حادثة شَرَف

أعتقد أنَّهم لا يزالون يسمُّون الحب هناك: «العيب»، ولا بد أنهم لا يزالون أيضًا يتحرَّجون عن ذكره علانية، ويتغامَزون به، وإنَّما تلمحه في النظرات التائهة الحيرى، وفي وَجَنات البنات حين تحمرُّ وتخضرُّ وتنسدل عليها الأجفان.

والعزبة، كأي عزبة، لم تكن كبيرة، بضع عشرات من البيوت المبنية بحيث تكون ظهورها إلى الخارج، وأبواب الدُّور تفتح كلُّها على حوش داخلي واسِع، حيث الساحة الصغيرة التي يقيمون فيها الأفراح، ويعلِّقون العجول المريضة إذا ذُبِحتْ لتُباع بالأقة وبالكوم، والأحداث في العزبة قليلة ومعروفة، النهار يبدأ قبل مشرق الشمس وينتهي بعد مغيبها، والمكان المفضَّل هو عتبة البوَّابة الكبيرة؛ حيث الهواء البحري، وحيث يُستحَبُّ النوم ساعة القيَّالة ولعب «السيجة»، الأحداث قليلة ومعروفة، بل تكاد تعرفها حتى قبل أن تقع، وتعرف أن هذه البنت المفعوصة التي تلعب الحجلة ستكبر بعد عدد من السنين، وسيصفو لونها الملبد، ثم يخرطها خرَّاط البنات، وتتزوَّج، بالتأكيد واحدًا من هؤلاء الصبية الذين يرتدون الجلاليب الممزَّقة على اللحم، ويستحمون في الترعة، وينطُّون كالقرود المسلسلة من فوق الكوبري.

غير أنَّه، أحيانًا، تقع حوادث لا تكون معروفة، ولا يمكن التنبؤ بوقوعها، مثل ذلك اليوم الذي تردَّدتْ فيه الصَّرَخات في الغيط، الصَّرَخات الغامِضة الغريبة التي ينشقُّ عنها فضاء الريف الواسِع أحيانًا، فتدوِّي بطريقة مفاجِئة ومرعِبة ومستغِيثة دون أن تَعرِف مصدَرَها، ولكنَّك لا بد تدرك منها أن شيئًا مهولًا قد وقع، ولا بد حينئذٍ أن تُفِيق فتَجِد نفسَك تجري لتنجد أو على الأقل لتعرِفَ الخبر.

غير أنَّه في تلك المرة لم يكن هناك ما يستدعي النجدة أو المساعدة، بل أكثر من هذا كان العائدون إلى العزبة يَجِدون حرجًا كثيرًا حين تسألهم النساء عمَّا حدث.

ماذا يقولون؟ أيقولون: إنهم وجدوا فاطمة في الدُّرة مع غريب؟!

ماذا يقولون وفاطمة ليستْ غريبة وغريبٌ ليس غريبًا؟! فاطمة أخت فرج، وغريب ابن عبدون، والحكاية ليستْ تائهة؛ فالعزبة صغيرة، والناس فيها عائلة واحدة، ولا يعرفون بعضهم البعض معرفة دقيقة فقط، ولكن كل واحد يعرف عن الآخَر أدقَّ دقائِقِه وأخَصَّ أموره، حتى النقود القليلة التي قد يكتنزها أحدهم، يعرفون مكانَها بالضبط وعددها والطريقة التي يمكن أن تُسرَق بها، ولكن أحدًا لا يسرق من أحد، هم إذا سرقوا يسرقون من محصول العزبة، وحتى هذه مجرد سرقات صغيرة لا تتعدَّى ملْءَ عبِّ قطن أو حِجْر كيزان دُرَه، أو يساهي أحدهم خفير الزراعة وينضح مصرف أرز ويأخذ سمكَهُ له وحدَه دون أن يُورِّد نصفَه للناظر كما جرَتِ العادة.

وفاطمة معروفة، وكل شيء عنها معروف، ولم تكن أبدًا ذات سيرة خبيثة أو سلوك معوج، كل ما في الأمر أنها حلوة، أو على وجه أصح كانتْ أحلى بنت في العزبة، وليس هذا هو الوجه الصحيح للمسألة أيضًا، فإذا كانتِ الحلاوة تُقاس في الأرياف بالبَيَاض، ففاطمة كانتْ سمراء، المسألة لها وجهٌ آخَر خاصٌّ بفاطمة وحدَها، فلم يكن في استطاعة أحدٍ في العزبة أن يعرف ماذا في هذه البنت بالذات دونًا عن بقية البنات، خدودها صحيح كانت حمراء سمراء شديدة الاحمرار تظن معه أنها لا بد تفطر كل يوم بعسل نحل وتتعشَّى بفراخ وحمام، ولكنك تدهش إذا عرفتَ أنَّه احمرار قد صُنع من صحون المش والفلفل المخلل وعروق البصل والفجل والسمك الصغير المحروق في الفرن، وعيونها كانت سوداء، غامقة السواد، ذلك السواد اللامع الذي لا تراه إلَّا مشعًّا ومضيئًا ودائم الحركة لا يستقر، العيون التي لا تحتمل أن تنظر إليها أو تنظر إليك لحظة، وحتى إذا قلنا إن شعرها كان أسود ناعمًا، وثوبها الحبر الواسع الذي ترتديه لا يفلح في إخفاء بروز صدْرها ورُفْع وَسَطها وامتلاء ساقها، حتى إذا قلنا هذا قتَلْنا فاطمة قتْلًا، فآخِر ما كان مُهِمًّا فيها هو جسدها، أهم مِن هذا كله كانت أنوثتها، أنوثة حية نابضة دائمة التفجُّر والتدفُّق، أنوثة لا تدري من أين تنبع وأين تكمن، ابتسامتها ابتسامة أنثى، لفتتها إلى الخلف لفتة أنثى، الطريقة التي تخبط بها على كتف زميلتها، إطراقها وهي تدعو أحد المارَّة ليُساعِدها في رفع بلَّاص الماء على رأسها، طريقة قضْمها للقمة وإمساكها للرغيف، القُلَّة في يدها، الماء حين ينسكب في فمها نصف المفتوح، الزاوية التي تميل بها البلَّاص، قرطتها الخضراء الكرومبية الوحيدة حين تتعصب بها معوجَّة قليلًا إلى اليمين، مبينة بعض شعرها المسبسب الأسود، غمازتاها حين تَظهَران فجأةً وتختفيان فجأة وتحدِّدان أجمل ابتسامة يَفْتَرُّ عنها ثغرٌ، ضحكتها وكيف تبدأ ثم بقاياها حين تنتهي، صوتها المصنوع من أنثوية سائلة وكيف تُخْرِجه بمقدار، وكيف تُحِيله أحيانًا إلى قطرات، كل قطرة كلمة أو نبرة، نبرة أنثوية مصفَّاة، تكفي وحدَها لتروي ظمأ عشرات الرجال.

وكانت فاطمة تُثِير الرِّجال أو على وجْه الدِّقَّة تُثِير الرجولة في الرجال، وكأنما خُلِقتْ لتُثِير الرجولة في الرجال، حتى الأطفال كانتْ تُثِير الرجولة الكامنة فيهم، فكانوا إذا رأَوْها قادمة من بعيد أحسُّوا برغبة مفاجِئة في تعرية أنفسهم أمامَها، وكثيرًا ما كان بعضهم يُقْدِم على تنفيذ الرغبة، فيرفَع ذيلَ جلبابه ويتعمَّد المبالَغة في رفْعِه، ولا يفلح ضرب أو زجر في نهيهم عن إتيان هذا الأمر، فهم أنفسهم لا يدرون لماذا يُعَرُّون أنفسَهم إذا رأَوْها.

لذلك ما كان أشدَّ محنة فرج! كان فرج أخاها، وكان مزارعًا وحدانيًّا فقيرًا لا يملك سوى بقرته، ولا يعطيه الناظر إلَّا ثلاث فدادين ليزرعها، ومحاولاته كلَّ عام ليزيد حصته نصف فدان كانتْ تبوء بالفشل الذريع، ومع هذا فقد كان فرج رجلًا في عزِّ نعنعة رجولته، يأكل في الطقَّة ثلاثة أرغفة إن وُجدتْ، ويأتي على قُلَّة الماء في نفَسٍ واحد، وسمانة رجله في حجم الفخذ، وكان حائرًا منغَّص العيش، والسبب أخته، فقد كانتْ تَحْيَا معَه ومع امرأته، وامرأته ذات الأنف الفاطس والوجه الأصفر كانتْ طيبة، وإن لم تكن طيبتها تمنَعُها أحيانًا من لفْت نظر فرج إلى صدر أخته الذي تدَّعي أنها تتعمَّد هزَّه حين تمشي، أو إلى الكحل الذي لا يُفارِق عينيها، واللِّبان الذي توصي عليه كلَّ ذاهب إلى السوق، ولم يكن فرج في حاجة إلى لفْت النظر؛ إذْ هو يرى ويسمع ويفور دمُه كلَّما رأى أو سمع، ولم يكن يستطيع تأنيب فاطمة على شيء، كانتْ ترتدي نفس ما ترتديه البنات، وتتكحَّل كما يفعَلْنَ وتمضغ اللِّبان كما يمضُغْنَ، ولم يلمَحْها أحدٌ في موقِفٍ مُرِيبٍ، ولا ضُبِطَتْ مرة متلبِّسة بخطأ، وحتى حين ادَّعَتْ زوجتُه أن السبب في احمرار وجنتيها أنها تحكُّمها بالورق الأحمر الذي تُصنَع منه صناديق الدُّخان الفَرْط بلَّل عمامته يومها بلعابه وظلَّ يدعَكُ وجنتَيْ فاطمة حتى كاد يُدْمِيَهما، ولم تحمرَّ العمامة ولا حدث لها شيء، ولم يفعل شيئًا يومَها أكثر من أن صوَّب إليها نظراته المحمومة المملوءة بالشك وراح يعنِّفها ويزجُرُها، وفاطمة لا تعرف سببًا لنظراته تلك، فهي تعرف العيب تمامًا، وطالَمَا حدَّثَها فرج عنه وعنَّفَها، وهي لا تفعل العيب، وليس في نيتها أن تفعله، بل هي تفضِّل الموت على فعْلِه، كل ما في الأمر أنها كانتْ تُحِسُّ بالناس يدلِّلونها ويحبُّونها، فكانتْ تفعل كما يفعل أي محبوب، تتصرَّف بحرية وبساطة وبلا تعقيد، إذا أرادتْ أن تبتسم ابتسمتْ وإذا ابتسمتْ كان هذا عن رغبة حقيقية في الابتسام، وإذا أرادتْ أن تضحك ضحكتْ، وخرج ضحكُها بريئًا نابعًا من القلب، وكانتْ تعرف أنَّ الناس يحبون جمالَها فكانتْ تحرِصُ على هذا الجمال، فلا تخرج من عتبة دارِهم بوجْهٍ غير مغسول أو بشعرٍ مشعث منكوش، وإذا اشتغلت في الغيط لبست الجوارب التي تقترضها من أم جورج زوجة الناظر، والتي تصنعها على هيئة قفازات تقي بها يديها من الأفرع وحَزِّ الشوك والأغصان، وإذا تكلَّمَتْ حرَصَتْ على أنْ يخرُجَ كلامُها جميلًا ليس فيه كلمة نابية أو تعبير قبيح، والناس جميعًا أحبابها وأصحابها، كلُّهم يحبُّونها، وهي تحبُّهم كلَّهم، ويدلِّلونها وتتدلَّل عليهم، ويريدونها غير عابسة فلا تعبس، ويريدونها ضاحكة فتضحك، وكل أمَلِها أن يضحكوا لضحكها ويسعدوا بابتسامتها ودلالها، فلماذا يعنِّفُها أخوها ويزجرها، ولماذا هذه النظرات المشبعة بالسم منه؟!

والحقيقة أنَّ فرج لم يكن يدري لماذا، كل ما في الأمر أنه مسئول عن أخته وأنوثتها الصارخة، وكل عين تمتدُّ إلى أخته إنما تغور في لحمه هو وتُدْمِيه، وكلُّ أمَلِه أن تتزوَّج فاطمة، وتنزاح بمسئوليتها بعيدًا عنه، بل بعيدًا عن العزبة كلِّها، ولكن فاطمة لم تكن تتزوَّج، فخُطَّابها قليلون، بل تكاد تكون بلا خُطَّاب، فمَن هو المجنون الذي يجرؤ على امتلاك كل تلك الأنوثة وحده؟! وإذا تزوَّج ماذا يفعل بها؟! والناس في العزبة وما جاورها لا يتزوَّجون ليستمتعوا بالجمال ويُقِيموا حولَه الأسوار؛ إذْ هم أولًا لا يَحْيَوْن لكي يستمتعوا بالحياة، هم يَحْيَوْن فقط لكي يبقوا أحياء، ويتزوَّجون لكي تعمل الزوجة وتُنجِب أولادًا يعملون؛ ولهذا ففاطمة باقية بلا خُطَّاب.

والعزبة مليئة بالرجال والشباب، وفاطمة كأي بنت فيها تعمل كالرجال تمامًا، وتسرح إلى الغيط، وتروح مع الأذان، وهي — دونًا عن كل النساء والبنات — تُثِير الزَّوابِع أينما حلَّتْ، ولهذا فإنَّ قلب فرج مملوء بالخوف، وخوفُه يجعله يضحك؛ إذ هو الذي يملأ العزبة برجولته الفارعة وطِيبته ضحكًا، وهو الذي يملؤها حياة، يبرطع وراء الرجال ويهزر معهم رغمًا عنهم ويعلِّمهم التنازل عن وقارهم الكاذب والنزول له في «الباط»، ويسابق الشبَّان في العوم، ويخطف القُفَف من فوق رءوس النساء، حتى أكثرهن تحفُّظًا، ويجري ويضحك، ولا تشكو النساء، وفي الأفراح يلبس جلبابه الأبيض، ويلفُّ على رأسِه الحزام السكروتة ويحلق شعره وذقنه بالمكنة الزيرو ويرقص للعريس، وينقط للعروسة وللناظر، وللخولي وأهل العزبة، ينقط بالفلوس التي باع بها قطنًا سَرَقَه من المخزن أو جوالًا اختلَسَه وهو في طريقه إلى الشحن، ويصرف، ويفنجر، ويملأ العزبة صخبًا وضجيجًا، والكل رجالًا ونساءً وشبابًا يحبُّونه ويعزونه، وتعتمل أشياء داخل صدورهم وأشياء، فأخته تكاد تُثِير طوب الأرض فتنةً وأنوثة، والرغبات في صدورهم تكاد تتفجَّر، وفرج يأسرهم بطيبته وصداقته وضحكه، فإذا مرَّتْ فاطمة خفضوا البصر، وإذا لم يحتمل أحدُهُم وتأوَّه لكَزَه جارُه.

ولذلك ظلَّتْ فاطمة كالفاكهة الناضجة المحرَّمة، لا يقربها أحد، ولا أحد يدَع الآخَر يقترب منها، والقلوب تذوب حسرةً، وأعصاب الرجال وحتى العواجيز ترتجف رغبة كلَّما مرَّتْ، ولكن فرج دائمًا هناك، لا بد يتردَّد في أذنك صدى ضحكة عريضة تأتيك من بعيد وتذكِّرك أنه هناك، وأنه عيب، وتعود حينئذٍ إلى صوابك، فتذهب لتخطف العصر، أو تتمشَّى لتشرب شايًا عند الدكان.

واليوم ضبطوها في الدُّرة مع غريب.

والحقيقة أنها لم تُضبَط يومَها فقط، ما أكثرَ ما ضُبطَتْ فاطمة! في الدُّرة، ووراء إسطبل الوسية، وتحت ماكينة الدِّراس مع رجال، ولكنه ضبطٌ مع إيقاف التنفيذ، فالأيام كانت تُثبِت أنها شائعات، مجرد شائعات كان لا بد أن تنطلق وراء فاطمة إذا مرَّتْ كما تنطلق الحسرات، وسكان العزبة لم يكونوا أشرارًا، ولا حاقِدين، كانوا في الواقع أناسًا طيبين، يحرص كلٌّ منهم على الآخَر مثل حرصِه على نفسِه، حتى إوزهم كان طيبًا لا خبث فيه، تخرج جماعاته من كل بيت في الصباح مكاكية مزغردة، وتتجمع قريبًا من الجرن، وتأخذ طريقها إلى الترعة في قافلة ضخمة، ويظل الإوز يلعب ويستحم ويعلِّم أولاده العوم حتى تئوب الشمس إلى المغيب فتأخذ مئات الإوزات طريقها إلى العزبة، تدخل من البوابة، ويتوجَّه كل إوز إلى بيته من تلقاء نفسه، وحتى لو أخطأت إوزة غريرة طريقها، وذهبت مع إوز الجارة فما أسرع ما تجد بابَك تطرُقُه الجارة ومعها الإوزة الضالَّة، حتى قبل أن تكتشف أنت أنها ضلَّتْ وضاعتْ.

وأمام فاطمة، أهل العزبة رعايا جمالها، مُدلَّهون بحبِّها، إذا كان الفرح حظِيَتْ باهتمام يفوق ما تحظى به العروسة، ولعل هذا كان السبب في خوفهم الشديد على فاطمة، كانوا خائفين عليها من العيب وكأنهم لا يصدِّقون أن أنثى جميلة مثلها ممكن أن تُوجَد ولا ترتكب العيب، بل إنهم من كثرة خوفِهم عليها، حدَّدوا الشخص الذي يمكنه أن يرتكب العيب مع فاطمة، حدَّدوا غريب بالذات، وغريب كان ابن عبدون، وعبدون مع أنه كبير في السن إلَّا أنَّ أحدًا لا يقول له: يا عم، فقد كان رجلًا عصبي المزاج يُدمِن «المضغة» والقهوة السادة، وكلمة والثانية وتجده طابقًا في خناقك، حتى الناظر كان يخاف منه ومن خُلُقِه الضيِّق ويتجنَّب إثارته، وعمره ما قال لأحد كلمة حلوة، ولكن شطارته كلها تظهَر إذا حلَّتْ بالعزبة كارثة ما، حينئذٍ يقِف كغراب البين على الترعة وقد أمسك بذيل جلبابه من الخلف ويمضي يشتم ويسب ويبصق مضغته ويُشبِع أهل العزبة لومًا وتأنيبًا وكأنهم هم المسئولون عن وقوع الكارثة، غير أنهم كانوا لا يُقِيمون لعصبيته وسبابه وزنًا، فقد كانوا يعرفون أنه من الداخل أبيض، فقط طبعه هو الذي يغلب.

أمَّا ابنُه غريب فرجال العزبة كانوا لا يرتاحون إليه، وكذلك نساؤها، فقد كان ولدًا قليل الأدب، فارغ العين، يربِّي قُصَّةً من شعره ويُظهِرها مسبسبة من طاقيته الصوف البيضاء، وسبب ضيق الناس به أنه كان يُغْوِي النساء، والأدهى من هذا أنه كان ينجح في الإيقاع بهن، وفي هذا لم يكن يحترم جارًا ولا زوجة خال، كان أسمر فاتح السمرة، وبالرغم من قُبْح خِلْقة أبيه كان وسيمًا، لا تملُّ العين رؤيةَ ملامِحِه، وله طريقة لذيذة في نطق الكلام، مع أنه كان قليل الكلام، كان صوته يخرج غليظًا بريئًا فرحان، وكأنما هو مراهق حديث البلوغ، ولم يكن يبدو أهبل كمعظم شباب الأرياف، كان ولدًا حدقًا معتدًّا بنفسه، سريع الفهم، فهلويًّا نظيف الجلباب، يعمل كالمكنة طول النهار، ويغني المواويل، وعنده عدة شاي، ويعزم ويشدِّد في العزومة، فإذا جاء الليل لا يحتمل المبيت في دارهم ويؤثِر النوم فوق كومة تبن الوسية العالية حيث يدفن نفسه، ويظل يتلمَّس أفخاذه وصدره ويحكي لأصدقائه الذين يبيتون معه، يحكي لهم عن أمور النساء التي هم أجهل الجهال بها، والذي هو فيها صاحب الباع الطويل، وكان جريئًا لا يخجل وعينه فارغة، أول ما ينظر إلى المرأة يبدأ بالنظر إلى سيقانها، ونظراته كانتْ تُرْبِك، ففيها لمعة سخرية دائمة، أو لعلَّها ضحكة لم تنطلق، كانتْ نظراتُه هكذا رغمًا عنه، وليس له يد فيها، ولكنَّ المرأة كانتْ تُحِسُّ إذا نظر إليها هكذا أنه يفهم ما يدور بخلدها، فإذا كان ما يدور بخلدها عَيْبًا، وهذا هو الحال في معظم الأحيان، ارتبكَتْ وخُيِّل إليها أنَّه عرَّاها، وتُحاوِل حينئذٍ أن تغطِّي نفسَها فتَرْتَبِك أكثر، ومن كثرة ارتباكها تقع، ويُكسِبه وقوعُها اعتدادًا أكثر، فتزداد لمعةُ الجرأة الساخِرة في عينيه ويزداد عدد مَن يَقَعْن له.

ولا بد أن غريب كان فيه شيء غريب، شيء لم يكن يوجد في بقية الرجال، لعلَّه ذكورة زائدة، أو لعلَّه شيء آخَر، فقد كان يكفي أن ترى المرأة من نساء العزبة قفاه أو «دكة» سرواله وهو يعمل حتى تشهَق وكأنَّها رأتْ رجلًا عاريًا، ولم يكن يبالي في وسائله، كلُّ الطرق إلى المرأة كانتْ عنده حلالًا، في الفرح يحشُر نفسَه بينهن فيجمِّدهن أمامَه، وفي ماكينة الطحين كل شطارته أن يحمل القُفَف للنساء ويدقَّ لهن القادوس، حتى المريضة لم يكن يعتقها، ولولا خوفُه من بندقية أبو جورج الناظر لحاول في الليل زيارة الست أم جورج، وكان الناس إذا اشتكَوْا لعبدون أبيه ثار في وجوههم ولخبط خلقته وقال لهم بفظاظة: «حداكم إياه، أني متبرِّي منه! اعملوا فيه اللي تقدروا تعملوه.»

وكانوا في العادة لا يستطيعون أن يفعلوا شيئًا، فغريب وإن كان قصير القامة إلَّا أنه كان قويًّا كفحْل الوسية يستطيع أن يرفع ترس الساقية الحديد بيد واحدة ويقطم رقبة الرجل باليد الأخرى، كل هذا وعيناه تلمعان نفس لمعتهما الساخرة.

كان هو أكثر الذكور ذكورة، وكانتْ فاطمة أكثر الإناث أنوثة، ولهذا كان من الطبيعي جدًّا أن تَقْرِن الشائعات بينهما، ومع هذا، ما كان أبعدَ ما بينهما! ففاطمة كانت تتجنَّبه لشُهْرته بقِلَّة الأدب وفراغ العين، وكان هو يخافُها عن بُعْد، فهو وإن كان نِدًّا لخادِمة الناظر أو شفيعة الأرملة أم العيال، ففاطمة ليستْ واحدة منهن، أنها فاطمة، كل النساء كوم وهي كوم!

كان أحيانًا يزعم للشبان الغارِقين حوله في التبن أنها تحبُّه وتُرسِل له المراسيل، ولكنه كان أوَّل الساخطين على نفسه من أجل مزاعِمِه تلك، كان يعمل في الغيط كالرَّهَوان ويكتسح النساء بنظراته وذكورته فتخرُّ له النساء، وزينة بنات العزبة في الأفراح والأسواق، ولكن أمامَ فاطمة كان عاجِزًا كلَّ العجز، وفاطمة من ناحية خائفة كلَّ الخوف، حتى إذا قال لها: «العواف» ودقَّ قلبُه آلاف الدقات وهو يقولها، كان ردُّها يأتي مضغومًا لا عافية فيه، هي خائفة منه خوفها من العيب، وهو خائف منها خوفَه من العجز، والعزبة سادِرة في إقرانه بها وإقرانها به، وفرج سادر في ضحكه وذرِّ صداقته في العيون، وسادر في اكتساب محبة غريب حيث يكمن خوفه الأكبر، وكل هذا يجري من تحت إلى تحت، أمَّا في الظاهر فالناس لبعضها والعزبة صغيرة، والناس فيها عائلة واحدة كبيرة، وبيت عبدون ثالث بيت إلى يمين بيت فرج، وحتى حوادث ضياع الإوز قليلة.

ولكنهم كانوا جميعًا يتوقَّعون دائمًا أن يحدث شيء ما، شيء لا بد أن يحدث، مثل أن يستيقظوا في منتصف ليلة على طلقة، أو تأتيهم من الغيطان صرخة تقول: ظبطوها في الدُّرة مع غريب.

•••

وقد حدث!

والغريب أنَّ أحدًا لم يُفاجَأْ بما حدث ولم يستنكره، كلُّهم أخذوا الأمر على أنه شيء مسلَّم به، إنْ كان بالأمس لم يحدث فها هو اليوم قد حدث، حتى أطفال العزبة — وللأطفال مجتمعهم هم الآخَرين وإشاعاتهم وآراؤهم الصغيرة في الناس الكبار — حتى هؤلاء أحسُّوا أنَّ فاطمة قد ارتكبتْ أخيرًا ذلك الشيء المحرَّم الذي طالَمَا حذَّرَهم منه الآباء والأمهات، ارتكبت العيب.

وعلى هذا حين وجدوا فرج قادمًا من الغيط من بعيد، ورأَوْا عمامَتَه مخلوعة ورأسه عاريًا، لأول مرة، وصديريه مفتوحًا وسرواله ملطَّخًا ببُقَع الطين، بينما وجهه مصفرٌّ وشاربُه يرتجف وعيناه في لون الدم، حين رأَوْه قادمًا من بعيد هكذا، انزوَوْا في ظلِّ حائط الإسطبل وهم يكادون يحسُّون بفِطْرتهم هول الكارثة التي حاقَتْ به، وحين دلَفَ من بوابة العزبة ساروا وراءَه عن بُعْد يتابِعونه صامتين، حتى وجدوه يدخل دارَه ويَنْهَر ابنَه الذي كان يخبط على صفيحة قديمة صدئة، ثم وهو يطلب من امرأته في صوت خطير لا يكاد يُسمَع أن تأتيه بالجوزة، ثم وهو يتناوَلها ويعبُّ من دُخانِها عبًّا، وينفث من صدره سُحُبًا كثيفة لا تصدر إلَّا عن الفرن المبلَّل الأحطاب.

وحين بدأ بعض الرجال يتسلَّلون إلى الدار تشجَّع الأطفال وتسلَّلوا هم الآخَرين، ولكنهم وقفوا قريبًا من العتبة يرمقون ما يدور في الداخل خائفين، ولم يكن يدور في الداخل شيء يخيف، كان فرج جالسًا أصفر لا يتكلَّم، يرصُّ كراسي الدخان ويشرب، وكان الرجال حوله ساكتين لا يعرفون ماذا يقولون، وحتى إذا تململ أحدُهم وأهابَ به ضميره أن يقول شيئًا يخفِّف به من حدَّة الهول، فإنَّ فرج كان يمدُّ له غابة الجوزة ليشرب ويسكت، فالموقف ليس في حاجة إلى كلام، فأخيرًا جاء اليوم الذي توقَّعه فرج وظلَّ طولَ عمره يتوقَّعه، أخيرًا حدث الشيء الذي كثيرًا ما فكَّر فيه وغلى الدم في عروقه وهو يفكِّر فيه، كان كلَّما رأى جسد أخته يتلوَّى في الثوب الأسود الواسع المهلهل، أو كلَّما رأى قطعةً من جسدها ظاهرة من ثقب الثوب، كلَّما رآها تضحك أو تتكلَّم أو حتى تأكل، كان يحس بصدره يضيق فجأة ويختنق فيصوِّب إليها نظرات كالمسامير المحمِيَّة، أو يضحك ضحكه الواسع العريض الذي لا بد تلمح فيه خوفَه الرهيب من شيء لا بد أن يحدث، بل كثيرًا ما حسبها بينه وبين نفسه، ترى ماذا يفعل لو حدث لا قدر الله أن …؟!

وكان شعره يقف كلَّما حسبها، ويعود وينظر إلى فاطمة نظرات تغور بها في سابع الأرض، وها هو الحادث قد حدث، وأصبح عليه الآن أن يأخذ موقف الرجل الأخ، عليه الآن أن يقْتُلَها ويقتُلَ غريب، يقتل فاطمة أخته التي حمَلَها وهو يعدِّي بها المصارف حين كانتْ صغيرة والتي قالتْ له أمه وهي تموت: «وصيتك فاطمة يا فرج!» ويقتل غريب، الكلب الذي طالَمَا آواه وسقاه على حسابه واحتَضَنَه، والذي طالَمَا توقَّع أن يخونه، وقد خانه.

أجل، الموقف ليس في حاجة إلى كلام، إنه في حاجة إلى دم، كل ما في الأمر أنه لا بد من التثبُّت حتى لا تلتفَّ خَطِيَّتُهما حولَ رقَبَتِه، إنه قادمٌ على إضاعتهما وإضاعة نفسِه وامرأته وأولاده، فلا بد أولًا أن يتأكَّد، فليعبَّ الدخان وليسكتْ ولينتظرْ قبل أن يُمْسِك السكين، والقرار باردٌ لا رحمةَ فيه ولا أمل، ففرج من أهل العِزَب، وأهل العِزَب مُتَّهَمون أنهم متساهِلون في أخلاقِهم عن أهل القُرى، ولكنَّه سيُرِيهم أنَّ أهل العِزَب لهم هم الآخَرين أصولٌ، وأنهم أعدى أعداء العيب!

أمَّا فاطمة فسرعان ما أهلَّتْ من بعيد على العزبة وحولها سِرْبٌ من نسائها وبناتها في أثوابهن القديمة السوداء، ورُقَعهن الملتفَّة حول رءوسهن، مكونات كتلة غامقة من السواد لها عشرات الأذرع والرءوس، تتحرَّك صوب العزبة في تصميم خطير، وتُثِير سحابة واطئة من الغبار.

وجرى الأطفال يستقبلون الموكب، كانتْ فاطمة في الوَسَط وكان وجهها أبيض، لأول مرة انقلبتْ سُمْرتها الجميلة إلى بياض شاحب، ولم تكن تبدو فاتِنةً كعادتها، وكانتْ تعقد رأسها بشالها الأسود كالحزانى، وملامِحُها لا تتحرَّك وكأنما هي ميتة أو حالًا ستموت.

وحدثتْ ضجَّةٌ لدى اقتراب الموكب من العزبة، وراحتِ النسوة يتناقشْنَ في أصوات رفيعة حادَّة كما يتناقش الرجال، والبعض يُشِير بتحويدها على بيت الخولي، بينما الأُخْرَيَات يتحدَّثْنَ عن الأصول، وعن أنَّ مكانها الطبيعي هو بيت أخيها، وحدث الشدُّ والجذْب والصِّراع وأخيرًا أدْخَلْنها في بيت الخولي القائم في ركن العزبة، وبقي الأطفال في الخارج ينتظرون.

أمَّا غريب فقد قالوا إنه طفش واختفى في المزارع، وأنه قد لا يعود.

ولم يكن أحدٌ في العزبة يَدْرِي ما يحدث بالضبط، كان جوُّ العزبة قد تعكَّر فجأة، ولم يَعُدْ أحدٌ يرى في جوِّها العكِر شيئًا، الرجال جميعًا كانوا صامتين، والنساء دعواتُهُنَّ كانتْ تنهال على غريب ابتداءً مِن: «يجيله ويحط عليه» إلى طلبِهنَّ المُلِحِّ من الله أن يختصَّه بداء لا يبرأ منه، ولكن، حتى دعوات النساء الرفيعة هذه لم تستطع أن تحرِّك قليلًا أو كثيرًا من الوجوم الثقيل الذي حطَّ على العزبة وكلِّ مَن فيها، الوجوم الذي جعل حتى كلابها تكفُّ عن النباح.

وفي بيت الخولي كانتِ الحلقة مستحكمة حول فاطمة، والنساء ينهَلْنَ عليها بالأسئلة، وطبعًا قبل أن يسألْنَها كنَّ واثقات أنهن لن يُصدِّقْنَ شيئًا مما تقول.

قالتْ إنها كانتْ ذاهبةً تحمِل الفِطار إلى أخيها فرج في الغيط، وحين مرَّتْ على القناية الكائنة في حقول الذُّرة خرج لها غريبٌ على حين بغتةٍ وحاوَلَ أن يُمْسِك يدَها ويجْذِبها فقاوَمَتْ وصرَخَتْ، وتسكتُ فاطمة عن حدِيثِها التائِه، وتستحثُّها النسوة على المضيِّ، فتقول إنَّ الناس جاءوا على صراخها وهرب غريب، ولكنهن لا يقتنِعْنَ ويطلُبْنَ المزيد فتقول: لا مزيد، فيهززْنَ رءوسَهن محاولات أن يترجمن حكاية اليد الممسوكة هذه بكل ما يتَّسِع له خيالُهُنَّ، بينما حُمَّى لا تَرْحَم قد ركبتْ كلَّ واحدة فيهن لتعرف ما قد جرى وتتأكَّد، وكلَّما سكتتْ فاطمة، وكلَّما شحب وجهُها وبهت، ازدادتْ حدةُ الحُمَّى واشتدَّتْ، حتى الرجال الجالسون حول فرج بعيدًا عن فاطمة وحلقتها كأنما أُصِيبوا هم الآخَرين بنوع خفيٍّ من تلك الحُمَّى، تلمَحُه في كلمة طيبة خارجة من فم طيب تقول: «صبركم بالله يا جماعة! ما يمكن ما فيش حاجة حصلت.»

وشيئًا فشيئًا بدأ الشيء الذي حاوَلَ الجميعُ كتمانَه قدْرَ طاقَتِهم يَظهَر، وكان سهمُ الله قد نفذ، الأذهان كلُّها كانتْ معبَّأة ومهيَّأة ومتوقِّعة كلُّها أن يحدث ما حدث، إذا انفرد رجل أي رجل بفاطمة فعليه العوض فيها! فما بالك والذي انفرد بها غريب؟! مَن يعمل هنا حسابًا لفاطمة أو لرأيها والمقاومة التي قد تُبْدِيها؟ إذا انفردتْ بغريب انتهى كلُّ شيء، والمهم الآن هو التأكُّد من أن كلَّ شيء حقيقة قد انتهى، حتى فرج، كان وهو يقرأ ما يعتمل في ضمائر الناس الخفية كان هو الآخَر يُرِيد أن يعرف النتيجة، لا ليَعْرِفَها، ولكن ليتأكَّد أنَّ فاطمة حقيقة لم تَعُدْ أختَه، وأنَّه أصبح حُرًّا يستطيع أن يفعل بها ما يشاء.

والنساء — ويا لغرابة هذا! — أكثر جرأة في هذه الأمور من الرجال؛ ولذلك ما أسرع ما قالوها لأنفسهن ولزوجة فرج التي كانتْ قد تركتِ الدار وذهبتْ تُعدِّد على فاطمة وتبكي، ولعمتها! وحين قالوا لفاطمة نفسها غضب وجهُها وبهت بشدة وارتجفتْ فتحات أنفِها وصدَرَتْ عن عينيها دمعات قليلة، أقلُّ من محتويات الليمونة إذا عصرتَها وهي خضراء، وصرختْ فيهنَّ أنَّ شيئًا مثل هذا لا يمكن أن يحدث، وأنه والمصحف الشريف، لم يَلْمَسْها، فقلْنَ لها: ما دام خايفة من الكشْف يبقى لازم حصل حاجة، ومرة واحدة امتلأتْ خدود فاطمة بدفقةِ دم ولم تستطِعِ النطق، هي التي كانتْ تظنُّ نفسَها، ويؤكِّد لها الناس أنها لا تعرف معنى الخجل.

ولو أنَّ هذا حدث في قريةٍ لحاوَل الأهل أن يتستَّروا على ابنتهم، ولكن الأمر يحدث في عزبة، الكلُّ يعرف كلَّ شيء عن الكل، ولا داعي للإخفاء، وهكذا أصبح همُّ العزبة من صغيرها لكبيرها أن تعرف إن كانتْ فاطمة قد جرى لها ما لا بد أن كان سيجري لها، وداختْ فاطمة حتى إنهم رشُّوا على وجهها ماءً وشمَّموها بصلة، داختْ من هول المسألة، ومن إحساسِها بأنها مُتَّهَمة بأعْيَب عيب، وأن جميع أهل العزبة يناقشون أعزَّ خصوصياتها، هي الأنثى المَلِكة الحلوة، يناقشونه عيانًا بيانًا وعلى مرأًى ومسمع من أخيها وأهلِها، وكل هؤلاء الذين كانوا يحبونها وتحبهم، ويدلِّلونها وتتدلَّل عليهم.

وطلبتْ من حلقة النساء أن يرحَمْنَها.

وسكتْنَ جميعًا ورُحْنَ يرقُبْنَها بعيون ذابلة كان قد غادَرَها الشك وامتلأَتْ بيقين، كالعيون، ذابل وحزين.

وحينئذٍ قالتْ فاطمة بوجهٍ جامد متحجِّر بينما دفقة الدم التي تصاعَدَتْ إلى وجهها تنسحب وتسقط إلى أقدامها، قالتْ: أنا مستعدَّة.

وفي تلك اللحظة كان فرج قد داخَ من كثرة شُرْب المعسِّل على الرِّيق، وكان رأسُه منكَّسًا ويدُه تسند جبهتَه، ولولا أنَّه رجل لحسب الناس أنَّه أرملةٌ تبكي وتنتحب.

ولم يكن في العزبة مَن يَفهَم في هذه الأمور إلَّا صابحة الماشطة، وهي لم تكن ماشطة محترفة، كانتْ تمتلك ماكينة خياطة قديمة تُدار باليد، وكانتْ تخيط أثواب النساء والرجال على حَدٍّ سواء، وكانتْ متقدِّمةً في السِّنِّ، ولكنَّها تبدو صغيرةً ووجهها أبيض، وشكلها طيِّب حنون كشكل أي أمٍّ، ولكنها حين تتكلَّم يفضح صوتُها ما تُخْفِيه ملامِحُها، فتحسُّ أنها امرأة مُجَرِّبة عرَكَتِ الحياة بنسائها ورجالها على حدٍّ سواء، وحينئذٍ لا تطمئنُّ إليها.

وحين أبدَتْ فاطمة استعدادَها كان مفروضًا أن يَبْعَثْنَ في طلب صابحة الماشطة، ولكنهن تردَّدْنَ، فهنَّ يُرِدْنَ معرفة الحقيقة، وصحيحٌ أنَّ صابحة تَفهَم في هذه الأمور وستعرف حتمًا كل شيء، ولكنها قد لا تقول الحقيقة؛ إذ هي مُتَّهَمة في نظر الرجال والنساء وحتى الأطفال، فهي صحيح الخياطة الوحيدة في العزبة، وهي التي تفصِّل للجميع أثوابهم، إلَّا أنَّ مسألة وجودك في منزلها، حتى ولو رآك الناس وأنت تَقِيس الجلباب، مسألة لا يستريح لها كلُّ مَن يراك؛ إذ من المعروف أنَّ صابحة ليس لديها مانع من أن تَصْنَع من نفْسِها وبيتها ستارًا قد يَلْتَقِي وراءه الرجل بالمرأة؛ حيث هناك سبب وجيه لوجود كليهما معًا، ولكنَّ أحدًا لم يَرَ بعينه شيئًا، وقد يكون هذا صحيحًا، وقد يكون مجرد إشاعات باطِلة، ولكن الثابت أنَّ صابحة فيها شك، وممكن أن تعرف ولا تقول، وممكن أن تقول خلاف ما تعرف.

وقالتِ امرأة فرج: «ما فيش إلَّا الست أم جورج.»

ووافقتِ النساء في الحال، فأمُّ جورج هي الست الوحيدة في العزبة، وهي أيضًا الوحيدة المتعلِّمة التي تُجِيد القراءة والكتابة، ثم إنَّها من البندر، ولا بد أنَّ أهل البنادر يعرفون كلَّ ما لا يعرف فيه أهل العزب والقرى والفلاحين.

وتدافَعَ الأطفال حول الموكب ووراءه حين خرج من بيت الخولي في طريقه إلى بيت الناظر، ومضى الموكب يتعثَّر في حزنه وحماسِه في طُرُقات العزبة المليئة بأكوام الأتربة وقش الأرز، والدنيا نهار، والشمس قريبة من الأرض منكسة، وفاطمة في الوسط لا يزال وجهُها متحجِّرًا، وعيونها مفتوحة كعيون العميان وقلبها غائصٌ تحت أقدامها، كلَّما خطَتْ خطوة أحسَّتْ أنها تطؤه، وتطأ معه كلَّ خَجَلِها العُذْرى، وكلَّ أحاسيسها الحلوة أيام كانتْ طفلة، وأيام كبرتْ، وأيام كانتْ تُغَنِّي في الأفراح، وتحلم بأن يكون لها فرح وزفة وجلوة وليلة حنة حيث يترقَّب الجميع خروجَها ترقُّبَهم للملكة، واليوم هم يترقَّبون خروجَها، مئات العيون تنظر لها، وتُحَمْلِق فيها، مئات، لا، بل آلاف، الدنيا كلُّها عيون مفتوحة كالفناجيل لا تنظر إليها وإنما تنظر إلى أخصِّ خصائصها، بلا حياء وبوحشية وتختَرِقُه، وتهتِكُ شرَفَها، ويسيل دمُها، ويقطر لدى كل خطوة تخطوها ولدى كل حجر تتعثَّر فيه، وهي حافية عارية ذليلة لا يرحمها أحد.

وحاولتْ صاحبتُها حكمت أن تجذِبَ الشاشَ فوقَ وجهِها وتغطِّيه، ولكن فاطمة أزاحتِ الشاشَ كاشفةً وجهَها، ما فائدةُ إخفاءِ الوجه وجسدُها كلُّه عريان؟!

والموكب الحزين المتحمِّس ذو عشرات الأذرع والرءوس يمضي ووراءه ذيل من الأطفال والكلاب الجائعة، يمضي ويُثِير سُحُبَ غبار، ويشتِّت قوافل الإوز البيضاء، ويطير العصافير والحمام آخذًا طريقه إلى بيت الناظر.

•••

في ذلك الوقت كان عم ضرغام خفير الجرن يُجَعْجِع ولا أحدَ يستَمِع إليه، فالناس قد تعوَّدوا على جعجعتِه، كان هو الصعيدي الوحيد في العزبة، ومِن يوم أن جاء وهو يخفر الجرن، وتعدَّى السبعين وهو لا يزال يخفره، رأسُه ضخْم أسود، وملامِحُه غليظة دائمة التكشير، وشارِبُه الأبيض طويل غزير كشوارب الكلاب، وشعر رأسِه أكرت أبيض، وعَرَقُه يسيل على الدوام بطريقة تجعل وجهه الأسود دائم اللمعان وكأنما يعرق زيتًا، وكان لا يتكلَّم إلَّا جعجعةً لا يفهَمُها أحدٌ وكأنَّه هبهبة كلب، ولا يُجَعْجِع إلَّا إذا اقترب أحدٌ من الجرن، حتى ولو بحُسْن نيةٍ، وقد عاش في العزبة ثلاثين عامًا لا يعرف أحدًا ولا يأخذ على أحد، الكل يعرفُ اسمَه وهو لا يعرف أي اسم، كل ما هنالك إذا كان الواحد منهم بعيدًا عن الجرن فليس له دعوة به، أمَّا إذا اقترب أحدٌ جعجعَ له حتى يبتعد.

ولم تنقطع جعجعة عم ضرغام، فقد كان يُجَعْجِع لغريب، كان غريب قد عاد من هروبه واختبأ في «حلة» الذرة في الجرن ليَرْقُب عن كثبٍ ما يَدُور في العزبة ويتنسَّم أخبارَ فعْلَتِه الشنعاء، ووجهُه الأسمر قد أسودَّ، وطاقيته قد كبَسَها فوق رأسِه بطريقة لا تَظهَر معها «قُصَّتُه»، وهو خائف جادٌّ نادمٌ متوجِّسٌ وكأنما قد أفاق لنفسِه بعد غفوةِ سنين، وأدْرَك أنَّ قلة أدبِه وفراغ عينه وغوايته للنساء كانتْ عيبًا ما بعده عيب، ولمح فاطمةَ وموكِبَها وهو في طريقه إلى بيت الناظر، وازداد وجهه سوادًا، وبالَغ في إخفاء نفسِه داخل كومة الذرة الحطب وكفَّ عن النظر.

كان مِن فرط خوْفِه من فاطمة وبُعْدِها في نظره قد ازدادتْ رغبتُه فيها، وكلَّما ازدادتْ رغبته ازداد بُعْدُها عنه واستحالة وصوله إليها، ولم يكن يُرِيد بها شَرًّا، ولم يكن يُرِيد منها قليلًا أو كثيرًا، كلُّ مُناه كان أن يقول لها العواف مرة، فترد عليه بلهجة يحس معها أنها ترد عليه، عليه هو غريب، ولكنها لم تكن تفعل، وكان يعزِّي نفسَه بإيقاع نساء أكثر، ومع هذا يزداد رغبة في أن ينال من فاطمة كلمةً أو نظرةً أو حتى لفتةً تُلْقِيها إليه عبر الكتف أو مِن تحت ثقل المقطف، ولم تكن تلك أول مرة ينتظرها فيها غريب وهي في طريقِها إلى غيط أخيها حاملة المشنة وفيها الإفطار، تخب في ثوبها الأسود، والمشنة عايقة على رأسها وكأنها برنيطة، وريحها الحلو يهب على الغيط والشجر والخضرة والترع، فيكاد يملأ الجوَّ بعطر كعطر النسيم يوم شم النسيم، لم تكن تلك أول مرة ينتظرها فيها ويراها وهي لا تراه وهو خائف أن تراه، ولكنها كانتِ المرة الأولى التي يتمنَّى أن تراه فيها، المرة الأولى التي يتمنَّى أن يلتقي بها وكأن الأمر صدفة، ويفعل معها ذلك العيب الذي أرَّقَه وأقضَّ مضجعَه فوق تبن الوسية، عيب أن تقول لبنت ليست أختك أو أمك: «ازيك يا فاطمة»، فترد عليك بخجل لا ترد به أمك أو أختك.

ولكنها ما كادتْ تراه خارجًا من الذرة حتى تجمَّدَتْ في مكانها وكأنها رأَتْه عاريًا، كما ولدتْه أمُّه، وكأنها رأتِ العيبَ يخرج لها من الذرة، العيب الذي كواها فرج بنظراته محذِّرًا إياها منه، وإذا بالمشنة تسقط منها، وإذا بها تصرخ بأعلى صوتها، وإذا بالدنيا تنقلب، وإذا به يُطْلِق لساقيه الرِّيح ويَهِيم على وجهه في الغيطان.

•••

وعلى عكس ما توقَّعَتِ العزبة، رسمَتِ الست أم جورج علامة الصليب على صدرها، وأبدتْ أسَفَها البالِغَ، ورحَّبَتْ بأن تفعل ما في وُسْعِها لكشف الحقيقة مُقْسِمة بالمسيح الحي، أن تجعل زوجها يحبس غريب في النقطة، ويسلِّط عليه الظابط ليربطه في ذيل الحصان ويعلقه على عامود التليفون، كانت الست أم جورج معروفة بصلاحِها وتقواها وأدبها حتى إنَّ أحدًا لم يكن يعرف اسمها الحقيقي، وكانتْ تُرْغِم زوجَها أبو جورج الناظر على أن يصحبها للكنيسة في البندر القريب صباح كل أحد رغم تذمُّره من هذا العمل وهو الذي يقضي مساء كل سبت يعب كاسات العرقي عند بنايوتي البقال في القرية المجاورة الذي أحال بقالته إلى خمَّارة، وأم جورج قصيرة بيضاء شاحبة البياض شعرها مفلفل بالشيب وفي منتصف ذقنها ثلاث نقط موشومة، وكانتْ تعرف فاطمة، وتسمع عنها، وكانتْ معجبة بجمالها، بل كثيرًا ما كانتْ تُرْسِل في طلبها لتأتي كي تساعدها في عمل صواني البسكويت الذي يفطر به أبو جورج ولا يرضي بسواه، بل أحيانًا كانتْ تُرْسِل لها فقط كي تُجاذِبَها أطراف الحديث، وتأخذ من فمِها الحلو كل أخبار العزبة النسوية، وهي المحرَّم عليها أن تختلط بنساء العزبة، ولولا فارق السن لأصبحتْ صديقَتَها الصدوقة.

وأفظع خجل هو ذلك الذي أحسَّتْه فاطمة وهي تدلف إلى بيت الناظر لا مطلوبة ولا مرغوبة، وإنما شرَفُها معروض على الست أم جورج، الست التي كانتْ بالأمس فقط تقبِّلُها في شفتيها بطريقة غريبة وتقول لها إنه لولا الدِّين لخطبَتْها لأخيها الذي يعمل صرَّافًا في البحيرة.

تسمَّرتْ فاطمة في مكانها على العتبة، ولكنهن دفعْنَها دفعًا لا مجاملة فيه حتى سقط الشاش من فوق رأسِها، وتولَّتْ أم جورج طرد جورج من البيت وإغلاق الباب الخارجي وباب الحجرة الداخلي وشيش النوافذ وزجاجها، وكانتْ مقاومة فاطمة مقاوَمَةَ الخجل الفطري، ولكنَّهن تكاثَرْنَ عليها وأرقدْنَها على السرير بالضغط والجذْب وتولَّتْ إحداهن تقييدَ يدَيْها، وأمسكتِ امرأتان كلٌّ بساقٍ من ساقَيْها، وامتدَّتْ أيدٍ كثيرة، أيدٍ معروقة جافة، حتى بقايا الملوخية التي عليها جافة، وامتدَّتْ عشرات العيون الصادقة في بحثها عن الشرف والمحافظة عليه، امتدَّتْ كلُّها، انغرزتْ وقلَّبَتْ وتفحَّصَتْ حتى وهي لا تدري علام تبحث وأم جورج قد تولَّاها ارتباكٌ عظيم، وكأنَّها المكشوف عليها لا الكاشفة، تنهر النسوة بلا فائدة، وتُطَمْئِنُ فاطمة بلا فائدة أيضًا، والشد والجذب والصرخات المكتومة تدور في صمت وفي همس مروِّع، وسكون الترقُّب قد خيَّم على الحجرة، وامتدَّ منها إلى البيت وإلى الخارج وإلى العزبة وإلى الكون كله فصمتَ، صمتَ حتى وصل الصمت إلى رءوس الرجال حول فرج، وإلى المتناثِرين قريبًا من الدَّوَّار، وعند المكنة وفي الغيط، الذين كانوا يُتابِعون كل شيء يدور داخل منزل الناظر حتى دون أن يَرَوْه.

كلُّ شيءٍ هدأ وسكتَ ما عدا جعجعةِ عم ضرغام التي لم يكن يحفل بها إلَّا واحد فقط، عبدون أبو غريب، الذي كان قد أخذ طريقَه إلى الجرن وقد رفع ذيل جلبابه من الخلف آمِلًا أن يتحدَّث إلى عم ضرغام لينفِّس عن نفسِه ويلعن فاطمة وابنه وأهل العزبة لكائن من حتى لو كان عم ضرغام.

وفجأة انطلقتْ زغرودة من الحجرة الداخلية، تردَّدتْ على أثرها الزغاريد في المنزل، ثم في الخارج والألسنة تردِّد: «سليمة، إن شاء الله، سليمة والشرف منصان.»

ولحظتها فقط، رفع فرج رأسَه المنكَّس، ولأول مرة كان يجري فيها الدم، ولأول مرة نطق وقال: «هاتوها.»

وبعد لحظات، ومع أن عم ضرغام كان قد كفَّ عن جعجعته إلَّا أنَّه ما كاد يكف حتى كانتِ العزبة تشهد أعظم جعجعة قامتْ فيها، عند بئر الساقية القديمة العميق الذي يزيد عمقه عن أطوال ثلاثة رجال يقفون فوق رءوس بعضهم، عند البئر كان عبدون يُمْسِك ابنَه غريب من زُمَّارة رقبته ويحاوِل بكل قوَّتِه العجوزة أن يجْذِبَه ليدْفَعَه ويُغْرِقَه في البئر، بينما عشرات الرجال يمنعونه ويحاولون تهدئة خواطِره، وكان عبدون كلَّما جذَبَ ابنَه ووجَدَ نفسَه عاجزًا عن تحريكه من مكانه ازداد هياجه وغضبه وانصبَّتِ اللعنات من فمِه كالحمم، وكل مَن كان يَرى عبدون في موقِفه ذاك كان لا بد أن يؤمن أنه حقيقة يريد إغراق غريب في البئر، وأنه جادٌّ في تنفيذ ما يريد، ولكن كان هناك شيء ما، لعلَّه في طريقة زعيقه، لعلَّه في نوع الكلمات التي كان ينتقيها ليشتم بها ابنه، كان هناك شيء ما لا بد تلمحه وتحس معه أنه في أعماق نفسه غير خَجِلٍ من ابنه، بل أكثر من هذا، ممكن أن يكون فخورًا أن ابنه هو الذكر وأنه هو المتَّهم بالفتك.

أمَّا في بيت فرج فقد كانتْ هناك مذبحة، كان فرج يضرب فاطمة بالتقصيرة التي يَصْحَن بها البُنَّ، وكانتْ فاطمة تصرخ، وزوجتُه تصرخ خوفًا عليه أن يقتُلَها، ونساء الجيران يصرُخْن، والرجال كثيرون داخل البيت وخارجه يحاولون منعه بلا فائدة، وفرج كالوحش الهائج يريد حقيقة أن يخلِّص على أخته.

ولكن، ربما في ضبط قوة الضربات التي ينهال بها على فاطمة وربما في البريق الذي يملأ عينيه والذي لم يكن بريق غضب خاص أو فرحة خاصة، كنتَ تلمَحُ شيئًا، فصحيحٌ أنَّ فاطمة لم تخطئ وشرَفُه منصان، ولكنَّه لا بد أن يقوم بعمل ضخمٍ كبيرٍ قاسٍ يردُّ به على آلاف الخواطر التي لا بد قد دارتْ في الرءوس وعلى كلام الناس، وكلام الناس كثير.

وطبعًا لم يُغرِق عبدون ابنَه، ولم يقتل فرج أختَه، مالتِ الشمس للمغيب كما تعوَّدتْ أن تميل، وعاد السارحون في الغيطان يسحبون البهائم ويحملون عشاءها فوق الحمير، وبدأتِ الأدخنة ترتفع من أسطح البيوت الطين وشقوقها، وهبَّتْ روائح التقلية والزيت المقدوح تفتح الأنفس للعشاء، وصلَّى الرجال المغرب، وانتهى صعودُ النساء وهبوطُهن إلى السطوح، وفرغْنَ من تبييت الدجاج وعلْف البهائم، وما كاد العِشاء يؤذِّن حتى كان الهدوء الهائل الخالد قد خيَّم على العزبة من جديد، وحتى كان كلُّ ما يتعلَّق بما حدث قد نُوقِش وأُعِيد نقاشُه حتى فرغت الجعاب، وثقلت الرءوس، وبدأت ذبالات المصابيح تخفت وتتوارَى، وبدأ النوم يزحف مع الظلام، وبدأت الأجساد تتمدَّد تَعِبةً لا حراك بها.

وحين أصبحتْ فاطمة وحدَها، حين نام الجميع وبقيتْ هي محطَّمةً مستيقظةً بدأتْ تبكي، لم تكن تريد، ولكنَّ الدموع بدأتْ تَسِيل رغمًا عنها صانِعةً قناتَيْن لامِعتَيْن يصلان ما بين عينيها وأرض «البحراية» التي كان فرج قد حكم عليها أن تنام فيها بلا حصيرة أو غطاء، ثم بدأتْ تنشج، وبدأ جسمُها يهتزُّ، بل بدأ قفص الفراخ الموضوع بجوارها يهتزُّ ويهزُّ الفرنَ والبيتَ والعزبة كلَّها ويكاد يُوقِظ النائمين، كانتْ تبكي بكاءَ مَن يتألَّم ألَمًا لا قِبَلَ له به، بكاء الذي جُرِح جرحًا عميقًا وجاء الليل عليه فبدأ يحسُّ بالألم، الألم الكاوي الذي لا يرحم.

•••

وحاوَلَ أولاد الحلال فيما تلا هذا من أيام أن يُقْنِعوا فرج بقبول غريب عريسًا لأخته، ولكنَّ فرج رفَضَ رفضًا مانعًا باتًّا ملأَهم باليأس، أمَّا غريب، فقد كفَّ حديثِه عن فاطمة تمامًا، بل كفَّ من يومِها حديثَه عن كلِّ النساء، وحلَقَ قُصَّته، وأصبح يُصلِّي، ولكنه كان يُضبَط أحيانًا وهو يحوم حول العزبة، ويتوقَّف عند النافذة المفتوحة على بيت فرج.

أمَّا فاطمة فقد حبَسَها فرج في البيت ومنع خروجَها وشغْلَها رغم حاجته الشديدة إلى يوميتها، ولم يقلق فاطمةَ هذا في شيء، كانتْ عازِفةً عن الدنيا لا تريد الخروج، والحيوية المتدفِّقة التي كانت تبرق في عينيها وخدودها ولفتاتها كأنها نضبتْ فجأة، ولم يَبْقَ لها أثرٌ، وتحوَّلَتْ إلى حيوان بليد كخروف الضحية، لا تبتسم وتكاد لا تتحرَّك، وكانتْ إذا تحدَّثتْ خرج حديثها ذليلًا قد فقد كبرياءه وحلاوته والأنوثة التي تقطر منه.

ولكنَّ هذا لم يَدُمْ طويلًا، فلم تَبْقَ فاطمةُ حبيسةَ البيت إلى الأبد، ولم تَطُلْ صلاة غريب، ولا استَغْنَى فرج عن برطَعَتِه وضحكه؛ إذ بعد أسواق كثيرة وأسواق، كان كلُّ ما حدث قد وضعه أهل العزبة في خزينة النسيان وأغلَقُوا عليه بالضبة والمفتاح، وكان أولاد الحلال قد تكفَّلوا بمُصالَحة عبدون وابنه على فرج، فأصبحوا يتحادَثون ويتبادَلون العمل ويتزامَلون كالعادة، وربَّى غريب قُصَّتَه وعاد يُحدِّث أصحابَه عن النساء فوق تبن الوسية، ولم يكن حديثه يخلو من مرارة، إذ كانتْ فاطمة قد عادتْ إلى الخروج، جميلة كما كانتْ، معووجة المنديل رافعة ذيل الثوب، تخطر إذا مشَتْ، وتدوخ إذا تلفَّتتْ، وتُعافِي كلَّ مَن يلقاها، إلَّا هو، لا عن عمد، ولكن كأنها لا تراه، وكأنما قد مُحِيَ من الوجود.

عادتْ فاطمة تنظر وتتحدَّث وتبتسم وتطير العقول وكل شيء فيها لم يتغيَّر، ولكن الناس كانوا يعجبون، فلا بد أنَّ فاطمة قد اكتسبَتْ شيئًا جديدًا لم يكن لها، أو أنها لا بدَّ فقدَتْ شيئًا أصيلًا كان لها، الشيء الذي كان يلوِّن وقفتَها ومشيتَها وضحكتها، الشيء الذي يجعلها تبدو ملكًا للجميع تحب الجميع ويحبها الجميع، الشيء الذي يُكسِبها شفافية ونقاءً والذي كان يجعلك تحس إذا ابتسمتْ أنها حقيقة تبتسم وإذا غضبتْ أنها حقيقة غاضبة، كانتْ قد فقدتْ براءَتها، وأصبحتْ تستطيع أن تنظر دون أن تنظر، وتضحك دون أن تُرِيد، وتُريد الشيء وتُخْفِي رغبتَها فيه.

بل أصبحتْ تستطيع إذا ما لَمَحَها فرج خارجة ذات يوم من دار صابحة الماشطة وأخذها إلى بيته وأغلق عليها باب القاعة، وأمْسَكَها من ضفائرها، وشدَّد عليها، وسألها عمَّ كانتْ تفعله عند صابحة؟

أصبحتْ تستطيع إذا ما حدث أن تقول: «كنت بقيس التوب، أوع كده!»

وتجذب نفسها وضفائرها من قبضته بعنف غريب، وتقف في الركن تُعِيد النظام إلى شعرها وتواجهه، بعيون مشرعة، حلوة، لا تنخفض، ولا تخجل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤