهما تعمَّقنا في البحث، لا نستطيع أن نجد جوابًا على السؤال الآنف الذكر غير هذا الجواب.

كنت قلت في بداية حديثي هذا؛ إن سياسة الانتداب وضعت نُظم المعارف في سوريا تحت سيطرة النظم الفرنسية، وجعلتها خاضعةً لتلك النظم.

وعليَّ أن أُتمِّم ذلك القول الآن، قائلًا؛ إن هذه السيطرة وصلت إلى أقصى مراتبها، وتجلَّت بأجلى مظاهرها، في الأمور المتعلقة بالتعليم الثانوي بوجه خاص.

فإن نُظم الدراسة الثانوية في سوريا خضعت للنظم الفرنسية خضوعًا مطلقًا، وقلَّدتها تقليدًا أعمى، دون أن تترك أي مجال للتبصُّر والتكيُّف أبدًا.

إن نظرةً واحدةً إلى تشكيلات المدارس الثانوية، تكفي للبرهنة على ذلك برهنةً قاطعة.

إن تقسيم السنة الأخيرة من الدراسة الثانوية إلى صفَّي «الفلسفة» و«الرياضيات»، وتقسيم امتحانات البكالوريا التي تنهي هذه الدراسة إلى قسمين، على أن يجريَ القسم الأول منها قبل السنة المذكورة، والقسم الثاني منها بعد السنة المذكورة. كل ذلك من الأمور التي يختص بها نظام التعليم الفرنسي وحده، والتي لا مثيل لها في أي بلد من بلاد العالم، باستثناء المستعمرات الفرنسية، وسوريا ولبنان.

وإذا أردتم المزيد من البرهان على هذا التقليد الأعمى الذي ساد على نظام التعليم الثانوي بوجه خاص، فإنني ألفت أنظاركم إلى كيفية تسمية الصفوف الثانوية، حسب النظام الموضوع في عهد الانتداب؛ فإن هذه التسمية تسير على خطةٍ مخالِفة لما هو معتاد ومألوف في بلادنا مخالفةً كلية؛ لأن السنة الأولى من الدراسة الثانوية تُسمَّى باسم «الصف السادس»، والسنة الثانية باسم «الصف الخامس». وهكذا كلما صعد الطالب صفًّا في سُلَّم الدراسة، تقهقر مرتبةً في سُلَّم الأعداد، إلى أن يصل في السنة السادسة من الدراسة الثانوية إلى الصف الأول، فيتقدم إلى امتحان القسم الأول من البكالوريا!

والأغرب من ذلك أن هذه الخطة تختص بالدراسة الثانوية وحدها، فلا تشمل لا الدراسة الابتدائية التي تسبقها، ولا الدراسة العالية التي تعقبها؛ لأن التلميذ يبدأ في المدرسة الابتدائية من الصف الأول، ثم يتدرج من هذا الصف إلى الثاني فالثالث فالرابع، حسب ترتيب الأرقام المألوف، إلى أن ينتهيَ من الدراسة الابتدائية ويبدأ الدراسة الثانوية، ولكنه يجد نفسه هناك أمام نظام تسمية جديدة، يخالف ما كان اعتاده مخالفةً تامة؛ فيبدأ من الصف السادس، ثم يسير متقهقرًا حتى الأول، ثم يدخل السنة الأخيرة من الدراسة الثانوية التي تبقى خارجةً عن سلسلة الأرقام. غير أنه إذا واصل الدراسة في معهد عال؛ عاد إلى النظام الطبيعي المألوف، وبدأ من الصف الأول، ثم انتقل منه إلى الثاني فالثالث.

هل يستطيع أحد أن يتصور خطةً أغرب وأسخف من هذه الخطة؟

وهل يحق لأحد أن يطلب دليلًا أقوى وأقطع من هذه الخطة السخيفة، على أن «تقليد النظم الفرنسية» في أمور المدارس الثانوية، كان من نوع «التقليد الأعمى» المجرَّد من كل «تفكير وتكييف»؟

إن التقليد الأعمى مضر في كل الأحوال، غير أن أضرار هذا النوع من التقليد تزداد وتتضاعف بوجه خاص في مثل هذه الأحوال؛ لأن نُظم الدراسة الثانوية الفرنسية من أشد نُظم العالم تمسُّكًا بالتقاليد القديمة، وأكثرها اتصالًا بالخصائص القومية، وهي لذلك أقلها «صلاحيةً» للاقتباس والتقليد.

إن نظرةً فاحصةً إلى خصائص التعليم الثانوي في فرنسا تكفي لإظهار هذه الحقيقة إلى العيان:

إن نظام التعليم الثانوي الفرنسي يمتاز باهتمامه الكبير باللغتين الميتتين اليونانية واللاتينية، وبتمسُّكه الشديد بما يُعرَف باسم «التعليم الكلاسيكي».

لقد اعتاد الفرنسيون منذ قرون عديدة على اعتبار اللغتين المذكورتين من «المعارف الضرورية» لإجادة الإنشاء باللغة الفرنسية، ولفهم الأدب الفرنسي من جهة، ولتثقيف العقول وتوسيع المدارك من جهة، واعتقدوا بأن الترجمة من هاتين اللغتين إلى الفرنسية، ومن الفرنسية إلى هاتين اللغتين، هي «أفضل وأفعل الرياضات الذهنية» التي تساعد على تكوين «الإنسان المثقف الحقيقي». وهم تحت تأثير هذا الاعتقاد خصَّصوا وقتًا طويلًا لتعليم اللاتينية واليونانية، بجانب تعليم اللغة الفرنسية والعلوم العصرية من جهة، واللغات الأوروبية الحية من جهة أخرى.

أنا لا أود أن أبحث فيما إذا كان أنصار التعليم الكلاسيكي محقين أو غير محقين في اعتقادهم هذا، غير أني أرى من الضروري أن أشير إلى هذا الاعتقاد، وأن ألفت الأنظار إلى أن «التأليف بين تعليم اللغتين المذكورتين، وبين تعليم العلوم العصرية التي لا غنى عنها في الأحوال الحاضرة»، لهو من أهم القضايا التي يسعى لمعالجتها رجال التربية والتعليم في فرنسا، وأستطيع أن أقول؛ إن كل التغييرات والإصلاحات التي طرأت على نظام التعليم الثانوي هناك منذ نصف قرن، حامت حول هذه القضية الأساسية بوجه عام.

ولكي ندرك أهمية المكانة التي يشغلها «تعليم اللغات الميتة» في النظام الفرنسي، يجدُر بنا أن نحسب مجموع الساعات المخصصة «لتعليم اللاتينية واليونانية»، خلال الدراسة الثانوية الكلاسيكية؛ إن هذا المجموع يتجاوز «مجموع ساعات الدراسة» خلال سنة دراسية كاملة، ونصف سنة دراسية!

ونستطيع أن نقول لذلك؛ إن سنةً ونصف سنة من السنوات السبع المخصصة للتعليم الثانوي في فرنسا، تُصرَف في سبيل تعليم اللغتين المذكورتين.

وذلك يعني أن المدارس الثانوية الفرنسية لو عَدَلت عن تعليم اللغتين المذكورتين لاستطاعت أن تُتم تعليم كل ما بقي من مواد المنهاج؛ من أدب فرنسي، ولغة أوروبية حية، وعلوم اجتماعية وطبيعية ورياضية. خلال خمس سنوات ونصف سنة فقط.

في الواقع إن التعليم الكلاسيكي لم يبقَ المسيطر المطلق على التعليم الثانوي في فرنسا؛ فقد اضطُر القوم منذ أواخر القرن التاسع عشر إلى إحداث فروع عديدة في المدارس الثانوية، ونظَّموا مناهج البعض من هذه الفروع على أساس الاكتفاء بلغة ميتة واحدة، ومناهج البعض الآخر على أساس الاستغناء عن اللغات الميتة، ومع هذا كله بقي «التعليم الكلاسيكي» — الذي يهتم باللاتينية واليونانية في وقت واحد — محتفظًا بمكانته العالية بين الناس، وهو لا يزال يُعتبر بين العائلات من لوازم «الأرستقراطية الفكرية»، ولا يزال يقوم مقام «المحور الأساسي»، و«الموجِّه الأصلي» في التعليم الثانوي.

وكان قد اقترح البعض ممن يدعون إلى التعليم العصري الحديث تنقيص مدة الدراسة الثانوية في هذا الفرع، غير أن هذا الاقتراح لم ينل استحسان رجال التربية والتعليم لملاحظتين أساسيتين:
  • قالوا أولًا: إن تنقيص مدة الدراسة الثانوية في الفرع العصري وحده، يُقلِّل من شأن هذا الفرع في نظر الناس، ويوهمهم بأنه أقل منزلةً وقيمةً من الفرع الكلاسيكي، وهذا مما يجب تجنُّبه على كل حال.
  • وقالوا ثانيًا: إن تنقيص مدة الدراسة في أحد الفروع يغري الطلاب بالانتساب إليه، ويقلل الرغبة في التعليم الكلاسيكي القديم.

ولذلك كله نستطيع أن نؤكد أن مدة الدراسة الثانوية في فرنسا بقيت سبع سنوات بسبب تطلُّبات التعليم الكلاسيكي، الذي يفرض تعليم اللغتين اللاتينية واليونانية، علاوةً على سائر مواد الدراسة الثانوية.

إن الحقائق التي ذكرتها الآن لا تترك مجالًا للشك في الجواب الذي يجب أن يعطى على السؤال الذي كنت رسمته آنفًا؛ هل من داعٍ لجعل مدة الدراسة الثانوية في سوريا أطول من ست سنوات؟

بما أننا لا نحتاج إلى تخصيص وقتٍ ما لتدريس اللاتينية واليونانية، نستطيع أن نقول؛ إن ست سنوات تكفي بالغًا ما بلغ الأمر لإتمام الدراسة الثانوية، حتى ولو سرنا على المناهج الفرنسية نفسها.

وأظن أن هذه الملاحظة وحدها تكفي للبرهنة على أنه لا مبرر منطقي أبدًا للتمسك بنظام السبع سنوات المعتاد في فرنسا، والمفروض على سوريا في عهد الانتداب.

وفضلًا عن ذلك يجب أن نلاحظ أن المناهج الفرنسية مشهورة في حد ذاتها بكثرة المعلومات التي تُلقيها على الطلاب، كما أنها معروفة بالتوسع في التعليم الثانوي، إلى حد إدخال بعض «العلوم والمباحث» التي تُترك عادةً إلى المدارس العالية في سائر البلاد الأوروبية والأمريكية. ولا حاجة إلى القول إنه يجب علينا أن نُجرِّد مناهج الدراسة الثانوية من أمثال هذه المباحث والمعلومات، ولا شك في أن هذا أيضًا يؤيد النتيجة التي كنا وصلنا إليها آنفًا، ويبرهن على كفاية الست سنوات لإتمام الدراسة الثانوية، وفقًا لِما يُقصد من هذه الدراسة في معظم البلاد الأوروبية والأمريكية.

لقد تكلمت خلال حديثي هذا على نظام التعليم الثانوي الفرنسي في حد ذاته، وقلت إنه شديد التمسك بالتقاليد القديمة، كما قلت إن مناهجه مشحونة بمعلومات غير مفيدة، وقلت أخيرًا إن هذه المناهج تتضمن بعض الأبحاث التي تُترك في سائر البلاد إلى الدراسات العالية.

وأرى من واجبي أن أُصرِّح الآن أن كل ذلك لم يكن من الآراء الخاصة التي أقول بها أنا وحدي، بل هي من الآراء التي يقول بها عدد كبير من رجال الفكر والتربية في فرنسا نفسها.

أنا لا أود أن أطيل هذا الحديث بذكر الأسماء والشواهد الكثيرة، وأكتفي بنقل بعض الآراء التي أبداها «إميل دوركهايم» في هذه المواضيع.

من المعلوم أن المومأ إليه يُعتبر من أساطين الفكر في فرنسا، إنه أسَّس مدرسةً خاصةً في عِلم الاجتماع، وكان في الوقت نفسه أستاذًا للتربية، وامتاز بوجه خاص في أبحاثه التربوية المستندة إلى النظرات الاجتماعية، وقد نشر دوركهايم كتابًا يقع في مجلَّدين عن «تطور مذاهب التربية في فرنسا».

ومما قاله في كتابه هذا: «إن التعليم الثانوي في فرنسا يجتاز منذ قرن أزمةً خطيرة، لم تصل إلى منتهاها بعد. كل الناس يشعرون الآن بأن هذا التعليم لا يمكن أن يبقى كما هو، ولكنهم لا يدركون ماذا سيكون، وماذا يجب أن يكون. وهذا هو السبب في توالي المحاولات الإصلاحية التي تقوم من وقت إلى آخر، والتي تارةً تمَّم بعضها بعضًا، وطورًا يناقض بعضها البعض.»

ومما قاله دوركهايم في محل آخر من كتابه المذكور: «إن التعليم الثانوي في فرنسا مغمور بجو من البلبلة، وهو حائر بين ماضٍ أشرف على الموت، وبين مستقبل لم يتعيَّن بعد؛ ولذلك لم يَعُدْ يُظهر هذا التعليم آثار الحيوية التي كان يتمتع بها قبلًا.»

«إن الإيمان القديم بفضائل الآداب الكلاسيكية قد تزعزع بصورة نهائية.»

«إن الإيمان القديم قد زال، ولكنه لم يتكوَّن بعدُ إيمان جديد يقوم مقام ذلك الإيمان القديم.»

ومن الأمور التي لاحظها دوركهايم بحق، ولفت إليها الأنظار باهتمام:

«إن أهم القوى الفكرية في فرنسا تكوَّنت في معاهد التعليم الثانوي، التي كانت تُعرَف باسم اﻟ College منذ القرنين الرابع عشر والخامس عشر.»

«ومن الأمور الغريبة الخاصة بفرنسا وحدها، أن التعليم الثانوي قد ابتلع كل حياة التعليم في البلاد، طوال قِسم كبير من التاريخ القومي؛ لأن التعليم العالي بعد أن أوجد التعليم الثانوي؛ تضاءل بسرعة، ولم يَعُدْ إلى الحياة إلا بعد حرب السبعين. وأما التعليم الابتدائي، فلم يلعب دورًا هامًّا إلا في وقت متأخر جدًّا؛ ولهذا السبب ظل التعليم الثانوي يشغل المسرح بأجمعه، خلال قسم كبير من حياة فرنسا الفكرية.»

وهنا أرى من المفيد أن أنقل كلمات دوركهايم بحروفها: «لقد لعب التعليم الثانوي في مجموع الحياة الاجتماعية في فرنسا دورًا خارقًا للعادة، وخارجًا عن المألوف، وهذه حالة خاصة ببلادنا، لا نجد ما يماثلها في أي بلد من بلاد العالم.»

وأظن أن هذه الكلمات تُفسِّر لنا بوضوح؛ لماذا تتوسع المدارس الثانوية الفرنسية في مناهجها كل هذا التوسع، مخالفةً بذلك جميع بلاد العالم تقريبًا؟

وبعد إظهار هذه الحقائق الهامة، أفلا يحق لي أن أسأل؛ كيف يجوز لسوريا أن تقتديَ بفرنسا في هذا الأمر؟

كيف يجوز لها أن تبقى متمسكةً بالنظام الفرنسي في شئون الدراسة الثانوية، بعد أن تعرِف أنه نظام شاذ، ناتج عن عوامل تاريخية شاذة؟

هذا ويجب عليَّ أن أُصرِّح في هذا المقام — منعًا لكل أنواع سوء التفاهم — بأنني لست من الذين يُنكرون فوائد التعليم في التثقيف، أنا لست ممن يقولون «لا لزوم لتعليم شيء لا فائدة منه فائدةً مباشرة.» غير أني لست في الوقت نفسه من الذين يتوهمون أن التعليم المجرَّد يضمن التثقيف، أو أن زيادة المعلومات تؤدي إلى توسيع المدارك على كل حال. بل إني من الذين يقولون إن التعليم يساعد التثقيف والتربية الفكرية، ضمن شروط معيَّنة وإلى حدٍّ معيَّن. ولهذا السبب أعتقد أن التعليم الذي لا يستجمع هذه الشروط، ويتعدى هذه الحدود، يكون مضيعةً للأوقات والجهود. وأرى أن قليلًا من المعلومات التي تُكتسب بأساليب تربوية سليمة، تكون أكثر فائدةً للتربية العقلية من المعلومات الكثيرة التي تُحشد في الأذهان، بدون تفكير ولا حساب.

ولهذه الأسباب كلها أعتقد أن إرجاع مدة الدراسة الثانوية إلى ست سنوات خطة حكيمة تمامًا. إن هذه الخطة تُوفِّر على الطلاب سنةً كاملة، دون أن تُعرِّضهم إلى خسارة شيء من التربية الفكرية التي يحتاجون إليها، أو شيء من المعلومات الهامة التي يفتقرون إليها، نظرًا لِما هو متعارف ومألوف في سائر أنحاء العالم.

وأعتقد اعتقادًا جازمًا أن مدة الدراسة الثانوية ستبقى في هذه البلاد ست سنوات في المستقبل أيضًا.

وأظن ظنًّا قويًّا بأن كلًّا من مصر والعراق أيضًا، ستجعل مدة الدراسة الثانوية ست سنوات في المستقبل القريب أو البعيد؛ وستصبح بذلك مدة التعليم الثانوي موحدةً في جميع الأقطار العربية.

وبهذه المناسبة أود أن أعود قليلًا إلى الدراسة الابتدائية، وأقول؛ أعتقد أن سوريا ستُقدِم بعد مدة من الزمن على تزييد مدة الدراسة الابتدائية، فستجعلها ست سنوات عوضًا عن خمس.

أقول ذلك وأنا أعرف أن البعض سيحاولون اتخاذ قولي هذا حجةً عليَّ وسيقولون؛ لماذا أقدمت على تنقيص مدة الدراسة الثانوية، ما دمت تقول بوجوب تزييد مدة الدراسة الابتدائية؟ أمَا كان من الأجدر أن تُترك الأمور على ما كانت عليها، ما دمت تقول إن مجموع سِني الدراسة الابتدائية والثانوية سيكون في المستقبل اثنتي عشرة سنة، كما كان قبل الإصلاحات التي اقترحتها؟

عير أني لا أُسلِّم بوجاهة هذه الملاحظات أبدًا؛ لأن لكل مرحلة من مراحل التعليم مهمة خاصة بها، يجب أن تبقى نُصب الأعين على الدوام. والتنظيم العلمي المعقول يستوجب إعطاء كل مرحلة من مراحل التعليم ما تستحقها من السنين، بقطع النظر عن طول أو قِصَر السنين المخصصة للمرحلة التي تليها.

ومن المعلوم أن التعليم الابتدائي يهدف إلى تنشئة جميع أطفال الوطن، سواء أكانوا ممن سيواصلون الدراسة، أم ممن سينقطعون عنها. وسواء أكانوا ممن سيلتحقون بالمدارس الثانوية، أو ممن سينتسبون إلى المدارس المهنية.

ولهذه الأسباب أستطيع أن أؤكد أن تنقيص مدة الدراسة الثانوية شيء، وتزييد مدة الدراسة الابتدائية شيء آخر، واعتقادي بضرورة تزييد مدة الدراسة الابتدائية في المستقبل، لا يناقض قط اعتقادي بضرورة تنقيص الدراسة الثانوية في الحال.

لقد توسعت في شرح هذه القضايا توسُّعًا كبيرًا؛ لأنها كانت هدفًا لهجمات عنيفة ودعايات واسعة، قام بها واضعو النظام القديم، وحاولوا أن يخدعوا بواسطتها بعض الوطنيين الذين لم يتعمقوا في درس الحقائق درسًا مجرَّدًا عن الاعتيادات والاعتقادات السابقة.

وبعد شرح هذه القضايا الأساسية، لا أرى لزومًا إلى التكلم عن سائر الإصلاحات التي تضمَّنها قانون المعارف الجديد.

غير أني أرى من الضروري ألا أختم حديثي هذا دون أن أشير إلى أهم هذه الإصلاحات بأجمعها.

وعليَّ أن أُصرِّح بأن أهم الغايات التي سعى لتحقيقها قانون المعارف الجديد؛ هي رفع الموانع وهدم الحواجز التي كانت أقامتها سياسة الانتداب بين سوريا وبين سائر الأقطار العربية، في ميادين التربية والثقافة.

إن النظم الموضوعة في عهد الانتداب تتضمن كثيرًا من الأحكام التي تؤدي إلى «انعزال سوريا عن سائر أقسام العالم العربي» من الوِجهة الثقافية.

إن القانون الجديد ألغى جميع هذه الأحكام، ورفع جميع تلك الموانع، وهدم جميع تلك الحواجز، وفضلًا عن ذلك حتَّم على وزارة المعارف أن تُعنى ﺑ «تقوية الصلات الثقافية بين سوريا وشقيقاتها؛ بُغْية تكوين ثقافة موحدة في جميع البلاد العربية».

وأنا أعتقد أن هذا هو أهم الإصلاحات التي حققها القانون الجديد.

أقول ذلك بدون تردُّد وبكل تأكيد؛ لأنني من الذين يؤمنون بالوحدة العربية إيمانًا عميقًا، ومن الذين يقولون بوجوب العمل من أجلها عملًا متواصلًا دون توانٍ أو تخاذل.

إنني أعتقد اعتقادًا جازمًا بأن الوحدة العربية «ضرورية» لحفظ كِيان الشعوب العربية، كما أعتقد أنها «طبيعية» بالنسبة إلى حياة الأمة العربية وتاريخها الطويل، فلا أشك أبدًا في أنها ستتحقق يومًا من الأيام، إن عاجلًا أو آجلًا.

لا أدري فيما إذا كان ما بقي لي من العمر سيسمح لي بإدراك ذلك اليوم.

غير أني أقول بكل إخلاص: إذا قُدِّر لي أن أدرك اليوم الذي ستتحقق فيه الوحدة العربية، سأعتبر نفسي أسعد الناس جميعًا، وسأنسى كل ما كابدته من مشاق وآلام، وسأترك هذه الحياة راضيًا مرتاحًا، كأنني لم أتعب أبدًا، ولم أشعر بذرَّة من الألم.

١  من محاضرة أُلقيت في مدرَّج الجامعة السورية بدمشق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤