الفصل السادس

الأشياء واللَّاأشياء

تطورات في الفكر البوذي

رأينا في الفصل الرابع كيف دفَع ظهورُ تعاليمَ وأفكار بديلةٍ متحديةٍ البرهميين التقليديين إلى محاولة الدفاع عن صحة وسيادة النصوص الفيدية المتمثلة في كلٍّ من النصوص الشعائرية وكتابات الأوبانيشاد. ورأينا كيف كان لهذا أثرٌ على الواقعية التعددية في خطابات نيايا فايشيشيكا الأكثر منهجية. وإلى جانب تلك التطورات التي حدثت تحت مظلة التقليد البرهمي، كان الفكر البوذي والتعاليم البوذية أيضًا يخضعان للفحص والتعديل والدراسة والمراجعة. وقبل الشروع في مناقشة هذه الأمور، يجدر بنا ذِكْر أنه على الصعيد الداخلي وعلى صعيد العلاقة بمدارس الفكر الأخرى، فإن كثيرًا من الأفكار والفرضيَّات التي قدَّمها المفكرون البوذيون يمكن أن تبدو صعبة الفهم للغاية بالنسبة للمبتدئين. ورغم ذلك، آمل أن يساعد هذا السياق المتَّسع الذي يتناوله الفصل في توضيح أية مشاكل قد تُقابِل القارئ. إن عمق الفلسفة البوذية يستحق أيضًا المثابرة؛ فهي تضمُّ بعض الافتراضات الأكثر راديكالية في تاريخ الفكر البشري.

أنواع الفكر البوذي

اهتمَّ أوَّل النقاشات الجادة داخل التقليد البوذي بالقواعد الرهبانية الانضباطية الصارمة، وقد أدَّت هذه النقاشات إلى قبولها وتقنينها من قِبَل البعض، وإلى رفضها وتعديلها من قِبَل البعض الآخر. وبهذه الطريقة، التي يمكن أن نطلق عليها «انشقاقية»، بدأ التشظِّي الأول للبوذية إلى «مدارس» مختلفة، وتلك الاختلافات المبدئية في القواعد الانضباطية الصارمة لتلك المدارس مهَّدت الطريق لظهور اختلافات في النظرة العقائدية وترسُّخها في المجتمعات المتماثلة الفكر. وتشير النصوص إلى حوالي ١٨ مدرسة وُجدت في الهند خلال مراحل مختلفة أثناء الفترة التي تُقدَّر بنحو ٨٠٠ عام أو ما يقرب من ذلك التي أعقبت وفاة بوذا. ومن بين هذه المدارس التي يمكن أن نشير إليها في مجملها بأنها تمثِّل البوذية «القديمة» أو بوذية «ما قبل الماهايانا»، وحدها بوذية التيرافادا التي بقيَت حتى يومنا الحاضر، لكن المدارس الأخرى التي لدينا بعض المعلومات عنها تشمل لوكوتارافادا، وساماتيا، وسوترانتيكا، وسارفاستيفادا.

تأريخ زمني

عام ٢٠٠٠ قبل الميلاد تقريبًا: التقليد القرباني الفيدي.
٨٠٠–٥٠٠ قبل الميلاد تقريبًا: كتابات الأوبانيشاد القديمة.
بحلول عام ٥٠٠ قبل الميلاد: وجود الفرع الشعائري والفرع المعرفي للتقليد البرهمي جنبًا إلى جنب.
مجتمع القرن الخامس قبل الميلاد: معتنقو التقليد البرهمي والمارقون منه.
٤٨٥–٤٠٥ قبل الميلاد تقريبًا: تمثِّل هذه الفترة حياة بوذا.
من القرن الرابع إلى القرن الثاني قبل الميلاد: وضع النحويون والمؤَوِّلون الأوائل معايير الأمور التي يجب «النظر إليها».
من القرن الثالث إلى القرن الثاني قبل الميلاد: فايشيشيكا ونيايا يجمعان بين النظرة الوجودية للواقعية التعددية وبين طريقة رسمية يمكن من خلالها الوصول للمعرفة المؤكدة.
من القرن الرابع إلى القرن الأول قبل الميلاد: شهد التقليد البوذي القديم انقسامًا إلى مدارس مختلفة. بدأ الانشقاق على أساس اختلاف القوانين الرهبانية الصارمة، وتدريجيًّا بدأت تلك المدارس تتبنَّى وجهات نظرٍ عقائدية مختلفة على نحو مميز.
من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الثاني الميلادي: تَطَوُّر في تقليد بوذية «أبهيدارما» («أبهيدامَّا» باللغة البالية)؛ تبنَّت المدرسة نشاط التحقيق وتصنيف ظواهر (الدارما/الدامَّا) إلى فئات من أجل فهْم طبيعة الواقع.
من القرن الأول قبل الميلاد إلى القرن الأول الميلادي: ظهور بوذية ماهايانا وسوترات «براجنياباراميتا» («كمال الحكمة»).
القرن الثاني الميلادي تقريبًا: اعتمادًا على نصوص براجنياباراميتا، تركِّز فلسفة مادياماكا كاريكا لصاحبها ناجارجونا على «خواء» (شونياتا) كل الظواهر، وتضع الأساس لمدرسة فكرية تُعرف باسم مادياماكا (الطريق الوسطي). ويحظى مبدأ «النشأة المعتمِدة» الذي قال به بوذا بأهميةٍ محوريَّة في تعاليم ناجارجونا.
القرن الرابع الميلادي تقريبًا: وضعت إحدى المدارس البوذية المعروفة باسم شيتاماترا («العقل فقط») أو يوجاكارا («ممارسة اليوجا») تفسيرًا بديلًا لفحوى تعاليم براجنياباراميتا؛ في محاولة لتقليل العدمية الواضحة لمدرسة «الخواء». وكما يوحي المصطلحان «يوجا» و«العقل» فهذه الطريقة تركِّز على فَهْم العمليات التأملية أو «أحداث الوعي».

وكانت المعايير التي على أساسها تنقسم المدارس وفقًا للعقائد مرتبطةً بالمكانة الوجوديَّة للبشر (سواء لبوذا على وجهِ التحديد في هذه الحالة أو للبشر أجمعين) والعالم، وهذه موضوعات شائعة في المجتمع الهندي الأوسع نطاقًا. وكان لكهنة البرهمية ومفكري نيايا فايشيشيكا نقطة انطلاق أكثر بساطة من عدة جهات؛ لأن موقفهم كان متفقًا مع نظرة الفطرة السليمة للواقع، إلا أن البوذيين كانوا مضطرين لمواجهة التعاليم الأوَّليَّة التي ركَّزت على العمليات العقلية بدلًا من العالم الخارجي، وكذلك مع مبدأ «اللاذات» الذي يُعد أكثرَ صعوبة في التناول.

بالنسبة لأتباع لوكوتارافادا، كان الموضوع الرئيسي هو مكانة بوذا. ومعظم البوذيين يتَّفقون على أنه كان رجلًا يحمل مكانة مماثلة لمكانة أيِّ شخص آخر، لكن أتباع لوكوتارافادا يعتقدون أنه بطريقة ما تسامى فوق البشرية العادية؛ ومن ثمَّ لم يكن خاضعًا للمعيار الماورائي البوذي المتمثل في عدم الديمومة. (تتكون «لوكوتارافادا» من كلمة «لوكا» وتعني «العالم»، وكلمة «أوتارا» وتعني «وراء» أو «فوق»). وأصبح كثير من البوذيين اللاحقين يؤمنون بتسامي بوذا، وكذلك بتسامي الشخصيات العظيمة الأخرى التي تتَّسم بالشفقة والبصيرة المعروفة باسم البوديساتفات، لكن أتباع لوكوتارافادا كانوا هم الوحيدين الذين تبنَّوا وجهة النظر تلك بين البوذيين القدماء. وتتمثَّل أهمية هذا المعتقد بالنسبة لأتباعه في أن الهدف الذي يأملون في تحقيقه من خلال اتِّباع التعاليم كان هدفًا يرمي إلى التَّسامي فوق العالم البشري.

المدارس والنصوص البوذية

تشير المصادر النصِّية إلى أنه خلال فترة ٥٠٠ سنة أعقبت حياة بوذا، تأسَّس نحو ١٨ مدرسة بوذية مختلفة. كان «الانشقاق» المبدئي في جماعة الرهبان أساسه الخلاف حول القواعد الانضباطية، وفيما بعد فسَّرت الجماعات المتشابهة في وجهات النظر التعاليمَ البوذية على نحو مختلف. أما المدرسة البوذية القديمة الوحيدة التي استمرَّت حتى وقتنا المعاصر فهي بوذية التيرافادا. ومن بين المدارس البوذية القديمة مدارس «لوكوتارافادا»، و«ساماتيا»، و«سوترانتيكا»، و«سارفاستيفادا».

والنصوص التي تضمُّ القانون البوذي أو الشريعة البوذية تندرج تحت ثلاثة أنواع هي:
  • أطروحات عقائدية — «سوتات» أو «سوترات».

  • قوانين انضباطية للرهبان — «فينايا».

  • تفسيرات فلسفية اسكولاستية للتعاليم — «أبهيدارما».

وتعود «الأبهيدارمات» المتبقية حاليًّا إلى مدرستَيْ «تيرافادا» و«سارفاستيفادا».

ويتمسَّك أتباع مدرسة «سوترانتيكا» بنصوص «السوترات» فقط ويرفضون المنهج الاسكولاستي للمدارس الأخرى.

وزعم مفكرو مدرسة ساماتيا أنه على الرغم من مبدأ «اللاذات» (الذي يُفسَّر في الغالب على أنه «عدو وجود الذات»)؛ فإن كل البشر لديهم ذاتية خاصة بهم إلى حدٍّ ما. ولا يوجد دليلٌ على كيفية تَكوُّن هذا الفكر، لكنَّ أفكار مدرسة ساماتيا كانت مرفوضة تمامًا من قِبَل المدارس البوذية الأخرى.

أبهيدارما

يشير اسم مدرسة سوترانتيكا («سوترا-أنتيكا») إلى أن مجموعة التعاليم التي اعتبرتها هذه المدرسة الأكثر موثوقيةً هي تلك التعاليم الموجودة في الأطروحات العقائدية أو السوترات. ولقد رأَوْا أن هذا التمييز ضروري في ظلِّ تطوير أطروحات تفسيرية أكثر أكاديميةً مضمَّنة في الأعمال المعروفة باسم الأبهيدارمات. فقد كان لكلٍّ من مدرسة تيرافادا ومدرسة سارفاستيفادا أبهيدارما خاصةٌ بهما؛ وأبهيدارما تيرافادا مدوَّنة باللغة البالية («أبهيدامَّا بيتاكا»)، أما أبهيدارما سارفاستيفادا فمكتوبةٌ باللغة السنسكريتية. (عندما انخرط البرهميون مع آخرين في الدفاع عن نصوصهم، أصبحت اللغة السنسكريتية هي اللغة المشترَكة للجدل ولغة تدوين النصوص في الهند، لكن كل أعمال التيرافادا الباقية، المحفوظة في سيلان (سريلانكا حاليًّا) بدلًا من البر الرئيسي الهندي؛ مكتوبة باللغة البالية.)

كان اهتمام تقليد أبهيدارما منصَبًّا على (أبهي) دارما، وهذا «الاهتمام بالدارما» نشهده في أمرين؛ أولًا: ارتباطه بالفهم والتفسير القاطع للتعاليم (الدارما) ككلٍّ. وكانوا يرون أن هذا الأمر ضروري بسبب الطبيعة المبهمة أو الغامضة التي قُدِّمت بها تلك التعاليم في أول مرة؛ مما أدَّى إلى شعور البعض أن التقليد يحتاج إلى بعض التوضيح المنظَّم، فخضعت الكلمات والعبارات والجمل والتعاليم العقائدية لتحليلٍ دقيقٍ ودُوِّنت التعريفات والتفسيرات «الصحيحة». ثانيًا: حقَّق مفكرو أبهيدارما في طبيعة الواقع فيما يتعلق «بالدارمات»؛ فأي شيء موجود، أيًّا كانت طبيعته، يمكن أن يُشار إليه بحيادية وبلا إسناد على أنه دارما، وهذا يعني أن مصطلح دارما في حدِّ ذاته لا يَخلع على الأشياء التي يشير إليها أيَّةَ صفةٍ أو حالةٍ على الإطلاق. في الفصل الثالث رأينا المصطلح مستخدمًا بهذه الطريقة (باللغة البالية) في السطر الثالث من صيغة سمات الوجود الثلاث: «كل الدامَّات (الأشياء الممكنة معرفتها) ليست هي الذات.» وسعى مفكرو أبهيداما بعد ذلك إلى تحديد طبيعة الواقع في سياق تعاليم بوذا إلى حدٍّ كبير، على غرار ما سعَت لتنفيذه «فايشيشيكا سوترا» لصاحبها جوتاما في سياق الدارما الفيدية (واستخدام كلمة دارما في هذا الصدد يُعدُّ مثيرًا للالتباس، لكنَّه يمثِّل أحد المعاني الأخرى المستخدمة لكلمة دارما).

الدارما مرة أخرى

في الفكر البرهمي، تعني الدارما كلًّا من النظام الكوني والواجب الشخصي للفرد، كما شرحنا في الفصل الرابع. وفي البوذية، للدارما («الدامَّا» باللغة البالية) معنيان مهمَّان؛ أولًا: تشير إلى تعاليم بوذا؛ فلكي يصبح المرء بوذيًّا، فإنه يوافق على «الالْتجاء» إلى بوذا (أي قبوله واحترامه والولاء له) وتعاليمِهِ (الدارما) وجماعته. ثانيًا: وعلى قدرٍ أكبر من الأهمية بالنسبة لنا في هذا السياق، يُستخدَم مصطلح الدارما للإشارة بشكل عام وغير محدد إلى «كل شيء»، دون تحديد أي شيء عنه. إنه مصطلح مَظَلِّي، ينطبق على الملموس أو المجرد، والحاضر أو الماضي، والحسي أو التصوري، والذاتي أو الموضوعي، والحي أو الجماد، والعضوي أو غير العضوي، وهكذا. وقد ظهر المصطلح لأوَّل مرة بهذه الطريقة في المبدأ البوذي القديم الذي يقول: «كل الدارمات أناتا (ليست ذات).» الذي ناقشناه في الفصل الثالث.

لم يرفض أتباع مدرسة سوترانتيكا مشروعيَّة الجهود التي بذلها أتباع الأبهيدارما، لكنَّهم منحوا الأولوية لتحليلِ وفهْم طبيعة الواقع كما هو موضَّح في التعاليم الموجودة في الأطروحات العقائدية القديمة (المعروفة باسم السوترات)، بدلًا من تطوير تقليد اسكولاستي. وركَّز تحليلهم على شرح العلاقة بين الإدراك المعرفي للعالم من منظور الشخص وبين الاستمرارية الكارمية. وقالوا إن مكونات هذه العملية التجريبية (الدارمات) غير دائمة، ومتغيرة، و«لحظية»، وليس لها أي نوع من الوجود المتأصِّل. وبتبني هذا الموقف اشتبكَ أتباعُ مدرسة سوترانتيكا مع أتباع مدرسة سارفاستيفادا على وجه الخصوص، الذين تستند رؤيتهم للعالم إلى الأبهيدارما الخاصة بهم استنادًا تامًّا، تلك الأبهيدارما التي تمثِّل عملًا شاملًا يسعى إلى إثبات أن «كل شيء موجود»، وهذا هو معنى «سارفا أستي».

واستكمالًا للتحقيقات فقد ربط أتباع الأبهيدارما لكلتا المدرستين مبدأ «اللاذات» عمليًّا وعلى نحو حصري بالبشر بدلًا من كل أشكال الدارما على حدٍّ سواء. وفعلوا ذلك من خلال قول إن البشر لا يتكوَّنون من ذات مستقلة بل يتكونون من خمسة أجزاء مكوِّنة متعايشة معًا تُسمَّى «سكاندات» («كاندات» باللغة البالية)؛ وهي التركيبة الخماسية نفسها التي فسَّرناها في الفصل الثالث باعتبارها الملكات المعرفية. تلك المكونات نفسها كانت خاضعة لتحليل الدارما، لكنَّها كوَّنت المبدأ الذي بموجبه رفض البوذيون أي زعم من قِبَل الآخرين يقول بوجود أيِّ نوع من الذاتية البشرية المستقلة أو الدائمة.

وكان أتباع مدرسة سارفاستيفادا منشغلين أيضًا بالتفكير على وجه الخصوص في حالةِ واقعيةِ الدارما فيما يتعلَّق بالاستمرارية؛ فانشغلوا بعدة أسئلة من قبيل: كيف يمكن أن يُوجد أي رابط سببي بين دارمات غير دائمة؟ كيف يمكن للمرء فهم العلاقة التبادلية بين عدم الديمومة والاستمرارية؟ وأجابوا عن هذه الأسئلة بأن زعموا أنه على الرغم من أن كل الدارمات مؤقتة، وأنها توجد لوقتٍ يكفي فقط لإحداث الاستمرارية، فإنها توجد أيضًا بالفعل في كلِّ «الأنماط الزمنية»؛ في الماضي، وفي الحاضر، وفي المستقبل. وعزَوْا إلى الدارما «جوهرًا» مستمرًّا أساسيًّا («سفابهافا»، «وجود ذاتي»)، وتمادَوْا حتى وصفوها بأنها «مواد».

وأجرى أتباع أبهيدارما تيرافادا تحقيقهم عن الدارمات ليس فيما يتعلق بالأنماط الزمنية ولكن من خلال تصنيف كل جوانب التجارب فيما يتعلق بأنواع الدارمات. وبهذه الطريقة سعَوْا إلى فهم سبب وجود فوارق مهمة، من الناحية الظواهرية، بين الجوانب المادية والمعنوية للتجربة على سبيل المثال. وفي العموم، يصنِّف مفكرو التيرافادا الدارمات إلى حوالي ٢٨ فئة «مادية» و٥٢ فئة «ذهنية»، بالإضافة إلى الوعي. وكان هدف الممارسين هو تعلُّم ملاحظة وتحليل تلك الدارمات في حالات التأمُّل، وبهذه الطريقة يصبح اكتساب البصيرة أكثر سهولة.

تراجع البوذية في الهند

على مدار ما يقرب من ألف سنة بعد وفاة بوذا، ازدهرت البوذية في الهند. وخلال حكم الملك الماوري أشوكا، في القرن الثالث قبل الميلاد، أصبحت البوذية الدينَ الرسميَّ للهند، وأُغدق المال ببذخ على جماعات الرهبان البوذيين؛ وأدَّى هذا إلى تشكيل قاعدة قوية لجماعات الرهبان مكَّنت من تكاثر الأفكار فيها وانتشار التعاليم البوذية منها. وعلى مدار قرون، لعب الفكر البوذي دورًا كبيرًا في الحياة الدينية الفلسفية في الهند، وأسهم بمجموعة من الأفكار الجديدة والمعقدة، وكذلك الآراء النقدية ووجهات النظر، ونُقل الكثير من هذه الأفكار والآراء النقدية ووجهات النظر إلى دولٍ أخرى مثل سيلان (سريلانكا حاليًّا)، والصين، والتبت (ومن خلال هذه البلدان وصلت إلى جنوب شرق آسيا وإلى الشرق الأقصى)؛ مما جعل البوذية إحدى الديانات الكبرى في العالم، ولا يُعرف على وجه التحديد كيف أو لماذا انتهت البوذية فعليًّا في الهند. ويوجد عدد من الاحتمالات؛ من بينها أن عدد الرهبان البوذيين قد أضحى أكبر بكثير من عدد العوام الذين يعتنقون الديانة؛ ومن ثمَّ لم تَعُدْ قادرة على الاستمرار، ومن المحتمل أن يكون انتشار الطوائف الدينية داخل ما نطلق عليه حاليًّا الهندوسية قد جذب الكثيرين بعيدًا عن البوذية، ومن المحتمل أن تكون حياة الرهبان في الأدْيِرة قد شهدت نوعًا من التدهور استمرَّ لفترة طويلة؛ مما أدى إلى تدمير الديانة ذاتيًّا. ومن المؤكد أنه عندما استقرَّ المسلمون في الهند، من القرن الثامن الميلادي فصاعدًا، تمكَّنوا دون صعوبة من إزالة بقايا البوذية في الهند، وفي ذلك الوقت كانت الأديرة البوذية عُرضةً للدمار الشامل الذي عانت منه على يدِ محطِّمي الأصنام المسلمين.

وعلى الرغم من أن تيرافادا لم تنسب مطلقًا أيَّ نوع من الجوهر للدارمات بأيِّ شكل من الأشكال، مثلما فعلت مدرسة سارفاستيفادا؛ فإن كلتا المدرستين ذواتَي الأبهيدارمات تَحَدَّتا أتباع نيايا فايشيشيكا فيما يتعلق بطريقة فهمهم للعلاقة بين المظهر المعرفي للأشياء وحالتها الوجودية، بالإضافة إلى حالة الصفات، والخصائص العامة والخاصة، وهكذا. وركَّز نقد الأبهيدارما على الطبيعة والكمية الوافرة من الذرات التي يفترضها أتباع نيايا فايشيشيكا. وقال أتباع المدرستين إنه من الخطأ ومن غير الضروري تصنيف عدد كبير من العوامل كأنواع منفصلة من الذرات، فالصفات والخصائص العامة على سبيل المثال كانت جزءًا من الحدث المعرفي — جزءًا ضروريًّا بالنسبة له، لكنها ليست فئات وجودية منفصلة. وفي نقدهم للاستقلالية والأبدية المطلقة للذرات، ركَّزت إحدى الحُجج الأساسية لأتباع أبهيدارما على استحالة انضمام ذراتٍ غير مكوَّنة من أجزاء بعضها مع بعض لتكوين الأشياء المختلفة التي نشهدها، فإذا كانت الذرات غير مكوَّنة من أجزاء، فكيف يمكن لجزء من الذرة س أن يلتصق أو ينضم إلى جزء من الذرة ص؟ علاوة على ذلك، فقد نفَوا الزَّعم بأن الإدراك هو ما يكوِّن الحقيقة الأبدية للمدركات، وكذلك نفَوْا أن المدرَكات عبارة عن ذرات تندمج معًا لتكوين كيانات كليَّة «خاصة» منفصلة على نحوٍ واضح، أما الزَّعم الآخر الذي أوضحه أتباع أبهيدارما فقد نفى إمكانية إدراك الأجزاء بالإضافة إلى الكليات نفيًا مطلقًا. وعلى أي حال، فأي شيء ندركه لديه حالة ظواهرية مؤقتة فحسب. ويضم تراث كتابات نيايا فايشيشيكا ردودًا على تلك الآراء النقدية وغيرها، ويوضِّح الطريقة التي عدَّلوا بها أو أكَّدوا بها على بعض النقاط العقائدية الخاصة بهم بناءً على ذلك.

ونظرًا لأن مفكري الأبهيدارما ورثوا من المراحل الأولية للبوذية تعاليمَ كانت أبعد ما تكون عن الوضوح الفلسفي، وكانت على أية حالٍ مهتمةً في المقام الأول بالفعالية الخلاصية التي تحققها؛ فقد تعامل مفكرو الأبهيدارما مع موقفين متلازمين، تمثَّل الموقف الأول في اعتقادهم أن التقليد البوذي الذي يتَّسع نطاق انتشاره كان في حاجة إلى أن يقدِّم لأعضائه الممارسين تمثيلًا لتعاليمه يتَّسم بقدر أكبر من التفصيل والمنهجية؛ لتحل التفسيرات القاطعة محلَّ الغموض العقائدي، وفعلوا ذلك من خلال الاستعانة بمجموعة معايير تِقنية بدايةً من التحليل اللغوي وحتى الممارسات التأمُّلية. أما الموقف الثاني فكان اكتساب الميل إلى تقديم التعاليم على نحوٍ منهجيٍّ لإثبات صحة وترابط تلك المعايير بالنسبة لهم، وليمكنهم أيضًا من التعامل على نحوٍ أسهل مع المزاعم المعارضة التي يطرحها الغرباء حول موضوعات مشابهة. وإلى حدٍّ ما، كان مفكرو الأبهيدارما مجبرين تقريبًا على اتِّباع نظام معين يقوم على تحليلِ وتصنيفِ الدارمات إلى فئاتٍ كي تصبح تعاليمهم من الممكن مقارنتها بتعاليم مفكري نيايا فايشيشيكا.

الخواء وكمال الحكمة

لذا فمن المحتمل، إلى حدٍّ كبير، أن يكون طابع نصوص الأبهيدارمات يُظهر تفاعلَ مدارسَ فكريةٍ مختلفة، والطريقة التي انتهجتها لتقديم وجهات نظرها بطريقة متَّفقة مع طرق عرض الآخرين. وعلى الرغم من أن البوذيين قدَّموا بالفعل نقدًا لآراء نيايا فايشيشيكا، فما حدث مع مرور الوقت هو أن دارمات الأبهيدارمات أصبحت واقعية على نحوٍ متزايد؛ فالأشياء التي كانت مفهومة في البداية بطريقة مجردة إلى حد ما اكتسبت تدريجيًّا مكانة «الأشياء» المتعددة والواقعية. وفي ضوء عدم الواقعية التي ميَّزت التعاليم البوذية القديمة، فإن هذا التجسيد قدَّم دعوة مفتوحة لرأي ناقد جادٍّ لموقف الأبهيدارمات. وعندما ظهر ذلك، جاء من داخل التقليد البوذي، وأسهم في ظهور ما أُطلق عليه بوذية الماهايانا، وهي حركة بوذية شاملة سعَت إلى وضْع فهم لتعاليم بوذا يكون أقلَّ مراوغة ويمثل فهمًا قاطعًا مقارنةً بما قدمته الأبهيدارمات. والمراحل الأولى لهذه الحركة نجدها ممثَّلة في الأدبيات المعروفة باسم «أطروحات حول كمال الحكمة» («سوترات براجنياباراميتا»). واستهدفت تلك النصوص نظريات الدارما الخاصة بالأبهيدارمات، وأوضحت أنها مناقضة للمبدأ الذي ينصُّ على أن كل الأشياء نشأت معتمدة بعضها على بعض؛ ولذلك فإنها تفتقر تمامًا إلى الجوهر. واعترف كُتَّاب كمال الحكمة بأن أسلافهم فهموا على نحوٍ صحيحٍ الطبيعةَ غيرَ الجوهرية للذات البشرية، لكنهم زعموا أنهم فشلوا تمامًا في فهم الطبيعة العامة لمعتقَد «اللاذات». وعلى هذا النحو، فقد زعم كُتَّاب كمال الحكمة امتلاكَهم لقدرٍ «أعلى» و«أكثر صحة» من البصيرة أو الحكمة؛ ولذلك زعموا أن تعاليمهم تمثِّل «الطريق الأعلى»، وهذا هو معنى ماهايانا.

وعندما قدَّموا نقدهم للأبهيدارمات، كان كُتَّاب كمال الحكمة أوفرَ حظًّا من بوذا؛ حيث إنهم لم يزاولوا نقدهم في ظلِّ مجتمعٍ يسوده مبدأ البرهميين الجديد الذي يزعم أن البشر لديهم ذات جوهرية (أتمان) متطابقة مع جوهر الكون (براهمان)؛ ولذلك أصبح هؤلاء البوذيون المتأخرون أحرارًا في تقديم صياغتهم لمبدأ بوذا بطريقة لم تذكر الذات، بل قالوا إن كل الأشياء (الدارمات) خاوية («شونيا») من «الوجود الذاتي» (سفابهافا). وهذا المصطلح الحيادي («الخواء») جعل المبدأ أقلَّ عُرضةً للتخصيص الذاتي، وجعل إمكانية تطبيقه على نطاق عامٍّ ممكنة الفهم إلى حدٍّ كبيرٍ من الناحية المفاهيمية.

الطريقُ الوسطيُّ لنارجارجونا

لم يمرَّ وقت طويل بعد أن بدأت نصوص كمال الحكمة في الظهور حتى قدَّم ناجارجونا نقده المدمِّر تمامًا لأيِّ نوع من أنواع الواقعية أو التعددية، وناجارجونا هو مفكِّر بوذي نجيب عاش في القرن الثاني الميلادي. ويُطلق على عمل ناجارجونا الرائد «مادياماكا كاريكا»، وتعني «كتابات حول الطريق الوسطي»، ومن هذا الاسم أيضًا اشتُق اسم مدرسة مادياماكا الفكرية المرتبطة به. ومنذ الآيات الافتتاحية للمادياماكا كاريكا يتضح أن ناجارجونا كان يعتقد أنه يقدِّم تفسيرًا لتعاليم بوذا بدلًا من وضع نظرة فلسفية خاصة به، ويتضح أيضًا أنه يعتقد أن المعنى المحوري لتعاليم بوذا يُوجد في مبدأ النشأة المعتمدة؛ وهذا المبدأ يلخِّص المقصود ﺑ «الطريق الوسطي». ويوضِّح ناجارجونا أن هذا مرتبط بتعاليم كمال الحكمة؛ لأن «النشأة المعتمدة هي تلك التي نشير إليها باسم «الخواء»، وهذا هو الطريق الوسطي» («مادياماكا كاريكا»، المجلد ٢٤). وهذا يعني (كما يمكن للمرء أن يرى كيف أن هذا الكلام يُعدُّ تكرارًا لتعاليم بوذا المذكورة في الفصل الثالث) أن الأشياء معتمدة النشأة تكون «خاوية» من «الجوهر الذاتي» (أي الوجود المستقل).

يمكن تطبيق رأي ناجارجونا الناقد للتعددية على ذرات نيايا فايشيشيكا بقدر ما يمكن تطبيقه على الحالة الوجودية الغامضة لفئات الدارما التابعة للأبهيدارمات (ولا سيما أبهيدارمات سارفاستيفادا التي أُعزيَ إليها جوهرٌ أو «وجود ذاتي» — سفابهافا). ومع ذلك، فمن المرجح أن هدفه الأساسي كان تعديل ما رآه انحرافًا لدى متَّبعي المدرسة الأخيرة في تقديمهم للتعاليم البوذية. وفي تناوله لاهتمامهم بالدارما، ذكر أن الدارما ليست فقط غير مالكة لأي نوع من «الوجود الذاتي»، ولكن أيضًا من المستحيل أن يوجد أي نوع من الدارما له «وجود ذاتي». ويبدأ نقده بالعبارة الراديكالية: «لا توجد أي كيانات في أي مكان وبأية طريقة تنشأ من تلقاء نفسها، أو من شيء آخر، أو من الاثنين، أو تنشأ تلقائيًّا.» («مادياماكا كاريكا» ١). في هذه العبارة لم يكن ناجارجونا يقول أو يرغب في إثبات عدمية الوجود، وإنما كان اهتمامه منصبًّا على إثبات التداعيات الوجودية للنشأة المعتمدة من أجل فهم حالة الموجودات على نحوٍ سليم. وكان ناجارجونا مؤمنًا بأن ثمَّة مصطلحات مثل «الوجود» (كما في «الوجود الذاتي» — والذي يمكن أن نطلق عليه «الكيان» أو «الشيء») كانت تُستخدم بحيث تُلمِح خطأً إلى الوجود المستقل لما تشير إليه، وأن فكرة وجود قانون سببي يعمل بين الكيانات كانت فكرة مغلوطة. وكان نقده موجهًا لتوضيح هذه النقاط. ما قاله ناجارجونا في هذا الصدد يمكن فهمه على نحوٍ أفضل على أربع مراحل كالتالي: (١) ليس الأمر أن الشيء «ذاتي الوجود» ينتج من تلقاء نفسه. (٢) ليس الأمر أن ذلك الشيء «ذاتي الوجود» ينتج من شيء آخر غير نفسه. (٣) ليس ممكنًا بالطبع أن ينتج من كلٍّ من نفسه ومن غيره. والمعنى الضمني لهذه المراحل هو أنه من غير المنطقي اعتقاد أن أي شيء «ذاتي الوجود» يمكن أن يأتي من خلال أسباب أو شروط؛ لأن الكيان المسبَّب أو المشروط سيكون تابعًا؛ ووجود «كائن تابع ذاتي الوجود» هو أمر غير منطقي، ولا يوجد مسبِّب «آخر» مستقلُّ الوجود على أية حال (وهذا أمر مكرَّر في مادياماكا كاريكا في المجلد ١٥). (٤) والمرحلة الأخيرة هي استحالة النشأة العفوية للأشياء «ذاتية الوجود»؛ لأنه لو كان هذا هو الحال لكان العالم فوضى عشوائية، وهو ليس كذلك. وأضاف المعلقون على ناجارجونا تفسيرات إضافية فقالوا لو أن شيئًا أنتج نفسه في هذا العالم فسوف يؤدي ذلك إلى سلسلة إنتاج مستمرة لا يمكن إيقافها تُنْتِج الشيء نفسه، ومن المستحيل أن شيئًا «ذاتي الوجود» ذا طبيعة محدَّدة يُنْتِج شيئًا آخر «ذاتي الوجود» ذا طبيعة مختلفة تمامًا؛ فأين يمكن أن يكمن الرابط المسبب؟ كما أن مزيجًا من هذين النمطين من الإنتاج سوف يعاني من كلا النوعين من المشاكل.

وعلى هذا النحو فالنشأة المعتمدة ليست نظرية عن السببية متعلقة بنشأة عالم واقعي على نحوٍ تعددي، فالعالم الذي تكون فيه النشأة المعتمدة عاملًا فعالًا لديه حالة وجودية مختلفة؛ هو عالم «الخواء». ولا يمكن فهم ذلك العالم في ضوء الوجود أو عدم الوجود؛ لأن أيًّا من هاتين الحالتين لا تنطبق عليه؛ فالوجود لا ينطبق عليه لأن المعنى التصوري للوجود يفترض عالمًا واقعيًّا على نحو تعددي، ولو كان العالم على هذه الشاكلة لكان ثابتًا وغير متغير للأبد. وكما يشير ناجارجونا فهذا يرجع، إلى حدٍّ كبير، إلى عدم إمكانية عمل أي قانون سببي في مثل هذا العالم؛ فالمكونات المستقلة لا يمكن أن تكون تابعة على نحو سببي. ولا ينطبق عدم الوجود على العالم؛ لأنه من خلال النشأة المعتمدة نشهد العالم الظواهري. وهنا يقدِّم ناجارجونا فكرة «الحقيقتين»؛ الحقيقة الاصطلاحية أو العرفية والحقيقة المطلقة، وترتبط الحقيقة الاصطلاحية بالعالم التجريبي الذي نعيش فيه، أما الحقيقة المطلقة فترتبط بالأشياء «كما هي في واقع الأمر».

حقيقتان ومنطق الخواء

العالم التجريبي الذي نشهده ليس عالمًا غيرَ واقعي؛ فنحن نشهده في واقع الأمر. ورغم ذلك، فإن لم يتمكن المرء إلَّا من رؤيته من زاوية «الأشياء كما هي في واقع الأمر» أو من زاوية الحقيقة المطلقة (وهذا بالطبع هو المقصود تحقيقه من خلال اتباع الطريق البوذي؛ الوصول إلى التنوير)؛ فسوف يعرف المرء أن طبيعة حقيقته — حالته الوجودية — ليست تعدديةً مستقلةً كما تبدو لنا. وبدلًا من ذلك، فما نرى أنه تعددية مستقلة هو في واقع الأمر عالم مشروط وتابع — وهذا يعني في المطلق أنه اصطلاحي — ولذلك فهو «خاوٍ» من أي نوع من الجوهر أو «الوجود الذاتي». ومن هذا المنطلق فالعالم التجريبي الذي نألفه، والذي يتسم بمكونات تبدو منفصلة ومن ثَمَّ موجودة، هو كله جزء من المستوى الذي اصطُلح عليه للحقيقة؛ وهذا سببٌ آخر يفسِّر لماذا من الخطأ أن نسعى لفهم الأشياء كما هي في واقع الأمر (أي حقيقتها المطلقة) في ضوء أي معايير متعلقة ﺑ «الوجود». ويستطرد ناجارجونا فيقول إن إساءة فهم هذا الأمر، وافتراض أن الخواء يعني عدم الوجود، يؤديان إلى عدم فهم المبدأ العميق الذي أقرَّه بوذا، وهذا سوف يدمر الأشخاص ضِعاف العقول («مادياماكا كاريكا»، المجلد ٢٤). ويكمل قائلًا إن الخواء هو الاحتمالية الوجودية المنطقية الوحيدة لعالم الوجود التجريبي في واقع الأمر، فالتمسك بالواقعية التعددية يُعد أمرًا غير منطقي تمامًا؛ لأنه يحول دون وجود أية سببية وأي تغيير.

إن موقف ناجارجونا من الخواء كثيرًا ما يُشار إليه عن طريق الصيغة الرباعية (الموجودة فيما سبق في النصوص المنسوبة لبوذا نفسه كما ذكرنا في الفصل الثالث)، تلك الصيغة التي تقول إنَّ من الخطأ التفكيرَ في أن أي شيء إما أنه موجود أو غير موجود، أو أنه موجود وغير موجود معًا، أو أنه ليس موجودًا وليس غير موجود. وقد كتب البوذيون والأكاديميون على حدٍّ سواء الكثير من الكتابات حول الطريقة التي يجب فهْم هذا المنطق بها بالضبط، ونتائج هذا الفهم، وما إذا كان سيقود على نحوٍ لا يمكن تغييره إلى قدرٍ من العدمية، أو ما إذا كان يجب أن يُعتبر مجردَ نقدٍ لمواقفِ الآخرين، وأنه لا يُتخذ موقفًا خاصًّا به. وفيما يخصُّ أهدافنا، أعتقد أنه من الأكثر إفادة أن نرى ذلك المنطق بمثابة طريقة للرفض الشامل لأيِّ موقف محتمَل للخصوم، ذلك الرفض الذي يستند إلى فكرة أساسية تتمثَّل في أن الشرط الأساسي لأية نظرية وجودية مقدَّمة حول الوجود أو عدم الوجود؛ هو الاستناد إلى إطار مفاهيمي يقوم على الحقيقة المعتادة فحسب. ومن وجهة نظر الحقيقة المطلقة فمن ثَمَّ هذا لا يمكن أن يكون صحيحًا؛ لأن مجرد قول هذه الفكرة يجعلها مناقضةً لنفسها. ووفقًا لناجارجونا فإن أفضل طريقة، وما يجب أن يتطلع المرء إلى تحقيقه إذا أراد أن يفهم طبيعة الحقيقة هو «إيقاف كل التفريقات اللفظية». فكل ما نتلفَّظ به من ألفاظ حول الحقيقة محتوم عليه بأن يكون زائفًا بسبب زيف أطروحات العالم المعتاد الذي تعمل فيه هذه التعبيرات اللفظية؛ ولذلك يجب أن يسعى المرء إلى اكتساب الرؤية غير المنظمة على ضوء تلك المصطلحات (وهذا هو هدف مبادئ التأمل). ومن هذا المنطلق، يدرك الناس أن «الخواء» نفسه أمر معتاد وليس كيانًا غير لفظي متساميًا مستقل الوجود.

الخواء يؤكد العالم كما نعرفه

وردًّا على المعترض الذي يقول إنه إذا كانت كل الأشياء خاوية فلا شيء موجود، وإن ناجارجونا في طرح وجهة نظر الخواء ينكر وجود بوذا وتعاليمه؛ يقول ناجارجونا:

عند قول هذا، يبدو واضحًا أنك لا تفهم الخواء، وأنك تعذِّب نفسك بلا داعٍ حول عدم الوجود. يجب أن يفهم المرء طبيعة الواقع في ضوء حقيقتين: حقيقة اصطلاحية وحقيقة مطلقة. وهذا هو المبدأ العميق لبوذا، الذي سوف يدمِّر أصحاب الذكاء الضعيف الذين يفهمون ذلك المبدأ على نحوٍ خاطئ. فقط إذا كان الخواء منطقيًّا يكون العالم التجريبي منطقيًّا؛ وبدون الخواء سيصبح العالم التجريبي عبثيًّا. وإذا قلتَ إن الكيانات واقعية على نحو مستقلٍّ فإنك تنكر احتمالية الظروف والعلاقات السببية. ولا شيء من الأشياء المألوفة بالنسبة لنا يمكن حدوثه إن لم تكن كل الأشياء تنشأ معتمدة بعضها على بعض (أي خاوية)؛ فلا شيء يمكن أن ينشأ أو يتوقف، ولا يمكن اكتساب معرفة أو التخلص من جهل، ولا يمكن ممارسة نشاط، ولا يمكن حدوث ميلاد أو موت، وسيكون كل شيء ثابتًا؛ إذا لم يغيِّر الشيء حالته. أنت، وليس أنا، من يفترض عدم وجود العالم كما نعرفه، وإذا أنكرت الخواء فإنك تنكر العالم. لكن الذين يرون حقيقة النشأة المعتمدة يرون العالم على حقيقته، ويفهمون مبدأ دوكها الذي قاله بوذا، ويفهمون نشأة تلك المعاناة وكيفية إيقافها.

«مادياماكا كاريكا»، الفصل ٢٤ (فقرة مُعادة صياغتها)
ملحوظة: النقطة الأخيرة تمثِّل تطابقًا في معنَى ما يقوله ناجارجونا مع ما قاله بوذا في الحقائق النبيلة.

ويكتب ناجارجونا عن «خواء الخواء»؛ وهو وصف وليس مستوًى أساسيًّا. علاوة على ذلك، لا يوجد فرق وجودي بين مستويات الحقيقة؛ فالفارق الوحيد هو فارق تجريبي. ولأنه طالما ظلَّ الفرد جاهلًا بطبيعة الأشياء، سيظل خاضعًا للتجارب ولمعايير الحقيقة الاصطلاحية. وعندما يكتسب المرء البصيرة، سيرى الاصطلاحية ويفهم الخواء. وفي تناقض كامل مع مؤوِّلي النصوص الفيدية ومع كتابات نيايا فايشيشيكا، يرى ناجارجونا أن ما تفترضه اللغة ليس حقيقة تعددية على نحوٍ متسامٍ، بل إنها تفترض عالمًا يجب «النظر إلى ما وراءه» إذا أراد المرء أن يدرك الحقيقة المطلقة.

إيقاف التفريق اللفظي

فكرة «الكيان» و«عدم الكيان»، و«الوجود» و«عدم الوجود»، في حدِّ ذاتها جزءٌ من توجُّه خاطئ تجاه العالم التجريبي للحقيقة الاصطلاحية؛ ولذلك فليس الإيجابي ولا السلبي حقيقيًّا. وليس من الممكن أن يكون لأي شيء هويتان في الوقت نفسه تحت أيِّ ظرف، فكونه شيئًا يتعارض مع كونه شيئًا آخر. وكون الشيء «ليس الشيءَ الأول وليس الآخرَ» يكُون له معنًى فقط إذا كانت الفرضيات الأوَّلية صحيحة، وهي ليست كذلك في هذه الحالة. وليس صحيحًا تحت أي مستوًى من مستويات الصحة التفكير في الأشياء باعتبار أنها موجودة أو غير موجودة، أو موجودة وغير موجودة، أو ليست موجودة وليست غير موجودة؛ فمثل هذه القناعات خاطئة على المستوى الاصطلاحي وغير ممكنة التطبيق على المستوى المطلق. ونظرًا لأن كل الدارمات خاوية، فماذا يمكن أن يوجد ويتَّسم بأنه نهائي أو غير نهائي أو كلاهما، أو ليس أيًّا منهما؟ ماذا يمكن أن يوجد ويتَّسم بالأبدية أو الوقتية، أو كلتيهما أو لا شيء منهما؟ إن البصيرة المحرَّرة تأتي مع إيقاف مثل هذه التفريقات اللفظية، فبوذا لم يدرِّس مطلقًا أي شخص عن هذه «الأشياء»، بل درَّس التفريق اللفظي فقط.

«مادياماكا كاريكا»، المجلد ١١ (فقرة مُعادة صياغتها)

إن تطبيق «وسيلة المعرفة» الخاصة بناجارجونا يُعدُّ محفوفًا بالمخاطر إذا حاول المرء أن يكون متسقًا مع مستويَي الحقيقة؛ فكل الأنشطة الحسِّية والفكرية تحدث فقط على المستوى الاصطلاحي؛ ولذلك فلا شيء يأتي لنا من خلال هذا الإطار يمكن الاعتماد عليه. لكن ناجارجونا مُصِرٌّ على أن مستوى الحقيقة الاصطلاحي هو النطاق الذي فيه أو من خلاله نكتسب البصيرة، وأن واقعية ذلك المستوى هي ذات معنًى وفقًا للمعايير الخاصة لهذا المستوى. وفي هذا السياق، يمكن للمرء أن يرى أهمية المنطق بالنسبة له، إلا أن ناجارجونا، على النقيض من المنهجية المنطقية لمدرسة نيايا، يستخدم المنطق للتقليل من شأن الفرضية الأساسية التي تستند إليها كل وسائل المعرفة الخارجية الأخرى؛ أي الحقيقة الخارجية للعالم التجريبي. وسواء أكان ناجارجونا يحاول فقط التقليلَ من وجهاتِ نظرِ غيره ويجعلها سخيفةً على هذا النحو، أم أنه استخدم المنطق أيضًا لإثبات فرضيته القائلة بالخواء؛ فقد كان هذا إشكالًا قَسَّم أتباعه. وعلى هذا الأساس تأسَّست مدرستان فكريَّتان من مدرسة مادياماكا، وتناول هذين الموضوعين النقادُ المتأخرون، من داخل التقليد البوذي وخارجه.

الرؤى التنويرية لبوذا (تذكير)

(١) رؤية استمرارية حيواته السابقة التي قادت إلى حياته الحالية.

(٢) رؤية ميلاد وتكرار ميلاد الكائنات الأخرى في ظروفٍ تحددها أفعالهم.

(٣) رؤية كيفيَّة التخلُّص من أعمق الميول الاستمرارية المُقيِّدة، وهذه الميول هي التالية:

(أ) كل الرغبات الحسِّية.

(ب) الرغبة في استمرار البقاء.

(ﺟ) الجهل.

(د) «التمسك بالآراء». (بتصرُّف من المؤلف.)

العقل فقط

بعد قرنين من حياة ناجارجونا، ظهرت مدرسةٌ مهمة لا تنتمي لفكر مدرسة المادياماكا، وكانت هذه المدرسة هي شيتا ماترا («العقل فقط») أو يوجا كارا («ممارسة اليوجا»). ارتبطت في مراحلها الأولى بأخوين اسماهما أسانجا وفاسوباندو، عاشا في القرن الرابع الميلادي، وسعى منهج هذه المدرسة إلى تصحيح تجسيد الدارمات التي قالت بها الأبهيدارما، لكنها اختلفت عن المادياماكا في أمرين واضحين: تمثَّل الأول في تركيزها على وجه التحديد على تحليل العمليات العقلية، وتمثَّل الأمر الثاني في اهتمامها بتقديم البوذية بطريقة رأَت أنها أقلُّ سلبية؛ فقد اعتقد البعض أن مبدأ الخواء الذي قدَّمته سوترات كمال الحكمة ومفكرو مادياماكا كان غيرَ جذَّاب، ومن المحتمل أن يحمل دلالات عدمية خادعة، وأنه يصرف الانتباه عن الممارسة الفعلية المتمثلة في فهم حالات التأمل بغية اكتساب البصيرة المحررة.

وعمد منهج يوجا كارا، كما هو واضح في أطروحتَي «فيمشاتيكا» و«تريمشيكا» لصاحبهما فاسوباندو، إلى تحليل الأنواع المختلفة من «الحالة الذهنية»، أو «مجريات الوعي»، التي تمثِّل العالم التجريبي السابق لتنوير الفرد. وأجاب المنهج عن عدة أسئلة من بينها: ما الذي يحقق الاستمرارية في تلك الحالات الذهنية؟ كيف تعمل العملية الكارميَّة المتعلقة بتحمُّل عواقب أفعال الفرد؟ ما الذي يجعلنا جهلاء؟ ماذا يجب أن يحدث «كي يرى المرء الأشياء على حقيقتها»؟

وقالوا لنا إن المشكلة الأساسية تتمثَّل في أن العالم الذي يتشارك البشر في العيش فيه متمثلًا في ثنائية الذات والآخر، والذاتية والواقع المادي، و«المدرِك» و«المدرَك»؛ هو تكوين ذهني، كوَّنته «تحولات الوعي»، وهذا التكوين مفروض على واقعٍ حقيقته ليست كما تبدو عليه. وتسري الاستمرارية؛ لأن تحولات الوعي تبدو كما لو كانت تزرع «بذورًا» في «مخزن الوعي»، وتلك البذور تثمر في وقت لاحق في المستقبل، عندما تنتج التكوين الذهني الذي يكون في ذلك الوقت مشروطًا على نحو مترابط. وعندما يكون المرء غير متنور يكون لتجربة هذه العملية تركيبة الذاتية والواقع المادي المألوفة بالنسبة لنا، ويسري هذا التصوُّر لأن مخزن الوعي «ملوث» بالجهل؛ الجهل بالطبيعة الحقيقية للواقع. وتشكِّل هذه الملوثات، ذات الأنواع الكثيرة، السمات المختلفة لتجربتنا المشتركة، بالإضافة إلى السمات الخاصة بالفرد؛ نظرًا لإثمار «بذور» الكارما الخاصة به.

ومن أجل التغلُّب على الاستمرارية، واستنفاد وقود مخزن الوعي، إن جاز التعبير، يجب أن يخترق المرء التركيبة المعتادة للعمليات الذهنية المتمثلة في ثنائية الذاتية والواقع المادي، ويتمُّ ذلك من خلال المبادئ التأملية («يوجا كارا»)، ومن خلال فهم أن التجربة لها «ثلاثة جوانب»: الجانب الأول المألوف للغاية بالنسبة لنا هو الجانب «المكوَّن»؛ عالم الذاتية والواقع المادي المكوَّن ذهنيًّا، وفي هذا المستوى تكون السمة الأساسية هي سمة التجسيد، فهو عالم «واقعي على نحو مكوَّن». وجانب «التبعية» هو النشاط الذهني الأساسي الذي يمكن القول إن «البيانات الخام» للتجربة تخضع فيه للتحول، وهذا الجانب لا يمكن إنكاره؛ فالتجربة هي الأرضية المشتركة أو الحقيقة الأساسية المقبولة لدى كل البشر التي لا يمكن لأي قدرٍ من الحجج الفلسفية أن يدحضها. والجانب «المحسَّن» هو الغياب التام لأيِّ تكوينات ذهنية تعمل في ظل «تدفق» التجربة.

جوانب التجربة الثلاثة لفاسوباندو

(١) «الجانب المكوَّن»: عالم الذاتية والواقع المادي اليومي، الذي يضفيه نشاطنا الذهني على الواقع، ذلك الواقع الذي ليست حقيقته كما تبدو عليه؛ لأن عملياتنا الذهنية الخاصة هي ما تفسر هذا التكوين على أنه الحقيقة نفسها.

(٢) «الجانب التابع»: «البيانات الخام» الأساسية لتجربة الذاتية والواقع المادي التي تخضع للتحولات الذهنية وتصبح الجانب المكوَّن.

(٣) «الجانب المحسَّن»: تدفق البيانات التجريبية غير المتأثرة بالتحولات الذهنية. وهذا يجعل استبصار الواقع يظهر على حقيقته دون أي تكوين من الذاتية والواقع المادي.

ومن المهم ملاحظة عدة سمات في هذا التفسير؛ أولًا: عن طريق شرح كيفية نشأة عالم الموضوعية من خلال تحولات الوعي، ينكر التفسير ادِّعاءات مفكري نيايا فايشيشيكا وغيرهم ممن يقولون بأن إدراك الشيء هو ما يصنع الوجود المتسامي لهذا الشيء. ثانيًا: أنه يشرح حقيقة الاستمرارية التجريبية بطريقة «إيجابية» ومقبولة نفسيًّا؛ وذلك من خلال التأكيد على أن نقطة بداية حقيقة التجربة مألوفة بالنسبة لنا وليست مجردة. وكان هذا الأمر مهمًّا في هذا السياق المحير نفسيًّا (وغير المقبول بالنسبة للبعض)؛ سياق مبدأ «الخواء» كما قدَّمته مدرسة مادياماكا على نحوٍ أساسي. ثالثًا: من وجهة النظر الوجودية، يمكن فَهْمُ هذا الأمر إما على نحوٍ مجرَّد أو على نحو واقعي، وهذا يعني أن «بذور» الكارما و«مخزن الوعي» من الممكن اعتبارهما إما استعاراتٍ أو كياناتٍ فِعليَّة، والأمر نفسه ينطبق على فكرة «العقل فقط» ككل. ويمكن أن تتضمن البصيرة المحرَّرة مجرد إيقاف الأنشطة الذهنية التي، نظرًا لاستمرارها وقتًا طويلًا، تُوضَّح مجازيًّا بهذا التعبير «مخزن الوعي»؛ كما لو كانت عملية قيد الإنجاز؛ أو ربما تعني أن الكيان الفعلي «لمخزن الوعي» قد أصبح مُطهَّرًا، وأصبح لديه وجود مطهَّر مستمر. وبالمثل، فإن «تحولات الوعي» قد تعني آليات عمل الأنشطة الذهنية التي يشهدها كل شخص، تلك الأنشطة التي تنتمي لنوع غير محسوس تمامًا، أو ربما تشير إلى الوعي بوصفه، إلى حدٍّ ما، «مادة ذهنية» تتحوَّل إلى عالم التجربة على نحو أكثر واقعية، لتصبح أساسًا واقعيًّا. ومصطلح «العقل فقط» مناسب لكلا المنهجين المتمثلين في الحاجة إلى فهم الأنشطة الذهنية للفرد من أجل اكتساب البصيرة المحرِّرة؛ وكذلك الزعم القائل إن العالم التجريبي يتكوَّن من مادة ذهنية.

التصورية

يقضي المذهب التصوري، كنوع من الوجودية، بأن «كل ما هو موجود هو العقل». وهذا يعني أن نوعًا من «المادة العقلية» يشكِّل الطبقة الأساسية للواقع، وأن هذا الواقع «يتحول» بطريقة ما عن طريق الأنشطة العقلية؛ ولذلك فإن كل ما نراه ليس هو الحقيقة؛ لأن ما نراه يتجسَّد في هيئة أشياء متفاوتة في درجات الكثافة؛ فنحن غير مدركين «للمادة العقلية» فحسب. ونظرًا للوجود الفعلي «للمادة العقلية»، فإن المدرسة التصورية لا تقول: «لا يوجد أي شيء.» ولهذا السبب قد يكون من التضليل وصفها بأنها «وهمٌ». إن التصورية هي النقيض التام لكل أشكال الواقعية التعددية؛ فالواقعية التعددية تؤكد أن تعددية ما نراه هي حقيقة متسامية، بينما تنفي التصورية أن تكون هذه هي حقيقة الأمر.

وانقسم بُوذِيُّو يوجا كارا أنفسهم، وكذلك الأكاديميون المتخصصون في البوذية، حول هذا الموضوع الأخير. وفي إطار التقليد أدَّى اختلاف المناهج إلى تأسيس مدارس مختلفة من بوذية يوجا كارا. واختلف الأكاديميون حول ما إذا كان التقليد تصوريًّا دائمًا في نظرته الوجودية (يوجد مادة ذهنية فحسب)، أم أنه بدأ كاستقصاء للأنشطة الذهنية مُنَحِّيًا الموضوعات الوجودية جانبًا، وتطوَّر إلى مدرسة تصورية لاحقًا. والنصوص الأولية غامضة، وقابلة للتأويل على أيٍّ من الوجهين وعلى نحوٍ مقنع منطقيًّا. ورغم ذلك، فجدير بالملاحظة أنه لو كان فاسوباندو يشير إلى استقصاء غير وجودي لعمليات معرفية ذاتية، لأصبح مشتركًا في أمور كثيرة مع تعاليم البوذية القديمة ومع زعم ناجارجونا القائل بالتفريق اللفظي، رغم تقديم فاسوباندو له بطريقة مختلفة. وعلى النقيض من ذلك، فلو كان فاسوباندو يسعى إلى تأسيس وجودية تصورية، فسوف يمثل هذا تغييرًا كبيرًا في الاتجاه.

تطورات في الفكر البوذي

من تعاليم «بوذا»: «كل الدارمات «ليست ذوات»، توجد طبيعة معتادة للأشياء، فكل الأشياء تعتمد في نشأتها بعضها على بعض.»

حاول مفكِّرو «الأبهيدارما» فَهْم مزيد من الأمور المتعلقة بطبيعة الواقع فيما يتعلق بالدارمات.

صنَّف مفكِّرو «أبهيدارما تيرافادا» الدارمات إلى ٢٨ نوعًا «ماديًّا» و٥٢ نوعًا «ذهنيًّا»، بالإضافة إلى الوعي. وكانوا يهدفون إلى أن يساعد هذا التصنيف في تحليل الدارمات أثناء التأمل.

قال «مفكرو مدرسة سارفاستيفادا» إنَّ كلَّ الدارمات موجودة في حالات الماضي والحاضر والمستقبل. وعلى هذا النحو، فإن للدارمات نوعًا من الوجود اللحظي، أو نوعًا من «الكيان الذاتي».

مع مرور الوقت أصبحت دارمات مفكري «الأبهيدارما» مجسَّدة؛ إذ اكتسبت كيانًا واقعيًّا ومستمرًّا بوصفها «أشياء».

قال «ناجارجونا» إن كل الأشياء ليست «خاوية» فحسب، بل إنه من غير الممكن أن ينشأ أو يحدث أي كيان مستقل بأي طريقة على الإطلاق؛ ولذلك فإن «الخواء» طريقة أخرى للإشارة إلى النشأة المعتمدة. علاوة على ذلك، فالعالم كما نعرفه تدعمه فقط النشأة المعتمدة؛ وإنكار ذلك يُعدُّ إنكارًا للعالم.

سعى فكر «يوجا كارا» إلى تقديم ماورائيات الخواء المتعلقة بالعمليات الذهنية «التكوينية» للعالم كما نعرفه.

قدَّم فاسوباندو وأتباعه في تقليد يوجا كارا إسهامًا عظيمًا للفترة التي ازدهر فيها الخطاب البوذي، فبداية من ناجارجونا وعلى مدار عدة قرون، قدَّم المفكرون البوذيون بعضَ الأفكار والآراء النقدية المبدعة والمعقدة للغاية في المجتمع الهندي. وبصفة خاصة، فقد قدَّموا تحديًا جادًّا لأولئك الذين ينسبون الواقعية إلى العالم كما يبدو لنا من خلال تصوراتنا الحسية، وكما يبدو للوجود المستقل لذواتنا كمدرِكين. وبدلًا من ذلك، كان البوذيون مستعدين لاتِّباع النتائج المنطقية للبدء بالتشكيك في مصداقية العملية المعرفية كوسيلة للمعرفة المؤكَّدة مهما كانت تلك النتائج غريبة. وبعيدًا عن الأسلوب بالغ التعقيد والكتابة المبتَكَرة عن الخواء، عند الدفاع عن المبدأ الذي رأى أنه المبدأ الصحيح لبوذا، فما أسسه ناجارجونا للبوذية هو قوة الحجة المنطقية في دعم موقفها وآرائها الناقدة للآخرين. وأدى هذا إلى ازدهار تقليد ما يُطلق عليه «المنطق البوذي»، وفيه تناقش البوذيون مع الآخرين وساقوا الحجج المنطقية والتفنيدات حول أمور متعلقة بالدارمات وطبيعة الوجود على مستوًى تقني وبالغ التخصص في الناحية الفكرية. وكان من أبرز علماء المنطق البوذيين دينَّاجا، ودارماكيرتي، النابغة الذي وضع قواعد الجدل المنطقي في النقاش مع مفكري نيايا المتأخرين وغيرهم. وعلى الرغم من أن «المسلَّمات» والأهداف قد تكون متناقضة تناقضًا جذريًّا بين البوذيين وأتباع المدرسة الواقعية، فإن المناظرات الخاصة بكلٍّ منهما كانت ذات معنًى واهتمام متبادلين؛ لأن كلًّا منهما اتبع القواعد الموضوعة بينهما.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤