نظم التعليم في سياسة الاستعمار «التعليم من غير تثقيف»١

الاستعمار والتعليم

إن كل نظام تعليمي يتقرر عادةً حسب مطالب السياسة العامة ومراميها. فإذا أردنا أن نطَّلع على كُنْه «النظام التعليمي» الذي يُتَّبع في المستعمرات، وجب علينا أن نلاحظ قبل كل شيء الأُسس التي تقوم عليها «سياسة الاستعمار» بوجه عام؛ يجب علينا أن نعرف «أهداف الاستعمار»؛ لنتوصل منها إلى معرفة «أهداف النظم التعليمية» في المستعمرات.

فلنبحث؛ ما هي غاية الاستعمار؟

لقد اعتاد علماء الاجتماع أن يقسِّموا المستعمرات إلى ثلاثة أنواع أساسية:

(أ) مستعمرات الاتجار. (ب) مستعمرات الاستغلال. (ﺟ) مستعمرات الاستيطان.

يبدأ المستعمِرون عادةً بالاستعمار التجاري؛ فيختارون ميناءً أو موقعًا جغرافيًّا مهمًّا يؤسسون فيه مستعمرةً صغيرة، يتخذونها مركزًا للاتجار. ومن هذا المركز يُنشئون صِلاتهم مع أطراف البلاد. وهكذا يعملون على احتكار تجارة البلاد، من غير أن يستولوا على أقسامها الداخلية، فغايتهم في هذه المستعمرة تنحصر في «الاتجار».

غير أنهم كثيرًا ما لا يقفون عند هذا الحد طويلًا، بل إنهم يتغلغلون في داخلية البلاد، ويستولون على جميع منابع الثروة الموجودة فيها. وهم لا يكتفون في هذا السبيل بتأسيس ما تحتاج إليه التجارة من مؤسسات، بل يتوسعون في تأسيساتهم داخل البلاد، ويستولون على كل ما يجب الاستيلاء عليه؛ لاستغلال مرافقها المختلفة. فالغاية الأصلية من أمثال هذه المستعمرات تكون «الاستغلال».

غير أن بعض المستعمرين لا يكتفون بذلك أيضًا؛ فإنهم لا يقصرون خططهم على استغلال المرافق الاقتصادية وحدها، بل إنهم يرمون في بعض البلاد إلى تركيز «سياسة الاستيطان» أيضًا، جاعلين من البلاد التي يستعمرونها وطنًا جديدًا للمهاجرين من أبناء جِلْدتهم. وهذا النوع هو أهم أنواع الاستعمار وأشدها خطرًا.

إن أبرز الأمثلة على «مستعمرات الاتجار» هي المستعمرات التي تأسست على سواحل الصين، وأما أحسن الأمثلة على «مستعمرات الاستغلال» فهي الهند سابقًا، وأما أوضح النماذج ﻟ «مستعمرات الاستيطان» فيظهر في تاريخ أمريكا وأستراليا؛ حيث كان قد اتخذ المهاجرون من الإنجليز وغيرهم وطنًا جديدًا.

وقد تطور الاستعمار في بعض البلاد من نوع إلى آخر، أمثال ذلك؛ لقد تطور الاستعمار في الهند من شكل الاتجار إلى شكل «الاستغلال»، وتحوَّل في كندا وأستراليا من «الاستغلال» إلى «الاستيطان».

هذا وقد يُنفَّذ الاستعمار في بعض البلاد بنوعين مختلفين في وقت واحد؛ فقد حلَّ الفرنسيون الجزائر مستعمرين لاستغلالها، ثم ما لبثوا أن أخذوا يرمون إلى سياسة الاستيطان في بعض أقسامها.

إن الغايات الثلاث التي ذكرناها هي الغايات الأساسية التي عملت عملها في تأسيس المستعمرات، غير أن المستعمرين أخذوا بعد ذلك يستهدفون من وراء الاستعمار غايات أخرى، لا تقل أهمية عنها.

ربما كان أهم هذه الغايات هي الغايات العسكرية والحربية؛ فبعض الدول تقصد من وراء استعمارها لبعض البلاد إيجاد «قواعد استناد وحركة وتموين لجيوشها وأساطيلها وطياراتها»، وبعض الدول لا تكتفي بذلك أيضًا، بل تعمل على تكوين «جنود من أهالي البلاد المستعمَرة» تضيفهم إلى جيشها؛ لتعزيز قواتها المحاربة.

ولذلك نجد أن المستعمرات تلعب دورًا هامًّا في الحروب؛ فالدول المستعمِرة لا تكتفي باستغلال خيرات المستعمرات لمقاصدها الحربية، بل إنها تعمل على تجنيد جماعات من الأهالي المحلية أيضًا؛ خدمة للمقاصد المذكورة.

إن فوائد المستعمرات في الحروب كان قد عبَّر عنها المارشال «ليوتي» الفرنسي أوضح تعبير، في خُطبة الاستقبال التي ألقاها في الأكاديمية الفرنسية. وقد أسهب المشار إليه في وصف «فوائد المستعمرات» للجيش، واعترف «بأن أبناء المستعمرات الذين جُنِّدوا خلال الحرب العالمية الأولى، قد وفَّروا على فرنسا — بما قدَّموه من الضحايا — ملايين من الأنفس الفرنسية».

وزيادة على ذلك، فقد بيَّن المارشال ليوتي في خُطبته المذكورة أن فرنسا استفادت من مدرسة المستعمرات استفادةً كبيرةً جدًّا من وِجهة تدريب وتكوين «الضباط والقُوَّاد» أيضًا؛ لأن جُل قُوَّادها الذين أوصلوها إلى النصر في الحرب المذكورة، كانوا قد نشئوا في بيئات المستعمرات؛ لأن حياة المستعمرات تُربِّي في المستعمِر الناشئ القوة المعنوية التي هي من أهم دعامات الجيش. فالقادة المستعمرون في بلاد الاستعمار يُضطرون إلى التذرع بالحزم، ويتدربون بذلك على اتخاذ القرارات الفورية، ويصبحون لذلك رجالًا أشداء، في عقولهم وفي سجاياهم على حدٍّ سواء.

إن الكُتَّاب والمفكرين من رجال الاستعمار لا يقفون عند هذا الحد في تعداد فوائد الاستعمار، بل إنهم يسترسلون كثيرًا في وصف وشرح فوائده المعنوية أيضًا، فإنهم يقولون؛ إنَّ المستعمرات لا تكون للدولة المستعمِرة مناجم ثروة مادية فحسب، بل إنها تكون مصادر قوة معنوية أيضًا؛ لأن الأمم تجد في مستعمراتها مجالًا واسعًا للعمل والنشاط، ودافعًا قويًّا للطموح والإقدام. فإن «الأمم القانعة بحدودها تتعوَّد التراخي والكسل»، ولكن المستعمرات تُغيِّر نفسية الأُمَّة، وتخلق فيها آمالًا جديدةً وحيويةً كبيرة. وكثيرًا ما يشبِّهون «تأثير المستعمرات في نفسيات الأمم، بتأثير الأولاد في نفسيات الأبوين»، ويقولون لذلك: «كما أن الولد يُكسِب الأسرة أملًا جديدًا يحملها على زيادة العمل، كذلك المستعمرة تُقدِّم للمستعمِر دافعًا جديدًا يحمله على زيادة النشاط والكفاح.»

يظهر مما تقدَّم أن الفوائد التي يتوخاها المستعمرون من الاستعمار كثيرة ومتنوعة جدًّا.

بعد أن ألقينا هذه النظرة العامة على غايات الاستعمار ومراميه، نستطيع أن ننتقل إلى بحث «سياسة التعليم» في الاستعمار.

إن هذه السياسة تتجلَّى في ثلاثة أنواع من المعاهد التعليمية:
  • (أ)

    المعاهد التي يؤسسها المستعمرون في الوطن الأصلي لخدمة الاستعمار.

  • (ب)

    المعاهد التي يؤسسها المستعمرون في المستعمرات لتربية أبنائهم.

  • (جـ)

    المعاهد التي يؤسسها المستعمرون في المستعمرات لتربية أولاد الأهلين في القُطْر المستعمَر.

إن الصنف الأول من المعاهد التعليمية الاستعمارية سيبقى خارجًا عن نطاق بحثنا هذا، أما الصنف الثاني من المعاهد التي تُؤسَّس في المستعمرات، بقصد تربية أولاد المستعمرين، فهو أيضًا لا يستدعي اهتمامنا كثيرًا؛ لأنه يشبه بوجه عام المعاهد التعليمية التي تنشأ في الوطن الأصلي، ولا يختلف عنها إلا من حيث زيادة بعض الدروس بقصد إعداد أولاد المستعمِرين للقيام بالأعمال الاستعمارية.

والمهم عندنا هو الصنف الثالث من المعاهد التعليمية، تلك المعاهد التي تُؤسَّس بقصد تعليم أبناء المستعمرات.

فعلينا أن نستعرض النظم المختلفة التي وُضِعت لهذا النوع من المعاهد التعليمية، وأن نُنعم النظر في «السياسات» المتنوعة التي ابتُدِعت من أجل ذلك.

إن أقدم هذه السياسات كانت «السياسة السلبية» في التعليم؛ وهي تتلخص بعدم تعليم أحد من أبناء الأهلين، وقد ترمي إلى تقليل المتعلمين ومحوهم أيضًا.

ففي أمريكا الجنوبية مثلًا، عندما قامت الثورة على الإسبان في أوائل القرن التاسع عشر، كتب القائد العام إلى مليكه رسالةً يُبشِّره بها بانتصار جيوشه على الثوار، كما يُصرِّح بأنه «عامل المتعلمين من أبناء البلاد معاملة العصاة، وقضى عليهم وأفناهم تمامًا، وأنه استأصل على هذا المنوال فكرة التمرد والعصيان من جذورها استئصالًا تامًّا.»

وفي أمريكا الشمالية كانوا يعتبرون «تعليم الزنوج» القراءة والكتابة من «الأعمال الممنوعة»، فكانوا يعاقبون «كل أبيض يُعلِّم زنجيًّا» بعقوبة الحبس والجَلْد.

وبناءً على ذلك كانت سياسة الاستعمار في التعليم في بادئ الأمر، سلبيةً تمامًا؛ فإنها كانت تسعى إلى عدم التعليم، وتعمل على محو المتعلمين.

غير أن سياسة الاستعمار لم تستطع الاستمرار على هذه الخطة السلبية مدةً طويلة، ولا سيما في المستعمرات الاستغلالية؛ لأن المستعمِرين وجدوا أنفسهم في حاجة شديدة إلى الاستعانة بأهل البلاد؛ لاستغلال المرافق الاقتصادية والكنوز الطبيعية، وشعروا بضرورة تعليم أولاد هؤلاء الأهلين لإعدادهم للقيام بالأعمال اللازمة لهذا الغرض؛ فاضطُروا إلى ترك السياسة السلبية، وأخذوا يُقدِمون على تأسيس معاهد تعليمية خاصة بأولاد المستعمرات؛ وذلك للغرضين الأساسيين التاليين:
  • أولًا: رأوا أن يُعلِّموا جماعات من الأهالي لاستخدامهم في مصالح الحكومة والشركات، ومختلِف المشاريع التي تتطلَّبها أمور الاستغلال والاستعمار.
  • ثانيًا: قالوا بأن الفتح السياسي العسكري يجب أن يقترن بفتح تعليمي معنوي، وذلك بالعمل على تحبيب الدولة المستعمِرة لحمل الأهلين على الاستسلام إلى حُكْمها، وعلى خدمة مصالحها عن طواعية.

إن الغرض الأول هو الذي سيطر في الدرجة الأولى على نُظم التعليم التي أسَّسها الإنجليز في الهند، وأما الغرض الثاني فهو الذي سيطر على النظم التي وضعها الفرنسيون في الجزائر وفي سائر أقسام أفريقيا الشمالية.

لقد بذل الفرنسيون جهودًا كبيرة، ووضعوا خططًا دقيقةً لتحقيق هذا الغرض؛ فإنهم أولًا: حظروا التعليم بالعربية في غير الكتاتيب. ثانيًا: سعوا إلى نشر لغتهم بين الناس بكل الوسائط الممكنة. ثالثًا: وضعوا الخطط والمناهج اللازمة لتعليم الأطفال والشبان تعليمًا ينشئ في نفوسهم حُبًّا قويًّا نحو فرنسا.

مثلًا إذا أمعنا النظر في المناهج التي وضعوها لتعليم أولاد الجزائر؛ وجدنا أنهم جعلوا اللغة الفرنسية فيها محورًا لجميع الدروس، وقالوا بصراحة: «إن المدرسة يجب أن تكون قبل كل شيء معهدًا مُعدًّا لتعليم اللغة الفرنسية.» كما وجدنا أنهم اهتموا بتوجيه دروس الأخلاق نحو غايتهم الأصلية؛ فإنهم وضعوا في مناهج هذه الدروس قسمًا خاصًّا ﺑ «واجبات الأهلين نحو فرنسا»، وخصَّصوا لهذا القسم من المنهج موقعًا مهمًّا بين الواجبات الأساسية؛ كالواجبات نحو الله، والواجبات نحو أبناء البشر. ومما جاء في مفردات هذا المنهج:

«ما يترتب على أهل الجزائر من الواجبات نحو فرنسا مقابل الحماية التي تسديها إليهم، والعدل الذي أدخلته إلى بلادهم، والأمن الذي نشرته في ربوعهم، ونِعَم التعليم والحضارة التي أغدقتها عليهم.»

«الاحترام الذي يجب أن يشعروا به نحو من يدير البلاد باسم فرنسا، والاحترام الذي يجب أن يُظهروه نحو العَلَم الفرنسي.»

وهكذا نجد أن الاستعمار بعد أن ترك السياسة السلبية في التعليم سلك طريقًا آخر يمكننا أن نُسمِّيه: «التعليم لأجل تسهيل عمل الاستعمار». ولكن الوصول إلى هذا الغرض لم يكن من الأمور السهلة؛ لأن الجهود التي تُبذل لتوجيه التعليم نحو خدمة الاستعمار وحده على هذا المنوال، لم تُثمر في كل الأحيان الثمرات التي كانوا يرجونها منها؛ لأن الذين يتعلمون في هذه المدارس ويتثقفون بالآداب الفرنسية، لا يلبثون أن يفكروا في «الحقوق» — أُسوة بالأمم الأوروبية التي يتعلمون تواريخها — وأن ينزعوا إلى الانعتاق والاستقلال، على الرغم من تلقينات معلِّميهم خلال الدروس.

وقد ظهر بذلك أن مسألة التعليم في المستعمرات من أصعب وأعضل المسائل، فما العمل تجاه هذه المشاكل العديدة والضرورات المتضاربة؟

إن تعليم الأهلين وتثقيفهم يقوِّي في نفوسهم روح اليقظة والثورة، ويحملهم على المطالبة بالحرية والاستقلال، وأما عدم تعليمهم فيحُول دون استغلال مرافق البلاد بالشكل الذي تستلزمه المنافسة الاقتصادية القائمة بين الدول؛ لأنه من الأمور الثابتة أن «العامل» لا يكون منتجًا إنتاجًا مرضيًا في أي عملٍ كان، ما لم يأخذ بنصيب من التعليم في عصر الصناعات الذي نعيش فيه الآن.

فما السبيل إلى الخروج من هذا المأزق الغريب؟

إن رجال الاستعمار فكروا مليًّا في هذه المعضلة، واهتدَوا بعد البحث الطويل إلى طريقة تضمن لهم معالجة الإشكال؛ هذه الطريقة هي طريقة «التعليم من غير تثقيف». قالوا: «يجب علينا أن نُعلِّم أولاد المستعمرات من غير أن نثقفهم، يجب علينا أن نُعلِّمهم تعليمًا عمليًّا يجعلهم آلات صالحةً في المعامل والمتاجر والحقول، من غير أن نوسِّع آفاق أنظارهم وأفكارهم إلى ما وراء الأعمال المطلوبة منهم.»

وقد بذلت الدول المستعمرة جهودًا كبيرةً لتوجيه نُظم التعليم إلى هذا الاتجاه؛ التعليم لغايات عملية معيَّنة مجرَّدًا عن عناصر الثقافة وعواملها، التعليم الذي يُدرِّب أبناء المستعمرات على الأعمال المختلفة تدريبًا يجعلهم بمثابة مسامير في صفحات خشبية، أو عجلات في آلات ميكانيكية، محرومين من كل لون من ألوان الثقافة.

هذا آخِر ما توصَّلوا إليه لحل معضلة التعليم في المستعمرات.

ولا حاجة للبيان أنهم يحاولون أن يستروا مقاصدهم الحقيقية بأساليب مختلفة، ويقولون إن هذا النوع من التعليم الابتدائي العملي، هو الذي يحتاج إليه أبناء المستعمرات، ويدَّعون بأن التعليم الثانوي والعالي وكل نوع من سائر أنواع التعليم الأوروبي، يعود بأضرار بالغة على الأهالي أنفسهم.

وقد بذل رجال الاستعمار جهودًا واسعة النطاق لبثِّ هذه الفكرة بين الناس، ولإقناع أهالي المستعمرات بضرورة الاكتفاء بهذا النوع من التعليم في تنشئة أولادهم.

ومع هذا فقد جابه المستعمرون مشاكل كبيرةً بعد أن أقروا هذا النظام التعليمي أيضًا.

لأنهم لاحظوا أن السيطرة على التعليم في المستعمرات سيطرة تامة، لم تكن من الأمور السهلة؛ لأن ابن المستعمرة يستطيع أن يذهب إلى بلاد أخرى عندما لا يجد مجالًا لتحصيل العلوم التي يتوق إليها. ومن الطبيعي أن دراسة هؤلاء في تلك البلاد في معاهد تعليمية قائمة في بيئة تتمتع بنِعَم الاستقلال، أو تكافح في سبيل الاستقلال؛ مما يؤثِّر في نفوسهم تأثيرًا لا يتفق مع مصالح الدولة المستعمِرة أبدًا.

ولهذا السبب اهتم رجال الاستعمار بهذه القضية أيضًا، وتبادلوا الرأي فيها في بعض المؤتمرات.

ويجدُر بنا أن نُلقيَ نظرةً عَجْلَى على المناقشات التي كانت جرت في إيطاليا لمعالجة مشاكل التعليم في طرابلس الغرب، خلال العَقْد الثالث من القرن الحالي.

كان بعض رجال الإدارة قد اقترحوا إلغاء المدارس الثانوية والعالية الدينية هناك، غير أن مدير التعليم في وزارة المستعمرات الإيطالية اعترض على ذلك قائلًا:

«إني لا أوافق على إلغاء هذه المدارس؛ إذ يجب علينا أن نعلم جيدًا بأننا إذا ما ألغينا المدارس المذكورة، لا نستطيع أن نمنع أبناء طرابلس الغرب من الذهاب إلى الجامعة الزيتونية في تونس، أو الجامعة الأزهرية في مصر. ومن الطبيعي أن هؤلاء الشبان يحتكون هناك بجماعات مختلفة من الطلاب الوافدين من جميع الأقطار العربية والإسلامية، ويقتبسون منهم كثيرًا من الآراء والنزعات؛ فيرجعون إلى بلادهم بأفكار أشد وبالًا على مصالحنا الاستعمارية. فخير لنا أن نتخذ التدابير اللازمة لإتمام تحصيل الشبان في داخل القُطْر الطرابلسي نفسه، ما دمنا غير قادرين على منع الناشئة من التعلُّم في بلاد أخرى. فلنؤسس مدرسةً عاليةً نحدد التعليم فيها كما نشاء، فلا نُضطر الطرابلسيين إلى طلب العلم في خارج بلادهم، حيث تتسمم أفكارهم ونفوسهم.»

إن هذه القضية، قضية تأثُّر أبناء المستعمرات من معاهد التعليم القائمة في البلاد الأخرى، أشغلت بال رجال السياسة كثيرًا، ولا سيما بالنسبة إلى المستعمرات التي تدخل في نطاق اللغة العربية، وتُكوِّن جزءًا من العالم العربي؛ وذلك نظرًا إلى أهمية هذه المستعمرات وتنوعها من جهة، ونظرًا إلى وجود معاهد تعليمية كبيرة في البلاد العربية المستقلة من جهة أخرى.

ويسعى رجال الاستعمار لمعالجة هذه المشكلة بطُرق متنوعة ووسائل شتى:

منها: تقييد السفر والتنقل بين البلاد العربية بقيود قوية.

ومنها: الحيلولة دون انتشار الكُتب المطبوعة في البلاد العربية المستقلة.

ومنها: السعي وراء تبعيد البلاد العربية بعضها عن بعض، عن طريق إشاعة اللغات العامية وتقويتها.

إن التدبير الأخير يجب أن يستوقف أنظارنا كثيرًا.

لقد فكَّر المستعمرون أن اللغة الفصحى هي التي تصل البلاد العربية بعضها ببعض، وهي التي تنقل الأفكار والنزعات من قُطْر عربي إلى آخر.

فإذا ما توقفت حركة نشر اللغة الفصحى في البلاد العربية، وقامت فيها بعكس ذلك حركة جديدة ترمي إلى إنعاش وتدعيم اللغات العامية؛ لا بد من أن يصبح بعد مدة كل قطر من الأقطار العربية ذا لغة خاصة به؛ فيزول بذلك خطر انتشار فكرة الاستقلال، كما ينتفي احتمال قيام فكرة الاتحاد بين مختلِف الأقطار العربية.

وقد وجدتْ هذه الفكرة قَبولًا حسنًا في المحافل الإنجليزية والفرنسية على حدٍّ سواء، وأخذ القوم يتحمسون لها، ويبثون الدعاية للغات العامية في كل البلاد العربية، ولا سيما في المستقلة والمتقدمة منها، واشترك في هذه الدعاية عدد غير قليل من مشاهير رجال الفكر والاستشراق، حتى إنه قام جماعة من أبناء البلاد العربية نفسها يروِّجون هذه الفكرة، دون أن ينتبهوا إلى مصدرها الأصلي ومرماها الحقيقي، ودون أن يفكروا في نتائجها الخطيرة.

ومما زاد في قوة هذه الدعاية أنها استطاعت أن تتقنع بقناع خدَّاع؛ هو فكرة نشر التعليم بين جميع طبقات الشعب. قالوا: لا بد من نشر التعليم بين جميع أبناء الشعب، والشعب لا يعرف شيئًا عن اللغة الفصحى، فلماذا لا نكُف عن محاولة تعليمه بالفصحى؟ ولماذا لا نعمد إلى تعليمه باللغة العامية؟ لماذا نُضيِّع على أبناء الشعب أوقاتًا ثمينة؟ ولماذا لا نُوفِّر عليه كثيرًا من الجهود والمشاق؟

ولذلك وجدتْ فكرة اللغة العامية بعض الأنصار بين الكُتَّاب في مختلِف الأقطار العربية، ولا يزال لها مؤيدون وأنصار، مع أنها وليدة الاستعمار.

ومن حُسْن الحظ أن هذه الدعايات الخدَّاعة لم تنطلِ على النابهين والمخلصين من أبناء البلاد العربية؛ ولذلك فإنها لم تُعمر طويلًا، ولم تأتِ بالنتائج التي كان ينتظرها منها رجال السياسة والاستعمار.

ومع هذا يجب علينا أن نلاحظ أن بعض الأوروبيين أخذوا يعودون إلى هذه الفكرة، وصاروا يزعمون أن الإذاعات اللاسلكية وحفلات الغناء والتمثيل والسينما، ستقوِّي مركز اللغات العامية في البلاد العربية؛ لأن الكلام باللغة العامية يرضي الدهماء أكثر من الفصحى، كما أن التمثيل باللغة العامية يجلب للمسارح عددًا أكبر من النظَّارة. وقالوا إن كل هذه العوامل ستؤدي في آخِر الأمر إلى انتصار العامية وتغلُّبها على الفصحى.

غير أنه قد فات هؤلاء أن في البلاد العربية نهضةً فكريةً ووثبةً قومية، فلا بد من أن ينتبه المفكرون القوميون إلى هذا الخطر، وأن يتخذوا التدابير اللازمة لوقاية الأُمَّة العربية من شرور هذا التيار.

وأنا لا أشك في أن سريان روح العروبة في النفوس سيُخيِّب آمال المستعمرين في هذا المضمار، وسيُكذِّب تنبؤاتهم في هذه القضية.

ومع هذا أرى من الواجب عليَّ ألا أختم حديثي هذا دون أن ألفت الأنظار إلى هذه الأخطار، وأقول؛ يجب على كل مفكر عربي أن يحارب اللغة العامية التي يرجو المستعمرون من ورائها خيرًا عظيمًا لسياستهم، على حساب الضرر البالغ بمصالح الأمة العربية ومستقبلها.

١  من محاضرة أُلقيت في نادي المعلمين ببغداد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤