على رغم الأيام

وشاعت ابتسامة حلوة في وجهها ثم أقفلت الكتاب دون أن تُعنى بثني الورقة التي كانت تقرؤها.

على مقربة قريبة من قريتنا تقع قريته، وقد تعوَّد أن يقيم بقريته أكثر أيام العام لا يمل منها ولا يضجر، وهو من تلقَّى علومه بإنجلترا. وهو مني بمثابة العم في القرابة والسن معًا، فهو في آخر الحلقة السادسة من عمره. عهدته منذ بدأت أتبيَّن الأشياء فضي الشعر في جمال فكان يُخيَّل إليَّ حين يداعب الهواء شعره أن شعره موجات صغيرة من الفضة تتجاوب مع النسمات التي تتواكب إليه، وعهدته منذ تبيَّنت الأشياء أنيقًا لا تتخلى عنه الأناقة أبدًا، فهو أنيق بمعطفه الأبيض وجلبابه الحريري الذي يلبسه في صيف القرية، وهو أنيق بمعطفه الصوفي وجلبابه الذي يتَّخذه في الشتاء، وهو أنيق غاية الأناقة إذا قصد القاهرة فهوي يرتدي من الحلل أحسنها وأبدعها ذوقًا، يصاحبها رباط العنق من أغلى طراز والجورب المنتقى بأجمل عناية، لا تستطيع حين تلقاه في القاهرة إلا أن تذكر لوردات الإنجليز الذين رُبِّي بينهم.

عاد إلى القاهرة في أول الحرب العالمية الأولى وتولَّى الإشراف على أرضه وأرض إخوته، ولم تكن مساحة الأرض كبيرة، ولكنه كان لا يتركها أبدًا، ويتولَّى زراعتها بنفسه، يجد في ذلك لذة لا تدانيها لذة، وقد حاول إخوته منذ عاد أن يزوِّجوه، ولكنه كان يرفض دائمًا دون أن يُبدي لرفضه سببًا. وإنما هي لا قاطعة، أو لا لطيفة رقيقة شأن أحاديثه جميعًا، ولكنها لا دائمًا، وبلا سبب.

كنت أقصد إليه كلما ذهبت إلى القرية. وكنت آخذ رأيه في المسائل الزراعية التي أحتاج فيها إلى رأي. وقد كان رأيه دائمًا مدعمًا بالعلم والتجربة معًا، فدراسته في إنجلترا كانت زراعية وطول عهده بالأرض زوده بالكثير من التجارب البصيرة، وقد سألته في يوم: لماذا لم تتزوج؟

فنظر إلى الأفق البعيد وبدت على شفتيه الرقيقتَين ظلال ابتسامة حنون، ثم قال: غافلتني السنون فوجدت نفسي حيث لا أستطيع الزواج.

– ولماذا كنت ترفض؟

وعادت الابتسامة وطال تحديقه إلى الأفق البعيد، ومرت بعينَيه طيوف تتباين بين السعادة والحزن، وظل صامتًا، فأكرمت صمته، ولم أعد إلى السؤال.

تعوَّد كلما جاء إلى القاهرة أن يدعوني بالتليفون فأقضي معه بعض الوقت، وفي يوم جاء إلى القاهرة والتقينا على منضدة في مينا هاوس وانساب الحديث بيننا، وقد تعوَّدت أن أسعد بنغمات حديثه؛ فهي همس منغوم فيه عذوبة ورقة وهدوء، وكانت عيناه إليه الباب، عينان هادئتان فارقتهما الدهشة لكثرة ما مرَّ بهما ولكن بريقًا من أيام الشباب ما زال يطل منهما، وإن كان بريقًا عجوزًا عدت عليه السنون.

وفي لحظة خُيِّل إليَّ أنه ليس هو، أو أنه قد عاد إلى شبابه الذي رأيته عليه في الصورة المعلَّقة ببيته بالقرية، بل خُيِّل إليَّ في ومضة عابرة أن شعره الفضي لم يعد فضيًّا، وجمد على حاله هذا ونظرت إلى حيث ينظر فإذا سيدة وقور ليست مصرية على أية حال، شعرها فضي كشعره وإن كان غزيرًا، طويلة القامة في غير امتلاء ولا نحافة، تطل السنون من عينيها ولكنها إطلالة فيها حنان ودعة. وقفت السيدة على الباب وكانت تنفض المكان بعينيها تبحث عن مكان حتى إذا يئست أوشكت أن تولينا ظهرها وتتركنا، ولكني شعرت بزلزال في النضد الذي أجلس إليه، وإذا الشيخ الذي كان بجانبي قد أصبح بجانب السيدة، ناداها فالتفتت ونظرت إليه فإذا هي أيضًا يطوف بها ذلك الطائف الذي مسَّ الرجل، وإذا أنا يخيَّل إليَّ في لحظة أنها لم تعد هي. ورأيته يحتضن يديها في راحتيه ويظل كل منهما يرنو إلى الآخر بعض الحين في صمت ثم يفيضان، وقد أقبل فوج جديد يريد أن يدخل إلى المكان، فيتركان الفندق جميعًا ويخرجان دون أن يحفل بي العم ودون حتى أن يلتفت إليَّ.

تركت مكاني وقمت، وفي باكر الصباح دقَّ جرس التليفون وكان هو المتحدث.

– أريدك اليوم.

– أنا تحت أمرك.

– اليوم جميعه.

– اليوم جميعه، منذ متي تريدني؟

– منذ الآن.

وما هي إلا بعض دقائق حتى كنت عنده. لم أسأله فقد وجدت الذكريات تفيض على لسانه يريد أن يرويها لأي إنسان يلاقيه. وكنت أنا. قال ونظرة تقطر سعادة تنسكب من عينيه: في أول عهدي بإنجلترا دعاني أحد أصدقائي إلى حفلة يقيمها في بيته، وقد لبَّيت دعوته ملهوفًا؛ فما كان لي من أصدقاء إلا ندرة جمعتني بهم فصول المدرسة، لم يكن ضيوف صديقي إلا قلة من الصفوة وكان من بينهم أختان، كان جلوسي إلى جانب بيسي، وكان حديثها منطلقًا في خفة، وكانت مرحة اللفتة، قريبة الفهم، سريعة الإقبال. لم يطل بنا الحديث حتى سألتها إن كانت تسمح لي أن أزورها فرحَّبت وكانت أختها ليزا تمر بنا فاستوقفتها وقدمتني إليها فصافحتني وانصرفت لم تلبث وانتهى الحفل. وفي ضحى اليوم التالي ركبت دراجتي قصدت إلى بيتهم؛ فقد كان في مكان لا يمكن أن أصل إليه إلا بالدراجة، أو بعربة خاصة، لم أكن محتاجًا أن أدق الجرس، فقد وجدت ليزا جالسة في شرفة البيت تقرأ. أسندت دراجتي إلى درابزين الشرفة الخشبي ورحت أصعد السلم متعمدًا أن أثير بحذائي تثير انتباهها ولكني لم أفلح في انتزاعها من الكتاب، ولم أجد بدًّا آخر الأمر من أن ألقي تحية متعثرة توشك أن تسقط في الطريق إلى أذنيها، ولكنها مع ذلك أفلحت في أن تجعلها ترفع رأسها عن الكتاب لتلقي إليَّ تحية باسمة قد تتسم بالأدب أو قد تتسم بالرقة ولكنها أبدًا لا تتسم بالترحيب، كما أنها لا تحمل معنًى واحدًا يدل على أنها تعرفني أو حتى تذكر أين التقت بي، لم أجد بدًّا من أن أذكرها بنفسي، وليس أثقل على نفسي من أن أقدِّم نفسي، فقلت: أسألها عن أختها لعل في سؤالي عنها ما يذكِّرها بي. سألتها: أين بيسي؟

وتذكرت، أو بدا لي أنها تذكرت، فقد عادت تبتسم ابتسامة أخرى أكثر إيناسًا من الأولى، ثم قالت: إنها خرجت تشتري بعض أشياء، ملكني الإعجاب بليزا، تمنيت لو كانت هي من جلست إليها في حفلة الأمس وتمنيت أن أجد سببًا يبقيني معها فتستبدلني بهذا الكتاب في يدها، وتقرأ ما بنفسي من الإعجاب لها وأقرأ في عينيها الخضراوين من بساطة الأمل، وربيع الشباب، تمنيت ولم أجد ما أحقق به أمنياتي إلا سؤالًا متعثرًا آخر.

– لعلها لن تتأخر.

وظلت الابتسامة الأنيسة على وجهها وهي تقول: بل ستتأخر على ما أظن.

كانت الإجابة أمرًا صريحًا لي بالانصراف، لم تبعث ابتسامتها، ولا كلمة أظن الشك في نفسي من أنها تريدني أن أنصرف. ووجدت نفسي ألقي بتحية وداع متعثرة وأستدير إلى السلم أنزله في تفكير عميق، ماذا يمكن أن يبقيني هنا؟ أيمكن مثلًا أن أقع على السلم فأعرج فأبقى! ولكن ماذا تفعل هذه الدرجات القلائل، إنها أهون من أن تصيبني بجرح يستحق البقاء، ماذا يمكن أن يحدث. كنت قد وصلت إلى دراجتي، ودون أن أنظر إلى اتجاه يدي مددتها لأمسك بالمقود فإذا مسمار في الدرابزين يجرحني، آه، قلتها في صوت مباغت واهن، ثم ما لبثت أن تذكرت أملي في أن أُجرح، فنظرت إلى الجرح ثم هززت رأسي، لقد كان الجرح أهون من أن أطلب له دواء، وأهون من أن أذكره، ولكن فكرة ما لبثت أن ومضت في ذهني. فنظرت إليها فوجدت الكتاب قد اختطفها مرة أخرى فما لبثت أن نزعت المسمار من مكانه وأهويت به على عجلة الدراجة فأفرغتها من الهواء، كنت أحس بهواء العجلة وهو خارج وكأنه يقضي على الحيرة التي خالطتني، وعلى اليأس الذي ملك نفسي حتى إذا استقر حديد العجلة على الأرض اطمأنت نفسي وهدأ مضطربي، وعدت أصعد لأقول في صوت ما زلت أذكر رنة الفرح فيه حتى اليوم.

– لقد فسدت دراجتي فكيف السبيل أن أعود إلى البيت؟ وشاعت ابتسامة حلوة في وجهها ثم أقفلت الكتاب دون أن تُعنى بثني الورقة التي كانت تقرؤها، وقالت: انتظر حتى تأتي بيسي، فقد أخذت العربة معها.

وقبل أن تتم جملتها كنت قد أخذت مكاني بجانبها، وأنا أسأل: أتقود بيسي العربة؟

فقالت والابتسامة على وجهها ما تزال: نعم.

– ألا تخاف الجياد؟

– إنه جواد واحد يحبنا ونحبه ولا نخافه.

وتحادثنا، وتحادثنا، وتأخرت بيسي وأنا أدعو الله أن تزيد من تأخرها، وأقبلت على ليزا إقبالة محب قديم لا صديق جديد، وأقبلت هي على حديثي، فما قلت رأيًا إلا وجدتها تراه، وما ذكرت من ميولها ميلًا إلا وجدتني مثلها فيه، وكانت عيناي دائمتَي التحديق في عينيها أجوس في أطواء نفسي فأجدني أزداد حبًّا لها. كان لا بد أن تعود بيسي وقد عادت. ونظرت إلى جلستنا، وابتسمت: أراك قد لبيت الدعوة.

وقلت في فرح: وهل كان يمكن ألا ألبيها؟

وقصت ليزا على أختها ما كان من أمر الدراجة، وبدا على بيسي أنها لم تكن محتاجة إلى هذا الشرح فما كنت في حياتها غير عابر سبيل أو عابر سفر إن صح التعبير. قالت: فهلمَّ اركب لأذهب بك إلى بيتك.

فنظرت إلى ليزا وأنا أقول في حسرة: هلمَّ.

كم كانت الدراجة مباركة في يومنا هذا، فإنه ما لبثت أن وجدت فيها الملجأ مرة أخرى.

– ماذا سأفعل بالدراجة!

وسكتت ليزا وقالت بيسي: اتركها.

– وماذا أفعل؟ إنني لا أسير إلا بها.

وقالت ليزا: اسمع، أمسك بدراجتك وسر وسأسير معك على أن تصاحبنا بيسي بالعربة لتعود بي.

ونظرت بيسي إلينا ثم ما لبثت أن أغرقت في الضحك ثم قالت: ألم تقولي إنه ينتظرني منذ ساعة أو أكثر لأعود به بالعربة؟

وكأنما أدركت ليزا ما يخفيه ضحك أختها؟ ولكنها قالت في بلاهة حبيبة: نعم.

وأكملت بيسي حديثها: ففيمَ كان انتظاره ما دام سيعود سائرًا على أية حال؟ أم تراك كنتِ تريدين له العربة لتسير إلى جانبه لا ليركبها، أم تراك كنتِ تريدين العربة لتعود بك أنت؟

ثم عادت تضحك مرة أخرى، وقالت ليزا: وماذا نفعل، ما دام لا يريد أن يترك الدراجة.

واصطنعت بيسي الجد وهي تقول: نعم أنت محقة. ماذا يمكن أن نفعل؟ هلمَّ بنا.

وسرنا، أُمسك بدراجتي وليزا إلى جانبي وبيسي تقود العربة تسبقنا أحيانًا أو يطيب لها أن تضحك منا فتبطئ حتى تظل بجانبنا. وفي مرة من المرات التي شاءت فيها بيسي أن تتيح لنا خلوة من الحديث قالت ليزا: أتعبت؟

قلت في فرح: أنا؟! أبدًا.

فقالت وابتسامة ماكرة على فمها: على كل حال عليك أن تتحمل تبعة فعلتك.

وأخذت بحديثها وقلت: أية فعلة؟

– ما ذنب الدراجة حتى تفسد إطارها، وما ذنب درابزين بيتنا حتى تخلع مساميره.

ظل حبي لها ينمو مع الأيام حتى كان يوم عرضت عليها فيه أن نتزوج فقالت: نعم أتمنى ذلك؟ ولكن أمهلني بضعة أيام.

– متى أعرف الجواب.

– في أي يوم نحن؟

– اليوم الأحد.

– إذن ففي يوم الأحد.

لم يكن ساسة العالم على علم بهذا الوعد؛ فإنه لم يقدر لي أن أشهد هذا الأحد في إنجلترا وإنما وجدتني بين عشية وصباح على مركب ينقلني إلى مصر، لم أبالِ الأوامر وقصدت إليها في البيت قبيل الرحيل فلم أجد بالبيت أحدًا؟ فتركت خطابًا دسسته تحت الباب، ثم وُضعت في المركب لأجد نفسي بمصر، لا تسألني كم من الخطابات أرسلت بعد ذلك، ولا تسلني كم خطابًا تسلمت. فأما ما أرسلته فلا أذكر عدده لكثرته، وأما ما تسلمته فأذكر عدده لانعدامه. لم تصلني منها كلمة. ولكنني مع ذلك ظللت أكتب، وأكتب فقد أصبحت الكتابة إليها هي كل ما بقي لي من حبي ومن شبابي ومن حياتي كلها إني بلا زواج ولا ولد فأنا بلا أمل. لم يكن لي إلا هذه الخطابات فظللت أكتبها حتى أمس، أمس صباحًا قبل أن ألقاك، كنت قد أودعت البريد خطابًا إليها. لا لم أستطع السفر، خشيت، خشيت أن تصدمني الحقيقة هناك فأعلم أنها ماتت أو تزوجت ففضلت أن أحيا بأملي الواهن الشاحب الضئيل عن لقاء الحق الواضح الصريح القوي، فلم أسافر، حتى كان أمس ولقيتها، لقد تركوا بيتهم وتركوا الحي وتركوا المدينة، فلم تعد إليها مني كلمة، ولقد …

وانسكبت الدموع من عينيه وهو يقول: ولقد جاءت إلى مصر بين الحربَين، وعادت تجيء بعد الحرب الثانية على أمل واهن أن تلقاني، أو تسمع عني حتى أمس ولقد …

وازدادت الدموع انسكابًا من عينَيه واختلج صوته في إجهاشة حب والهة شابة: ولقد انتظرتني فلم تتزوج.

لم تنتهِ حكاية الشيخ؛ فقد كان يريد مني كمحامٍ أن يعد الإجراءات لزواجه، نعم زواجه هو ابن الستين أو أبو الستين منها، منها هي، نعم وأنها في الرابعة والخمسين.

وبعد أيام ذهبت إلى العم في القرية أُهنئه بالزواج وأهنِّئ به العمة الجديدة، كانا جالسَين هناك بين النخيل فكنت أرى فيهما قوة أقوى من النخيل ومن الأيام ومن الحروب ومن القادة الذين يُشعلون نيران العالم، لقد تغلبا على كل السفَّاكين الذين أراقوا دماء البشرية. وتزوجا آخر الأمر وإن كان هو في الستين وإن كانت هي في الرابعة والخمسين ولكن ماذا يهم، لقد التقت فيهما حياة واحدة عاشت سنين طويلة، طويلة جدًّا حياتَين.

قال ودمعة فرحانة تتلألأ في عينيه مترددة بين بقاء أو انهمار: لقد تزوجت شبابي يا بني، لقد تزوجت شبابي، ووجدت دمعة تطفر إلى عيني أنا الآخر جعلت العمة ليزا تقول في فرح: ولم يسمح له تأثيره أن يعيد ما قال واستطعت أن أتغلب على خلجاتي الفرحانة لأترجم لها جملته. وطفرت إلى عينها هي الأخرى وهي تقول: إنه زوجي من أربعين عامًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤