الجو الفكري في مختلف العصور

ما أيسر أن تفقد الخرافة سطوتها حين تعترض غرورنا بدلًا من أن تتملقه! وشأن الخرافة في هذا شأن وهميات أخرى كثيرة.

جيتة

١

لي — مثل الكثيرين من الناس — آراء معينة أتمسك بها، وأومن بصوابها؛ لأنها تستند استنادًا منطقيًّا إلى حقائق مشهورة بيِّنة، وكثيرًا ما أضيق بالصديق الحميم الذي لا يُسلم لي برأي أعتز به، قد أجده يصر على الإنكار حتى بعد أن أعرض عليه جميع الحقائق المتعلقة بالرأي الذي يرفض، وحتى بعد أن أُظهره المرة بعد المرة على خطوات الاستدلال المنطقي التي ينبغي لها أن تُقنع أي رجل منصف معتدل، والذي يزيد في ضيقي به أنه في الغالب لا يستطيع تفنيد حجتي، ومع ذلك، ومع أنه يُسلم بها رغم أنفه، فإنه يبقى متمسكًا برأيه، وينتهي بي الأمر إلى أن أعتقد أن صديقي، وا أسفاه، قد ختم الله على عقله أو أغشى على بصيرته الانفعال أو الانقياد للهوى، والانسياق وراء الخيالات، فصار بهذا كله لا يُبصر الحق.

وقد أغفر لصديقي الانقياد للهوى وانحرافه عن الطريق المستقيم، أفعل ذلك لأني أعرف أثر الهوى في سوء الحكم، ولأني أراها هنة هينة وخطأ كان يصح جدًّا أن أقع فيه أنا نفسي، لولا أن الله سلَّم.

والواقع أني وصاحبي هذا لسنا دائمًا على هذه الدرجة من الاختلاف، بل على العكس، إن آراءنا في القضايا الكبيرة جدُّ متقاربة؛ وذلك لأننا — كما شاءت لنا المقادير — أستاذان جامعيَّان، اكتسبنا نفس التجارب واهتممنا بنفس الأشياء، وهو وأنا نتفق عادةً على نوع الحقائق التي يصح اعتبارها مكونة لقضية ما، وعلى نوع الاستنباطات التي يصح أن تقبل التصديق، فأكثر المقدمات التي يستخدمها كلانا والعبارات التي تدور على لسانينا بحكم العادة، هي مما ألف استعماله رجال التعليم في المدارس. ومع ذلك، ومع اتفاقنا التام على الأساسيات، فقد أقضي أنا وصاحبي الليل كله نتجادل متفقين على كل شيء سوى الرأي، على حد تعبير كارليل.

وهكذا نستطيع نحن الأستاذين أن نقضي ليلة بأسرها في جدل؛ وذلك لأننا متفقان، والحال غير ذلك إن اجتمعت أنا واجتمع هو برجال لا ينتمون إلى طائفتنا؛ برجال السياسة مثلًا أو برجال الدين، والذي يحدث حينئذ أن ينقطع حبل المجادلة بحكم عدم وجود الاتفاق على الأساسيات، فما يعده رجل السياسة أو رجل الدين حقيقةً جوهرية، قد لا نعدها نحن كذلك، فهي — في نظرنا — مشكوك في صحتها أو في أهميتها، وعمليات الاستدلال التي نراها مؤدية إلى الاقتناع يرفضها صاحبانا بشيء من الاستخفاف والعناد، وما هي في نظرهما إلا كلام النظريين الجامعيين، وهكذا لا تكاد جلسة السهرة تبدأ إلا وقد آن لها أن تنتهي؛ لأننا لا نجد ما نصل به سير المجادلة، وكيف نستطيع أن نُواصلها وصاحبانا قد أفسد عليهما التفكير ما يعانيانه من تحكم الأهواء، وما يشاطران فيه أبناء طائفتيهما من استسلام بلا وعي لأفكار ومعانٍ يتداولها الناس دون تثبت منها، فليس قصورهما إذن ذلك الأمر السطحي، الذي يرجع إلى قصور الذات فحسب، بل هو أعمق وأعمُّ.

على أننا جميعًا رجال الجامعة ورجال السياسة ورجال الدين، ننتسب لجيل واحد، فإذا ما قُدر لنا أن نلتقي ببعض شخصيات بارزة تنتمي إلى جيل سابق، ظهرت لنا بلا شك أشياء وأمور تجمعنا نحن أبناء الجيل الواحد على الرغم من شدة ما بيننا من اختلاف، فلنقف هنيهة ولنطلق لخيالنا العنان، ولنرَ ماذا يكون إذا ما استحضرنا لعالمنا هذا دانتي وتوماس الأكويني، كما كان يستحضر علاء الدين الجن بمس مصباحه السحري، فإذا ما استجاب القديس توماس وحضر، فلا يليق أن نضيع وقته الثمين في التحدث عن حالة الطقس وما إلى ذلك، بل ينبغي أن نُبادر فنطلب إليه أن يُحدد لنا فكرة القانون الطبيعي؛ إذ إن عبارة «القانون الطبيعي» كانت شائعة الاستعمال في عصره، بقدر ما هي كذلك في أيامنا، ونحن نعرف أن القديس توماس كان دائمًا على استعداد لأن يحدد ويعرف، وإذن فهو لا يتردد في أن يحدد لنا فكرة القانون الطبيعي على النحو التالي، فيقول:
لما كانت الموجودات كلها المشمولة بالعناية الإلهية، يحكمها ويقدرها القانون الأزلي، فبيِّنٌ أن للموجودات كلها نوعًا من المشاركة في القانون الأزلي، وذلك أنه من حيث إنها منطبعة به فهي تستمد منه نزوعها لأفعالها وغاياتها الذاتية. هذا وأكمل الموجودات خضوعًا للعناية الإلهية هو المخلوق العاقل، وذلك من حيث إن المخلوق العاقل بما له من نصيب من العناية الإلهية لا تقتصر عنايتهعلى ذاته فحسب، بل تمتد إلى غيره، ومن ثم كان له نصيب من العقل الأزلي يستمدمنه نزوعًا طبيعيًّا لفعله وغايته الذاتيين، وهذا الإشراق من القانون الأزلي في المخلوق العاقل هو ما يُسمى القانون الطبيعي.١
وقد نفضل بعد أن نسمع هذا التحديد الموجز الدالَّ أن ننتقل من موضوع القانون الطبيعي إلى موضوع أوثق اتصالًا بشئون السياسة العملية، وليكن مثلًا «جمعية الأمم»، وهو موضوع كتب فيه دانتي طويلًا، وإن كان قد سمَّى كتابه «في الملوكية»، ودانتي من أنصار جمعية الأمم، إن صح القول، وينتصر لها بالحجة التالية:
الجنس البشري كلٌّ بالنسبة إلى أجزاء معينة، وهو جزء بالنسبة إلى كلٍّ معين، فهو كلٌّ بالنسبة إلى ممالك معينة وشعوب معينة، كما سبق لنا القول، وهو جزء بالنسبة إلى العالم كله، وهذا بيِّن بذاته، وإذن، فعلى النحو الذي تقابل به الأجزاء البشرية الجنس البشري باعتباره كلًّا يكون مقابلة الجنس البشري للكل الذي هو جزء منه، ومما سبق لنا بيانه يسهل علينا أن نرى أن مقابلة أجزاء الجنس البشري للجنس البشري باعتباره كلًّا تتم باتباع مبدأ واحد، ألا وهو أن تخضع لحكومة ملك واحد، فإذا ما حدث ذلك قابل الجنس البشري العالم الذي هو جزء منه، والعالم يحكمه ملك واحد، هو الله، فالمبدأ في الحالتين واحد، هو حكومة الملك الواحد، ونستدل بهذا على أن الملوكية، أو ما نسميه نحن جمعية الأمم، ضرورية للعالم من أجل صلاح حاله.٢
على أنه بعد أن يلقي دانتي بيانه هذا يتعثر سير المجادلة؛ إذ بماذا نستطيع أن نرد على حججه، أو على حجج القديس توماس؟ وهما قالا ومهما قلت فلا سبيل إلى أن أرى أنا أو يريا هما أننا نتكلم في الموضوع، وقد يُشْكل الأمر علينا فلا يسهل على واحد منا أن يتبين موقفه من المجادلة بالضبط، ولكنني أستطيع أن أتأكد على كل حال من أمر واحد، هو أن الرجلين يستعملان أسلوبًا واحدًا لإحاطة الموضوع بالغموض، وإذا ما أدركت هذا كله فإني أدفع نفسي وأحملها على حسن الظن، فألتمس لضيفيَّ الجليلين عذرًا، وأقول: إنهما ليسا هذه المرة على ما ينبغي لهما أن يكونا عليه من حسن التوفيق، ثم بعد ذلك أتمتم معتذرًا أنهما لا يقدمان حججًا بل هراء، ويصح جدًّا أن يكون الأمر كذلك، بل من المؤكد أنه بالنسبة لعقول الناس في أيامنا هذه هو ذلك، فلا يقدم عاقل في زمننا على أن يُعيد طبع كتاب الملوكية للدعوة لتأييد جمعية الأمم، ومع ذلك فإني لا أستطيع أن أخفي عن نفسي أن دانتي والقديس توماس لم يكونا عديمي الذكاء، وكيف أظنهما كذلك، وقد شهدت لهما الأجيال المتعاقبة بأنهما كانا حقًّا من صفوة الخلق، وإذا كانا يتحدثان حديثًا غير مفهوم، فلا يرجع ذلك إلى قلة الفهم من جانبهما، فإنهما كانا — على أقل تقدير — على تلك الدرجة من الفهم ومن العلم التي ننسبها لأولئك الذين تحدثوا في زماننا في موضوع جمعية الأمم، لها أو عليها، فهما — مثلًا — لا يقلان ذكاءً عن كليمنصو ولا يقلان علمًا عن ويلسون.٣
فكيف إذن نفسر الإشكال؟ قد ييسر لنا تفسيره أن نتذكر العبارة التي اقتبسها الأستاذ وايتهد٤ من أدب القرن السابع عشر، فذاع أمرها من جديد، وهي «الجو الفكري».

هذه عبارة لازمة جدًّا، ومؤداها أن ما تملكه حُجةٌ ما من قوة الإقناع أو عدمه لا يتوقف على المنطق الذي تُعرض به بقدر ما يتوقف على الجو الفكري الذي تجد فيه قوام حياتها، وعلى ذلك فإن الذي يجعل حجج دانتي أو تحديدات القديس توماس عديمة المعنى في نظرنا، ليس سوء الاستدلال أو سقم الفهم، إنما هو كونها تنسب للجو الفكري الذي ساد العصور الوسطى، أو بعبارة أخرى، كونها ترتبط بأفكار فطرية معينة، وبنسق عالمي تصوري خاص، وهذا كله فرض على دانتي وعلى القديس توماس استعمالًا خاصًّا للفهم، واستعمالًا خاصًّا لنوع من المنطق، فإذا أردنا إذن أن نعرف علة عجزنا عن متابعة الرجلين في حججهما يلزمنا أن نفهم بالقدر الذي نستطيع طبيعة الجو الفكري في العصور الوسطى، فأقول:

من المعلوم تمامًا أن نسق العالم الذي عرفته العصور الوسطى له مصدران، منطق اليونان والتاريخ كما روته الكتب المقدسة النصرانية، ومعلوم أن الكنيسة هي التي تولت تشكيل ذلك النسق؛ إذ كانت هي الهيئة التي فرضت سلطانها خلال تلك العصور على المجتمع الأوروبي الغربي النازع إلى الفوضى والتفكك، وليس مما يصعب علينا أن نصف الجو الفكري إذ ذاك. لا يصعب ذلك؛ لأن العقل الحديث يُجيد الملاحظة بما طُبع عليه من حب الاستطلاع، كما يُجيد العناية بدقة الوصف، ولكنه إذ يسجل ويصف لا يستطيع أن يحيا في جو العصور الوسطى، ومما كان يُوقن به الناس إذ ذاك إيقانًا لا يتطرق إليه الشك، أن الله الأب خلق العالم، بما فيه الإنسان، في ستة أيام، وأن الله عقل خير أحاط بكل شيء علمًا، وأنه خلق كل شيء لغاية، وإن كانت لا تُدرك، وأنه خلق الإنسان كاملًا، ولكنه عصى ربه فهوى من نعمته ورضاه إلى الإثم والضلال، واستحق بذلك المقت الأزلي، إلا أن الله أتاح له سبيل التفكير والنجاة بأن ضحَّى ابنه الوحيد بنفسه تقربًا وزلفى، وبينما الإنسان في ذاته عاجز عن أن يتقي جزاءه العادل من غضب الله، إلا أن الله رحمةً منه بعبده فتح للإنسان باب مغفرة الإثم والضلالة، إن هو تواضع وخضع لمشيئة ربه، وما الحياة الدنيا إلا طريق المغفرة، يمتحن الله فيها مخلوقاته، وعندما يأتي أمر الله، تكون نهاية الدنيا ويبيد العالم لهبًا، وعندئذ يكون يوم الفصل، فأما العاصون المتمردون فيعذبون العذاب الأبدي، وأما المخلصون فيحظون بلقاء ربهم في جنة الخلد حيث الكمال والسعادة السرمديان.

فكانت الحياة، كما تصوروها في العصور الوسطى «دراما» تامة السبك، تدور حول فكرة رئيسية، ومسرحها الكون، صدرت عن مؤلف مهيمن، محيط، وتجري أحداثها ووقائعها طبقًا لخطة معقولة، والدراما كاملة في عقل المؤلف قبل أن يُخرجها بالفعل، مسطرة من قبل بدء الخلق لآخر حرف من حروف آخر كلمة تقع عند انتهاء الزمان، ولا يتطرق إليها تغيير ما، لا للخير ولا للشر، وليس للإنسان إلا أن يُحاول فهم الحكمة أو العلة أو الغاية الإلهية بالقدر الذي يستطيع، ولكن لا سبيل له إلى تفادي واقعة من الوقائع أو حادثة من الأحداث جرى بها القضاء، إلى أن يحين الأجل المسمى، وواجب الإنسان جلي، هو أولًا التسليم بأحكام القضاء؛ إذ هو لا يملك لها دفعًا أو تبديلًا، وهو ثانيًا، أن يقوم بنصيبه في هذه الدراما الكونية العظمى، وهنا السؤال: كيف يتيسر له إحسان الأداء على الوجه الذي أراده المؤلف؟ لكي يتيسر له ذلك، تتولى السلطتان الخاضعتان لله والمستمدتان من مشيئته السلطان الشرعي على عباده — وهما الكنيسة والدولة — إلانة قلب الإنسان واجتذابه للخضوع الذي ينبغي للعبد، وتلقينه ما يلزمه لأداء العمل الذي قُسم له، وهذه الغاية هي سر إقامة الكنيسة والدولة، ولا ينبغي بحال أن نتصور الحياة أمرًا آليًّا، على الضد، لقد منح الله الناس نعمة العقل، وأوجب عليهم أن يستعملوه، ولكن كيف يستعملونه، ينبغي أن يكون ذلك في حدود، وأن يجري في نظام، فمثلًا من العبث أن يستطلع العقل أصل الحياة أو نهايتها، ومن العبث ذلك؛ لأن الله قد عين الأصل والنهاية على النحو الذي أراد، ثم إنه أوحى إلى رسله ما شاء لنا أن نعرف عنهما، ومن العبث أيضًا، بل ومن العصيان، أن يُحاول العقل معرفة غاية الحياة، فالله وحده هو الذي يعرفها، وبعدُ فما هو عمل العقل؟ هو أن يبين للناس العلم الصادق الذي أطلعهم عليه الوحي الإلهي، وأن يُوفق بين الأحداث والوقائع المتنوعة المتنافرة المعلومة لهم بالخبرة العملية، وبين النسق العقلي للعالم المسلَّم به بالإيمان.

هذه كانت مهمة العقل في جو العصور الوسطى، وكانت المهمة عظيمة، شحذت القوى العقلية، فانطبع تفكير أفضل رجال تلك العصور بطابع عقلي تام، وأنا أعرف أنني حينما أقول هذا أُخالف ما جرى عليه العرف الشائع، أعرف أن العرف جرى بتسمية القرن الثالث عشر عصر الإيمان، تمييزًا له بهذا الوصف عن القرن الثامن عشر، الذي نسبوا إليه أنه كان قبل كل شيء عصر العقل، والتمييز إلى حد ما صحيح، فإن كلمة «عقل» تفيد كغيرها من الكلمات أكثر من معنى، فدلت في الاستعمال الشائع على «غير المؤمن» أو «الملحد» الذي يكفر بالنصرانية، ويرجع ذلك إلى أن الكتَّاب في القرن الثامن عشر استعملوا حججًا عقلية لإثبات بطلان العقيدة المسيحية، وبهذا المعنى الشائع كان فولتير — مثلًا — رجل عقل، والقديس توماس رجل إيمان، ولكن هذا الاستخدام لكلمة «عقل» سقيم لسبب بيِّن، فالعقل قد يُستخدم لدعم الإيمان كما يُستخدم لهدمه، والواقع أن بين فولتير والقديس توماس — على عظم ما بينهما من فوارق — اتفاقًا تامًّا على أن معتقداتهما يمكنهما إثبات صحتها عقليًا، ويصح لنا إذن أن نقول: إن القرن الثامن عشر كان عصر إيمان، كما كان أيضًا عصر عقل، وإن القرن الثالث عشر كان عصر عقل، كما كان أيضًا عصر إيمان.

وليس في هذا القول تناقض، فكثيرًا ما يجمع الإنسان بين حرارة الإيمان واستخدام الحجج العقلية استخدام الخبير بأساليبها، وفيما عدا البسطاء من العامة والمتصوفة الجديرين بهذا الوصف — فإن معظم الناس — بما فيهم أولئك الأذكياء الذين يوقنون يقينًا خالصًا حارًّا بالله في ملكوته وبأن الدنيا بخير — يشعرون بالحاجة إلى تبرير إيمانهم بحجج معقولة كافية، ويزداد إحساسهم بتلك الحاجة إذا ما بدأت بعض الشكوك تُساورهم وتُزعجهم، ولعل هذا يُفسر لمَ استمسك المفكرون في عصر دانتي بالاستدلالات العقلية استمساك المستميت، لم يكن ذلك لأن العقيدة كانت قد اختل نظامها وانتثر عقدها، بل كان ذلك لأن أقدر المؤمنين أخذوا يشعرون بأنه لا يكفيها أن تستند إلى العواطف الدينية الغريزية فقط، فبدا لهم أن لا بد لهم من برهان عقلي حاسم، لا يغفل شيئًا ما ولا يتهرب من صعوبة ما، وإذا شئنا أن نوضح ما ذهبنا إليه بالاستشهاد بالقديس توماس قلنا: إنَّ الذي دعا ذلك القديس للبحث عن برهان عقلي قاطع على أن العالم نظام إلهي حكيم هو بالضبط إيمانه بأن العالم نظام إلهي حكيم، وإذن فلا يمكن للقديس توماس أن يجري على لسانه القول المأثور عن ترتوليان: «إني أومن بما يحسبه العقل سخيفًا.» ولكنه — أي توماس — كان يمكنه أن يقول ما قاله القديس أنسلم: «إني أومن لكي أعلم.» وله أن يضيف إلى عبارة أنسلم: «ولشد ما يحزنني ألا أستطيع التدليل بالعقل على ما أعلم.»٥
والتوفيق بين الوقائع والأحداث المتنوعة المتنافرة، وكون العالم نسقًا عقليًّا جدُّ عسير، فما بالك إذا كانت تجارب الإنسان محدودة وأفق علمه غير متسع، كما هو الحال في العصور الوسطى، إن التوفيق حينئذ يكون أمرًا مستحيلًا، اللهم إلا إذا استطاع المنطق أن يسلم بالنزعات العاطفية التي لا يعرفها العقل، ولم يخيب المنطق رجاء أهل عصر دانتي فيه، ولكن لكي يحققوا ذلك؛ كان واجبهم الأول أن يضعوا قواعد دقيقة للجدل، بيد أن هذا كان أقل صعوباتهم؛ إذ ما لبثوا أن وجدوا أنفسهم رغم استعانتهم بمنطق أرسطو عاجزين أحيانًا عن أن ينظموا في سلك المقولات الأنيقة التي يقررها الدين ذلك النوع من الحقائق الذي وصفه وليم جيمس بكونه٦ غير ذلول لا يقبل أي ترويض، فكانوا مضطرين إذا اشتدت بهم الحال إلى البحث عما يُمكن أن يكون وراء ظاهر آيات الكتاب المقدس من معانٍ خفية، واستعانوا على استخراجها بالتأويل الرمزي، وعبروا عن هذا في قاعدة مشهورة من قواعد التعليم وضعها «المدرسيون» هي: ظاهر النص يضبط ما نعلم، والتأويل الرمزي يكشف عما نرجو أن نعلم، والأمثال تدعم العقيدة، والمواعظ تشكل السلوك.

وهكذا أمكن للقرن الثالث عشر — بفضل ما استخدم من جدل دقيق للغاية، يشد أزره أحيانًا تأويل رمزي — أن يظهر الإنسان على عجائب صنع الله، وكان محور فكرة الحياة الإنسانية: كيف هبط الإنسان من الجنة ففقدها، وكيف أُتيح له أن يعود، فيستحقها، ولجلاء هذه الفكرة اتجهت أفضل العقول في ذلك العصر، فكان شرح تاريخ الإنسانية من عمل رجال اللاهوت، والتوفيق بين الطبيعة والتاريخ وتنسيق ما بينهما في نسق عقلي من عمل رجال الفلسفة، وما يلزم اللاهوت والفلسفة من أساليب البحث والمناهج يقدمه المنطق، وأثمر اللاهوت والفلسفة والمنطق مؤلفات عديدة منها «الخلاصة اللاهوتية» للقديس توماس، ويصح أن يقال عنها قطعًا: إنها من أعجب وأضخم ما أنتج عقل الإنسان، ولم يرَ التاريخ مؤلفًا مثيلًا لها فيما سبقها، ولا فيما لحقها، أحاط بالعالم الواسع إحاطة تامة على هذا النحو الأنيق من الفهم الدقيق المطمئن، وفي الخلاصة اللاهوتية تستقر كل جزيئة في مكانها اللائق بها بلطف الصانع الحاذق ودقته، بحيث يتركب منها ومن أخواتها نسق كامل متماسك مقنع للناظرين.

أراني قد طال مكثي وإياكم في جو العصور الوسطى، وإن طال أكثر من هذا قد تكون العاقبة وخيمة، فلننزل من قمم القرن الثالث عشر إلى منخفضات القرن العشرين، حيث يوجد جو أثقل مما كنا فيه في علٍ، جو يثقله ما يزخر به من حقائق، فنجد فيه تنفسنا أيسر وأقل نصبًا.

٢

وبعدُ فأي معنى نستطيع نحن أن نستخرج، وإلى أي رأي نستطيع نحن أن ننتهي — نحن رجال العلم ورجال التاريخ ورجال الفلسفة في القرن العشرين — من ذلك المركب من اللاهوت والتاريخ ومن الفلسفة والعلم، ومن الجدل ومناهج البحث الذي صنعه رجال القرن الثالث عشر؟ إننا نستطيع دون شك أن نقرأ كلمة كلمة ما احتوته المجلدات الثقيلة المتراصة صفًّا صفًّا من أمثال «الخلاصة» وما إليها من مؤلفات تُعنَى بحفظها دور الكتب، نستطيع حقًّا أن نقرأها، بل إن أساليبنا الدراسية تُوجب علينا ذلك، ومن المؤكد أننا سنبذل قطعًا في فهمها ما نملك من تدقيق وجهد، بيد أننا — مهما حاولنا — لن نستطيع أن نزعم لأنفسنا أننا نهتم حقيقةً بما لها أو عليها من الحجج، وقد تبعث فينا قراءة تلك النصوص شيئًا من العجب والإعجاب، بما تجلى فيها من كلف لا يفتر وصبر لا حد له، وتفنن وفطنة عديمي المثال، وإنْ كنا في زمان قلَّ فيه أن يستولي علينا تعجب ما، فقد أصبح كل شيء معروفًا لدينا مألوفًا عندنا، وقد نستطيع أيضًا أن نفهم تلك النصوص بحيث يمكننا أن نُعيد صياغتها في عبارات زماننا، وإن بدت الصياغة سيئة الصنعة، قد نقرأ وقد نتعجب وقد نفهم، ولكن الشيء الذي نعجز عن فعله هو أن نقابل حجج القديس توماس بحجج من نوعها، إننا في الواقع عاجزون عن قبولها وعن تفنيدها، بل لا يخطر ببالنا أن نقوم بالجهد الذي يقتضيه القبول أو الرفض؛ وهذا لأننا نشعر بالغريزة أن الجو الذي نمت فيه آراء القديس وترعرعت هو بالنسبة لنا جو خانق، نحاول فيه التنفس ونكاد ألا نستطيعه، وموقفنا من استدلالاته لا علاقة له بكونها صحيحة أو باطلة، فليست في نظرنا هذا أو ذاك، ولكنها — لا أكثر ولا أقل — غير ذات موضوع، وقد صارت كذلك؛ لأن النسق العالمي الذي استخدمت في تأليفه لا يثير فينا ما يُحرك الوجدان أو الشعور بالجمال؛ ولذا صرنا لا نستجيب له.

فالناس في زماننا الحاضر يستحيل عليهم — مهما حاولوا — أن يتصوروا الحياة «دراما» إلهية أولها معروف وآخرها معروف، ومغزاها قد بان واستبان وانتهى الأمر، ولا مناص لنا — سواء أحببنا أم كرهنا — من أن نعتبر العالم في تغير متصل معقد لا ينقطع ولا يهمد، تتلاشى فيه الأشياء وتتجدد؛ ولذلك فالأشياء والمبادئ التي تصدر عنها الأشياء ليست إلا أحوالًا «عارضة أو أشكالًا زائلة»، أو «نتائج تترتب على اجتماع قوى» لا تلبث حتى تتفرق وتأخذ كل منها وجهتها، وإذا سألنا كيف بدأ هذا التغيير، قلنا إن مبدأه يحجبه غمام كثيف لا ينفذ خلاله بصر أو بصيرة، وإذا سألنا كيف ينتهي، قيل إن النهاية أمرها أكثر وضوحًا من البداية، وإن كانت ليست مما يفتن أو يجذب إليه القلوب أو الآمال، وهاك ما تصوره ج. ﻫ. جينز:
كل ما في الكون يدل دلالة لا سبيل إلى تجاهلها على حدوث خلق بفعل واحد معين أو بأفعال متصلة، وأن هذا وقع في زمن أو في أزمنة بعيدة عنا حقًّا، وإن كان بعدها لا يوصف بأنه لا متناهٍ، ومعنى هذا أن الكون لم يتولد اتفاقًا من عناصره الحالية، كما أنه لم يكن على الدوام في الحال التي هو عليها الآن؛ وذلك لأن التولد الاتفاقي من جهة وعدم التغيير من جهة أخرى يقتضيان ألا تنجو من الفناء إلا تلك الذرات التي لا تقبل التلاشي إشعاعًا، وبعبارة أخرى يقتضيان انعدام ضوء الشمس وضوء النجوم، على ما هما عليه، وألا يكون حينذاك إلا بريق نور إشعاعي بارد منتشر في الفضاء انتشارًا متساويًا، وهذا — في الواقع — هو صورة النهاية التي يتصور العلم في طوره الراهن أن الخليقة تسير نحوها، وأنها لا بد بالغتها وإن طال السفر.٧
ولا حاجة بنا طبعًا إلى أن نستعد منذ الآن لهذا الحادث البعيد الموعود، فالكون لا يزال بخير، ومهما يكن فلن تكون نهايته في زمننا، على أن اطمئناننا هذا لا يمنع من أن نتطلع إلى معرفة أثر ذلك التلاشي الكوني المحتوم في الإنسان، فنتساءل: كيف تأتَّى له أن يركب في فلك هذا الكون، وما شأنه فيه؟ ولهذا السؤال — إن اتبعنا الأستاذ دامبيير ويتهام — إجابتان علميتان ممكنتان:
يمكن اعتبار الحياة الإنسانية إما شيئًا عرضيًّا تافهًا نتج دون أن يكون مقصودًا لذاته في مجرى عمليات القوى الكونية، وإما أن تكون أعلى ما بلغه جهد التطور الخالق، وأن الأرض قد تهيأت بموجب أحداث وقعت اتفاقًا في الزمان والمكان لأن تكون، دون غيرها من الأجرام، المستقر الوحيد المناسب للحياة الإنسانية.٨
وبين الإجابتين لا سبيل إلى الاختيار والمفاضلة، ففي كلتا الحالتين تعتبر حياة الإنسان جزءًا من حياة الكون قد قُدر لها أن تفنى بفنائه، ولنستمع في هذا لرأي برتراند رسل:
إن الإنسان وليد علل لا تفقه شيئًا عن كنه الغاية التي تحدثها، وما أصله ونموه وآماله ومخاوفه وميوله ومعتقداته إلا ثمرة التقاءات عرضية للذرات، وليس في وسع أي حمية أو بطولة أو توقد فكر وشعور أن تحفظ على المرء حياته فيما وراء القبر، وكل ما كسبته الإنسانية مدى الدهر من ثمرات الكدح والتفاني والإلهام، وما أفاضت عليها العبقرية من بريق نورها الوضاء، مصيره إلى الفناء طي فناء النظام الشمسي، ومحتوم على ذلك المعبد الجامع لما شيدته يد الإنسان أن يختفي في الأنقاض التي يخلفها خراب الكون — وهذه كلها قضايا إن لم تكن بمنأى عن الاعتراض فإنها تقرب من تمام اليقين قربًا يجعل أي فلسفة ترفضها غير قادرة على البقاء.٩

ومهما راجعنا أو أوَّلنا — بكل ما أوتينا من رفق — النتائج التي وصل إليها العلم الحديث، فلا سبيل إلى اعتبار الإنسان ابن الله، خُلقت الأرض لتكون مستقرًّا له إلى حين، بل يُقرر العلم أن الاعتبار الأصدق هو أن نرى في الإنسان كائنًا لا يختلف كثيرًا عن شيء استقر على سطح الأرض اتفاقًا، شيء أحدثته فيما بين عصرين من عصور الجليد نفس القوى التي تُبلغ القمح تمام نموه وتسبب الصدأ في الحديد، أحدثته دون أن تُلقي بالًا إلى ما تفعل، بيد أن ذلك الشيء كان كائنًا حساسًا وهبته صدفة سعيدة أو غير سعيدة قوة الذكاء، ولكن ذلك الذكاء تُشكله وتُكيفه نفس القوى الكونية التي يحاول هو أن يُدرك كنهها وأن يسيطر عليها، وأما العلة الأولى لهذه العملية الكونية التي حدث عنها الإنسان فلا ندري أهي الله أو الكهرباء، أو «قوة دفع الأثير». ومهما يكن من حقيقة هذه العلة — إن صح أنها علة، وليست مجرد فرض من الفروض ذهب إليه الفكر اضطرارًا — فظاهر في معلولاتها أنها ليست خيرة أو شريرة، وليست رحيمة أو قاسية، بل هي لا تُبالي بنا في كثيرٍ أو قليل، وما الإنسان في نظر الإلكترون؟ ما هو إلا لقيط نبذته القوى التي صنعته، يتيم لا يعينه ولا يرشده إلى سواء السبيل وإلى عالم خير، فلا بد له إذن من أن يدبر أمر نفسه كأحسن ما يقدر، وأن يلتمس السبل حوله في عالم لا يكترث له، مستمدًّا العون من ذكائه المحدود.

فهذا هو النسق العالمي الذي يُشكِّل صفة الفكر الحديث واتجاهه، وهذا النسق استغرق نسيجه زمنًا طويلًا، فقد احتاج الأمر إلى ثمانية قرونٍ من الزمان لتحل نظرية الحياة، معتبرة تغيرًا أعمى يحدث لطاقة في انحلال متواصل محل نظرية الحياة معتبرة «دراما» إلهية لها غاية، وهناك الآن من الدلائل ما يدل على أن إحلال النظرية الحديثة محل القديمة قد تم، وإذا شئنا أن نعبر عن ماهية الانتقال من إحدى النظريتين للأخرى في جملة واحدة، أو بعبارة أخرى، إذا شئنا أن نصف تاريخ تطور الفكر في هذه القرون الثمانية، فلا نجد خيرًا من اقتباس ما قاله أرسطوفانيس:
الملك الآن للأعاصير، فقد أنزلوا زفس عن العرش.١٠

ولعل أهم ما نتج عن هذا الانقلاب أننا نتطلع عبثًا إلى سند من سلطان أو نحوه يشبه على وجه من الوجوه ما كان للسلف، ولكننا لا نحصل عليه ولا نجد مثل ذلك المبدأ المطلق القديم، لنثبت به أقدامنا كيما نأخذ في السير من جديد، لقد خلعوا زفس فأصبح لا يصلح لأن يتخذ منه الفكر مقدمة لاستدلال ما، ولكن هذا لا يفيد أن الإيمان بزفس قد بطل؛ إذ لا يزال هناك من يؤمن به، بل إن من العلميين والمؤرخين والفلاسفة من لا يزال يعبده وفقًا لما وجدوا آباءهم عليه، ولكن عبادة زفس الآن لا تعدو أن تكون من جانب العابدين مسألة شخصية واستعمالًا خاصًّا لحق من حقوقهم، وشأنهم في هذا شأن المواطنين الكاثوليك حينما تحولت أممهم للبروتستنتية، كان يرخص لهم أحيانًا بإقامة القداس بصفة غير علنية في بيوتهم، هذا كل ما في الأمر، فلن تجد اليوم عالمًا جادًّا يجعل نقطة البدء في شرح نظرية الكوانتوم أو تاريخ الثورة الفرنسية مبدأ وجود الله أو كونه خيرًا، ولو جرؤت أنا في موقفي هذا منكم — كما جرؤ مؤرخون من قبل — وعرضت عليكم فكر القرن الثامن عشر كما لو كان أمرًا قضى الله أن يعاقب به جيلًا فاسقًا عنيدًا من الناس، لو فعلت لكان في ذلك إحراج مني لكم غير قليل، ولتحركتم في مقاعدكم وأبديتم ما يدل على ارتباككم وخجلكم من أجل زميل لكم خيب ثقتكم به، فارتكب من سوء الذوق ما ارتكب.

والواقع أن ليس لدينا مبدأ أول، ومنذ أجلسنا الأعاصير على عرش الربوبية فلا بد أن تكون نقطة البدء هي الأعاصير، أو بعبارة أخرى، ذلك الخليط من كل شيء الذي نعيش فيه، وأول ما نواجه من مادة هذا الخليط هي الحقائق التي وصفناها بأنها غير ذلول وغير قابلة للترويض، وهذه لا بد من أن نقبلها كما هي، فلا يمكننا اليوم أن نتلطف بها، وأن نداهنها لتقبل الانطواء في إحدى المقولات الفكرية التي تقوم على افتراض نسق منطقي للعالم، وماذا نفعل بها إذن؟ نلاحظها، نستخدمها في الاختبارات، نحققها، ننسقها، نقيسها إن أمكن، نستخدمها في الاستدلالات العقلية أقل ما يمكن، وتكون أسئلتنا مما يبدأ بما وبكيف، كأن نسأل ما الحقائق وكيف تتصل؟ فإذا ما حدث مرة في لحظة من لحظات شرود الفكر أو لهو الفراغ أن نسأل: «لمَ» أعيانا الجواب، وجملة القول أن غايتنا الكبرى هي أن نقيس العالم ونسيطر عليه لا أن نفهمه.

وبما أن غايتنا الكبرى هي أن نقيس العالم ونسيطر عليه، فاللاهوت والفلسفة والمنطق القياسي لا تنفعنا كثيرًا لبلوغ هذه الغاية، وبعد أن كانت هذه الدراسات العريقة أبواب مدينة العلم كما تصورها العقل في العصور الوسطى فإنها نزلت في خلال القرون الثمانية الماضية من عليائها، وأجلس المحدثون على عروشها التاريخ والعلم الطبيعي وأساليب الملاحظة والحساب، حقيقة لا يزال اللاهوت — أو ما يُسمى باسم اللاهوت — حيًّا عند المؤمنين به، ولكنه يحيا بالتنفس الصناعي، وأما وظيفته، وأما ما كان يؤديه في عصر القديس توماس، فقد أصبح يتولاهما التاريخ لا الفلسفة كما يتوهم الناس؛ وذلك لأن موضوعه عند المحدثين هو الإنسان وعالم الإنسانية على مر الزمان، وهو بالضبط ما تكفل به اللاهوت في القرن الثالث عشر، عندما عرض رجاله صورة لتاريخ الإنسان والعالم تتفق مع ما دبر الله لنجاة عباده، وقد وجد أهل العصور الوسطى في تلك الصورة فلسفة للتاريخ جديرة حقًّا بهذا الاسم أغنتهم فعلًا عن النظر في تجارب الأمم؛ إذ ما الداعي لهذا وهم مطمئنون كل الاطمئنان إلى ما جاءهم من علم عن العلة الأولى للأحداث التي تصيبهم وعما تدلهم عليه.

ثم حدث فيما بعد القرن الثالث عشر أن أخذوا يتحولون شيئًا فشيئًا عن ذلك المذهب ويوجهون عنايتهم لاستقصاء تاريخ الإنسان مسطرًا في أسانيده، ويبذلون من أجل هذا جهدًا كبيرًا، فيحققون الوقائع مهما صغرت ولا شغل لهم إلا بها، وانبنى على هذا الجهد أن حصلنا على مادة من الحقائق التاريخية لا تقبل جحودًا ولا إغفالًا، وفي ضوء هذا الفيض الزاخر من الحقائق تضاءلت الصورة التي رسمها اللاهوتيون للإنسان والعالم، حتى صارت في نظرنا نسخة باهتة اللون من ذلك الأصل اللامع، وقد مرت فلسفة التاريخ في أطوار، فكانت أولًا في أيدي اللاهوتيين واضحة الحدود، ثم تضاءل خطرها وخف وزنها، وأصبحت في أيدي رجال القرن الثامن عشر، ذلك الأدب المهذب الرشيق الذي عرفوه باسم «الفلسفة تعلم الناس بضرب الأمثال»، ولكن في أوائل القرن التاسع عشر عاد بعض المفكرين فاعتبروا «التاريخ المبدأ الأسمى يحقق نفسه بالفعل»، أما في أيامنا فالأمر بسيط كل البساطة، ما التاريخ إلا التاريخ؛ أي تسجيل ما حدث كما حدث، والغرض منه كما قال سانتيانا١١ لا يتجاوز «تعيين نظام لتعاقب الحوادث في الزمان والمكان»، ولا يوجد اليوم بين المؤرخين الذين يُعتد بهم من يخفي تحت ستار البحث التاريخي المحدود مآرب أخرى، وإذا فُرض وحاول أحد المؤرخين أن يدخل خلسةً في عرضه للتاريخ الإنساني شرحًا مصطبغًا بصبغة تأويلية لا واقعية، استحق أن يُسمى فيلسوفًا، وفقد توًّا بناءً على ذلك سمعته في عالم البحث.

وإني بالطبع أستعمل كلمة تاريخ في هذا السياق بمعناها الواسع، أستعملها على أنها تدل على منهج من مناهج البحث، فضلًا عن كونها تطلق على موضوع قائم بنفسه، فالآداب واللغات ونظم الحكم والشرائع والاقتصاديات والعلوم والرياضيات، بل والحب واللعب، كل هذه وجدت من يؤرخها بحيث يمكن السؤال: أي شيء في زماننا بقي دون أن يُؤرَّخ؟ وفي الواقع أن معظم ما يُقال عنه إنه علم هو في الحقيقة تاريخ؛ إذ ما هو إلا تاريخ ظاهرات حيوية أو طبيعية، فالجيولوجي يأتينا بتاريخ الأرض، والمشتغل بعلم النبات يقص علينا قصة حياة النبات أو تاريخ فرد من أفراد مملكة النبات، وقد أنار الأستاذ وايتهد منذ عهد قريب علم الفيزيقا عمومًا بتتبع تاريخ النظريات الفيزيقية؛ ولهذا كله يرى المحدثون أن النظر في الأشياء متصلة بأوضاعها التاريخية إجراء مفيد، ونحن المحدثين نجري على هذا دون تكلف، بل إن عملية التفكير اليوم تكاد تكون مستحيلة إلا إذا فكرنا تاريخيًّا؛ ذلك لأن الجوهر الفكري الراهن جو لا نستطيع فيما يظهر أن نفهم دنيانا فيه إلا إذا تصورناها متحركة متطورة، فلا يمكننا اليوم أن نعرف ماهية الأشياء إلا إذا عرفنا «كيف صارت إلى ما هي عليه.»

على أن هذه المعرفة لا تنحصر في استقصاء مجرد التعاقب للأحداث، فالتعاقب في ذاته ليس أهم ما في الموضوع، وهو أيضًا لم يجهله الأقدمون، فالقديس توماس — مثلًا كان يُدرك تمامًا بلا شك أن الأشياء تتعاقب، أما الذي يختص به العقل الحديث فهو توجهه إلى اعتبار الأفكار والتصورات لا الأغراض الخارجية فحسب — كائنات تتغير بحيث لا تفهم طبيعتها ولا معناها في وقت ما إلا إذا حسبناها نقطًا في عملية تفرق ونشر وتلاشٍ وتكوُّن لا تنتهي، فعلى هذا لو فُرض وطلب منا توماس أن نُعَرِّف له شيئًا ما، وليكن مثلًا القانون الطبيعي، لو فُرض وسألنا: «ما هو؟» لما أمكننا أن نُعَرِّفه، ولكننا نستطيع أن نقص عليه تاريخ القانون الطبيعي، هذا إذا سمح لنا بالوقت الذي يكفي لذلك، فإذا ما قبل عرضنا عليه جميع الأطوار والصور التي اتخذها القانون الطبيعي حتى الآن؛ ذلك أن الفكر الحديث قد ملكه منهج التفكير التاريخي، بحيث لم يعد في استطاعتنا أن نتحقق من هوية شيء ما إلا إذا تتبعنا الأشياء المتعددة التي كانها بالتعاقب قبل أن يصير الشيء الذي هو كائن الآن، والذي سيكف توًّا عن أن يكونه.

وإلى جانب التاريخ يوجد لدينا طريق آخر لاكتساب المعرفة هو طريق العلم الطبيعي، ونحن أكثر التزامًا له من طريق التاريخ، وكما أن التاريخ قد حل شيئًا فشيئًا محل اللاهوت، فقد فعل العلم الطبيعي ذلك بالنسبة للفلسفة، بيد أن الفلسفة اختلف حظها عن حظ اللاهوت بعض الشيء، فتجلدت وأظهرت أنها لم تتضعضع كما فعل صاحبها اللاهوت، وهناك من العلائم ما يدل على جهد يبذل الآن في عمارة بيتها القديم الخرب بعض الشيء، ومهما يكن من أمر هذا الجهد فواضح أن ما كان للفلسفة في الماضي من سلطان غير منازع قد غصبه العلم الطبيعي منذ زمن طويل، وبعد أن كانت الفلسفة وآلتها للضبط الدقيق المنطق القياسي عند القديس توماس الوسيلة لتكوين نسق عقلي للعالم من أجل التوفيق بين الواقع المجرب والحق الذي أظهره الوحي الإلهي، فإن المؤثرات التي وجهت بني الإنسان جيلًا بعد جيل، إلى تحري حقائق التاريخ الإنساني، وجهتهم أيضًا نحو تفحص حقائق الظاهرات الطبيعية، وعلى هذا كان ظهور التاريخ، وظهور العلم الطبيعي نتيجتين لدافع واحد أو — بعبارة أخرى — مظهرين لاتجاه واحد للفكر الحديث، وهو الإعراض عن إغراق العصور الوسطى في طبع الحقائق بالطابع العقلي والإقبال على تفحص الحقائق في ذاتها تفحصًا نزيهًا.

وهاكم جاليليو١٢ مثلًا لم يبحث عما ذكره أرسطوطاليس عن سقوط الأجسام، ولم يسأل: هل من المعقول أن جسمًا زنته عشرة أرطال يكون في هبوطه للأرض أسرع من جسم زنته رطل واحد؟ لم يسأل جاليليو عما قال أرسطوطاليس في هذا الموضوع، بل عمد إلى تطبيق المنهج العلمي، فألقى من أعلى برج مائل بجسمين نسبة وزن أحدهما لوزن الآخر نسبة عشرة إلى واحد، ولاحظ أنهما يصلان إلى الأرض في وقت واحد، واستنتج من ذلك حكمًا عن سقوط الأجسام في عالم مثل عالمنا هذا، وإذا ما اعترض معترض بأن الحكم لا يصدق على عالم عاقل ما اهتم جاليليو بالاعتراض ولقال: فليكن عالمنا إذن غير عاقل، فالحقائق هي الأصل، وهي التي تهمنا أكثر من أي شيء آخر، وهي صلبة لا تخضع ولا نستطيع أن نتجنبها، وقد تتفق مع المعقول، وإنَّا لنرجو ذلك، ولكن كونها تتفق أو لا تتفق فهذا أيضًا موضوع تحرٍّ وتحقيق، شأنها شأن أي موضوع آخر، وقد ذكرت لكم جاليليو مثلًا لا على اعتبار أنه أول من سلك هذا المسلك، فهو لم يكن فعلًا أولهم.

وهذا التحول الدقيق في كيفية النظر إلى الأشياء الذي مثلنا له بجاليليو ربما كان أخطر ما حدث في تاريخ تكوين الفكر الحديث، بيد أن الناس لم يدركوا في مبدأ الأمر جميع ما أضمره هذا التحول من معانٍ، وبقيت الفلسفة متبوئة عرشها، بل إنها حينما أضافت في القرن الثامن عشر لقبًا جديدًا إلى ألقابها، وأسمت نفسها الفلسفة الطبيعية، لم يلحظ أحد أن الاسم الجديد سيكون له ما بعده، والذي أخفى على الناس حقيقة ما حدث أن جاليليو ومن جاء بعده كانوا هم أيضًا فلاسفة، بل هم الأحق باللقب؛ إذ إن النتائج الباهرة التي أقاموها على الملاحظة والتجربة قد كشفت كثيرًا من المحجوبات، وبعثت الأمل في أنها سوف تبدد كل ما يحيط بالعالم من غموض، فلا عجب أن توهم الناس أن صورة العالم العاقل كما خرجت من أيدي الفلاسفة الملاحظين المجربين أوضح دلالة من الصورة التي وضعها أسلافهم في العصور الوسطى؛ أي إن قوانين الطبيعة وقوانين رب الطبيعة هما اسمان لشيء واحد، وأن كل شيء مما صنع الله سوف يُفسره العلم إن قريبًا وإن بعيدًا، وبناءً على ذلك فللبيب أن يكتفي بحد أدنى من التصديق المطلق، وله أن يفعل ذلك، ولكن بتحفظ واحد، تحفظ بالغ الخطورة، وإن خفيت في مبدأ الأمر خطورته؛ هو أنه لا بد له من الإيقان بأن الطبيعة تجري على نظام مطرد، وأن عقل الإنسان قادر على أن يكشف طريقتها في العمل.

وقد بقي هذا الإيقان سائدًا والتفاؤل بالمستقبل غالبًا حتى حدث في أثناء القرن التاسع عشر أن اكفهرَّ الجو، ولم يعد أمر المستقبل جليًّا كما كان من قبل للناظرين، وضجر المفكرون بذلك الاقتران بين مادة الحقائق والعقل، وبين العلم الطبيعي وقوانين الطبيعة، ففسخوا في القرن العشرين القران وفرقوا بين الأزواج، وإن شعروا بشيء من الأسى لما يفعلون، وصار العلم مجرد علم، وبعد أن كان العلميون يفخرون بأنهم فلاسفة أصبح نعتهم بذلك الوصف انتقاصًا من قدرهم، وبعد أن كان الناس يتصورون العالم الذي يعيش فيه الإنسان آلة دقيقة الصنع، تؤدي على خير وجه ما قصده منشئها موجد الكون الخبير، أخذت تلك الصورة في التلاشي شيئًا فشيئًا، وانقطع أساتذة العلوم عن الخوض في القوانين الطبيعية، وقل تحدثهم عنها حديث العارف الواثق، وقنعوا بالجد فيما اعتبروه شأنهم اللائق بهم؛ ألا وهو أن يتخذوا من مادة الكون مهما كانت حقيقتها موضوعات الملاحظة والتجريب، وفهم، وقياس حركتها، وتأثيرات أجزائها البعض في البعض الآخر، وهم إذ يجدُّون في طلب ذلك بحمية لا تفتر لا يضمرون فيما يفعلون أي غايات غير ما هم بصدده من الملاحظة والتجريب والقياس والفهم، وقد قال لويد مورجان: «يختص العلم بالنظر في التغييرات التي تحدث في تركيب الأشياء، وفي تتبع ازدياد سرعات الحركات عندما يحدث هذا، ولكنه لا يجاوز هذا إلى شيء آخر، بل يترك لما وراء الطبيعة النظر في العامل المحدث إن كان هناك عامل محدث.»١٣

ولا شك في أن ثمرة جد العلماء في طلب هذه الغاية المحدودة واستعمال المنهج العلمي على هذا الوجه المتناهي في التواضع كانت مما يخطف الأبصار عجبًا، وبعد فكيف نقدرها؟ نعرف أننا نعيش في عصر الآلات، ونعرف أن فن الاختراع هو أعظم ما اخترعنا من الفنون، وأن ظروف الحياة في مدة وجيزة لا تزيد على خمسين سنة قد تبدلت تبدلًا تامًّا، ولكن الذي لا نُدركه على ما ينبغي له من الوضوح أن ذلك التبدل المحير للألباب أثَّر في عقولنا فانحرفت نحو وجهاتٍ جديدة، ولم تعد اليوم الاكتشافات والاختراعات وليدة الصدفة السعيدة نترقبها بين اليأس والرجاء، بل هي الآن شيءٌ آخر مختلف تمامًا، هي جزء من علمنا الاعتيادي نتوقعها ونتعمد إيجادها، بل نوجدها في الوقت المحدد لذلك، ولا يثير جديدٌ دهشةً ما، فليس شيءٌ يبقى جديدًا، بل على العكس، لقد اعتدنا الغريب حتى انعدم الفرق بين الشيء غير المألوف والشيء المعتاد، ولا جديد في السماء أو في الأرض لم نتخيله في مختبراتنا، وإنَّا ليدهشنا حقًّا ألا يأتي المستقبل القريب أو البعيد بجديدٍ يتحدى به قدرتنا على مواجهته، وقد علَّمنا العلم أن لا ثمرة تُرجى من وراء محاولة إدراك ماهية العامل الخفي المحدث للأشياء التي نستعملها، أفلا يستطيع أي أنسانٍ أن يسوق السيارة دون أن يفقه شيئًا من أثر الكاربوريتر في حركتها، أو يسمع ما يذيعه جهاز الراديو دون أن يفهم سر الإشعاع؟ والواقع أن ليس لدينا من الوقت فضلة تسمح حتى بمجرد التعجب من السماء بنجومها فوقنا، أو بما في نفوسنا من عقد فرويدية، فوقتنا تشغله بأكمله الأشياء العديدة التي نستعملها في قضاء حاجتنا، بحيث لا نملك فراغًا نشغله في طلب تفسيرٍ معقول للقوة التي تُحرك تلك الأشياء، فتؤدي عملها على هذا الوجه الكامل، بل ولا نشعر بالرغبة في معرفتها.

ويشاركنا في استبعاد العامل الخفي المُحدث — بهذا الاستخفاف — آخرون فضلاء، بل إن سدنة العلم أنفسهم كانوا إلى الاستبعاد أسبق، وفي تنفيذه أبرع من عامة الناس، ومن مفارقات الفكر الحديث العجيبة أن المنهج العلمي الذي علَّق عليه الناس الأمل في أن يمحو الغموض عن العالم، قد زاده غموضًا كل يومٍ عن ذي قبل، فالفيزيقا التي ظنوها سوف تُغني عن الميتافيزيقا قد استحالت في أيدي الفيزيقيين أنفسهم، إلى أبعد العلوم إيغالًا فيما وراء الطبيعة، وكلَّما أنعم الفيزيقي النظر في مادة الكون، تضاءلت تلك المادة عن ذي قبل، وتحول في يد الفيزيقي الخبير عالم الفيزيقا النيوتونية ذو الماهيات الثابتة إلى مركب من الطاقات الإشعاعية، وبطل ما كانوا يقولون فيما مضى من أن العالم من صنع مهندس قادر أو محرك أول؛ وذلك لأنه لا يمكن فهم العالم عن طريق النظريات الميكانيكية للعالم، وفي هذا يقول وايتهد: «لا معنى للكلام في تفسير ميكانيكي للعالم إذا كنَّا لا نعرف ما المقصود من الميكانيكا.»١٤

ويقول العلم الحديث لنا إننا إذا نسبنا لشيءٍ ما مكانًا معينًا، فإن هذا الشيء لا يمكن أن ننسب له سرعة قابلة للتعيين، وإذا استطعنا أن نتبين سرعته، فلا يصح أن ننسب له مكانًا قابلًا للتعيين، ويقول لنا العلم الحديث أيضًا: إن الكون يتكون من ذرات، وإن الذرة تتكون من نواة مركزية تدور الإلكترونات حولها في مداراتٍ قابلة للتعيين، بيد أن التجارب قد أظهرت فيما يبدو أن من هذه الإلكترونات ما يتحرك بناءً على أسباب لا يعرفها إلا هو، في مدارين في نفس الوقت! هذا هو الموقف الذي نحن فيه الآن بفضل جاليليو، اتبع الذوق والإدراك السليم؛ فقصر نظره على الحقائق التي يمكن ملاحظتها وحدها، ثم حذونا حذوه فصرنا نواجه «حقيقة» ينكرها الإدراك السليم.

وبعدُ فماذا نحن فاعلون؟ إن العقل والمنطق يضيقان بالموقف الراهن، ولكن ما أهمية هذا؟ لقد تعلَّمنا منذ عهدٍ بعيد ألا نلقي بالًا للعقل والمنطق، ولم يعد المنطق شيئًا قائمًا بنفسه منفصلًا عنَّا، يستطيع إن أردنا أن يأخذ بيدنا ويهدينا سبيل الحق، بل إننا نشك في وجوده، ولا نستبعد ألا يكون إلا شيئًا اصطنعه عقل الإنسان، ليستعين به على إخفاء تهيُّبه، وليستمد منه إقدامًا، أو ألا يكون إلا نوعًا من التعازيم تكسب ما نحن على استعدادٍ لتصديقه بالتقليد صحة صورية، مثال ذلك: إذا كان كل الرجال فانين — فرضًا — وإذا كان سقراط رجلًا — بالمعنى المستعمل في الفرض — فلا شك في أن سقراط كان فانيًا، وأقرب الظن أننا نعرف كل هذا على نحوٍ ما قبل أن نتحقق من صحته، بوضعه في صورة قياس، والظاهر أيضًا أن المنطق ينزع إلى التعدد تبعًا لتغييرات وجهة النظر، ففي أول الأمر كان لدينا منطق واحد، ثم كان لنا بعد ذلك منطقان، ثم أكثر من اثنين، والآن يحدثنا الثقة الأمين في مقاله عن المنطق في دائرة المعارف البريطانية، إن صح لكاتب من كتاب الدائرة يخلط الجد بالهزل أن يُسمى ثقةً أمينًا، فيقول: إن حالة المنطق الراهنة شبيهة بحالة بني إسرائيل على عهد القضاة: «في تلك الأيام لم يكن ملك في إسرائيل، كل واحد عمل ما حسُن في عينه»، هذا ولو سلَّمنا بلزوم المنطق الرياضي وموضوعه التصورات لا الحقائق ومنطق الاحتمالات (ويؤكد لنا المستر كينز أنه محتمل الصحة)،١٥ فإن الدعائم الراسخة التي كانت للمنطق القياسي وللمنطق الاستقرائي قد قوَّضتها الحقائق المحتملة، وعلى ذلك فلا مجال للاختيار، وليس أمامنا إلا أن نتعلق بتلك الحقائق وإن أهلكتنا.
وهذا ما يفعله الفيزيقيون، وإذا ما جاوز المنطق حدَّه واحتج عليهم باسم القانون، فإنهم يعرفون كيف يسوون هذا معه، وينتهي الأمر بالمنطق إلى التغافل عما يفعلون، ويمضون هم في مخالفته، ها هو ذا مثال لما يفعلون، يقول السير وليام براج١٦ إنه يُدِّرس لتلاميذه النظرية الموجبة للضوء في أيام الاثنين والأربعاء والجمعة، ونظرية الكوانتوم في أيام الثلاثاء والخميس والسبت، فليس هناك إذن داعٍ لأن نندهش إذا ما علمنا أن الفيزيقيين لا يزعجهم بالمرة أن يعتبروا النواة والإلكترون إشعاعات لا مواد، إن رأوا نفعًا في ذلك الاعتبار، وعلى هذا النحو الفرضي المحض يحولون عالم الماهيات الثابتة إلى كتل من سرعات تتنافر وتتجاذب، ويطلبون منا أن نصدق هذا؛ لأنهم يستطيعون رياضيًّا تعيينها واستعمالها، وإذن فيجوز أن يكون عالمنا كما يقترح الأستاذ جنز من وضع مشتغل بالرياضيات، ولِمَ لا إن كانت النظريات الرياضية أسهل طريق لفهم العالم؟ ونحن نعرف أن تفاحتين وتفاحتين تكون أربع تفاحات، ومع تسليمنا بأن التفاح سيظل دائمًا موجودًا، فإننا نستطيع أن نتصور أن اثنين + اثنين = ٤، حتى لو لم يكن هناك تفاح بالمرة، والرياضي يستغني عن التفاح، بل الأفضل له ألا يشغل نفسه به، فللتفاح خواص أخرى بالإضافة إلى خاصية العدد؛ وعلى هذا إذا ما ضيق على الفيزيقي التضييق الكافي، وأراد أن يتخلص من ورطته، فما عليه إلا أن يتحول إلى رياضي، فإنه حينئذ يستطيع أن يحسب السرعات التي يلاحظ حدوثها ويقرر حينئذ أن السرعات يمكن أن تنسب إلى إلكترونات مادية، وهذا كله بشرط واحد هو أن نعثر فعلًا على إلكترونات مادية لها هذه السرعات، ترون إذن أن لا داعي لليأس، فعالمنا ممكن حسابه حتى إذا لم يكن له وجود.

ولعلي قد قلت ما يكفي لأدلكم على أن أخص ما يميز الجو الفكري في زماننا هو كونه واقعيًّا أكثر منه عقليًّا، فالفكر الحديث جوه مشبع بالواقعي، فيكفيه القليل من النظري؛ ولنزد هذا بيانًا: إننا بحكم الضرورة ننظر إلى عالمنا إما بعين التاريخ وإما بعين العلم، فإذا نظرنا بعين التاريخ، رأيناه في تكوين مستديم، وهو بناءً على ذلك لا يمكن فهمه إلا على وجه التقريب، فهو لم يكمل تكوينه بعد، وإذا نظرنا بعين العلم، رأيناه شيئًا ينبغي أن نسلم به كما هو، على أن نبدل أنفسنا لتستقيم فيه حياتنا بقدر الإمكان، وعلى أن نعالج منه ما يمكن أن نعالج، ونسخِّر لمنافعنا ما يمكن أن نسخِّر، وطالما نحسن استعمال الأشياء فإننا نستطيع أن نتجاهل الدافع الملح لسبر غورها وكشف أسرارها.

وهذا بلا شك أهم ما يفسر تلك الظاهرة العجيبة، وهي راحة العقل الحديث في هذا الكون الغامض.

٣

وجميع ما سبق جاء على سبيل تقديم الموضوع، والموضوع هو الفكر السياسي والاجتماعي في القرن الثامن عشر، اخترت أن أقول شيئًا عنه أو — بعبارة أخرى — عن فلاسفة ذلك العصر أو «الفلاسفة» مجردة من أي وصف على ما اصطلح القرن الثامن عشر، وماذا أستطيع أن أقول عنهم؟ لو كنت أقدر على أن أعتزلهم، فأنظر إليهم من بعيد أو من علٍ، ثم أصدر حكمًا عامًّا عليهم مقدرًا قيمة فلسفتهم تقديرًا يستحق أن يعتد به، مبينًا أوجه صحتها وأوجه بطلانها، لو استطعت أن أفعل هذا كله، لكان ذلك شيئًا عظيمًا حقًّا، ولكنني لا أستطيع لسوء الحظ أن أعتزل القرن الثامن عشر على هذا النحو، فأنا رجل من أبناء القرن العشرين، تقيده الأفكار الغالبة على عصره؛ لذلك لا بد لي من أن أنظر للموضوع بعين التاريخ، وإذا كنت قد بذلت جهدًا كبيرًا فيما سبق من هذه المحاضرة؛ لأقابل الجو الفكري في عصر دانتي بالجو الفكري الحديث، فما ذلك إلا لكي أعين مكانًا تاريخيًّا أضع فيه آراء فلاسفة القرن الثامن عشر، وتوضيحًا لهذا أقول: إن المؤرخ لا يستطيع أن يعرض آراء نيوتون وفولتير١٧ قبل أن يبين بالضبط أنهما — من حيث الزمان — يأتيان بعد دانتي وتوماس الأكويني، وقبل أينشتين وﻫ. ج. ويلز،١٨ ويصح أن أنسب لطريقتي هذه ميزة أخرى، هي أني إذ أدرج نيوتون وفولتير في هذا النسق التاريخي، أجاري استحسان العقل الحديث لها، والظاهر أنه يجد في انتهاجها راحته، وراحة العقل في ذاتها جديرة بأن تطلب؛ إذ إن العقل إذا ما ارتاح إلى نسق ما للأشياء، ظن أنه قد حصل على تعليلها، وهذا بالضبط ما سأحاوله، أريد أن أقدم تعليلًا تاريخيًّا لفكر القرن الثامن عشر، ببيان اتصاله بشيء سبقه وبشيء آخر لحقه.
هذا؛ وقد اعتدنا أن نعتبر القرن الثامن عشر عصرًا طابعه الطابع الحديث، والثابت فعلًا أن فلاسفته أعلنوا براءتهم من خرافات الفكر المسيحي في العصور الوسطى وشعوذته، واتخذوا من هذا ما يباهون به، ونحن نميل — عادةً — إلى تصديق ما نسبوه إلى أنفسهم، ولم لا نصدقهم ونحن أنفسنا نقول: إن عصرهم كان — فوق أي شيء آخر — «عصر العقل»، وإن فلاسفته كانوا لا أدريين، بل كانوا سرًّا ملحدين، وإنهم عكفوا على طلب المعرفة العلمية، وتمسكوا بالمنهاج العلمي، وإنهم نفروا لسحق الممقوتة (وهو الاسم الذي أطلقوه على الكنيسة المسيحية)، وإنهم البواسل المدافعون عن الحرية والمساواة والأخوة وحرية القول وكل ما تشاء؛ وهذا جميعه صحيح، بيد أني أعتقد أن هؤلاء الفلاسفة كانوا أقرب إلى العصور الوسطى، وكانوا أقل انطلاقًا من أفكار نصرانية العصور الوسطى مما تصوروا هم، وما نظنه نحن فيهم، وإن كنا قد ألحقناهم بعصرنا، فأعطيناهم بذلك أكثر من حقهم (أو إن شئت أقلَّ من حقهم)، فإن ذلك يرجع إلى أنهم يتكلمون لغة أقرب إلينا من أي لغة أخرى، وإنا لنُقبل على قراءة فولتير أكثر مما نُقبل على قراءة دانتي، وإنا لنتبع استدلالًا لهيوم١٩ أسهل مما نتبع استدلالًا لتوماس الأكويني، ومع ذلك فإني أعتقد أن هذا التقدير من جانبنا لا ينفذ إلى صميم فكر هيوم وفولتير وغيرهما من كتَّاب القرن الثامن عشر، بقدر ما هو متعلق بصفات الفكر السطحية؛ ولذا كنا أدنى إلى أن نرضى عنهم ظرفاء ساخرين، لا جادِّين متعمقين، وحالهم منكِرين أدعى إلى إلحاقهم بأنفسنا من حالهم مثبِتين.

على أننا لو فحصنا أصول مذهبهم لتبيَّنَّا عند كل خطوة أثر فكر العصور الوسطى فيه، وإن كانوا هم عن هذا التأثير غافلين، فعندما فضحوا مثالب الفلسفة المسيحية، فعلوا ذلك بمقدار من الغلو يثبت عليهم أنهم ما فتئوا بعد في غل «الخرافات» التي هم بها يستهزئون، وهم حينما طرحوا عن أنفسهم خشية الله، كانوا يحافظون على ما ينبغي للربوبية من تأدب، وحينما سخروا من فكرة خلق العالم في ستة أيام، كانوا يرون في الكون آلة بديعة التركيب صنعها الكائن الأعظم بتدبير خبير حكيم، لتكون الأرض لبني آدم مستقرًّا، وحينما أيقنوا أن جنة عدن أسطورة من أساطير الأقدمين كانوا يتلفتون عبر السنين، متلهفين متحسرين على أيام المروءة الرومانية في أوجها الذهبي، أو عبر البحار إلى بنسلفانيا في العالم الجديد، حيث الناس في نعيم جنة لا تشوب طهارته شائبة من دنس، وهم حينما خرجوا على سلطان الكنيسة والإنجيل كانوا يثقون ثقة ساذجة بسلطان الطبيعة والعقل، وحينما احتقروا الميتافيزيقا كانوا يعتزون بأن يسموا فلاسفة، وجردوا السماء من جنة المأوى، ولكنهم — فيما يظهر — كانوا في فعلتهم هذه عجولين؛ لأنهم بقوا على إيمانهم بخلود النفس.

ولم يهابوا الخوض في الإلحاد، ولكن على غير مسمع من أتباعهم، وذادوا عن السماحة في شئون العقيدة الدينية، ذود المستبسلين، ولكنهم لم يستطيعوا مع القسيسين صبرًا إلا بشق الأنفس، وأنكروا حدوث الخوارق، ولكنهم آمنوا بقدرة الإنسان على بلوغ الكمال، وبعد أفلا تشعرون بأن هؤلاء الفلاسفة كانوا في نفس الوقت سريعي التصديق كثيري الشكوك؟ وأنهم استهواهم الوقوف عند حد ما هو مدرك إدراكًا معاينًا متعارفًا فأضلهم، وأنهم على الرغم من مناهجهم العقلية وميولهم الإنسانية، ومن نفورهم من الشعوذة والحمية والغموض، ومن اندفاعهم نحو الشك والارتياب، ومن كونهم لا يقدسون شيئًا (وإن جرى هذا في أسلوب جذاب) ومن تطاولهم بالتجديف على المقامات السامية، (وإن جرى هذا على نحو ما يجري على ألسنة الشباب النزق)، ومن مثل وعيدهم بأنهم سيستخدمون في خنق آخر الملوك أمعاء آخر القسيسين، على الرغم من كل هذا، فلا يزال في كتاباتهم من الفلسفة المسيحية أثر أكبر مما تصوره مؤلفو كتبنا التاريخية حتى الآن.

هذا هو الموضوع الذي سأحاول بسطه في المحاضرات التالية، وسيكون مما سأُعنَى بإظهاره أن الأفكار التي قامت عليها فلسفة القرن الثامن عشر هي في جوهرها أفكار القرن الثالث عشر، وهذا بشرط أن نحل محل الاعتبار تغييرات معينة مهمة طرأت على وجهة النظر، وأن الفلاسفة ما هدموا «المدينة الفاضلة» التي بناها القديس أوجسطين إلا ليعيدوا بناءها بما كان يحضرهم من مواد.٢٠
١  (Summa theological), Part II First Part, Q. XCI, Art. II (B) St. Thomas Aquinas من أكابر الفلاسفة المدرسيين (١٢٢٧–١٢٧٤) بالتقريب.
٢  De Monarchia (English Edit. 1904) BKI. Chapter VII, PP. 24-25 (B) Dante Alighieri أكبر الشعراء الإيطاليين (١٢٦٥–١٣٢١).
٣  George Clemenceau السياسي الفرنسي (١٨٤١–١٩٢٩). Woodrow Wilson الأستاذ بجامعة برنستون ورئيس جمهورية الولايات المتحدة الأمريكية من ١٩١٢ إلى ١٩٢٠.
٤  Alfred North Whitehead الرياضي الفيلسوف، كان أستاذًا بجامعة لندرة وكامبردج وهارفارد.
٥  Tertullian من أكبر آباء الكنيسة في الغرب (١٥٥–٢٢٢م، بالتقريب). Anselm رئيس الأساقفة في كانتربري بإنجلترا، وإن كان من أصل إيطالي (١٠٣٣–١١٠٩م).
٦  William James الفيلسوف الأمريكي (١٨٤٢–١٩١٠)، اشتهر بمباحثه في علم النفس.
٧  Eos, or the Wider Aspects of Cosmogony, P. 55 Quoted in Dampier Whetham, “A History of Science”, p. 483 Sir James H. Jeans (B) مؤلفه المشهور «الكون الغامض» قد نقله للغة العربية الأستاذ المرحوم عبد الحميد حمدي مرسي، وراجعه المرحوم الأستاذ الدكتور علي مصطفى مشرفة.
٨  Dampier-Whetham, A History of Science. P. 482 (B) ممن ألفوا في تاريخ العلم ويُعرف الآن باسم Sir William C. Dampier.
٩  Bertrand Russell, Mysticism and Logic. P. 47 Quoted in Dampier Whetham, “A History of Science” (B).
١٠  ترد هذه العبارة في تمثيلية أرسطو فانيس المشهورة «السحب»، وفيها حمل الشاعر على الاتجاهات الفكرية الجديدة ممثلة في سقراط، ووضع الشاعر العبارة على لسان سقراط نفسه.
١١  George Santayana فيلسوف إسباني الأصل، ولكنه تربى في الولايات المتحدة الأمريكية، وكان في وقت ما أستاذًا للفلسفة بجامعة هارفارد (١٨٦٣–١٩٥٢).
١٢  Galileo Galilei الفلكي والفيلسوف التجريبي الإيطالي (١٥٦٤–١٦٤٢).
١٣  Loyd Morgan: Interpretations of Nature, P. 58 (B) ويقترن اسم لويد مورجان خصوصًا بمباحث في «التطور».
١٤  Whitehead (Science and the Modern World): p. 24 (B).
١٥  ألَّف J. M. Keynes (وقد تلقب بلقب Lord Keynes بعد تاريخ هذه المحاضرات) كتابًا مشهورًا في الاحتمال، نُشر لأول مرة في ١٩٢١، ويوجد Keynes آخر هو J. N. Keynes، ألَّف في المنطق ومناهج البحث العلمي، والإحالة هنا على الأول.
١٦  Sir William Bragg فيزيقي بريطاني.
١٧  Sir Isaac Newton (1642–1727) الفيلسوف الطبيعي الإنجليزي. François Marie Arouet de Voltaire (1694–1778) الأديب الفرنسي.
١٨  Albert Einstein (1879–1955) الفيزيقي الألماني السويسري المشهور، هاجر إلى الولايات المتحدة، واتخذها وطنًا له، وتوفي في ١٨ أبريل سنة ١٩٥٥. Herbert George Wells الأديب الإنجليزي، كان مولده في ١٨٦٦ وتوفي سنة ١٩٤٦.
١٩  David Hume (1711–1776) الفيلسوف البريطاني.
٢٠  Saint Augustine (354–430) أحد آباء الكنيسة في الغرب ومن الأربعة الكبار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤