الفصل الأول

التفكير والاعتقاد

الثراء والتنوع في الفكر الهندي

تَزْخَرُ الهند بتراث طويل وثَرِيٍّ ومتنوع من الفكر الفلسفي يمتدُّ لما يقرب من ألفيتين ونصف الألفية، ويتضمَّن العديد من التقاليد الدينية الكبرى. ويحظى الدين في السياق الفلسفي بأهمية كبيرة؛ لأن العادة في الهند جَرَت على اعتقاد أن دور الفلسفة — أو بالأحرى محاولة فهم طبيعة ما يركز المرء عليه — يرتبط ارتباطًا مباشرًا بالمصير الشخصي للفرد؛ ومن ثَمَّ فإن الفلسفة لا تُعتبر نشاطًا فكريًّا احترافيًّا يمكن ممارسته في نهاية يوم العمل، بل محاولة لفهم الطبيعة الحقيقية للواقع باعتبارها مطلبًا داخليًّا روحيًّا. ويمكن القول إن ما يُطلِق عليهما الغربيون الدينَ والفلسفةَ يجتمعان في الهند في محاولات الأشخاص فهمَ معنى وتركيبة الحياة بالمعنى الأوسع. وتشبه هذه المحاولات طريقة سقراط أكثر مما تشبه الدين بصفته إيمانًا بالوحي، وأكثر مما تشبه الفلسفة بصفتها مادة أكاديمية.

التفكير والإيمان

إن مسألة طبيعة الفلسفة الهندية من المسائل التي يهمنا فَهْمُها من البداية؛ ومن ثَمَّ فهي تستحق الاستفاضة فيها بعض الشيء. في الغرب، بالتأكيد منذ أن فصل الفيلسوف الألماني العظيم إيمانويل كانط بين الرب وبين ما اعتقد أنه من الممكن معرفته عن طبيعة الأشياء من خلال التفكير، أصبح يُوجد فرق واضح بين الفلسفة والدين، وأصبح الدين يُعتبر مجالًا لا يُسمح فيه فحسب ﺑ «الإيمان بالغيبيات»، بل يُطلب هذا الأمر في بعض الأحيان، وقد تُعطى الأولوية لما يزعم صحَّتَه أشخاصٌ معينون فقط بسبب مواقعهم وهوياتهم (وهذا يعني الإيمان بصحة كلامهم بغضِّ النظر عما إذا كانت صحته ممكنة الإثبات أو حتى مثيرة للجدل)؛ وأصبحت تُوجد مستويات متفاوتة من «الغيرية»؛ مثل وجود إله متعالٍ، أو كائنات ذات مكانة أو معرفة تفوق البشر أو تخرق الطبيعة، أو وجود أنواع مختلفة من مصادر القوى الفائقة للبشر أو الخارقة للطبيعة، وكل هذه العوامل أو أيٌّ منها «يؤمن» بها معتنقو التقاليد الدينية المختلفة؛ إما إيمانًا مطلقًا لا يخالطه شَكٌّ، أو في إطار الشك والتساؤل، ويُسمى هؤلاء الأشخاص ﺑ «المؤمنين».

وتُوجد نقطة أساسية لهؤلاء المؤمنين تتمثَّل في أنهم يعتقدون أيضًا أن ممارسة دينهم ترتبط ارتباطًا مباشرًا بمصيرهم. وتختلف تفاصيل هذه العلاقة؛ فبعضهم يعتقدون أن حياتهم في المكان والزمان الحاليَّين تتأثر بمعتقداتهم وممارساتهم الدينية، وبعضهم يعتقدون أنهم يحصدون نتائجَ تلك المعتقدات والممارسات بعد الموت فقط، وبعضهم يعتقدون أن ما يحدث لهم في الحياة الحالية وكذلك بعد الموت يَنتُج مباشرة عن معتقداتهم وممارساتهم الشخصية، بينما يعتقد آخرون أن مصائرهم تحددها تمامًا القوة «الغيرية» المتعالية الفائقة للبشر التي يؤمنون بها، وأخيرًا يعتقد البعض أن مصائرهم يحددها مزيج من الاثنتين. وبغضِّ النظر عن التفاصيل المفهومة، فإن وجود هذه العلاقة بين المعتقدات والممارسات الدينية ومصير الفرد — خاصة بعد الموت — هو السبب في أنْ يُشار إلى الأديان بأنها سوتريولوجيا أو «أنظمةُ خلاصٍ».

«الدين باعتباره سوتريولوجيا»: كلمة سوتريولوجيا مشتقة من كلمة إغريقية هي «سوتر» وتعني «المخلِّص». وفي الاستخدام الشائع، ليس من الضروري لأحد النظم العقائدية أن يكون لديه شخصية مخلِّصٍ فِعليَّة كي يُوصف النظام نفسه بأنه سوتريولوجيا؛ فالنقطة الأساسية هي أن مصير المؤمنين بهذا النظام العقائدي يُعتقد أنه يرتبط ارتباطًا مباشرًا بمعتقداتهم وممارساتهم.

وعلى النقيض من هذه النظرة، فمنذ كانط أصبح مبحثُ الفلسفة مهتمًّا على نحو أساسي بالبحث عمَّا يمكن معرفته عن طبيعة وتركيبة الحقيقة من خلال النقاش العقلاني وحده، وهذا يعني أنه أيًّا كانت الموضوعات المحدَّدة التي يشغل الفلاسفة أنفسهم بها، فإنه يجب أن تكون طريقتهم في مناقشتها شديدةَ المنطقية؛ بمعنى أنه لا يُسمح بالإيمان بما لا يمكن إثباته، ولا توجد كلمة تعلو على كلمة العقل، وليس ثمَّة جزء في هذه الممارسة يُعتبر أيَّ شيء غير كونه محاولةً فكرية بشرية. علاوة على ذلك، يُعتبر التفلسف، بغض النظر عن الموضوع الذي يناقشه، محضَ غايةٍ فكرية في حدِّ ذاته، وليس له أيُّ أَثَر على الفرد مطلقًا؛ فالفلسفة ببساطة ليست لها علاقة بالسوتريولوجيا، وفي واقع الأمر هذه سمة مهمة تميزها عن الدين.

تُوجد ملاحظتان مهمتان عن الفرق بين الدين والفلسفة؛ أُولى هاتين الملاحظتين هي أنه على الرغم من الاختلاف بين الدين والفلسفة، فإن كلا المجالَين يتشاركان في عدد من الاهتمامات المشتركة، والملاحظة الثانية هي أنه حتى في الغرب لم يكن هذا الفرق واضحًا دائمًا. وتكمن أوجه التشابه في أن كلًّا من الدين والفلسفة يهتمَّان في الأساس بطبيعة الحقيقة؛ فعلى سبيل المثال، لنفترض أن أحدَ الأديان يقرُّ التعاليم التالية: هناك ربٌّ يُقِرُّه هذا الدين، وهذا الرب متعالٍ تمامًا عن الكون الذي نعرفه، وهو خالق كل شيء، والعالم المخلوق يشمل بشرًا بأرواح خالدة، وسلوك الفرد يؤثر على حياته الآخرة. حتى من هذا القدر القليل من المعلومات يمكننا أن نعرف أنه وفقًا لهذا الدين فإن الحقيقة تتكوَّن من نوعين من الكائنات المستقلة تمامًا بعضها عن بعض (وهما في هذه الحالة الإله، وغير الإله)، وأنه لا يمكن أن يُوجد أي شيء آخر؛ لأن الرب هو خالق كل شيء. ونعلم أيضًا أن جزءًا على الأقل من الكائنات غير الإلهية يتَّسم بأنه جماعي (أي يجمع كل الأرواح الفردية) وأنه خالد كذلك. وببساطة، فهذه النقطة الأخيرة تخبرنا بشيء مهم عن طبيعة البشر، فهم في أنفسهم جزء من الحقيقة يمكن أن يتكون بأيِّ عدد من الطرق. وبالإضافة إلى ذلك، فإننا نعلم أن نوعًا من الأنظمة السببية يربط السلوك الحالي بشكل مجهول من أشكال الوجود المستقبلي.

وعلى الرغم من وجود جوانب أخرى كثيرة عن طبيعة الحقيقة قد يهتم المرء بمعرفتها، وقد يكون للدين ما يقوله عنها أيضًا، وعلى الرغم من أن هذا المثال يتَّسم بالعمومية؛ فإن ما يذكره يتناول اثنين من الموضوعات الأساسية التي تهمُّ الفلسفة أيضًا، وهما: كيفية تكوُّن الحقيقة في الأساس، وطبيعة البشر.

ومن الاهتمامات الأخرى المشتركة بين الدين والفلسفة طريقةُ توصُّلِ المرء لمعرفة إجاباتِ مثلِ هذه الأسئلة الرئيسية؛ ففي حالة ذلك الدين المفترض، لو كانت التعاليم تُعطى عن طريقِ ربٍّ يفوق البشر يُسلِّم المؤمنون بكلامه بوصفه الحقيقة، فإن هذه المعرفة مكتسبة من خلال «الوحي» أو ما يمكن أن نُسمِّيه «الشهادة اللفظية». وفي الحقيقة، كلنا نعتمد على الشهادة اللفظية إلى حدٍّ كبير في حياتنا اليومية؛ فالأشخاص الذين لم يسافروا مطلقًا إلى قارة أنتاركتيكا، على سبيل المثال، يسلِّمون بصحة روايات الأشخاص الذين رأوا القارة في المكان الذي تحدِّده الخريطة. وكوْن المخاض عملية مؤلمة يُعدُّ أمرًا مسلَّمًا به لدى الأشخاص الذين لم ينجبوا؛ اعتمادًا على كلام أولئك الذين خاضوا هذه التجربة. وجميعنا نطَّلع على كل أنواعِ الأشياء على نحو منتظم على أساس شهادة المراسلين الصحفيين والمعلِّمين والكتَّاب والعلماء والباحثين الخبراء وغيرهم. وفي المواقف اليوميَّة، من الممكن التأكُّد من صحة المعلومات المكتسبة بهذه الطريقة ولو مبدئيًّا على أقل تقدير. وما يجعل الموقف الدينيَّ مختلفًا ليس وسيلة المعرفة إنما هو استحالة التأكُّد من صحة المعلومات المكتسَبة؛ فالمعلومات التي يقدِّمها معلم الدين لا يمكن سوى التسليم بصحتها على أساس الثقة أو «الإيمان بها». والفيلسوف سيعتبِر عدم القدرة على التحقُّق من المعلومة أمرًا غير مقبول، ولن يَعتبر المعلومة التي تتحدث عن طبيعة الحقيقة صحيحة. وعند تناولِ الموضوعات نفسها، سوف يعتمد الفيلسوف فقط على عمليات المعرفة العقلانية أو المنطقية. والفلسفة بهذه الطريقة تهتمُّ على وجه التحديد بما يُعرف باسم «حدود المعرفة»، وهذا يعني أنَّ الفلسفة تسعى إلى وضع معايير يُمكن وفقًا لها تحديد ما إذا كان من الممكن اعتبار أن البيانات مَعرِفة مقبولة على أساسٍ مشروعٍ أم لا. ويُشار إلى نظريات المعرفة (الطريقة التي نعرف بها) باسم الإبستيمولوجيا.

شيء يهم كلًّا من الدين والفلسفة

تتعلَّق «الميتافيزيقا» (ما وراء الطبيعة) بطبيعة الحقيقة ككلٍّ؛ فهي تتساءل عن طريقة تكوين الحقيقة في الأساس، وعن أنواع وطبيعة المكونات التي قد تكون موجودةً، وعلاقة بعضها ببعض. ومن الموضوعات المهمة فيها: العالم/الفضاء/الكون؛ البشر، وغيرهم من الكائنات، والسببيَّة.

«إبستيمولوجيا» (مشتقة من الكلمة الإغريقية «إبستيمي»، وتعني «المعرفة») تهتم بوسائل المعرفة، وتتضمَّن وسائل المعرفة الشائعة: النقاش المنطقي أو التفكير، والاستنتاج، والشهادة، والإدراك الحسي.

وفيما يخص النقطة الثانية المذكورة آنفًا المتمثلة في أنه لم يُوجد دائمًا ذلك الفصلُ واضحُ المعالم بين ما هو دين وما هو فلسفة؛ فلقد بدأ التراث الفلسفي الغربي في اليونان في فترةِ ما قبلَ المسيحيَّة، في مكان وزمان كان فيهما كثيرون يسعَون إلى معرفةِ المزيد عن طبيعةِ الحقيقة، وكان الهدف والغرض من ذلك آنذاك تحقيقَ الحكمة في هذا الصدد، وأي معلومة ذات علاقة بحقيقة الحقيقة كانوا يرونها في ضوءِ اكتسابِ الحكمة؛ ومن ثَمَّ أصبحت الفلسفة هي «حب الحكمة». ولم تكن الفلسفة تتضمَّن أيَّ مفهوم متعلق بالسوتريولوجيا كما نفهمها، ورُغم ذلك، فإن الافتراضات المختلفة المتعلقة بطبيعة الحقيقة التي قدَّمها الفلاسفة الإغريق القدماء شملت موضوعاتٍ يمكن أن نجدها أيضًا جزءًا من التعاليم الدينية. لقد شغلوا أنفسهم بطبيعة العالم والبشر، وأهمية سعي البشر وراء الحصول على الحكمة، ورأَوْا أن هذا هو أسمى نشاط ممكن للبشر، وأنه من الضروري أن يطمح إليه البشر، إذا أمكن ذلك. وقدَّم البعض أيضًا — لا سيما سقراط — اقتراحاتٍ حول كيفية الجمع بين السعي وراء الحكمة وعَيْش حياة جيدة على نحو مثالي.

وبعد الإغريق، ظلت الفلسفة الغربية في الحقبة المسيحية واقعةً لقرونٍ عديدة تحت سيطرة أشخاصٍ كانوا أيضًا غاية في التديُّن، وكانوا يسعَون لفهم المزيد عن «عالم الرب». وكان الفلاسفة أصحاب القدرة الهائلة على الاستبصار والتأثير العظيم، أمثال أوغسطين وأنسلم وتوما الأكويني وديكارت وهيجل، كلهم مسيحيين ممارسين للشعائر، وسعوا لحلِّ المشاكل الدينية والفلسفية بدلًا من الفصل بينها. وفي حين أن اهتمامات هؤلاء المفكرين العظماء كانت واسعة النطاق للغاية، فقد كان من الموضوعات ذات الأهمية الكبيرة بالنسبة لهم كيفية وجود الرب ضمن منظومة الحقيقة. لقد كان وجود الرب، كما هو مفهومٌ في التراث المسيحي، مقبولًا كحقيقة بديهية باعتباره عقيدة راسخة، لكنَّ هؤلاء الفلاسفة حاولوا أيضًا إثبات وجود الرب بالاستعانة بالنقاش العقلاني؛ وبهذه الطريقة سيصبح الإيمان متوافقًا مع العقل بدلًا من أن يكون متناقضًا معه. وقالوا أيضًا — لا سيما ديكارت — إن طبيعة الرب تتمثَّل في أنه يمكن للمرء أن يعتمد بأمانٍ على مساعدته وحدها في التغلُّب على جوانب القصور في التفكير. بذلك انضم الإيمان إلى التفكير في السعي الهادف للفهم، وبالفعل وسَّع نطاقَ احتمالاتِ الفهم. لقد كان هؤلاء الفلاسفة وَاعِين جيدًا لما يفعلون، لكنَّهم ظنُّوا أن طريقتهم طريقة مشروعة تمامًا، وكان أوَّل فيلسوفٍ في الغرب المسيحيِّ يشكِّك جديًّا في مشروعية الخلط بين الإيمان والتفكير في السعي وراء المعرفة هو كانط، وأكد كانط على أنَّ ما يمكن للمرء أن يَعرفه معرفةً يقينيَّة يقتصر تمامًا على ما يُمكن تأكيدُه من خلال التفكير، وأن هذا لا يشمل أيَّ شيءٍ له علاقةٌ بالرب. وكان كانط — بصفته مسيحيًّا ورعًا — مؤمنًا بوجود الرب، ورغم ذلك، فصل هذا الإيمان بالرب عن المنطق الفلسفي، وقال إن المرء لا يمكنه أبدًا الوصول لمعرفة يقينيَّة عن المسائل الإيمانية، وإن هذه المسائل كانت وستظل دائمًا معتقدات، وإن المعرفة اليقينية تخصُّ الفلسفة.

وبهذه الطريقة يزعم التراث الفلسفي الغربي في الوقت الحاضر أنه يهتم فقط بالمعرفة اليقينية ويحقِّق فقط في تلك الموضوعات التي يمكن التفكير فيها من خلال أساليب النقاش المنطقي. وأصبح هذا المعيار المنهجي مفروضًا على نحو صارم، لدرجة أنه منذ أوائل القرن العشرين لم يشغل غالبية الفلاسفة أنفسهم بأسئلة ميتافيزيقية كبيرة مثل: ماذا يوجد هناك؟ وما الموجود؟ وما الحقيقة المطلقة فيما يتعلق بطبيعة الحقيقة؟ ويقول البعض إن الإجابة عن مثل هذه الأسئلة تتضمَّن استنتاجاتٍ تخمينيَّة للغاية على نحوٍ يجعلها غير مقبولة على نحوٍ آمنٍ ضمن حدود الفهم الممكن؛ ولذلك من الأفضل الإعراض عن تلك الموضوعات. وقال البعض الآخر إن الأسئلة المتعلقة بأيِّ شيءٍ قد يتجاوز التجربة البشرية التجريبية هي أسئلة عبثِيَّة بطبيعتها. وعلى هذا النحو يبدو أن الفلسفة الحديثة تشغل نفسها بالأسئلة المفصَّلة والتقنية المتعلقة بكافةِ أنواعِ التحليلات المنطقية واللغوية. أما الموضوعات على شاكلةِ الأخلاقيات والخير التي ناقشها الفلاسفة الأوائل في سياق الطريقة التي يجب أن يعيشوا بها حياتهم أثناء سعيهم إلى الحكمة أو الفهم، فتتناولها الفلسفة المعاصرة وتناقشها باعتبارها مجرَّدات فكرية. وأصبحت الفلسفة الاحترافية منفصلة عن السعي الشخصي، وبالنسبة للكثيرين أصبحت الفلسفة في حدِّ ذاتها مفهومةً فقط بهذا المعنى الحديث.

عند تناوُل أصول وتطوُّر التراث الفلسفي الهندي، يحتاج المرء إلى فهمِ دورِ الفلسفة بقدرٍ أكبر بمعناها التقليدي أو الأصلي، كما ذكرنا في السابق، بدلًا مما أصبح مفهومًا عنها في العصر الحديث. وتُعنى الفلسفة في الهند بالسعي إلى فهم طبيعة الحقيقة. علاوة على ذلك، فالهدف من القيام بذلك هو اعتقاد أنَّ فهم الحقيقة له أثرٌ عميقٌ على مصير الفرد. ويُعد هذا الهدف سوتريولوجيًّا على نحو مباشر بالنسبة للبعض، بينما يراه البعض الآخر غيرَ ذي صلةٍ بالسوتريولوجيا، لكنه بالنسبة للجميع مهمة روحية ونشاطٌ مرتبط بالتراث الديني. وفي واقع الأمر، فإن الفصل الذي نتحدَّث عنه بين الدين والفلسفة لم يكن مفهومًا في الهند حتى الفترات الأخيرة، عندما بدأت الإرساليات الغربية وبدأ الأكاديميون الغربيون في الفصل الجبري بين السمات المختلفة للموروثات الهندية من أجل أن تصبح مقبولة على نحو أيسر ضمنَ إطارِ التصوُّرِ الغربي.

وقبل تناول بعض ملامح الإطار الهندي بمزيد من التفصيل يلزم تَوخِّي الحذر مما يلي: ربما بسبب التداخل بين الفلسفة والدين في الهند يُوجد ميلٌ في الغرب إلى اعتبار الفكر الهندي «صوفيًّا» بل «سحريًّا»، على النقيض من «عقلانية» الغرب، وهذا خطأ؛ فهذه النظرة جاءت من إضفاء صورة خيالية على الأنظمة الفكرية التي نشأت في مكان آخر وقدَّمت نفسها على نحو مختلف، فضلًا عن نعتِ كلِّ ما هو غيرُ مألوفٍ بالغرابة والشذوذ. ويُوجد في واقع الأمر تراثٌ قويٌّ من النقاش العقلاني في الهند، وكان هذا التراث مهمًّا لمناصري الأنظمة الفكرية المتعددة في الهند مثلما كان مهمًّا لفلاسفة الغرب الكبار.

عندما يتناول الغربيُّون التراثَ الهنديَّ لأول مرة، سواء أكان مقصدهم دينيًّا في الأساس أم فلسفيًّا، فإنهم يواجهون مشكلتين متساويتين ومتناقضتين؛ تتمثل الأولى في إيجادِ شيءٍ قابل للإدراك وسط هذه التعددية المحيرة على نحو واضح، وتتمثل المشكلة الثانية في عدمِ فرضِ مثلِ هذا القيد على المادة بحيث نغفل جوانبَ مهمةً في هذه التعددية. والمثال التقليدي للمشكلة الثانية هو «الهندوسية»؛ فبسبب هذا الاسم (الهندوسية) توقَّع الغربيون وجود فكرة موحدة مثلُها مثلُ بقيةِ «المعتقدات» الأخرى، وظلُّوا في حيرة مما وجدوا، إلى أن اكتشفوا أنَّ الهندوسية هي مصطلح أُطلق في القرن التاسع عشر على مجموعةِ أنظمةٍ فكرية معقدة ومتعددة للغاية، وكان مَنْ أطلقه هو غيرهم من الغربيين الذين لم يُقدِّروا ذلك التعقيد. فكِّرْ في المنطقة التي تغطي أوروبا والشرق الأوسط في وقت بداية التقويم الميلادي، وافترضْ أن غرباء أطلقوا مصطلحًا واحدًا على «دين» هذا الزمن وهذه المنطقة. هذا التصور سوف يعطي فكرة عمَّا حدث عندما أُطلق على «دين» الهند اسم الهندوسية، وعدد الأمور اللازم تفسيرها كي نفهم هذا التراث وفقًا لمفاهيمه الخاصة.

لكنْ مثلما يتشارك الكثير من جوانبِ دينِ وفكرِ أوروبا والشرق الأوسط في أصولٍ وموضوعاتٍ وأنظمةٍ معينة، ومثلما تتشارك إلى حدٍّ كبير في رؤية العالم والإطار التصوري؛ فإن الأمر نفسه ينطبق على الهند؛ ومِنْ ثَمَّ فما يجب على المرء فعله لفكِّ هذا التعقيد وجعله قابلًا للإدراك هو العثور على تلك الأصول والموضوعات والأنظمة المشتركة، وأن يألف رؤية العالم والإطار التصوري اللذين يدور في فلكهما الفكر الهندي. ولحسن الحظ فإن الهند لديها فترة تُعد نظيرة للفترة الإغريقية القديمة، وتلك هي الفترة التي بدأ فيها التراث الفلسفي الهندي. وعلى الرغم من أن المفكرين الهنود القدماء كانوا يستعينون حتى بأفكار وتصوُّرات أكثر قدمًا ويطوِّرُونها، وبعض هذه الأفكار والتصورات معروفة لنا، فإنه خلال القرن الخامس قبل الميلاد بدأت مدارسُ فكريةٌ يمكن تحديدها على نحوٍ واضحٍ في اعتراف بعضها ببعض، والتفاعل والجدل والسعي إلى تفنيد الرؤى، والاندماج في بعض الأحيان. وبدايةً من هذه الفترة عاشت المناهج المختلفة جنبًا إلى جنب، وظلَّ بعضها داخلَ إطار التراث الذي أَطلق عليه الغربيون بعد ما يقرب من ألفي سنة اسمَ «الهندوسية»؛ اعتمادًا على فهمهم القديم له، والبعض الآخر أسَّس تعاليم أخرى مثل البوذية والجاينية. وستكون هذه الفترة القديمة موضوع الفصلين الثاني والثالث.

استبصار الحقيقة

كان يُشار إلى الفلسفة الهندية قديمًا باسم «دارشانا»، وهذا المصطلح نفسه يعطينا إشارةً إلى رؤية العالم والإطار التصوري اللذين تعمل الفلسفة الهندية خلالهما، فالمعنى الحرفي لمصطلح «دارشانا» هو «الرؤية»؛ أي امتلاك «البصيرة» المعرفية لشيء، أما المعنى الضمني الذي ينطوي عليه هذا المصطلح فهو أن ما «يُرى» أو «يُبصر» هو حقيقةُ طبيعةِ الحقيقة، وهذا يوضح أن فهم طبيعة الحقيقة هو هدف الفلسفة في الهند. وكان يُشار إلى المعلمين الأوائل المرتبطين بأنواع محددة من فلسفة الدارشانا باسم «ريشي»؛ وتعني «الناظرين».

ومن هذا المنطلق فإن مصطلح «دارشانا» يشير أيضًا إلى شيوع التسليم بأن البشر قادرون على اكتسابِ رؤيةٍ فعليَّة، بمعنى معرفة تجريبية للحقيقة الميتافيزيقية؛ فالبصيرة، أو الحكمة، لا تقتصر في الفكر الهندي على المعرفة الفكرية. وبينما يلعب النقاش العقلاني والنقاش الفكري دورًا غايةً في الأهمية في الفلسفات الهندية — في بعضها على حساب بعض العوامل الأخرى تقريبًا — فإنه من المقبول أيضًا في هذه الفلسفات اعتقاد أنه من خلال تمارين الضبط الذهني مختلفةِ الأنواعِ يمكن أن يتحسن الإدراك المعرفي للمرء وأن يتغيَّر، بحيث يستطيع المرء الرؤية بطرق تفوق ما يستطيع رؤيته «على نحو طبيعي». وسوف نرى أن أنواعًا محددة من الدارشانا تقوم تعاليمها وحُججها على ما أقرَّه الناظرون القدماء من واقع رؤاهم الماورائية، وتُعتبر شهادةُ هؤلاء الناظرين صحيحةً على نحو مطلق؛ صحيحة كما لو كان المرء رآها بنفسه، أو كما لو كانوا توصَّلوا لهذه الفكرة عن طريق النقاش المنطقي وحده. وبالنسبة للأنواع الأخرى من الدارشانا، ترى أن الهدف من تعليم الدارشانا هو أن كل من يتبعها يجب أن يكون قادرًا بنفسه على «رؤية» الحقيقة. ومن الناحية النظرية، يُعتقد أن القدرة على اكتساب بصيرة ميتافيزيقية هي سمة بشرية عامة، ولا تعني أن الأشخاص الذين يزعمون اكتسابها يُعتبرون خارقين بأيِّ حال. إن إعادة توجيه الملَكَات المعرفية، كي تصبح هذه البصيرة ممكنة، هي السبب وراء ممارسة اليوجا، ويُطلق على البصيرة الناتجة عنها الإدراك اليوجي.

هذه من أكبر الاختلافات بين رؤية العالم التي يقوم عليها الفكر الهندي وبين رؤية العالم لدى الغرب، وربما هذه هي نقطة الخلاف التي يجدها الغربيون من أصعب النقاط من حيث إمكانية التفهم، وربما بسببها يميل فلاسفة الغرب إلى التركيز فقط على الجوانب الأخرى من الفلسفة الهندية المتعلقة بموضوعات النقاش المنطقي، وربما أسهمت هذه النقطة أيضًا في جعل الآخرين ينسبون صفاتٍ سحريةً أو صوفيةً للفكر الهندي. ورغم ذلك، وفقًا لرؤية العالم من المنظور الهندي، فإن إمكانية تغيير الإدراك المعرفي للفرد هي أمر يُعتبر ممكنًا من الناحية المنهجية، من خلال تمارين الضبط الذهني المنتظمة على نحو لا يختلف إطلاقًا عن الاكتساب المنهجي للقدرة على العزف على إحدى الآلات الموسيقية؛ فكلتا العمليتين تتطلَّب مثابرةً وممارسةً طويلةَ الأجل، وتتضمن إتقانَ جوانبَ عديدةٍ من التنسيق البدني والذهني، ولا يُوجد أي شيء سحري في كلتا العمليتين؛ فكلتاهما تُعتبر مهارات.

الكارما والميلاد المتكرر

الكارما والميلاد المتكرر من السمات المميِّزة لرؤية العالم في الفلسفة الهندية، والكارما مشتقة من الكلمة السنسكريتية «كارمان»، ومعناها الحرفي «الفعل». وتوحي طريقة استخدام المصطلح بوجود عواقبَ لكلِّ فعل، وتشير الكارما إلى آليَّات عواقبِ الفعل التي تُعد أحدَ قوانين الطبيعة. والمصطلح نفسه حيادي، لكن الثقافات باختلاف أنواعها تربط القِيَم بهذا المصطلح بطرق مختلفة. وعلى نحو مشابه، يختلف مركز آلية عواقب الفعل باختلاف الثقافات. أما عن أسباب ارتباط كلمة كارما بعواقب الفعل، فهي مرتبطة بطقوسِ تقديمِ القرابين؛ إذ كان يُعتقد أن القيام بتقديم القرابين يُحقق عواقبَ محدَّدة بعينها تجعل الكون يسير على أفضل وجه. وكانت الأفعال الشعائرية المرتبطة بها عواقب معينة إما ماديَّة أو لفظيَّة (فقد كان يُعتبر إصدار الأصوات «فعلًا» من الأفعال)، وكانت الدقة ضرورية كي تكون الآليات فعالة. وعلى هذا النحو، فالذي كان يجعل أحد الأفعال سليمًا أو صالحًا هو دِقَّتُه، وكانت القِيَم المرتبطة بهذا الفهم للكارما ليست قيمًا متعلقة بالأخلاقيات.

وفي القرن الخامس قبل الميلاد، بالإضافة إلى الفهم السابق للكارما، ساد أيضًا مبدأٌ يقول إن عيش المرء لحياته وفقًا للواجبات التي يذكرها المعلمون الدينيون — «تنفيذ» الواجبات التي تشمل أداء طقوس القرابين ولا تقتصر عليها — سوف يكون ذا نتائج نافعة للمرء. وعند هذه المرحلة أصبحت الكارما مرتبطة بفكرة الميلاد المتكرر؛ إذ سادَ الاعتقاد بأن العواقب الإيجابية أو السلبية لطريقة أداء الفرد لواجباته قد تلحق به في أي حياة من حيواته الكثيرة المستقبلية، التي تتحدَّد حالةُ كلٍّ منها على هذا النحو. وفيما يتعلق بالكارما كفعلٍ شعائريٍّ، فإنَّ ربطَ العواقب بأداء الواجبات الموصوفة حمَل أيضًا معيارَ قيمةِ الدقة وليس قيمة الأخلاق. وفي مرحلة لاحقة من تطوُّرِ هذا الفرع من التراث الديني الهندي تأكدت هذه النقطة، عندما كرَّر معلمون مهمون قول إنه من الأفضل للمرء أن ينجز واجباته على نحو سيئ بدلًا من أن ينجز واجبات غيره على نحو جيد؛ وإنه من الأفضل بلا شك أن يقوم المرء بواجبه، بغض النظر عن أن ذلك الواجب قد يبدو غير أخلاقي، بدلًا من إهمال إنجازه بسبب مبدأ أخلاقي.

ومن ضمن التفسيرات الأخرى لآلية عمل الكارما التي كانت تُعلَّم في القرن الخامس قبل الميلاد؛ تفسيراتُ الجاينيين والبوذيين؛ فقد قال الجاينيون إن كل الأفعال — التي صنَّفوها إلى لفظية ومادية وذهنية — تُسبِّب جزيئاتٍ ماديةً تلتصق بروح الشخص، وتُثقلها وتجعلها تُبعث باستمرار في دائرة الميلاد المتكرر. ونظرًا لأن الجاينيين آمنوا أيضًا بضرورة سعي المرء لتحرير روحه من مأزق الولادة المتكررة، فقد تضمنت تعاليمهم أن كل الكارما هي كارما سيئة، وأنه لا يمكن أن تُوجد عاقبة «جيدة» لفعل ما. على النقيض من ذلك، يرى بوذا أن عمل الكارما أخلاقي في الأساس؛ إذ إن ما يأتي بالعاقبة هو نِيَّة المرء. وقال بوذا فيما يتعلَّق بالكارما إن نوايا المرء «هي» أفعاله، فليس المهم هو ما يفعله المرء خارجيًّا وظاهريًّا، بل المهم هو حالته الذهنية؛ ولذلك في هذا الصدد لا تكمن آلية الكارما فيما يُقصد عادة ﺑ «الأفعال».

وعلى هذا النحو فإن الكارما هي تطبيقٌ لآليات امتلاك أيِّ فعلٍ لعواقب. وعلى الرغم من اختلاف تفسيراتها في المدارس الفكرية المختلفة فإنها تُعد جزءًا أساسيًّا من الرؤية الهندية للعالم في العموم، يلقى قبولًا من الجميع باستثناء مدرسة فكرية صغيرة نسبيًّا تضُم الماديين المتطرفين. ومنذ القرن الخامس قبل الميلاد، أصبحت فكرة الكارما مرتبطة عمومًا بمعتقد أن الأفراد يشهدون ولادات متكررة متعاقبة. وتعمل آلية امتلاك أيِّ فعلٍ لعواقب بمثابة الوقود الذي يؤدي إلى استمرار الميلاد المتكرر، وترتبط الظروف المميزة لكل ولادة جديدة بتفاصيل الأفعال في الحيوات السابقة.

ومن الضروري أن نفهم هذا الجانب في الرؤية الهندية للعالم؛ والسبب الأساسي لذلك هو طريقة ارتباط الكارما برؤية طبيعة الواقع الحقيقية. وتقول معظم أنظمة الفكر الهندية إن اكتساب تلك الرؤية يؤدي إلى تحرير الفرد من استمرار الكارما. وهذا هو الهدف والغرض الأساسي من مهمة الفلسفة، وهو أيضًا السبب الذي يجعل «الفلسفة» مرتبطة ﺑ «الدين». وعند تقديم الدارشانا «لرؤيتها» للحقيقة، يكون كلُّ نوعٍ منها كما لو كان يصف الحقيقة التي سوف «يراها» ممارسو هذا النوع من الدارشانا. وأهمية الهدف من فلسفة الدارشانا — الذي يسميه الغربيون «الخلاص» — تفسِّر لماذا تعتقد كل المدارس الفكرية أنه من المهم للغاية تحقيق التجانس والصحة والكفاءة في تعاليمها.

التعقيد والتنوع: اختيار محتوى الكتاب

كانت البيئة الجدليَّة التي تطوَّرت مع مرور الوقت ونُوقشت فيها عدة رؤًى متنافسة عن العالم؛ بيئةً متنوعة، وشديدة التعقيد والابتكار، ومتعددة الجوانب. وهذا يعني أنه في هذا الكتاب الذي يمثِّل مقدمة قصيرة جدًّا كان من الضروري اتخاذُ قراراتٍ صعبة بشأن الموضوعات التي سيتضمَّنها والموضوعات التي ستُحذف منه. ومن أبرز الموضوعات التي حذَفتُها من هذا الكتاب الديانة الجاينية الفلسفية التي ذكرتُها سالفًا. وكان ماهافيرا — مؤسس الجاينية — معاصرًا لبوذا، وكانت تعاليمه مبتكرة ومثيرة، وترك التقليد أثرًا بالفعل على التراث الهندي الديني الفلسفي، ورغم ذلك يمكن حذف الحديث عن الجاينية دون التأثير على الفلسفة الهندية الأشمل في مجملها. وحذفتُ أيضًا تقليد الكارفاكا، الذي كوَّن مدرسة فكرية مادية، ولم أذكرها إلا ذكرًا عارضًا. وتكمن أهمية هذا التقليد في أنه كوَّن تحدياتٍ للمدارس الفكرية المعارضة، وقدَّم إسهامات مثيرة لمناخ الجدل الفلسفي. ورغم ذلك، وكما هو الحال مع الجاينية، فإن حذف الحديث المطنب عن الكارفاكا لا يُثيرُ مشاكلَ في فهم الصورة الكاملة للفلسفة الهندية. ومن أبرز الموضوعات التي حذَفتُها الشِّيفِيَّة، وتمثل الشيفية جانبًا من جوانب الفلسفة الهندية مهمًّا ومعقدًا ومؤثرًا للغاية، لكنه يتضمن مجالًا متشعبًا للغاية ومتنوعًا في ذاته لدرجة تجعل تناوله على نحو موجز للغاية لن يُسهِم إلا في تشويهه فحسب.

بالإضافة إلى حذف هذه التقاليد المهمة، فإن طبيعة هذا الكتاب الموجز لا تسمح بسردٍ مفصَّل للطرق التي تطوَّرت بها كل مدرسة من مدارس الفكر الفلسفي المختلفة والطريقة التي تفرَّعت بها داخليًّا كلٌّ منها على مرِّ الزمان، وعادةً ما يكون هذا التفرع نتيجة للتفسيرات المختلفة للأفكار الأساسية والنصوص الرئيسية للمدرسة الفكرية. وكان هذا التفرع شائعًا للغاية في هذا المناخ الجدلي الذي ازدهرت فيه هذه التقاليد؛ لأن أتباع كل مدرسة سعوا إلى طُرُقٍ جديدة لرفض مزاعم الآخرين دون الانحراف عن مصادرهم الأساسية. وكانت طبيعة تلك النصوص تعني أيضًا أن التفسيرات المختلفة لها كانت مُحتَمَلة على أيَّة حال. وفي الغالب، كان ذلك بسبب أن تلك المصادر كانت مُدَوَّنَة باقتضابٍ شديدٍ وبأسلوب مُبهَم، يتطلَّب خبيرًا أو معلمًا لينقل لطالبه المعنى الكامل لهذه النصوص. وأحيانًا، كما في حالة المدارس الفكرية القائمة على تأويلات نصوص مقدسة تُسمَّى كتابات الأوبانيشاد، كان سبب اختلاف التفاسير هو أن المادة النصِّيَّة نفسها كانت متشعبة للغاية لدرجة أن المناهج المختلفة واختلاف الاهتمامات أدى كلاهما إلى تفسيرات مختلفة تمامًا في المجمل. وعندما أجدُ أن السِّمات الأساسية للفروع الكبرى للتقليد من الممكن تقديمها على نحوٍ واضحٍ ومختصر فإنني أقدمها في الكتاب. أما إذا أراد القارئ سردًا للغالبية العظمى من التطورات المفصلة للتقليد؛ فأوصيه في هذه الحالة بالاستعانة بكتابٍ آخر أكثر شمولية.

«التأويلات» هي تفسير المادة النصية، وقد يفسِّر المؤَوِّلون المختلفون النصَّ نفسه على نحوٍ مختلف، وهذا يعني أن كلًّا منهم قد يزعم معنًى مختلفًا للنص نفسه أو للفقرة نفسها، وهذا يؤدي إلى أنْ يستنتجوا، فيما بعد، تفسيراتٍ شديدة الاختلاف أحيانًا من المصدر الأساسي نفسه.

أما ما يركز عليه الكتَاب فهو أولًا سردٌ للفترة التي بدأ خلالها التراث الديني الفلسفي الهندي على نحوٍ محددِ الملامح، وكان ذلك في القرن الخامس قبل الميلاد، ويركز أيضًا على السمات الرئيسية للأفكار والممارسات السائدة في ذلك الوقت. ويناقش الكتاب السبب الذي جعل موضوعات معينة تبدو ذات أهمية حتمية لمدارس فكرية معينة، وهذا يساعد في معرفة السياق الذي جعل المدارس الفكرية المختلفة إما تركز على أمور مختلفة أو تتشارك الاهتمام بالعوامل المشتركة عند تفسيرها على نحو مختلف. وهذا يمهد الطريق لفهم كيف ولماذا أصبح الجدل محوريًّا في طريقة ازدهار التقليد لاحقًا. وسوف نرى أيضًا الغرض من الجدل، ونقاط الجدل والخلاف، وطريقة وضع المعايير المنهجية للجدل، وأهمية أن يطرح كل تقليد حجته.

ويقدم النقاش التالي ترتيبًا زمنيًّا عامًّا للأفكار المطروحة؛ كي يمكن أن تُفهم التطورات في سياقها. أما التقاليد والمدارس الفكرية القديمة التي يناقشها الكتاب على نحو مفصَّل فهي ديانة الفيدا القربانية والأفكار والممارسات المدوَّنة في كتابات الأوبانيشاد القديمة. ولا تُعد ديانة الفيدا القربانية والأفكار والممارسات المدوَّنة في الأوبانيشاد «الذراعين» — إن جاز التعبير — لدينِ كهنةِ البراهما في الهند القديمة فحَسْب، بل هما أيضًا تمثِّلان المصدر الأساسي للعديد من المدارس الفكرية الفلسفية التالية، وتمثلان أيضًا الأساس الذي قامت عليه الحاجة إلى وضعِ أساسياتٍ للجدل الفلسفي. علاوة على ذلك، فقد عارض الآخرون المرجعية المهيمنة التي أسسها هذا التقليد منذ وقت مبكر، وقدَّم هؤلاء أفكارًا وتعاليم معارضة له. وكان بوذا من أشهر هؤلاء المعارضين، وقد عاش لمدة ثمانين عامًا خلال القرن الخامس قبل الميلاد. ونظرًا لقلَّة تواجد البوذية في الهند في الوقت الحاضر، وعدم تواجدها في الوقت الذي أُطلق فيه على التقاليد الدينية في الهند مصطلح «الهندوسية»؛ فإن دور البوذية في التراث الديني الفلسفي الهندي ككلٍّ في الغالب لا يلقى تقديرًا. ازدهرت البوذية في الهند، ومنذ البداية لعبت دورًا مهمًّا على قدرٍ هائلٍ ومؤثرًا أيضًا في تحدي وجهاتِ نظر الآخرين وتطويرِ أفكارٍ مختلفة. ولَاقَت البوذية بدورها انتقادًا شديدًا من قِبَل الآخرين. وتُوجد في الكتاب فصول مخصصة للتحدث عن كلٍّ من الفترة الأولى للبوذية والطريقة التي قُدِّمَت بها الأفكار البوذية لأول مرة، والتطورات المنهجية أكاديميًّا وفلسفيًّا في الفكر البوذي التي ظهرت على مدار القرون التالية.

ومع مرور الوقت، غلب الطابع المنهجي واضح المعالم على العديد من المدارس الفكرية التي ترتبط أصولها وعلاقاتها، بطريقة أو بأخرى، بالتراث الفيدي الأوبانيشادي للبرهمية ارتباطًا مباشرًا. وأصبحت ستٌّ من هذه المدارس الفكرية هي السائدة، وأصبحت تُعرف باسم الأنواع الستة الكلاسيكية لفلسفة الدارشانا الهندية. وفي أغلب الأحيان يُطلق عليها مدارس الدارشانا «الهندوسية» الست، وعلى الرغم من أن استخدام مصطلح «الهندوسية» في الإشارة لهذه المدارس الست يُعد مغالطة تاريخيَّة فضلًا عن أننا لن نستخدمه في هذا الكتاب؛ فإنه يفيد في تمييز تلك المدارس عن التراث البوذي وغيره من التقاليد الأخرى، مثل الجاينية، التي لا تشترك معها في السلالة المباشرة نفسها. أما ما جعل البوذية والجاينية نوعين منفصلين من التراث في حدِّ ذاتهما فهو رفضهما الصريح والتام لسلطة وتعاليم كهنة البرهمية والمزاعم التي قالها كهنة البرهمية حول مكانة مصادرهم الأولية. وعلى النقيض من البوذية والجاينية، نجد أن أصحاب مدارس الدارشانا الست، على الرغم من انخراطهم في المحاجة والجدل وتقديم تعاليمَ ووجهاتِ نظرٍ تختلف أحيانًا اختلافًا كبيرًا، قبلوا الهيمنة البرهمية؛ ومن ثَمَّ ظَلُّوا تحت مظلتهم.

علم الوجود

يهتم علم الوجود بالموجودات؛ فهو يتعلَّق بالأمور الموجودة، ويمكن أن يكون جوابًا على كافة المستويات من المستويات بالغة الصغر وحتى بالغة الكبر على سؤال: ماذا يوجد؟ ومهما كانت طريقة المرء في تناول الموضوعات الوجودية (ماذا يوجد؟) فالهدف هو إثبات «حالة وجود» الشيء الموجود، ويُطلق على ذلك «الحالة الوجودية». فإذا تأمل المرء، على سبيل المثال، حديقةً رآها في الحلم وأخرى في المتجر الذي يتسوَّق منه، فمِن الممكن أن يرى المرء بسهولة أن كلتيهما لديها حالة وجود مختلفة؛ فالحالة الوجودية مختلفة. وبالمثل، فالواحة التي يراها المرء في السراب حالتها الوجودية مختلفة عن الواحة التي يمكن أن يُحدِّد المرء موقعها على الخريطة. فأي شيء موجود له حالة وجودية، ولا يُشترط أن تكون هذه الحالة واضحةً على الفور؛ فأثناء الحلم وأثناء تجربة السراب تبدو الحالتان الوجوديتان للحديقة والواحة مماثلتين لحالتيهما الوجوديتين عند رؤيتهما في المتجر أو على الخريطة، أما في واقع الأمر فإن وضعهما مختلف، ويمكن أن يُفهم هذا الاختلاف في ضوء الحقيقة أو الواقعية. إن حديقة المتجر «أكثر واقعية» من الحديقة المرئية في الحلم، والواحة المبيَّنة على الخريطة «أكثر واقعية» من الواحة المرئيَّة في السراب، لكن الحديقة في الحلم وواحة السراب لديهما أيضًا نوعٌ من الواقعية أو الحالية؛ فالمرء يشعر «أنهما واقعيتان»، وفقط من خلال الإدراك المتأخِّر يمكن للمرء أن يدرك أنهما «أقلُّ واقعية» من الحديقة والواحة المرئيتين في المتجر وعلى الخريطة. أما في سياق رؤية العالم أو النظام الفلسفي، فالحالة الوجودية هي ما تحدِّد الأمر الموجود في الواقع — حتى لو كنَّا لا نستطيع رؤيته على الفور — دون الارتباط بالتفسيرات الخاطئة المحتمل أن نأتي بها كما فعلنا في حالة الحلم والسراب. وعلى مدار العصور في الشرق والغرب، قُدِّم الكثير من الحالات الوجودية المختلفة، وبعض هذه الحالات أقرَّ أن ما نراه هو الموجود في واقع الأمر؛ والبعض الآخر قال إن حالة اليقظة العادية تشبه حالة الحلم، وإن الموجود فعلًا يختلف عن ذلك.

يُطلق على أنظمة الدارشانا الستة الكلاسيكية التي يتناولها الكتاب: نيايا، فايشيشيكا، يوجا، سانكيا، ميمانسا، فيدانتا. وجرَت العادة على التعامل مع هذه الأنظمة الستة على أنها ثلاثة أزواج، كل زوج منها يَتَّسِم بسمات أساسية متوافقة أو متشابهة؛ فنجد أن الزوج الأول المتمثِّل في نيايا وفايشيشيكا يتشارك في الحالة الوجودية (انظر المربع السابق) التي يقدمها النظام الثاني (فايشيشيكا) وتتوافق معها طريقة الأول (نيايا)؛ ونجد أن الزوج الثاني المتمثل في يوجا وسانكيا يتشارك إلى حدٍّ كبيرٍ في الحالة الوجودية التي يقدمها النظام الثاني (سانكيا)، ومرة أخرى يتوافق معها منهج الأول (يوجا)؛ والزوج الثالث هو ميمانسا وفيدانتا، ويتشاركان في المنهج التأويلي للأجزاء المختلفة من صلب المادة النصيَّة نفسها، التي يَنسبان إليها نفس الحالة الأساسية. ويتبع الكتاب هذا الأسلوب التقليدي المتمثل في تقسيمها إلى أزواج، ويخصص فصولًا منفصلة لكل زوج. ورغم ذلك، فعندما يكون الأمر مناسبًا من ناحية الترتيب الزمني، فسوف تضم الفصول إشارات إلى مراحل رئيسية في التقاليد الأخرى؛ كي يظل القارئ مستوعبًا كيف تطورت المدارس الفكرية المختلفة من خلال تفاعل بعضها مع بعض.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤