طبلية من السماء

أن ترى إنسانًا يجري في شارع من شوارع منية النصر، فذلك حادث، فالناس هناك نادرًا ما يجرون، ولماذا يجرون وليس في القرية ما يستحق الجري؟! المواعيد لا تُحسَب بالدقائق والثواني، والقطارات تتحرَّك في بطء الشمس، قطارٌ إذا طَلَعَتْ، وآخَر حين تتوسَّط السماء، ومع مغيبها يفوت واحد، ولا ضجيج هناك يُثِير الأعصاب ويدفع إلى التهوُّر والسرعة، كل شيء بطيء، هادئ عاقل، وكل شيء قانع مستمتع ببطئه وهدوئه ذاك، والسرعة غير مطلوبة أبدًا، والعجلة من الشيطان.

أن ترى واحدًا يجري في منية النصر، فذلك حادث، وكأنه صوت السيرينة في عربة بوليس النجدة، فلا بد أن وراء جرْيِه أمرًا مُثيرًا، وما أجمل أن يحدث في البلدة الهادئة البطيئة أمر مثير!

وفي يوم الجمعة ذاك، لم يكن واحد فقط هو الذي يجري في منية النصر، الواقع أنه كانت هناك حركة جري واسعة النطاق، ولم يكن أحد يعرف السبب، فالشوارع والأزِقَّة تسبح في هدوئها الأبدي، وينتابها ذلك الركود الذي يستتب في العادة بعد صلاة الجمعة حيث تُرَشُّ أرضُها بماء الغسيل المختلط بالرغوة والزهرة ورائحة الصابون الرخيص، وحيث النسوة في الداخل مشغولات بإعداد الغداء والرجال في الخارج يتسكَّعون ويتصعلكون إلى أن ينتهي إعداد الغداء، وإذا بهذا الهدوء كله يتعكَّر بسيقان ضخمة غليظة تجري وتهزُّ البيوت، ويمرُّ الجاري بجماعة جالسة أمام بيت فلا ينسى وهو يجري أن يُلقِي السلام، ويردُّ الجالسون سلامَه ويحاولون سؤاله عن سبب الجري، ولكنه يكون قد نفذ، حينئذٍ يقفون ويحاولون معرفة السبب، وطبعًا لا يستطيعون، وحينئذٍ يدفعهم حبُّ الاستطلاع إلى المشي، ثم يقترح أحدهم الإسراع فيُسرِعون ويجدون أنفسَهم آخِر الأمر يجرون، ولا ينسون أن يُلقوا السلام على جماعات الجالسين، فتَقِف الجماعات ولا تلبث أن تجد نفسَها تجري هي الأخرى.

غير أنه مهما غمُضَ السبب، فلا بد في النهاية أن يُعرَف، ولا بد أن يتجمَّع الناس في مكان الحادث بعد قليل؛ فالبلدة صغيرة، وألف مَن يدلُّك، وقبل أن تلهث تكون قد قطعْتَها طولًا وعرضًا.

وهكذا لم يمضِ وقت طويل حتى كان قد تجمَّع عند الجرن عدد كبير من الناس، كلُّ مَن في استطاعته الجري كان قد وصل، ولم يَبْقَ مبعثرًا في الطريق غير كبار السن والعواجيز الذين آثَروا التمشِّي حتى يَبْدُوا كبارًا في السن، وحتى يَبْدو ثمةَ فرقٌ بينهم وبين الشبَّان الصغار والعيال، ولكنهم كانوا أيضًا يُسرِعون وفي نيَّتهم أن يصلوا قبل فوات الأوان، وقبل أن يصبح الحادث خبرًا.

ومنية النصر كغيرها من بلاد الله الواسعة تتشاءم من يوم الجمعة، وأي حادث يقع فيه لا بد أنه كارثة أكيدة، ليس هذا فقط، بل إنهم، مبالغة في التشاؤم، لا يجرءون على القيام بأي عمل في هذا اليوم بالذات، مخافة أن يُصِيبه الفشل، وعلى هذا تؤجَّل الأعمال كلها إلى يوم السبت، وإذا سألتَ: لماذا هذا التشاؤم؟ قالوا لك: لأن في يوم الجمعة ساعة نحْس. ولكنَّ الظاهر أن السبب الحقيقي ليس هذا، والظاهر أن ساعة النحس هذه حجةٌ ليس إلَّا، ووسيلة يستطيع بها الفلاحون أن يؤجِّلوا عمل الجمعة إلى السبت، وبهذا يصبح يوم الجمعة راحةً، ولكن الراحة كلمة بشعة عند الفلاحين، الراحة إهانة لخشونتهم وقدرتهم الخارقة على العمل التي لا تكل، الراحة لا يحتاجها إلا أبناء المدن فقط ذوو اللحوم الطرية الذين يعملون في الظل، ومع هذا يلهثون، الراحة الأسبوعية بدعة إذن، إلَّا أن يكون يوم الجمعة شؤمًا وفيه ساعة نحس، وحينئذٍ فقط من الجائز أن تؤجَّل الأعمال لتتم في يوم السبت.

ولهذا كان الناس يتوقَّعون أن يكون سبب حركة الجري هذه مصيبة كبرى حلَّتْ بأحد، ولكنَّهم حين يصلون إلى الجرن لا يجدون بهيمة فطسَى ولا حريقًا قائمًا، ولا رجلًا يذبح رجلًا.

كانوا يجدون الشيخ عليًّا واقفًا في وسط الجرن، وهو في حالة غضب شديد وقد خلع جلبابه وعمامته وأمسك بعصاه وراح يهزُّها بعنف، وحين يسألون عن الحكاية، يقول لهم السابقون: «الشيخ ح يكفر»، وكان الناس حينئذٍ يضحكون، فلا ريب أن تلك نادرة أخرى من نوادر الشيخ علي الذي كان هو نفسه نادرة، فرأسه كبير كرأس الحمار، وعيناه واسعتان مستديرتان كعيون أم قويق، وله في ركن كل عين جلطة دم، وصوته إذا تكلَّم يخرج مبحوحًا مكتومًا كصوت الوابور إذا انكتم نفسه وشحر، ولم تكن له ابتسامة، فقد كان لا يبتسم أبدًا، إذا انبسط — ونادرًا ما ينبسط — قهقه، وإذا لم ينبسط كشر، وكلمة واحدة لا تُعجبه يتعكَّر دمُه حتى يستحيل إلى مازوت وينقضُّ على قائلِها، قد ينقض عليه بيده ذات الأصابع الغليظة كالصوامع، أو قد ينقضُّ عليه بعصاه، وعصاه كان لها عقفة، وكانت من خيزران غليظ، وكان لها كعب من حديد، وكان يحبُّها ويعزُّها ويسمِّيها الحكمدار.

أرسله أبوه ليتعلَّم في الأزهر، وهناك أخطأ شيخُه مرة وقال له: «إنت بغل!» فما كان من الشيخ إلَّا أن ردَّ عليه وقال: «إنت ستين بغل!» ولَمَّا رفدوه وعاد إلى منية النصر عمل خطيبًا للمسجد وإمامًا، ونسي ذات يوم وصلَّى الجمعة ثلاث ركعات، ولَمَّا حاوَل المصلُّون وراءَه تنبيهَه لعن آباءهم جميعًا وطلَّق من يومها الإمامةَ والجامعَ، ولأجل خاطِرهم طلَّق الصلاةَ، وتعلَّم الكوتشينة وظلَّ يلعبها حتى باع كلَّ ما يَمْلِكه، وحينئذٍ حلف بالطلاق أن يبطلها، وكان محمد أفندي المدرِّس بالمدرسة الابتدائية في البندر فاتحًا دكان بقالة في البلدة، عرض على الشيخ علي أن يقف في الدكان ساعات الصباح فقَبِل، ولكنه لم يعمل إلَّا ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع كان محمد أفندي واقفًا أمام الدكان يتصبَّب حلاوة طحينية، فقد اكتشف الشيخ علي أن محمد أفندي يضع قطعة حديد في الميزان ليطب، وقال له الشيخ علي: «إنت حرامي!» وما كاد محمد أفندي يقول: «لايِمْها يا شيخ علي، واسكت، وخليك تاكل عيش»، حتى قذَفَه الشيخ علي بكتلة الحلاوة الطحينية، ومن يومها لم يجرؤ أحدٌ على أن يعهد للشيخ علي بعمل، وحتى لو كان قد جرؤ، فالشيخ علي نفسُه لم يكن متحمِّسًا لأي عمل.

وكان هذا الشيخ علي قبيحًا، ضيِّقَ الصدْر، لا عمل له، ومع هذا لم يكن في البلدة مَن يكرهه، كان الجميع يحبونه ويعشقونه ويتداولون نوادِرَه، وألذُّ ساعة هي تلك التي يجلسون فيها حوله يستفزُّونه ليَغضَب، وغضَبُه كان يُضحِكهم، كان إذا غضب، واربدَّتْ ملامحه، وانكتم صوته، كان الواحد منهم لا يتمالَك نفسه ويموت من الضحك؟ ويظلون يستفزُّونه ويظل هو يغضب، ويضحكون حتى ينفضَّ المجلس، وعلى كل لسان كلمة: «الله يجازيك، يا شيخ علي!» ويتركونه وحيدًا ليصبَّ جامَ غضبِه على «أبو احمد»، فقد كان يُسمِّي الفقر «أبو احمد»، وكان يعتبره عدوَّه الوحيد اللدود، ويتحدَّث عنه كما لو كان آدميًّا موجودًا له اسم ولحم ودم، وكانتْ مجالِسُه تبدأ حين يسأله أحدهم: «أبو احمد عمل فيك إيه يا شيخ علي النهارده؟»

وكان الشيخ علي يغضب حينئذٍ غضبًا حقيقيًّا؛ ذلك لأنَّه لم يكن يحبُّ أن يحدِّثه أحد عن فقره، إذا تحدث هو كان به، أمَّا أن يتحدَّث الناس عن فقره فذلك شيء يدفع إلى الغضب! فالشيخ علي كان خجولًا جدًّا رغم قسوة ملامِحِه وكلامِه، وكان يفضِّل أن يبقَى أيامًا بلا دخان على أن يطلب من أحدهم أن يلف له سيجارة، وكان يحمل معه على الدوام إبرة وفتلة لرَتْق جلبابه إذا تمزَّق، وإذا اتَّسَخ ذهب بعيدًا عن البلدة وغسل ثيابَه وظلَّ عاريًا حتى تجفَّ؛ ولذلك كانت عمامته الوحيدة أنظف عمامة في البلدة.

كان حَرِيًّا إذن بأهل منية النصر أن يضحكوا من هذه النادرة الجديدة، ولكن الضحكات كانتْ تموت في الحال! والألسن تتراجع خائفة إلى الحلوق، وكأنما لدغتْها عقارب! فكلمة الكفر كلمة بشعة، والبلدة مثل غيرها من البلاد تحيا في أمان الله، فيها كل ما تحفل به سائر البلاد، الناس الطيبون الذين لا يعرفون إلَّا أعمالهم وبيوتهم، واللصوص الصغار الذين يسرقون كيزان الذرة، والكبار الذين ينقبون الزرائب ويسحبون البهائم من أنوفها بالخطاطيف، والتُّجَّار الذين يتاجرون بالمئات، وتُجَّار القروش، والنساء الْمُلْعَبات غير المعروفات، وأولئك المعروفات على نطاق البلدة كلِّها، والصادقون والكاذبون والخُفَراء، والمرضى والعوانس والصالحون، فيها كل ما تحفل به سائر البلاد، ولكن الجميع تجدهم في الجامع إذا أذَّن المؤذِّن للصلاة، ولا تجد واحدًا منهم فاطرًا في رمضان، وثمة قوانين مَرْعيَّة تنظِّم حياة الكل ويسمُّونها الأصول، فلا يتعدَّى اللص على لص، ولا أحدٌ يُعيِّر أحدًا بصنعته، ولا يجسُر واحدٌ على تحدِّي الشعور العام، وإذا بالشيخ علي يقِف ويُخاطِب اللهَ هكذا بلا إحم ولا دستور!

كانوا يضحكون قليلًا، ولكنهم ما يكادون يسمعون ما يقوله حتى يتولَّاهم وجوم.

كان رأسُه عاريًا، وشعره القصير يلمع بالعرق وبالشيب، والعصا الحكمدار في يمينه وعيناه تنفُثان حُمَمًا، وفي وجهه غضبٌ أحمق شديدٌ، وكان يقول موجِّهًا كلامَه إلى السماء: «إنت عايز مني إيه؟! تقدر تقول لي، إنت عايز مني إيه؟! الأزهر، وسبتُه عشان خاطر شوية المشايخ اللي عاملين أوصيا ع الدِّين، ومراتي، وطلقتها، والدار، وبعتها، وأبو احمد، وسلطته عليَّ دونًا عن بقية الناس! هو ما فيش في الدنيا دي كلها إلا اني؟! ما تنزِّل غضبك يا رب على تشرشل ولا زنهاور! مش قادر إلَّا عليَّ اني؟! عايز مني إيه دلوقت؟! المرات اللي فاتت كنت بتجوَّعْني يوم وباستحمل، واقول: «يا واد، كأننا في رمضان! واهو يوم وينفض»، المرة دي بقالي ماكلتش من أول امبارح العصر، وسجاير ممعييش سجاير بقالي أسبوع، ومزاج حد الله ما دقته بقالي عشرة ايام، وأنت بتقول فيه في الجنة عسل نحل وفواكه وأنهار لبن، ما بتدنيش منهم ليه؟! مستنِّي امَّا اموت م الجوع علشان أروح الجنة وآكل من خيرك؟! لا، يا سيدي، يفتح الله! احييني النهارده، وأبقى بعد كده ودِّيني مطرح ما تودِّيني! يا أخي، ما تبعد عني أبو احمد ده، ما تبعته أمريكا، هو كان انكتب عليَّ؟! أنت بتعذِّبني ليه؟! آنِي ما حِلْتِيش إلَّا الجلابية دي، والحكمدار، عايز مني إيه؟! يا تغدِّيني دلوقتي حالًا، يا تاخُدْني حداك على طول، ح اتغدِّيني والَّا لأ؟!»

كان الشيخ علي يقول هذا بانفعال رهيب، حتى لقد تكوَّم الزَّبَد فوق فمه، وطماه العرق، وامتلأ صوته بحقدٍ فاض عن حدِّه، وأهل منية النصر واقفون وقلوبهم تكاد تسقط من الرعب، كانوا خائفين أن يسوق الشيخ علي فيها ويكفر، ولم يكن هذا فقط مبعث خوفهم، فالكلمات التي يقولها الشيخ علي خطيرة، قد تُغضِب الله — سبحانه وتعالى — وقد تحلُّ ببلدهم من جرَّاء ذلك نقمة تأتي على الأخضر واليابس، كان كلام الشيخ علي يهدِّد البلدة الآمِنة كلَّها، وكان لا بد من إسكاته، وعلى هذا بدأ العُقَلاء يُطْلِقون من بعيد كلمات طيِّبات يرجون فيها من الشيخ علي أن يعود إليه رشده ويسكت، وترك الشيخ علي السماء قليلًا، والْتَفَتَ إليهم: «أسكت ليه؟! يا بلد دون، أسكت لَمَّا اموت م الجوع؟! أسكت ليه؟! خايفين على بيوتكم ونسوانكم وزرعكم، اللي حداه حاجة يخاف عليها، إنما انا مش خايف على حاجة، إن كان زعلان مني ياخدني، إنما ودِيني وما أعبد، إن جه حد ياخدني إن شالله يكون عزرائين لمدشدش على رأسه الحكمدار، وديني، ماني ساكت إلَّا امَّا يبعت لي مائدة من السما حالًا! أنا مش أقل من مريم! هي مهما كانت حُرْمة، إنما انا راجل، وهي ماكنتشي فقيرة، إنما انا أبو احمد طلَّع دِيني! وديني وما أعبد، ماني ساكت إلَّا أما يبعت لي حالًا مائدة!»

والْتَفَت الشيخ علي إلى السماء وقال: «هه! ح تبعتها حالًا دلوقتي، والا ما أخلي ولا أبقي حدًا إلا ما أقوله؟! مائدة حالًا! جوز فراخ، وطبق عسل نحل، ورصِّة عيش ساخن، على شرط عيش ساخن! واوع تنسى السلطة! وديني، لعادِد لغاية عشرة، وان ما نزلت المائدة ماني مخلي ولا مبقي.»

ومضى الشيخ علي يعد، وقلوب منية النصر تعد معه مقدَّمًا، والأعصاب قد بدأت تتوتر، وأصبح لا بد من عمل شيء لإيقاف الشيخ علي عند حده، واقترح أحدُهم أن يلْتَفَّ جماعة من شباب البلدة الأقوياء حوله ويوقعوه أرضًا، ويكمِّموا فاه، ويُعطوه علقةً لا ينساها، غير أن نظرة واحدة ألْقاها الشيخ علي مِن عينيه المشتعلتين بالغضب المجنون أذابت الاقتراح، فمن المستحيل أن ينالوا الشيخ علي قبل أن يخبط هو خبطة أو خبطتين برأس الحكمدار، وكل شاب قد قدَّر أن الخبطة ستكون من نصيبه، والذي يهدِّد بدشدشة رأس عزرائين كفيل بدشدشة رأس الواحد منهم؛ وعلى هذا ذاب الاقتراح.

وقال له أحدهم في فروغ بال: «ما انت طول عمرك جعان يا راجل! اشمعنى النهارده؟!»

وأصابتْه نظرة نارية من الشيخ علي، وأجابه: «المرة دي، يا عبد الجواد يا معصفر، الحكاية طالت!»

وزعق فيه آخَر: «طب يا أخي، لمَّا انت جعان مش تقول لنا واحنا نوكِّلك بدل الكلام الفارغ اللي انت قاعد تقوله ده؟!»

وهبَّ فيه الشيخ علي: «أني أطلب منكم؟! أني أشحت منكم يا بلد جعانة؟! دا انتو جعانين أكتر مني! أقوم أشحت منكم؟! أني جاي اطلب منه هو، واذا ما أدانيش ح اقدر اعرف شغلي.»

وقال له عبد الجواد: «ما كنت تشتغل يا أخي وتاكل، يخفى وجهك!»

وهنا بلغ الغضب بالشيخ علي منتهاه، وتزربن وراح يهتز ويصرخ، ووزَّع كلامه بين الجمع المحتشد عن بُعْد وبين السماء: «وانت مالك يا عبد الجواد يابن ست ابوها؟! مانيش مشتغل! مش عايز اشتغل! ما بعرفش اشتغل! مش لاقي شغل! هو شغلكو ده شغل؟! يا عالم بقر! دا شغلكو ده شغل حمير! واني مش حمار، أني ما أقدرش يتقطم وسطي طول النهار، ما اقدرشي اتعلَّق في الغيط زي البهيمة يا بهايم، يلعن أبوكو كلكو! مانيش مشتغل! والنبي لو حكمت اموت م الجوع ما اشتغل شغلكوا أبدًا.»

وكان غضبه شديدًا إلى الدرجة التي جعلت الناس تضحك بالرغم منها، وبرغم الموقف الرهيب الذي كانوا فيه.

وانتفض الشيخ علي انتفاضة عظيمة وقال: «هه! ح أعد لغاية عشرة والنبي إن ما بعت لي مائدة لكافر وعامل ما لا يُعمل.»

وكان واضحًا أن الشيخ علي حقيقة لن يتراجع، وأنه ينوي أن يلبخ، ويحدُث حينئذٍ ما لا تُحمَد عقباه.

وبدأ الشيخ علي يعد، وبدأت نقاط العرق تنبت على الجباه، وأصبح حَرُّ الظهر لا يُطاق، حتى إن بعضهم تهامَس أن النقمة لا بد قد بدأت تحل، وأنَّ ذلك الحرَّ الفظيع إنْ هو إلَّا مقدمة للحريق الهائل الذي سوف ينشب، ويأتي على كل القمح الواقف والمحصود.

وأخطأ أحدهم مرة وقال: «ما تشوفولوا لقمة يا ولاد، يمكن يهبط.»

ويبدو أن الكلمة وصلتْ إلى أذن الشيخ علي مع أنه كان يعد بصوت عال مرتفع، فقد استدار إلى الجمع قائلًا: «لقمة إيه يا بلد غجر؟! لقمة مِن عيشكو المعفِّن وجبنتكم القديمة اللي كلها دود؟! وده أكل؟! ودِيني، مانى ساكت إلَّا اما تنزل لي المائدة لغاية هنا هه، وعليها جوز فراخ.»

وسرَتْ همهمةٌ كثيرة في الجمع، وقالت ولية من الواقفات: «أني طابخة شوية بامية حلوين، يا خويا، أجيب لك صحن؟»

وصرخ فيها الشيخ علي: «إخرسي يا مرة! بامية إيه يا بلد كلها قرون؟! دا عقولكو بقت كلها بامية! وريحة بلدكو زي ريحة البامية الحامضة!»

وقال أبو سرحان: «حدانا سمك صابح يا شيخ علي، شاريينه لسه من احمد الصياد.»

وزأر فيه الشيخ علي: «سمك إيه بتاعكو ده؟! اللي قد العقلة يا بلد «صير»! هو ده سمك؟! ودِيني، إن ما بعت جوز فراخ والطلبات اللي قلت لك عليها لشاتم وزي ما يحصل يحصل!»

وأصبح الوضْع لا يُحتمَل، إمَّا السكوت وضياع البلدة ومَن فيها، وإمَّا إسكات الشيخ علي بأي طريقة، وانطلقتْ مائة حنجرة تعزم عليه بالغداء، وانطلق صوته مائة مرة يرفض، ويصر على الرفض ويقول: «ماني قاعد على اللَّضَى يا بلد! بقى لي تلات ايام ما حدِّش عزم عليَّ بلقمة! حِلْيِت العزومة دلوقتي؟! ودِيني، مانى ساكت إلَّا امَّا تيجي المائدة من عند ربنا!»

واستدارت الرءوس تسأل عمَّن طبخ في هذا اليوم؛ إذ إنَّ كلَّ الناس لا يطبخون كل يوم، وأن يكون لدى أحدهم «زَفَر» أو فراخ يعدُّ حادِثًا جلَلًا، وأخيرًا وجدوا عند عبد الرحمن رطل لحمة «بتلو» مسلوقًا بحاله، فأحضروه على طبلية، وأحضروا معَه فجلًا، وجوزين عيش مرحرح، ومخ بصل، وقالوا للشيخ علي: «يقضِّيك ده؟»

وتردَّد بصر الشيخ علي بين السماء والطبلية، وكلَّما نظر إلى السماء قدحتْ عيناه شررًا، وكلَّما نظر إلى الطبلية احتقن وجهُه غضبًا، والجمع يغمره السكون، وأخيرًا نطق الشيخ علي وقال: «بقى أني عايز مائدة يا بلد غجر، تجبولي طبلية؟! وفين علبة السجاير؟»

وأعطاه أحدهم صندوق دخانه.

ومدَّ يده وتناوَلَ قطعةً كبيرةً من اللحم، وقبل أن يتاويها في فمه قال: «وحتة المُرَّة فين؟!»

فقالوا له: «حقةْ! إلَّا دي!»

وهاج الشيخ علي وقال: «طب هه!» وترك الطعام، وخلع جلبابه وعمامته وراح يهز عصاه ويهدِّد بالكفر من جديد، ولم يسكت إلَّا بعد أن أحضَروا مندور تاجر المر، وبلبع له فصًّا، وقال له: «خد! خد يا شيخ، مش خسارة فيك! أصلنا ما حدناش نظر! وماكنَّاش عارفين إنك بتنكسف تطلب، الناس تقعد وياك وتنبسط، وبعدين تدلدل ودانها وتمشي وتسيبك! وإحنا لازم نشوف راحتك يا شيخ، هي بلدنا من غيرك أنت وابو احمد تسوى بصلة؟! أنت تضحكنا وإحنا نأكلك! إيه رأيك في كده؟!»

وغضب الشيخ علي غضبًا شديدًا، وطار وراء مندور وهو في قمة الغيظ ومضى يهز الحكمدار وهو يكاد يهوي بها على رأسه ويقول: «أنا أضحكوا؟! هو أني مضحكة يا مندور يا ابن البلغة؟! امش، داهية تلعنك وتلعن أبوك!»

وكان مندور يجري أمامَه وهو يضحك، وكان الناس يتفرَّجون على المطاردة وهم يضحكون، وحتى حين طار الشيخ علي وراءهم جميعًا وهو يسبُّهم ويلعنهم كانوا لا يزالون يضحكون.

ولا يزال الشيخ علي يحيا في منية النصر، ولا تزال له في كل يوم نادرة، ولا يزال سريع الغضب، ولا يزال الناس يضحكون من غضبه، غير أنهم من يومها عرفوا له، فما يكادون يَرَوْنه واقفًا وسط الجرن وقد خلع جلبابه وعمامته وأمسك بالحكمدار في يده وراح يهزها في وجه السماء، حتى يدركوا أنهم نسُوا أمرَه وتركوا «أبو احمد» ينفرد به أكثر من اللازم، وحينئذٍ، وقبل أن تتسرَّب من فمه كلمة كفر واحدة، تكون الطبلية قد جاءتْه، وعليها ما يطلبه، وأحيانًا يرضى بما قسم الله، وأمره إلى الله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤