أزهار الشوك

١

كانت ساعة الظهيرة عندما بلغ فؤاد أطراف القرية، وكانت البِرْكَة الخضراء تلمع ساكنة تحت الشمس، يخفف من حرها نسيم خفيف يجعد سطح الماء، وكان سرب من الإوز يسبح متصايحًا في أركانها، وعلى جانبها بعض أطفال عراة من أبناء القرية المجاورة يتمرغون في التراب حينًا ويغطسون في الماء حينًا آخر، ويملئون الفضاء ضحكًا وضجيجًا.

وكان على جانب آخر من البركة كلب ناعس يتكئ برأسه على يديه ممدودتين في استرخاء، والدجاج يتواثب حوله ينبش الطين باحثًا عن الطعام، فيُثير حوله سحابة رقيقة من غبار.

وكانت قرية النجيلة من وراء البِرْكة عن يسار الطريق، تَدْرَج صاعدة على نَشَز من الأرض، حتى يُطل أعلاها على أسفلها، وما بين ذلك طرق ضيقة ملتوية تتعرَّج في تلافيف صاعدة من دار إلى دار، فكانت القرية تبدو من بعيد كأنها قلعة، وتلوح من قريب قطعًا من بناء مكدس فوضى، وكان فيما يلي البِرْكة عن اليمين فضاء فسيح يتخذ أهل القرية جانبًا منه «جرنًا» ويعقدون فيه أسمارهم ويحتفلون بأعراسهم ويتفسحون فيه في ليالي الصيف القمراء، وكان يحف بذلك الفضاء أَجَم من النخيل يُلقي عليه في الصباح ظلًّا ويخلع على منظره رونقًا، ولكنه كان في الليل يلوح للأعين رهيبًا يتحامى أهل القرية السير فيه خوف أن تعترض سبيلهم «الأرواح»، وكان إلى جانب النخيل كوم أحمر «كَفْري» يمد ذراعًا نحو فضاء «الجرن» ويترامى من ورائه صاعدًا ويزيد عرضًا كلما قرب من طرفه البعيد.

وكان الفلاحون يتخذون من تراب الكوم سمادًا لأرضهم؛ ولهذا تركوه مهشمًا مضطرب السطح بين حفر غائرة وأضراس بارزة، وعلى وجهه حطام مختلف الألوان بين قطع حمراء وزرقاء من الآجر والفخار، وعظام من جماجم أو ضلوع.

وكانت دار الأفندي متنزهة عن القرية إلى اليمين، يهبط إليها الطريق من حافة البِرْكة على مسيرة دقائق بين الحقول الخضراء، وهي بسيطة البناء يحيط بها سور من شجيرات ملتفة شائكة تحجب الأنظار عنها ولا تحجب منظر الحقول عمن في داخلها، وكان في ساحة الدار بستان يتخذه الأفندي حقلًا يزرع فيه ما يحتاج إليه من خضر وبقول، وفيه ساقية تُظللها شجرتان من الجميز، ومن حولها بعض كروم ونخلات وأشجار شتى مبعثرة في غير نظام.

كان الأفندي في شبابه موظفًا، ثم غادر الوظيفة، وآثر أن يعتزل في الريف، فاشترى قطعة من أرض تجاور قرية النجيلة، وبنى بها تلك الدار ليقيم فيها مع زوجه، وليس لهما سوى ولد وحيد يخطو إلى حدود العشرين في كلية الحقوق، فإذا أتى الصيف انتظر الوالدان وحيدهما في لهفة ليملأ عليهما الحياة في مُعتزَلهما البعيد.

وكان فؤاد ابن الأفندي يقيم بالقاهرة مدة العام مع بعض لِداته من طلاب العلم في منزل مستأجر، حرص أبوه على ذلك على غير رغبة من أمه التي كانت تود لو أقام في بيت من بيوت أخواله، فقد كان حسني أفندي يرى رأيًا لا يرضى أن ينزل عنه في تربية وحيده، ولم يحدث له يومًا أن ندم على رأيه، إذ مضى فؤاد في دراسته موفقًا، فكان في كل عام يراه إذا عاد إليه كأنه عود طيب ينمو يانعًا مزهرًا.

وأقبل فؤاد من القاهرة حتى بلغ القرية، وكان يركب بغلة أبيه تسير به فارهة مطمئنة الظهر وعليها سَرْج ملون من نسيج الأعراب، ومن ورائه ثلاثة من أهل العزبة يحملون حقائبه.

فلما بلغ الدار نزل عن البغلة وأسرع داخلًا يثب في خطواته حتى قفز سلالم المدخل وأخذ بيد أبيه يُقبِّلها، وكان الوالد جالسًا في صدر البهو، فلما لمح ولده قام إليه يستقبله، وقبَّله بين عينيه قائلًا: أحمد الله على سلامتك.

وخرجت الأم فاتحة ذراعيها فضمَّت ولدها دامعة العين وهي ضاحكة، وقالت له وهي تُرَبِّت: لقد نَحُفت يا فؤاد.

ثم دخلوا إلى الدار يستمتعون بالشمل المجتمع بعد فراق عام طويل، ودار فؤاد حول أركان الدار كأنه يستعيد عهدها، وقضى مع والديه ساعة يقص عليهما أنباءه ويستمع في شوق إلى أحاديثهما حتى أُعِدَّت مائدة الغداء، وكانت الأم قد حشدت لها كل ما عرفته شهيًّا عند وحيدها.

ولما هدأ فؤاد بعد العصر، خرج إلى المنظرة يريد أن يرى مَنْ هناك، فكل مَنْ في العزبة أصدقاء قدماء رأوه صغيرًا، ثم فتًى يافعًا، ثم رأوه بعد ذلك شابًّا، وهو إذا حلَّ بها كأنه عاد إلى كل بيت من بيوتها، وكان يعرف أنهم سيأتون إليه واحدًا بعد واحد إذا فرغوا من عمل النهار، وكان به حنين إلى أن يراهم جميعًا.

وأول مَنْ لقيه من أهل العزبة رحومة البدوي المرح الكسول.

كان رحومة أو «عبد الرحيم» شيخًا في السبعين، ولكنه أعجوبة في الشيوخ، كان يسير عاري الصدر حتى في أشد الأيام بردًا، ولا يلبس إلا ثوبًا من القطن الخفيف الأزرق يشتريه في كل عيد فلا يخلعه إلا في العيد الذي يليه، فإذا اشتدَّ البرد في ليالي الشتاء الْتَحَفَ بحريم من الصوف يتخذه في الليل غطاءً ثم ينحِّيه عنه إذا حميت شمس النهار، فهو يجعله زينته إذا استقبل زائرًا وبِسَاطه إذا أكرم ضيفًا، ومظلته إذا آذاه حر الشمس، وكان يسير مستقيم الظَّهْر ويحب أن يجرش الفول بأسنانه البيضاء، فإذا رأى زكيبة منه أسرع إليها ليصيب منها قبضة يجرشها فولة بعد أخرى، وقد تزوج من نساء عدة من فقيرات الأعراب، ولكنه لم يعقب منهن ذرية سوى تعويضة، وكانت فتاة في السابعة عشرة إذ ذاك.

ولكنه كان كسولًا، فأحب شيء عنده أن يستلقي في ظل النخيل ظهرًا أو يعرِّج على حَلْقة من الناس يشارك في حديثها، وكان مرحًا ظريف المجلس فما يكاد يمر بجمع حتى يدعوه ليستمعوا إلى آخر أخباره، وكان يترك حقله لامرأته وابنته؛ ولهذا كان لا يكاد يجد الكفاف من العيش، فإذا تذمَّرت امرأته فقذفته بما شاءت من قول ضحك ساخرًا وانصرف عنها بكلمة لاذعة، ولكن ابنته كانت تحبه، فإذا سمعت أمها تُعنِّفه وقفت لها تدافع عنه في حماسة وترد عليها تعنيفها.

وكان رحومة مع فقره متكبرًا يكاد يكون غِطْرِسًا في بعض الأحيان، كان لا ينسى أنه حر بدوي من أحرار بدو لا ينبغي لهم إلا أن يكونوا حيث خلقهم الله، وكان يرى المال عَرَضًا لا قيمة له في قيم الرجال، فقد يكون غني اليوم فقيرًا في الغد، وقد يكون الفقير من بعد غنيًّا، ولكن المرء نفسه يبقى كما خلقه الله.

والناس عنده صنفان: فمنهم البدوي ومنهم غير البدوي، وما كان ينسى أن يشكر الله إذ خلقه بدويًّا.

ولما رآه فؤاد داخلًا ناداه من أقصى (المنظرة): أين أنت يا رحومة؟

فصاح بصوته القوي: مرحبًا!

وأسرع في مشيته ليلقاه مادًّا يده مصافحًا، وكانت تحية حارة من مصافحة مكررة على طريقة الأعراب: إيش حالك؟ إيش لونك؟ وسأله فؤاد عن أخباره فجعل يقص عليه من الأنباء ما ادخره في عامه، وقص عليه نبأ سجن «سلومة».

كان فؤاد يعرف عبد السلام أو «سلومة» كما يسميه أهل ذلك الريف على طريقة الأعراب، كان الناس يسمونه الصقر أحيانًا أو الذئب أحيانًا، ففيه شبه لا شك فيه من الصقر والذئب معًا، كان فارسًا في حلبات «البُرجاس» في موالد الأولياء، وكان مبارزًا ماهرًا بالعصى، إذا نازل أقرانه هزم أمهرهم واحدًا بعد واحد، وكان يستطيع أن يضع الرصاصة حيث شاء من الهدف الذي يرمي إليه.

وكان شابًّا نحيفًا يضع على رأسه عمامة صغيرة فوق «لُبدة» ويلف أعلى جسمه بشَمْلة بيضاء من صوف، وكان في أول أمره في عزبة الأفندي، ثم اتصل به أحد أعيان الريف المجاور واسمه إبراهيم ميسور فحبب إليه أن يكون عنده، وكان ذلك الرجل يستكثر من مثله ليكونوا له أتباعًا، فانتقل سلومة إليه مع أمه وأخيه، ومع ذلك كان بين حين وآخر يزور الأفندي مُحافَظةً على مودته القديمة، ولكنه لم يبق على عهده الأول، فكان إذا سار أمام البيوت يَخطُر معجبًا، ويتخذ في ملبسه زينة المترفين، فما لبث أن رأى من الأفندي انقباضًا عنه فصار لا يزوره إلا لِمامًا، وما مضى عليه إلا أعوام يسيرة في عزبة ميسور حتى تبدَّل تبدلًا عجيبًا، فقد ضرى في زهوه حتى صار فاتكًا، يسطو بمن يخاشنه، لا تأخذه بأحد رحمة ولا تدفعه عنه رهبة، ثم تمادى في فتكه حتى كان الناس كلما اجتمعوا جعلوا حديثهم همسًا عن آخر ما جناه.

ولكن أهل القرى كانوا يتحامونه ولا يجرءون على أن ينمُّوا عليه، وكان إبراهيم ميسور يدفع عنه أذى الأقوياء، وإذا أجرم جريمة أسبل عليه جاهه وأقام له محاميًا حتى يُبرئه.

وأخذ «رحومة» يقصُّ على فؤاد نبأ الرجل الذئب وما حدث بينه وبين سيده ميسور من القطيعة، فحكى له كيف انقلب «سلومة» على صديقه القوي فكشَّر له عن نابه، فلم ينم عنه ميسور حتى بعث به إلى السجن ليلقى جزاء جرائمه.

ولم يخلُ قلب فؤاد من الأسف عندما تمثَّل صورة ذلك الرجل وهو يطارد أقرانه رشيقًا خفيفًا فوق فرسه في حلبات السباق.

وسأل رحومة قائلًا: وماذا فعلت أمه وأخوه؟

فقال رحومة: جاءوا إلى هنا.

فقال فؤاد راضيًا: أود أن أراهما.

فقال رحومة: لا شك أنهما آتيان للسلام.

فقال فؤاد: وكيف حال تعويضة؟

فقال الرجل ضاحكًا: كما تركتها في العيد.

وتذكرها فؤاد في يوم العيد السابق إذ أهدى إليها ثوبًا من القطن زاهي اللون فضحكت قائلة: أألبس هذا؟

فما كانت تعويضة ترضى سوى ثوبها الأسود تتخذ له حزامًا من الصوف الأحمر من نسج أمها، فاشترى لها فؤاد ثوبًا أسود من قطن في حرير، فلما لبسته جاءت إلى الدار تهنئ سيدتها بالعيد، وكان «فؤاد» جالسًا إلى جانب الساقية تحت ظل الجميزة يقرأ في كتاب، فحيَّته قائلة: تعيش لكل عام يا حاج فؤاد.

وكانت هذه طريقتها في خطابه، وما زال صوتها يرنُّ في أذنه عذبًا وهو يسأل عنها أباها.

كانت تعويضة كأنها زهرة برية يانعة، لها عينان سوداوان نجلاوان وأنف جميل فيه حَلْقة من فضة، وكان تحت فمها الحسن وشم يمتد من أسفل شفتها إلى ذقنها، ولها بشرة سمراء صافية تعلوها حمرة. أرأيت زهرة البر إذا تفتحت في خميلة شعثاء في شعب من شعاب الصحراء؟ هكذا كانت تعويضة تبدو إذا لبست ثوبها الأسود ومن حول وسطها حزامها الأحمر، وكان صوتها عذبًا إذا نطقت بلهجتها، وتنطلق في حديثها هادئة كالنسيم حينًا وثائرة كالعاصفة حينًا، لا تختلج من تكلُّف أو حياء، ولا تتعثر من تردد أو خوف.

وكان فؤاد يحس لها ميلًا ولا يملك كلما رآها أن يبسم لها، ويرتاح إلى سماع ندائها إذا نادته: يا حاج فؤاد.

وكان كلما أتى إلى العزبة في الصيف يقضي كثيرًا من وقته في «غيطها» يساعدها في عملها، وكانت الأرض هناك كثيرة النجيل، فكانت هي وأمها لا تكادان تغيبان عن الحقل ساعة كأنهما تجاهدان هذا النجيل جهادًا، فإذا ذهب فؤاد إلى حقلها جعل يقلع معها النجيل حينًا أو يحول الماء من المساقي لري خطوط القطن أو يعزقه معها إذا جفَّت الأرض، وكان ذلك يثير في الناس عجبًا في أول الأمر، حتى لقد تهامسوا فيما بينهم عنه وعنها، وبلغ الحديث إلى أبيه ففاتحه فيه فقال لأبيه ضاحكًا: «لعلي أحب أن أتزوجها يا أبي»، فأمسك عنه أبوه فلم يعد إلى كلمة أخرى مثلها، بل لقد صار إذا رآه مقبلًا ساعة الظهيرة مُحْمَرَّ الوجه تبسم له قائلًا: «هل فرغت من عملك في حقلها؟»

وكان فؤاد يجيب في ابتسامة هادئة متحدثًا عما كان منه في يومه.

وكان فؤاد بعد هذا يرى تعويضة في ليالي القمر إذا اجتمع أهل العزبة في الفضاء المجاور للدار، كانت تحيي حلقة السمر الساذج، فترقص رقصة الأعراب في «الصابية»، تخطر رشيقة في الحلقة والأكف ترن وأصوات الإنشاد الصاخبة تدوِّي من حولها.

وكانت صورتها كلما خطرت لفؤاد بدت له كأنها لوحة من لوحات الفن الجريء أو صورة من صور الشعر الوحشي في عصر مضى.

ولكنه لم يسأل نفسه عما يحسه نحوها، فإنما كان يراها معجبًا بحسنها كما يُعْجَب بزهرة يانعة على حافة ترعة.

ومضى رحومة يتحدَّث في مرح عن تعويضة، وفؤاد يستمع إليه في اهتمام: لقد تجرَّأ محمود بن خضرة فجاء إليه يخطبها، ولم يرض رحومة أن يذكر اسم والد الفتى — الشيخ عبد المقصود شيخ البلد في قرية النجيلة — متعمدًا أن ينسبه إلى أمه تحقيرًا وازدراءً، وكان محمود فتى يرضاه أهل النجيلة جميعًا إذا طلب إليهم أن يكون صهرًا، ولكنه كان فلاحًا وما كان ينبغي له أن يجرؤ على مصاهرة رحومة البدوي، فردَّه رحومة ردًّا عنيفًا، ولم تخل تعويضة من الغضب عندما ذكر أبوها اسم الفتى لها، وسأله فؤاد عن أخي سلومة، فانطلق رحومة يثرثر عنه، وكان حديثه مرحًا عاطفًا.

كان اسمه عبد القوي، ولكن رحومة نطق اسمه «قوية» على طريقة الأعراب؛ لأنه كان مثله بدويًّا، وكان في نحو الخامسة والعشرين عندما عاد إلى العزبة بعد أن ذهب أخوه سلومة إلى السجن رهن القضاء، جاء هو وأمه مبروكة فاتخذا لهما خيمة إلى جانب الكوم الأحمر، ورحَّب بهما الأفندي لأنه عرف قوية صغيرًا، وكانت مبروكة أمه امرأة طيبة حلوة اللسان كريمة، فلما عادت إلى العزبة — بعد أن بعدت عنها بعض سنوات — لقيت من كل أهلها ارتياحًا وبشاشة.

وأخذ «رحومة» يصف قوية وما فيه من شبه بأخيه في قامته وهيئته وفي فروسيته وفتوته، ولكنه لم يكن مثل أخيه غِطْرِسًا مزهوًّا، ولم يكن مثله شيطانًا مرعبًا، كان ينشد شعر البدو بصوت مليء مطرب، ويهز حلقات السمر ضحكًا بألاعيبه الرشيقة وتندُّره المعجب، وكان فؤاد لم يره منذ سنوات ولم يعرف فيه شيئًا مما تحدَّث به رحومة، فحبب إليه ذلك الحديث أن يراه.

وتوافد أهل العزبة على الدار ونزل الأفندي يستقبلهم مرحِّبًا، فتنحى رحومة إلى ركن بعيد يجرش الفول، وامتلأ البهو بالزائرين بين شباب وكهول، وجاء من قرية النجيلة آخرون ليهنئوا الأفندي بسلامة ولده، وكانت أكواب الشاي تدور على الضيوف في خلال الأحاديث دورًا بعد دور، وأدرك فؤاد في ذلك المجلس كل ما غاب عنه من أخبار ريفه في مدة العام الطويل.

٢

رأى فؤاد بعد ذلك قوية وكان لم يره من سنين، كان ممدود القامة عريض الصدر ضخم الهامة، ولكنه كان طَلْق المُحَيَّا واسع العينين يبعث مظهره الثقة، وأَنَسَ إليه فؤاد منذ رآه وقربه، فوجده خفيفًا إلى الخدمة سريعًا إلى الاستجابة كلما أراد أن يجول في الريف جولة، فكان يستصحبه كلما أراد نزهة في الكوم الأحمر أو ذهب إلى الصيد في المناقع ذات الأعشاب الطويلة على حوافي الحقول، وكثيرًا ما كان يصاحبه في الليالي التي يسهر فيها الفلاحون عند امتلاء الترع ليدركوا فرصة ري الزرع قبل أن تمضي مدة «النوبة».

ونشأت بينهما على الأيام مودة تشبه أن تكون صداقة، وكان قوية في كل تلك الجولات مرحًا وثَّابًا خفيف الروح يعرف اسم كل عشب وكل زهرة وحشرة، ويطرب لمشاهد الأرض والسماء في حماسة معدية، فكان فؤاد يطَّلع في صحبته على محاسن لم تَبْدُ له من قبل في مناظر الطبيعة الشعثاء، وأعداه منه طربه إليها حتى صار يتذوق كل ما فيها، حتى لقد أصبح يطرب إلى الموسيقى الوحشية التي تنبعث في هدأة الليل من أصوات الضفادع والحشر أو نعير السواقي.

وكان قوية يعرفه بمواقع النجوم في المساء وقبيل الصباح، ويسمي له أسماءها ويقص عليه قصصها، إذ كانت تعيش على الأرض قبل أن تصعد إلى السماء.

وكان فؤاد يذهب معه أحيانًا إلى خيمته فيستمع إلى أحاديث أمه، إذ تحكي لهما قصص قومها في موطنها الأول بمريوط، وتجعل قصصها تفوح بعطر النرجس البري الذي ينبت على جوانب كثبانها، كانت تحدثهما أحيانًا عن غارات قبائل البدو ومصارع أبطالها، وأحيانًا عن نجوى أحباب الصحراء تحت ظلال النخيل في جوار العيون المتدفقة.

وكان فؤاد في بعض الأحيان يطيب له أن يقضي الليل عنده، فيمهد له قوية فراشًا في جوار خيمته فيقضي ليلته تحت السماء، حتى إذا استيقظ في الصباح مسح الطل عن وجهه وهبَّ نشيطًا يجوس خلال الحقول قبل مطلع الشمس، يُعجَب بلآلئ عقود الندى فوق نسيج العناكب، ويملأ صدره من الهواء البليل الذي يفوح بروائح أعشاب البر السابحة في الفضاء.

وكانت مبروكة تُعِدُّ له في الصباح طعامًا من عصيد أو رقاق مبسوس، فيعجبه طعامها كما تطربه حفاوتها.

هكذا قضى فؤاد في العزبة شهرًا لا يكاد صاحبه ينقطع عنه يومًا، ثم جاء إليه قوية ذات مساء وكان على غير عادته كئيبًا، فلما سأله عن أمره قال له: غدًا محاكمة أخي.

وكان فؤاد قد نسي في تلك المدة ذكر سلومة أخي قوية، فلم تخطر له منه خاطرة، وكان قوية كذلك لا يورد ذكره في أثناء جولة أو مجلس كأنه كان يتعمَّد ذلك تحرجًا من ذكره، وشعر فؤاد بشيء يشبه أن يكون خجلًا، إذ كان يكلف الفتى أن يصحبه ويمرح معه ولا يذكر أن له في السجن أخًا يستحق مواساة أخيه، وعجب من قوية إذ كان يراه في تلك الأيام مرحًا طروبًا كأن قلبه لم يعرف في حياته حزنًا أو ألمًا، ولم يدر أكان الفتى يحس الألم ويخفيه أم أنه كان كوحش البر ينسى الطعنة بعد أن يلعق موضعها؟!

فقال له بعد لحظة من صمت: أذاهب أنت لتراه؟

فأجاب قوية كأنه حسب سيده يلومه: إنه أخي!

وأطرق حزينًا، فمدَّ فؤاد يده إلى كتف الفتى قائلًا: سنذهب معًا.

فرفع قوية رأسه في دهشة وقال: لا تكلف نفسك هذه المشقة يا سيدي، فإنما جئت إليك معتذرًا من تخلُّفي عنك غدًا.

وتحرك قلب فؤاد عندما استأذن الفتى يريد أن يذهب فقال له: أتذهب إليه وحدك؟

فقال: ستسافر أمي معي.

فقال فؤاد في دفعة: بل أذهب معكما.

فرفع قوية يده إلى عينه فمسح دمعة فيها وقال بصوت متهدج: أشكرك يا سيدي، لا تكلِّف نفسك هذا العناء.

فقال فؤاد: لا عناء عليَّ في هذا، ألا تحب أن أكون معكما؟

فصمت قوية حينًا ثم قال مترددًا: كيف تريد أن تذهب معنا لترى سلومة؟

فأجاب فؤاد: أليس أخاك؟

فقال حزينًا: إنه أخي! ولست أعرف إلا أنه الذي رباني وأحبني وأكرمني، ولكنه سلومة الذي كان يرعب الناس جميعًا.

كان يُسبل حمايته عليَّ وعلى أمي، ولكن الناس سيتحدثون عنك إذا ذهبت معنا.

وسكت لحظة كأنه ينتظر حكمًا.

فأجاب فؤاد: أعد لي ركوبتي في الصباح.

فلم يزد قوية على أن قال في صوت خافت: شكرًا لك يا سيدي.

فلم يجب فؤاد وقد داخَلَهُ من قول الفتى ما يشبه أن يكون حزنًا، وفكَّر في حال هذين البائسين: قوية وأمه، إذ يقفان في حبهما مع الرجل الذي أجمع الناس كلهم على مقته.

وقضى صدرًا من الليل في خيمة قوية مستمعًا إلى حديثه وحديث أمه عن سلومة الذي أحبَّاه، فلما عاد إلى داره كان يتطلع إلى الصباح حتى يرى ذلك الفاتك المروع الذي تجتمع عنده ميول شتى من المقت والمحبة معًا.

وبكر ليدرك القطار الأول مع قوية وأمه، وكانت الأم تحمل تحت ذراعها صُرَّة فيها هدايا لولدها، ومضى القطار الصغير يتبختر ويهتز وسط الحقول الخضراء، ومبروكة لا تفتأ تتحدَّث عن سلومة الذي كانت تحبه ولا ترى فيه سوى فلذة كبدها، كان حبها مثل حب الكلب لصاحبه لا يبالي ما هو سوى أنه صاحبه، فهو يحبه إذا كان سكيرًا أو قاتلًا أو لصًّا أو نذلًا، ويرقد تحت قدميه ويترقَّب عودته من ليلته السوداء، فإذا رآه هبَّ يتمسح به ويلعق وجهه حبًّا، ولو وقف العالم كله معاديًا لذلك الصاحب البشع لما تزحزح الكلب عن محبته ولوقف إلى جنبه يقاتلهم جميعًا.

وكان قوية حزينًا مطرقًا يختلس نظرات من فؤاد وهو يستمع إلى حديث أمه كأنه يرقب حركة وجهه متلهفًا.

ولما بلغوا جانب السجن آخر الأمر رأوا عربة سوداء عند بابه، وعلى مقربة منها جمع من نساء ورجال في ثياب قاتمة، يجلسون القرفصاء على الأرض في ظل شجرة، وأفاق فؤاد عند ذلك إلى نفسه، فرأى أنه قد أقبل مع شاب مسكين وأمه لكي يروا سجينًا وهم وقوف عند باب سجنه.

ودبَّ إليه شيء من العجب كيف دفعه الفضول إلى مثل هذا الموقف المزري، وداخله شعور يشبه أن يكون ندمًا، فما كان ينبغي له أن يقف هكذا مع كل هؤلاء.

ورأى مبروكة وهي تهتز وتحاول أن تخفي ما بها، ثم رآها تذهب نحو حارس الباب متردِّدة، فناداها قوية: إلى أين يا أمي؟

فهمست له وهي تلمس الصرة التي تحت ذراعها.

ورأى فؤاد أنه واقف على مقربة منهما لا يفيدهما شيئًا ولا يدري ماذا ينبغي له حيالهما، أيتركهما حتى يفرغا من أمرهما كما يتهيأ لهما؟ أم يذهب مع المرأة إلى حارس الباب فيقول له: إنه جاء معها لعله يُظْهِر له إعظامًا فيساعدها على إيصال الصرة إلى ولدها السجين؟ وأحس في نفسه حنقًا شديدًا، إذ يقف هناك كأنه أحد أولئك الجالسين تحت الشجرة في صَغَار، ولكنه لم يتحرَّك لشيء ووقف ينظر إلى مَنْ حوله كأنه يلهو بمنظر في مأساة.

وأراد قوية أن يجذب أمه عن الباب قسرًا، ولكنها امتنعت عليه في قوة كان من العجيب أن تكمن في مثلها.

وفي تلك اللحظة سُمِعَت صيحة من وراء الباب الأسود، فانفلتت الأم من ذراع ابنها وأسرعت تستقبل مبعث الصيحة، وكانت عيناها مفتوحتين لا تطرفان كأنها تنتظر جلادها، وفُتِحَ الباب وخرج منه جندي في يده سلاحه، فلما رأى المرأة وابنها قريبين صاح بهما: إلى أين؟

فوقفت المرأة في مكانها خاشعة ومدَّت يدها بالصرة إلى الجندي وقالت له كلمات بصوت خافت.

فصاح بها الجندي بصوت أجش ينهرها، فأخذها قوية يجذبها من ذراعها وهي تتكفأ وتتعثر، وثار الدم في رأس فؤاد وهو واقف في مكانه شاعرًا بما يشبه أن يكون إهانة، أليست المرأة معه؟! ولكنه مع ذلك وقف جامدًا!

وخرج من الباب جندي بعد آخر ثم جاء من بعدهم رجال، من بعدهم رجال في ثياب السجن حائلة اللون، وسار الجنود يحفون بهم عن يمين وشمال ومن وراء وأمام يحملون السلاح مشرعًا، ورفعت مبروكة عينيها إلى الوجوه تتفرَّس في ملامحها وهبَّ مَنْ كانوا تحت الشجرة وجعلوا يتصايحون بين عويل النساء وبكاء الصبية وضجيج الرجال، واقترب فؤاد من الجمع يدفعه دافع شديد إلى رؤية وجه سلومة، أكان ما يزال في هيئة البشر؟

كان — وهو يسير نحو السجناء — يدفعه ميل عجيب كمن يريد أن يطلع على وحش في قفصه من وراء قضبان الحديد، وصاحت مبروكة مولولة في صوت ممزق: ولدي!

ورفعت يدها بمنديل أسود إلى مؤخر عنقها تحرِّكه يمنةً ويسرةً مع صراخها، فعضَّ فؤاد على أضراسه جزعًا وهو ينظر إلى سلومة.

كان رجلًا طوالًا متين البناء له جبهة مثل جبهة أخيه، وصدر عريض وعينان واسعتان يشعُّ منهما بريق، ونظر نحو أمه بوجه متحرك تردَّدت عليه مسحة من رقة في لحظة قصيرة ولكنه عاد فتجهَّم ووقف رافعًا قامته الفارعة، وهَمَّ برفع يديه كأنه يريد أن يحطم القيود التي تغلهما، ثم حوَّل بصره إلى ناحية أخيه مسرعًا وخُيِّل إلى فؤاد أن نظرته لانت قليلًا فَعَلَتْ وجهه سحابة رقيقة تشبه الابتسامة ثم عبس مرة أخرى. حدث ذلك كله في لحظات لا تزيد على ثوانٍ، ثم تحول كأنه ينزع نفسه قسرًا، ومضى في خطوات سريعة واسعة حتى بلغ العربة السوداء فاندسَّ فيها، وتمثَّلت لفؤاد عند ذلك صورة ذئب كاسر ينزوي في قفصه مكشرًا، واجتمع في قلبه شعور مختلط مضطرب من إشفاق ورهبة.

وثارت الأم وتزايد صراخها ووثبت وثبة تخلَّصت بها من ذراع قوية كأنها تريد أن تلحق بولدها.

وصاحت تولول: ولدي!

فصاح بها الجنود ينهرونها وهم يغلقون باب العربة، وأدركها قوية ليحجزها، فارتمت على الأرض وجعلت تتخبَّط وتتدأدأ كأنها تريد أن تحطم عظامها.

ولم يدر فؤاد ماذا يصنع ولا كيف يحتال في موقفه المحرج الذي دفعه إليه الفضول والتسرع، واعتراه ذهول يمتزج به الحنق والخجل، فما زال في موضعه ساكنًا حتى تحركت العربة وسارت تحمل مَنْ في جوفها، وكان لا بد له من أن يشرب الكأس حتى ثمالتها، فانتظر إلى أن استطاع قوية أن يدفع أمه ويسير بها، وقذفت الأم بالصرة التي كانت تحملها نحو باب السجن كأنها جاءت بقربان من زهر تضعه عند قبر، وساروا في الطريق صامتين والأم تكتم عويلها حتى بلغوا المحكمة فوقفوا عند بابها، ولم يستطع فؤاد أن يصبر فوق صبره فترك صاحبيه حتى يفرغا من أمرهما وذهب إلى مقهى قريب فجلس به خائرًا، ولم يدر ما صنعت مبروكة المسكينة عندما سمعت الحكم على ولدها، ولكنه كان يسمع من بعيد صراخًا مختلطًا بين حين وحين كلما صدع القضاء بأمر من أوامره، وقُضِيَ الأمر بعد حين وعاد السجناء إلى العربة السوداء فسارت تحملهم في جوفها نحو الأفق المجهول، وخرج قوية مع أمه يسندها وهي متهالكة، فلما وقعت عين فؤاد عليه هزَّ رأسه سائلًا في صمت، فأجاب قوية بصوت مخنوق: مؤبد!

فمد يده إلى ذراع الأم صامتًا يساعد ولدها على إسنادها، ثم دعا مركبة لتحملهم إلى العزبة، وقد هزَّه اليوم هزًّا عنيفًا.

ولما حكى لأبيه ما كان في يومه قال والده: لقد عرفت سلومة من قبل يا ولدي.

قالها في رنَّة أسف عميق وأطرق حينًا قصيرًا ثم قال: ومع ذلك فقد عرفته من بعد قاسيًا عنيفًا كأنه إعصار.

ولست أدري كيف تجتمع هذه الخصال كلها في طبيعة واحدة.

كان سلومة إذا لجأ إليه ضعيف أعانه، وإذا نزل عليه ضيف بالغ في إكرامه، ولكنه كان إذا لم يجد ما يقدمه لضيفه لا يتردد في سرقة ما يقيم به الوليمة.

فقال فؤاد: لقد رأيت فيه شبهًا عجيبًا من أخيه.

فقال الوالد: إذن فحاول أن تجنِّب أخاه مصيره إن استطعت، حاوِلْ أن تجعل منه إنسانًا، إن أكثر مَنْ تذهب عنهم الإنسانية هم هؤلاء الذين لم يجدوا أحدًا يأخذ بيدهم يا ولدي.

وتمنَّى فؤاد لو استطاع، فقد مست هذه الكلمات قلبه.

وذهب إلى الخيمة بعد الأصيل ليرى كيف حال مبروكة، فرأى أهل العزبة عندها يواسونها في مصابها، كأن سلومة لم يكن لكل ريفهم رعبًا.

وقالت تعويضة وهي تُرَبِّت كتفها: هل السجن إلا للشجعان يا خالة؟

ووقعت الكلمة على سمع فؤاد وقعًا ثقيلًا، أهذه هي تعويضة الحسناء تتكلم؟

٣

أخذ فؤاد يحس في نفسه شعورًا جديدًا كان يزيد كلما مر عليه يوم، كانت تعويضة في أول الأمر لا تزيد في نظره على زهرة برية عند شاطئ الترعة، أو في خميلة برية في شعب من شعاب الصحراء، ولكنه صار يجد كل يوم ميلًا قويًّا يدفعه إلى الذهاب نحو حقلها وإن لم يكن في الحقل ما يدعو إلى ذهابه، كان من قبل يخيل إلى نفسه أنه يساعدها ويرحمها ويضحك ساخرًا إذا بلغه ما يتهامس به الناس عنه وعنها، وكان يذهب إلى حقلها كما يذهب الهواء وشعاع الشمس على سجيته غير متحرج، ولكنه أصبح يشعر شيئًا من الحرج، ويكاد يود لو لم تقع عليه عين في طريقه إليها، ولكنه كان لا يملك مقاومة ميله فيذهب نحوها متعللًا بالعلل، فإذا سمع منها لفظًا وجد صداه يتردَّد في سمعه بعد أن يعود، فيزنه ويسترجعه ويحاول أن يدرك ما ينطوي فيه.

وأخذ يسأل نفسه أيرضى أبوه عنه لو عرف أن وحيده ينظر إلى تعويضة في مثل هذا الجد؟! لقد حدَّثه أبوه عنها مرة فيما مضى فلم يزد على أن ضحك قائلًا: «لعلني أتخذها لي زوجة يا أبي»، فهل كان يضحك ساخرًا لكي يخفي حقيقته عن أبيه أم كان يحاول أن يخدع نفسه ويخفي الحقيقة عنها؟ وتدسس في خفايا نفسه حتى لمح في أعماقها أمنية جريئة.

كانت تعويضة فتاة لا تقل عن سائر الفتيات ذكاءً وحسنًا وظرفًا، بل لقد كانت أكثر ممن عرف منهن في ذكائها وحسنها وظرفها، وأصبحت تحرك قلبه كما لم يتحرَّك نحو فتاة أخرى من قبلها، أما كان يستطيع أن يسمو بها وأن يخلق منها …؟ وأمسك عن المضي في التفكير كأنه اصطدم بما لم يقو على مقاومته، وماذا يستطيع أن يخلق منها؟

إن هذا الوشم الذي كان يزين ما تحت شفتها إلى ذقنها الجميل قد خالط دمها فلا سبيل إلى محوه عنه أبدًا، ولعل إزالة ذلك الوشم كان أهون عليه من إزالة وشم آخر أعمق منه أثرًا، لقد كانت كلماتها إلى مبروكة ترنُّ في أذنه كلما تذكرها إذ قالت لها: «وهل السجن إلا للشجعان يا خالة؟» أكان يستطيع أن يخلق من هذه الفتاة ما يريد؟

كان كل شيء في تعويضة جميلًا في عينه وإن كان لا يشبهه في العالم جمال آخر، كان جمالًا وحشيًّا ترضاه العين أو ينجذب إليه الحس كله، كان قوة عنيفة كما ينبغي للجمال الوحشي أن يكون، ولكنه مع ذلك كان من عالم آخر غير عالمه بغير شك.

وكان فؤاد في كل ما جَدَّ في نفسه من تعويضة وما حدَّث به نفسه عنها وما تردَّد فيه من تحرُّج وخشية لا يستطيع أن يمنع نفسه من الذهاب إليها ليملأ عينيه منها ويتنسم الهواء الذي يفوح بعطرها.

هكذا مر عليه أكثر الصيف وهو أشد ما يكون متعة في مقامه، وذهب يومًا إلى تعويضة وهو يجاذب نفسه حتى بلغ جانب حقلها وألقى إليها تحيته، ثم سأل نفسه: فيمَ جاء إليها؟ وكانت ترعى قطعة من غنم لها في حوافي الحقل فتركتها وأسرعت إليه تستقبله قائلة: مرحبًا بك يا حاج فؤاد.

ثم لمست جانب طرحتها لتُخْفِي وجهها الباسم وما كانت تفعل ذلك من قبل.

وكان صوتها على عهده ناغمًا وقوامها بديعًا ويحيط بوسطها حزامها الأحمر وتتدلَّى ضفيرتاها الطويلتان على صدرها.

فقال ولم يجد ما يقوله: كيف حالك؟ وكيف حال غنمك؟

فضحكت قائلة: ولدت نعجتي اثنين، ذكرًا وأنثى لم تضع نعجة مثلهما، ثم عادت مسرعة إلى غنمها وهي تقول: تريث حتى تراهما.

ودخل إلى الحقل وراءها حتى لقيها مقبلة بالسَّخْلين، أحدهما أبيض لا شية فيه، والآخر مرقط ببياض في سواد، وكانا رشيقين كأنهما خُشْفا ظبية تجمعهما تعويضة إليها وهما يتواثبان ويثغوان في فزع، وهي تضحك وتحاورهما حتى انفلتا منها.

فقال فؤاد يضاحكها: وماذا سميتهما؟

فأمالت رأسها في خفر ونظرت إليه نظرة باسمة وقالت: لم أسمِّ الأنثى.

فقال فؤاد: والآخر؟

فكركرت ضاحكة وهي تقول: قوية!

وكانت ضحكة خارجة من أعماق قلبها!

وخفق قلب فؤاد إذ سمع قولها وصاح: قوية؟

ثم تمالك نفسه فأمسك، وملأ عينيه منها كأنما لم تقع عليها عينه قبل تلك الساعة، فرآها فتاة لا زهرة، فتاة مليحة ممشوقة القوام غضَّة الشباب لدنة العود مملوءة حياةً ومرحًا، ولو أطاع نفسه في تلك اللحظة لاندفع نحوها فطواها بين ذراعيه متلهفًا.

ثم قال: أهذا الحمل قوية؟

فاحمرَّ وجهها عندما أجابت: أليس مثله شيطانًا؟

فقال كأنه يعاتبها: أراه حملًا ظريفًا، ويا ليتك سميتِهِ باسمي.

فنظرت نحوه في دهشة وقالت كالمعتذرة: ليس قدر المقام يا حاج فؤاد.

وأحس عند ذلك بالجدار القائم بينهما، فلم يكن هو وحده الذي يعرف البون الذي يفصل بينهما، واستعجل الذهاب فحيَّاها وعاد يسير نحو الدار ونفسه تنازعه أن ينظر إلى الوراء نحوها، فلما بلغ البيت استقبله أبوه أول شيء فتبسم له قائلًا: كيف وجدت حقل تعويضة اليوم؟

وارتبك للمرة الأولى في حديث أبيه وقنع من الرد بابتسامة وتمتم بألفاظ لم يكد هو يعرف معناها.

وأحس كأن حملًا ثقيلًا أزيح عن كاهله عندما تركه أبوه وخرج من الدار نحو البغلة التي كانت عند الباب ليركبها في جولته التي تعوَّد أن يجولها كل يوم حول المزرعة.

ودخل فؤاد إلى الدار فقضى بها سائر يومه، فلما أتى الليل قضى صدرًا منه يطلُّ على الفضاء من نافذة غرفته والظلام الدامس يلفُّ الأرض وتلمع فيه النجوم وضاءة، وسأل نفسه: ما ذلك الذي تغيَّر فيه؟ بل ما ذلك الذي تغير في كل ما حوله؟

ومع ذلك فإنه مضى فيما كان فيه يرى تعويضة في ليالي القمر في حلقة السمر تخطر في رشاقتها، ويراها في الحقل تزينه بطلعتها، وتدخل إلى الدار أحيانًا فكأن شعاعًا من النور ينفذ فيها.

ولما اقترب الصيف من نهايته لمح فؤاد في قوية تغيرًا، إذ كان كلما رآه ذاهبًا إلى غيط تعويضة ينفلت إلى خيمته داخلًا، وإذا رآه في ليلة من ليالي السمر يحدثها أو يضاحكها يُطرِق بعد مرحه ويلوذ بالصمت حتى تمضي الليلة وينفضَّ السامر وهو صامت، وقد رآهما مرة يُقبِلان معًا من الحقل يسيران بين النخيل، وكان هو آتيًا من القرية تجاههما، فما كاد يراهما حتى عاد أدراجه فاندسَّ بين البيوت فغاب فيها، وكان فؤاد مع هذا يرى أن الفتى لا يلبث أن ينبسط بعد انقباض ويعود إلى ما اعتاد من مرح وطلاقة، فيراجع عنه نفسه ويَعنُف في لومها ويحسب أنه كان واهمًا، وهَمَّ أن يسأل الفتى مرارًا عما بدا له منه، ولكن كبرياءه حالت دون هذا، وأخذ يتلمَّس له الأعذار في بدواته، فقد كان مثله جديرًا بأن تكون له بدوات.

وذهب معه في عصر يوم من الأيام في جولة بالكوم الأحمر، وكان قوية — على عادته — مَرِحًا ينشد شعره ويغني ويصيح كلما عثر على قطعة من خزف أو رأس محطم من تمثال أو قرص صدئ من نقود، وكان يصور حول كل شيء من ذلك قصصًا من خياله وينطلق في تندره مفاكهًا، ثم عثر على تمثال صغير كامل من خزف مطلي بدهان أزرق، فوثب صائحًا ومسح عنه التراب فلمع في ضوء الشمس كأنما قد فرغ منه صاحبه منذ ليلة، ومال على فؤاد هامسًا: أما إنها لتميمة نادرة.

فتبسم فؤاد وأخذ التمثال منه فجعل يقلِّبه في كفِّه معجبًا بحسن صنعته، وينظر إلى الكتابة الغريبة المنقوشة عليه، وأراد أن يحتفظ به لما فيه من إبداع فقال لقوية: أتسخو نفسك لي بهذا؟

فقال الفتى: هو لك.

وخُيِّل إلى فؤاد عند ذلك أنه وجم قليلًا، وحَسِب أنه قد يحتاج إلى ثمنه فقال له: سأبذل لك في ثمنه جنيهًا.

فقال قوية: وما حقي فيه حتى آخذ له ثمنًا؟

فقال فؤاد مازحًا: إذن خذه فاتخذه تميمة.

فقال الفتى: بل أظنك أنت في حاجة إليه.

ولو وجده فؤاد باسمًا أو مازحًا لغضب من قوله، ولكن قوية كان يكلمه جادًّا.

فانفجر فؤاد ضاحكًا ووقف مكانه ناظرًا إليه في شيء من الدهشة قائلًا: وما حاجتي إلى التمائم يا قوية؟

فقال قوية في سذاجة: ألست تحب أن تكون لك؟

فصاح فؤاد: ومَنْ هي؟

فقال قوية مترددًا: تعويضة.

فصاح فؤاد: تعويضة!

فأجاب الفتى: وهل عجب أن تتخذ تميمة تحببك إلى مثلها؟

وأحس فؤاد شيئًا من الغضب يسري إليه عندما قال: خذ تميمتك فلا حاجة بي إليها.

فقال الفتى جادًّا: وهل كنت لأقتحمها عليك؟

فسكت فؤاد كأن صدمة أصابته، وخُيِّل إليه أن الفتى يكشف له من نفسه ما كان يحاول أن يخفيه هو عنها.

فقال الفتى كأنه يعتذر: أليست تعجبك؟

فقال فؤاد: وهبها تعجبني.

فقال قوية: إذن فمَنْ أكون أنا حتى أتعرض لها؟!

ولو أطاع فؤاد نفسه لصفع الفتى وتركه حيث هو ومضى عنه فلا يراه مرة أخرى، ولكنه تمالك نفسه وقال له: اسمع أيها الأحمق، أليس يعجبك منظر الزهرة؟

فقال قوية ولمع وجهه: وهل هي كذلك عندك؟

فقال فؤاد: هي كذلك، وما أنظر إليها إلا كما أنظر إلى كل هذا.

وأشار بيده إشارة شاملة إلى الحقول والسماء والفضاء، ولكن صوتًا في داخله كان يراجعه ويتهمه بأنه يداري الحق ويخفيه.

وارتاح الفتى إلى قوله ارتياحًا ظاهرًا، وانطلق في مرحه ووضع التمثال في جيبه مترفقًا وقال: إذن سأجعله تميمتي.

وسأله فؤاد في سيرهما: أأنت تحبها هكذا؟

فقال قوية في صوت متهدج:

لقد كنت أمنع نفسي عنها وأجحدها من أجلك، ولكني كنت أراها نورًا لعيني، فكنت كلما تصورت أنك تحول بيني وبينها أذهب يائسًا، وأنا أخشى أن يحملني يأسي على إنكار مودتك، فأبعد مسرعًا كلما رأيتك معها، وأختبئ في خيمتي أو أدخل بين البيوت حتى لا تقع عيني عليكما، وكم قضيت الليالي مترددًا بين إخلاصي لك وبين حبي لها، حتى لقد فكرت في هجر العزبة وأن أفرَّ عنها محتفظًا لك بمودتي، ولكن ما كان أجهلني وأحمقني! لا تؤاخذني يا سيدي فؤاد، فإننا قوم في عقولنا خفة تطيش معها قلوبنا، ومثلك مَنْ يلتمس الأعذار لمثلي.

وكان لكلماته أحسن وقْع على قلب فؤاد مع ما كان فيه من حيرة وارتباك، واندفع قوية يغنِّي بلهجته البدوية:

يا نوارة الشط رؤى الطل عاليها
وصبحتها مساقي الورد ترويها
يا نجمة الليل يا لله معاي نراعيها
وإن نمت في الفجر تبقى عيني تحميها

ولما انعقد سامر القرية في تلك الليلة كانت أناشيد قوية ترنُّ في الفضاء مرحة مطربة، وكانت ألاعيبه وفكاهاته تهزُّ الحلقة بضحكات عالية.

وأتى قوية في الصباح التالي إلى فؤاد يدعوه إلى الغداء معه، وألحَّ في ذلك إلحاحًا شديدًا، فلما تمنَّع عليه استعان بأمه مبروكة حتى قَبِلَ إرضاءً لها.

وذهب فؤاد إليه في خيمته يحس مزيجًا من بشر وتقبُّض، يكاد يحمل نفسه على الدخول حملًا، ولكن ترحيب مبروكة وحديثها ما لبثا أن أزالا عنه قبضته، ومدَّت مبروكة أمام الخيمة سفرة حافلة أَعَدَّت عليها طعامًا على طريقة الأعراب من ثريد ولحم ورقاق مبسوس وشواء، وكان طعامًا شهيًّا.

وجال فؤاد وقوية بعد الغداء جولة في الحقول، وجرى الحديث بينهما على عادته، ولكن فؤاد كان أقل حماسة من قوية الذي كان يفيض سعادة، فلم ينتبه إلى فتور صاحبه، كانت نشوة الحياة تملؤه فيعطي ولا ينتظر عطاءً، ويتحدث ولا يعبأ أن يتلقى جوابًا.

وعادا بعد جولتهما إلى العزبة، فلما رآهما الأب قال يخاطب الفتى: لِمَ نسيت أن تدعوني يا قوية؟

فتبسم قوية صامتًا.

وقال فؤاد: لقد كان غداء مبروكة عظيمًا كعادتها.

فقال الوالد ممازحًا: فيه رقاق مبسوس بغير شك.

فأجاب فؤاد: وحَمَل مشوي لذيذ.

فقال الأب مازحًا: أنَّى لك هذا يا قوية؟ لعلك لم تأخذه من وراء نعجة تعويضة!

فاحمرَّ وجه الفتى وقال: كله من خيرك يا سيدي.

ثم أطرق في شيء من الارتباك، ولما مضى قوية بعد حين قال الوالد: لقد أحسنت يا ولدي في إجابة دعوته.

فقال فؤاد: لقد تمسكت مبروكة بي وألحَّت.

فسكت الأب لحظة ثم قال: قليل من الناس مَنْ يعرف هؤلاء على حقيقتهم، إننا يا ولدي نراهم من ظاهرهم ولا نعرف كثيرًا مما في داخلهم.

فقال فؤاد في صوت خافت: لقد عرفت قوية يا أبي.

– قد تكون عرفت منه جانبًا وغاب عنك منه جانب، فإن هؤلاء يجمعون في أنفسهم أشخاصًا أضدادًا، وكلما رأيت هذا الفتى تذكرت سلومة أخاه.

وكانت ملاحظة الأب مفاجأة لفؤاد فقال في شبه صيحة: أهو مثله؟

فأجاب الأب هادئًا: نعم هو مثله، وإن كنت أنت لا ترى الشبه بينهما، لقد عرفت سلومة قبل أن أعرف هذا، كان منه جانب من أنبل طباع البشر، ولكنه كان يمتزج بجانب آخر هو سلومة الذي يتحدث عنه الناس، فهل عرفت يا ولدي من أين أتى قوية بالحمل؟

فقال فؤاد في دهشة: لم أفكر في هذا؟

فقال الأب: أكبر ظني أنه قد سطا على أقرب جار فأخذه.

فتبسم فؤاد كأنه لا يصدق وقال: إذن فأنا شريكه.

فقال الأب: خذه كما هو يا ولدي، وحاول — كما قلت لك من قبل — أن تجعل منه إنسانًا، حاوِلْ ألا تضيق بالشخص الأسفل الذي فيه؛ لكي تظهر منه الشخص الأعلى.

ولقد زادت دهشة فؤاد بعد أيام عندما عرف صدق فراسة أبيه، فإن ذلك الحمل كان حقًّا لأحد جيرانه، فمدَّ إليه يده ليولم به وليمته، ولم يُفَضَّ النزاع الذي ثار بين قوية وجاره إلا أن تدخل الأفندي، فدفع لصاحب الحمل ثمنه.

وبقيت من مدة الصيف أيام، وفؤاد ما يزال يحس في نفسه نزاعًا يكاد لا يفارقه، فكان بين حين وحين يحتجب في الدار نهارًا حتى إذا أقبل الليل قضى صدرًا منه ساهرًا وحده يطلُّ على الحقول الصامتة، تؤنسه موسيقاها الوحشية، وتومض من فوقه النجوم البعيدة التي لا تفصح عن سرها.

ثم مضت تلك الأيام الباقية واستعدَّ فؤاد للسفر وودَّع أبويه كما ودَّع العزبة وأهلها وكل أركانها.

وركب إلى المحطة آخر الأمر عائدًا إلى القاهرة؛ كي يستأنف دراسته في عامها الأخير.

وسار قوية وراءه يودِّعه مع ثلاثة من الفلاحين يحملون حقائبه، وكان قوية يسير نشيطًا منشدًا طروبًا، على حين كان فؤاد صامتًا يكاد يكون حزينًا، يتلفَّت حوله إلى الحقول وإلى الكوم والبِرْكة الخضراء.

ولما مرَّ بحقل تعويضة قامت تجري نحوه وهي تصيح: مع السلامة يا حاج فؤاد.

فخفق قلبه وهو يجيب: الله يسلمك، ولا تنسي أن تسلمي على رحومة.

فقالت تعويضة: يصل يا سيدي، ولو علم أنك مبكر بالسفر لما تأخَّر عن وداعك.

فصاح قوية: هو مشغول بنومة الصباح.

فصاحت تعويضة: اسكت أنت أيها الخبيث، وترفق في سَوْقِ البغلة.

ومضى فؤاد وهو يسمع صوتها عذبًا من ورائه: مع السلامة يا حاج فؤاد.

واستأنف قوية ثرثرته وغناءه، حتى هَمَّ فؤاد أن يصيح به يسأله أن يمسك، ولما اقترب من المحطة التفت إلى ورائه كأنه يريد أن يتزوَّد بنظرة أخيرة من الريف العزيز.

وجاء القطار وصعد فؤاد بما حمل معه من حقائب وطرود، ومد قوية إليه يده مصافحًا، وكان وجهه طلقًا وعيناه تلمعان بِشْرًا عندما قال: لي عندك رجاء يا سيدي فؤاد.

– يسرني أن أجيبه.

فقال الفتى: تشرفني في ليلة كتابي.

فانفلتت من فؤاد صيحة: كتابك؟

فزادت بسمة الفتى اتساعًا وهو يقول بصوت متهدج: نعم، كتابي على تعويضة.

وتحرك القطار فقال فؤاد: إن شاء الله يا قوية!

ثم أدخل رأسه من النافذة، وارتمى على الأريكة المغبرة، وأخرج منديله فمسح وجهه وخُيِّل إليه أن الجو يتقد حرًّا.

وقضى يوم سفره مع صورة تعويضة، وهو يعجب كيف لم يدرك من قبل أن الفتى سوف يتزوجها، وجعل يجادل نفسه بما شاء من حجج، ولكنها كانت تدفعها في لجاجة التحدي، وعاد إلى القاهرة شاعرًا بأنه فقد خيالًا عزيزًا.

٤

كان حَرُّ القاهرة قد هدأ، وصارت الشمس تطلع في الصباح فاترة تلمع ولا تلذع، والهواء يهبُّ في المساء رطبًا ويسري رفيقًا، والسحب البيضاء تجول في السماء هائمة على رِسْلها.

وما كان أبدع ليالي القاهرة، إذا سطع البدر على مياه نهر النيل كان النور يتناثر على الموج الفائر، كأنه ينعكس على قطع من عقيق، وكان الماء يهتز في جريته رابيًا أحمر اللون زاخرًا يملأ العين جلالًا ويملأ النفس عرفانًا، حقًّا إن مصر هبة من هذا الأب الجليل، وكان فؤاد يخرج كل يوم في ساعة الأصيل إلى شاطئ النهر فيقضي عنده ساعة طويلة يُغرق خواطره في أعماقه، ويطوف بناظره على أمواجه وهو لا يدري سر تلك الهزة التي كانت تشمله، كان يحس في صدره جيشانًا يستجيب إلى اصطخاب الأمواج وحيرة تشبه غموض الأعماق، وكانت الحياة تبدو له كأنها لغز تسنح فيه أحيانًا سانحة من الهدى توشك أن تبعث إليه شعاعًا من إدراك حقائق الوجود، ولكنها كانت لا تلبث أن تختفي عنه كأنها ومضة برق في ظلام، فيرتد إلى حيرته وقلقه متلهفًا، على أن تلك الومضة لم تلبث إلا قليلًا ثم خلَّفته وراءها في ظلامه، وكان كلما وقف هناك خطرت له خطرات من ريف النجيلة ومن أيامه فيها وأماسيه في أشهر الصيف، ثم تتمثَّل له صور من هناك: تعويضة وقوية ورحومة ومبروكة، وكل هؤلاء الذين ملئوا عليه الحياة في تلك الشهور، ثم تتمثل له صورة أبيه محلقة فوق هذا الخلق كله كما يحلق النسر فوق قمم الجبال، لقد عرف أباه قبل ذلك الصيف، ولكنه عرفه في تلك الشهور كما لم يعرفه من قبل، ففتح عينيه عليه آخر الأمر فرآه رجلًا وإنسانًا كان يعيش في ريف النجيلة البعيد أمة وحده وسط أمة أخرى يعرف أنه غريب عنها، ولكنه كان يمد يده إليها كما يمد السابح الماهر يده إلى الغريق الذي يكافح الموج إلى جانبه، وكان صدى كلماته ما زال يرن في أذنه، إذ قال عمن حوله من المساكين: «قليل من الناس من يعرف هؤلاء».

وكان يسأل نفسه: أهؤلاء مثلنا ولهم مثل غايتنا من الحياة؟ تعويضة! أكانت لها في الحياة غاية أم هي مثل أزهار الصحراء تنمو ثم تصوح وتفنى في صحرائها؟ ولكنه كان يعود إلى نفسه فيسأل: ما غايتنا جميعًا من الحياة؟

وكان في حيرته ينظر إلى الماء المضطرب كأنه يستوحيه ويغوص في أعماقه المظلمة لعله يجد فيها ما يهديه.

ورأى يومًا في بعض وقفاته عودًا ضئيلًا تتقاذفه الأمواج على سطح الماء، تعلو به ثم تنحدر، وتتجه به إلى اليمين تارة، ثم تلقيه إلى اليسار، ثم إذا دوامة شديدة تجذب العود إليها فتدور به لحظة ثم تبعث به إلى الأعماق، وكان هذا المنظر يشبه وحيًا هبط عليه، فبدا له أن البشر ليسوا في الوجود سوى هَنَة مثل ذلك العود الضئيل، والقضاء يقذف بهم حيث يريد، فهم يأتون إلى الحياة بغير أن يريدوا حياة، وهم يمضون فيها حتى يخرجوا عنها، سواء طالت أيامهم أو قصرت، فإذا حان ذهابهم عنها ذهبوا كما جاءوا إليها قسرًا وأمرًا بغير أن تكون لهم إرادة، فأية غاية تكون لهذا البشر فيها؟

أليسوا يطيعون أمر الحياة أو أمر الفناء؟

هذا ما بدا له في وقفته، فما انصرف عن جانب النهر حتى كان قد وقرت في قلبه عقيدة، وأحس كأن ثقل الحيرة قد ذهب عنه.

فإن أحوال هذه الحياة لا قيمة لها ولا عبرة بها، فلا الفقر ولا الغنى ولا السلطان ولا الضعف ولا شيء من ذلك كله يستحق من الناس لفتة، وإذا كان للناس غاية في هذا الوجود فإنهم جميعًا فيها سواء، إنه الواجب الذي خلق الله له الكائنات جميعًا عندما أمرهم بالوجود، أليست الشجرة تنبت عودًا مثل هدبة الثوب ثم تنمو حتى تكون هيكلًا ضخمًا، ثم تؤتي ثمرتها حينًا وتمضي في سبيلها بعد أن تتمَّ وجودها؟ أليس كل صنف من الحيوان ينشأ علقة ثم مضغة ثم يصير إلى التمام حتى تخبو فورته فيطويه الثرى؟

أليس الوجود في تمامه هو غاية الأحياء، وما ينبغي لصنف منها أن تكون له غاية سوى هذا؟

وقد كان لهذه الوقفات أثرها البالغ في حياة فؤاد، فقد بدلته حتى أحسَّ أصحابه ما اعتراه من تغير، كان من قبل يأنس إلى مجالسهم، ويقضي معهم قطعًا من المساء في سمر صاخب مرح لم يكن يدرك فيه سُخْفًا، فصار يحس في مجالسهم ضيقًا ولا يكاد يجتمع بهم إلا في ساعات المائدة ثم يقضي سائر وقته وحيدًا، وداخله من هذه العزلة ضيق جديد وأحس في نفسه فراغًا ووحشة، فكان يحس أحيانًا حنينًا مبهمًا وأحيانًا يحزن حزنًا خاويًا لا يدري له باعثًا، ويتمنى لو عاد حينًا إلى العزبة لعله يجد فيها لنفسه مراحًا، ولكنه كان لا يلبث أن ينفر من فكرته، فماذا كان في العزبة مما يستراح إليه؟ ألم يقل له قوية إنه سوف يعقد زواجه على تعويضة؟

وبعث ذلك الخاطر فيه ضيقًا آخر وحرجًا، فما الذي يتعلق به في خياله؟ أكان يريد تعويضة أن تكون زوجته؟ يا للسفاهة!

وجاءت عطلة العيد فهَمَّ بأن يعود إلى العزبة ليقضي بها أيامًا، ولكن خطابًا أتى إليه من قوية يدعوه إلى شهود ليلة عقد زواجه فمزَّق الخطاب حانقًا وقضى ليله مسهدًا كئيبًا يلوم نفسه كيف نزلت به حتى يتجرأ مثل هذا الفتى على دعوته في هذه البساطة إلى عرسه؟! وارتدَّت إليه صورة تعويضة الأعرابية في جمالها الوحشي كأنها تكذبه فيما يدَّعيه، ولكنه قضى عطلة العيد بالقاهرة.

ومر به العام مضطرب الفكر حتى كاد ينسى قراءته، وكان كثيرًا ما يخرج إلى الحقول والحدائق المجاورة لمعهده ليقضي فيها ساعاته مُغفِلًا كل دروسه.

وأقبل صيف القاهرة بحَرِّه عنيفًا كعادته كل عام، فكان يكاد يصهر الهواء، فلا يجد فؤاد لدروسه فرصة إلا ساعات من الليل إذا ما هدأ الحر وهبَّت من النسيم هبَّات كان يتلقَّاها كما يتلقَّى الظمآن جرعات من الماء.

ولما فرغ من امتحانه بعث إلى أبيه معتذرًا من تأخير السفر إليه، إذ كان يريد قضاء أيام في الإسكندرية، وعزم على أن يهرب إلى ذلك الشاطئ، يحاول أن ينسى عنده ما مر به من سخافات.

وكان اليوم الذي بلغ فيه الإسكندرية من الأيام الهادئة الهواء التي يتجلى فيها البحر كأنه مرآة، وتنفَّس من أنفاس البحر فملأ صدره منه وانفرجت قبضته لمنظر الأفق الأزرق الفسيح، وسار على الشاطئ الذهبي فوق رمال سيدي بشر، فكانت أشعة الأصيل تنساب مائلة كأنها ذهب من فوق ذهب، وكان من حوله عالم مرح يموج ويسعى كما يسعى النمل حول عشه، يلتقي حينًا ويفترق حينًا ويتدافع ويتجاذب في رفق كأن الحياة قد خلت من همومها.

ومر بالجموع تجلس في حلقات تحت مظلات زاهية الألوان أو في مقاصير أنيقة من الخشب يتسامر بعضها همسًا ويتواثب بعضها إلى أحضان الموج في صخب، ولم يخْلُ الشاطئ من مثله، إذ يسير وحيدًا تقع عينه على الأشخاص ولا تكاد تبصرها، كان كل ما على الشاطئ يبدو مثل أشباح تسبح حول عالم عنيف يثور في داخله، وكان يقلِّب بصره على صفحة البحر الزرقاء أو في الجموع المتزاحمة، وهو لا يقف عند شيء منها. ألا ما كان أرفق لون السماء وألطف مس النسيم وأطيب تلك الرائحة التي تنبعث من أعشاب البحر. وملأ صدره من تلك الرائحة كما كان يفعل إذ هو تلميذ بالمدرسة الثانوية، ليخرج كل أسبوع مع بعض أصدقائه ليمرح على مثل هذا الشاطئ.

ودبَّ إلى نفسه شعور لم يدر كيف يصفه، فما هو شعور القلب السعيد الذي كان يتمتع، وما هو شعور المحروم الذي يتحرَّق، بل هو أقرب إلى أن يكون مواساة لمن حوله أو استجابة إلى نبضات الذين يستمتعون بالحياة، أهي عدوى من الإنسانية الطروب تدخل إلى قلبه المكتئب؟ أم ذلك أثر زرقة السماء وصفاء البحر ودعة النسيم ومس الأشعة الهادئة المتدفقة على هينتها؟ كان كل ذلك جديرًا بأن يهدهد من عنفه وأن يُذْهِبَ عنه كآبته، وما كان أعظم الفرق بين هذا الشاطئ وبين طرق القاهرة التي كانت تصهر الصدور بأنفاسها.

وودَّ لو أقبل عليه بعض هؤلاء اللاهين فوق الرمال فتحدثوا إليه وأباحوا له أن ينطلق معهم متحدثًا، فإن خواطره تزاحمت في صدره فأضاقته وثقلت عليه حتى تمنَّى لو وجد أذنًا عاطفة تستمع إليه، وخطرت له صورة صديق قديم كان يسير معه منذ سنين طويلة إذ هما تلميذان في المدرسة الثانوية، ولم يدر ما الذي بعث إليه صورته في تلك الساعة، فقد لمعت له فجأة مثل الشعاع الذي يخطف إذا انعكس على مرآة، كان صديقه سعيد يخرج معه في نهاية كل أسبوع إلى مثل هذا الشاطئ فيمرحان معًا فوق صخوره أو رماله، وكانا يقفان معًا يملآن صدريهما من نسيم البحر العبق برائحة الأعشاب التي تفوح في شمه عند ذلك، وكانا ينظران إلى الشمس إذ تلمس سطح الماء عند الغروب، فيُخَيَّل إليهما أنهما يسمعان لها نشيشًا، ثم فرَّقت الأيام بينهما فلم يره فؤاد منذ سنوات وتمنَّى لو رأى ذلك الصديق في ذلك اليوم، فقد كان يجد فيه — بغير شك — أذنًا تصغي إليه وقلبًا يتدفَّق في الحديث معه.

وكانت العيون تتطلع إليه إذا مر بها ثم تلتفت عنه فلا يبقى لحظة في خاطرها، إنها عوالم مغلقة دونه لا يستطيع أن يطرق بابها.

وسمع في تلك اللحظة صوتًا يناديه باسمه فتلفَّت في فتور كأنه يفيق من حلم، أيعرفه أحد في هذا الخلق المتزاحم الذي يجوس خلاله بعيدًا وحيدًا؟! ورأى وجهًا باسمًا يُقْبِل نحوه، يتقلَّع صاحبه من الرمل مسرعًا، ومرت لحظة قبل أن تزول سحابة الغموض عن بصره، فرأى صديقه القديم الذي خطرت له صورته منذ لحظات، أهي نجوى الأرواح كما يقولون؟

وفتح فؤاد ذراعيه ليحيى صديقه قائلًا في حماسة: إنها لساعة سعيدة!

فقال سعيد وهو يصافحه: لقد خطرت لي صورتك منذ قليل.

فصاح فؤاد: كما خطرت لي صورتك منذ دقائق.

فقال سعيد: إنها آية للعلماء، لو كان يؤمن العلماء بالأرواح.

ومالا على أحد منازه الشاطئ في اتفاق صامت، فاتخذا فيه مجلسهما.

٥

كان سعيد مع فؤاد في أيام الدراسة الثانوية لا يكادان يفترقان، ولكنهما — على ما كان بينهما من ألفة — ضدان في الطباع، كان فؤاد وثابًا على حين كان صاحبه هادئًا، وكان يُقْبِل على دروسه في شغف وتقديس حين كان سعيد يتلقاها فاترًا كأنها قضاء لا بد من الخضوع له، فكان سعيد إذا ضاق بشيء من ألغاز الجبر أو الهندسة خفَّ إليه فؤاد كأنه أستاذه يبصره بما غاب عنه ويعجب كيف خفي ذلك عليه، وكانا يختلفان في هيئتهما مثل اختلافهما في طباعهما، فقد كان فؤاد قصيرًا لا يعبأ أن يكون أنيقًا، وكان يحب اللعب والحركة، فإذا لم يجد كرة يلاعب أصحابه بها صنع كرة من جورب أو عمد إلى قطعة مستديرة من الحجر كأنها كرة، وأما سعيد فقد كان طويلًا نحيفًا يتأنق في ملبسه ولا يميل إلى شيء من العنف في حركة، ولكنه كان إذا وقع بصره على منظر جميل وقف أمامه يتأمَّله في خشوع كأنه يؤدي صلاة، وكان فؤاد يعابثه عند ذلك متهكمًا فلا يزيد سعيد على أن يقول له: ليتك ترى ما أراه.

فلما فرغ سعيد من دراسته الثانوية اتجه إلى الفن، فقضى عامًا بمدرسة الفنون الجميلة العليا، ثم سافر إلى إيطاليا فقضى بها ثلاث سنوات عاكفًا على دراسة الفنون في شغف حتى عاد منها في الشتاء السابق، ولم يكن فؤاد يعرف من أنبائه في تلك السنوات إلا قليلًا مما يبلغه عنه من بعض أقربائه، فقد كان سعيد لا يطيق أن يستقر للكتابة، حتى كان أهله أحيانًا يحسون عليه قلقًا من انقطاع رسائله.

فلما استوى المجلس بهما قال فؤاد: لقد ردَّني صوتك من عالم بعيد إلى عالم آخر بعيد، كنت أضرب في خواطر هائمة على الأفق فأعدتني إلى أفق آخر غاب عني من سنين.

وأخذا يتذاكران أيامهما الأولى التي بَدَتْ لهما هادئة سعيدة إذ خلع عليها البعد غِلالة حجبت همومها الصغيرة، واستمر الحديث بينهما متدفقًا فيما قرب وما بَعُدَ حتى مالت الشمس إلى الغروب، فنَظَرَا نحوها في صمت يرقبان قرصها الأحمر وهو يتطاول نحو البحر حتى انغمس فيه، فقال سعيد ضاحكًا: ألا تسمع نشيش الماء؟

فأجابه فؤاد في ضحكة مثلها: إنه سؤالك القديم، وهو يذكرني بوقفاتنا على هذا الشاطئ منذ سنين، ولقد كنت منذ صباك فنانًا، أرضيت عن حياتك يا سعيد؟

فقال سعيد هادئًا: أظن ذلك.

ونظر فؤاد إلى وجهه الذي عرفه فوجده كما كان وديعًا نبيلًا، واستمر سعيد بعد لحظة قائلًا: وأنت؟

فهز فؤاد رأسه قائلًا: لست أدري، لقد طالما سألت نفسي هذا السؤال فلم أستطع جوابًا.

فقال سعيد: هذا سؤال لم يخطر لي.

فأجاب فؤاد: ليته لم يخطر لي، إذن لكنت مثلك راضيًا.

فقال سعيد: ولِمَ لا نأخذ الحياة كما نجدها؟

فقال فؤاد: حبذا لو استطعت، ألم تسأل نفسك عن غاية هذه الحياة؟

فضحك سعيد هادئًا وقال: وهل يقدمنا ذلك التساؤل خطوة نحو الرضى؟ أعرفت أنت غايتها؟

فقال فؤاد وهو يهز رأسه: خُيِّل إليَّ حينًا أنني وجدت جوابًا على سؤالي، ولكن …

فقال سعيد عاطفًا: ألا يكفينا أن نحياها كما تتهيأ لنا؟ إننا نطل عليها من حيث نكون وهي تبدو لنا كما نصورها لأنفسنا.

فقال فؤاد: أليس هذا خداعًا لعقولنا؟

فضحك سعيد ضحكة هادئة وقال: وأين الحقيقة التي نخادع أنفسنا عنها؟ كنت أنظر الآن إلى منظر الشمس إذ تميل نحو الماء وتصبغ السحب بألوانها الخلابة، وأقنع من كل ذلك بما يقع عليه بصري، ولو تعمَّقت المنظر لأعرف ما وراءه من الحقيقة لما أصبت من ذلك إلا أن أفسد على نفسي متعتها.

وكان الشاطئ قد أخذ يخلو من جموعه فأجال فؤاد بصره فيه ثم قال: لقد خلا هذا الشاطئ ممن كانوا فيه منذ ساعة، وكاد رمله يصير صحراء بعد ذهابهم، ألم تكن كل تلك الرؤى وهمًا؟

فقال سعيد: ولكن الذين كانوا هنا قد أخذوا من الحياة ما جادت عليهم به، ولم يقفوا ليسألوا أنفسهم عن غايتها.

فقال فؤاد في ارتياح: لقد بَعُدَ العهد على سماع آرائك وأنا مشوق إلى استعادة ما كنت أحسه عند سماعها، لم أَنْسَ بعدُ كيف كنت أقف بك على قنطرة الطريق الحديدي ونحن عائدان من نزهتنا، فأعكر عليك صفو اليوم بمحاسبتي عما أضعنا فيه يومنا، ولكنك كنت دائمًا تنتصر وتتغلَّب ببشرك وصفائك على مجادلتي.

فقال سعيد: هذه مجاملة لا أظنني جديرًا بها، قد يكون ما تراه مني أثرًا من آثار قصوري، فأنا لا أطيق أن أغوص إلى ما هو أبعد مما يقع عليه حسي، أما تذكُر كيف كنت أصيح بك «لقد أفسدت علينا نزهة يومنا؟»

فقال فؤاد في رنة من الحزن: وها أنا ذا أحاول أن أفسد على نفسي ما أحسه من سرور بلقائك يا سعيد، حدِّثني عن نفسك ودعني أحدثك عن نفسي.

فعاد سعيد يقص عليه بعض أنبائه منذ غاب عنه، وفؤاد يبادله الحديث بطرف مما عنده، وكان الظلام قد هبط على البحر وهبَّت الريح شديدة، فاضطربت الأمواج سوداء ثائرة، فقال فؤاد: أظنني أخذت من وقتك أكثر مما ينبغي لي؟

فقال سعيد: بل أحسب أنني لم آخذ من وقتك ما يقنعني، ألا تحب أن تقضي سائر الليلة معي؟

فنظر فؤاد إليه مترددًا فبادر سعيد قائلًا: إني أقيم في مرسمي وهو في حديقة الدار، فلن تزعج بزيارتك أحدًا غيري.

فابتسم فؤاد قائلًا: كما تعودت أن أزعجك قديمًا.

وقاما يسيران على طريق الكورنيش يتذكران ما طرأ على ذلك الشاطئ من تغيير في مدة سنوات قليلة، وكانت الدار على ربوة يصعد إليها الطريق مدرجًا من محطة السراي، ومن حولها حديقة بديعة التنسيق يتخذ سعيد مرسمه في بناء بجانب منعزل منها.

وكان منظر الحديقة في الليل رائعًا بين سطوح مطمئنة من العشب وأشجار باسقة من حولها أحواض من شجيرات مزدهرة، وكانت أركانها تلوح في الظلام بعيدة يخترقها شعاع من ضوء مصباح خافت يزيدها غموضًا.

فقال فؤاد معجبًا: إنها حديقة فنان.

فأخذ سعيد يتحدَّث إليه وهما يتجهان نحو المرسم عن أركانها الظليلة في الليالي القمراء.

ولما دخل الصاحبان إلى المرسم اقتسما عشاءً خفيفًا كان على مائدة في مدخله، ثم جلسا يتحدثان في غرفة المكتب المجاورة.

وقال سعيد بعد حين: ألا تحب أن تلقي نظرة على مرسمي؟

ولم ينتظر من صاحبه جوابًا فسار إلى بهو فسيح، وأضاء أنواره وتبعه فؤاد، فكأنه دخل إلى عالم جديد، كان البهو مزدحمًا بما فيه من صور بعضها صغير معلَّق على الجدران وبعضها قائم على حوامل من الخشب في غير نظام، وهي مناظر شتى كأن الحياة الزاخرة اجتمعت فيها، ورأى فؤاد في صدر البهو إطارًا كبيرًا فيه صورة تتقد بألوانها تحت الأضواء الهادئة، فاتجه أول شيء إليها ووقف أمامها ثابتًا، كانت صورة زنجي متسول ممن يحملون تلك القيثارة الساذجة ذات السلوك الجشاء، وكان يلبس ثيابًا مهلهلة وفي وسطه حزام عُلِّقت به عناقيد من ودع وأسنان حيوان وخرز، وكان واقفًا في قطعة من صحراء جرداء ليس فيها عود ولا حياة، وكانت أشعة الشمس تقع على رأسه العارية وظله رابض تحت قدميه، وكانت ألوان الصورة تتوهَّج حمرة وصفرة تنتهي إلى حواف قاتمة كأنها لهيب ينبعث منه دخان.

ولكن الزنجي المتسول كان يرقص مرحًا واقفًا على ساق واثبًا بالأخرى يضرب بيده على قيثارته الساذجة، ووجهه الممتلئ قوة يفيض بالبِشْر والسعادة.

وكان سعيد واقفًا إلى جانبه يتأمَّل الصورة صامتًا، فلما طالت وقفة فؤاد أمام الصورة، فقال له سعيد: أقد أعجبتك؟

فقال فؤاد في حماسة: إنها مدهشة!

فتبسم سعيد مرتاحًا وقال: إنها أعز لوحاتي عليَّ.

وأجاب فؤاد: أظنك قد جمعت فيها كل فلسفتك. إن السعادة ليست وقفًا على مَنْ نحسبهم السعداء.

فرفع سعيد يده ضاحكًا وقال: أرجوك يا صديقي، لا تذكر الفلسفة إذا تحدثت عني، فأنا أبعد هذا الخلق عنها، إن الفلسفة والعلم كلاهما يفكر ويتعثر، وأما أنا فحسبي أن أحس.

فقال فؤاد جادًّا: إذن لقد وضعت فيها كل قلبك.

فأجاب سعيد باسمًا: أما هذا فنعم، وضعت كل قلبي في هذه الصورة مرة حتى كان يُخَيَّل إليَّ أنني أعيش فيها.

فضحك فؤاد قائلًا: إذن فأنت كامن في طي هذا الزنجي.

فأجاب سعيد: بل أنا هو يا فؤاد، كما أنني كل هذا الذي تراه هنا، فضحك فؤاد وهو ينظر نحو منظر ريفي.

فقال سعيد باسمًا: وهذا أيضًا يا فؤاد، لا تخش أن تقول ما جال في نفسك، أنا كذلك في هذا الثور الذي تراه هناك هادئًا يضطجع مجترًّا، انظر إلى هذه الصورة، وأشار إلى يساره.

فنظر فؤاد إلى صورة جميلة من الشوك تطلُّ من بين أشواكها أزهار باسمة ناضرة لها ألوان لا يشبهها في روعتها شيء مما تقع عليه العين في البساتين الضاحكة.

ووقف فؤاد أمامها مشدوهًا.

فقال سعيد في نغمة رضى: أزهار الشوك يا فؤاد!

وتمتم فؤاد قائلًا في غير وعي: أزهار الشوك!

وأخذ يتأملها بقلب واجف وهو يذكر داره القديمة العزيزة في النجيلة والكوم والفتاة البدوية ذات الجمال الوحشي تعويضة.

فقال سعيد: أأعجبتك هذه أيضًا؟ إنها قطعة من الطبيعة الصامتة قلَّما يعبأ أحد بمثلها.

فقال فؤاد في رنَّة تشبه الحزن: بل هي قطعة من الإنسانية، ألا تسميها البدوية الحسناء؟

فصاح سعيد: أحسنت التسمية، إن ذلك الاسم لم يخطر ببالي، ولكنها تشبهها إذ تتبرَّج ضاحكة في ثيابها الفقيرة وأقدامها الحافية الخشنة.

فقال فؤاد في صوت خافت: أرأيت يومًا مثلها؟

ولم ينتظر جوابه والتفت كأنه ينزع عينه من تلك الصورة قسرًا، واتجه إلى صورة أخرى منزوية في ركن إلى جانب صورة الزنجي، كانت صورة فتاة في نحو الثامنة عشرة بيضاء الوجه زرقاء العينين شقراء الشَّعْر، وكان في نظرتها معنى من وداعة وظرف يخالطهما لون من حزن وخوف، وكانت واقفة على قطعة صخرية عالية من شاطئ، وتهمُّ بالنزول إلى صخرة بين الموج، تمسك بجانب ثوبها الأبيض وترفعه في حذر ناظرة إلى ما تحت قدميها، كأنها تخشى أن يصيب الموج حذاءها الأبيض الناعم الدقيق، وكانت الأمواج تضطرب دونها متكسِّرة على صخور الشاطئ في عنف.

وقال فؤاد وهو ينظر إليها: حقًّا إن مثلي ممن ينظرون إلى أعمال الفن من ظاهرها يسيئون إليها إساءة كبرى.

فقال سعيد: ولكنك تنظر إلى الأعماق يا صديقي.

فقال فؤاد: لقد كدت أعيد غلطتي الأولى فأعبر عن هذه اللوحة بلفظي كما فعلت مع صورة الزنجي، كدت أقول: إنك جمعت فيها جانبًا آخر من فلسفتك.

فقال سعيد: ولكنك أحسست مثل إحساسي وتعمَّقت إلى ما هو أبعد منالًا مني، فأنا أحس وأمزج ألواني ولا أحاول أن أحدد ما أحسه في ألفاظ.

فأجاب فؤاد: وأنا أفسد عليك ما تحس بأن أقرأ فيه ما اعتدنا أن نقرأه في صحف الصباح أو المساء.

فقال سعيد: فماذا قرأت هنا؟

فقال فؤاد: أما وقد شئت أن أقتحم عليك عالمك العلوي فإني أرى هذه الصورة تكملة للأخرى، فإذا كان للحياة شاطئان، فصورة الزنجي على شاطئ منهما وهذه على شاطئها الثاني.

فقال سعيد في نفس عميق: لكأنك كنت في نفسي، حقًّا أنها تكملة الصورة الأخرى، كان هذا المعنى غامضًا في أعماق حسي حتى جلوته أنت في ألفاظك القليلة، أأقول: إننا معاشر أهل الفن نقنع بالإحساس الصامت لأننا نعجز عن خلق اللفظ الناطق؟

فضحك فؤاد قائلًا: لو كنت من أهل الأدب لمددت إليك يدي مصافحًا، ولكني أوثر أن يبقى فنك صامتًا، وخير لنا أن يبقى الفن مطلقًا مبهمًا من أن نحاول أن نحدده بألفاظنا.

ثم حوَّل بصره إلى البهو الفسيح وفيه عشرات أخرى من لوحات بين صور من جوامد وأخرى من الأحياء، وبين مناظر من الريف وأخرى من الصحراء أو شواطئ البحر.

ثم قال لصاحبه: إن هذا عالم لا نجرؤ على أن نطلع عليه في مثل هذه اللمحة العابرة.

ثم عاد إلى صورة الفتاة قائلًا: مَنْ هذه يا سعيد؟

فمد سعيد إليه ذراعه وقال له ضاحكًا: أما تكفيك صورتها؟

ثم جذبه عائدًا به إلى غرفة مكتبه.

وخجل فؤاد من فضوله على ما كان بينه وبين سعيد من المودة القديمة، وخُيِّل إليه أنه قد اقتحم عليه بهذا السؤال سرًّا، وأدرك سعيد من هيئة صاحبه أن جوابه قد صدَّه، فقال له باسمًا: لا بأس عليك ولا تذهب بك الظنون مذاهبها، فهذه أختي — أقصد صاحبة الصورة التي سألتني عنها.

فتبسم فؤاد وأسرع إليه شعوره بالارتياح وقال: أحسنت إذ جلوت أمر الصورة لي، فقد كدت أذهب مع ظنوني حيث تسرح بي.

فاستأنف سعيد قوله: كنا ليلة نتحدث في الفن فقلت لأختي: إن الفنان يصور ما يراه وليس ما يبدو للأعين أمامه، فهو يترجم الطبيعة ولكنه لا ينقلها نقلًا.

وكانت علية أختي تراجعني وتزعم أنها كبرياء أصحاب الفن هي التي تخيل إليهم أنهم فوق البشر وأنهم يخلقون ويبتدعون، ثم انتهى بها الأمر إلى التحدي فطلبت إليَّ أن أرسم لها صورة لترى هل هي صورتها كما تحسب أو أنها في الحق من خلقي أو ترجمتي.

وذهبنا في اليوم التالي إلى شاطئ البحر، فرسمت تلك الصورة لها.

فقال فؤاد: إذن فأنت لم تأت بشيء من عندك كما قلت لك، إنها واقفة على صخرة والبحر من دونها.

فقال سعيد: ولكنها منذ رأت الصورة آمنت برأيي، فقد كانت لا تحسب أن تلك صورتها.

فقال فؤاد في حماسة: إنها صورة رائعة.

فأجاب سعيد باسمًا: دع هذه الأوصاف يا فؤاد، فإن الألفاظ لا يمكن أن تعبر عن معاني الفن تعبيرًا صحيحًا، ولست أدري ماذا تعني عندما تقول: إن تلك الصورة رائعة.

فقال فؤاد: فكيف تريد أن أصفها؟

فرفع سعيد كتفيه قائلًا: لا أدري، هذه صورة أختي كما رأيتها، ولا يهمني بعد ذلك كيف تصفها ولا كيف يصفها الناس سواك.

فقال فؤاد: وماذا قالت عنها علية؟

فأجاب سعيد: أظن أن إعجابها بي زاد أضعافًا حتى ألحَّت عليَّ أن تكون تلميذة لي، فقد أعجبها ما رأت من ألواني ومن تعبيري وقالت كلامًا كثيرًا لم أفهم منه أكثر مما أفهم من كلامك أنت.

فهي مثلك تستعمل ألفاظًا لا أعرف لها معنى، أما أنا فإني لم أقصد من صورتها أن تكون رائعة ولا أن تكون شائهة، وكان كل ما فعلت أن نظرت إليها ثم انطبع منها أثر في نفسي فصوَّرت هذا الأثر، وكنت في أثناء ذلك لا أكاد أفتح عيني.

فهزَّ فؤاد رأسه في هدوء وقال ضاحكًا: إنني أخاف أن أصف لك ما وقع في نفسي، فأنت تحتقر ألفاظنا معاشر البشر كأنك قد أصبحت خلقة أخرى.

فأجاب سعيد: بل يسرني أن أسمع ما تقول وإن كنت لن أفهمه، ويسرني سماعه لكي أرى كيف يفكر أمثالك من الفلاسفة والعلماء، فقل ما بدا لك لعلك تعلمني شيئًا جديدًا.

وكانت سخريته وديعة أشبه شيء بالتحية.

ومضى فؤاد في حديثه قائلًا: أُلْقِي في روعي عندما رأيت الصورة أن صاحبتها فتاة طيبة هادئة سعيدة، ولكنها مع ذلك تتطلَّع إلى شيء مجهول تحاول أن تجد فيه ما يُدْخِل عليها بعض الحزن أو الألم أو القلق أو كما شئت أن تسميه.

فخبط سعيد بيده على المنضدة في حماسة وقال: إنك تكاد تنطق بما في نفسي مرة أخرى، فتعبر عما عجزت عن التعبير عنه في ألفاظي، ويُخيَّل إليَّ أن العيب فيَّ أنا إذا كنت لا أفهم ما يقوله أمثالك، لم أفكر في هذا كله ولكني أحسسته، وهي حقًّا كما تصفها، هي تعيش في ظل أبيها منعمة هادئة سعيدة، وهي طيبة القلب إلى أبعد ما يكون القلب طيبًا، ولكنها مع ذلك تنظر إلى الحياة نظرة يشوبها الحزن والقلق والألم، وهي تقضي وقتها في المعاونة على بر الضعفاء والمشاركة في خدمة المساكين، فهي عضو من جمعيات خيرية شتى ومؤسسات اجتماعية مختلفة تعود منها كل يوم حزينة، وترى أن ذلك يُدْخِل على قلبها سعادة أكبر من سعادتها بنعمة أبيها.

فقام فؤاد يذرع الغرفة قائلًا: لقد صدقت التعبير عنها في صورتها، فهي — كما قلت لك من قبل — تقف على الشاطئ الآخر من الحياة، تقابلها من بعيد صورة الزنجي المرح.

ومدَّ سعيد يده إلى مكتبه فأخرج منه لفافتَي تبغ سمراوين، وقدَّم واحدة منها إلى صاحبه.

فقال فؤاد وهو يأخذها: لست أدخن ولتكن هذه أول لفافة أدخنها.

ثم أشعل اللفافة ونفخ منها سحابة بيضاء كثيفة ورفع بصره إليها قائلًا: دعني أصوِّر من هذا الدخان لوحاتي.

ومضيا في الحديث إلى أن مضى أكثر الليل.

٦

طالت إقامة فؤاد بالإسكندرية فامتدَّت إلى أسابيع حتى أوشك الشهر أن ينقضي، وكانت أيامًا ملأى في صحبة سعيد وأخته علية، كان يصاحبهما ساعات من النهار أو ساعات من المساء يقضونها على شواطئ البحر أو في المنازة النائية في الأطراف، وكانت علية تهوى التصوير وتصاحب أخاها في كثير من جولاته، فتستمع إليه وترسم أحيانًا مناظر على هداه.

وكانت أحاديثهم تتسرَّب هادئة فلا يحسون للوقت طولًا.

واستعاد فؤاد مودته الأولى لصاحبه فعادا كأنهما لم يفترقا من قبل يومًا، وتوثَّقت مودة جديدة بينه وبين علية، وكان فؤاد كل يوم يرى فيها معنًى جديدًا، كانت علية حسناء بغير شك، بل كانت أبدع من صورتها حسنًا، ولكن شيئًا غامضًا كان يفرق بينها وبين صورتها، وكثيرًا ما حاول فؤاد أن يكشف عن ذلك الفرق الغامض فكان يُرْهِف سمعه وبصره لكل حركة منها، بل لقد كانت صورتها تبقى في ذهنه بعد أن يخلو لنفسه فيمضي في تأملها، لقد خلق سعيد في صورتها راهبة وديعة تكاد عيناها تنمَّان عن عزوف عن الحياة، على حين كانت علية فتاة طروبًا مرحة تملؤها الحياة، حقًّا كانت تحب أن تشارك في مؤسسات الخير وتعاون على أعمال البر، ولكنها كانت تفعل ذلك وهي شاعرة بأنها قوية تمد يدها إلى الضعفاء، وخُيِّل إلى فؤاد أن الكبرياء هي التي تحركها، وكانت كبرياؤها صنفًا يختلف في لونه عما اعتاد الناس أن يصفوا به المتكبرين، وكانت تحس كأنها تحلِّق عالية فلا يضيرها أن تمدَّ يدها إلى مَنْ هم في أدنى الأفق وهي لا تخلو من شعور بالزهو، وكان يُطربها أن ينظر إليها للناس إذ هي تتنازل بمد يدها.

ولَكَمْ خلا فؤاد إلى نفسه فحدثها عن علية الحية التي قضى اليوم معها، وكان يحس تعلقًا بها يزداد يومًا بعد يوم، وود لو استطاع أن ينظر إلى الحياة كما تنظر هي إليها.

وكان يخيل إليه أحيانًا أنها تحس بنفسها وتعرف مقدار حسنها، فكان فيها نوع من العُجْب يحملها على شيء من التكلف يقلل من بهجة حسنها، وكثيرًا ما كان يقرن صورتها بصورة تعويضة الأعرابية التي كانت لا تعرف الغرور ولا العُجْب ولا الزهو، ولكنه كان لا يلبث أن يعود من الموازنة بينهما نافرًا حانقًا يكاد يحس أنه قد ارتكب جرمًا، أكان ينبغي له أن يُقرن صورة هذه الحسناء المنعمة المثقفة بصورة البدوية التي لا تستطيع أن تستمرَّ في حديثها إلى ما بعد التحية والابتسامة؟! كانت تعويضة كالقطة البرية إذا غاضبها أحد من قومها، ولكن هذه الفتاة الوديعة كانت لا تعرف كيف تغضب، بل كانت لا تعرف أن الحياة قد تسوقها إلى ما يثير غضبها.

وكانوا يخرجون أحيانًا إلى ظاهر المدينة فإذا بلغوا ريفًا خاليًا وقف سعيد يجمع في عينيه المناظر، ووقف فؤاد مع علية ينظران إليه يتفكهان برؤيته، أو يتجهان إليه ببعض ألفاظ التهكم الرفيق، وكانا يجدان في هذه الأوقات فرصة يتبادلان فيها الأحاديث، وكانت علية واسعة القراءة في الفرنسية تعرف الكثير من بدائع أدبها القديم والحديث، وكان فؤاد يخجل إذ لا يستطيع أن يردَّ عليها بشيء من قراءاته سوى أن يتحدَّث إليها عن شيء من القانون أو ما يتصل به إذا عَرَضَ ذكر من ذلك في الحديث، فقنع معها بأن يستمع ويعجب باختيارها لما تقتبس من ذلك الأدب، وكان هذا يَمْلَق زهوها ويُرضيها، ووقف سعيد يومًا على عادته ينظر إلى الأفق وهم وقوف على رابية في حدود صحراء مريوط، فجعل يشير بيده إلى تعاريج الشاطئ وإلى تضاريس الصخر، وما على البحر والبر من ألوان حتى لقد كان يرى للهواء في كل صوب لونًا فكأنه وقف يَطَّلِع على العالم من نافذة لا يطلُّ سواه منها.

فقال له فؤاد: أتعرف كيف أراك يا سعيد؟

فنظر إليه سعيد ضاحكًا وقال: هل أصبحت فنانًا؟

فصاحت علية: وهل تريد أن يقتصر الفن عليك؟ سأرسم لهذا الساحل صورة تجعلني من الخالدين.

ثم ضحكت قائلة: أليس هذا الخلود هو مطمع أهل الفنون؟

فأجابها سعيد: أهكذا يليق أن تتحدَّث التلميذة إلى أستاذها؟

ثم التفت إلى فؤاد قائلًا: أحب أن أعرف كيف تراني؟

فقال فؤاد: كأني بك أحد كهنة القدماء.

فضحكت علية وقد أعجبها التشبيه وقالت: هكذا صورة الراهب في تاييس.

فقال فؤاد: هكذا كان الكاهن القديم يقف فيقول للناس: إني أرى الإله، فيقول المساكين: هذا هو، وإن لم يروا شيئًا.

فقال سعيد: ولكني أرى إلهي حقًّا، ولا عيب عليَّ إذا كانت العيون لا تراه، فأنا أبصر هذا الوجود ألوانًا وأشكالًا، وإن كنت تأبى عليَّ إلا أن أراها أشياء وأشخاصًا.

فقالت علية: أحسنت يا سعيد، وأظنك قرأت أناتول فرانس.

فقال سعيد في بساطة: لم أقرأ منه حرفًا.

وضحك فؤاد وعلية، ولكن فؤاد كان يخشى أن تتجه إليه فتحدثه عن قصة الأديب الكبير الفرنسي، وتسأله هل قرأها، وشعر بالنجاة عندما أخذت هي تتحدث وتصف كيف كان أناتول يُقَرِّع الإدراك الإنساني على غروره وقصوره.

وأحس فؤاد في ذلك اليوم وهو عائد إلى المدينة أنه قضى يومًا من الأيام التي لن تزول صورتها من الذاكرة، كانت ساعاته من اللحظات الموسيقية التي تمر عابرة فلا تعود، ثم تترك وراءها أصداء حلوة مطربة تتردَّد إلى الأبد في الأسماع.

ولما نزلوا عند البيت استندت علية بيدها على ذراع فؤاد حتى دخلوا إلى المرسم، وأعدَّت في ذلك المساء مائدة الشاي بيديها، وقد كان لذلك الشاي — بعد جهد اليوم — طعم لا يشبه طعم أي شاي ذاقه من قبل!

وجاء إلى فؤاد كتاب من أبيه يدعوه إلى الذهاب عنده فلم يجد بُدًّا من طاعته بعد أن انقضى شهر عليه في الإسكندرية، وكان لا بد له من أن ينظر في أمر مستقبله ويستشير فيه والده بعد أن ظهرت نتيجة الامتحان، وما كان أشد عجبه إذ عرف أنه نجح وكان سابقًا، فاستأذن صاحبه كما استأذن علية، ووقعت كلماتها على سمعه عذبة عندما قالت له: لا تنس أن تزورنا.

•••

واحتفلت القرية بمقدم فؤاد فلقيته عند عودته إليها بما لم تلقه به من قبل، وازدحمت الدار أيامًا بمن وفد عليها من القرى المجاورة، وكان نساء العزبة يجتمعن كل ليلة في فضاء الجرن يغنين ويزغردن كأنهن يحيين عرسًا.

وجاء إليه قوية بعد ثلاثة أيام، وكان لم يره منذ يوم وصوله إلا مرة عندما سلَّم عليه في صحن الدار مع الجموع الوافدة.

فقال له الفتى: سيكون عقدي بعد غد يا سيدي.

فقال فؤاد في شبه صيحة: أوَلَمْ تعقد بعدُ يا قوية؟

فقال الفتى خَجِلًا: وهل كنا لنعقد وأنت غائب عنا؟

فوقعت كلمته في قلبه، ونظر إليه حينًا يتأمل بناءه القوي ووجهه الصريح ومدَّ إليه يده قائلًا: مبروك يا قوية.

وقال كلمته بملء قلبه، فقد أحس نوعًا جديدًا من السعادة أن يرى ذلك الصديق الوفي سعيدًا.

ثم قال له: وأين تعويضة؟

فقال الفتى باسمًا: تعد ثوب عرسها.

وعجب فؤاد إذ أحس عند ذلك هزة من سرور أخرى، كأن ما في قلب الفتى قد انتقل إلى قلبه.

وقال باسمًا: فهي إذن لاهية عنا.

فضحك قوية قائلًا: وكيف تلهو عنك يا سيدي؟ لقد كانت طول هذا الشهر تسألني متى تأتي.

فقال فؤاد عاطفًا: أبلغها تحيتي.

وتصورها عند ذلك واقفة إلى جانب علية الحسناء المنعمة، ألا ما أبعد الفرق بينهما! ولكن تعويضة كانت مع ذلك حسناء مثل زهرة الشوك في البرية، وحسبه منها أن ينظر إلى حسنها وأن يشفق على أنها سوف تذبل نضرتها في صحرائها، ثم تصوح وتذوي بغير أن تقع عين عليها.

وقال فؤاد لقوية بعد لحظة صمت: سأكون أحد الشهود في عقدكما، بارك الله لكما.

ومضى عنه الفتى شاكرًا، وبقي هو حينًا ينظر إلى نفسه كيف تبدَّلت! أكان هذا الذي شعر به نحو تعويضة من قبل أثرًا من آثار الوهم أو الفراغ؟ أكان نتيجة لجهده المتصل وانطوائه على نفسه؟ أكان في ظلمة ثم خرج إلى النور منذ رأى علية؟

مهما يكن من أمره فقد أحس سعادتين: إحداهما كلما تذكَّر علية المنعمة الحسناء على شاطئ الإسكندرية، والأخرى كلما تذكَّر أن تعويضة سوف تسعد بعد غد في ليلة زفافها.

واجتمعت القرية تلك الليلة في الفضاء الفسيح يحفُّ بهم النخيل من جانب وسفح الكوم الكفري من جانب، وكان القمر يزهر في سماء الخريف في وشي من سحب بيض تتهادى على رسلها، فتحجب نوره بين حين وحين، ووُضِعَت ثلاثة من المصابيح في فوانيسها الزجاجية الكبيرة في وسط حلقة صاخبة من نساء ورجال وأطفال يتصايحون ويتنادون لكي يروا رقصة تعويضة في الصابية، وأخذت الحلقة تضرب بأكفها ودخلت تعويضة في وسط الحلقة تخطر في ثوبها الجديد.

وجلس فؤاد على كرسي فكان موضعه صدر الحلقة، وجلست مبروكة تحت قدميه عن يمينه، ووقف قوية إلى اليسار وبدأت تعويضة رقصتها وانطلق قوية منشدًا:

صغير غادي في النوار
منور مثله وعوده زين

وكانت ضربات الأكف تساير وزن النشيد سريعة وثابة، وتعويضة لا تكاد تمس الأرض بأطراف قدميها تدور وتثب وتميل برأسها، وضفائرها الطويلة السوداء تضطرب على صدرها وكتفيها كأنها لفائف من حرير غزير.

وودَّ فؤاد لو كانت علية وسعيد إلى جانبه في تلك الليلة يريان معه ما يرى ويشاركانه ما يتمتع به من سعادة، وكان يُخَيَّل إليه عند ذلك أن الحياة كلها تبتسم للحلقة المتواضعة السعيدة التي تزأط وتضطرب تحت عينيه، فلو كانت علية هناك لما ترددت في أن تصوِّر لهؤلاء صورة تعرضها على أستاذها وأخيها لعلها تفوز برضائه عن مقدرتها، ولو كان سعيد هناك لأوحى إليه المنظر صورة عجيبة لا تخطر لأحد ببال، كان من الممكن أن يصور الراقصة البدوية أو السيد الجالس أو قوية المنشد أو المصابيح في وسط الحلقة، أو أن يصور شيئًا غير هذا كله ليودع ما ثار في نفسه من أثر ذلك المنظر العجيب.

ولو كانت علية هناك لجلست معه في الحلقة تنظر إلى هؤلاء القرويين الذين يمرحون في أسمالهم، وتمد إليهم يدها من أفقها العالي ناظرة حولها تنتظر لفتات الثناء والشكر على تنازلها، ولما انفضَّ السامر ذهب فؤاد مع قوية إلى داره التي اتخذها مسكنًا في جانب من العزبة بدل الخيمة التي كان يقيم بها في جانب الكوم، وأخذ فؤاد معه هدايا كان أبوه قد أعدَّها له من ذبائح تُنْحَر في الليلة التالية، ومن ثياب لتعويضة تضعها على كتفيها أو تلبسها في قدميها في ليلة زفافها المقبلة، ولم ينس الوالد أن يبعث إلى مبروكة ثوبًا أسود فضفاضًا وملاءة وطرحة ونعلًا أصفر من جلد لين لامع.

وأحس فؤاد إذ هو عائد إلى داره أن قلبه يفيض سلامًا وحبًّا، حبًّا لم يعرفه قبل تلك الليلة، فيه مؤاساة وفيه حرارة ومودة، ولكنه مصفى من كل رغبة أو غاية.

وقضى أول الخريف في القرية يشاور والده في مستقبله، وكان أبوه يريد له أن يلي عملًا في النيابة، فقد كان هذا أمله الذي كان يرمي إليه، وكانت أمه تحب له الوظيفة ولا ترضى أن يكون محاميًا، وبعث الوالد إلى بعض أصحابه يسأله أن يعينه على أمره، وكان فؤاد يذهب بين حين وحين إلى القاهرة ثم يعود وهو في حيرة لا يدري أي سبيل يختار في الحياة، ولكن أباه كان ثابتًا على رأيه لا يرضى إلا أن يكون ولده وكيلًا للنيابة، فهي الوسيلة إلى المناصب الكبرى وهي أكرم الوظائف في عينه قدرًا.

وأوغل الخريف وشُغِلَ الوالد بجني القطن وجمع الأرز وإعداد الأرض لزرع الشتاء، فكان لا يكاد يفرغ من عمل في ساعة من نهار.

وكان ذلك أول خريف يقضيه فؤاد في العزبة منذ دخل في المدارس، فكان منظر الجو الغائم جديدًا عليه يجد فيه متعة إذ يجول بالحقول تحت قطرات الرذاذ أو بين سحب الضباب.

وكان يومًا يجول جولته تحت سماء غائمة يكاد يدفع سحابها المطأطئ بكفه قائمًا، وكان الهواء يزمجر عاصفًا باردًا كأن بابًا من الزمهرير قد فُتِحَ على السهل الفسيح فجأة، فأسرع حتى بلغ أدنى دار من القرية فدخلها ليجد فيها ظلًّا فاستقبلته صاحبة الدار وأسدلت طرف طرحتها على جانب وجهها، وسلَّمت عليه في غير تكلف، وأسرعت إلى داخل البيت تلتمس له مقعدًا، ثم جاءت له بكرسي صغير من الخشب وارتدَّت داخلة إلى الدار فغابت حينًا حتى عادت تحمل في يمينها إبريق قهوة من معدن سوَّده الهباب، وفي يسارها فنجانًا مكسور الحافة فصبَّت فيه القهوة وتناولها فؤاد شاكرًا، وجاء صاحب الدار بعد قليل يسوق بقرته فلما رأى «فؤاد» ألقى حبل البقرة على ظهرها وأسرع داخلًا يحييه مرحِّبًا، وجلس أمامه عند عتبة الدار، وكان المطر يهوي في الطريق كأنه ينحدر من بزابيز، وأخذا في شيء من الحديث عن عاصفة اليوم وعن حالة الزرع، وكان الرجل يلتفت نحو الحقول في أثناء الحديث وعلى وجهه أثر اللهفة.

فقال فؤاد: أظن المطر قد هدأ قليلًا.

فهز الرجل رأسه في استسلام وقال: أما تراه يتساقط بالقطن إلى الأرض؟

وكان في صوته رنين ألم كأنه يرى فلذة كبده على الأرض طريحًا.

ثم مضى الرجل قائلًا: هكذا نقضي العام كله نحرث ونفلح ونروي ونعزق ثم نكافح الدود ونخرج كل يوم نقلِّب ورق النبات، حتى إذا ما تمَّ نضجه نراه يذهب هكذا في لحظات.

ونظر فؤاد إلى وجه السماء المغبرَّة آسفًا.

وأمسك الرجل عن الحديث فقام يسوق بقرته إلى حظيرتها، وجلس فؤاد وحده يفكر في هذه الطبيعة التي لا تعبأ بهموم البشر، فليس القطن عندها سوى نبت قضى واجبه فبدأ حبة ثم نما عودًا ثم استوى شجيرة وآتى ثمره وبذره فليس له بعد ذلك من مأرب، وأما مآرب الناس فإنها لا تعني سوى هؤلاء الذين يُسِّخرون النبات فيما يجنون منه، هكذا يعيش هؤلاء الذين يجاهدون الطبيعة وهي تترفَّع عن النظر إلى أحدهم، وهكذا يقابلون الحياة قاسية منطلقة في سبيلها.

وعادت إليه صورة من شاطئ البحر ومَنْ رآهم عليه يمرحون في الصيف، أيعرف هؤلاء شيئًا مثل هذا؟ ومع ذلك فهم يتحدَّثون أحيانًا عن الحياة، وإن كانوا يرونها من وراء حجاب.

ولما هدأ المطر سلَّم فؤاد على صاحب الدار وصاح مسلِّمًا على امرأته من وراء الباب، ثم سار في تلافيف القرية في سبيله إلى العزبة من ورائها.

ولما رأى والده بعد ذلك لمح على وجهه أثرًا من كآبة وإن حاول أن يخفيها فلقيه باسمًا، وسأله عما فعل في تلك العاصفة فأخذ فؤاد يحدِّثه عن الدار التي دخلها وعن صاحب الدار وما قاله مستسلمًا.

فقال أبوه: إن مَنْ يسلب هؤلاء إيمانهم واستسلامهم لقضاء الله إنما يتآمر عليهم ليدسَّ إليهم الشقاء.

وصفَّق يطلب الخادم، ثم أمره أن يعدَّ له فنجانًا من القهوة، وأخرج علبة تبغ فلفَّ لفافة منها بيده وأشعلها.

وخُيِّل إلى فؤاد أن وجهه كان شاحبًا.

وكان فؤاد يزيد معرفة بأبيه يومًا بعد يوم، كان من قبل لا يعرف فيه إلا أبًا، ولكن تلك الأيام أظهرته على حقيقة الإنسان فيه.

واستعجله أبوه ليذهب إلى القاهرة فينظر ماذا فعل صاحبه في وساطته، ثم قال له: هذه الأيام ملتقى الطرق في حياتك يا ولدي، فلا تدع نفسك تسير في طريق قد تندم بعدُ على سلوكها.

وذهب فؤاد إلى القاهرة فأقام فيها أسبوعًا يتردَّد بين الوزارة وبين أصدقاء والده لعله يحقِّق لأبيه أمله الذي كان عليه حريصًا، أما هو فقد عادت إليه صورة العود الضئيل الذي كان يضطرب فوق موج النهر الفائر، فلما عرف بعد حين أن الوزارة قد اختارته لمنصب في النيابة لم يكد يحس فرحًا.

ثم جاءت إليه برقية تنبئه بالنبأ الفاجع، لقد توفِّي أبوه!

وأسرع إلى العزبة وهو ذاهل لا يكاد يرى ما حوله من هول المفاجأة حتى بلغ داره فوجد فيها أهل القرية حشودًا كأنما هو الذي جاءهم معزيًا، وكانوا يتلقون وفود القرى ويبادرون إلى الخدمة بغير أن يُدْعَوا إليها، ثم نُقِلَ جثمان الأب إلى القاهرة حيث وُلِدَ ونشأ، ودُفِنَ في جوار أهله الذين سبقوه إلى مضاجعهم في مقبرة الإمام.

ولم يستطع فؤاد أن يدع أمه في العزبة وهو وحيدها، فانتقل بها إلى القاهرة لتكون قريبة من أهلها.

وقضى فؤاد سائر الشتاء في عمله حتى أقبل الربيع، فاستأذن أيامًا ذهب فيها إلى العزبة ليرى ما حدث بها بعد أبيه فأي فرق طرأ عليها؟!

ماذا تبدَّل في حقولها وفي طرقها؟ وماذا اختل في سمائها وهوائها؟ كانت الحقول تبدو له عند ذلك كالحة في خضرتها والسماء كئيبة في زرقتها، حتى قوية وتعويضة ومبروكة ورحومة وكل هؤلاء الذين عرفهم من قبل كانوا يَبْدُون له كأن مطالع وجوههم قد شاهت وتبدَّل أنسها، كانوا يلقونه جميعًا مرحِّبين ويلتفُّون حوله كما كانوا يفعلون من قبل، ولكنهم لم يكونوا هم الذين رآهم وعين أبيه تقع عليهم؛ لأن ذلك الأب كان يخلع عليهم جميعًا من أنسه وبِشْرِه، وكانوا يذكرون الأفندي ويترحَّمون عليه ويقرءون الفاتحة له كلما رأوا ولده، ولكن قلب فؤاد كان لا يحس ما اعتاد من انشراح في حياة أبيه عندما كانت البِرْكة تطالعه باسمة ومن ورائها الكوم والقرية العالية والنخيل.

وجاء إليه رسول وهو هناك يحمل رسالة من إبراهيم ميسور، يعرض عليه شراء العزبة إن كان له أرب في بيعها، وكانت أمه في حزنها على صاحبها العزيز تحسب أن العزبة هي التي أودت به، كانت تحسب أنهم لو كانوا في مدينة لوجدوا فيها إسعاف الطب ولما عزَّ عليهم الشفاء، بل لقد حسبت أن موت صاحبها جريمة هواء القرية ومطرها ووبائها وقذر مياهها، لقد كان صاحبها المسكين أقوى ما يكون صحة وأكثر ما يكون بشرًا، ثم رقد أيامًا وأخذه السعال ليلتين طغت فيهما الحمى عليه كأنها شعلة نار، ثم رأته يخمد قبل أن تفيق من صدمتها الأولى، فلما علمت بما بعث به ميسور أشارت على ولدها أن يبادر إلى التخلص من تلك العزبة التي أصبحت لا تود رؤيتها ولا تحب أن تطأ أرضها بقدميها، فاتفق فؤاد مع ميسور على بيعها، وانقطع بذلك ما كان يربطه بالأرض التي كان له في كل ركن منها ذكرى عزيزة.

٧

كان بيع العزبة صدمة جديدة لقوية وتعويضة وكل مَنْ هناك من أهل القرية بعد الصدمة الأولى التي أصابتهم بموت الأفندي، وكان إبراهيم ميسور — المالك الجديد — معروفًا عندهم جميعًا، فإنه كان أكبر أعيان الإقليم، وتمتد أملاكه ما بين حوش عيسى والنجيلة لا يزاحمه فيها إلا قليل ممن لم يقدر على إزاحتهم من سبيله.

أما الآخرون فقد كانت أرضه تحصرهم في وسطها فما يزال يضيق عليهم مسالك مياه الري أو يسد عليهم مسارب مياه الصرف أو يغري بهم بعض مَنْ يحشدهم حوله من الفُتَّاك حتى يلجئوا إليه يعرضون عليه شراء أرضهم خوف أن تصير بورًا، فلما ملك عزبة الأفندي امتدَّت رهبته إلى الضعفاء الذين يلونها، فقد كانوا يحتمون وراء تلك العزبة؛ إذ كان صاحبها يصدُّ عنهم عادية ميسور، ولكنهم عندما أحسوا عجزهم عن المالك القوي الرهيب لم يجدوا وسيلة للدفاع عن أنفسهم سوى أن ينتموا إليه وينضووا تحت ظله، ويعدوا أنفسهم له تبعًا يدينون له بالولاء.

وما هي إلا شهور حتى كان قد اتخذ من دار الأفندي مسكنًا جديدًا يحلُّ فيه أحيانًا، كأنه جعله معقلًا في جبهة زحف ليغير منه على الجانب الذي يليه، وزاد في الدار جناحًا عاليًا بناه من حجارة ضخمة، وأقام سوره حصينًا بعد أن كان لا يزيد على أعواد من شجيرات خضراء شائكة، وأصبح ذلك البيت الهادئ الوديع يبدو تجاه القرية كأنه حصن منيع.

ووقع في نفس قوية أنه لن يستطيع البقاء في الأرض بعد أن صارت إلى ميسور، كان كلما رآه تذكَّر أخاه سلومة السجين الذي كان في يوم من الأيام أحد أعوانه وأشياعه المقربين، ومن أجله تجرَّأ على عداوة الرجال، وفي سبيل الولاء له اعتدى على كثير من الأبرياء، ثم ما لبث أن ذاق طعم الدماء كما يذوق جرو الأسد دماء أول ضحاياه، فضرى وقسا حتى تحجَّر قلبه وأصبح فاتكًا عابثًا لا يثنيه عن شره شيء من رحمة أو رهبة، بل لقد بلغ به الأمر أن ارتدَّ على صاحبه الذي راضه على الفتك فكشَّر له عن أنيابه مخاشنًا، ولكن ذلك السيد لم يمهله، بل كان مثل الفهد الخفيف الحركة إذا لقي ذئبًا ضاريًا، فبادر إليه قبل أن ينشب فيه أنيابه، فألقى به إلى السجن ليلقى جزاءه على الآثام التي كان هو يبعثه إليها.

ولكن قوية مع ذلك لم يستطع أن يغادر الأرض التي بذر فيها برسيمه وقمحه، وأعدَّ فيها جانبًا لقطنه، فآثر أن يجامل ويصانع ويداري حتى يجني ما زرع، ثم يفكر بعد ذلك فيما يكون؛ ولهذا أقام في أرض يكاد يمقت النظر إليها.

كان يخرج إلى الحقل كل يوم مع زوجته يعملان معًا، ولكنه كان يود لو وثبت الشهور حتى يقبل الخريف مرة أخرى لكي يقطع ما بينه وبين العزبة، وتنكر للقرية والجرن والبِرْكة والنخل، فكاد يُخَيَّل إليه أن كل ذلك قد صار عنه أجنبيًّا منذ صار في حوزة إبراهيم ميسور، ثم قطع نفسه من بناء العزبة بعد أن اتخذ له فيها دارًا ليقيم بها مع زوجته العزيزة، وآثر أن يعود إلى خيمته يعيش فيها كما كان يعيش من قبل، بل لقد بالغ في القطع، فبعد بخيمته إلى الجانب الأقصى من الكوم حتى لا يقع بصره على الدار ذات الأسوار العالية، وكان رضاء مبروكة أم قوية أعظم من رضاء ولدها؛ لأنها كانت تنزوي في كثير من الأوقات في خيمتها وتندب ولدها السجين منذ رأت وجه ميسور يطلع عليها في العزبة.

ولم يعبأ ميسور بشيء مما دار في نفس قوية ولا في نفس أمه المسكينة، فإنه أحلَّ أتباعه في العزبة، وجعل دار قوية مسكنًا للخولي الجديد، وضُرِبَت خيمة أخرى في سفح الكوم مما يلي العزبة وحلَّ فيها خفير آخر بدوي من أتباعه، ومضى السيد في إصلاح الأرض في نشاط وخبرة كأنه يسخر من طريقة الأفندي في الفلاحة والإصلاح.

وكان ميسور معروفًا في أطراف ذلك الريف بأنه خبير في الزراعة إذا وضع يده في موات أحالها إلى جنات وبساتين، فشرع يمهِّد الطرق ويزيل الأكوام ويزرع الشجر على جوانب الجسور، فكانت العزبة تدوِّي بعجيج العمل كل يوم من الصباح إلى المساء، وكان العمال لا يستريحون في ظهيرة، ويبكرون في الغدو ولا يبادرون إلى الرواح في المساء كأنهم يحسون رهبة سوط من ورائهم.

وكانت البِرْكة الفسيحة تفصل بين الحقول والقرية، وهي وإن أكسبت المنظر جمالًا كانت تشغل فدادين عدة ولا تؤتي ثمرة، فبعث ميسور إليها عماله فأهالوا عليها من تراب الكوم في دُءوب كأنهم النمل يخلي عشه في مطالع الربيع.

ثم دفئ الهواء ودبَّت الصفرة في أعواد القمح الخضراء، واشتعلت خضرة البرسيم بنوار أبيض ناصع أو أصفر بهيج، فصارت الحقول من مزيج الألوان كأنها لوحة فنان، وكانت تعويضة تذهب إلى حقلها في الآصال ترعى غنماتها وتقطع من سنابل القمح لتصنع منه فريكًا، على حين كان قوية في شغل من قطنه يعزقه ويرويه ويصابحه ويماسيه كأنه أم تتعهد رضيعًا، فإذا أصبح بَكَرَ إليه يقلِّب أوراقه؛ ليرى هل تركت عليه فراشة الدود «لُطَعًا» من بيضها المخيف، وإذا أمسى ذهب مرة أخرى يقلِّب ورقه؛ ليرى هل خرج وسواسه فآذن أن يزدهر، أو يميل على خطوط البقل والبطيخ ليرى هل أخرج شطأه.

ومر ميسور في أصيل يوم بحقل قوية وكانت تعويضة هناك، فمال عن طريقه يسأل عمن هناك، واستقبلته تعويضة في شيء من الرهبة التي كانت تسبق اسمه إلى القلوب، فلم تبسم ولم تتجهم، بل قامت نحوه عندما ناداها.

وقال لها: ما اسمك يا بنت؟

فقالت في صوت خافت: تعويضة.

فنظر نحوها لحظة ثم قال: اسم غريب لم أسمع مثله، ولكنه اسم حسن.

ومَنْ أبوك؟

فقالت مقتضبة: رحومة.

فقال: ذلك البدوي الخامل؟

فغضبت ولم تجب.

فاستمر وهو يبتسم: أهذا الشيخ أبوك أنت يا تعويضة؟!

وأطرقت تعويضة مرتبكة.

فاقترب منها وقال لها: وكيف لم أرك من قبل؟

فنظرت إليه في شيء من التحدي قائلة: وفيمَ تراني؟

فقال في تودد: أما كان واجبًا عليك أن تعرِّجي علينا؟ ألست مثل فتيات العزبة اللاتي يأتين كل يوم إلينا؟

فقالت في جفاء: ما كنت خادمة.

فقال لها السيد ولم يغضب: ومَنْ قال: إنك خادمة؟ ألست جارتنا؟ أأنت متزوجة؟

فقالت له في شيء من الحنق: نعم.

ونطق عند ذلك أحد أتباعه من ورائه قائلًا: هي امرأة قوية.

فنظر إلى الرجل الذي وراءه قائلًا: قوية! جازاه الله، إنه كذلك لا يزورنا، سلِّمي عليه يا تعويضة.

ثم سار في طريقه ينظر إلى الحقول، ويشير إلى يمينه تارة وإلى يساره تارة، ويلقي أوامره بغير أن يلتفت إلى ورائه، وكان أتباعه يبادرون إلى الإجابة في أصوات عالية فيها رنين الخضوع.

وقصَّت تعويضة على زوجها ما حدث عندما عاد إلى خيمته في المساء، فاستمع إليها صامتًا حتى فرغت فلم يجبها إلا أن قال: أحسنتِ الإجابة.

وقضى سائر المساء ساهمًا.

ولم يكن ذلك آخر عهد تعويضة بالسيد، فإنه كان يمر بحقلها بين يوم ويوم كأنه كان يتعمَّد أن يجعل طريقه من ناحيتها، فإذا رآها وحدها وقف يحدثها ملتمسًا إلى الحديث عللًا، فكان أحيانًا يأمرها أن تؤدي له خدمة تافهة، ويطوي في ثنايا أمره وعدًا بالعطاء، وأمرها يومًا أن تصنع له بعض الفريك فلما أطاعته في ذلك ردَّ لها أضعاف الفريك أرزًا، ورأى يومًا معها (حملًا) من صوف ملون فسألها عمن صنعه، فلما أخبرته أنه من صنع أمها أمرها أن تصنع له مثله ليتخذه كساءً لسرج فرسه، وقال لها: أليست هي التي نسجت للأفندي سرج بغلته؟

فقالت تعويضة: الله يرحم الأفندي!

فأخرج السيد جنيهين ورقًا وقال: خذي هذين لتشتري أمك بهما صوفًا.

فردت تعويضة النقود قائلة: سوف أقول لأمي أولًا ولك أن تدفع ثمن الصوف إليها.

ولكنه أبى وأصر قائلًا: أترفضين ما أعطيك وأنتِ مثل إحدى بناتي؟

وكادت تقذف الورقتين إليه لولا مَنْ كان هناك من أتباعه، فارتبكت وعلاها الخجل وترددت حتى مضى السيد عنها.

وكانت في كل مرة تُفْضِي إلى قوية بحديث السيد وبما تجيبه به، فكان قوية بين حين وآخر يقضي ليلة مسهدة يتقلَّب في فراشه حانقًا.

وبعث السيد إليه ذات صباح من الصيف ليغدو إليه في الدار، وما كاد قوية يسمع الدعوة حتى دقَّ قلبه وانقبض صدره، وخطر له أول شيء أن يُغفل الدعوة متحديًا، ولكنه فكَّر فيما قد يجرُّه ذلك عليه، وكان كل همِّه أن يداري السيد حتى يقطع ما بينه وبينه في الخريف إذا ما جنى ثمرة قطنه.

وذهب إلى أمه حائرًا فقصَّ عليها قصة الرجل، وصمتت أمه لا تجيب حينًا حتى حسب أنها لا ترى في الأمر رأيًا.

ثم قالت له في صوت خافت: اذهب إليه يا ولدي، وليكن الله معك يحرسك.

إن سلومة عندما ذهب إليه أول مرة على إثر دعوة مثل هذه لم يأت إليَّ ليسألني عن رأيي، ولم أدع له الله أن يحرسه كما أدعو لك الآن يا ولدي، اذهب إليه ولا تخشه إذا كنت رجلًا.

فذهب قوية ثابتًا نحو الدار العابسة العالية، وخُيِّل إليه وهو سائر أن ذلك الرجل لن يقوى على مواجهته.

ودخل الدار وكانت أول مرة يدخلها منذ آلت إلى ميسور، ووقعت عينه على الساقية التي طالما جلس مع فؤاد تحت ظل شجرتيها، كانت الحديقة يانعة الخضرة فيها بقل وخضر وبطيخ وكانت طرقها نظيفة، ولكن لم يكن على الساقية شجرتا الجميز، أهكذا يزول من الأرض كل أثر أصدقائه؟!

ودخل إلى القاعة الكبرى فرأى السيد في صدرها ومن حوله بعض أتباعه جلوسًا على الأرض في الركن الأقصى أو وقوفًا.

ولما وقعت عين السيد عليه قال باسمًا: مرحبًا بك يا قوية.

فقال قوية في شيء من الارتباك: مرحبًا بك يا سيدي.

فقال ميسور: لم أرك منذ طويل، ألست معنا؟

فقال قوية: العيش يشغلني يا سيدي.

فقال السيد باسمًا: لم أرك منذ سنين يا قوية، لقد صرت رجلًا.

فقال قوية: الحمد لله وكل صبي يصير رجلًا.

فقال السيد: أكنت هكذا دائمًا لا ترى الناس؟ لقد بلغني عنك أنك كنت مع الأفندي على غير هذا.

فقال قوية في إخلاص: رحم الله الأفندي!

فقال السيد في شيء من الحدة: ومتى عرفته؟ أقد رباك يا قوية؟!

فقال قوية: عرفته في الوقت الذي لم يعرفني فيه أحد.

فقال ميسور وهو يتكلَّف الضحك: ما أفصحك يا قوية! إنك تذكرني بأخيك.

فأجاب قوية في شيء من الاندفاع: يرحمه الله أيضًا.

فتضاحك ميسور قائلًا: معاذ الله يا جذع! لقد تألمت من أجله كثيرًا.

فقال قوية في شبه سخرية: الله يحفظك.

وسكت السيد لحظة ثم قال: بلغني أنك تزوجت، مبروك!

فقال قوية بصوت أجش: الله يبارك فيك.

فقال السيد: وكيف حالك معها؟ يظهر أنها طيبة.

أهي ابنة رحومة؟ ما اسمها؟

فقال قوية: هي بدوية مثلي.

فأعاد ميسور: نسيت اسمها.

فصاح أحد الأتباع: تعويضة.

فقال ميسور: اسم لم أسمعه من قبل.

ونظر قوية حوله كأنه يبحث عمن نطق باسم زوجته، وعلا شيء من الحمرة وجهه الأسمر.

وقال السيد: تعال يا قوية، اجلس فإني أريد أن أَكِلَ إليك عملًا هامًّا.

فقال قوية: أنا مستريح هنا.

فقال ميسور: كل شيء فيك يذكرني بأخيك حتى عناده، ومع ذلك فقد كان عزيزًا عندي.

فقال قوية: لا سبيل إلى أن يسمع أخي منك هذه التحية.

فقال ميسور: أراك تصدني يا قوية، وقد بعثت إليك أريد لك خيرًا.

فقال قوية: أشكرك يا سيدي.

فقال ميسور: يسرني أن أراك قريبًا مني، كم فدانًا تستأجر مني؟

فقال قوية: عندي إيجارة الأفندي.

فارتد ميسور لحظة ثم قال: كم كان يؤجر لك؟

فقال قوية: لم أطلب إلا خمسة أفدنة، وكان يعطيني ما أسأله.

فقال ميسور: ما أعظم حبك له!

فقال قوية متحديًا: رحمه الله.

فقال ميسور يخفي غضبه: يسرني أن أسمع هذا، فأنت شاب تقدِّر الجميل.

فسكت قوية ونظر حوله في شيء من التردد.

ومضى ميسور مستمرًّا في قوله: لِمَ بعدت عن سكن القرية يا قوية؟ لقد أخبرني الخولي أنك تقيم بعيدًا عن هنا.

فقال قوية في جفاء: أنا سعيد حيث أنا.

فقال السيد في ضجر: عجيبة! أكنت تقول للأفندي مثل هذا؟

فقال قوية متحديًا: وما لنا الآن به يا سيدي؟

فقال السيد محتدًّا: كأنك تجازيني بهذه الأجوبة على تقريبي لك.

فقال قوية: أنت يا سيدي عظيم ولا يضرك أن يقيم مثلي في خيمته بعيدًا، إني أحب أن أسرح بصري في الأفق كما كنت أفعل في الصحراء صبيًّا.

فقال ميسور: كدت أنسى أنك بدوي وليد الصحارى.

فقال قوية: ولكني لم أَنْسَ ذلك يا سيدي.

فقال ميسور: فلا تريد أن تقرب منا؟ ما كان أخوك هكذا.

فقال قوية في دفعة: دع أخي فهو في سجنه.

وتحرك يتأهب للمسير قائلًا: أتأمرني بشيء يا سيدي؟

فقال السيد: أتريد أن تسرع إلى خيمتك؟

فقال قوية: إذا لم يكن لك أمر تأمرني به.

فقال ميسور مظهرًا الرضا: أشكرك يا ولدي، وكان بودِّي أن أجعلك للعزبة خفيرًا، ولكن.

ونظر إلى وجه الفتى.

فقال قوية: شكرًا لك يا سيدي.

فقال ميسور: كنت أريد أن أخلي لك دارًا حسنة هنا، تجد فيها مكانًا لغنمك وبقرتك.

فقال قوية: أحب أن أبقى في مكاني أعمل في حقلي وأعيش في خيمتي.

فقال ميسور غاضبًا: فأنت ترفض؟

فقال قوية: دعني حيث أنا يا سيدي.

فقال السيد مهددًا: إذن سوف أنظر في أمرك.

فقال قوية: هذا لك يا سيدي.

وعند ذلك اندفع السيد غاضبًا كأنه كان يمسك نفسه قسرًا عن غضبه، فانفلت فجأة من زمامه منفجرًا وقال في صوت مجلجل: لقد أخطأت إذ حسبتك أهلًا لإكرامي، فجرَّأك ليني على مراجعتي وصَدِّي حتى وقفت في وجهي تراجعني في كل لفظ وتعصي أمري، فاذهب إذن وستعرف أنك كنت أحمق الناس وأسفههم رأيًا.

فوقف قوية هادئًا أمام دفعته قائلًا: وما الذي أغضبك مني حتى تصيح بي هكذا؟ لقد سألتني فأجبتك كما يجيب الإنسان إنسانًا.

فصاح السيد واشتد حنقه: إنسان وإنسان؟! عمى في عينك أيها الولد الوقح.

وقام من مقعده ثائرًا.

فالتفت إليه قوية وصلب قامته قائلًا: حسبك هذا، أنت سيد عظيم وما ينبغي لك أن تتعرَّض لجوابي.

فصاح الرجل مرة أخرى: جوابك؟ أتهددني؟

فقال قوية معليًا صوته: نعم جوابي، لست عبدًا لأحد أيها السيد.

وقام الأتباع فاقتربوا من السيد ناظرين إلى قوية في حنق، وقال قوية وقد زاد صوته شدة: أنا قوية الفقير الضعيف، ولكني قوية فماذا تريد مني؟

فهدَّأ الرجل نفسه وجلس قائلًا: هذا حسن! لقد كنت مخدوعًا، كنت أظن أني سأجد عندك شكرًا وجوابًا غير هذا.

وانفتل قوية يريد الخروج، فقال ميسور يحدِّث أتباعه في صوت ساخر جامد: دعوه حرًّا.

وذهب قوية إلى أمه وامرأته فقصَّ عليهما ما كان بينه وبين الرجل الرهيب، وكانت أمه تنظر إليه صامتة جامدة، وتعويضة تضع كفيها على جانبي وجهها في فزع.

ولما فرغ قال هادئًا: كلها شهران فلا نبقى هاهنا، لقد علمت أن لا مقام لنا في هذه الأرض بعد موت الأفندي عليه رحمة الله.

وخرج إلى حقله يسحب بقرته وامرأته تسير إلى جنبه تسوق غنمها.

٨

شُغِلَ فؤاد بعمله الجديد في النيابة، وكان في جدَّة عمله ما يملأ كل فراغ وقته، وكان دائمًا يذكر صديقه «سعيد» وأخته علية، ويتمنى لو جلس إليهما بعد كل يوم في الأمسية الهادئة لينعم بحديثهما، فلو عرفا ما في هذه الحياة التي أخذ يطلع عليها لوجدا فيها كثيرًا مما غاب عنهما، كانا ينظران إلى الحياة من بعيد كما ينظر المنعم من نافذته العالية من وراء زجاجها الشفاف وستائرها الحريرية، فإذا رأى تحت نظره امرأة مهلهلة الثياب تسير على سطح الأرض مهتزة من الضعف، وتجمع بيديها السوداوين بقايا القشر من صندوق القمامة، سأل نفسه: أهذه العجوز التي تتطوَّح في قذرها تحس شيئًا في أعماق قلبها؟ ألها أفراح تطرب لها أو أحزان تئن منها؟

كانا يبصران من الحياة ألوانًا زاهية أو قاتمة، يجدان متعتهما في تصورها وفي تصويرها كأنها نوع من اللهو أو تزجية الفراغ، ثم يهتز قلباهما هزَّات رفيقة تبعث فنهما إلى الإبداع، ولكنهما كانا لا يزيدان على أن يرسما لها لوحة تحرِّك قلب كل مَنْ يراها، أو يمدان أيديهما بفضلة من الخير يملقان بها كبرياءهما، هكذا كانت تفعل علية، وهكذا كان يفعل سعيد كل على طريقته، ولكن «فؤاد» قد شاهد الحياة عن قرب ولمس ما فيها، وأحسَّ لذعة آلامها وعنف دوافعها وخوالجها، كان يدخل للتحقيق إلى بيت الأرملة المسكينة التي ذُبِحَت في الليل ذبحًا عندما ذاع في القرية أن جنيهًا هبط إليها من بعيد إذ بعث به إليها ولدها الذي هاجر في الشتاء من قريته بالصعيد ليعمل نهارًا وليلًا، فإذا جال في البيت لم يجد به شيئًا من أثاث ولا قطعة من طعام، فيسأل نفسه كيف طعم الحياة لمثل هذه المسكينة؟! وهكذا أخذ فؤاد يعرف الحياة عن قرب في حرها وزمهريرها وفي ضعفها وفجورها وفي إعطائها وحرمانها، وتمنَّى لو عرف سعيد وعلية شيئًا مما عرفه، وكان أحيانًا يكتب ما يثور في نفسه حتى لا ينساه إذا لقيهما في مدة الإجازة التي يقضيها معهما في الصيف إلى جانب الشاطئ الوديع في سيدي بشر، وإن كان شاطئ سيدي بشر قد هجر في أيام الحرب الطاحنة التي اندلعت نيرانها في الخريف الماضي، إذ كانت الحرب قد بدأت وانطلقت آثار العلم الحديث تتدفَّق على السهول فتفيض عليها هولًا وتخريبًا وفظاعة.

وجاء فصل الصيف وأراد فؤاد أن يقضي منه أيامًا في الإسكندرية، ولكن الإسكندرية كانت مدينة مهجورة أو تكاد تكون، فإن أكثر ثراتها هجروها وذهبوا إلى الريف أو عواصم الأقاليم لائذين بظلمتها وبعدها وسذاجة الحياة فيها، فإن من بركة هذه الأركان أنها غير جديرة في نظر الجيوش المتحاربة بأن تبعث إليها قنبلة!

وبعث إلى سعيد في الإسكندرية يستعيد به صلته، ولكنه لم يتلقَّ منه جوابًا، ثم أتى إليه كتاب منه بعد أسبوعين يعتذر عن تأخره بأنه تلقى الخطاب متأخرًا بعد أن حُوِّل إليه من بلد إلى بلد حتى جاءه في القرية البعيدة التي نزح إليها، إذن فقد نزح سعيد وأخته إلى الريف، كما نزح غيرهما من السراة، وما كان ليحب أن يذهب إلى الإسكندرية وهما بعيدان عنها.

فذهب في القاهرة على كره، فإن حَرَّها كان من قبل يبعث إليه ضيقًا ويسبب لجسمه السقم، ولكن أمه كانت فيها ولم يكن له سبيل إلى غيرها، وكانت القنابل تهزها بين حين وحين، ولكنها مع ذلك لم تَخْلُ من أهلها كما خَلَت الإسكندرية، أكان أهل القاهرة أكثر وفاءً لها؟ أم هم أكثر إيمانًا واطمئنانًا؟ أم هم أكثر غباوة وأقل قوة في الخيال؟ كان يسمع الناس في الطريق يقولون: إن القاهرة إذا هَوَتْ كان عليها أسماء الضحايا مقدورة منذ الأزل، أهذا من دلائل القوة أم من علامات الذهول والاستسلام الغبي؟ ولكن أهل القاهرة كانوا يمسون على فرقعة الآلات الجهنمية، ثم يصبحون غادين إلى أعمالهم في ثبات، فإذا دهمتهم فرقعة جهنمية أخرى في نهارهم أظهروا لها هدوءًا عجيبًا، وما هكذا يكون الاستسلام الغبي، إن هو إلا إيمان واطمئنان واستبسال يبعث إلى الاستهانة بالأخطار.

لقد زاد إيمان فؤاد في تلك الأيام السوداء بثبات قومه وقوة جنانهم، فما ذلك التسليم للقدر إلا أثر من تجربة أمة شهدت من أحوال الحياة ما لم يشهد سواها، وعرفت من الخطوب ما لم تعرفه الأمم الأخرى.

ومع ذلك فقد كان يضيق أحيانًا بحَرِّ المدينة في النهار فيتذكَّر الأيام التي كان يقضيها في العزبة، ويتذكَّر الكوم القديم والبِرْكَة والنخيل والدار العزيزة التي تركها لإبراهيم ميسور، ويود لو رآها مرة أخرى.

وكانت صورة تعويضة وزوجها قوية تعود إليه باسمة هشَّة بشَّة كأنها ترحِّب بمقدمه إليها، أكان قوية راضيًا عن زواجه؟ أكانت تعويضة سعيدة تلك الزهرة الباسمة في خميلة شوكها بقطعة من الصحراء؟ ولكن أنَّى له رؤيتهما وقد صارت العزبة غريبة عنه بعد أن ملكتها يد أخرى؟

وكان كلما أَمَضَّه الحر خرج إلى أطراف المدينة يبترد في أوقات الأصيل أو يمد نزهته إلى صدر من الليل تحت ضوء القمر، فإن القاهرة — وإن قست بحَرِّها في النهار — تتجلَّى في ليلها كأنها قطعة من الخلد، فنسيمها وصفاء سمائها ولمعان نجومها وجفاف أنفاسها، كل ذلك يذهب بعناء النهار الذي مضى بحَرِّه ووهج شمسه فلا يلبث المكدود أن ينسى كد يومه كأنه حلم كريه مضى، أو كأنه يزيل ما أصابه من الكد في حلم سعيد غمره.

وذهب فؤاد يومًا إلى حديقة الحيوان، وكانت منذ صغره تحرِّك نفسه بجمال تنسيقها، وتشرح صدره ببهاء منظرها.

وسار في تلافيف طرقها فوقف عند حظائرها يتأمَّل ما بها من ظباء ووعول أو كواسر من الوحوش، ووقف عند حظيرة الأسود وكان دائمًا يحس نوعًا من المتعة القاسية عندما يقف عندها، كان بها أسد ضخم يسرع الخطا في رقعة حظيرته الضيقة، فما يلبث أن يبلغ مداها فيرتد عائدًا في عنف ويحك رأسه وصدغه بقضبانها، فإذا خطا خطوتين بلغ طرفها الآخر فارتدَّ وما يزال عنيفًا دائبًا، إذ كان الأمل ما يزال يُطْمِعه في الخلاص، وقف فؤاد حينًا أمام الحظيرة كأنه يسأل الأسد عما يحس عندما يرى هذا البشر الضعيف واقفًا من وراء قفصه؟ ونفر الأسد عند ذلك نفرة فزع فؤاد لها، كما فزع مَنْ كانوا معه وقوفًا أمام الحظيرة، وضحكوا بعد ذلك وارتدُّوا عن السور الذي يفصلهم عن الحظيرة كأنهم كانوا في مزاح، أليست المقادير قاسية على هذا الأسد إذ جعلته جبارًا مخيفًا؟ أما كان خيرًا له لو خُلِقَ قطًّا أليفًا أو دابة من دواجن الأرض تعيش مطمئنة لا يُخْشَى بأسها؟

وسأل فؤاد نفسه ماذا يكون حال الأسد لو خلا من عنفه وبطشه، واستطاع أن يألف وأن يؤْلَف؟ أليس خوفه والخوف منه هو الذي أنمى مخالبه هذه الباطشة وأنيابه هذه الفتاكة؟ أليس الخوف هو الذي جعله دائم التكشير عن أنيابه دائم الحنق على مَنْ يلقاه؟

وتذكر حال هذه الأمم المتحاربة التي لا تختلف في شيء عن هذا الأسد الوحش إلا في نوع العدة التي تقاتل بها، أليس الخوف هو الذي أنمى مخالبها وأنيابها وملأ قلوبها حنقًا وكرهًا؟ ألا ما أشقى ذلك الأسد في بطشه وعنفه وهو يذرع قفصه الحديدي في قلق وحنق! حقًّا إن السعادة لا تجد سبيلًا إلى القلوب التي تمتلئ حنقًا وعنفًا وبطشًا، وخُيِّل إليه في تلك اللحظات أن تلك الأمم القوية الباطشة لن تعرف إلى السعادة سبيلًا إلا إذا تخلَّت عن عنفها وبطشها معًا.

وما زال يتنقل من حظيرة إلى أخرى ومن خميلة إلى خميلة ومرَّ بشجيرات شائكة فيها أزهار بيضاء ناصعة تزين أطرافها صفرة فاقعة، وتخرج من ثغورها أهداب دقيقة، فكانت بديعة في شكلها ظريفة في لونها، فتذكَّر لوحة سعيد، وتذكَّر تعويضة البدوية الحسناء، وتساءل: أيستطيع أن تقع عينه مرة أخرى عليها؟ وتذكَّر علية ولكنها كانت زهرة أخرى، كانت منعمة كتلك الأزهار في الأحواض السهلة التي تمد جذورها الصغيرة القصيرة فتروى على هينة من الماء المتدفق إليها.

ووقف حينًا أمام حظائر القردة وهي صنوف شتى بين صغير وكبير، ومن ألوان شتى وهيئات تفرق بينها فروق أبعد مما يفرق بين الأسود والضباع، ومع ذلك فهي جميعًا قردة في أعين الواقفين حول حظائرها لا يعبئون إلا أن يلهوا بمناظرها.

كانت القردة سعيدة كأنها لا تبالي ضيق سجونها، بل لعلها هناك أسعد حالًا؛ لأنها تجد قوتها وتأمن غائلة أعدائها التي تفتك بها في الغابة، ولكن أهي هناك أسعد حظًّا من الأسود الباطشة الحانقة التي تتطلَّع إلى منفذ في قضبانها لتستعيد حريتها حتى تستأنف افتراسها وبطشها؟ إن الحرية ليست أمنية الإنسان وحده، ولو وجدت تلك القردة فرصة في قضبان أقفاصها لبادرت خارجة منها منطلقة من عقالها سعيدة بأنها ظفرت بحريتها، ولن تعبأ بما يصيبها بعد ذلك من تلك الحياة الحرة.

وودَّ فؤاد لو أتمَّت حديقة الحيوان مجموعتها فأضافت إليها أشرف أنواع الحيوان وأشدها بطشًا وفتكًا؛ الإنسان.

ولكن أتتسع حديقة مثل هذه لأنواع ذلك الجنس الأرقى؟ إن منه صنوفًا يختلف بعضها عن بعض وفيما بينها من الفروق ما لا تراه عين في صنوف الحيوان الأخرى، فمنه الأسود والأشقر والأصفر والأحمر ومنه القميء الضئيل الجسم ومنه الطويل الضخم، وفيه ما يبلغ ذكاؤه مرتبة الشياطين التي تسترق السمع من تحت عرش الله ومنه ما لا يرتفع في ذكائه فوق مرتبة الطفولة.

على أن من ذلك الحيوان صنفًا فاتكًا يفترس رزقه كالأسود، ومنه صنف ختَّال يحتال على قوته فيختلسه كما تختلس الطيور أو الثعالب أو القطط والكلاب أرزاقها.

فلو عرض ذلك الإنسان على اختلاف هذه الصنوف والمراتب لما وسعه سوى هذه الأرض التي تكاد تضيق به على سعتها.

وضحك فؤاد عندما تمثَّل ذلك العالم الفسيح كله حديقة ضخمة لذلك الحيوان العجيب، وأنه يضطرب فيه قلقًا سجينًا كما تضطرب هذه المخلوقات في أقفاصها تطلب حريتها، ولكن الإنسان قد خدع نفسه عن الحرية وضللته أحلام البطش والسيادة حتى بلغ من قلقه وضيقه في سجنه الفسيح أنه يجاهد وينفق أكثر ما وهب الله له من ذكاء في التدسس إلى أسرار الطبيعة ليظهر منها على سر يعينه على تدمير الحياة؟ أليست هذه الأسرار التي يعكف على كشفها نوابغ العلماء أبشع من مخالب الأسود وأنيابها؟

ولو عرف الإنسان صنفًا من الحيوان يقضي نهاره وليله باحثًا عن أنواع السموم في الغابات ليقضي بها على جنسه، أو عاكفًا على تدبر آلات الفتك والتخريب لكي يذل بها سائر أبناء صنفه؛ لعده نوعًا من أخبث الأنواع ولاتخذ له قفصًا شائكًا يحجب النظارة عن الاقتراب منه إلا أن يلمحوه من بعيد صورة من صور الشر الكريه، ولكنه هو الإنسان سيد أصناف الخليقة لا يريد أن يرى عيوب نفسه.

وفيما كان فؤاد يسير مناجيًا خواطره في شِعْب بديع تظلله الأغصان المتدلية المزدهرة تمثل ألوان الشفق، رأى أمامه رجلًا من أهل القرى يسير الهوينى، وكان في مشيته وصورة قامته ما استرعى انتباهه، فأسرع في خطوه ليسبقه حتى يرى وجهه، وما كاد يراه حتى وقف مدهوشًا، فأية مصادفة هذه التي تُلْقِي قوية في سبيله؟!

فصاح بغير وعي: قوية!

واندفع قوية إليه وهَمَّ بفتح ذراعيه كأنه يريد أن يعانقه، ثم أمسك ومد يده يصافحه في حماسة مصافحة البدو المكررة، فنسي فؤاد نفسه ومَنْ حوله ممن كانوا يتطلعون إليه باسمين، وانتحى به جانبًا، فأخذ يسأله عن حاله ومكانه وأهله، وكان قوية يجيب في نبرات متهدجة فيها ذلك الجرس العذب الذي كان يطرب فؤاد له.

وقال فؤاد: كيف خالتي مبروكة؟

فصمت قوية لحظة ثم قال: البركة فيك.

وعلا وجهه غشاء من الحزن.

فنطق فؤاد ببعض ألفاظ مواساة يعزيه فيها، وأحس حسرة صادقة كأنه فقد صديقًا حميمًا.

ثم عاد إلى الحديث يسأل قوية عن تعويضة وغيرها ممن عرف وعن حال الدار والعزبة والحقول والكوم، وكان قوية يجيبه عن ذلك ويضيف من عنده بعض ذكريات من أحداث تافهة مرت بهما يعرف أن لها في نفس فؤاد ذكريات عزيزة.

ودعاه فؤاد إلى قضاء اليوم معه، فتنقل به في أطراف القاهرة الفسيحة كأنه يردُّ إليه بعض دَيْنه القديم؛ إذ كان يجول به في حواشي الريف أو يخرج به إلى الصيد في المناقع المعشبة.

وكان قوية قد امتلأ جسمه وحسنت بزته وخُيِّل إلى فؤاد أنه مغتبط بالحياة، ولِمَ لا يكون مغتبطًا وهو زوج تعويضة؟ وتردَّد في أن يسأله عنها مرة أخرى حتى يأتي هو بشيء من سيرتها، ولكنه لم يستطع أن يصبر طويلًا فسأله: لِمَ لا تحدثني عن تعويضة طويلًا؟ إنني أذكرك كثيرًا وأذكرها ويشتد بي الشوق أن أراك وأن أراها.

فقال قوية في حماسة: تكون أسعد ساعة عندنا لو جئت لزيارتنا، ولو علمت تعويضة بأني في القاهرة ألقاك لما تركتني أسافر إليها وحدي.

وكان وهو يتحدَّث طَلْق المحيَّا تلمع عيناه بنور من الحماسة والبِشْر، فارتاح فؤاد وأحس نحو الرجل عطفًا كأن ذكر تعويضة يصل بينهما سببًا من المودة متينًا.

وكانا عند ذلك يسيران على جانب النهر في الجزيرة الخضراء في ليلة مقمرة من ليالي الصيف الرائعة، والكروان يملأ الفضاء صُداحًا، والأشجار الحانية على جانبي الطريق تجعل المنظر كأنه قطعة من عالم خيالي.

فقال فؤاد: أليس هذا المنظر بديعًا يا قوية؟ أفي ريف العزبة منظر يشبه هذا؟

فنظر قوية حوله قائلًا: لو علمت أنني أرى مثل هذا المنظر لأتيت بتعويضة معي، لقد كانت تود لو صحبتني فإن عليها نذرًا للحسين تريد أن توفيه، ثم تزور مشاهد أهل البيت والأولياء، وتقضي يومًا في حديقة الحيوان.

فضحك فؤاد في نفسه، فلو كانت تعويضة معهما لما استطاع أن يسير بها في مثل هذا الركن البديع من الجزيرة خشية من سخرية الأنظار.

وقال لقوية: ألا تنشدني من أغانيك القديمة في مثل هذا السكون؟

فانطلق قوية غير متردد يترنَّم بأنشودة تعويضة ليلة زفافها:

صغير غادي في النوار
منور مثله وعوده زين

وفيها يشبهها بعود الحور على شاطئ الترعة الحلوة وبزهرة الفول في الصباح النادي وبنسيم الربيع إذا وسوس بين الأغصان وبالجدول الصافي إذا شرب منه الظمآن.

وكان صوته متهدجًا يرنُّ عذبًا في السكون العميق.

فقال فؤاد: وكيف أبوها؟

فقال قوية: كما تركته يا سيدي.

فقال فؤاد ضاحكًا: أما يزال نائمًا في ظل النخيل؟

فهزَّ قوية رأسه قائلًا: لقد بعدنا عن النخيل يا سيدي.

فصاح فؤاد: أخرجت من الأرض؟

فقال قوية: لم نبق بها إلا لآخر العام حتى جمعنا ثمرة زراعتنا.

وأخذ يقص عليه ما كان بينه وبين ميسور ثم قال: وبدأت بيني وبين ميسور حرب صامتة حاول فيها أن يُنْزِل علينا صنوفًا من العقاب، وصار يقف دوني في كل خطوة أحاول أن أخطوها حتى ضاقت في وجهي مسالك الحياة.

وكدت أقابله ثائرًا لأدفعه عن نفسي ولكن تعويضة منعتني فباعدت ما بيني وبينه، فاستأجرت قطعة من أرض الخواجة بشارة التي في الناحية الأخرى من الكوم، وعدت إلى خيمتي القديمة، وفتح الله عليَّ فاشتريت بقرة فوق بقرتي وزادت غنمات تعويضة حتى صارت قطيعًا، وما تزال أمها عاكفة على مغزلها ونولها، ورحومة يملأ علينا الديار مرحًا، وقد اتخذ لنفسه خيمة وحده، ولم يطرب صاحب قصر مثل طربه بخيمته، فقد أظهر للناس جميعًا أنه بدوي حقًّا، فنحن بحمد الله سعداء في جوار كومنا، وإذا شرفتنا يومًا بزيارتك فإنها تزيدنا سعادة.

وكان فؤاد يستمع إلى حديثه الساذج باهتمام وغاب في تفكيره حينًا: أيضر هؤلاء أنهم يعيشون وحدهم يسرحون أبصارهم في الأفق فلا تعثر على شيء تحب أن تصرفه عنه؟ وجعل يسأل في نفسه: ما هي السعادة؟

وكان الليل قد أوشك أن ينتصف وتكبَّد البدر السماء ورنَّت في الفضاء سجعة من سجعات الكروان، ثم أعقبها نعيب طويل مخيف فكاد فؤاد يثب عن الأرض خوفًا وتلفَّت قوية حوله سائلًا: ما هذا؟

فقال فؤاد في فزع: صفارة الإنذار، أَسْرِع بنا يا قوية.

وكانا يتجهان إلى (كوبري) قصر النيل وما تزال دونهما مسافة طويلة، فجريا نحو المسجد القائم على شاطئ النهر؛ إذ لم يجدا ملجأً قريبًا سواه، فدخلا إليه يستظلان بسقفه، وكان الظلام حولهما كثيفًا.

واندلعت أصوات المدافع تدوِّي من جوانب الأرض ومن أطباق السماء، كأنه يوم الفزع الأكبر إذ تزلزل الأرض زلزالها، وكان قوية أثبت من صاحبه جأشًا، ولكنه كان بين حين وحين يتمتم في صوت خافت: «لا حول ولا قوة إلا بالله»، ومضت ساعة طويلة ثم سُمِعَ صوت طويل فقال فؤاد: الحمد لله، هذه صفارة الأمان.

وخرجا إلى الشاطئ يسرعان نحو الدار في صمت.

وأنزل فؤاد صاحبه في غرفة أعدَّ له بها فراشًا، ثم استأذن قائلًا: تصبح على خير يا قوية.

فقال: وأنت أهل للخير يا سيدي، سأقوم في الصباح الباكر عائدًا إلى قريتي.

فقال فؤاد: بل تقيم معنا يومين.

فقال قوية: أشكرك يا سيدي، ولكني قد أخرج قبل أن أراك، فسأبكر في الصباح عائدًا إلى قريتي، وحسبي من القاهرة أنني رأيتك.

فودَّعه فؤاد في حرارة، وقال قوية مؤكدًا: عِدْني إذا مررت قريبًا منا أن تعرِّج علينا، ستسر تعويضة إذا رأتك يومًا.

فقال فؤاد وهو يهز يده: سأفعل يا قوية، ولا تنس أن تبلغها تحيتي.

٩

مرت أربع سنوات على فؤاد وهو في عمله ينتقل من أقصى البلاد إلى أقصاها، لا يكاد يستقر في بلد إلا قليلًا.

وكان عمله يشغله في ليله وفي نهاره، وهو كلما عاد من تحقيق مأساة تستقبله أخرى حتى أوشك أن يضيق بنفسه ويسيء ظنه بالحياة، إذ كان لا يطلع منها إلا على القسوة والعنف والوحشية، كانت الحياة تطالعه ساخرة كما تطالع الغابة الصياد الذي يجوس خلالها، فهناك رأى القاتل الفاتك يهوي على فريسته يطلب حياته صريحًا ساخرًا كما يطلب الوحش فريسته في غير رحمة، فإذا تغلغل إلى قلبه ليسبره ويعرف ما بعثه على جريمته انقلب عنه حائرًا لا يدري ما الذي ذهب بإنسانيته، وهناك رأى الضعيف الذي لا سند له يقف وحيدًا في عالم موحش يلقاه فردًا، وهناك رأى نزغات النفوس من جشع وأنانية، وشهوة بهيمية وغطرسة، ومن ذلة وانحطاط وبله يختلط بعضها ببعض فينشأ منها ما يكاد يكون عفنًا تنفر النفوس من تأمله، ومع ذلك فإن الحياة تمضي في سبيلها كأن هذا من بعض طبعها، أليس هذا التيار القوي يشبه النهر القديم الذي كان يقف في صباه إلى جانبه فيرى عليه العود الضئيل يندفع إلى قدره المحتوم قسرًا؟

وكانت الحرب الكبرى التي أظلت العالم من قبل أعوامًا ما تزال تنشر على الأرض شؤمها وعنفها وقسوتها، وانطلقت في ميادين القتال كل الوحشية التي تنطوي في ذلك القلب العجيب الإنساني الذي يجمع بين الأضداد.

واشتغلت الأفكار كلها بما قد يكون بين صباح ومساء أو بين مساء وصباح، كانت الجيوش المنتصرة تطوي أرض الأمم الهزيمة ثم تحتفل بنصرها على أشلاء الضحايا، وعندئذ تعلو أصوات المنتصرين باتهام الذين غلبوا على أمرهم ثم يحكمون عليهم بما تقضي به عدالتهم، وما تلك العدالة إلا أن الحق للقوة. كان العالم كله يضطرب كأنه في بحر هائج في ليلة عاصفة موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض.

وكان إقليم البحيرة الذي نقل إليه فؤاد يضطرب في فزع من الحوادث الدامية التي تمزقه، فما كان يمر يوم بغير سرقة بإكراه أو تقليع مزروعات أو قتل شنيع أو تصادم بين أهل القرى، كأن جو العالم المتفاني قد أسرى عدواه إلى كل النفوس، فكان فؤاد يدعى إلى التحقيق في الصباح وفي المساء وفي وسط الليل أو قبيل الفجر حتى لم تدع له الأعمال متنفسًا ولا مراحًا، ومع ذلك فقد كان على عادته لا يرضى بأن يمرَّ بتلك الكوارث متخففًا ما استطاع من عنائها، بل كان يزيد نفسه عناءً بالتغلغل في حناياها، فكان أحيانًا يقف مشدودًا بين عاملين: أحدهما يجذبه والآخر يدفعه، يرى واجبه يقضي عليه أن يطالب بالعقوبة وقلبه يكاد يحمله على الدفاع والرحمة، فإذا اشتد النزاع بينهما أغمض عينيه؛ لكي يحمل عقله الحائر قسرًا على أداء واجبه، فإذا ما كبح خلجات نفسه، وأطاع الواجب الذي جعله أمانة في عنقه؛ ارتد يجادل قلبه حتى يبلغ منه العذاب ما يكاد يحمله على هجر منصبه، وكان أحيانًا يلجأ إلى مَنْ هم أكبر منه سنًّا وقدرًا لعله يجد عندهم ما عجز عن الاجتهاد فيه، فإذا هو حيال قوم يسخرون من ضعفه، فكان يحس قيوده ولا يقدر على الانفكاك منها، ويتلفت حوله فلا يرى دونه مَنْ يأسى له.

وكثيرًا ما تمنى لو أسرع الحظ إلى نجدته فأصبح قاضيًا، فإن خطب القضاء أهون عليه، إذ يستطيع أن يمزج في حكمه بين العدل والرحمة، وأما رجل النيابة فإن واجبه يحتِّم عليه أن يرفع سيف القانون مصلتًا، ويا لها من كلمة إذ كان يقولها! لقد كان في كثير من المواقف يود لو قدم إلى القضاء الفتى الطاغية الذي سُلِبَ ماله بدلًا من اللص المسكين الذي سرق ذلك المال.

وكان كثيرًا ما يهرب من عذاب نفسه بأن يعود بالخيال إلى ذكريات النجيلة وأيامها الوديعة التي كان يقضيها هناك، وإلى الكوم الأحمر وإلى الحقول الشعثاء، وإلى الجسور السمراء ذات الجوانب العالية المضطربة، وإلى شجرتَي الجميز فوق الساقية وإلى جوانب الترع تظللها أشجار الحور والأكوام التي تتهدل فوقها أعواد الطرفاء.

وهَفَتْ نفسه إلى قضاء يوم هناك تنزيهًا لقلبه المكدود، فلا شك أن قوية وزوجته تعويضة كانا ما يزالان في خيمتهما ينعمان بحياتهما الساذجة بعيدين عن قسوة الحياة، وهناك بغير شك رحومة المرح يستمع إليه وهو يتحدث عن أخبار عالمه.

واشترى بعض الهدايا، وركب سيارة حملته نحو القرية، فما هي إلا ساعة قصيرة حتى كان عند بقية الكوم القديم.

وكان الإقليم قد تغير فلم يبق من الكوم إلا طلل من طلل، فقد هدَّه الفلاحون بما أخذوا من ترابه، فلم يتركوا منه إلا جانبًا يحيط به من أطرافه إطار محمر اللون، أهذه الحرب قد أصابت الكوم فيما أصابت؟ ولم تكن البِرْكة الخضراء هناك بما عليها من أوز عائم، وما حولها من دجاج تنبش الأكوام باحثة عن طعام، وتلفَّت حوله فيما بعد وما قرب فلم يجد أثرًا ينمُّ عن قوية.

وصعد فوق بقية الكوم وسار بين حفره يلتقط منه قطعًا من الفخار والأحجار المحطمة يتأملها كما كان يفعل قديمًا لعله يجد بها بعض ما كان قوية يطرب له، ويبعث الأغاني إلى قلبه، فلم يجد من ذلك شيئًا، ومع ذلك فإنه قضى هناك ساعة في جولة كأنه يواسي الكوم القديم فيما أصابه.

وبدا الكوم تحته كأنه كان قصرًا أو معبدًا ثم اندك.

ثم نزل يسير متباطئًا نحو السهل الأخضر اليانع في الطرف الآخر من الكوم يسائل نفسه كيف يهتدي إلى قوية، وما كان أعظم الفرق بين تلك الحقول الخضراء وبين البرية التي كان يجول فيها من قبل، كان النبات تحت عينيه زاهيًا يانعًا، وكانت الجسور ممهدة، والترع والمصارف مطمئنة، لا كما عهدها وحشية مضطربة، أكان كل ذلك التبدل في الأعوام القليلة التي غاب عن الأرض فيها؟!

ولكنه أحس شعورًا شديدًا من الخيبة، فإن اطمئنان المنظر سلب ما كان فيه من روعة، وبلغ أسفل الكوم مطرقًا واجمًا، فلما رفع رأسه رأى رجلًا يسعى نحوه، وصاح يستقبله: عرفتك يا سيدي من مشيتك.

وأقبل قوية عليه باسمًا يمد يده مصافحًا، ثم قال: ومَنْ غيرك يأتي إلى هنا ثم يصعد إلى الكوم قصدًا؟ منذ رأيتك حدثتني نفسي أنه أنت.

وغمره بتحياته المكررة وسار به نحو خيمته، وكان قد نقلها إلى أقصى الكوم عند أعلى بقية فيه.

فلما بلغها نادى: هاتي الحمل والفروة يا تعويضة!

وخرجت تعويضة تسعى واضعة طرحتها على جانب من وجهها، فلما رأت «فؤاد» وقفت أمامه في دهشة، ثم صاحت: مرحبًا يا حاج فؤاد!

وبسطت الحمل وجعلت الفروة فوقها في سرعة، ثم مدت يدها من تحت الطرحة وأهوت على يد فؤاد تريد أن تقبِّلها.

وسحب فؤاد يده وعيناه تدمعان من السرور وقال لها: كيف أحوالك يا تعويضة؟ لشد ما كنت إليكم مشوقًا.

فقالت ووجهها يفيض بشرًا: هذا يوم أبيض يا سيدي! شرفت دارنا.

ونظر فؤاد إليها فملأ عينيه منها، وكانت كما عرفها بعينيها السوداوين وشعرها الأسود الحريري، وقوامها اللدن الرشيق وحزامها الأحمر وحلقتها الفضية في طرف أنفها ووشمها الذي يزين ما بين شفتها وذقنها، كانت هي تعويضة لم يتغير منها شيء سوى أنها تقول له: «شرفت دارنا».

وسأل فؤاد قائلًا: وأين عم رحومة؟

ولكن نظرة تعويضة كانت لا تحتاج إلى رد.

وتمتم قوية قائلًا: البركة فيك يا سيدي.

فنطق فؤاد بكلمتَي عزاء، ثم مضى قوية يتحدث بأخباره.

وكان يومًا من أسعد الأيام التي مرت على فؤاد، كان مثل النهار الشامس في شتاء دمنهور، فكم تحدَّث قوية في القريب والبعيد، وكم تفكَّه كما كان يتفكه، واستأذن ساعة قصيرة، فقام فؤاد يسير وحده بين الحقول، وكان القمح يموج مع النسيم، والفول الأخضر يخلع على الأرض بهجة من نواره ويملأ الجو بعطره الخفيف، ولحق به قوية بعد حين فسار إلى جنبه يحدثه.

وسأله فؤاد باسمًا أن يعيد عليه بعض أغانيه القديمة، فلم يتردَّد وأعادها مهتزًّا بنبرات متهدجة، يغنيها بكل كيانه، ورنَّت في الفضاء كأنما هي أصداء الأناشيد العذرية التي كانت ترنُّ في نجد عند بيوت آل لبنى وليلى.

ولما حان وقت الغداء مدت تعويضة على الأرض سفرة، وجاءت بطعام عجب فؤاد أن يتهيأ مثله عندها، وذكَّره الثريد والرقاق المبسوس بمبروكة رحمها الله، فقال وهو يتهيأ للطعام: ما هذا كله يا قوية؟! إنها وليمة عظيمة.

فأغضى الرجل كأنه خجل من كلمته، وخُيِّل إلى فؤاد أن حمرة علت وجهه، فذكره ذلك بيوم بعيد يوم ذبح له قوية حملًا منذ سنين، إذ سأله الأفندي: «أنَّى لك هذا يا قوية؟» فأطرق في شيء من الخجل وعَلَتْ وجهه الحمرة.

وخشي فؤاد أن تكون كلمته قد آذته فأخذ يطري الطعام.

فقال قوية منشرحًا: لقد تعلمت تعويضة الطبخ على أمي.

ولان صوته رحمةً لذكرى الأم العزيزة.

ثم قال لتعويضة باسمًا: أينبغي لسيدي فؤاد أن يلتقم الثريد مثلنا بيده؟

فأسرعت تعويضة ضاحكة وأتت بملعقة وسكين من معدن لامع، ثم عادت إلى بيتها تنتظر أمر زوجها.

وتمنى فؤاد لو أتت تعويضة فشاركتهما غداءهما وحديثهما، ولكنه لم يجرؤ على الجهر بأمنيته.

وكان طعامًا شهيًّا امتلأ منه فؤاد امتلاءً، فلما فرغا من الأكل حملت تعويضة إليهما وعاء الشاي وصفت لهما كأسين من الزجاج، ووقعت عينها في عين فؤاد فتبسَّمت له وجذبت طرف طرحتها على وجهها.

فقال فؤاد لها: ألم يرزقك الله بعدُ طفلًا؟

فخجلت وقالت — وهي منصرفة: سنسميه «فؤاد» إذا كان ولدًا.

وداخله سرور عظيم عند ذلك، وقال قوية: وعليَّ نذر للحسين — رضي الله عنه — إن كان ولدًا.

وعاد فؤاد في عصر ذلك اليوم إلى دمنهور وهو يحس في نفسه دبيب نشاط لم يحس مثله منذ سنين، وكانت صور شتى من تعويضة تلوح أمام عينيه عندما استقر في منزله، فتمثَّلها في طرحتها وهي تمد إليه يدها لتقبِّل يده، ثم وهي تبتسم له في خفر وتسرع عنه وهي تقذف بجوابها: «سنسميه «فؤاد» إذا كان ولدًا»، ثم وهي تودعه قائلة: «لا تنس أن تزورنا».

ولقد سمع مثل هذه الكلمة يومًا من علية المنعمة فهزَّته دعوتها وأثارت في نفسه أملًا، ولكن تعويضة أثارت بكلمتها في نفسه شكرًا، وسأل نفسه متعجبًا: ما ذلك الذي يضمره في قلبه لتعويضة؟ وعجز عن اكتناه قلبه العجيب، إذ كان يتسع لمثل هذه المودة، وتجتمع فيه صورتان غريبتان ما أبعد إحداهما عن الأخرى: علية وتعويضة.

١٠

عادت الأحداث تَشْغَلُ هَمَّ فؤاد مرة أخرى، فلم يفرغ لأحاديث نفسه أيامًا يتلو بعضها بعضًا، يقضي نهارها وقطعًا من لياليها في تنقل لتحقيق أمر جريمة أو في قراءة محضر جريمة أخرى، أو إعداد خطاب يلقيه يوم المحاكمة ويبعث به إلى السجن نزيلًا جديدًا، وكان يخيل إليه أحيانًا أنه في جبهة قتال بين فئتين، ما تزال إحداهما تتربص الدوائر بالأخرى، أهؤلاء هم قومه؟!

وكان يقتطع من وقته قطعًا يختلسها فيقرأ فيها صفحات من كتاب، فما يكاد يمضي في قراءته حتى يئز جرس المسرة فيدعوه فجأة إلى رحلة سوداء في صدر ليل أو في بكرة صباح، فيثب في شيء يكاد يكون ذعرًا لكي يستعد لخوض المحنة التي يقضي عليه واجبه أن يخوضها.

وكثيرًا ما كان يسأل نفسه ما هذا المجتمع الذي يعيش فيه هو وغيره من البشر كأنهم قوم واحد يظللهم وطن واحد؟ ما هذا الوطن وما سر ذلك الحب الذي يضم عليه جوانحه للبلاد العزيزة التي أضمر لها أعمق الحب منذ أدرك وعقل؟ أذلك حب صحيح أم هو وهم من أثر التلقين والإيحاء؟ أهو يحب هذا الوطن حقًّا أم هو يخادع نفسه بغير وعي؟ وما هو ذلك الوطن الذي يحبه ذلك الحب العميق القوي ويفنى في خدمته ويفديه إذا دعا داعي الفداء بكل ما يملك، نفسه وما دونها؟

ولكنه كان كلما أطال التأمل والتغلغل في أطواء ضميره بدا له أنه يحب ذلك الوطن حبًّا لا يعدله حب الوالد أو القريب والحميم، وكان كلما تمثل حال هذا الوطن وما يقاسيه من آلام وما يطمح إليه من آمال في الحرية والكمال أحس في نفسه حرارة لم يحس مثلها في حركة من حركات الحب أو الرحمة، أيكون كل هذا خداعًا وإيحاءً من أثر التلقين؟ إذن لقد كذبت كل طبائع الشعور، ولكن ذلك الحب الذي يضمره لوطنه لم يكن سوى حب غامض شائع غير محدود فلمن كان ذلك الحب الشديد؟

أهو لهؤلاء الذين يجاورونه في الدار أو يجالسونه في المنتدى أو يعاملونه في مهنة الحياة؟

أم هو لهؤلاء الذين يذهب إليهم بين حين وآخر محققًا متهمًا يبعث البعض منهم إلى السجن أو يحشر البعض الآخر إلى محكمة الجنايات؟ أم هو يحب هذه الأرض وحدها بما فيها من حسن في منظر الزرع ولطف في الهواء وجلال في لألاء النجوم في الليالي الظلماء؟ ولكن أكان يستطيع أن يحب أرضًا أخرى فيها من الجمال ما هو أبدع وأروع من جمال مصر؟ وخُيِّل إليه أن هذه البلاد لو كانت صحراء جاهمة أو مناقع بلاقع لما كان لها عنده إلا ذلك الحب القوي العميق.

أم هو يحب هذا الخلق الذي يجاوره ويعامله من أمثال علية وسعيد أو تعويضة أو قوية ورحومة وأمثالهم ممن رأى في الحياة؟ ولكن ألم يكن إلى جانب كل هؤلاء قوم آخرون ممن ينكرهم وينكرونه ويسخط عليهم ويسخطون عليه؟ ألم يكن في جيرانه أو أهله أو هؤلاء الذين يراهم قومه من يخالفونه في الرأي والمشرب والذوق والعقيدة؟ أليس يرى كل يوم فيما حوله ما يملأ قلبه بالغضب والحنق أحيانًا؟ أفلا يكون ذلك الحب الذي يحسه لبلاده نوعًا من الأنانية يبعثه على أن يطلب في المشاع ما يريد أن يتمتع به هو من حرية وكمال ومجد؟ لقد كان كلما رأى عيبًا في قومه أسف وحزن وودَّ لو استطاع أن يصلحه، وكلما تأمَّل خيرًا ودَّ لو استطاع هذا الوطن أن يدركه ويجمعه إليه، أما يكون ذلك الحب نوعًا آخر من الغرائز لم يتعمقه بعد العلماء، غريزة كامنة في الفرد يحس بها أنه قطعة من كل كما أنه يحس أن ساعده قطعة منه؟

كان فؤاد يفكر في كل هذا وهو سائر أحيانًا، ثم وهو مضطجع أحيانًا يستريح من أثر الجهد، أو وهو يقرأ في كتابه فيسرح بين سطوره لا يكاد يرده من سرحته إلا أزيز المسرة إذ تدعوه إلى مفاجأة طارئة.

وكان في سرحة من هذه السرحات في بكرة الصباح عندما رنَّ الجرس فهبَّ في شيء من الذعر يستمع إلى الصوت الذي دعاه، وكان صوت رئيسه يأمره بأن يذهب مسرعًا للتحقيق في جريمة جديدة، سرقة في الليل، صاحبها نقب في جدران عزبة إبراهيم ميسور، فأحس في جسده شيئًا يشبه القشعريرة ثم أسرع يرتدي ملابسه.

وجاء إليه ضابط البوليس وكاتب النيابة فركبوا سيارة انطلقت بهم حتى بلغوا النجيلة وهم جميعًا صامتون.

ونزل فؤاد يسير إلى العزبة القديمة التي طالما عرفها ووطئ بقدميه كل أركانها، ولكن أي تبدل طرأ عليها؟ نزل بالدار العزيزة التي صارت أشبه شيء بقصر من قصور الإقطاع، فخُيِّل إليه أنها تنكره وتنظر إليه شزرًا، ودخل إلى البهو الذي طالما رأى فيه والده مشرقًا بطلعته فلم يجد سوى إبراهيم ميسور.

وكانت الجريمة عجيبة يحيط بها غموض واضطراب، فقد نُقِبَ جدار العزبة، وشرع اللصوص يسحبون الماشية ولكنهم لم يسرقوا سوى عجل واحد صغير، وتركوا وراءهم كثيرًا من الآثار ولكنها كانت عجيبة، تكاد تثير الشك في حقيقتها، وكانت واضحة فوق الجرن والجسر وعلى الطريق، ولكنها انقطعت بعد ذلك عند طرف الكوم.

وبدأ رجال الضبط في التحقيق ولكنهم لم يستطيعوا الاهتداء إلى شيء ينمُّ على اللصوص إذ كانوا مهرة دهاة، كانت آثار أقدامهم واضحة، ولكنها كانت ذات نعال عجيبة لا يشبه الأيمن منها الأيسر، وكانت مقلوبة فمؤخرها عند أصابع الأقدام، ومقدمها عند العقبين، هكذا دبَّر اللصوص أمرهم في دهاء وحرص ليضللوا المحقق والمقتفي، فلما اطلع فؤاد على تلك الآثار عجب من عمقها في الأرض وانتظام رسمها، كأن اللصوص كانوا في غير حاجة إلى العجلة.

وأحس إحساسًا غامضًا بأن ظاهر هذا الحادث غير باطنه، واشتدت رغبته في استجلاء ذلك الغموض، وكان في قرارة نفسه يشعر بشيء من سوء الظن بصاحب العزبة الذي عرفه وسمع عنه.

وأخذ يسمع أقوال الشهود واحدًا بعد واحد محترسًا في إثباتها حتى لا يضيع حرف منها.

ودعا أحد الحراس ليصف ما رآه، فقال كأنه يعيد قصة محفوظة: تعودت عند حراستي أن أكون قريبًا من حظيرة المواشي؛ لأنها معرضة للسرقة من ناحية الحقول والكوم، ولكني كنت في تلك الليلة محمومًا فاستأذنت السيد في الاعتكاف، ولكني سمعت صياح أهل القرية فقمت متلفعًا بغطائي ولم تكن بندقيتي معي، ولو عرفت أن هناك لصوصًا لما تركتها ورائي ولوضعت رصاصة في أحشاء ذلك اللص الذي لمحته من بعيد يجري، ولكني عرفته من هيئته، عرفته وهو يتجه نحو الكوم.

وسكت لحظة لينظر أثر قوله في وجه المحقق.

فأطرق فؤاد متعجبًا يكاد يضحك من طريقة الرجل في وصفه وقال غير ناظر إليه: أكمل شهادتك.

فقال: إنه قد فرغ منها، مع أنه لم يذكر اسم ذلك اللص الذي لمحه، فسأله فؤاد: ألست تقول إنك لمحت اللص؟

فأجاب الرجل: بلا شك.

فصاح فؤاد: ولِمَ لا تذكر اسمه؟

فقال في شيء من الارتباك: إنك لم تسألني عن اسمه.

فتمالك فؤاد نفسه وسأله: أتقول إنك رأيته؟

فأجاب مؤكدًا: بغير شك.

فقال فؤاد وهو يحاول أن يمسك نفسه: وهل كانت الليلة مقمرة؟

فأجاب الرجل: لا، ولكني حارس تعودت أن أبصر في أحلك الظلام.

فنظر فؤاد إليه نظرة طويلة وهو يجاهد ألا يظهر ما في نفسه من الشكوك، فأغضى الرجل في ارتباك ثم حوَّل وجهه عنه كأنه يبحث عن نجدة قريبة.

فأخرج فؤاد من جيبه منديلًا مسح به عرقه.

وقال هادئًا: أكمل شهادتك.

فتلفَّت الرجل حوله مرة أخرى في شيء من الفزع ثم قال: ومع ذلك فقد رأى الخولي ذلك العجل عند قوية.

فغصَّ فؤاد بريقه وهو يقول في شبه صيحة: قوية!

فقال الرجل محملقًا في وقاحة: نعم، قوية.

وتصبَّب جبين فؤاد عرقًا، وكان يومًا دافئًا من أيام الربيع، فأخرج منديله يمسح به وجهه وقال متلفتًا حوله: افتحوا هذه النافذة، وأين الخولي؟

وجاء الخولي بعد حين، فقال فؤاد مبادرًا: قص عليَّ ما رأيت.

فتكلم الرجل غير متعثر كأنها قطعة أخرى يحفظها، كان يمر اتفاقًا عند طرف الكوم في طريقه إلى العزبة، فرأى عند قوية عجلًا جديدًا لم يره عنده من قبل، وهزَّ رأسه عند ذلك متهكمًا ثم قال: وليس من العجيب أن نجد عنده عجلًا جديدًا، فتأملته فإذا هو العجل الذي سُرِقَ من العزبة، ولكني خشيت أن أتعرض لقوية أو أسأله عن شيء خوفًا من بطشه.

وحملق في وجه فؤاد حينًا بنظرة كالحة ثم أطرق، وكان وقع هذه الشهادة على فؤاد شديدًا، فقام يسير في البهو، وأحس الدم يصعد إلى وجهه، أيقول الرجل: إنه خشي بطش قوية؟ أقد تغير الفتى في هذه السنين القلائل كل هذا التغير أم أن الأمر كله ينطوي على مؤامرة خبيثة؟

وكان الرجل الشاهد يختلس نظرات إلى وجه فؤاد كأنه يتأهب لأول بادرة منه، ولم يكن فؤاد ليعبأ به وهو وكيل نيابة يحلق فوق نظرات أمثاله، ولكنه أحس لتلك النظرات الخبيثة وَقْعًا كأنهما عينا أفعى تبرقان نحوه، ودب إلى قلبه شيء يشبه الرعب؛ خشية أن يكون ذلك الرجل قد رآه يوم زيارته لقوية، أو سمع بتلك الزيارة، أو يكون غيره قد لمحه عنده فأخبره، وماذا يكون موقفه منه إذا هو قال له في وقاحة: «لقد كنت منذ أيام تنزل ضيفًا على قوية»؟

وإلا فما باله يختلس إليه تلك النظرات الجريئة الوقحة التي لم يَعْتَدْ أحد من أمثاله أن يوجهها إليه؟

وعادت ألفاظ الرجل ترنُّ في سمعه قاسية كأنه كان يوجه التهمة إليه قاصدًا، وكاد يضحك ساخرًا من نفسه كيف تنزل إلى مستوى مثل هذا الخلق، ولكنه مع ذلك اندفع في غير وعي يحاول أن يجد لنفسه مهربًا، فسأل نفسه ألا يكون قوية الوديع قد انقلب إلى فطرته التي ساقت أخاه إلى السجن قبله؟ فما باله يبدأ تحقيقه بمثل هذا التحفز في نصرة فتى لا يعرف من أمره إلا الظاهر وقد فرقت بينهما سنون عدة؟ لقد أحس في يوم من الأيام نوعًا من الرضى عن نفسه إذ حسب أنه ساعد ذلك الفتى على أن يستعيد أمله في الحياة الشريفة، وأحس سعادة صادقة عندما رآه في خيمته منذ أيام ينظر إلى الناس والحياة عاطفًا سعيدًا، ولكن أينبغي لمثله أن يغترَّ بمثل هذه المظاهر الخادعة؟ وأخذته هذه الخواطر على غِرَّة حتى أذهلته، وجعلته يصرف كل همه إلى النظر في أمر نفسه وفي موقفه وفيما يخشى أن يقول هذا الشاهد وأمثاله عنه، وخُيِّل إليه أنه قد بدأ التحقيق بما لا ينبغي للأمين على القانون أن يبدأ به تحقيقه، وكان يخالط كل وساوسه الثائرة ندم شديد على أنه أطاع نفسه في زيارة هذا الفتى الذي فارقه من سنين ولا يعرف ماذا طرأ عليه، أغرَّه حديثه وهو يعرف أن الأحاديث هي مطية الأكاذيب والخداع؟ ألم ير أسفل الناس في النذالة وهم أعلى الناس أصواتًا بالشرف وبالكرامة؟! فكيف لم يحترس في خطوته ولم يفكر في عاقبة تبذُّله؟

ثم زاد به الحنق فتصور أن ذلك الفتى وجَّه إهانة إلى كرامته؛ إذ خدعه بمظهره ودعاه إلى زيارته في تلك الجرأة، كأنه لا يريد سوى أن يرضي غروره ليذيع أهل الريف المجاور أنه أهل لزيارة مثله؛ فيكبر في أعينهم ويزداد صرامة في جرائمه.

ثم تذكر ما قاله أبوه منذ سنين إذ قال له: «إن هؤلاء يجمعون في قلوبهم الأضداد من الكرم والقسوة ومن الإنسانية والنذالة.»

وصار كل همِّه أن ينظر إلى نفسه فيلتمس لها من هذا الحرج مخلصًا، وأطرق حينًا يفكر فيما عساه يفعل في هذا الموقف المنكر، فلم يجد إلى الخلاص سبيلًا إلا أن يعدل عن المضي في التحقيق وينفض منه يده نفضًا.

وكان كل مَنْ حوله يحسبون أنه يفكر في حل لغز أو رسم خطة لتعقب الجناة، على حين كانت الأرض تدور به إذ خُيِّل إليه أنه مقبل على فضيحة جرَّتها عليه دفعته الحمقاء، فلسوف يسخر منه إخوانه ويضحكون من سخافته وبلاهته، ولسوف ينظر إليه الرؤساء شزرًا متى علموا أنه دعا نفسه إلى وليمة عند رجل بدوي حقير في قطعة منعزلة من الريف، ومَنْ يدري ماذا يكون من أمر هؤلاء جميعًا؟ ولسوف يرى بعضهم تعويضة بغير شك ولن يخفى عن أعينهم حسنها الوحشي العنيف، وما أجدر ذلك الحسن أن يبعثهم إلى الظنون! وخرج من الدار وليس يدري أين يسير، فاستجمع قوته وحملته قدماه إلى السيارة، ولم يسأله أحد ممن حوله عن مقصده، فما كان أحد ليسأل وكيل النيابة عن نواياه، وأمر السائق أن يحمله وحده إلى طرف الكوم البعيد على نحو كيلومترين من العزبة، فلما بلغه اتجه مسرعًا نحو خيمة قوية المنكود.

وسمع قوية صوت السيارة فخرج مسرعًا، فما كاد يراه حتى أقبل نحوه باسمًا، فصاح فؤاد يناديه في غلظة، وكان صوته بشعًا، فزالت الابتسامة عن وجه قوية ونظر نحوه متعجبًا مترددًا مرتبكًا، ومدَّ يده في فتور ليصافحه وهو واجم من منظره، فجذبه فؤاد إلى ناحية الكوم وقال له في صيحة مكتومة: اصدقني أيها الرجل.

فنظر قوية إليه في دهشة وقال: كفى الله الشر يا سيدي فؤاد، ما لي أراك غاضبًا؟

فقال فؤاد في جفاء: ما ذلك العجل الذي سرقته؟

فرفع قوية رأسه في تحدٍّ وقال غاضبًا: العجل الذي سرقته؟!

فصاح به ثانيًا: نعم، ولا تحاول أن تخدعني.

فملك قوية نفسه وقال عاتبًا: إنني لا أفهم قصدك، ولا أدري سر هذا اللقاء الغاضب.

وكاد فؤاد يتزلزل من رنين الصدق في صوته، ولكنه لم يلبث أن عاد إلى غضبه مضاعفًا، فقد خُيِّل إليه أن الفتى يحاوره ويريد أن يتخلص من سؤاله.

فقال له في جد صارم: اسمع يا قوية، إنني عندما زرتك منذ أيام لم أكن معك سوى فؤاد الذي عرفته، وما كنت عندي سوى قوية الذي وثقت فيه، فلم تكن تعرف أنني وكيل نيابة دمنهور، ولم أكن أعرف أنني سأعود اليوم للتحقيق في جريمة سرقة تكون أنت المجرم فيها.

وكان صوته في غضبه أجش كريهًا حتى أنكرته أذناه.

وكان قوية يسمع قوله مذهولًا، وارتجَّ عليه فلم يجب بلفظ، بل تحرك قلقًا وتمتم قائلًا: «لا حول ولا قوة إلا بالله.»

فصاح فؤاد به: ما لك لا تنطق؟

فرفع قوية رأسه في بطء، وقال: ماذا أقول لك يا سيدي؟ إنني لم أكن أهلًا للسعادة التي وهبتها لي بزيارتك فلم تمض إلا أيام حتى طلع عليَّ النهار بهذا الشقاء الفادح، أتقول إنني سارق؟

فقال فؤاد في حنق: دع هذه الأقوال التي لا تُجْدِي شيئًا وأجبني عما سألتك أولًا، أيدفعك حرصك على الزهو إلى أن تدعوني لتملأ فمك فخرًا بأنني زرتك ثم تتستر بي في جرائمك؟ أألومك أم ألوم نفسي؟

وبدت لمعة الغضب تبرق في عيني الفتى عندما رفع رأسه قائلًا: إن الموت أهون عليَّ مما تقول يا سيدي، لم أطلب زيارتك لتشرفني، ولكني أمتعت بزيارتك قلبي، وما كان يعنيني أنك وكيل النيابة، فلم أعبأ إلا بأنك سيدي الذي عرفته قديمًا.

لم أسألك عن عملك وما كان يهمني أن أعرف شيئًا عنه سوى أنك سيدي فؤاد، ولكن ما ذلك العجل الذي تذكره؟

فصاح فؤاد صيحة مكتومة أخرى قائلًا: العجل الذي سرقته.

فصاح قوية مجيبًا وكانت تلك أول مرة سمعه فؤاد يصيح في وجهه: لا تُعِدْ هذه الكلمة على سمعي، فلولا أنك سيدي فؤاد لرددتك عن نفسي، لست مجرمًا.

فنظر فؤاد إليه متعجبًا وقال في ضحكة مُرَّة: نعم، تردني عن نفسك، فلست في شك من جرأتك.

وأدار عنه وجهه لينصرف.

فاقترب الفتى منه وأمسك بذراعه قائلًا: اسمع يا سيدي فؤاد، ولست أسميك إلا بالاسم الذي أعرفك به، لست مهتمًّا بشيء من كل هذا إلا أن تذهب عني وأنت تحسب أني — كما زعمت — مجرم.

فضحك فؤاد ضحكة سخرية وقال: كما زعمت؟!

فقال قوية ناظرًا إليه في ثبات: أأحضر إليك تعويضة لكي تسألها عني؟

فاندفع فؤاد قائلًا في حنق: وما شأن تعويضة في هذا؟

فقال في صوت جريح: أتصدقني إذا أقسمت لك؟

فقال فؤاد في عنف: وبِمَ تقسم لي؟

فأجاب الفتى وفي صوته رنة المتألم: إنك تنكر في لحظة مَنْ عرفته في سنين، ولكن ما علينا! سأحلف بتربة أبيك، ولا شك أنك تحس في قرارة قلبك أنني صادق، أقسم بتربة أبيك لم أسرق، وأقسم كذلك بتربة أمي التي كانت تحبك وكنت تحبها، أقسم برحمة أمي أنني لم أسرق.

فنظر فؤاد إليه في حيرة ووقع في نفسه أنه صادق.

واستمر الفتى يقول: وجدت بالأمس في المساء هنا عجلًا وراء خيمتي مقيدًا، وحسبت أن بعض الجيران قد تركه في جواري حتى يعود إليه، فكثيرًا ما يفعل جيراني مثل هذا اطمئنانًا إلى حراستي، فضممته إلى ماشيتي وأطعمته من علفي، وأنا واثق من أن صاحبه سوف يعود إليَّ ليسترده مني، فكنت أنت أول مَنْ جاء بحديثه إليَّ في مثل هذه الغضبة التي أخرست لساني.

ثم أشار بيده إشارة بأس.

فأحس فؤاد كأن الأرض تهبط تحت قدميه، واستند إلى كتف الفتى، فأسرع يسنده وذهب به إلى العربة حتى أجلسه فيها، ونسي ما كان فيه وأقبل عليه يعنى به في لهفة.

فقال فؤاد وهو يمد إليه يده مصافحًا: أنا آسف يا قوية على ما بدا مني، ولكني لا أستطيع أن أفهم من هذا الأمر شيئًا، فأنا أصدقك ولكني لا أستطيع إلا أن أمضي عنك والله يتولاك.

فأطرق الفتى حينًا، وجعل ينكت الأرض بعصا في يده، ثم رفع رأسه قائلًا: إذا صدق ظني يا سيدي فهي مكيدة خبيثة قد دُبِّرت لي، أليست السرقة في عزبة ميسور؟

فقال فؤاد كالحالم: مكيدة؟!

فقال قوية في هدوء: أتحب أن تسمع ما تقوله تعويضة؟

ففتح فؤاد عينيه كأنما تلك أول مرة يسمع فيها اسمها.

إذن فهي القصة القديمة!

وعادت به الذاكرة إلى أحاديث قوية، إذ قصَّ عليه أخباره يوم التقيا بالقاهرة، وأطرق صامتًا، فاستمر قوية يقول: عاد الخبيث منذ أسابيع فبعث إليَّ يستعيدني إلى أرضه، وكان أحيانًا يمر بخيمتي فيتودَّد إلى تعويضة، ولكنها كانت ترده ولا تفضي إليَّ بأمره؛ خوف أن يزيد الأمر بيني وبينه سوءًا، ثم رأيته يومًا في عودتي إلى البيت مساء، وخُيِّل إليَّ أنه كان منصرفًا من خيمتي، فاتقد قلبي لهبًا وعنفت على تعويضة حتى خُيِّل إليَّ أن الأمر سوف يؤدي إلى القطيعة بيننا، فأخبرتني بما كان منه، فلم أتريث حتى تتعلق بي وتمنعني من الذهاب إلى ذلك الرجل.

وكان بيني وبينه في تلك الليلة حديث صريح هددته فيه وهددني، ثم انصرفت عازمًا على أن أثنيه عني وإن أدى الأمر إلى أن أفتك به فتكًا.

ولكنه خشع بعد ذلك فلم يعد إلى شيء أكرهه، بل لقد بعث إليَّ منذ أيام رسولًا من قبله يعرض عليَّ أن أعود إلى عزبته، وأنه يحب أن يكرمني، فرددت رسوله عني ردًّا قبيحًا.

وأكبر ظني أنه دبر لي هذا الحادث ليتهمني تهمة تمهِّد له سبيل الانتقام مني كما فعل بأخي من قبلي، هكذا يفعل هذا السيد؛ لأنه لم يقو على الوقوف وجهًا لوجه أمامي، ولكن الله من ورائي ولن يخذلني، وأما أنت يا سيدي فقد أقسمت لك يمينًا صادقة، فإذا شئت فصدِّقني وإذا شئت فكذبني، وأما ميسور فلست أعبأ بما يدبره لي.

فصافحه فؤاد حزينًا وعصر يده كأنه يعتذر إليه عما بدر منه، ولكنه ذهب عنه وفي نيته أن ينفض يده من هذه القضية المنكرة، وانطلقت السيارة إلى العزبة وأمر أصحابه بالعودة إلى دمنهور، فلما بلغ المدينة كان أول همه أن يرى رئيس النيابة ليطلعه على ما كان منه، وأفضى إليه بكل أمره لم يُخْفِ منه شيئًا، فوافقه الرئيس على أن واجبه أن يتنحى عن التحقيق في تلك القضية تجنبًا للشبهات.

وتعمَّد فؤاد بعد ذلك أن يتباعد عن كل ما يتصل بقضية قوية تاركًا صديقه لرحمة الأقدار، وقضى أسابيع طويلة ممزقًا في خواطره، يلوم نفسه حينًا، ويعذرها حينًا، وهو في كل ذلك يخشى أن يضيع الفتى ضحية المكر الخبيث.

ولكن الشواغل شغلته بعد ذلك عن أن يفكر في أمر قوية إلا بين حين وحين، فكانت صورة الفتى تتمثَّل له أحيانًا كأنها تؤاخذه، وكانت صورة تعويضة تبدو له كأنها تعاتبه، فكان يدفع صورتيهما في شيء من الفزع ويبعد التفكير فيهما بهزة عنيفة.

١١

كان فؤاد يكتب إلى صديقه سعيد بين كل أسبوع وأسبوع، يجد إلى ذلك باعثًا من كتاب قرأه أو حادث شهده أو قضية حقَّقها أو منظر رآه، وكانت ردود صاحبه قليلة ولكنها إذا أتت إليه ملأت فراغ وقته حتى يعيد إليه الكتابة مرة أخرى، وكان سعيد في كل كتاب يبعث به إليه يثير مسألة تحرِّك فيه فكرة أو أفكارًا، فكأن تلك المكاتبة قد أصبحت سلسلة تفصل بعضها عن بعض فترات من زمن، وهي إذا اجتمعت كانت حديثًا موصولًا.

وجاء أحد هذه الكتب إلى فؤاد في مطلع الربيع ينبئه صاحبه في حاشيته أنه قد اعتزم العودة إلى الإسكندرية، لقد ضاق أهله بالريف وما فيه من ظلمة في الليل وركود في النهار، إذا شاء الذي يعيش فيه أن يشرب ماء كان عليه أن يحمله ويصفيه، وإذا أراد شراء دواء كان لا بد له من سفر طويل لكي يشتريه، وأما الحياة فيه فلا يقدر عليها إلا مَنْ عزم على أن يقطع ما بينه وبين الحياة.

وكان عجب فؤاد شديدًا من ذلك النبأ، وإن امتزج عنده العجب بالسرور، كانت الإسكندرية أشق على الناس مقامًا من سائر المدائن، فإن المعركة الطاحنة كانت ما تزال تدور في شمال أفريقيا، وكانت الغارات تتوالى على شواطئ الإسكندرية، فلم يفكر أهلها بعد في العودة إليها، ولكن مهما يكن من خطر تلك الغارات فقد كان في استطاعة فؤاد أن يذهب إلى ذلك الشاطئ كل أسبوع فيمتع نفسه بحديث صديقه حينًا وبرؤية علية التي لم يرها منذ شهور طويلة.

على أنه بعث إلى صديقه يسأله هل يؤثِر الإقامة في القاهرة، فإنها كانت أقل تعرضًا للأخطار، وما ينبغي له ولأهله أن يدفعهم التبرم بالريف إلى مثل هذه المخاطرة، ولكن رد سعيد كان قاطعًا حاسمًا، فإن علية قد بلغت من السآمة ما لا يستطيع شيء أن يزيله عنها إلا شواطئ الإسكندرية.

إذن فهي علية التي كانت أشدهم ضيقًا بحياة الريف، وهي التي كانت في الإسكندرية تقضي أكثر فراغها في خدمة المساكين والمشاركة في جمعيات البر.

وتبسم في شيء من السخرية، ولكنها كانت سخرية هادئة ليس فيها سوى وخزة من الدعابة.

وكتب إلى سعيد ينبئه بأنه سوف يزورهم بالإسكندرية؛ حتى يشاركهم بعض المشاركة في التعريض لأخطار قنابل الأعداء، ومضت أسابيع بعد ذلك وفؤاد يتلهف إلى سماع نبأ انتقال الأسرة الصديقة إلى الإسكندرية، وتمثلت له مناظر تلك المدينة أكثر سحرًا، وهواؤها أعظم صفاءً، وصيفها المقبل أبدع رواءً رغم ما يحيط بها من المخاطر، فما يكون أسعده إذا اختلس من أواخر الأسابيع خُلَسًا يقضيها هناك فيفوز فيها بنزهات على رمال الشاطئ أو جولات فيما يجاور المدينة من المنازه أو الصحارى في صحبة علية وأخيها، فما كاد سعيد يبعث إليه نبأ انتقال أسرته إلى الإسكندرية حتى بادر إليه ليقضي معه ومع أسرته يومًا بديعًا، فسافر في يوم من شهر يونيو، وكان الشاطئ خاليًا إلا من قلائل منثورين على الرمال كأنهم بقية من عالم مندثر، وكان السكون عميقًا في ساعة الأصيل عندما ذهب ليلقي على الشاطئ أول نظرة بعد عودته إليه، ألا ما كان أكبر الفرق بينه وبين ما رآه في المرة السابقة بين الجموع التي كانت تسير على الطريق متزاحمة صاخبة مرحة!

كانت السماء على عهدها زرقاء صافية، وكانت حدائق زيزينيا ولوران تضحك متبرجة في ألوان أزهارها، وكانت أوراق الأشجار وأغصانها تهتز يانعة عميقة الخضرة بعد أن غسلت الأمطار عنها غبارها في الشتاء والربيع، وكان هواء البحر ما زال يفوح برائحة العشب، تلك الرائحة التي كانت تحمل إليه أبعد الذكريات التي حجبها الماضي وراء غلالة من الضباب، ونزل آخر الأمر إلى شاطئ سيدي بشر فرأى الرمال على عهدها صفراء لامعة تحت أشعة الأصيل، وكانت مياه البحر تتهادى نحو البر في رفق تحت هبات النسيم الرفيق، ولكن العالم السحري لم يكن هناك، لم يذهب فكر فؤاد في ذلك السكون الصامت إلا إلى صورة علية التي لم تكن على الشاطئ الخالي، وجعل ينظر إلى المقاصير الخشبية وهي أنيقة خالية كأنها حسناء منبوذة، وسار يقلِّب عينيه على جوانب الشاطئ لا يدري عمن يبحث فيها.

وكان موعده مع صاحبه مساءً في البيت على العشاء؛ ليحتفلوا بأول التقاء بعد تلك الغيبة، فجلس حينًا على مقصف الشاطئ يشرب فنجانًا من الشاي، ومدَّ بصره إلى الأفق لا لكي يتأمل سحابه الذي كان يخطر في ذيوله الزاهية، بل ليتمثل كيف يلقاها وكيف يحدثها إذا حان وقت لقياها، وجعل يدبر في نفسه عبارات الإعجاب بالصور التي لا شك أن مناظر الريف حملتها على تصويرها، فلئن كانت لم تستطع الامتزاج بأهل القرى وانتهاز فرصة إقامتها بينهم لتفيض عليهم من رحمة قلبها، فإن ذلك عبء لا يقوى عليه مثلها، ولكن الريف في حقوله وشمسه وفي قراه وأكواخه وفي مراعي برسيمه وأجران قمحه يعرض على أهل الفن عالمًا واسعًا ليجولوا بفنهم فيه.

وذهب في المساء إلى البيت على ربوته في محطة السراي، فدقَّ جرسه وانتظر في لهفة مدة ثوانٍ حتى فتح الخادم النوبي الباب، ودخل إلى البهو الفسيح وكانت الأضواء تأتلق في أركانه ومن فوقه، وهبَّ سعيد من بين الجلوس مرحبًا في حماسة، وفتح لصاحبه ذراعيه، ودخل فؤاد ينظر حوله فرأى علية في ركن تنظر إليه باسمة، ثم مدَّت يدها نحوه في بشاشة فسلَّمت وقالت: زمن طويل يا فؤاد!

فقال باسمًا: ثم أشرقت الأنوار فجأة!

وسلَّم على الأم والأب ثم انحنى إذ قدَّمه صاحبه إلى ضيف لم يره قبل ذلك اليوم، صدقي بك.

وكان صدقي فتًى أنيقًا ممتلئ الجسم تلوح النعمة في وجهه وهيئته وملبسه، وعرف فؤاد من حديثه أنه ابن عمة سعيد، قد ذهب إلى أوروبا ليدرس الاقتصاد في فرنسا حتى أوشك أن يبلغ غايته، ثم قامت الحرب فعاد مسرعًا قبل أن يمتدَّ لهيبها، إذ عرف أنها حرب مدمرة سوف تقف حركة العالم كله مدة سنين، وقال صدقي: إنه يقيم في الإسكندرية لم يبرحها منذ عاد من فرنسا، ولم يرض أن يهرب من الأخطار كما يهرب خفاف القلوب، وكان ما يزال ينتظر انتهاء الحرب وفتح طريق البحر حتى يعود لإتمام دراسته في فرنسا، فما كان مثله ليلجأ إلى إحدى كليات جامعتي مصر.

ورآه فؤاد من أول نظرة جميل الصورة رشيق العود، ولكنه على شيء من الزهو يشبه أن يكون دلالًا، فذهب ليتخذ مجلسه إلى جنب سعيد في الركن الآخر الذي يقابل علية وصدقي.

وأحس فؤاد شيئًا يشبه أن يكون خيبةً وحنقًا، فلم يلبث أن ضاق بذلك المجلس وودَّ لو استطاع أن يفرَّ منه هاربًا، وكان سعيد يناجيه في حماسة ويصف له ما شهده هو وأهله في حياة الريف، وما كانوا يسمعونه كل يوم من أنباء خيالية عن الحرب يذيعها أهل القرى كأنها هبطت إليهم من السماء، وود فؤاد لو كان حديث المجلس مشتركًا ليسمع ما تقول علية، ولكنها كانت منصرفة إلى صدقي تحدثه فلا تأتي من أحاديثها إلى أذنه إلا كلمات بين حين وحين في طي ضحكة مرحة فيها ذكر بعض الأسماء، لقد كانا يتحدثان عمن رأيا من الناس وهما ينظران إليهم من ركنهما وحدهما.

وزاد الانقباض في قلب فؤاد، فكان يمانع نفسه قسرًا من توجيه نظراته الحانقة إلى ذلك الفتى الجديد الذي طلع عليه فجأة ليسلبه حقه في حديث علية، وآذن وقت العشاء فاجتمعت الحلقة على المائدة وقامت علية تخدم في محل أمها، وكان حديث المائدة مهذبًا مرحًا وزَّعته علية في براعة كأن ذلك فن من فنونها، واتجهت في أثناء ذلك إلى فؤاد ببعض لفتات أزالت عنه بعض قبضته الأولى، فلما فرغ من الطعام كاد يلوم نفسه على سوء ظنه وما ساوره من الضيق والحنق، وسأله سعيد أيحب أن يلقي نظرة على مرسمه، فوثب مرحِّبًا ونظر إلى علية كأنه يسألها: أليست تلك فرصة لاستعادة ما سلف من الأحاديث؟ فقالت ضاحكة: لا تطعه يا فؤاد، فإنه سوف يصدِّع رأسك بالأحاديث عن صور ريفه.

فكانت صدمة أخرى شديدة أصابته، أنها تتحدث عن مناظر الريف بمثل هذه الزراية ولا تريد أن تذهب إلى المرسم معه ومع أخيها، وتؤثِر البقاء حيث هي في البهو مع هذا الشاب؛ لتستأنف الحديث وضحكات السخرية معه عن أصحابه وصواحبها.

وخرج مع سعيد كئيبًا إلى الحديقة ودخلا إلى المرسم وقد زاد باللوحات ازدحامًا وفوضى، كانت لوحات جديدة تزاحم اللوحات التي وقع بصره من قبل عليها، وهي خليط من مناظر، بعضها رءوس أشخاص وبعضها صور حيوان أو مناظر أكواخ في الحقول، وقد مزج سعيد ألوانها في براعته المعتادة، وكانت كل لوحة تتحدَّث حديثًا ناطقًا: إنه سلام واطمئنان! وكانت صورة الزنجي المتسول ما تزال قائمة في الصدر، ولكن لوحات أخرى قامت دونها تحجبها، وأما صورة علية فقد انزوت في ركنها من البهو في جوار صورة الزنجي حتى كان من العسير على فؤاد أن يبصرها إلا إذا اندسَّ بين الصور التي تحجبها، وأي تغير اعترى تلك الصورة عندما دخل في الفرجات بين اللوحات واستطاع أن يبصرها! لقد زالت نظرتها التي لمح فيها الهدوء والسلام من قبل، ورآها وهي تمسك بطرف ثوبها هابطة إلى الصخرة التي على شط البحر جريئة لا تبالي أن تقتحم الموج الثائر بثوبها الأبيض ونعليها الرقيقتين، ولم ير أثرًا لتلك النظرة الخاشعة التي جعلته يشبهها بالراهبة المطمئنة، فلم يكن لها من الراهبة إلا ثيابها البيض، فأين ذهب ما رآه من قبل عندما وقعت عينه عليها أول مرة؟ أتبدلت الصورة كما يتبدل الناس أم كانت الصورة تبدو له كما يصوره له وهمه؟ ومع هذا فإنه قضى ساعة مع صاحبه في حديث متصل ليس فيه فتور، وكان سعيد كما عرفه فؤاد منذ صغره موطَّأ الأكناف ألوفًا عطوفًا، وأقبل سعيد في أثناء الحديث على لوحاته يرتِّبها ويعدِّل من أوضاعها، فاستأذنه فؤاد أن ينزل إلى الحديقة فيسير فيها وحده حينًا، ونزل من المرسم وهو يحس كأن الفضاء الذي حوله يتقد حَرًّا، ورأى علية عند ذلك خارجة من البهو فانحرف عنها كأنه لم يرها، واتجه إلى ركن بعيد من الحديقة، ولكنه سمع قدميها وهي تهبط على الدرج وتسير فوق الحصى المفروش في المماشي متجهة نحوه، وكانت الليلة قمراء والحديقة تبدو في غلالة من النور الرفيق، كانت الأغصان الباسقة تنطبع على صفحة السماء حالمة هادئة صامتة، وكانت الخمائل المزدهرة منثورة بين الأشجار كأنها أطفال تلوذ بأمهاتها في ليلة عرس، ومن تحتها بساط ممتد من العشب الأخضر تتلألأ عليه قطرات من الماء تبرق كلما سطع عليها الضوء، وسمع صوت علية من خلفه تناديه مرحة: أنت هنا؟

فالتفت إليها بقلب واجف وقال: إنها ليلة ساحرة.

فقالت ضاحكة: وما ينبغي أن تقضيها في المرسم الضيق، وأين سعيد؟

فقال فؤاد باسمًا: مع لوحاته يصففها ويمسح الغبار عنها.

فقالت علية: هو لا يملها، ولا يرى جمال الكون إلا من خلالها. تعالَ يا فؤاد لأطلعك على لوحاتي أنا.

فقال فؤاد: لم أرها في زحمة المرسم …

فقالت ضاحكة: لم أضعها في ذلك المرسم الضيق، فهي هنا.

وأشارت بيدها إشارة شاملة إلى الحديقة.

ثم قالت: قد اتجهت إلى هذه الحديقة بعد عودتنا معتذرة لها عن هجرتنا، فانقطعت لها أخدمها وأسقيها وأنسق أحواضها وأركانها، هذه لوحتي!

فقال فؤاد وقد عاد إليه بِشْره: إنها لوحة حية!

فأخذت ذراعه وسارت به نحو عريش في ركن الحديقة، وأحس لمس يدها فكأن عصا ساحر غمرته سعادة.

وقالت علية في حماسة: أترى هذا المجلس الهادئ؟

وكان العريش قائمًا في زاوية تلاصق البناء وتتكئ على جانبيه أعواد متسلقة ذات زهر فيها الأصفر الداكن وفيها الأبيض الناصع، ومن تحته مقاعد على قوائم من قطع غليظة من جذوع الشجر قد رُصَّت فوقها أعواد من أغصان دقيقة، وكان بين المقاعد قطع أخرى من جذوع كأنها مناضد، ومن فوقها أصص من أزهار شتى.

واستمرت تقول ضاحكة: إنك تحب الريف يا فؤاد وهذا مجلس لا شك يعجبك.

وجلست على مقعد ونظرت إليه كأنها تدعوه إلى الجلوس، وفاح في الهواء عطر خفيف من أزهار العريش يمتزج بالعطر الذي يفوح من علية، فكان لذلك شذى عجيب لا يشبه في شيء ما عرف فؤاد من أنواع العطور! أرج خفيف ولكنه قوي شديد أحسه ينفذ إلى أعماقه.

وجلس إلى جانبها يقول: ما أبدعها من لوحة!

فقالت علية مرحة: لقد عرفت أن هذا المجلس يعجبك.

فأجاب مغتبطًا: إنها قطعة من فن يلهم بالسلام يا علية.

ورنَّت كلماتها في قلبه إذ قالت: «لقد عرفت أن ذلك المجلس يعجبك» أكانت تذكره وهي ترسم هذا العريش؟!

ونظر إليها حائرًا يحس أن الأقوال تزدحم في خاطره ولا تنطلق على لسانه، أهذه علية التي كانت منصرفة عنه منذ ساعة وتقبل بحديثها على ذلك الفتى الآخر تناجيه وتبتسم له؟ أليس إقبالها عليه كأنه اعتذار إليه وتكذيب لظنونه ووساوسه؟ فما الذي يمنعه من أن يأخذ بيدها بين كفيه فيرفعها إلى شفتيه يقبِّلها ثم يتدفَّق لها بما في نفسه فيكشف لها عن الحب الذي يجيش في قلبه قويًّا صادقًا صافيًا؟ أيمضي في صمته فلا يكشف لها عن حقيقته ويدع ذلك الفتى الوسيم المعجب بنفسه يتودَّد إليها ويغلبه على فؤادها؟ ولكنه لم ينطق، وكلما هَمَّ بأن يقول كلمة تعثَّر بها خاطره قبل أن يفوه بها فترتد الكلمات كليلة إلى صمتها، ومضى حين عليهما في صمت ثقيل فقالت علية: تعال يا فؤاد فانظر إلى الحديقة من ذلك الركن الآخر.

ورآها تهمُّ قائمةً وأحس لمس ثوبها الحريري، وفاح في شمه عطرها العجيب، فقام صامتًا يتبعها حتى وقفت عند الركن المقابل وأشارت بيدها نحو البدر المطل من بين أغصان مجموعة ملتفَّة من الشجر، ولمعت أناملها الملونة وهي تشير كأنما هي زنبقة بديعة وقالت: سأتخذ هنا مجلسًا آخر يستقبل البدر إذا طلع هكذا.

فقال فؤاد: إن الأحلام تحيط بكل المكان يا علية!

وهَمَّ أن يصيح قائلًا: تعالي نَعُدْ إلى مجلسنا الأول فنتحدث فيه قليلًا، ومضت عليه لحظات طويلة وهو يدير الأحاديث في ضميره، ولكنه كان كلما حاول النطق لم يستطع إليه سبيلًا، كانت الكلمات المتدفِّقة تقف عند لسانه كأنها ترتد عند سد.

وقالت علية: ألا توافقني على اختياري؟

فأجاب: كل الموافقة يا علية.

فقالت في حماسة: إذن فهذه الحديقة مرسمي.

ثم نظرت نحو مرسم أخيها، ونظرت إلى الساعة التي فوق معصمها وقالت في شبه صيحة: سوف يقضي سعيد كل ليلة مع لوحاته لا يبالي أحدًا.

ثم صاحت تنادي أخاها.

فقال فؤاد: لا فائدة في ندائه إذا لم نذهب إليه ونجرُّه من مرسمه جرًّا.

فصاحت تناديه مرة أخرى فلما لم تسمع جوابًا قالت: دَعْه يا فؤاد فلا أظن أنه يعبأ بأحد منا.

ثم أسرعت نحو سُلَّم الدار فقفزت على الدرج صاعدة وصعد فؤاد وراءها فاترًا، ودخلت إلى البهو فقالت في مرحها: لا مؤاخذة يا صدقي، لقد تأخرنا كنت أعرض على فؤاد حديقتي.

وعادت القبضة إلى صدر فؤاد عندما سمعها تعتذر إلى صدقي لأنها أبطأت عليه في تلك اللحظات القصيرة التي قضتها معه في الحديقة!

والتفت صدقي نحوها باسمًا وقال في هدوء: لم أشعر بمرور الوقت فإني كنت أحدث عمتي.

وكان جالسًا إلى جنب أم علية يدخن سيجارًا، ووقف فؤاد عند مدخل البهو حينًا، وهجم عليه الضيق فجأة حتى أحس أنه أشقى مَنْ فوق الأرض، وخُيِّل إليه أن كل ما في البهو ينظر نحوه شزرًا، وسارت علية متجهة إلى مقعد ونظرت إلى فؤاد كأنها تدعوه ليجلس إلى جانبها.

ونظر صدقي إليه باسمًا.

فقال فؤاد وهو يحاول إخفاء ارتباكه: كنت أود لو استطعت أن أقضي الغد معكم، ولكني مضطر أن أكون في دمنهور غدًا.

فصاحت علية: مستحيل!

وذهبت نحوه فأمسكت بذراعه.

فقال فؤاد في بسمة ضئيلة: أشكرك، ولكني مضطر يا علية، لا بد أن أكون في دمنهور صباحًا.

وحيَّا آخر الأمر منصرفًا، فذهبت عليه معه إلى المرسم، وكان سعيد ما زال هناك في قميصه عاكفًا على صوره يرتبها ويزيل أثر الغبار عنها.

فصاحت به علية: ما هذا؟

فالتفت سعيد باسمًا وقال لفؤاد: لعل الحديقة أعجبتك.

فقالت علية: إنه يريد السفر الليلة.

فنظر إليه سعيد قائلًا في هدوء: أيمكن هذا؟

ثم رفع يده فنظر إلى الساعة التي فوق رسغه وقال في دهشة: لقد مضى الوقت سريعًا ولكن أليس الغد يوم الجمعة؟

فقال فؤاد: أنا مضطر إلى السفر.

فقال سعيد يخاطب علية: ألم تخبريه عن رحلتنا غدًا؟

فقالت باسمة: لم أعلم أنه يسافر الليلة، وكنت أحب أن أجعلها مفاجأة.

فأحس فؤاد كأن سهمًا طعن قلبه، فأية رحلة تلك التي يكون معهم فيها، ثم يرى علية تتأبَّط صاحبها وتناجيه ولا يكون نصيبه إلا أن تلقي إليه أحيانًا فضلة من فضلات التفاتها؟!

وأجاب في إصرار: آسف؛ إذ إني مضطر إلى السفر الليلة.

ونظر سعيد إلى وجهه الجاهم فقال له: أأنت مُتْعَب؟

فهز فؤاد رأسه في شك وقال: قد أكون متعبًا، ولكني مضطر إلى السفر يا سعيد، ومد يده إلى علية ليحييها قبل ذهابه فنظرت إليه آسفة، ولكنه حوَّل عنها عينه متكلفًا أن يبتسم وهو يحييها.

وقالت له: لن نحسب هذه الزيارة يا فؤاد.

فتمتم مجيبًا بكلمة لم يكد يتبين لفظها، وهبط يسير نحو الباب مسرعًا، وذهب معه سعيد يشيعه إلى المحطة في عربته، وأحس كأن عبئًا أزيح عن صدره عندما وجد نفسه في عربة القطار وحيدًا، وأَسْلَمَ نفسه لخواطره الحانقة.

وبلغ بيته آخر الأمر فقضى سائر ليلته ساهدًا حتى طلع الصباح، وذهب إلى عمله فاتر الجسم، ولكن قلبه كان ثائرًا يريد أن تجتمع عنده كل الهموم السوداء لعل انشغاله بها يصرفه عن الأحاديث الحانقة التي كانت تضطرب فيه.

وعزم على أن يقطع ما بينه وبين الإسكندرية فلا يزورها حتى لا تقع عينه على صدقي مرة أخرى، ومضت أيام الأسبوع ونفسه موزَّعة بين الحنق حينًا والكآبة حينًا، حتى جاء يوم الخميس فسأل نفسه: ألا يزور الشاطئ مرة أخرى؟ وحاول أن يصرف عنه هذا الخاطر مرارًا، ولكنه وجد نفسه آخر الأمر يركب أول قطار في صباح الجمعة إلى الإسكندرية، ولم يتردَّد في أن يذهب إلى دار سعيد ويدعو نفسه إلى الغداء مع الأسرة، وكان سعيد في مكتبه، فدخل عليه متكلفًا أن يبدو مرحًا غير متكلف، فما وقعت عين سعيد عليه حتى صاح به قائلًا: لقد أحسست أنك آتٍ للغداء معنا اليوم.

فقال فؤاد: هو قلبك المؤمن دائمًا يا سعيد.

وجلسا يتحدثان على عادتهما.

ودخلت علية باسمة فقالت: مرحبًا بك يا فؤاد، لقد لمحتك من النافذة داخلًا.

فخفق قلب فؤاد وهجم عليه شعور قوي من السعادة وقال لها: يخيل إليَّ أننا افترقنا أجيالًا طويلة.

فقالت علية ضاحكة: لقد كانت إقامتنا في الريف — بلا شك — أجيالًا طويلة.

فقال سعيد: لست أدري إذن كيف نعيش إلى اليوم.

فقالت علية: لست أفهمك يا أستاذي.

فأجاب سعيد: أَبَلَغَ قولي من العمق أن يصعب عليكِ فهمه؟ هذه تحية لا أستحقها، ولكني لست أدري كيف تكون الشهور أجيالًا.

فقالت علية ناظرة إلى فؤاد: لو رأيت ما رأيناه في الريف لعددت كل دقيقة بسنة.

فضحك سعيد وقال: أما أنا فإني لم أحس شيئًا من هذا، كنت أستيقظ في الصباح فأتنفَّس من الهواء، وأفتح عيني على منظر الطبيعة الباسمة، وأستغرق أحيانًا في تأمُّلي خلال الليل المظلم الذي تتلألأ فيه النجوم، وأستمتع أحيانًا بجمال الليالي القمراء الوديعة، هذا كل ما وجدت في الريف ولم ينقصني فيه إلا رؤية هذا.

وأشار إلى فؤاد.

فقالت علية: ولم تحس ألمًا من لذع بعوض الليل ولا ضيقًا من وحشة حياة النهار؟!

فعادت القبضة إلى قلب فؤاد كأشد ما كانت تعذبه في الأسبوع الذي مر به، فلقد قصد بكلمته التي قالها أن فراق علية في هذه الشهور كان في نفسه يشبه فراق أجيال طويلة، ولكنها لم تشعر بتحيته وأخذت تتحدَّث عن ضيقها بحياة الريف وما فيها من مشقة.

وقال سعيد: لم أحس في الريف وحشة في الحياة ولا ألمًا، إن الوحشة في قلوبنا نحن إذا كنا نتطلَّع إلى أكثر مما تهب لنا الطبيعة، هناك في الأحياء مَنْ يحسون الشقاء الشديد؛ لأنهم لا يستطيعون الوصول إلى كأس مُرَّة من الخمر، أو لا يصدعون رءوسهم بضجيج المجامع اللاهية الهازلة، أليس كذلك؟!

ونظر إلى فؤاد كأنه يستنجد به.

ولكن قلب فؤاد خانه، فلم يرد إلا بهزة من رأسه موافقًا.

وقالت علية ناظرة إلى فؤاد: تصور عزلتنا هناك عن كل ما فيه حركة الحياة، حتى لقد كنا لا نستطيع الوصول إلى صحيفة ولا إلى كتاب.

فقال فؤاد فاترًا: ولكنك بغير شك تجدين هناك ميدانًا عظيمًا لقلبك الكبير.

فقال سعيد: هكذا قلت لها مرارًا، إن هؤلاء المساكين الذين يعيشون في الريف في أشد الحاجة إلى أن يعيش بينهم أمثالها.

فقال فؤاد في هدوء: بلا شك، ولو وجدنا الوسيلة إلى الإقامة بينهم ولو بين حين وحين لردُّوا إلينا الصنيع مضاعفًا، لقد عشت بين هؤلاء أعوامًا وأستطيع أن أدرك مقدار المتعة التي يمكن أن نجدها في الحياة بينهم.

وعادت إلى ذهنه صورة قوية المسكين وتعويضة امرأته، وسأل في سره: ألا كيف حالهما؟ وماذا آل إليه أمر قوية؟

وسمع صوت علية تقول عند ذلك: لا لا، لقد فضلنا أن نخاطر بحياتنا هنا على أن نبقى بين تلك الحقول الخضراء بما فيها من متاعب.

وقامت عند ذلك مسرعة فنظرت من النافذة وصاحت تنادي في حماسة: صدقي، تعال.

وسارت تفتح له الباب قائلة: سأجد على الأقل واحدًا يشاركني في رأيي.

وغاص قلب فؤاد كأنه يهوي في فراغ عميق، ثم دخل صدقي بقامته المديدة ووجهه الجميل، وسمع صوته القوي يقول: صباح الخير يا علية، ماذا أتى بك إلى هنا؟

فقالت: فؤاد هنا.

فصاح صدقي: الحمد لله على السلامة.

ثم دخل وحيَّا في طلاقة، وقام فؤاد يستقبله وهو يعاني المشقة في إزالة ما على وجهه من الوجوم.

وقالت له علية وهو يجلس: مبروك بذلتك الجديدة، إن لونها بديع ولون رباط الرقبة يناسبها.

وجلس صدقي إلى جانب علية مقابلًا لفؤاد وسعيد، وقال باسمًا: أشكرك على تحيتك.

ثم قال لها: الحمد لله إذ لم تحدث إغارات على الإسكندرية منذ جئتم إليها، كان قدومكم إليها سعيدًا.

فقالت في حماسة: هذا من حسن حظي، فلو حدثت إغارة في هذا الأسبوع لما تخلصت من لوم الجميع، ألا توافقني يا صدقي على أن حياة الريف لا تطاق؟

فقال صدقي باسمًا: بالتأكيد، وأظن أن سعيد يغالط نفسه.

واتجه إلى فؤاد قائلًا: ألا توافق على أن الحياة هناك لا تطاق؟

فقال فؤاد في فتور: هي بغير شك شديدة على مَنْ لم يتعودها.

فقالت علية: والناس هناك، لقد سألت نفسي مرارًا أهؤلاء هم مواطنونا؟

فقال فؤاد في حزن: إنه سؤال كان يخطر لي هناك في كل صباح ومساء.

فقالت علية: إذن فأنت توافقني؟

فقال فؤاد: بغير شك، وأرى أننا مطالبون بأن نؤدي نحوهم واجبنا.

فقالت علية ضاحكة: ولكن من بعيد.

وأضاف صدقي ضاحكًا: نعم من بعيد، لا حاجة بنا إلى أن نضمَّ أنفسنا إلى البائسين لكي نواسيهم.

فنظر فؤاد إلى علية صامتًا ثم أطرق مفكرًا، وتذكَّر قوية وتعويضة وقال في نفسه: «هل فعلت أنا أكثر من هذا حتى أوجِّه اللوم إلى علية؟»

وتنبَّه من تفكيره على صوتها إذ قالت: لست أخشى أن أقول في صراحة إن واجبنا لا يزيد على أن نرحم هؤلاء المساكين ونمدَّ إليهم أيدينا لنخفف عنهم بؤسهم، ولكن ليس معنى هذا أن نشاطرهم الشقاء، ألا ترضون إلا بأن نكون كذلك من الأشقياء؟

ونظرت إلى صدقي قائلة: ألا توافقني؟

فقال صدقي في حماسة: طبعًا.

وقال سعيد ضاحكًا: طبعًا!

ثم نظر إلى فؤاد قائلًا: لا بد من وجود الأحزاب، هكذا الحياة الديمقراطية.

فقالت علية ضاحكة: لن تخيفني بسخريتك، أتستطيع أن تبين لنا ماذا فعلت أنت لهؤلاء؟

فسكت سعيد لحظة، وعلَّق فؤاد أنفاسه ليستمع إلى جوابه، وسأل نفسه هذا السؤال عينه، ماذا فعل هو لأولئك الذين يكثر عنهم الأحاديث؟ ألم يمد إليهم يده من بعيد حتى إذا ما خشي أن تصيبه معرة أو سخرية قبضها عنهم والتمس لنفسه النجاة؟!

وقال سعيد في صوته الهادئ: لا أستطيع أن أكابر في الحقائق يا عزيزتي، إنني لم أصنع لهم أكثر من أن أرسم بعض صورهم على لوحاتي.

فضحكت علية منتصرة وقالت: أتكفي هذه الصور البارعة في مساعدة هؤلاء الأصدقاء؟ قدِّمها لهم إذا شئت لعلهم يجدون فيها عزاءً على ما هم فيه من شقاء.

ونظرت إلى فؤاد باسمة في صمت.

وخُيِّل إليه أنها تهمُّ بأن تسأله عما فعله هو كذلك لأصدقائه المساكين، ودبَّ إليه شعور بالنجاة عندما قامت تنظر من النافذة قائلة: إننا نضيع وقتنا هباءً في مثل هذه المناقشة، وقد طالت جلستنا بين الجدران في مثل هذا الجو البديع، هلموا إلى الحديقة.

ولم تنتظر بل سارت إلى الباب، ووثب صدقي يسير وراءها.

وقام سعيد قائلًا لفؤاد: حقًّا إن الحديقة في هذا الوقت ممتعة، ألم تر مجموعة الأبصال التي زرعتها علية؟

فقام فؤاد يجر قدميه وراءه إلى الحديقة، ومر اليوم عليه بطيئًا حتى عاد إلى دمنهور في قطار المساء.

ولما عاد إلى دمنهور في تلك الليلة كانت الوحشة تخيل إليه كأنه وحيد منبوذ، فما قيمة كل هذه الحياة التي كلما تعلق فيها بأمل وجده ينهار في يده ويهوي به إلى الهوَّة المظلمة التي كان يحاول الخروج منها؟! وقد راجع نفسه من قبل مرة بعد أخرى وعلَّلها بالأماني وخادعها بالحجج، ولكن ما جدوى كل هذا والحق واضح أمام عينيه إن كان يريد أن يعرفه، إن علية تحب هذا الفتى الوسيم الرشيق الأنيق، تحب صدقي الذي يعرف كيف يستميلها بلفظه المعسول وأدبه المزوق وبراعته في الأحاديث ولا يتردَّد في التودد إليها في كل مناسبة.

ولم يكن من العسير عليه إذا لم يشأ أن ينخدع منذ أول الأمر أن يعرف هذه الحقيقة الواضحة، كان من الواضح أن كل شيء في ذلك الشاب يعجبها حتى لون بذلته وربطة رقبته، وأما آراؤه — وهل كان لصدقي آراء؟! — كانت تافهة ولكن علية كانت تقرها، أو كان هو دائمًا على وفاق معها في آرائها، فما تكاد تنطق حتى يتم لها قولها، فإذا أتمه أعادت هي كل كلمة معجبة بكل حرف منها.

وامتلأ قلب فؤاد من شيء يشبه الحنق أو الحقد على ذلك الشاب الذي خُيِّل إليه أن المقادير قذفت به بينه وبين علية لكي تحرمه منها، وإلا فما الذي عاد به من فرنسا وقد كان له — بغير شك — في فتياتها غنًى عن علية؟ وما الذي أقام هذه الحرب في ذلك العام فلم يتقدَّم به ولم يتأخر كأن القضاء قد أثار تلك الحرب عمدًا ليعود ذلك الفتى إلى مصر في الوقت الذي عرف فيه علية؟

وكان الحنق يحمله أحيانًا على أن يدافع نفسه عن تلك الفتاة ويحاول أن يظهر كل ما يستطيع الحنق أن يصوره له من العيوب، وسأل نفسه أيستطيع أن يتخذها زوجة؟

لقد تعود في حياته بساطة الريف، فهو لا يميل إلى مفاتن المدينة وملاهيها، ولا يرتاح إلى مجامعها الصاخبة ولا إلى أنوارها التي تكاد تعشي العيون، كان نور القمر الخافت أحب إليه من أضواء المسارح الوهاجة، وكانت أنفاس الشاطئ أروح لصدره من جو الأبهاء المزدحمة، وكانت أغاني قوية الساذجة ورقصة تعويضة الوحشية أدعى إلى مسرته من النغمات الناشزة التي تبعثها الموسيقى الصاخبة في حلقات الرقص الماجنة.

ولكن علية تحب كل هذا الذي ينكره وتجد فيه متعتها، فهل كان يستطيع أن يتخذها زوجة مع كل هذا؟

ولكن هذه المحاولة لم تُجْدِهِ نفعًا، فكان بعد أن يطيل تأمل ما في علية من عيوب يفيق إلى نفسه على خفقة من قلبه إذا تمثل ذلك الشاب «صدقي» جالسًا إلى جانبها يحدثها، وخُيِّل إليه أن تأمله في عيوبها قد زاده تعلقًا بها، فكان لا يلبث أن يعود فيسأل نفسه لِمَ لا تكون علية زوجة له فتخرجه من ذلك الظلام الذي يخيم على قلبه، وتخلق منه شخصًا جديدًا يطرب للحياة ويعيش في زحمتها ويتذوق مباهجها ومفاتنها؟ بل إنه لأشد حاجة إلى مثلها من ذلك الشاب المرح الذي إذا أنصف التمس له زوجة تصلح له ما فيه من طراوة، وتُدْخِلُ إلى قلبه وعقله شيئًا من الجد، ومع هذا فقد كان كلما تمثل صورته دَاخَلَه شعور العجز الذي يقعد بالقزم عن مصارعة العملاق، وهل كان يستطيع هو بقامته الضئيلة ولونه الأسمر وملامحه الحادة ونظرته التي تكاد تكسب وجهه مظهر العبوس الدائم الصارم، أكان يستطيع بهذا أن يهزم الشاب الباسم المرح المتأنق الوسيم؟! كان صدقي يكاد يشبه الغادة الحسناء لولا صوته العميق وجذور الشعر الخضراء التي تغطي عارضيه، وماذا يضره من ضآلة أفكاره التي تشبه أفكار الصبية أو تفاهة ثقافته ونظراته في الحياة؟ فمهما يكن من أمره فإن كل شيء فيه محبب عندها، فكل لفتة منه تسترعي التفاتها، وكل لفظة ينطق بها تستقر في أذنها، وهي تعرف ألوان كل قطعة من ملابسه، وهيئة كل حركة من حركاته، حتى لقد كانت عينها أول عين لمحته عندما اقترب من البيت.

كانت تستطيع أن تميز صوته من بين ضجيج الأصوات، وتعرف دبيب سيره كأنها تراه.

وقضى أيام الأسبوع شقيًّا ينتظر مضي ساعاتها البطيئة حتى يأتي يوم الجمعة المقبل ليراها مرة أخرى ويراجع نفسه لعل ما بدا له منها كان من وساوس الخيال، ولكن الأسابيع كانت تمر، ويعود من الإسكندرية في أعقابها كل مرة بخيبة تزيد قلبه مرارة على مرارة.

وجاءت إليه يومًا رسالة من رئيس النيابة يأمره بأن يسرع إلى التحقيق في جريمة كبرى، ذهب ضحيتها أحد كبار أعيان الإقليم إبراهيم ميسور، فثارت نفسه فجأة تتذكر الماضي الذي كاد يغيب عنه في ثنايا الضباب، وعادت إليه ذكريات النجيلة والكوم وقوية وتعويضة، فماذا عسى آل إليه أمرهما؟ وكيف انتهى قوية في تهمته بعد أن تركه للأقدار تصرفه كما تشاء في تيارها؟ وسأل نفسه وهو يسرع في طريقه إلى القرية: أما كان لقوية يد في تلك الجريمة؟ ألا يكون قوية قد سُجِنَ ظلمًا فلما خرج من سجنه دبَّر للرجل فاغتاله انتقامًا؟ وحاول أن يشغل فكره بما حوله والسيارة تطوي الأرض طيًّا حتى بلغ العزبة.

وطلع عليه منظر الدار العزيزة ولكنها كانت عابسة عالية، ودخل إلى روضتها الجافية ثم إلى بهوها الجاهم وجلس في كآبة يستعد للتحقيق، وكان أول مَنْ سأل عنه من أهل القرية قوية بن سلام.

فقال العمدة: هو في المنفى.

فقال فؤاد في لهفة كأنه نجا من خطر: وكم مضى عليه فيه؟

فقال العمدة: منذ أسبوع.

فقال فؤاد: أذلك بعد خروجه من السجن؟

فقال العمدة في خبث: لم يُسْجَن إذ لم تثبت عليه التهمة، ولكن الحكومة لا تترك مثله في هذه الأيام السوداء ليفسد في الأرض، ليس في مثل هذه الأيام فراغ لأمثال قوية يا سيدي النائب.

١٢

قوية في المنفى! قد يقرأ الناس هذا النبأ الصغير في صحيفة أنباء أو قد يسمعون ذلك الاسم عرضًا في جمع فلا يقف أحدهم ليسأل نفسه مَنْ يكون قوية؟ إنه لا يزيد عندهم على اسم يسمى به أحد أولئك «الأشقياء» الذين يُنْفَون من البلاد إلى الأطراف البعيدة ليأمن الناس شرور اعتدائهم، إذ هم يعيشون كما تعيش الذئاب تلتمس أرزاقها خطفًا من حيث يتاح لها أن تخطف، فإذا ما سُدَّت عليها السبل أو هُيِّجَتْ من مكامنها المظلمة ثارت على الخلق جميعًا تعقر مَنْ تلقى منهم في سبيل النجاة، ولكن قوية كان عند فؤاد إنسانًا له قلب يحس ويحب ويخلص، وقد عرفه وعاشره وسبر دخيلته، وشاركه في قطعة من حياته كما يشارك بعض الناس بعضًا، وقد داخله في أمره الشك حينًا يوم اتهم بالسرقة، ثم سمع صوته وهو يقسم بتربة أمه فزال شكه وعرف أنه صادق بريء، وأنه ضحية مكر خبيث من رجل يلبس ثياب العظماء، فيحتمي بها ويرتكب جرائمه في سترها، ولكنه مع ذلك تركه لقضائه فلم يحرِّك في نصرته ساكنًا؛ لأنه خشي أن يجرَّه التدخل في أمره إلى أن يكون موضع شبهة أو أن يكون هدفًا لسخرية، فكان في ذلك إنسانًا تستبد به الأنانية كسائر الناس يؤثر أن يتقي خدشًا يصيبه غير مبالٍ أن يصير صاحبه إلى الهلاك.

فكان قلبه دائم الثورة عليه وهو مقبل على التحقيق في مقتل إبراهيم ميسور، وما دام قوية المسكين قد ذهب إلى منفاه فمَنْ ذا الذي قتل ذلك الرجل المخيف؟ أكان لقوية أهل ينتقمون له من ورائه؟ لم يكن له سوى أخيه سلومة وقد سبقه إلى السجن المؤبد، فهو يرسف هناك في قيوده، ولا يدري أحد إذا كان ما يزال حيًّا أم قد انحدرت عليه صخرة من الجبل فدكَّته دكًّا، أتكون تعويضة هي التي انتقمت لظلم صاحبها؟ أتقوى امرأة مثلها على قتل رجل مثله يحيط به الحراس أينما سار؟ لقد ضحك فؤاد ساخرًا من نفسه عندما خطر له ذلك الخاطر، ومضت أسابيع في التحقيق حتى بلغت منه الحيرة مبلغًا إذ لم يجد حوله إلا ظلامًا دامسًا ليس فيه شعاع من النور، وحدَّثته نفسه مرارًا بالتخلي عن التحقيق؛ لأنه كان يحس في قرارة نفسه مقتًا لذلك القتيل الذي جاء يريد القبض على قاتله، ولكنه مع ذلك مضى في تحقيقه؛ إذ لم يجد عذرًا يعتذر به عن ذلك التخلي.

وقد دلَّ التحقيق على أن إبراهيم ميسور كان يقيم ليلة مقتله في بيته وراء أسواره العالية، وكان خدمه وأتباعه يَحُلُّون في كل ركن من الأركان، فلم يكن بالبيت موضع لمتربص ولا لمتدسس، ولكن هؤلاء جميعًا قالوا إنهم لم يعلموا من أمر الجريمة شيئًا، حتى كاد فؤاد يذهب إلى أنها مؤامرة مبيتة بين أتباعه أنفسهم.

ولكنه كان كلما ذهب مذهبًا من الشك لم يلبث أن يرتدَّ عنه خائبًا، فقد كان ميسور عماد هؤلاء جميعًا، وما كان أحد منهم ليرجو أن ينال خيرًا بزواله، كان مع قسوته وغلظته يظلهم جميعًا بحمايته ويبسط لهم على الريف سلطانًا ورهبة، ولم يكن له في قلب من قلوبهم إلا الإكبار والعرفان، على أن الحقائق لم تدع لتلك الشكوك مجالًا، فقد دخل السيد إلى مخدعه بعد العشاء وأغلق بابه عليه كما اعتاد كل مساء، وكانت حجرته في الصباح مغلقة ليس عليها أثر من اعتداء، وأما هو فقد وجد في الصباح الباكر قتيلًا فوق جسر الترعة ومفتاح الحجرة في جيب ثوبه، وكان مطعونًا في صدره بخنجر لم يوجد له أثر مع طول البحث ودقته، فلا شك في أنه قد خرج مختارًا، وأنه أغلق بابه مطمئنًّا عن قصد، ثم ذهب إلى حيث قُتِلَ بغير أن يحس أحد بخروجه، فما الذي بعثه على كل هذا؟

وتدسس رجال الأمن في كل مكان لعلهم يجدون أثرًا للقاتل فلم يستطيعوا شيئًا، كأنه قد سدَّد طعنته ثم ساخ في الأرض أو طار في السماء.

ووُجِدَت حول الجثة آثار أقدام مختلطة بآثار المواشي والأغنام فوق الطريق التَّرِب، ولكن لم يكن هناك ما ينم عن عنف أو صراع أو دفاع.

وقد جرت العادة في مثل هذه الجريمة أن يسارع الأهل والأتباع إلى الاتهام والرجم بالغيب، فيسوقون الظنون جزافًا إلى كل مَنْ تتعلق بهم شبهة من قريب أو من بعيد، ولكن أهل القتيل وأتباعه كانوا ذاهلين لا يهتدون إلى رأي، ولا يزيدون على أن يهزوا رءوسهم واجمين كلما وجَّه إليهم المحقق سؤالًا، وامتنع أهل القرية كذلك عن الاتهام كأنهم كانوا جميعًا شركاء في مؤامرة لتغطية القاتل، فهم يلوذون بالصمت في عناد عجيب، وحاول فؤاد أن يستدرجهم للإيماء إلى وجهة قد تفيده في الاهتداء إلى أول خيط من الحقيقة فلم يستطع شيئًا، وكان في كل مذاهبه في التحقيق يخشى أن تأتي من أحد إشارة إلى اسم تعويضة، وكان يحس ارتياحًا عظيمًا كلما انقضت شهادة الشاهد بغير أن يورد ذكرها أو يشير إلى شيء يتصل بها، ولكنه لم يجد آخر الأمر بدًّا من مواجهة واجبه القاسي الذي يحتِّم عليه ألا يدع وجهة بغير أن يتجه عليها، ومرت بخاطره صورة الأعرابية الحسناء التي طالما أعجب بحسنها وظرفها وذكائها، وسأل نفسه: أليس واجبه أن يحقق معها لعلها تكون هي القاتلة؟

لقد كانت هي الجديرة بأن ترتكب مثل تلك الجريمة التي يحيط بها الغموض وتوحي حقائقها بوجود امرأة، ألم يكن في تسلُّل ميسور من بيته وحده تحت ستار الظلام ما يوحي بأن في الأمر امرأة؟

ولقد عرف فؤاد فيما سبق له علمه من أخبار قوية أن «ميسور» كان يضمر في نفسه رغبة خبيثة نحو تعويضة، وما كان أحراها أن تدفعه عن نفسها بخنجرها، فقد كانت تغضب أحيانًا فكأنها قطة برية في غضبتها.

ولكن أكان فؤاد ليقوى على أن يطلبها للتحقيق أو يسوقها إلى العقوبة؛ لأنها قتلت مثل ميسور؟

وقضى ليلة مسهدة عندما وجد واجبه يحتِّم عليه أن يُنَحِّي عاطفته ويقسو على نفسه ويطلب تلك الفتاة لكي يستمع إلى أقوالها، فتمثلت له بقامتها المعتدلة وتكوينها البديع وعينيها السوداوين وضفائرها السوداء الحريرية التي كانت تضطرب فوق صدرها، وهي تخطر رشيقة في حلقة السمر، وسمع صدى صوتها العذب يرنُّ في أذنه إذ كانت تناديه: يا حاج فؤاد، وتبتسم له في خفر، متطلعة إليه كما تتطلع إلى خلقة محبوبة من غير عالمها، عادت إليه صور تعويضة في تلك الليلة مختلفة في مواضع شتى، فكان قلبه الحزين يتوجَّع كلما تمثَّل الغد الذي سوف يدعوها فيه ليسألها، وفي ظهر ضميره أنها قد تكون هي القاتلة.

وماذا كان يستطيع أن يفعل لو وجدها المجرمة حقًّا؟ ماذا كان يصنع بحياته إذا هو أمر بالقبض عليها وأقام الدليل على جنايتها، ثم قام ليترافع في قضيتها طالبًا من القضاء أن يسفك دمها عقابًا لها على قتل ميسور؟ أما كان في قرارة قلبه يرحمها لو كانت هي القاتلة حقًّا؟ وودَّ لو خلع عن نفسه صفة النيابة ولبس عباءة المحامي لكي يقوم مدافعًا عنها، لو ظهر أنها قد أغمدت خنجرها في قلب ذلك الرجل الشنيع الذي كان — بلا شك — هو العامل على نفي قوية صاحبها، وسأل نفسه: ما تلك العدالة التي تحتمل أن يتنازعها جانبان: أحدهما يمثل سلطة القانون فيطلب من القضاء أن يسطو بلا رحمة ويقطع بلا هوادة، والثاني يمثل العدالة فيقف مدافعًا عن الجريمة يملأ المحكمة بصوته الجهوري مطالبًا بالبراءة مدافعًا عن مرتكب الجريمة؟! حقًّا إن كل أمور الإنسان لا تتصل بالحق إلا بمقدار ما يراه الإنسان حقًّا، وقد يكون الحق عند البعض باطلًا عند البعض الآخر، وقد يكون الخير في نظر قوم شرًّا في نظر قوم آخرين، هذه تعويضة التي يخشى أن تكون هي القاتلة، وهو نفسه ينظر نحوها بعينين مختلفتين، يسمي إحداهما واجبه ويسمي الأخرى قلبه، وما هما سوى اسمين يخفيان تحتهما معنى آخر، وهو أن الإنسان غير جدير بحمل أمانة الحقيقة.

ولكن مهما يكن من أمر فؤاد فإنه سافر إلى النجيلة في اليوم التالي، وقد عزم على أن يؤدي واجبه وإن كان قاسيًا، وأن يتجرَّع مرارة الحياة الصارمة حتى ثمالتها، فسأل العمدة أن يأتي إليه بتعويضة، وكان قلبه عند ذلك يهبط به كأنه قطعة من رصاص في حوض ماء، وأرهف أذنيه يستمع إلى جواب العمدة الذي كان أمامه واقفًا، ألا ما أعجب الأقدار في عبثاتها وصدماتها! فإن الرجل أجاب قائلًا: ليست تعويضة هنا ولا يعرف أحد مكانها.

وكاد فؤاد يثب عن مقعده فرحًا لولا أنه تماسك فأخرج منديلًا مسح به قطرات من العرق تقاطرت من جبينه.

ومضى العمدة يتحدث عن تعويضة، فقال: إنها هامت على وجهها منذ نفي زوجها فلم يرها بعدُ أحد في القرية ولا فيما حولها، ولم يعرف أحد لها مصيرًا كأنها انطلقت في البر هاربة من نفسها، وامتزج الفرح بالحزن في قلب فؤاد، فإنها إن كانت قد نجت من التهمة لم تنج إلا إلى حياة مشردة مظلمة لا يدري أحد ماذا يكون فيها مصيرها، وعادت إليه صورة الزهرة في خميلة الشوك بالصحراء، لا يدري أحد متى ازدهرت ولا متى سقطت عن عودها، فلا أقل من أن يعبأ بها هو الذي عرفها وأنس إلى مودتها وكان لها في قلبه مكان أثير، فبالغ في السؤال عنها متظاهرًا بأنه يمضي في تحقيقه ليستوثق من أمرها، وهو يخفي لهفة شديدة على جمع شوارد الأنباء عنها، فأخذ يسأل أين ذهبت إذ هامت على وجهها؟ وماذا اعتراها بعد نفي زوجها؟ وأين كانت تقيم؟ وكيف كانت تعيش؟

وكان في نفس الوقت يسأل نفسه هل ذهبت صباحة وجهها ونضارة شبابها أم لقد ذهب ذلك كله بين عشية وضحاها فذوى حسنها كما يذوي حسن الزهرة اليانعة في ليلة؟ ولقد كانت المسكينة تحمل في أحشائها جنينًا وكانت تحب أن تسميه «فؤاد» باسمه، فماذا فعل ذلك الجنين المسكين الذي استقبلته الحياة جاهمة قبل أن يفد عليها؟ وكان قلب فؤاد يُعْصَر عصرًا أليمًا وهو يعود من أسئلته بالخيبة، حتى ارتجَّ عليه كل باب في التحقيق، ولم يستطع أن يهتدي إلى شيء يكشف له سر الجريمة، وقد بلغ به الأمر أن تغاضى عن قسوة رجال الضبط في انتزاع الأقوال من أهل القرى المجاورة لعلهم يفتحون أفواههم بلفظ ينمُّ عن حقيقة تفيده، فلم يوفَّق إلى شيء سوى ترهات تنتهي إلى سدود مغلقة، ولم يجد مناصًا آخر الأمر من أن يطوي أوراقه في سجلها وينسب الجريمة إلى مجهول.

ولكنه مع إخفاقه في هذا التحقيق عاد إلى دمنهور وهو يحس في قرارة نفسه ارتياحًا لا يدري ما كان مبعثه، أكان ذلك تشفيًا خفيًّا من رجل يمقته؟ أم كان ذلك ذهابًا مع بعض آرائه في العدالة التي تعمى عنها القوانين أحيانًا؟ أم كان لأنه خلص من موقف أوشك فيه أن يلوث يديه بدماء تعويضة المسكينة؟

مهما يكن من أمره فقد تنفَّس الصعداء عندما فرغ من تحقيقه، ولم يبالِ ما كان يبلغ سمعه من همسات أقرانه ورؤسائه عنه، حتى إنه لم يشعر بشيء من الأسى أو الأسف عندما جاءه نبأ نقله إلى الصعيد بعد أيام، ولم يقف لحظة ليسأل نفسه أكانت هذه عقوبة على إخفاقه أم كانت لطفًا ساقته إليه الأقدار؟! وجاء أصحابه يواسونه فيما حسبوه محنة، ولم يعلموا أنه كان أسعد الناس في ذلك اليوم بهذا النقل ساقه الله إليه.

١٣

ذهب فؤاد إلى الصعيد وهو يحس كأنه هارب من موطن عبثت فيه الأقدار بقلبه وضميره وحياته إلى موطن آخر يجد فيه من آثار العالم الغابر ما ينسيه حاضره.

فكان كلما وجد فراغًا من عمله أسرع إلى زيارة أثر من بقايا القرون الماضية في الأقصر أو إدفو أو العرابة المدفونة يسرح خواطره في الماضي البعيد، ويتحدث إليه عن زوال الإنسانية وحقارة همومها، ويسمو معه فوق هذه الحياة بما فيها من سخف وجور وقسوة وعنف.

كان يجلس في رحاب الآثار الفسيحة، ويتأمل عمدها الباسقة وهندستها الرائعة، ويخيل إليه أن أرواح الماضي تناجيه في رفق الحكيم، وتهون عليه ما يساوره من الشجون، فإذا ما اطمأن إلى حديثها تجرَّأ على كشف ما في أعماق نفسه وما يثور بها من آلام، فكأن نسيمًا من السلام يهبُّ على وقدتها، كانت تلك الآثار تنطق له قائلة: «كانوا ثم ذهبوا» بعد أن خلفوا للحياة أحلامهم وخفقات قلوبهم مجسدة في صور منحوتة أو أشكال مرسومة يخيم الصمت عليها، كانت لهم مسراتهم، وكانت لهم أحزانهم، ولكنهم خلعوها مع أجسادهم الفانية فلم يبق منها إلا أصداء ضئيلة، ولكن تلك الأصداء سوف تتردَّد صافية على مر العصور، فتدركها الأسماع المرهفة التي تستطيع إدراكها وهي تهتف بالحقيقة الأبدية أن مادة هذه الحياة غرور باطل لا يبقى منها إلا الجوهر المصفى، مثل ذرة ثمينة لا تزيد على مثقال حبة من خردل في صخرة أو في السموات أو في الأرض.

ولكن «فؤاد» — مع كل ما حدَّث به نفسه ومع كل ما حدَّثته به تلك الآثار — كان لا يملك أن يبعد عن قلبه صورتين ما برحتا تلازمانه في كل جولاته: إحداهما صورة تعويضة والأخرى صورة علية، وكانت إحداهما تعصر قلبه رحمةً وحزنًا، والأخرى تطعنه خيبةً ووحشةً، وكان يتمنى أحيانًا لو جالت علية معه بين تلك الآثار حتى يفضي إليها بما تحدثه به من احتقار عرض هذه الحياة التي لا يبقى منها إلا جوهرها الضئيل الثمين الذي يتمثَّل في الروح، في مثل الحب المصفى الذي يحمله لها، إذن لاستطاعت أن تدرك مبلغ ما ضيعت عليه وعلى نفسها بإيثارها فتاها الأجوف الذي لا يزيد على قطعة من جسد فانٍ.

وكان أحيانًا يصور في نفسه جدالًا شديدًا وعتابًا قاسيًا في أحاديث طويلة، يسرح فيها مع خياله فيعود إليه حنقه وتثور عليه كبرياؤه ويفيق من أحلامه الثائرة هامسًا في نفسه: «أهذا هو الفتى الضحل الذي ارتضته وآثرته علية؟» ثم يخرج من المعبد العظيم الذي يجول بين أطلاله ثائرًا على خياله الذي يطوح به إلى مثل ذلك الوهم البعيد، فما الذي يجعله يتجه بمثل هذا الحنق إلى علية؟! وما كان أحراه أن يتجه به إلى نفسه! ألم يكن هو الذي تركها تنفلت إلى ذلك المنافس الجريء؟ لقد كان في استطاعته — بغير شك — أن يستميل قلبها لو كَشَفَ لها يومًا عن حبه صريحًا قويًّا، فلا يقوى ذلك المنافس الأجوف على أن يهزمه عندها، بل لقد كان في استطاعته أن يقاوم بحبه الصادق ذلك الفتى ويصرع مظهره المزوق ويخسف أناقته المتبرجة ولفظه المعسول، ولكنه هرب من ميدانه في شيء لا يقل عن الجبن والضعف كأنه طفل ينصرف إلى مخدعه باكيًا ينتظر من أمه أن تلحق به فتسترضيه رأفة به ورحمة لضعفه.

ولكنه كان مع كل هذا الذي يضطرب في أعماقه لا يملك قلبه أحيانًا من الحنين إلى علية، فتنازعه نفسه إلى السفر إلى الإسكندرية؛ ليقضي حينًا في البلد الذي تقيم فيه، ويسير على الشواطئ التي لا شك في أنها كانت تخرج إلى النزهة عندها، ويملأ صدره من الهواء الذي يهبُّ على دارها، وكان يتمنى لو وقع بصره عليها في نظرة عاجلة ليطفئ بها لاعج الشوق الذي كان ما يزال يضطرم بين جنبيه مع كل حنقه وألمه، بل لقد كان يصوِّر لنفسه أن الأمر لم ينفلت بعدُ من يديه وأنه ما زال يستطيع — إذا أراد — أن يذهب إلى علية ويكشف عما يغمره من حبها، فلا يلبث أن يهزم خصمه ويفوز برضائها، ولكنه كان يطوي أيامًا طويلة مترددًا في نزاع شديد بين ميله وكبريائه حتى تتغلَّب عليه الكبرياء آخر الأمر فيعدل عن السفر ويُقْبِل على عمله في عنف، أو يخرج إلى نزهة أخرى بين الآثار ليسرِّب شجونه بين أطلالها.

هكذا مضت عليه الأيام شهرًا بعد شهر، وكانت الحرب ما تزال ثائرة في الخافقين تخيِّم على البلاد بظلالها ورهبتها، وكانت صحف الأخبار تحمل من أنبائها كل يوم ما يزيد على أعجب وثبات الخيال، فبعد أن كانت الجيوش الغازية الجبارة تطوي الدول تحت قدميها؛ ارتدَّت موجتها خاسئة وعاد النصر مع القضاء الساخر إلى الكفة الأخرى، وبدأت جيوش الحلفاء تطوي الدول تحت قدميها كما كانت جيوش ألمانيا تطويها من قبل، وزحفت مثل موجة عنيفة أخرى تحطم وتطحن وتعيد سيرة السطوة الأولى قائلة: إن الحق للقوة، وأخذت الدول المنتصرة تحتفل بالنصر وتتهم المخذولين على جرائم تشبه ما كان المنتصرون بالأمس يتهمون به أعداءهم، وما الجريمة في الحالين سوى الهزيمة والخذلان، فكانت العدالة عند الخصمين تنطق دائمًا أن الحق للقوة.

ورأى فؤاد يومًا في بعض تجواله بالقرى منظرًا عجبًا على جانب النيل عند قرية منعزلة، رأى جماعة من نساء الغجر يلتفون حول امرأتين تتباريان مباراة عجيبة لم يشهد من قبل مثلها، وقفت المرأتان ومع كل منهما كيس كبير فيه قطع من نقود الفضة، وكانت كل منهما تقبض من كيسها قبضة ثم تقذف بها إلى أعماق النهر واحدة بعد الأخرى، فسأل مَنْ هناك عن سر هذا الإسراف، فعلم أنها طريقتهن في إثبات المقدرة والقوة، فمَنْ فرغ كيسها قبل منافستها كانت عليها الغلبة، وكان لا مفرَّ لها من الخضوع والاعتراف بالسيادة لصاحبتها.

وتبسَّم في سخرية مرة من هذا الحمق البليغ، ولكنه عاد فسأل نفسه أليس هذا حال الأمم الكبرى التي تتقاسم هذه الأرض فيما بينها؟! إنها تتبارى في الابتكار والابتداع وتتنافس في الإنتاج والاستكثار من الخير وتبسط سلطانها على أركان المعمورة فتنزع منها معدنها ونباتها وما بطن وما ظهر من ثروتها؛ لكي تملأ بذلك خزائنها، ثم ينتهي بها الحال آخر الأمر إلى مباريات لا تقل في حمقها وغرابتها عن مباراة الغجريتين اللتين شهدهما على جانب النهر، فتبذل كل منها ما أصابت من غنى وتتجه كل منها بما أتيح لها من علم وفن ونبوغ لتبدده في حرب طاحنة يهوي فيها بعضها على بعض في تخريب وتدمير، وتتأجَّج ما بينها الأحقاد وتُسْفَك الدماء ولا قصد لها من وراء ذلك إلا أن تفوز إحداها بالسيادة وتذعن لها الأخرى عن يد وهي صاغرة، ولو ثارت الحروب بين تلك الدول لأن بعضها جائع يسطو على جاره ليسدَّ جوعه، أو لأن بعضها عارٍ يريد أن ينتزع منه ما يستر به جسمه كما تفعل قبائل البدو إذ تغير على ما يجاورها من الريف، لكان عذرها مفهومًا إذا احتكمت إلى قانون الغابة الصارم، ولكن تلك الدول تتحارب وخزائن كل منها منتفخة مثل كيسي هاتين الغجريتين، فما أعجب الغرور الإنساني! وهو غرور لا فرق فيه بين صنف وصنف من البشرية المسكينة، ولما مضى العام الأول على فؤاد في الصعيد جاءت إليه برقية من سعيد يدعوه فيها إلى قضاء الصيف في الإسكندرية حتى يشهد حفل زواج علية من صدقي! فيا للصدمة الهائلة! أهكذا ينتهي إلى الحرمان المحقق وتتجسَّد وساوسه في الحقيقة القاسية التي تنكشف له؟ وكان أول خاطر طرأ عليه أن بعث برقية يعتذر فيها عن السفر، ثم استأذن في أيام يستريح فيها من عناء العمل، وهُرِع إلى القاهرة ليقيم حينًا في جوار أمه كأنه عاد طفلًا يطلب حمايتها.

ولما عاد إلى عمله كان الصعيد يتوهَّج بِحَرِّه فيهبُّ الهواء كأنه أنفاس لهيب، فإذا رها وخمد كان الجو مثل جوف أتون، وكان منذ نشأته يضيق بالحر ولا يطيق وطأته، فكان يعاني من أيامه ولياليه آلامًا مبرحة، كان إذا خرج إلى طرف من الريف في بعض عمله عاد متوعكًا، وإذا احتجب بين جدران منزله أحس كأنها تنطبق عليه وتكتم أنفاسه، وكانت شجونه الثائرة أشد عليه من كرب الوعكة وضيق الوحدة.

ووضعت الحرب أوزارها بعد حين وقيل عاد السلام، ولكن الحياة كانت ما تزال تنضح دمًا من جراحها، كأن الحرب قد أطلقت غرائز النفوس فهيهات لها أن تعود إلى حدودها، كان كل من استطاع أن يغنم غنيمة سارع إليها، فالتاجر يبتز إذا تمكن من الابتزاز في ستر القانون، فإذا لم يقنع بما يصيب من ربح لم يخش أن يغامر في التماس الحيل ليخلص إلى ربحه من وراء القانون، والموظف لا يكفيه مرتب الوظيفة فيحتال على رزقه بالرشوة أو الاختلاس متسترًا بما يتهيأ له من مسارب مظلمة، وصاحب المهنة لا يرضى إلا أن يشارك في أسلاب المعركة الحامية بعد أن يرقد ضميره في فراشه لينام عنه، ونشأت طبقة جديدة من الوسطاء والمهربين لتخدم في فوضى المعمعة وتصيب من فضلاتها مغنمًا، وكان من وراء هؤلاء جميعًا طبقة أخرى متربصة تهوي بين حين وحين على الميدان المضطرب لتخطف من المحملين بالأسلاب قطعة تجعلها نصيبها، كما تهوي الذئاب والنسور على أطراف القرى فتصيب ما تستطيع الوصول إليه من قطعانها، هكذا كانت الحياة تضطرب حول فؤاد، وكان عليه أن يرفع سيف العدالة الرهيبة على كل مَنْ يتعدى حدود القانون من هؤلاء جميعًا، فكان لا يكاد يستقر يومًا في داره إلا إذا اضطرَّه الضعف فلزمها مكرهًا، ومع هذا فقد مضى عليه سائر فصل الصيف ولم يفكر في الهروب مما يعاني من المشقة والألم، فقد كان ذلك أهون عليه من الفراغ، بل لقد كان يرى في تلك الشواغل والأعباء والآلام ما يحول بينه وبين الأحزان التي تعذِّبه، فلم يطلب إجازة سوى أيام قليلة بين حين وحين؛ ليذهب إلى القاهرة ليلم بأمه ويتنفَّس من جانب النيل أنفاسًا.

وكانت الأم كلما رأته بادرته بالحديث في أمر زواجه، فتصف له مَنْ عرفت من الفتيات، فهذه قريبة جميلة من أهلها تجمع الجمال إلى تمام العقل، وأبوها سري غني قد ضنَّ بها على الفتيان الذين تقدموا إليه يخطبونها؛ لأنه كان يدخرها له إذا هو خطبها، وهؤلاء كثيرات غيرها من بنات الجيران والأصدقاء كلهن من ذوات الحسن والنسب الرفيع والثقافة العالية، ولا تمتنع عليه إحداهن إذا هو شاء أن يتخذها زوجة، فكان لا يلبث أن يضيق بأحاديثها ويتكلَّف المرح قائلًا إن أوان الزواج لم يحن له بعد، ثم يخلو في حجرته فتجتمع عليه شجونه تحدثه حديثًا آخر غير حديث أمه، أليس هؤلاء الفتيات جميعًا مثل علية التي آثرت الفتى الذي أعشى عينيها بمظهره الأنيق وخلب سمعها بلفظه المعسول؟ ألم يحمل لها أصدق الحب وأقواه ثم تركته في صحراء جرداء وذهبت إلى الفتى الذي غرَّها برونقه؟ وهل كان في هؤلاء الفتيات مَنْ تستطيع أن تملك قلبه كما ملكته علية أو مَنْ يستطيع هو أن يهب لها من الحب ما وهب لعلية؟ فما تزال الهواجس تحتوشه حتى يضيق بها فيسرع أول شيء في الصباح إلى أمه يستأذنها ليعود إلى صعيده الجاهم، فقد كان بِحَرِّه وشقائه ووحشته أرفق به من فراغه إلى تلك الشجون، ومضت أيام الحر ثم أقبلت بعدها أيام الخريف فالشتاء، وعاد إلى سرحاته بين الآثار الجليلة يحاول أن يسمو فيها على هذه الحياة الصغيرة التي تحبسه في حدودها.

هكذا مرت به شهور عامه الثاني فالثالث بالصعيد، وطلع عليه الحر مرة أخرى فجأة كأنه انصب في ليلة من أطباق السماء، ووقع بصره ذات صباح على إعلان في صحيفة أنباء عن لبنان ومباهجه بعد أن فتحت إليه السبيل، فكأنه وجد ضالة كان ينشدها، فهو لبنان الذي يستطيع أن يجد فيه ملجأ من حياته الرتيبة الموحشة، وهو الذي يبعد به عن الإسكندرية وشواطئها، فاستأذن في إجازة شهرين وسافر إلى القاهرة ليقيم فيها أيامًا قبل سفره.

ولم يكن في حاجة إلى إطالة الاعتذار إلى أمه عن مفارقتها إلى لبنان وحده، فقد كان أحب الأشياء إليها أن تراه سعيدًا، ولم يكن لها أرب في السفر إلى قطر بعيد يقع من وراء بحر فسيح.

ولما أعد عدة السفر وثب في الطائرة فوق شاطئ البحر الأبيض ورآه من تحته شطًّا ضئيلًا يدرج ظل الطائرة من فوقه كما تدرج النملة فوق مصور جغرافي، هذا هو البحر الذي تعيش علية إلى جوار شاطئه مع زوجها صدقي! هذا هو الخط الضئيل من الرمال الصفراء التي طالما سار عليها تتقاذف به الأهواء فحينًا تتدفق فيه الحياة السعيدة وحينًا تلفه ظلمة اليأس، وما كان أتفه ذلك الشاطئ وهو ينظر إليه من أجواز السماء!

١٤

هبطت الطائرة في بيروت وصعد فؤاد في السيارة إلى الجبل فنزل في فندق يشرف على واد أخضر من أودية لبنان الباسمة، ووقف في الأصيل على الشرفة يطل على الهوة التي تحته تنحدر إلى أعماقها جريئة جبارة في درجات عالية كأنها سلاليم بنتها المردة العماليق.

كانت أشجار الصنوبر توشي السفح قائمة بعمائمها الخضراء فوق جذوعها الباسقة، وفي أسفلها الكروم وأشجار الفاكهة تتكئ على جوانب الدرج طبقة تحت طبقة حتى تنتهي إلى قاع أسمر يتعرَّج فيه جدول دقيق من ماء ضحل يلمع في آخر أشعة الشمس المائلة، وكان البحر يلوح من وراء الوادي أزرق هادئًا فسيحًا يخدع البصر عن أعماقه فيخيل إلى الناظر إليه أنه بساط ناعم من مخمل، وكان الجو رفيقًا والهواء هادئًا لا تخفق فيه ورقة ولا يتحرك عليه طائر، فأين العصافير المزقزقة وأين البلابل الصادحة وهذه أعشاشها فوق غصونها خاوية؟ وانحدرت الشمس إلى الغرب وامتدت الظلال في السفوح فرأى السحب ترنق في السماء بيضاء حمراء ذهبية، تترامى من بينها أشعة الأصيل نحو البحر مثل فيض دافق، وخُيِّل إلى فؤاد أن الكون معبد يتردَّد فيه ترتيل مقدس، هذا هو لبنان الذي طالما حلم به، فلما رآه كان حلمًا في حلم، وشاع من حوله صفاء بعث في نفسه شجنًا لا مرارة فيه.

وذهب في تأمله إلى ما بعد وما قرب، وأحس للمرة الأولى منذ سنتين أنه نسي آلامه وعاد يستجيب إلى طرب الحياة، وصعد إلى غرفته يحس دافعًا علويًّا يبعثه إلى الصلاة، فتوضأ وصلى ثم جلس حينًا يقرأ من آيات القرآن.

ونزل بعد أن ساد الظلام إلى الشرفة فأجال بصره خلال حلقات المصطافين ولم يكونوا بعدُ قد تزاحموا، وتمنى لو اندسَّ في إحداها وخاض معها في أحاديثها، فقد كان قلبه ينبض خفيفًا متعطشًا إلى الائتناس.

وكان البحر قد توارى في حجاب الليل وأخذ الوادي يتشح بعناقيد من أنوار الكهرباء تنبعث من القرى المنثورة في قيعان الوادي وعلى سفوحه، فكأن تلك الأنوار قلائد من الماس تتلألأ على صدر زنجية حسناء، ولله در شاعر الشام الأعمى كأنه أدرك ببصيرته ما يعجز عن وصفه المبصرون إذ قال:

ليلتي هذه عروس من الزنج
عليها قلائد من جمان

ونزل فؤاد من الشرفة على سلم الفندق إلى الطريق المنحدر نحو الوادي، ثم سار يقلِّب بصره عن يمين وشمال في جذوع الصنوبر وأغصان الكروم الملتفَّة وما يتخللها من أعواد الأعشاب والشجيرات، وكان نور القمر الصغير ما يزال خافتًا لا يكاد يهديه سبيله، فأحسَّ شيئًا يشبه خيبة الأمل، فإن الأودية البديعة التي تبتسم في ضوء النهار لم تُخْلَق لسير الليل لمن أراد أن يسبح في السماء، فأين سحر وادي النيل السهل الحبيب الذي يسحر اللب في مثل هذه الليلة الساكنة؟ أين جانب النيل في القاهرة والجيزة حيث يسرح البصر في الحدائق الفيحاء يصعد حينًا في شجر باسق ويصوب حينًا في خمائل زهر باسم؟ وأين الألوان التي تبعثها أرض السحر القديم فيما ينبت على ثراها وما يسبح في سمائها؟ ووثب الخيال بفؤاد عائدًا إلى الربوع التي أنس إليها وخطرت له خطرة من علية ذات الوجه النبيل الذي ما زال يطلُّ عليه من ثنايا ذكرياته باسمًا قاسيًا، ولم يسر طويلًا على سفوح الوادي إذ كانت عيناه تصطدم في كل خطوة بظلمة من وراء ظلمة، وكانت صفحة السماء تبدو من وراء أضراس الجبال قاسية مكشرة جامدة، فعاد إلى الفندق المرح حيث كانت الأنوار تسطع فيضًا غامرًا، ودخل إلى البهو يتلفَّت بين الناس لعله يجد فيهم مَنْ يدعوه بنظرة، ولكن الحلقات الضاحكة كانت منصرفة إلى الموسيقى الصاخبة قانعة بأنفسها، فلم تتجه إليه بنظرة إلا أن يرتفع رأس نحوه يحسبه صديقًا، ثم يرتد عنه مسرعًا، وكان الراقصون يتواثبون في رشاقة مع الأنغام الصارخة الجشاء، ولا يلتفت أحد منهم عن زميله إلا بمقدار ما يزهى بنصيبه على من يليه، أما هو فقد كان وحيدًا، وكانت الساعة قد بلغت العاشرة، فأحس شيئًا من الاغتباط إذ فاته العشاء؛ لأنه كان أعد فاكهة في غرفته لتكون عشاءه، إنها فاكهة لبنان.

ووقعت عينه في آخر البهو على أسرة رآها عند أول مقدمه، تقيم في الجناح الذي ينزل فيه، فنظر رجلها إليه نظرة فيها تحية قصيرة فردَّ تحيته حانيًا رأسه، ودعاه الرجل إلى الجلوس صائحًا بلهجته اللبنانية: «شرف»، والتفتت زوجته نحو فؤاد وتبسمت وأَحْنَتْ رأسها في ظرف، فذهب فؤاد إلى كرسي قريب وجلس عليه، ولم تمض إلا دقائق حتى كانوا يفيضون معًا في شعاب الحديث.

وكانت السيدة لبنانية يشعُّ وجهها بِشْرًا ونضارة، وهي شابة تبدو في الثلاثين، ولكنها كانت — بغير شك — أكبر من ذلك سنًّا، إذ كان ابنها الأكبر في نحو الثامنة عشرة، وكان رب الأسرة تاجرًا من ثراة بيروت يأتي مع أهله في كل صيف إلى الجبل يقيم فيه بعض أسابيع مستجمًّا، وقد عرفت السيدة مصر وزارتها مرارًا في صباها ولها فيها أهل وأصدقاء، وما أظرف أهل لبنان إذا ما تحدثوا عن مصر إلى أهل مصر، لقد خُيِّل إلى فؤاد وهو يسمع حديثها أن بلاده جديرة بأن يهب لها من حبه أسمى مما يهب لها لو كان في استطاعة قلب البشر أن يجد في الحب موضعًا أسمى، واتجه حديث السيدة إلى مَنْ عرفت من أهل مصر ومَنْ جاء منهم إلى لبنان في ذلك العام، وكانت تتحدَّث في حماسة عما رأته من مباهج القاهرة والإسكندرية وتطيل في وصف مغانيهما، وكان السيد منصرفًا بنظره إلى حلقة الرقص، فجرى الحديث بين فؤاد وبين السيدة كأنهما صديقان حميمان.

ومنذ تلك الليلة الأولى صار فؤاد كأحد أفراد أسرة السيد عبد الله بطرس، فكان معهم على المائدة وفي البهو، وكثيرًا ما كانوا يجولون معه بين القرى الجميلة، فيزورون أركانًا ما كان يستطيع فؤاد أن يهتدي إليها لو سار وحده، ومر أسبوعان أحس فؤاد بعدهما أن نفسه تسفر بعد غيمها وجسمه يتعافى بعد سقمه وتدب إليه القوة، وزالت وحشته وصار لا يذكر آلامه إلا كما ينظر الآيب من سفر إلى الأفق الذي خلَّفه وراءه، وجلس في الصباح يومًا على المائدة ينتظر نزول أصحابه ليفطروا معًا، وكان منظر الوادي يتفتَّح تحت أشعة الشمس المشرقة فتبدو منه قطعة بعد قطعة كأنه يتحرك فاترًا بعد نوم عميق، وانصرف إليه يدس بصره في شعابه وبين أشجاره ويتنفَّس من الهواء الذي طالما سمع أنه يجلو الصدر، فلم يشعر بمجيء السيدة حتى سمع صوتها المرح يحييه تحية الصباح، فقام يستقبلها ورأى في نظرتها بسمة وهي تقول: لقد أتى إلى هنا بالأمس أصدقاء أعزاء، وإنه ليسرك أن تعرفهم بغير شك.

ولم تنتظر حتى يسألها عن هؤلاء فمضت في حديثها تصفهم قائلة إنهم أصدقاء قدامى عرفتْهم من سنين حتى كأنهم صاروا أهلها، وأشارت برأسها في تجاه أقصى الشرفة قائلة: «انظر إلى هناك».

فنظر فؤاد إلى حيث أشارت، فرأى سيدتين وثلاثة أطفال، وكانوا في الطرف الأقصى من الشرفة المزدحمة، وقد صفَّت فيها الموائد وعليها أكواب القهوة والشاي وأوعية الزيتون واللبنية والزبد، وكان الخدم يتسارعون في تلبية كل نداء فلم يستطع فؤاد أن يتبين من السيدتين سوى صفحة وجه إحداهما، إذ التفت لفتة سريعة إلى الأطفال الذين يتواثبون حولها.

ولكن شيئًا في هيئتها استرعى نظره كأنه قد سبق له أن رآها.

وسألته السيدة: أما تعرفهما؟

فقال في تردد: لا أظنني أعرفهما، وإن كان يلوح لي من إحداهما شبه أتذكر منه صورة مبهمة.

فقالت السيدة: هي أسرة ثري من ثراة الإسكندرية اسمه مصطفى بك سري!

فكاد فؤاد يثب من مقعده ومدَّ عنقه متطاولًا، إنها — بلا شك — أمها، هي أم علية نفسها، وأما الأخرى فلم تسبق له رؤيتها.

وقال محاولًا إخفاء اضطرابه: أظنني أعرف هذه الأسرة.

وسأل نفسه في لهفة: «وهل علية معهما؟» وودَّ لو تحدثت السيدة فأفاضت ليسمع منها ذكرها.

فأخذت السيدة تتحدث عن الأسرة وكانت تعرف الكثير من خبرها، وعجب فؤاد كيف جمعت كل هذه الأخبار في يوم، وما كان أظرف تألفها وثرثرتها، ثم نطقت أخيرًا بما كان فؤاد ينتظر منها فقالت: كانت ثريا هذه التي تراها فتاة صغيرة عندما رأيتها هنا قبل الحرب، ألا ترى كيف تزوجت وصار لها ولدان؟ ألا ما أظرفهما! وأما هذا الطفل الأشقر الثالث فهو ابن أختها علية التي لم أرها منذ كانت صبية هكذا.

وأشارت بيدها لتدل على صغرها.

فنطق فؤاد بغير وعي: أهي هنا معهما؟

فنظرت إليه السيدة في شيء من الدهشة وسألته: أتعرفها؟

فأدرك فؤاد خطأه وقال وهو يستجمع نفسه: نعم؛ لأني أعرف أسرتها.

فهزت السيدة رأسها أسفًا وقالت: مسكينة علية! إنها صغيرة!

ولم يستطع فؤاد أن يسألها في لهفة كما هَمَّ في نفسه أن يسألها: «ولِمَ تكون علية مسكينة؟ علية المرحة الضاحكة القاسية؟!»

وأخذت السيدة تتحدث وهو مصغٍ إلى قولها بجميع حواسه يعلل نفسه بأنه سوف يراها، وذهب ظنه مذاهب شتى فيما أصابها، حتى جعل السيدة تَرْثِي لحالها، فهل مات أبوها؟ ولِمَ تكون هي المسكينة وحدها؟ أم جدَّت عليها أحزان أخرى مما يصيب مثلها؟ أكانت مسكينة من أجل زواجها؟

أليست هي التي اختارت زوجها وآثرته عليه ووجدت فيه قصارى أملها؟ وعلق نظره بأبواب الشرفة لعله يرى وجه علية يطلع من أحدها، فما كان أشْوَقَه إلى أن يراها ويحدثها ويعاتبها وإن كاوح قلبه وجحده قسرًا، ولقد ودَّ لو جلس إلى جانبها يشاركها همومها ويواسيها فيما جعل السيدة ماري ترحمها، وكان حديث السيدة عنها متقطعًا بين توزيع الشطائر وصب الشاي وملاحظات تبديها بين حين وآخر على قادم جديد أو جالسة على مائدة أخرى، ولكن قصة علية كانت مثل خيط لامع يبرق في ثنايا حديثها فلا يكاد فؤاد يسمع سوى ما يتصل بها، يلتقطه كأنه يسلُّ خيطًا من الحرير في لفائف معقدة، ومع ذلك فإنه لم يخل من شعور يشبه أن يكون ارتياحًا عندما علم أن علية لم تكن سعيدة في زواجها، علم أن زوجها عنيف جشع كما تصوره، لا يحرص على شيء إلا على أنها ابنة الثري الغني الذي سوف يترك وراءه ثروة كبرى ترثها علية لكي يتمتع هو بها، وما كان مثل هذا الفتى الأنيق المعجب بنفسه ليقدر على أن يضم أضلاعه على حب مثل حبه المصفى، ولا أن يعرف قدر علية مستقلة عن كل ما عداها، بل لقد كان شعوره يشبه أن يكون شماتة لم يستطع أن يقاوم الاسترسال فيها حينًا؛ لأنها فضلت صدقي عليه ولم تستطع أن تتغلغل إلى ما تحت ظاهره الخادع، كما تنخدع الغريرات بمظاهر أمثاله من الشبان، فهي تلقى جزاء قلة بصرها وسوء اختيارها.

ولكن ما كادت السيدة تفرغ من الحديث حتى تبدَّل شعوره فانقلب انقباضًا وحزنًا، وذهبت عنه الشماتة الكالحة، وحلَّ في مكانها الرثاء والرحمة، ثم لمح في أعماق نفسه أمنية غامضة كما يلوح وميض النار من خلال الرماد، أتزول العقبة التي تفصل بينه وبين علية ويختفي ذلك الشاب من بينهما فجأة كما ظهر بينهما فجأة؟ ولكن أكانت علية ترضى بذلك لو حدث وتُقْبِل عليه باسمة سعيدة؟

ولما فرغوا من الإفطار ذهب فؤاد مع السيدة ماري إلى الأسرة ليقدم تحيته إليها، وكان أحد الأطفال ابن علية، يدرج في أول مشيه، وكان له وجهها وعيناها الزرقاوان وشعرها الأشقر، وتبسم الطفل إلى فؤاد وهو يقبِّله وأنس إليه ذلك الأنس الذي يملأ به الأطفال القلوب انشراحًا.

ولكن علية لم تنزل إلى الشرفة في ذلك الصباح، فقد أتعبها السفر وآثرت البقاء في غرفتها، وتمنى فؤاد لو دعته أمها أو أختها إلى عيادتها، ولكنهما استأذنتا بعد قليل وصعدتا وحدهما بعد أن حمَّلهما فؤاد تحيته إليها.

ولما بقي وحده عاد إليه ما كان يعتريه من ضيق ووحشة بعد أن خُيِّل إليه أنه قد شُفِيَ منهما، وخشي أن يطول عليه يومه إذا هو قضاه في الفندق ساكنًا، وهو يعلم أن علية تقضي اليوم كله في غرفتها، وما كان ينبغي له أن يقبع في ركن الشرفة طول يومه متلهفًا إلى رؤيتها.

فأخذ سيارة إلى بعلبك لزيارة معبدها القديم، وسار حينًا في سهلها الأحمر الفسيح الأجرد، يحاول أن يصرف نفسه إلى التفكير في المناظر التي حوله لعل ذلك يشغله ويهون عليه انتظار يومه حتى يعود إلى الفندق في المساء، وكان منظر الإقليم شبيهًا بما ألف من مناظر مصر، وكان أهله قريبين إلى البدو من قومه، فكان يحدِّث نفسه في مدة رحلته عن هذه البلاد التي تمزَّقت قطعًا كما يتمزق البدن في أشلاء متناثرة، وكل قطعة منها تعيش وحدها في رقعة صغيرة لا تكاد تغني شيئًا في حياتها، وقد قنع أهل كل قطعة منها بما هم فيه واغتروا بأسماء ينخدعون بها أو يخدعون أنفسهم بسحرها، فما ذلك الاستقلال الذي يتلقفه الناس خرافة عن القدماء؟

ما معنى ذلك الاستقلال الممزق إذا كانت الأمم لا تجد في أرضها ما يدعم وجودها؟

إنها خرافة خلَّفها القدماء يوم كانوا في أيام فطرتهم الأولى، ثم تلقفها أهل الجدل وسخفاء الرأي الذين أوغلوا في طلب الحرية حتى مرقوا منها.

فإن الأمم تتجمع اليوم في كتل كبرى لتكفل الحياة لأنفسها وما هذه الأرض الفسيحة التي تمتد من حدود الترك إلى وسط أفريقيا والتي تمتد من بحر الهند إلى بحر الظلمات سوى أجزاء يتم بعضها بعضًا، وليس من بينها من فرق المكان والأرومة مثل ما بين شرق أمريكا وغربها أو شرق روسيا وغربها.

ولو كانت الفرقة التي بينها من صنع الغير لكان عذر هذه البلاد أنها مغلوبة على أمرها، ولكن الفرقة آتية من قبل باطنها، ففي كل رقعة منها فرقة تنظر إلى نفسها ولا تعبأ ما يكون من أمر بلادها ما دامت تفوز بالسيادة في أفقها الضيق، ألم تكن هذه حال الأندلس قبل زوالها إذ كان لكل مدينة منها أمير للمؤمنين ومنبر؟ ظل هكذا فؤاد يحدِّث نفسه حتى عاد إلى الفندق في المساء، ووثب قلبه عندما رأى علية على الشرفة تطلُّ على الوادي ساهمة والأطفال يسعون من حولها كفراخ القطا، وكان وجهها مصفرًّا فيه أثر من هزال، ولكن ما كان أصفى لون عينيها! وما كان أبدع قسمات وجهها!

لقد كانت هي علية التي رأى صورتها أول مرة في مرسم أخيها، صورة الراهبة في الثياب البيض! أهذه الصورة الوديعة هي التي اختارت «صدقي» وآثرته عليه وغرها لألاء مظهره؟ أهاتان العينان الزرقاوان الصافيتان هما اللتان لم تستطيعا النفوذ إلى أعماقه لتبصرا ما هناك من حب صافٍ؟ أم كان هذا كله من صنع خياله ولم تكن علية سوى أنثى من الحيوان فاختارت من استطاع أن يشقَّ طريقه إليها في قوة غير متردد؟ أكانت زلة منها أم هي زلة منه أم هي عبثة من عبثات المقادير التي تحمل البشر في تيارها كما يحمل تيار النيل العود الضئيل الذي رآه من قبل؟ واستقبلته علية مرحِّبة به ترحيبًا مخلصًا صريحًا، ولكنه رأى في عينيها بسمة حزينة خُيِّل إلى عقله المرتبك أنها تحمل معنى الاعتذار.

وشكرته علية على تحيته وسؤاله عنها، ثم أخذت تتحدَّث عن الجو ومنظر الوادي وجلالة الجبال، وحاول فؤاد أن يتماسك في ارتباكه، ويبحث عن مسيل سهل للحديث، ولكنه وجد أبواب الحديث مقفلة دونه إلا بابًا واحدًا كان يود لو اقتحمه فيسألها عن نفسها وعن حياتها وعن آلامها، وشعر بارتياح عندما أتت السيدة ماري فملأت المجلس مرحًا وضحكًا، ولكن ما كان أعظم الفرق بين صوتها وبين صوت علية!

ولم تلبث علية أن أقبلت على السيدة مستجيبة إلى حديثها المرح، فانفرجت أساريرها وعاد إلى وجهها شيء من لونه القديم، واستطردت السيدة في حديثها تسأل علية عن أخبارها، فعلم فؤاد في تلك الساعة كثيرًا مما كان يود أن يطلع عليه، فعرف أن زوج أختها ثريا سيأتي بعد أسبوع، ولكن «صدقي» سيتخلف في مصر لقضاء أمور لا تحتمل التأجيل، وأما سعيد فإنه قد سافر إلى إيطاليا؛ لأنه لا يطيق سكون لبنان، إذن سيتخلف صدقي في مصر وستكون علية وحدها فيستطيع أن يراها كل يوم في مجلسها، وقد يجد الفرصة أحيانًا ليجلس إليها وحدها.

وعادت إلى قلبه تلك الأمنية التي تسلَّلت إليه عندما سمع بشقائها في زواجها، فإنه ما زال حرًّا فارغًا لها لا ينتظر إلا أن تزول العقبة التي تحول بينه وبينها.

ولكن أكانت هي ترضاه لو عاد إليها؟ أما كانت هي التي اختارت زوجها عليه أول مرة ولم تستجب إلى نداء قلبه المخلص الذي كان يصيح بها كلما رآها؟ فما الذي يمنعها إذا هي فارقت زوجها أن تعيد الكَرَّة وتختار فتى آخر تؤثره عليه مرة أخرى؛ فتزيده شقاءً على شقاء وتجرح عزته وتدمي قلبه وتزيده عزوفًا عن الحياة؟

١٥

مضت الأيام سراعًا حتى كاد الأسبوع ينقضي، وخشي فؤاد أن يأتي زوج ثريا فيبدو للأسرة التنقل في أركان الجبل على عادة المصطافين، وما كان ليجرؤ على تعقبهم فيما يذهبون إليه من القرى، ولم يظهر له من علية في تلك الأيام شيء يدل على تبرمها بحياتها سوى بعض إطراق وصمت كانا يعتريانها، فكانت أحيانًا تنطوي على نفسها فلا تشارك في الأحاديث، ولا تطرب إلى شيء من المرح، وتشرد بنظراتها كأنها تسرح في عالم بعيد، ولكنها مع ذلك كانت تأنس إلى فؤاد كلما رأته ولا تتردَّد في أن تطلب إليه أن يؤدي لها بعض خدمات ضئيلة، وتطلب منه ذلك في يسر طبيعي كان يقع منه موقعًا مسعدًا.

وفي تلك الأيام فاز فؤاد بثقة ولدها الأشقر الظريف، فكانت علية تبتسم مرتاحة كلما رأته يفتح له ذراعيه فيثب الطفل بين يديه ويضحك مكركرًا إذا رفعه فوق رأسه مداعبًا.

وفي آخر يوم من الأسبوع أرادت علية أن تنزل إلى بيروت لتشتري بعض ما تحتاج إليه لنفسها ولولدها، وعهدت إلى فؤاد أن يستأجر لها سيارة، فكان من الطبيعي أن يعرض عليها صحبته ليكون في خدمتها، ولعلها كانت تنتظر منه هذا فقبلت شاكرة، وكانت تلك هي الفرصة التي تمنَّى فؤاد سنوحها في خفي ضميره.

وكان يومًا من أواخر يوليو وقد أخذ الجبل يزدحم بالوافدين وسالت الطرقات بالسيارات صاعدة هابطة فوق منحدرات الجبال، تكتنفها جدران الصخر من جانب ومهاوٍ سحيقة القرار من جانب آخر، وكان السائق شابًّا جريئًا فكان يهوي على السفح كأنه يعرف قياس أبعاد الطريق أصبعًا أصبعًا، فقالت علية في بعض هذه الليات العنيفة: أحمد الله على أنك معي يا فؤاد، فقد كادت هذه السيارة تخلع قلبي.

وطرب فؤاد لقولها وأخذ يحدثها عن الأودية التي شاهدها في جولاته مع أسرة السيد عبد الله بطرس، وعن عيونها وما يتحدث به الناس عن خصائصها العجيبة في شفاء الأمراض المستعصية فشغلها بحديثه عن منعرجات الطريق ومخاوفها، حتى بلغت السيارة بيروت، وتبدَّل الهواء فصار بعد لطافته كثيفًا، وبعد اعتداله حارًّا ثقيلًا حتى بلغوا سرة المدينة في زحمتها وضجتها كأنها ركن من أركان الإسكندرية القديمة.

كانت مجالس الناس كالعناقيد على المقاهي كما هي في مصر، وكانت هناك الحوانيت الضيقة والمركبات البطيئة، والناس إذ يتحدثون والملابس والألوان والصيحات راضية وساخطة، كانت كل هذه مناظر عهد فؤاد وعلية مثلها في مصر، فكانا يعجبان ما الذي يفصل هذه البلاد بعضها عن بعض ويقطعها قطعًا وما هي سوى رقعة خلقها الله لتكون واحدة؟!

وقضيا في المدينة صدر اليوم كله، ثم مالا على فندق مطل على البحر ليتغديا فيه، وأخذ الحديث يجري سهلًا غير منقبض، فأعاد إلى فؤاد ذكرًا من أيامهما بالإسكندرية، وخُيِّل إليه أن علية كانت تود لو وجدت وسيلة إلى الإفضاء إليه بمكنون أشجانها، ولكنها كانت كلما بدأت في شيء من ذلك تردَّدت ونكصت، ولم يجرؤ فؤاد على أن يبدأها بسؤال؛ خوف أن يكون فيه اقتحام لما تؤْثر إخفاءه.

ثم تجرأ آخر الأمر فقال لها: أأنا واهم يا علية إذ أرى عليك أثرًا من هَمٍّ؟

وترددت علية في الإجابة فمضى فؤاد قائلًا: إنه فضول مني أن أسألك مثل هذا السؤال، ولكني أعتمد في جرأتي على إخلاصي ومودتي.

فرفعت رأسها وقالت في حرارة: بل هو تفضُّل منك يا فؤاد أن تسألني سؤالك هذا، ولقد شكرت الله منذ رأيتك هنا، كأنه أراد أن أجد في هذه الجبال النائية صديقًا أستطيع أن أثق بمودته فأُفْضِي إليه بما عندي.

فقال فؤاد مرتاحًا: إنني سعيد يا علية إذ أعرف أنني ما زلت عندك صديقًا.

فقالت علية: أتشك في معزتك عندنا؟ لقد كنت دائمًا أنظر إليك كما أنظر إلى أخي.

ووثب قلبه عند ذلك وأعاد قولها في نفسه كئيبًا، إنها لا تنظر إليه إلا كما تنظر إلى أخيها.

وأطرق يفكر في الأحلام البعيدة التي غرق فيها حينًا في الإسكندرية إذ كان ينعم بسعادة من الوهم يتخيلها في نظراتها وبسماتها.

كان يُخَيَّل إليه عند ذلك أن نظراتها تتحدث أحيانًا إليه عاطفة وتناجيه قائلة: «هذه الحياة لنا»، ولكنها كانت في كل ذلك تنظر إليه كما تنظر إلى أخيها.

وقالت علية عندما طال إطراقه: أرجو ألا أكون قد تعثرت في قولي لك كما كانت عادتي أن أتعثر في القول معك، إنني لا أقدر على وزن ألفاظي كما تزنها أنت ولا أدرك منها ما تدرك أنت بذكائك، لقد كنا نقضي الساعات أنا وأخي نتحدث عنك، وكانت أحاديث أخي تجعلني أسأل نفسي كلما خلوت إليها بعد زيارتك عما عسى أكون قد تعثرت فيه في حديثي.

ولكني كنت دائمًا أجدك تغفر لي عثراتي.

أنا حائرة يا فؤاد ويزيد من حيرتي أنني تعودت في هذه الشهور الطويلة التي مضت بي أن أنطوي على آلامي قانعة بمناجاة شجوني حتى كأنني أغلقت نفسي على نفسي.

وكانت تقول كلماتها متقطعة تقف بين كل عبارة وأخرى، كأنها تريد أن تزن كل حرف منها، وكان فؤاد ينتظر ألفاظها وتدور في داخله أحاديث طويلة حول كل لفظ منها.

وقال لها في عطف: هذا ما أدركته منذ أول نظرة عند لقائنا، وهذا ما بعث إليَّ القلق، ودفعني إلى أن أسألك سؤالي.

فأجابت: لست أعرف كيف أعبر لك عن شكري، ولعل هذه الأيام قد ردت إليَّ بعض اطمئناني عندما رأيتك إلى جانبي.

وصمتت حينًا ثم قالت: ما كنت أحسب أن الحياة تغير ألوانها تحت نظري في مثل هذه السرعة، ولكن … ماذا أقولك لك؟

وكان فؤاد ينظر إليها عاطفًا وهي تتحدَّث، وهَمَّ مرارًا بأن ينطق ليحثها على الإفضاء بما عندها، ولكنه كان لا يجد من الألفاظ ما يصلح لأن يعبر به عن مشاعره.

وقالت بعد صمت آخر: أرى كأنك تمنع نفسك عن القول يا فؤاد، ولست أدري لعل ذلك ذنبي أنا، فاسألني عما بدا لك فقد يساعدني سؤالك على أن أجد الموضع الذي أحتاج إلى الإفضاء به، حدثني بما شئت فإن حديثك يتيح لي فرصة التنفيس عن آلامي.

فقال فؤاد عاطفًا: ليتني أقدر على أن أحمل عنك آلامك يا علية، ولست في حاجة إلى أن أقول لك: إنني لا أجد سعادة أكبر من أن أشعر بأنني جدير بثقتك.

فقالت علية: دعني أخفف من آلامي بكشف ما في نفسي، لقد كانت حياتي في هذه الشهور الأخيرة جحيمًا.

ودمعت عيناها فأدارت وجهها ومسحتهما، ثم قالت بعد لحظة صمت: كان صدقي في أول الأمر رفيقًا عاطفًا موافقًا، كان لا يدع فرصة لا يظهر فيها من شخصه جانبًا جديدًا لامعًا، حتى خُيِّل إليَّ أنه الرجل الوحيد الذي يستجيب إلى ندائي، ومع ذلك.

ثم أطرقت حينًا صامتة مترددة.

فنظر إليها في لهفة وأطرق صامتًا، ألا ما أشدها عليه من ذكرى!

ورفعت رأسها بعد حين وقالت: إنني أحس نوعًا من الخوف كلما أردت أن أجهر بما يجول في نفسي، ولكني مع ذلك لا أريد أن أُخْفِي عنك شيئًا، لقد كنت مع كل ما بدا لي من صدقي أحس في قرارة قلبي شعورًا غامضًا بأنني مقبلة في زواجه على أمر خطير يشبه المغامرة، أمر غامض مبهم لم أستطع تحديده أو إدراك حقيقته.

وصمتت مرة أخرى مترددة، فلما بدأت تتحدث بعد ذلك كانت تقلع الألفاظ واحدًا بعد واحد كأنها تحمل نفسها على الحديث قسرًا، وقالت: وكنت كلما حدثت عنه نفسي خالية لا أملك أن أرى ومضات خفية كأنها نُذُر عاصفة بعيدة، ولكني مع ذلك مضيت في سبيلي كأن تيارًا قويًّا يجرفني.

وحوَّلت بصرها إلى البحر فنظرت إلى الأفق البعيد ساهمة، وأحس فؤاد عند ذلك حزنًا يغمره، بل لقد عاد إليه حنقه القديم على نفسه إذ اتهمها بأنها قد جَنَتْ عليه كما جنت عليها، وتذكر كيف كان يلقاها ويتحدث إليها ويخرج معها إلى المنازه، ثم كيف كان يكبح ما في نفسه فلم يَبُحْ لها مرة بحبه، بل إنه لم ينطق لها بكلمة تنم عن حبه لها زاعمًا لنفسه أن مناجاة الحب أرخص من أن يسوقها إليها.

كان يوهم نفسه بأن حبه القوي لن يلبث أن يصل إلى قلبها بغير حاجة إلى لفظ يقلل من صفائه وصدقه وقوته، أما كان في ذلك غبيًّا أحمق يهيم في خيال سخيف؟ أما كان يعيش في عالم بعيد في عصر سحيق عندما كانت القلوب في حجاب كما كانت الوجوه تتستر بالحجاب؟ وإلا فكيف ترك ذلك الفتى الجريء يتودَّد إليها ويحدثها ويزوِّق لها ألفاظ الإعجاب حتى جرف قلبها في تياره كما تقول؟ أما كان هو الجاني على نفسه وعليها؛ إذ أخفى قلبه عنها وبالغ في صمته خوف أن يتعثر في لفظ أو يدنس حبه العلوي بما ينم عن رغبة؟ ألم يكن ذلك منه جبنًا وجمودًا استحق من أجلهما حرمانه من السعادة التي كان ينشدها؟ ها هي ذي أمامه تنطق صريحة بأنها قد أخطأت؛ لأن ألفاظ صدقي قد جرفتها في تيارها، ولو أنه أسمعها ألفاظه التي تعبر عن حبه الصادق لما استطاعت ألفاظ صدقي المزوقة أن تجرفها.

وكاد في تلك اللحظة يتدفَّق معتذرًا عن تقصيره مفصحًا عما أطال كتمانه من حبه لها، ولكنه بقي صامتًا ولم يجرؤ على النطق إلا أن قال وهو يجمجم اضطرابه: لست أستطيع أن أصف لك ألمي من أجلك يا علية، ولكني أضع بين يديك مودتي ونصحي، فأحب أن أسألك سؤالًا.

وعادت الأمنية الأولى فلمعت في أعماقه مرة أخرى.

أيمكن أن تزول العقبة التي قامت بينهما؟

وكاد يجمع شجاعته، فيسألها لِمَ اختارت ذلك الزوج دونه؟ وكيف لم تحس بما كان في قلبه من الحب وإن لم يفصح لها عنه؟!

ولكنه سمعها تقول: أحب أن تسألني سؤالك، سل ما بدا لك، ولا يخامرك شك في ثقتي.

فقال فؤاد كالمعتذر: هو سؤال جريء بغير شك وقد يكون سؤالًا سخيفًا، ولكني لن أتردَّد فيه لأن عليه يتوقف كل ما بعده من إسداء نصحي، أتحرصين على صدقي؟

فنظرت إليه في شيء من الدهشة كأنها لم تتوقع منه ذلك السؤال، وأطرقت حينًا ثم رفعت رأسها، وعلَّق فؤاد أنفاسه ليسمع جوابها.

والتفتت إلى ولدها وقالت بصوت خافت: من أجل ولدي! ثم رفعت منديلها فمسحت عينيها.

فكاد يصيح قائلًا: «إنك تخدعين نفسك يا علية، أنت تحبينه ويزداد حبك له كلما قسا عليك»، ولكنه ملك زمامه قسرًا فلم يجب بحرف، وأخذ طفلها بين يديه يقبِّله ويداعبه.

وتغديا معًا في شرفة الفندق، وأخذ الطفل يثرثر في لغته الظريفة، فانصرف الحديث إليه في أثناء الغداء، فهدهد ذلك من نفسيهما، فلما جلسا يرشفان القهوة بعد الغداء أخذ فؤاد الطفل وضمه إلى صدره، وجعل يداعبه والطفل يمد إليه يده فيعبث بشاربه حينًا ويجذب طربوشه حينًا، فوضع فؤاد طربوشه على رأس الطفل حتى غطى عينيه ثم رفعه قائلًا: أنداء!

فضحك الطفل مكركرًا ومد يده إلى الطربوش يستعيد المداعبة مرارًا.

والتفت فؤاد إلى علية وهو يضم الطفل إلى صدره، فرآها تنظر إليه نظرة فيها ثقة لا حد لها، وفيها عطف صريح ساذج كأنه من ضوء الشمس، وتقابلت عيناهما في نظرة طويلة كأنهما تتبادلان حديثًا خفيًّا، وبرقت له عند ذلك مشاعر جديدة لم يحس مثلها من قبل ولم تخطر له منذ وقعت عينه عليها، كان دائمًا يراها فتاة مثقفة نبيلة الطبع فاتنة الحسن رقيقة النغمة مرهفة الحس، يتمنى لو شاركته حياته فتخرج به من عزلته وعزوفه وسذاجته فتصقل حياته وتُدْخِل إليها مرحها وأناقتها، ولكن تلك المشاعر الجديدة برقت له كأنها وميض كوكب الزهرة إذا قارنت الهلال، فألقت في روعه سلامًا ومودة من نوع لا تشوبه شائبة من أنانية، أفما كان يستطيع أن يجد سعادة أسمى من سعادة الحب في أن تكون علية صديقته على رغم الحائل الذي يقوم بينهما؟ ألم تكن تلك المودة الصافية أبقى وأسمى متعة من محبة الأجساد التي تزول وشيكًا ويعتريها الاكتفاء والسآمة؟

وقال لها في أعقاب نظرته الهادئة الطويلة: ماذا ترين يا علية في أن أتدخَّل بينكما؟

فأجابت في دهشة: تقصد بيني وبين صدقي؟

فأومأ برأسه منعمًا وابتسم.

فسكتت علية مطرقة حينًا، وانتظر جوابها متشاغلًا بمداعبة طفلها.

وكان جوابها مترددًا، ولم تُخْفِ على فؤاد ما فيه من لهفة إذ قالت: لستَ في حاجة إلى إذني يا فؤاد إذا رأيتَ أن ذلك التدخل مستحسنًا.

فقال فؤاد متمتمًا: أنا سعيد بهذه الثقة.

وأضافت علية: ولكني لست أدري إذا كان ذلك التدخل يُجْدِي.

وجاشت نفس فؤاد إذ تأمَّل موقفه الجديد منها، أهذه الثقة أحب إليه أم أحلامه الأولى؟

وسألها: أحقًّا قد تخلَّف صدقي لقضاء شئون لا تحتمل تأجيلًا كما قلتِ للسيدة ماري؟

فاحمر وجه علية عندما قالت: وماذا كنت تنتظر مني أن أقول للسيدة عندما سألتني؟ أكنت أستطيع أن أقول لها إنه ذاهب وحده إلى فرنسا؟!

فقال فؤاد في دهشة: وهل سافر؟

فأجابت علية في حنق: هو ينتظر حتى يتم إعداد عدته للسفر مع بعض أصدقائه، إن هذه الجراح تزيدني ألمًا إذا تعرضت للأنظار.

وتوقَّفت قليلًا ثم أضافت: إلا إذا كشفها الجريح إلى صديق.

فقال في دفعة: سأرسل إليه برقية ليأتي إلينا هنا.

فأجابت في شبه يأس: أتحسبه في مثل هذه السهولة؟

فقال في ثقة هادئة: لن تضر محاولتي وستكون البرقية باسمي أنا.

وكان يدرك بإلهامه أنه إذا بعث تلك البرقية إلى «صدقي» فإنه سوف يبادر في أول طائرة إلى لبنان.

كان يدرك في أعماقه أن ذلك الشاب على ما فيه من غرور بنفسه لا يستطيع أن يغفل عنه وهو مع علية في لبنان.

وهزَّت علية رأسها في شك وقالت في شيء من المرارة: لست أظن أنه يعبأ بشيء سوى ما ينتظره في باريس.

فتبسم فؤاد قائلًا: هي محاولة.

وكان يقول في نفسه: «بل أنا واثق أنه سيأتي».

وقضيا سائر اليوم في جولتهما بالمدينة، وعرَّج فؤاد على مكتب البرق، فبعث إلى صدقي يدعوه باسمه أن يحضر سريعًا.

ولما عادا إلى الفندق في ذلك المساء كانت علية مرحة نشيطة وقضت مع الأسرة صدر الليل في مجلس الشرفة، حتى إذا انصرف الجميع إلى مخادعهم بقيت مع فؤاد يتحدثان أحاديث لا ينضب مَعِينها، وكانت ليلة قمراء هادئة الهواء دافئة، وجموع المصطافين في داخل البهو يستمتعون بعيدًا عنهما بضجيج موسيقى الجاز إلى ما بعد منتصف الليل.

ولما أوى فؤاد إلى مخدعه في تلك الليلة أحس بالسلام يغمر قلبه، ولم يمض إلا يومان بعد ذلك حتى جاء صدقي على طائرة، فبلغ الفندق في نفس اليوم الذي جاء فيه زوج ثريا أخت علية.

وكانت الأسابيع الأخيرة التي قضاها فؤاد في لبنان من أسعد ما مرَّ عليه في الحياة، كان يتنقل مع علية وأسرتها في أكناف الجبل، فيقيمون حيث يحلو لهم أن يقيموا، حتى إذا ما بدأت السآمة تدب إليهم بادروا إلى الانتقال إلى موضع آخر يختلف عما كانوا فيه، فكانوا أحيانًا يصعدون إلى آلاف الأمتار فوق البحر فيذوقون به برد الشتاء في قلب فصل الصيف، ويقتربون من مواطن شجر الأرز الذي شهد في حياته طوال القرون، ثم يصوبون إلى أغوار الأودية في جوار العيون الصافية وظلال الكروم الدافئة، فكانت الأيام كلها ملأى يجعلون لليوم خطته قبل أن يطلع عليهم، حتى إذا ما استمتعوا به رسموا خطة أخرى ليوم جديد، وعادت علية إلى هوايتها، فكانت تختار من المناظر أبدعها فترسم خطوطها العامة في محاور أولى، وتؤجل إتمامها حتى تعود إلى القاهرة عندما يكون سعيد إلى جانبها … ومن العجيب أن صدقي تغير في تلك الأسابيع تغيرًا لم يكن منتظرًا، فكان يسبق إلى الاستجابة إلى كل رحلة ويمد يده إلى كل خدمة، ويشارك في إشاعة المسرة في كل منزل تنزله الأسرة، وكان كلما رأى علية تصور منظرًا جمع الأسرة فأخذ لها صورة فوتوغرافية يسجل فيها ما كان يسميه «اللحظات السعيدة»، وكان فؤاد أشد الجميع عجبًا من تغيره؛ إذ وجد منه مودة صريحة لم يكن يتوقعها، كأنه قد حفظ له حسن صنيعه في إصلاح ما بينه وبين علية، ولم يكن عجب فؤاد من صدقي بأقل من عجبه من نفسه كلما خلا إليها وتأمل أعماقها، كان عندما عرض على علية أن يبعث في طلب صدقي يطيع عقله ويندفع مع حماسة طارئة بعثها فيه حديثه مع علية عندما حركه حزنها ودفعته ثقتها إلى أن يسمو فوق حبه وأنانيته وحنقه، ولما سألها سؤاله: «أتحرصين على صدقي؟» وسمع قولها: «من أجل ولدي!» جرفه فكره فأنساه كل شيء سوى أنه أمام أمٍّ تثق فيه مثل أخ لها، فلا ينبغي له إلا أن يكون عند ثقتها.

فلما مضى ذلك اليوم واضمحلت تلك السورة عادت إليه الشكوك وكاد يلوم نفسه على أنه فرط في حق نفسه وفي حقها مرة ثانية، فساعد على إعادتها إلى ذلك الزوج الذي لا يستحقها.

ولكنه منذ عاد صدقي ورأى كيف عاد البِشْر إلى علية وكيف تغير ذلك الزوج كأنه يكفِّر عن زلاته الماضية، بدأ يحس نوعًا جديدًا من السعادة أفسح مما كان يخيل إليه، أحس أن المودة الصافية التي جمعت بينه وبين علية تمتعه من السعادة بأضعاف ما كان يستطيع أن يجده في أية صلة أخرى، حتى لقد سأل نفسه: أليس هذا هو الحب الأوفى؟ أليس ذلك هو الحب الذي يتحدث عنه رسل الإنسانية في غير تحرج؟

وأراد فؤاد أن يعود إلى مصر بعد أن انقضت إجازته فودَّع الأسرة في ليلة بديعة، احتفلوا به فيها في فندق شتورة الذي كانوا يقيمون به، واتخذوا مجلسهم بعد العشاء إلى جانب العين الصافية، وجرى الحديث بينهم دافقًا كماء النبع، وكانت علية وصدقي يتعاوران معابثته وهو منصرف إلى صديقه الصغير توتو بن علية، كان الصغير متعلقًا به لا يرضى أن ينزعه منه أحد، كأنه أراد أن يشارك بنصيبه من وداعه.

فقالت علية: أتأخذه معك يا فؤاد؟

فقال فؤاد: يكون نِعْمَ الرفيق يا علية.

فقالت: أتقوى عليه وهو يهد قوانا؟

فقال: إنه يهدأ معي كما ترين لأنه صديقي.

أليس هذا حقًّا يا توتو؟

فضحك الطفل بغير أن يفهم حرفًا وهز رأسه ناطقًا: يأ يأ.

فعلا ضحك الجميع وقالت علية: إنه لا يريد أن يخدعك.

فقال فؤاد: أتحب أن تبقى مع هؤلاء يا توتو؟

فضحك الطفل ناطقًا مرة أخرى: يأ يأ.

فصاحت علية: ببغاء!

وضحك الجميع مرة أخرى وشارك الطفل في الضحك متحمسًا يكرر حرفه يأ يأ ويهز رأسه في حماسة.

فقال صدقي: تشجَّع يا فؤاد حتى يكون لك مثل توتو.

فقالت ثريا: سأخطب له مَنْ تهب له مثل هذا الشعر الأشقر.

وقالت علية: لا لا، مستحيل أنا أَوْلَى الناس بأن أخطب لفؤاد مَنْ يرضاها.

فرنَّت ألفاظها في قلبه ونظر إليها نظرة شكر وهو صامت، وكان يقول في نفسه: «مَنْ أرضاها؟ سأنتظر إذن طويلًا».

ومضى الحديث سهلًا صافيًا إلى أن هبط البرد من أعلى الجبال المجاورة، ولما أوى فؤاد إلى غرفته قضى أكثر الليلة ساهدًا.

ونزع نفسه في الصباح نزعًا ليعود إلى مصر والجميع يلوِّحون له بأيديهم حتى غابت سيارته متجهة نحو بيروت.

١٦

عاد فؤاد إلى القاهرة ولقي أمه فرحًا مستبشرًا، وأحست الأم بإلهامها ما طرأ عليه من تغير فما كان أشد فرحتها! وجعل يصف لها مناظر لبنان وأهلها وأدويتها وقراها، وهي تستمع إليه كأنها كانت تشاركه متعته فيها، وقصَّ عليها أنباء مَنْ لقيهم هناك، فكم أطربها تصويره للسيدة ماري وأسرتها وكم أسعدها سعيه في الصلح بين علية وزوجها، وقالت له في أثناء الحديث: ليتني أجد لك عروسًا مثل علية يا فؤاد؟ ألم تفكر في ذلك يا ولدي؟

فقال في نفسه: ألم أفكر في ذلك حقًّا؟

ثم قال لها باسمًا: ستبحث لي علية عن زوجة ترضاها.

فقالت الأم في نغمة عتاب: أتخطب لك دوني؟ وهل تعرفك علية أو غيرها كما أعرف ابني؟

فقام فؤاد فقبَّل رأسها ويديها قائلًا: لن تكون الكلمة الأخيرة إلا لك يا أمي.

فضمته إلى صدرها دامعة العين، وأخذت تعيد عليه أوصاف مَنْ عرفت من الفتيات من قريباتها أو بنات صاحباتها وجاراتها، ولم يضق صدره هذه المرة من حديثها، فكان يجيبها مداعبًا، وكلما ذكرت وصفًا لا يشبه بعض خلق علية أو طبعها قال مرحًا: ليس هذا طلبي.

فقالت أمه آخر الأمر: إذن فصوِّر لي الزوجة التي ترضاها.

فجعل يصف لها ملامح وجه علية وطولها ولون بشرتها وشعرها ومشيتها ونغمة صوتها وهو في كل ذلك يتأمل الصورة الماثلة أمامه من خيال علية، ثم قال لها: وأما روحها، أما طبعها …

وسكت لحظة ثم قال: أما طبعها فلا أستطيع أن أتحدث عنه إلا إذا رأيتها.

فضحكت الأم قائلة: وأين نجد كل هذه الصفات مجتمعة يا ولدي؟

فقال باسمًا: سوف أنتظر حتى أعثر عليها.

وقال في نفسه: «وسأنتظر طويلًا».

وخُيِّل إليه أنه لن يضيق بالحياة إذا قضاها وحده، قانعًا بما تحقق له من مودة علية.

وجاء النبأ بعد أيام أنه قد نُقِلَ إلى طنطا، فملأه ذلك سرورًا؛ إذ كان يستطيع وهو هناك أن يزور الإسكندرية بين حين وحين، فيقضي بها يومًا أو أيامًا.

ولما استأنف عمله أقبل عليه في جدٍّ وبِشْر، وكان كل مَنْ يلقاه يقرن تحيته بالتهنئة على ما أفاد من الصحة في لبنان.

وكانت طنطا محببة إلى فؤاد منذ كان صبيًّا، كان يزورها مع أبيه في أيام المولد فيقضي بها أيامًا سعيدة متنقلًا بين السرادقات يستمع إلى القرآن وأناشيد الأذكار، وينشرح صدره بما فيها من أنوار وضجيج، وكانت مناظر الأسمار وحلقات اللهو التي شهدها ما تزال ماثلة في ذهنه مقرونة إلى صورة عزيزة؛ صورة أبيه.

وكان عمله الجديد أسمى قدرًا مما كان فيه؛ ولهذا كان أخف عليه، على سنة الوظائف في مصر، فإن الوظائف تتدرج صاعدة حتى تئول آخر أمرها إلى ما يكاد يكون فراغًا بديعًا، وما جدوى الوظيفة الكبيرة إذا لم يصاحبها زيادة الأجر وزيادة الفراغ؟!

وازدحمت المدينة في أيام المولد كعادتها كل عام، فحنَّ فؤاد إلى ارتياد السرادقات والخوض في زحمة البشرية الساذجة التي تخف إلى ضريح الولي الكبير تطلب عنده البركة والغفران.

فكان يخرج في كل ليلة ليستمع إلى القراء وأناشيد المنشدين ويجد فيها متعة لا تشبه في شيء ما كان يجده من الاشمئزاز إذا سمع أغاني المغنين، كان فؤاد إذا سمع تلك الأغاني نفر منها وضاق بتكسرها وتبذُّلها وأسأمته رتابتها وضآلة فنها، كان إذا سمع منها نغمة انقبض صدره كأنه يسمع عديدًا في مأتم حزين، وإذا سمع أخرى تقزَّز كأنه انتقل قسرًا إلى بؤرة مجون، ولكن قراءة القرآن كانت تجلو أذنيه، وكانت أناشيد الأذكار تقع في قلبه جليلة مطربة، وكان إذا مرَّ بحلقات أهل القرى في أسمارهم وملاهيهم أحس عطفًا على سخافتهم وتذكَّر حلقات الأسمار في النجيلة إلى جانب النخيل والكوم الأحمر وسأل نفسه: ألا أين تكون تعويضة؟ وماذا آل إليه أمر قوية؟

ومر ليلة بسرادق أحد الأعيان فرأى فيه زحمة، وسمع منه صوتًا حسنًا يغني أنشودة بدوية، فوقف يستمع إليها من خارج السرادق فوجد في نغمتها شيئًا يشبه نشيدًا سمعه من قبل، ثم تبين ألفاظها فجمد في مكانه مدهوشًا، أيكون هذا قوية؟ كانت الأنشودة ترن في نغمة حزينة:

وين راح يا تعويضة طياب الريح، راحت وين
وين الهلال والندى والدار وين الدار
كان الزمان من زمان نادي يروينا
شبت لهايب على الأعواد والنوار
جولي لي وين راحت يا تعويضة

ووثب فؤاد داخلًا إلى السرادق يخترق الصفوف المتزاحمة حتى بلغ صاحب الصوت، فماذا رأى؟ كان قوية أمامه يبدو كأنه شيخ نحيل فيه شبه من الفتى القديم، كان أغبر الشعر ضعيفًا حائل اللون له لحية شعثاء، يرتدي «حِرامًا» مهلهلًا من الصوف ومن تحته ثوب مرقع مختلف الألوان، وقد وضع حول عنقه سبحة طويلة غليظة الحبات من خشب أسمر، وهو يهز رأسه يمينًا ويسارًا في غنائه، وكلما فرغ من سِمْط ختم قائلًا:

وين راحت يا تعويضة!

أهذا قوية الذي أمامه؟ لم يصدق فؤاد عينيه لولا أنه يذكر تعويضة، وهاتان العينان الغائرتان وهذا القوام المنحني النحيل ما له قد تبدَّل مثل هذا التبدل في عامين أو ثلاثة؟ لكأنه قد غاب عنه ثلاثين عامًا.

وامتلأ قلبه حزنًا واقترب من الرجل مندفعًا، حتى إذا وقف حياله رآه يتجه إليه بنظرة خاوية، ثم رآه يبتسم بسمة حزينة ويمضي في غنائه الباكي، فأخذه فؤاد من ذراعه يريد أن يبعد به عن السرادق لعله يحدثه ويسأله عن حاله وعن حال امرأته المسكينة، ولكنه نزع ذراعه عنه في رفق ولم يتوقَّف عن الغناء.

فناداه: ألا تذكرني يا قوية؟

فالتفت الرجل إليه باسمًا ومال عليه هامسًا: ماتت، ماتت تعويضة!

ثم هز رأسه واغرورقت عيناه وعاد إلى الإنشاد، فارتبك فؤاد وهو يرى الأنظار تتجه نحوه في ريبة، وحاول مرة أخرى أن يتجاهل مَنْ حوله وينزعه خارجًا به من السرادق، ولكن قوية انفلت منه فجأة فخرج مسرعًا كأنه يفرُّ فرارًا، وهَمَّ فؤاد أن ينطلق في أثره غير عابئ بمن يتهامسون ومَنْ وراءه، ولكنه لم يستطع أن يلحق به فقد كان يحس قدميه ثقيلتين وهو يسير خلفه.

ووقف عند مدخل السرادق ينظر في أعقاب قوية المسكين حتى غاب بين الجموع الزاخرة، وصعدت إلى ذهنه صورة العود الضئيل الذي تتقاذفه الأمواج فوق اللجة المضطربة، تقذف به يمنة ويسرة حتى تبتلعه الدوامة في أعماقها.

وسار يجرر قدميه بقلب مفعم ألمًا، يسأل نفسه متى عاد ذلك المسكين من منفاه؟ وهل ماتت تعويضة حقًّا؟ وكيف عرف المسكين مصيرها مع أنها اختفت منذ نُفِيَ فلم يعثر أحد عليها؟ ألا يكون هو الخيال المضطرب الذي يصور له أنها قد ماتت لأنه عاد من منفاه فصدمته غيبتها؟ وأطرق يسير حزينًا بين الناس لعله يعثر عليه في سرادق آخر أو في حلقة من حلقات الأذكار أو في مسجد السيد البدوي، ثم سمع من خلفه اسم إبراهيم ميسور، فلما التفت رأى جماعة من أهل الريف يخرجون من السرادق وهم يتحدَّثون، فتريَّث حتى حاذوه، ونظر إليهم فسكتوا ونظر بعضهم إلى بعض نظرة ارتياب.

فنادى في صوت حزين: أتعرفون هذا؟

فسكتوا ونظروا إليه نظرات خاوية فيها شيء من الخوف.

فقال في رنة تودُّد: كنت أعرفه قديمًا وكان لي صاحبًا.

وكانت نبرات صوته صادقة، فاقترب واحد من الجمع إليه وقال: أين عرفته يا أفندي؟

فقال فؤاد: ألم تسمع عن عزبة الأفندي؟

فقال آخر من الجمع: أما قلت لكم إنه هو؟

وتقدم نحوه قائلًا: ألست سي فؤاد؟

فتبسم فؤاد بسمة ضيئلة وهز رأسه سائلًا: أتعرفني؟

فقال الرجل: أنا من كفر حصام، وقد رأيتك مرة في عرس تعويضة.

فغُصَّ فؤاد بريقه، وأقبل عليه كما يقبل على صديق ومد له يده مصافحًا، واطمأن الجميع إليه بعد استرابته وساروا إلى جنبه يتحدثون في سذاجة.

وسأل فؤاد: أتعرف أين يقيم قوية؟

فقال الرجل: حيث يبلغ به السير، فهو يضرب في الأرض منذ عاد من منفاه.

فقال فؤاد: لو ساعدتني على اقتفاء أثره كانت مروءة منك.

فرضي الرجل واستأذن أصحابه وسار مع فؤاد يخوضان زحام المولد، ومضى الرجل في حديثه فقال في عطف: الله يلطف به!

فسأله فؤاد: أتعرف متى عاد من منفاه؟

فأجاب الرجل: منذ سنتين، ولكنه لم يكن هكذا، لم يكن نحيلًا أغبر كما رأيته الآن.

فقال فؤاد في لهفة: وهل ماتت تعويضة حقًّا؟

فأجاب الرجل: هكذا قال قوية، فإنه بعد عودته سأل أهل القرية عنها فلم يستطع أحد أن يدلَّه عليها، فسار إلى مريوط لعله يجدها هناك، ثم عاد كما رأيته يخلط ويغنِّي ويبكي، وأصابته «جذبة» فلبس ثيابه المرقعة ووضع السبحة حول عنقه، فلا يراه أحد إلا في الموالد أو عند مقابر الأولياء.

وصمت فؤاد حزينًا كأنه أصيب بكارثة في حميم، ومضى الرجل في حديثه قائلًا: وهو يذهب إلى النجيلة أحيانًا فيأتي إلى جانب الكوم حيث كان يضرب خيمته، ويقضي هناك ليالي في العراء ينشد أناشيده الحزينة كما سمعته الآن.

فقال فؤاد في صوت خافت: أما كنتم تتحدثون عن ميسور؟

فعادت إلى الرجل نظرة الريب وقال مترددًا: هي أقوال نسمعها.

فقال فؤاد مشجعًا: أيقولون إنها …

وصمت ناظرًا إليه كأنه يناجيه بسر.

فقال الرجل هامسًا: نعم، يقولون إنها قتلته؛ لأنه تعرض في الليل لها، ثم هامت على وجهها.

وكانا قد بلغا مسجد السيد البدوي فخلع فؤاد نعليه وقال للرجل: ألا نجده هنا؟

ودخلا بين الجموع الزاخرة فزارا المشهد وطافا بأنحاء المسجد فلم يجدا من قوية أثرًا، وأحس فؤاد خشوعًا حزينًا فذهب ليتوضأ، ثم صلى عند مقام السيد ركعتين لله، واتجه بقلبه إلى تعويضة وقوية لعل الله يرحمهما.

ولما قام يريد العودة إلى بيته لم يطعه قلبه الموحش فذهب إلى سرادقات المولد ليُذْهِبَ وحشته في أنوارها اللامعة ويستمع خاشعًا إلى آيات القرآن، وكانت قطرات من رذاذ المطر تتطاير إلى وجهه، وسماء الخريف الغائمة تلف السماء بثوب حزين، فسار مسرعًا يحس ارتياحًا للقطرات الباردة التي ترفُّ على جبينه، وهبات الهواء البارد الذي كان يتسرب إلى صدره المضطرب.

وكانت صورة قوية وتعويضة تتمثلان أمامه في ذكريات شتى تتزاحم في خياله يجللها السواد، وصورة لُجَّة الماء تبدو إلى جانبهما وعلى سطحها عود ضئيل من الشوك يتخبط على الأمواج، وكانت هناك زهرة في العود الضئيل تضطرب في اللجة الغائرة ثم تبتلعها الدوامة العنيفة في جوفها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤