الفصل الثالث

هجر المنظومة البرهمية

الطريقُ الوسطيُّ لبوذا

المارق في مواجهة المعتنِق

إن ارتباط السلطة الدينية بالتسلسل الهرمي الاجتماعي الذي يتولى كهنة البرهمية إدارته وحراسته بالقدر نفسه من الصرامة التي يديرون بها الطقوس القربانية ويحرسونها؛ جعل البعضَ يرون أن العيش وفق قيود المنظومة البرهمية سيكون قهريًّا، وسعى هؤلاء الناس إلى إيجاد طرق اجتماعية دينية بديلة، وأصبح يُطلق عليهم في مجملهم المارقون («شرامانا»). وكان ما رفضه هؤلاء هو كل ما يتعلق بسلطة كهنة البرهمية ومبادئهم التوجيهية، لكن ما فهمه الآخرون على وجه التحديد عن «المارقين» هو أنهم على طرف نقيض من «المعتنِقين» المنصوص عليهم في التقليد البرهمي بهدف ضمان استمرارية ذلك التقليد. فواجب المعتنق لا يتمثل في تقديم القرابين فحسب، بل يتمثل في وجوب أن يكون منتجًا اقتصاديًّا وتناسليًّا داخل السلالات الجماعية التي كانت تستبعد الأشخاص الذين لا ينتمون للمستوى نفسه من النقاء الشعائري. على الجانب الآخر، كان المارقون متجَوِّلين ومتسَوِّلين ومتبَتِّلين، وبعضهم تجمَّع حول قادة وقَبِل تعاليمهم ورؤاهم واتفق معها، بينما كان كثير منهم متجوِّلين معزولين، وكثير منهم مارسوا أيضًا أساليب تقشُّفٍ قاسية، وأخضعوا أنفسهم لمستويات متطرفة من درجات الحرارة والجوع والعطش وأشكال مؤلمة من التشويه الجسدي، بالإضافة إلى أنواع أخرى متعددة من نُكران الذات. وكان المارقون يَرَون أن ذلك الزهد له هدف؛ إذ كانوا يعتقدون أنه يُسهم في اكتساب البصيرة الروحانية من خلال التركيز الذهني المكتَسَب بطرق معينة غير معتادة.

figure
خريطة ١: المركزان الحضريان الأساسيان لحضارة وادي السند؛ موهينجو دارو وهارابا. منظر لموقع موهينجو دارو الأثري.

تأريخ زمني

عام ٢٠٠٠ قبل الميلاد تقريبًا: التقليد القرباني الفيدي.
٨٠٠–٥٠٠ قبل الميلاد تقريبًا: كتابات الأوبانيشاد القديمة.
بحلول عام ٥٠٠ قبل الميلاد: وجود الفرع الشعائري والفرع المعرفي من التقليد البرهمي جنبًا إلى جنب.
مجتمع القرن الخامس قبل الميلاد: في تناقض صارخ مع معتنقي الدين البرهمي كان المارقون — المتجوِّلون والمتسولون والمتَبَتِّلون — يسعون إلى اكتساب المعرفة عن العالم وعن أنفسهم، ورفض المارقون كافَّة الأعراف البرهمية.
٤٨٥–٤٠٥ قبل الميلاد تقريبًا: تُمثِّل هذه الفترة حياة بوذا. تسجل النصوص أن بوذا تحدَّى الممارسات والتعاليم البرهمية ومزاعمها القائلة بسلطة كهنة البرهمية، وأنه لم يجد بديلًا مَرْضِيًّا بين تعاليم المارقين. واعتمادًا على رؤًى اكتسبها من خلال تنويره شخصيًّا، تعلم بوذا طريقةً وسطى بين طريقة المعتنقين وطريقة المارقين.

لا نعلم على وجه التحديد كيف أو متى أصبح وجودُ المارقين واضحًا في مجتمعِ شمال الهند، الذي أخذت تزدهر فيه الرؤية البرهمية للعالم وأصبحت سائدة في الفترة السابقة للقرن الخامس قبل الميلاد. وخلال القرن العشرين، قَدَّمَت اكتشافات لحضارةٍ موغلة في القِدَم كانت موجودة في السابق في وادي السند أدلةً ترجِّح وجودَ تقليد قديم للغاية للسكان الأصليين للمنطقة ازدهر قبل وصول الآريين بفترة طويلة، وهذا يعني أن المارقين هم على الأرجح وَرَثَة هذا التقليد، وأن منهج وممارسات هؤلاء المارقين على الأرجح لم ينشآ أثناء ازدهار التقليد الآري. وأيًّا كان المصدر، فإنه من المحتمل أن يكون الأمر متمثلًا في أن بعض الأشخاص الذين كانوا يعيشون داخل المجتمع البرهمي سعَوا إلى جعل هدف الشعائر القربانية وممارستها هدفًا وممارسةً باطنية، وأنهم سعَوا أيضًا إلى تجاوز القيود التي يفرضها تدخُّل الكهنة في إطار نظام اجتماعي محددِ القواعد سلفًا. ومن الممكن أيضًا أن يكون الاتجاه نفسه إلى جعل القربان باطنيًّا قد أثاره الاحتكاك بممارسات السكان الأصليين.

fig5
شكل ٣-١: منظر لموقع موهينجو دارو الأثري.

أما ما نعلمه، من مصادر متعددة يؤكد بعضها بعضًا، فهو أنه في الوقت الذي كان فيه التقليد البرهمي يتبنَّى التعاليم الجديدة المدوَّنة في كتابات الأوبانيشاد، كان يُوجد عددٌ كبير من المارقين المتجوِّلين الذين يسعون إلى اكتسابِ إجاباتٍ خاصة بهم لأسئلتهم الدينية الفلسفية. وكانت الأسئلة نفسها متعلقة، من عدة أوجه، بالموضوعات نفسها التي تناولتها النصوص التأملية الفِيدِيَّة وكتابات الأوبانيشاد. وهذا يعني أن المارقين لم يكونوا يسعون إلى حقيقة مختلفةِ النوعِ كُلِّيًّا، بل كانوا فحسب يسعون إلى أجوبةٍ بالاستعانة بوسائلهم الخاصة بدلًا من الوسائل التي يُعلِّمها كهنة البرهمية. وكان هدف الجميع تقريبًا هو فهم طبيعة العالم وطبيعة الوجود البشري ممثلًا في طبيعة الذات.

طبيعة الذات

تشير مصادرنا إلى وجودِ مجموعةٍ كبيرة من النظريات المتعلقة بطبيعة الذات والعالم، ويختلف التأكيد على أحدهما أو كليهما باختلاف كل وجهة نظر. وتُلخَّص هذه الأسئلة الكثيرة المتعلقة بالذات في النصوص البوذية القديمة على النحو التالي:

هل كنتُ موجودًا في الماضي؟ ألم أكن موجودًا في الماضي؟ ماذا كنتُ في الماضي؟ كيف كنت في الماضي؟ إذا كنت شيئًا ما في الماضي، فماذا أصبحت في الماضي؟ هل سأكون موجودًا في المستقبل؟ كيف سأكون موجودًا في المستقبل؟ إذا كنت شيئًا ما في الماضي، فماذا سأصبح في المستقبل؟ هل أنا موجود الآن؟ هل أنا لست موجودًا الآن؟ ماذا أكون؟ كيف أكون؟ من أين أتى هذا الكيان؟ إلى أين سيذهب هذا الكيان؟

ويكمل النص فيقدِّم إجاباتٍ مقبولةً على هذا النحو:

لي ذات. ليس لي ذات. أنا أدرك ذاتي من خلال ذاتي. أنا أدرك عدمَ وجودِ ذاتي من خلال ذاتي. أدرك ذاتي من خلال عدمية ذاتي. ذاتي هذه التي تتحدَّث وتشعر، والتي تشهد عواقب الأفعال الجيدة والسيئة أحيانًا هنا وأحيانًا هناك، هذه الذات دائمةٌ ومستقرةٌ وأبديَّةٌ وغير متغيرة، وهي كما هي دائمًا.

«ماجيما نيكايا»، المجلد ١
لقد كانت الأسئلة التأملية عن الذات والكون متعددةً للغاية، لدرجة أن كافة الاحتمالات أصبحت مُدرَجةً في إحدى الصيغ في النصوص البوذية؛ على النحو التالي:

هل الكون أبديٌّ أم لا؟ هل الكون نهائيٌّ أم لا؟ هل الذات مختلفة عن الجسد أم لا؟ عند اكتساب التحرر من الميلاد المتكرر، هل يكون المرء موجودًا أم غير موجود، أم موجودًا وغير موجود، أم ليس موجودًا وليس غير موجود؟

«ساميوتا نيكايا»، المجلد ٢، (مثال مُعادةٌ صياغته)

من هذا الدليل وغيره من الأدلة المعمَّمة يمكن استنتاجُ بعضِ الأنماط الفكرية المتنوعة، فقد تبنَّى بعض الأشخاص نظرةً ماديَّة للغاية تنادي بالمادية المتأصلة للبشر في عالمٍ نهائي تمامًا ومحدود زمنيًّا. وقال البعض إنه على الرغم من احتمالية وجود ذات غير مادية إلى حدٍّ ما مرتبطة بالجسم المادي خلال فترة حياة المرء؛ فإن هذه الذات تنتهي للأبد عند الموت. وتُطلِق المصادر البوذية القديمة على الأشخاص الذين تَبَنَّوا هذه النظرة اسم العَدَميين؛ حيث إن الموت يتضمن «انعدام» الذات. ولم يجد العدميون ولا الماديون المتطرفون أهميةً للتعامل الجدي مع فكرةِ وجودِ قانون كارميٍّ يحكم البشر، ورغم ذلك فكثير من المارقين، ومن الممكن أن يكون معظمهم، قد درسوا رؤاهم في إطار يفترض أن البشر يشهدون سلسلة من الحيوات. وبعض هؤلاء، بالإضافة إلى كهنة البرهمية المتبِعين لكتابات الأوبانيشاد، اعتقدوا أن الذات دائمة وغير متغيرة، وأطلق عليهم البوذيون اسم الأبديين، وكان الآخرون غير أبديين، لكنهم اعتقدوا في استمرارية الذات بشكل أو بآخر. وكل هؤلاء الأشخاص اعتقدوا أن الأفعال لها عواقب في الحيوات المستقبلية، وبالنسبة لهم كانت الفكرة كلها من السعي وراء إجابات لهذه الأسئلة هي اعتقاد أن هذه المعرفة بعينها — معرفة طبيعة الذات وسياقها الوجودي — تؤدي إلى التحرر (موكشا) من الميلاد المتكرر؛ ولهذا السبب كان بحثُهم عن الإجابات حتميًّا، وظلَّ اهتمامهم منصبًّا على الأسئلة المتعلقة بهذه الموضوعات.

من المهم فَهْم هذه النقطة؛ لأنها تمثِّل سمةً أساسيةً للمجتمع الذي نحاول فهمه، ولشرحها على نحو أكثر وضوحًا قد يكون من المفيد تناولُ الصورة من زاوية مختلفة نسبيًّا. وفي العموم، فإن لدينا مجتمعًا يمكن للمرء أن يرى فيه أن الممارسات والاهتمامات المختلفة مرتبطةٌ ارتباطًا مباشرًا برؤًى للعالم مناسبة لكلٍّ منها.

فمن ناحيةٍ، كان يُوجد أتباعُ التقليد البرهمي القديم المتعلق بالدين القرباني الفيدي، وفيه كان أداء الطقوس يرتبط ارتباطًا مباشرًا بالحفاظ على كَونٍ إن لم يكن تجريبيًّا تمامًا، فهو بالتأكيد متعددٌ وحقيقيٌّ. وتَركَّزَ الاهتمام على دقة القربان؛ نظرًا لارتباط الفعل بالنتيجة، وكان هذا التقليد القديم في ذلك الوقت على وشك أن ينازعه مكانتَه مناهجُ أخرى ممثَّلة في تعاليمِ كتاباتِ الأوبانيشاد واهتمامات المارقين غير الماديين. ورغم ذلك، فقد كان التقليد البرهمي قد أصبح بالفعل حاملَ لواءِ التقليدية، وواضعَ الأعراف الاجتماعية التي ما زالت مستمرة حتى وقتنا هذا. ولم يكن وجودُ وتأثيرُ ذلك التقليد لِيُنَحَّى جانبًا مهما بلغت قوة ادِّعاء أفضلية المناهج البديلة.

أما الآخرون، مثل الماديين والعدميين، فقد تمسكوا برؤيةٍ للعالم استبعدت التركيزَ على أي شيء بخلاف المكان والزمان الحاليين. واهتم هؤلاء الأشخاص، في المقام الأول، بالدفاع عن وجهات نظرهم ومحاولة تفنيد كل ما رأَوْا أنه مزاعمُ وممارساتٌ سخيفة لدى كلٍّ من الشعائريين وغير الماديين على حدٍّ سواء.

وعلى النقيض، كان يوجد أولئك الذين اعتقدوا أن الحياة عبارة عن دورةِ ميلادٍ متكرر تحكمها الكارما، وأن العالم ليس تجريبيًّا كما يتراءى لنا، أو على الأقل يحمل في ثناياه أكثرَ من هذا المظهر. وكان اهتمام هؤلاء مُنْصَبًّا على اكتسابِ المعرفة المتعلقة بالتركيبة الدقيقة للعالم في حقيقة الأمر وموقع البشر داخله. وهذا الاهتمام لم يُمَكِّنهم فحسب من قول ادعاءاتٍ متعالية تزعم معرفة الحقيقة الماورائية، بل منحهم أيضًا واجبًا وجوديًّا لإدراك وسائلِ تحقيق الخلاص من قيد الميلاد المتكرر. وكانوا يرون أنهم إذا أرادوا الحصول على ذلك الخلاص الذي يمثِّل أعلى المِنَح، فإن أهمَّ ما عليهم معرفته أكثر من أي شيء آخر هو طبيعة الذات، وهكذا سيطر هذا المسعى على منهجهم، مستبعدًا أي اهتماماتٍ أو موضوعاتٍ أخرى.

جوتاما – بوذا

هذه هي البيئة التي وُلد فيها، حوالي عام ٤٨٥ قبل الميلاد، رجلٌ يُسمَّى سيدهارتا جوتاما، الذي أصبح فيما بعد معروفًا باسم بوذا. وتعني كلمة بوذا حرفيًّا «اليَقِظ»، وتشير إلى مناسبة تنوير بوذا. وتصف النصوصُ المقدسة التنويرَ بأنه اكتساب الرؤية (ثلاث رؤًى بالأحرى) التي كانت مهمة بما يكفي لأنْ تُماثِل اليقظة بعد النوم. وهذه النقطة تلفت الانتباهَ إلى الطريق البوذي، الذي يتفق مع تعاليم كهنة البرهمية أتباع كتابات الأوبانيشاد وكثيرٍ من المارقين في أنه يمثِّل الانتقال من الجهل إلى المعرفة. إن الجهل هو العامل الشَّرْطي الأول الذي يدعم استمرار الميلاد المتكرر، الذي تتسم فيه كل حياة بعدم الرضا العميق المرتبط بالطبيعة المؤقتة لكلِّ شيءٍ يمكن للمرء أن يعايشه. أما المعرفة فهي العامل التمكيني الذي يمكِّن المرءَ من الوصول إلى إنهاء ذلك الميلاد المتكرر. ونظرًا لأن المعلِّمين الأوائل لتلك التقاليد زعموا أنهم توصَّلوا لهذه المعرفة، فإن لدينا عددًا هائلًا من النظريات الميتافيزيقية المختلفة المتعلقة بهذه الفترة.

على الرغم من تداول الكثير من القصص الشعبية المستندة إلى التراث البوذي، الذي تقصُّ أعمالُه الأدبية السردية سيرةَ حياةِ بوذا على نحوٍ مبالِغٍ في المديح، وتَرْوِي تعاليمه؛ فإننا لا نملك أية حقائق مؤكدة عن الحياة المُبَكِّرة لبوذا، فيما عدا أنه وُلد لعائلة تعيش في مدينة كابيلافاتو (الموجودة في نيبال حاليًّا) ويبدو محتملًا أن عائلته كانت ثَرِيَّة وتتمتع بالنفوذ. وتروي النصوص أنه ترك منزله في أوائل الثلاثينيات من عمره بحثًا عن إجابة لأسئلته المتعلقة بالطبيعة الوجودية للمصير البشري، وهذه الأسئلة هي: لماذا الوجود البشري على هذه الحال؟ لماذا يَتَّسم بالمرض والشيخوخة والموت؟ أليس ثمَّة مفرٌّ من حالته تلك؟ هل يمكن للمرء فعل أيِّ شيءٍ حِيال ذلك؟ هل يمكن للمرء حقًّا الهروب مِنْ مِثْلِ هذا الوجود؟

figure
خريطة ٢: المواقع المرتبطة ببوذا.

وسواء أكان لدى بوذا أي معرفة متعلقة بأيٍّ من التعاليم المذكورة في النصوص التي أشرنا إليها سابقًا قبل مغادرته للمنزل أم لا (ونحن لا نعلم هذا)، فإن النصوص البوذية القديمة تخبرنا أنه بمجرد أن انطلق بوذا في سعيه قابَلَ أشخاصًا لديهم وِجْهات نظرٍ شديدة التنوع. وفي واقع الأمر، تُعدُّ هذه النصوص واحدًا من أهم مصادر المعلومات، بالإضافة إلى النصوص الجاينية المتعلقة بوجهات النظر المتعددة التي انتشرت في هذا المجتمع. وفي أثناء سعيه الباحث عن أجوبةٍ لتلك الأسئلة المهمة، كان بوذا مهتمًّا على نحوٍ عمليٍّ بمقابلة الأشخاص المنطلقين في سعيٍ مُشابِهٍ، وتَعَلُّم ما ظنُّوا أن له علاقة بالموقف الإنساني وما يمكن أن يُفعل حِياله. ويبدو أنه أمضى بعض سنواتٍ في الاستماع إلى نظرياتهم والتعلُّم منها واختبارها، من خلال السير على خطاهم في مختلف أنواع الممارسات التي مارَسُوها. ولم يشعر بوذا بأن أيًّا من هذه الممارسات تُقدِّم الأجوبةَ الشافية التي كان يبحث عنها، وفي النهاية قرَّر أن يجرِّب أسلوبه الخاص في محاولة اكتساب الرؤى شديدة العمق التي كان يسعى إليها.

fig7
شكل ٣-٢: راهب بوذيٌّ يتأمَّل.

وباستخدام نوع من التأمُّل الثاقب قام بتعليمه للآخرين فيما بعد، زعم بوذا أنه اكتسب ثلاث معارفَ مكَّنته من فهْم طبيعة الوجود البشري وسبب كونه على هذه الحال. وزعم أيضًا أنه من خلال هذه المعارف الثلاث قد حقَّق الخلاصَ من أَسْرِ استمرارِ الوجود البشري، وتتمثَّل أولى هذه المعارف في أنه تمكَّن من رؤية حيواته السابقة، وطريقة تأثير كلٍّ منها على جَوْدةِ وظروفِ الحيوات التالية؛ وهذا يعني أنه تمكَّن من رؤية تاريخ ميلاده المتكرر. وثانية هذه المعارف هي أنه رأى طريقةَ ولادةِ الموجودات الأخرى وطريقة ميلادها ثانيةً، وهذا أيضًا وفقًا لنتائج الأفعال التي قامت بها في الحيوات السابقة، وأثَّرت هذه النتائج بدورها على حيواتها التالية. وعلى هذا النحو فإن قبول بوذا لمبدأ الميلاد المتكرر والكارما وتدريسه كلًّا منهما لم يكونا قائمَين على تَبَنِّيه لسماتِ رؤيةِ العالم التي كانت سائدة آنذاك، بل كان قبول هذين المبدأين وتدريسهما قائمَين على تجربته الشخصية. أما ثالثة تلك المعارف التي اكتسبها بوذا فكانت كيف يزيل من هذا الإطار المتصور ذهنيًّا تلك العوامل التي كان قادرًا على أن يرى أنها تربطه بمنتهى القوة بالاستمرارية في هذا العالم؛ وتمثَّلت تلك العوامل المراد التخلص منها فيما يلي: الرغبات الشهوانية، والرغبة في الوجود المستمر، والجهل بالطبيعة الحقيقية للحقيقة، وتبني «وجهاتِ نظرٍ» متعنتة.

fig8
شكل ٣-٣: صورة بوذا وهو يُلقي تعاليمه.

تنوير بوذا

«بذهنٍ مركزٍ، وصافٍ، ونقيٍّ، وخالٍ من التشتيت، ومرنٍ ومحدَّدِ الهدف، وجهتُ عقلي نحو معرفةِ كيفيَّة التخلُّص من «ميول الاستمرارية». تمكَّنتُ من رؤية السمة الأساسية للوجود البشري على حقيقتها، وكيف تنشأ، وعرفت أنها من الممكن أن تتوقف، وكيف السبيل إلى إيقافها، وعرفت ميول الاستمرارية على حقيقتها؛ نشأتها، وتوقفها، وكيفية إيقافها. ومن خلال هذه المعرفة وهذه الرؤية حقَّق عقلي التحرر من الآثار المقيدة لكل هذه الرغبات الشهوانية، ومن الآثار المقيدة للرغبة في استمرار الوجود، ومن الآثار المقيدة للتمسك بالآراء المتعنتة، ومن الآثار المقيدة للجهل. وبعد ذلك عرفتُ على نحوٍ مؤكَّد أنني تحرَّرت من الميلاد المتكرر، وأنني مارَسْتُ ما كان من الضروري ممارسته، وفعلت ما كان من الضروري فعله، وأن حالتي الحالية لن تؤدي إلى استمراريةٍ أخرى.»

«فينايا»، المجلد ٣ (فقرة مُعادة الصياغة)
انظر أيضًا: «ماجيما نيكايا»، المجلد ١،
و«أنجوتارا نيكايا»، المجلد ٢ والمجلد ٤

وفقًا للنصوص المتاحة (انظر المربع السابق)، قبل أن يصف بوذا المعرفة الثالثة التي اكتسبها لخَّص ما تمكَّن من رؤيته في صيغة رباعية على النحو التالي: (١) الوجود البشري في حدِّ ذاته له صفاتٌ جوهرية معينة. (٢) تُوجد عواملُ محددة تعزِّز استمراريته. (٣) من الممكن إيقاف تلك الاستمرارية. (٤) توجد طريقة تؤدي لهذا الإيقاف. إن رؤيةَ وفهمَ السمات الأساسية لهذا الموقف لَأَمْران ضروريَّان إذا كان ما يسعى المرء إليه هو التحرر من أَسْرِه. وكان هذا الفهم أساسيًّا إلى حدٍّ كبير؛ لدرجة أنه أصبح أول مبدأ فعليٍّ يعلِّمه للآخرين، ويُعرف باسم الحقائق الأربعة النبيلة، ويُقال إنه تحدَّث عن تلك الحقائق في حديقة أيائل في فاراناسي.

الحقائق الأربعة النبيلة

تركيبة الحقائق الأربعة النبيلة بسيطة وواضحة؛ فهي تقول إنَّ «س» هي الحالة القائمة بسبب «ص»، وسوف تتوقَّف «س» إذا توقفت «ص»، في حين أن «س» متأصِّلة في الوجود البشري. وما تشير إليه تلك الحقائق بالمصطلحات المفاهيمية ليس من السهل استنتاجه؛ والسبب في ذلك يعود، إلى حدٍّ ما، إلى الطبيعة الغامضة لتلك الحقائق، والسبب الآخر يتمثَّل في أن مصطلح «دوكها»، ذلك المصطلح المأخوذ من اللغة الباليَّة المستخدَم في الإشارة إلى السمة المتأصلة في الوجود البشري المحددة في الحقيقة النبيلة الأولى؛ معناه غير واضح إلى حدٍّ كبير. لطالما تُرجم مصطلح دوكها إلى «معاناة»، أو «ألم»، أو «مرض»، لكن في الوقت الحاضر أدرك قِطَاعٌ عريض من الناس أنَّ هذه الترجمة تَنسب لبوذا على نحوٍ خاطئٍ رؤيةً سلبيةً للغاية عن الوجود البشري، ويسهل دحضها. والترجمة الأفضل هي «عدم الرضا» التي تربط مصطلح دوكها، من الناحية المفاهيمية، بمبدأ بوذا القائل إن كلَّ عوامل عالم الوجود الظاهري غير دائمة. وفي تناقضٍ مباشر مع مزاعم معلمي الأوبانيشاد في عصره، التي قالت إنه على الرغم من التعدُّدِية الواضحة في الكون فإنه من الممكن إدراك أنَّ الكون عبارة عن وِحدة جوهرية دائمة وغير متغيرة؛ علَّم بوذا أتباعَه أن كل العوامل المدرَكة غير دائمة. ونظرًا لأن تلك العوامل غير دائمة، فإنها غير مَرْضِيَّة في نهاية المطاف (فحتى أفضل التجارب والمواقف لا تدوم) على النقيض من نعيم الخلود المفترض، أو الديمومة المطلقة. ومن هذا المنطلق يُفهم أن الحقائق النبيلة الأربعة تُصنِّف عدم الإشباع الناجم عن الزوال بأنه السمة الأساسية للحياة المتكررة. ونظرًا لأن المرء لا يقبل بعدم الدوام ويسعى ويرغب دائمًا في أن تكون الأشياء دائمة — الشباب والصحة والأحباء والممتلكات النفيسة وهكذا — فإن هذا السعي وهذه الرغبة يدعمان استمرار عدم الرضا؛ لأن كلَّ رغباتِ الإنسان مصيرها خيبة الأمل. وتأكيدًا على الحقيقة النبيلة الثانية، توضح البوذية أن آلية عملية الكارما تكمن في رغبات المرء الشهوانية؛ أي تكمن في الحالة الذهنية المتعمَّدة للمرء.

تعاليم بوذا

الحقائق النبيلة الأربعة

يتَّسِم الوجود البشري بسِمَةٍ متأصلة هي «دوكها».

تنشأ «دوكها» عن التَّوق والرغبات الشهوانية (سواء أكانت إيجابية أم سلبية).

من الممكن إيقاف «دوكها»، ويُعرف هذا الإيقاف باسم «نيرفانا».

تتحقق «نيرفانا» من خلال اتِّباع الطريق الثُّماني النبيل.

«ساميوتا نيكايا»، المجلد ٤، (مثال مُعادة صياغته)

تعني كلمة نيرفانا «الإطفاء»، وتشير إلى إيقاف وقود الاستمرارية.

النشأة المعتمِدة

«ما أُعلِّمه هو النشأة المعتمِدة؛ إن كل الأشياء المعروفة يعتمد بعضها على بعض في نشأتها، وهذه هي طبيعة الأشياء، الطبيعة المعتادة للأشياء.»

«ساميوتا نيكايا»، المجلد ٢

عندما يكون هذا، يكون ذاك.

عندما يحدث هذا، يحدث ذاك.

عندما لا يحدث هذا، لا يحدث ذاك.

عندما يتوقف هذا، يتوقف ذاك.

«ماجيما نيكايا»، المجلد ٣، (مثال)

سمات الوجود الثلاث

كل الأشياء معتَمِدة النشأة غير دائمة.

كل الأشياء معتمدة النشأة [نتيجة لذلك] غير مَرْضِيَّة.

كل الأشياء الممكنة معرفتها ليست هي الذات.

«دامَّابادا»، (مثال)

إنَّ الصيغة التي وصلت إلينا بها تعاليم البوذيَّة القديمة الأساسية تعكس حقيقة أنه، حتى وقت تدوينِ تلك التعاليم في عام ٤٠ قبل الميلاد تقريبًا، كان الحُفَّاظ القدماء لهذا التقليد يستخدمون أدواتٍ تذكيريةً لتساعدهم على الحفظ الشفهي لهذه التعاليم.

أما السبب وراء استمرار رغبةِ المرء وتَوْقه لِمَا لا يمكنه الحصول عليه فهو جَهْله بالطبيعة الحقيقية للحقيقة. وفي الواقع، فإن كل شيء في دورة الحيوات مشروط بشيء آخر، ووضَع بوذا هذه النقطة في مبدأ أو تعليم آخر من تعاليمه الأساسية؛ فقال إنه توجد «طبيعة للأشياء»، أو «نمط معتاد للأشياء»، وهذه الطبيعة أو هذا النمط المعتاد يتمثلان في أن كل الأشياء «نشأت معتمِدة على غيرها». وهذا ينطبق عمومًا على كل عوامل تجربتنا المتكررة؛ فلا شيء على الإطلاق، مهما كانت طبيعته — ماديًّا أو ذهنيًّا، حسيًّا أو متصورًا، ملموسًا أو مجردًا، عضويًّا أو غير عضوي — يحدث مستقلًّا عن عوامل شرْطية. وبالفعل هذا هو سببُ عدمِ دوامِ كل الأشياء.

النشأة المعتمِدة

النشأة المعتمدة هي تعليم ميتافيزيقي متطرف، إلى حدٍّ كبير، من تعاليم بوذا، وهي لا تنصُّ على عدَمِيَّة الوجود، بل تقول إن طريقة حدوثِ كلِّ الأشياء تختلف عن كلٍّ من: الوجود الذي ينطوي على الاستقلالية، وعدم الوجود الذي ينطوي على إنكار حدوث الأشياء. والهدف من هذا التعليم عن النشأة المعتمدة هو سلوك «طريق وسطيٍّ» بين الوجود وعدم الوجود، والإقرار بالوجود وعدم الوجود، وإنكار الوجود وعدم الوجود. إن هذه الصيغة المتحدِّية للمنطق، التي رأيناها بالفعل في السابق، مصمَّمة لتضمَّ وترفض كلَّ أنواعِ التباديل الممكنة للمواقف الميتافيزيقية التي يتخذها الآخرون.

«الطريق الوسطي» لبوذا

قال بوذا إن تعاليمه اتَّخذت طريقًا وسطيًّا بين تعاليمِ وممارساتِ معتنقي التقليد البرهمي والمارقين منه، ويمكن رؤية ذلك بوضوحٍ شديدٍ في ثلاثة جوانب كالتالي:

(١) كان مجتمع الرهبان البوذي بين طرَفَي نقيضٍ؛ تمثَّل أحدهما في التَّمسك التام بالنظام الاجتماعي، وتمثَّل الآخر في الرفض التام لذلك النظام الاجتماعي، فكان أعضاء مجتمع الرهبان يعيشون منفصلين عن المجتمع لكنَّهم معتمدون على العوامِّ على نحوٍ متبادل.

(٢) النظام اليومي وأسلوب حياة الرهبان البوذيين كانا بين الانغماس الحِسِّي المرتبط بالحياة الأُسرية وبين أساليب التقشف القاسية المفروضة ذاتيًّا التي كان يمارسها المارقون من التقليد البرهمي؛ فقد كان الرهبان البوذيون متَبَتِّلِين، لكن كل احتياجاتهم الأخرى كانت مجابة من أجل الحفاظ على السلامة الصحية التي اعتقدوا أنها مهمة من أجل الالتزام الكامل بالتقليد البوذي.

(٣) ميتافيزيقية النشأة المعتمدة سلكت طريقًا وسطيًّا بين كل التباديل الممكنة للنظريات الوجوديَّة المطروحة من قِبل الآخرين؛ فلا يمكن التعبير عنها باستخدام أيَّة مجموعات مصطلحات متعلقة بالوجود أو بعدم الوجود.

كثيرًا ما يُقال إن ما كان يُعلِّمه بوذا في هذا السياق، في تناقضٍ مباشر مع كهنة الأوبانيشاد وغيرهم، هو أنه لا توجد ذات. ونَشَأَت وجهة النظر تلك من استخدام المصطلح الباليِّ (من اللغة الباليَّة) «أناتَّا» («أناتمان» بالسنسكريتية)، الذي يتضمَّن إضافة بادئة نفي للكلمة التي تعني «ذات». والذَّات، كما رأينا في السابق، كانت تشغل اهتمامًا محوريًّا لمعظمِ مجتمعِ بوذا. وكانت المجموعة البرهمية المسيطرة، التي كانت تتلقى تعاليمها من كتابات الأوبانيشاد، تزعم أن معرفة الهوية الخالدة للذات مع جوهر الكون تُحقِّق التحرر. وعلى النقيض من ذلك، قال بوذا إن كل الأشياء التي يمكن معرفتها («داما») هي «أناتَّا»؛ أي «غير ذاتية». واعتبر البوذيون والأكاديميون، على حدٍّ سواء، أنَّ ذلك إنكارٌ تام للذاتية؛ أي إنه لا يُوجد ذات.

ورغم ذلك أوضحت إحدى الدراسات الأكاديمية الحديثة أنَّ السياق يطبَّق على نحوٍ عام وليس فقط على نحوٍ خاص؛ فالفكرة تتمثل في أنه إذا كانت كل الأشياء تنشأ معتمِدة بعضها على بعض، بين كل تباديل الوجود وعدم الوجود، فهذا يعني أن الطريقة التي تُوجد بها الأشياء — بما فيها الذوات، وكذلك درجات السلم الموسيقي، وأظافر القدم، والأفكار، والضحك، والروائح، والقِطَط، والأشجار، والكراسي، والأحجار — هي طريقة واحدة في العموم، وليس أنها غير موجودة. وفي واقع الأمر، عدم الوجود أمر مرفوض تمامًا. ونظرًا للدلالات الذاتية لمصطلح «أناتَّا»، فإنه من الممكن أن يصرف الانتباه عن المعنى المقصود. لم يكن بوذا ينفي وجود ذوات الأشخاص، بل كان ينفي وجود أي شيء مستقلًّا عن باقي الأشياء، وهذا يتعارض على نحو واضح مع مزاعم الآخرين القائلة بديمومة الذات، لكن كون هذا المبدأ ينصُّ على عدمِ وجودِ الذات هو في الحقيقة أمرٌ مَحَلُّ تشكيك.

ويدعم هذا التشكيكَ حقيقةُ أن بوذا حثَّ على ضرورة ابتعاد المرء عن تبني أيِّ موقف من هذه المواقف الوجودية المتعلقة بالذات أو بالكون. وقال إن كل هذه المواقف أو أيًّا منها هي «مجرد آراء» تعزِّز عوامل الاستمرارية القسرية إلى حدٍّ كبير، وهي العوامل التي ينبغي التخلص منها من أجل اكتساب رؤية تمكننا من معرفة طبيعة الحقيقة. ورَفَض بوذا نفسه الإجابة عن الأسئلة المتعلقة بمثلِ هذه الموضوعات، وصمته عند التساؤل عن صيغة «المنطق الرباعي» المشار إليها في السابق أدَّى إلى تسميتها بالأسئلة غير المجابة في البوذية. وفي تعارضٍ كبير مع معاصريه ومع معظم المعلِّمين الآخرين، لم يقدِّم بوذا أيَّة معلومات عن الوضع الوجودي للذات والكون، أو على الأقل لم يقدِّم تلك المعلومات على نحوٍ مباشر. أمَّا ما كان يُعلِّمه بوذا في واقع الأمر — من أجل «رؤية الأشياء على حقيقتها» كما تقول المصادر البوذية — فهو ضرورة ألا يكون الاستقصاء والفهم من جانب المرء مرَكِّزَين على الموضوعات الوجودية، بل يجب أن يُركِّزا على عمل المَلَكات المعرفية للمرء.

ويُشار إلى هذه المَلَكات في المصادر البوذية بمجموعة العوامل الخماسية المتفاعلة، ويُطلق عليها الكاندات الخمس، وكلمة «كاندا» ليس لها مرادف دقيق في هذا السياق. وإذا بدا أن السائلَ يصرف الانتباه إلى موضوع آخر، كان بوذا يؤكد على نحو متكرِّر أن آلية عمل الكاندات هي اللازم فهمها. علاوة على ذلك، وعلى قدرٍ كبير من الأهمية، فإن النصوص القديمة تنصُّ على نحوٍ متكرر على أن الكاندات الخمس هي ما تكوِّن الدوكها، تلك الدوكها التي تُعد السمةَ الأساسيةَ للوجود البشري المحددة في الحقيقة النبيلة الأولى. ويشير هذا الارتباط إلى أن الأهمية الكاملة للحقيقة لا تقتصر، من هذا المنطلق، على الحالة النفسيَّة لعدم الرضا، بل تشمل أيضًا فِكرة أنَّ نقطة الانطلاق التي يجب أن يبدأ من عندها الاستقصاء عن الوجود البشري هي الملكات المعرفية للمرء. إنها الوسيلة التي يدركُ المرءُ من خلالها التجاربَ في العموم، ومن ثَمَّ فمِنْ غير الممكن استقصاء أيِّ شيء محدَّد أو معرفته دون أن نفهم أولًا الوسيلة التي من خلالها يدرك المرءُ الشيءَ، أو يكوِّن تصوُّرًا عنه في المقام الأول.

ومن الناحية «الدينيَّة»، فإن الغرض من استقصاء الملكات المعرفية للمرء هو فهم الرابط بين طريقة عمَلِها المعتادة وبين الطريقة التي تؤثر بها شهوات المرء ورغباته على هذه الملكات؛ فالاستجابة الرامية إلى الإشباع تعتمد على العمليات المعرفية التي تعمل على حسب القواعد المتعارَف عليها، لكنها في واقع الأمر، ونظرًا للطبيعة الحقيقية للحقيقة، تعمل على نحوٍ خاطئ. وعلى وجه التحديد، فإن الفشل في فهم نتائج النشأة المعتمدة يقود الشخص إلى الاستمرار في الاستجابة كما لو كان راغبًا مستقلًّا لديه رغبات مستقلة لأشياء مرغوبة متفرقة. وبهذه الطريقة تُعَزَّز الاستمرارية من خلال تضافر الجهل والرغبات الشهوانية. وبالعكس، سوف تَضْمُر الرغبات الشهوانية إذا استُبعِد الجهل وحلَّ محله فهمُ أنَّ تصوُّر الاستقلالية والفردية هو تصور زائف.

من طبيعة الوجود إلى طبيعة التجربة

من الناحية «الفلسفية» كلُّ ما يفعله هذا المبدأ هو تحويل مركز الاستقصاء من الوجودية إلى الإبستيمولوجيا (نظرية المعرفة)، وهذا يعني أن بوذا أدْخَل في هذا المجتمع، الذي يزخر بتساؤلات ميتافيزيقية كثيرة ونظريات وجودية عميقة عن الذات والكون، زعمًا يقول إن كل ما يمكن للمرء الوصول إليه هو العملية المعرفية الذاتية للمرء؛ فالمرء لا يستطيع الخروج خارج هذا النطاق لرؤيةٍ أو للتحقُّق ممَّا قد يكون الحال خارج نطاقه المعرفي، لكن يمكنه على الرغم من ذلك فَهْم آليَّة عمل ما يدور خارج نطاقه. وهذا يتضمَّن فهمَ دورِ الملكات المعرفية في تكوين طريقة إدراكنا للعالم من حولنا. وتشير النصوص إلى طريقة معالجة المَلَكات الإدراكية للشخص للبيانات «الخام» المتعلقة بالتجارب وتقسيمها إلى فئات مميزة ومنقَّحة ومتطورة إلى حدٍّ كبير، فالعملية برمَّتها تتضمن «تعديد الأشياء غير المتعددة في واقع الأمر» («أنجوتارا نيكايا»، المجلد ٢).

العملية المعرفية

يحدث الإحساس البصري عند حدوث تواصل بين الوعي والعين والشيء المرئي، وبعد ذلك يصبح هذا الإحساس المبدئي مميَّزًا ومتصَوَّرًا ومتعددًا.

«ماجيما نيكايا»، المجلد ١، (فقرة معادة الصياغة)

ينطبق هذا النسق على السمع، والشم، والتذوق، واللمس والتفكير (تعترف البوذية وغيرها من مدارس الفكر الهندي بوجود ستِّ حواس، من ضمنها حاسَّة متعلقة بالنشاط الذهني غير الحسي).

النشأة المعتمدة مرة أخرى

«إن فهم النشأة المعتمدة يعني أن المرء «لن يطرح بعد ذلك» أسئلةً عن وجود الذات أو الماضي أو المستقبل أو الحاضر من قبيل: هل الشيء موجود؟ أو هل الشيء غير موجود؟ أو ماذا يوجد؟ أو لماذا يوجد؟ أو هذا الشيء الذي على هذه الحالة، من أين أتى؟ وإلى أين سيذهب؟»

«ساميوتا نيكايا»، المجلد ٤، (فقرة معادة الصياغة بتَصَرُّف)

تتجلَّى نتيجتان من هذا التعليم، وهاتان النتيجتان لم تعبِّر عنهما النصوص على نحو صريح (في واقع الأمر، عبَّرت عن قدرٍ قليلٍ منهما على نحوٍ صريح). إحدى هاتين النتيجتين هي أنه إذا كانت الملَكات المعرفية الإدراكية هي ما تعالج كل البيانات التجريبية، فهذا إذن ما يكوِّن منبت النشأة المعتمدة؛ أي إن كل ما يشهده المرء ينشأ على نحوٍ اعتمادي في عمليات تجريبية ذاتية. وهذا لا يعني فحسب وجود ارتباط مباشر بين الذاتية والموضوعية، بل يعني أيضًا أنَّ السبب في كوْن ظواهر الوجود المتكررة التي تعتمد في نشأتها بعضها على بعض ظواهرَ غيرِ دائمة هو الطبيعة التجريبية لتلك الظواهر. وكان مُقدرًا لهذه النتيجة أن تخضع لمزيد من التفسير والنقاش الكامل في البوذية المتأخرة، لا سيما في بوذية اليوجا كارا، لكن خلال الفترة المبكرة للبوذية ظلَّت هذه النتيجة مستترةَ التفاصيل إلى حدٍّ كبير.

أما النتيجة الثانية فتتمثَّل في أنه إذا كان التركيز يكمنُ في فهْم طبيعة المعرفة خلافًا لفهم طبيعة الأشياء، كما كان الأمر في السابق، بغضِّ النظر عن ملكاتنا المعرفية، فهذا يعني أن لا شيء مما يعرفه المرء يمثل ذات المرء. وأيًّا كانت طبيعة المرء، ذلك الفاعل العارف، أو مكانته الوجودية فإنه لا يستطيع أن يجعل نفسه مفعولًا به كي يعرف نفسه بنفسه؛ ولذلك نقرأ في السطر الأخير من الصيغة المعروفة باسم سمات الوجود الثلاث (الموضحة في المربع المذكور سابقًا) ما يلي: «كل الأشياء الممكنة معرفتها («الدامَّا») ليست هي الذات (أناتا).» وهذه النتيجة أيضًا ظلَّت مستترة إلى حدٍّ كبير، وفي هذه الحالة، كان السبب يعود إلى المزاعم المناقضة التي كانت تقول إن مبدأ «أناتا» يقضي بعدم وجود الذات.

كان بوذا ناقدًا لاذعًا لآراء ومزاعم الآخرين في نواحٍ كثيرة، فإذا كان مبدأ أناتا يقرُّ بعدم وجود الذات، فهذا وحده سيكون متناقضًا تمامًا مع مزاعم المجموعة البرهمية المسيطرة التي تتلقَّى تعاليمها من كتابات الأوبانيشاد على أقل تقدير. وفي واقع الأمر، لو كانت فحوى المبدأ أن لا شيء مما يعرفه المرء يمثِّل ذات المرء، إذن لقضى، إلى حدٍّ كبير، ليس فقط على معتقد المجموعة البرهمية المسيطرة، بل أيضًا على الهدف نفسه من السعي كما تراه الغالبية العظمى من معاصريه. وعلى أية حال، فعند تعليم الآخرين معتقد النشأة المعتمدة، رفض بوذا كلَّ المواقف الوجودية المختلفة التي تبنَّاها الآخرون رفضًا صريحًا.

وعند استعراض السمات المختلفة لتعاليم بوذا، من المهم تذكُّر أنه في ذلك الوقت كان هدفه من إعطاء تعاليمه ورفض تعاليم الآخرين موجهًا تمامًا إلى مساعدة الآخرين في اكتساب الرؤية لتحقيق التحرر من تقلبات الوجود البشري. ولا يمكن للمرء قراءة النصوص البوذية القديمة دون أن يتذكر باستمرار هذا الهدف، كما أن تجاهله أو التغاضي عنه سيضر بالطريقة المحفوظة بها هذه التعاليم. لقد كان بوذا مهتمًّا بتقليل نفوذ كهنة البرهمية، ليس لأنه تمنَّى تحقيق نصرٍ فلسفي، بل لأنه رأى أن مزاعم أحقيتهم في احتكارية القيام بالطقوس والسلطة المطلقة تضر بصالح الناس. علاوة على ذلك، لقد اعتبر اعتمادهم على التقليد البرهمي في معرفة ما زعموا أنه طبيعة الأشياء بدلًا من الاستفادة من فهمهم التجريبي المستقل الخاص؛ أمرًا لا يُعتمد عليه إلى حدٍّ كبير، لدرجة أنه يُعد أمرًا غير فعَّال بطبيعته؛ فهو لم يرَ أيَّ سبب وجيه يُلزِم أيَّ شخص بالإيمان بمبدأ قدَّمه شخص آخر لم يشهد مطلقًا المزاعم التي يدَّعيها. واعترض بوذا أيضًا على شعور الكهنة بأهميتهم الذاتية وعدم اهتمامهم بتحرُّر الآخرين. واعتبر بوذا كل الأنشطة الشعائرية التي كان يزاولها الكهنة عبثِيَّة، وقال إن آلية الفعل والنتيجة تكمُن في الحالة الذهنية للمرء، ولا يمكن لأي شخص التحكم فيها سوى المرء نفسه. ورأى بوذا أن التركيز على تذكر الصيغ المقدسة بدقة وحجب اللغة المقدسة عن الآخرين يصرف الانتباه عن الحاجة إلى فهم نظام آليات الوجود ويوجهه نحو التفاصيل المتعلقة بالأصوات والصيغ المنطوقة، وأكَّد على أن المهم ليس الحرف بل الروح، وما يهم ليس التفاصيل بل الصورة الكلية، فليس المهم أن يحفظ المرء بل أن يفهم.

كان طابع النصوص البوذية القديمة طابعًا «دينيًّا» ولم يكن تقليدًا «فلسفيًّا»، وكانت الموضوعات التي تناولتها البوذية في تلك الفترة، والتي قد تهمنا فلسفيًّا على الصعيد الفكري، ذات طبيعة وجودية إلى حدٍّ كبير وليست اهتمامات مجردة. وفي واقع الأمر، كان من الممكن أن يشعر بوذا وأتباعه المباشرون، ومعاصروه الآخرون الباحثون عن الحقيقة، بالحيرة من أية محاولة تهدف ببساطة إلى وضع أفكارهم في قالب عقلاني. ورغم ذلك، فقد كان القرن الخامس قبل الميلاد هو البوتقة التي تشكَّلت فيها أفكار ومناهج كثير من مدارس الفكر المختلفة وتحدَّدت على نحوٍ واضح علاقاتها بعضها ببعض. علاوة على ذلك، بدايةً من ذلك القرن فصاعدًا زادت الحاجة إلى مسوغات أكثر منهجية تبرهن على صحة ادعاءات المناهج الأكثر تأثيرًا في ذلك المجتمع. وعلى الرغم من أن مجتمع القرن الخامس قبل الميلاد لم يكن يرى ضرورة لوجود أيَّة تفسيرات رسميَّة للأسس النظرية للتعاليم المختلفة المتعددة، فإنه لم يمر وقت طويل حتى أصبحت التفسيرات الرسمية تتنافس فيما بينها على الأفضلية والقبول، وأصبحت الأمور التي كانت تُعلَّم، إما بسبب توجيهات تقليد راسخ منذ فترة طويلة أو لمجرد أهداف خَلَاصية عملية، تتطلَّب صياغات وتفسيرات أكاديمية ونظرية إلى حدٍّ كبير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤